المنصور أن يعتمد على البربر بالأخص، لما كانوا يتصفون به من البداوة والشجاعة، فاستقدمهم من العدوة، ورغبهم بوفرة البذل والعطاء (1). وكذلك استخدم المرتزقة من النصارى الإسبان، ومنحهم الأجور والجرايات السخية؛ وكان يجمع في جيشه الكثير منهم، ومعظمهم من المستعربين، وكان يحرص على رضائهم بتوسيع النفقة عليهم، معاملتهم بالمساواة والرفق (2). واستطاع المنصور بما وضعه للجيش من أنظمة محكمة، وما أفاض عليه من وافر النفقة والعدد، أن ينشىء للأندلس قوة عسكرية عظيمة، لم تعرفها في أية عهد آخر. وكانت هذه القوة فضلا عن كونها دعامة سلطانه وحكمه، دعامة الأندلس وأداتها للدفاع والغزو.
ونستطيع أن نقدر أهمية الجيش الأندلسي وكفايته أيام المنصور، متى ذكرنا أن المنصور لبث زهاء ربع قرن، يقود قواته إلى الغزو المستمر، في أراضي الممالك النصرانية، كل ربيع وكل صيف، وأنه في نفس الوقت كان يبعث الحملات العسكرية العظيمة إلى المغرب، لتخوض سلسلة من الحروب الطاحنة. وقد بلغ من كثرة قوى الجيش النظامية وكفايتها، أن أصدر المنصور في سنة 388 هـ (998 م) أمره بإعفاء الناس من إجبارهم على الغزو، اكتفاء بعدد الجيش المرابط، وقرأ الخطباء ذلك المرسوم على الناس، إثر قراءة كتب الفتح، وعرفوا فيه " بأن من تطوع خيراً، فهو خير، ومن خف إليه، فمبرور ومأجور، ومن تثاقل فمعذور " (3).
وقد أورد لنا ابن الخطيب (عن التيجاني) بعض الإحصاءات الهامة عن جيش المنصور، فذكر لنا أن الجيش المرابط (الثابت) بلغ في عهده من الفرسان اثنى عشر ألف ومائة فارس من سائر الطبقات، جميعهم مرتزقون في الديوان، يصرف لهم السلاح والنفقة والعلوفة. وكان عدد الحرس الخاص ستمائة فارس غير الأتباع. وانتهى عدد الرجالة في الجيش المرابط إلى ستة وعشرين ألف راجل.
وكان عدد الجيش المرابط يتضاعف وقت الصوائف بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة. وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف كذلك، وقد يبلغ المائة ألف أو تزيد.
_______
(1) البيان المغرب ج 2 ص 299 و315 و316.
(2) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (Madrid 1897) p. 630.
(3) أعمال الأعلام ص 68.(1/570)
وأورد لنا ابن الخطيب أيضاً، بيانات مفصلة مما كان يقتنيه المنصور من عتاق الخيل برسم الجهاد، ومطايا الركوب، ودواب الحمل، وقد بلغت وحدها أربعة آلاف جمل خصصت لحمل الأثقال.
وأما عن عُدة الحرب، فقد كان المنصور يحتفظ بكميات عظيمة من الخيام والسهام والدروع، والتراس، وعدد من المجانيق وغيرها من آلات الحصار (1).
وكان المنصور يضطرم شغفاً بالجهاد في سبيل الله، وكانت غزواته التي زادت على الخمسين، فضلا عن كونها عنوان هذا الجهاد المستمر، ترمي إلى غاية عسكرية وسياسية فطنة، هي تحطيم قوى اسبانيا النصرانية، وردعها بذلك عن العدوان على أراضي المسلمين. وقد تحققت هذه الغاية في أواخر عهد المنصور على أكمل وجه. وقد عنى مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان - وقد عاش قريباً من ذلك العصر - بتفصيل هذه الغزوات في مؤلف ضخم سماه " بالمآثر العامرية " واستخرجه من تاريخه الكبير " المقتبس " (2). وكان من نتائج هذه الغزوات أن امتلأت الأندلس في عصر المنصور بالغنائم والسبي من بنات الإسبان وأولادهم ونسائهم، وتغالي الناس في تجهيز بناتهم بالثياب والحلي والمال، وذلك لرخص بنات الإفرنج وركود سوق الزواج (3).
وبلغ من شغف المنصور بالجهاد، أنه كان يتولى القيادة بنفسه في سائر غزواته الصائفة والشاتية، ولم يقعده شىء عن القيادة، والإشتراك الفعلي في كثير من المعارك، حتى أننا نراه في آخر غزواته يتولى القيادة بالرغم من مرضه، ويسير محمولا على محفة، ثم يقضي نحبه عقب الغزو، بين يدي جنده وفي معقل الثغر، بعيداً عن قصوره، ومهاد راحته ونعمائه. وكان يحرص في سائر غزواته، على أن يستخلص ما يعلق بوجهه أو ثيابه من الغبار، أثناء المعارك التي يخوضها، فكان يمسحه بمناديل اجتمعت له منها رزمة كبيرة، كان يحملها معه دائماً، حتى
_______
(1) أعمال الأعلام ص 99 و101 و102.
(2) جذوة المقتبس للحميدي (القاهرة 1952) ص 74، والحلة السيراء ص 149، والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 21. وذكر لنا ابن الخطيب اسم هذا المؤلف كاملا وهو: " أخبار الدولة العامرية المنسوخة بالفتنة البربرية وما جرى فيها من الأحداث الشنيعة " كما ذكر لنا أنه يحتوي على أكثر من مائة سفر (أعمال الأعلام ص 98).
(3) المعجب ص 21.(1/571)
إذا وافته المنية ضمت إلى أكفانه، ودفنت معه تنفيذاً لوصيته (1).
ومما يؤثر عن علائق المنصور بجيشه، أنه كان لقوة ذاكرته، يعرف كثيراً من جنده بالإسم, أو يعرف على الأقل كثيراً ممن امتاز منهم خلال المعارك بالإقدام والشجاعة، ويدعوهم إلى مائدته في المآدب الكبيرة، التي اعتاد أن يقيمها لجنده عقب كل انتصار.
بيد أننا نستطيع أن نلاحظ بعد كل ذلك، أن سياسة المنصور العسكرية وغزواته المتوالية المظفرة، وإن كانت في الأصل تنطوي على غاية عسكرية وسياسية بعيدة المدى، هي سحق اسبانيا النصرانية، لم تؤت ثمارها إلا في حيز ضيق، هو ردع اسبانيا النصرانية، وكف عدوانها عن الأراضي الإسلامية، ولم تقصد بالفعل إلى الغاية الحاسمة، وهي القضاء على قوة اسبانيا النصرانية وسحقها بصورة نهائية، وهي غاية قصرت سياسة اسبانيا المسلمة عن العمل لها منذ البداية، ومن ثم فقد استطاعت الممالك الإسبانية النصرانية، أن تعيش، وأن تنمو قواها تباعاً، وأن تغدو بمضي الزمن، مناوئاً خطراً لاسبانيا المسلمة، يستغرق قواها باستمرار، ويشغلها في كفاح مدمر مستمر.
وهنا، وعلى ضوء هذا الكفاح العقيم الذي استمر أجيالا بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية، لا نرى مندوحة، من أن نحكم على سياسة الصوائف أو الغزوات الإسلامية العارضة، التي كانت تقليداً عسكرياً إسلامياً، في معظم الدول الإسلامية المتاخمة للدول النصرانية، فنقول إنها كانت من الناحية العسكرية تقوم على أسلوب خاطىء، وقد كانت تنهك الجيوش الإسلامية بقدر ما تنهك جيوش العدو، ولم يكن لها غاية محدودة مستقرة. وليس أدل على ذلك من تاريخ الصوائف أو الغزوات الإسلامية الموسمية أيام الدولة العباسية في أراضي الدرلة البيزنطية، فقد كان معظمها حملات غازية تقصد إلى العيث في أرض العدو، وإلى إحراز الغنائم المؤقتة الإقليمية وغيرها، ولم تنجح في تحطيم قوى الدولة البيزنطية أو سحقها. وقد كان عقم هذه الغزوات العارضة أشد وأوضح في الأندلس، حيث لبثت الدولة الأندلسية، إبان قوتها وتفوقها، عصوراً، تقتصر على الصوائف وما إليها من الغزوات الموسمية برسم الجهاد أو الانتقام من العدو،
_______
(1) البيان المغرب ج 2 ص 310، والمعجب ص 21.(1/572)
وتنهك بذلك قوى الجيوش الإسلامية ومواردها بصورة مستمرة، وذلك دون أن تحقق غاية ثابتة مستقرة، أو توفق إلى القضاء على القوى الخصيمة بصورة حاسمة.
ولقد اجتمعت لاسبانيا المسلمة في عصر المنصور أعظم القوى والموارد العسكرية التي اجتمعت لها في أي عصر سابق أو لاحق، وكانت هذه القوى الزاخرة، التي كان رائدها المنصور، - وهو أعظم شخصية سياسية وعسكرية، أتيح لها أن تقود الأندلس، وأن تسهر على مصايرها - كانت هذه القوى كفيلة بسحق الممالك الإسبانية النصرانية لو أنها وجهت نحو هذه الغاية توجهاً صائباً. ويقدر النقد الإسباني الحديث نفسه هذه الحقيقة، فيقول لنا إن غزوات المنصور ودفعه حدود النصارى إلى ما وراء نهر دويرة، وافتتاحه لقلمرية وسمورة وليون وشنت ياقب وكويانسا وشنت منكش وأوسمة وبرشلونة، دفع اسبانيا النصرانية إلى حافة الخراب تقريباً، وقضى هذا البعث لقوة الإسلام على كل أمل في " الإسترداد " La Reconquista (1) .
ولكن غزوات المنصور على كثرتها، وعلى ما أسبغ عليها من طابع النصر المستمر، لم تخرج كثيراً عن حيز الصوائف والغزوات الإسلامية العارضة، التي تحقق أية غاية مستقرة ثابتة.
وأما عن مقدرة المنصور في الإدارة والحكم، فإن الكلام فيها حرى بأن يطول، فقد أبدى المنصور طوال حياته كفاية إدارية مدهشة، وظهر في سائر المناصب التي أسندت إليه، مذ تولى وكالة هشام ولي العهد، فأمانة دار السكة والخزانة، ثم خطة المواريث، فخطة القضاء، ثم الشرطة، فالإشراف على الحشم والخاص؛ ظهر فيها جميعاً ببراعته وحصافته، وحسن تصريفه؛ ثم ظهرت هذه المقدرة على أتمها مذ ولي الحجابة، واستأثر بسائر السلطات، واحتمل فوق كاهله سائر المسئوليات الكبرى. فقد غدا المنصور زعيم الأندلس، وحاكمها الأوحد، والمشرف على مصايرها في الحرب والسلم؛ وقد أبدى المنصور في اضطلاعه بتلك المهمة العظمى، مقدرة فائقة، لم يبدها أحد من أسلافه. فلم تر الأندلس من قبل استقراراً كالذي رأته في عهد المنصور، ولم تتمتع قط بمثل ما تمتعت به في عهد المنصور، من الأمن والطمأنينة والدعة. وكانت أيام المنصور بالأندلس كلها
_______
(1) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. 629.(1/573)
أيام فخار وظفر ورخاء ورغد، لم تعان خلالها من غزوات العدو المخربة، ولم تصب فيها بأية هزيمة ذات شأن، ولم تضطرم فيها أية ثورة أو فتنة، وفيها ازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة، وزهت العلوم والآداب، وعم الخصب والرخاء في جنبات الأندلس، وفاضت خزائن قرطبة بالأموال، ووصل محصل الجباية يومئذ إلى أربعة آلاف ألف دينار (أربعة ملايين) سوى رسوم المواريث، وسوى مال السبي والغنائم، وما ينتج من المصادرات وأمثالها مما لا يرجع إلى قانون.
وكانت النفقات السلطانية تبلغ في الشهر نحو مائتي ألف دينار، فاذا دخل شهر يونيه، وحلت الصائفة، تضاعفت النفقة بسب الاستعداد للغزو، ووصلت إلى خمسمائة ألف في الشهر أو أكثر (1).
وكانت حكومة المنصور تضم عدة من أقدر رجالات الأندلس في هذا العصر ما بين وزراء وكتاب. وكان من وزرائه، أبو مروان عبد الملك بن شهيد، ومحمد بن جَهور، وعيسى بن فُطيس، وأبو عبد الله بن عياش، وأحمد بن محمد ابن حدير، ومحمد بن حفص بن جابر، وأحمد بن سعيد بن حزم والد الفيلسوف الشهير، وكان من أقدر وزراء المنصور وآثرهم لديه، وكان المنصور قد استوزره قبل سائر أصحابه في سنة 381 هـ، وبلغ من ثقته به أن كان يستخلفه على المملكة في أوقات معينة، ويعهد إليه بخاتمه؛ والظاهر أنه لما بلغ ذروة النفوذ والسلطان، شمخ بأنفه، وبدرت منه بوادر الدالة والاعتداد، فتغير عليه المنصور، وأقصاه عن خدمة الوزارة، وبعثه إلى كورة الغرب لينظر في شئونها، ثم عاد بعد قليل فأعاده إلى حسن رأيه، ورده إلى منصبه في الوزارة، وكان ابن حزم من أكابر أهل العلم والبلاغة (2). وكان من كتاب المنصور عيسى بن سعيد القطاع، وهو من أقدم كتابه، وكان من أنصاره ومعاونيه منذ أيام الحكم، فبلغ في ظله وتحت كنفه أرفع مكانة، وكان فوق ذلك من أخصائه ورفاقه في مجالس أنسه ترتفع بينهما الكلفة؛ وكان منهم، أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني، وخلف ابن حسين بن حيان والد المؤرخ، وغيرهم. وكانت هذه الصفوة من الوزراء والكتاب، الذين ينتمي معظمهم إلى أسر عريقة تعاقب أبناؤها في الوزارة، مثل آل شُهيد، وآل عبدَة، وآل جَهور، وآل فُطيس، وآل حُدير وغيرهم،
_______
(1) أعمال الأعلام ص 89.
(2) كتاب " إعتاب الكتاب " لابن الأبار - مخطوط الإسكوريال - لوحة 53 و54.(1/574)
ممن حملوا عمد الدولة الأموية، وعملوا على توطيد دعائمها، تعمل مع المنصور على تسيير دفة الحكم بمقدرة فائقة. وكان من هؤلاء الوزراء من يتصل بالمنصور برباط المودة الشخصية الوثيقة، ويشاطره شغفه بالشعر والأدب، ويغشى مجالس أنسه وشرابه، مثل عبد الملك بن شهيد، وأبى عبد الله بن عياش، وعيسى ابن سعيد. هذا وكان ممن اشترك مع المنصور في الحجابة في بداية عهده، بعد المصحفي، جعفر بن علي بن حمدون الأندلسي، والقائد غالب بن عبد الرحمن، الذي جمع بين القيادة والحجابة حيناً، وقد رأينا كيف لقي كل منهما مصرعه بعد ذلك على النحو الذي تقدم ذكره (1).
* * *
ولم يحل انشغال المنصور طوال عهده بالغزو المستمر، عن القيام بأعمال الإنشاء العظيمة. فقد أنشأ مدينة الزاهرة، وقصورها المنيفة، وحدائقها الغناء، واتخذها كما تقدم مركزاً للإدارة والحكم. ثم ابتنى إلى جانبها منية جميلة ذات قصر وحدائق رائعة، يرتادها للاستجمام والتنزه، وسماها "بالعامرية". وقد كان جمال هاتين الضاحيتين العامريتين، مستقى للأوصاف الشعرية والنثرية الرائعة.
ومما قيل في العامرية أبيات لعمرو بن أبي الحباب أنشدها، وقد دخل يوماً على المنصور بقصر المنية، والروض قد تفتحت أزهاره:
لا يوم كاليوم من أيامك الأول ... بالعامرية ذات الماء والظلل
هواؤها في جميع الدهر معتدل ... طيباً وإن حل فصل غير معتدل
ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها ... بالسعد ألا تحل الشمس بالحمل
كأنما غرست في ساعة وبدا السـ ... ـوسان من حينه فيها على عجل (2)
وكان من أعظم وأجل أعمال المنصور زيادة المسجد الجامع. وكانت قرطبة قد اتسعت رقعتها اتساعاً عظيماً منذ أيام الناصر، واضطرد هذا الاتساع في أيام المنصور حتى بلغت مبلغاً عظيماً، وبلغت أرباض المدينة أعني أحياؤها يومئذ
_______
(1) راجع في ذكر وزراء المنصور: البيان المغرب ج 2 عى 286 و287 و290 و299، وأعمال الأعلام ص 70 و75 و80، ونفح الطيب ج 1 ص 274، والذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول ص 17 و56.
(2) راجع بعض هذه القصائد والأوصاف في البيان المغرب ج 2 ص 296 و297، ونفح الطيب ج 1 ص 272 و273.(1/575)
إحدى وعشرين ربضاً " كل ربض فيها يعد أكبر مدينة من مدائن الأندلس ".
وقد ذكر ابن الخطيب لنا أسماءها ومواقعها تفصيلا، وبلغ خندقها المحيط بها ما عدا ناحية النهر سبعة وأربعين ألف وخمسمائة ذراع أي ستة عشر ميلا (1)، وزاد سكانها في نفس الوقت زيادة كبيرة، ولاسيما منذ مقدم طوائف البربر الكثيرة عليها، في بداية عهد المنصور، وضاقت رحبات المسجد الجامع برواده، ولاسيما في أيام الجمع. فرأى المنصور أن يقيم للجامع من ناحيته الشرقية جناحاً جديداً، لأن ناحيته الغربية كانت متصلة بالقصور الملكية. وشرع في إنشاء هذا الجناح في سنة 387 هـ (997 م)، فأقيم بحذاء الجامع من شماله إلى جنوبه، على رقعة شاسعة تكاد تعدل مساحته الأصلية، وروعيت في إنشائه البساطة والمتانة قبل الزخرفة، كما روعي التماثل والمطابقة للصرح القديم؛ ونزعت من أجل ذلك ملكية عدد كبير من الأماكن والدور، حرص المنصور على أن ينصف أصحابها فيما يستحقونه من ثمن أو معاوضة. وتضاعف حجم المسجد الجامع بهذه الزيادة، وأضحى يحتل رقعة عظيمة شاسعة تبلغ في الطول مائة وثمانين متراً، وفي العرض مائة وخمسة وثلاثين متراً. وكان يشتغل فيه عدد كبير من الأسرى النصارى، الذين أخذوا في مختلف المعارك. وكان المنصور يشترك بنفسه أحياناً في أعمال البناء. وبلغ عدد سواريه ما بين كبيرة وصغيرة، ألف وأربعمائة وسبعة عشرة، وبلغت ثرياته ما بين صغيرة وكبيرة مائتان وثمانون، وبلغ عدد المكلفين بالخدمة به في عهد المنصور، ما بين أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وغيرهم مائة وخمسون شخصاً، وكان الجامع وما حوله يعتبر وحده ربضاً مستقلا يتولاه عريفه وحراسه على حدة (2). ومازال جناح المنصور بمسجد قرطبة الجامع حتى اليوم، قائماً بسائر رحابه وعقوده وسواريه، وذلك بالرغم من تحويل عقوده الجانبية إلى كنائس وهياكل، ويعرفه الأثريون " بمسجد المنصور " (3).
وجدد المنصور قنطرة قرطبة القائمة على نهر الوادي الكبير، وراء المسجد
_______
(1) أعمال الأعلام ص 103.
(2) أعمال الأعلام ص 103.
(3) راجع في زيادة المنصور للمسجد الجامع، البيان المغرب ج 2 ص 306 - 308، ونفح الطيب ج 1 ص 257. وراجع كتابي " الآثار الأندلسية الباقية " حيث يوصف جامع قرطبة بحالته الحاضرة تفصيلا الطبعة الثانية (ص 20 - 31).(1/576)
الجامع، وكانت في الأصل قنطرة رومانية، فجددها السمح بن مالك أمير الأندلس ثم جاء المنصور فجددها، وأعاد بناءها، وذلك في سنة 378 هـ (988 م)، وتم بناؤها في سنة ونصف، وبلغت النفقة عليها مائة وأربعين ألف دينار، وعظم بها نفع القرطبيين.
وابتنى المنصور كذلك قنطرة إستجة على نهر شنيل، فرع الوادي الكبير، واقتضى إنشاؤها كثيراً من الجهد والنفقة، ولكنها حققت تسهيلات عظيمة، في مواصلات قرطبة بالقواعد والولايات الغربية والجنوبية (1).
* * *
وكان المنصور، على الرغم من صرامته، وما لجأ إليه لتوطيد حكمه من الوسائل المثيرة، يتسم بصفات عديدة مؤثرة؛ فقد كان جواداً وافر الجود والبذل، يغدق صلاته على من يستحقها من العاملين معه والمتصلين به، وعلى الفقراء وذوي الحاجات، وله في ذلك حكايات كثيرة.
وكان يفاخر بنشأته المتواضعة، ويقلل من شأن نفسه. وذكر المؤرخ ابن حيان في كتابه في " أخبار الدولة العامرية " عن والده خلف بن حيان كاتب المنصور، أن المنصور لامه ذات يوم لأمر من الأمور، فبدا عليه الفزع، فأشفق عليه المنصور وهدأ من روعه, ثم خلا به بعد أيام وقال له: " رأيت من ذعرك ما استنكرت، ومن وثق بالله برىء من الحول، والقوة لله، وإنما أنا آلة من آلاته أسطو بقدرته، وأعمل عن إذنه، ولا أملك لنفسي إلا ما أملك، ... فطمئن جأشك، فإنما أنا ابن امرأة من تميم طالما تقوت بثمن غزلها، أغدو به إلى السوق، وأنا أفرح الناس بمكانه، ثم جاء من أمر الله ما تراه، ومن أنا عند الله لولا عطفي على المستضعف المظلوم، وسيري لجهاد الطاغية " (2).
وكان ورعاً، شديد الإيمان واليقين، يخشى ربه، ويزدجر إذا ذكر الله وعقابه. وكانت هذه أعجب الخلال في رجل كالمنصور، لم يعف عن سفك الدماء في سبيل تحقيق أطماعه. ولكنها حقيقة تنوه بها الرواية الإسلامية وتؤكدها، ومن دلائلها أن المنصور، كان يحمل معه في سائر غزواته وأسفاره مصحفاً
_______
(1) البيان المغرب ج 2 ص 309، ونفح الطيب ج 1 ص 191، وأعمال الأعلام ص 76
(2) إعتاب الكتاب لابن الأبار - مخطوط الإسكوريال - لوحة 56.(1/577)
خطه بيده، يقرأ فيه ويتبرك به في كل مناسبة (1).
وكذلك تنوه الرواية بعدالة المنصور، وصرامته في إحقاق الحق، والانتصاف لذوي المظالم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب عدة أمثلة رفعت فيها الظلامات إلى المنصور ضد بعض أكابر خدمه وحاشيته، ممن كانوا يظنون أن مراكزهم تحميهم من إجراء العدالة، فأمر المنصور بالانتصاف منهم لذوي الظلامات. وكان يقترن بهذه الصفة، خلة محمودة أخرى، هي تذرعه بالحلم والصبر، وضبط النفس في أموركثيرة، وذلك بالرغم مما كان عليه من الهيبة والرهبة والسلطان (2)، ولكن الرواية تنعي على المنصور خلة سيئة، هي شغفه بمعاقرة الخمر، وقد لازمته هذه الرذيلة طوال حياته، ولم يقلع عنها إلا قبل وفاته بعامين. ويصف لنا ابن الخطيب كيف كان المنصور يصل في العمل يومه بليله، وهو عاكف على الشراب، في تلك الفقرة البليغة: " وكانت الجزالة والرجولة ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره، فينفذ الأمور، والكأس تدور، والجبال للطرب تمور " (3).
* * *
بقيت من خلال المنصور ناحية ربما كانت ألمع خلاله جميعاً، وتلك هي الناحية العلمية.
نشأ المنصور حسبما رأينا في بيت علم وأدب، ودرس وفقاً لتقاليد أسرته دراسة حسنة، وبرع في الشريعة والأدب، وكان حرياً به أن يتبوأ مكانه بين علماء عصره، لولا أن شاءت الأقدار أن تدفع به إلى معترك السياسة والسلطان.
على أن المنصور لبث بالرغم من مشاغل هذا المعترك السياسي الخضم، يحتفظ طول حياته بشغفه بالعلم والأدب، ويوثق صلاته بالعلماء والأدباء والشعراء ويؤثرهم بحبه وعطفه، ويجمعهم حوله في أوقات فراغه وسويعات لهوه وأنسه، ويساجلهم البحث والمناظرة، ويطارحهم قرض الشعر، ذلك لأن المنصور كان شاعراً أيضاً، وله نظم حسن سوف نورد شيئاً منه.
_______
(1) البيان المغرب ج 2 ص 309 و310، وابن خلدون ج 4 ص 147.
(2) البيان المغرب ج 2 ص 310 - 312، والحلة السيراء ص 151.
(3) البيان المغرب ج 2 ص 310، وأعمال الأعلام ص 75.(1/578)
وكان من أخص جلسائه الأدباء، الكاتب البغدادي، أبو العلا صاعد ابن الحسن. وكان قد وفد من المشرق على الأندلس سنة 380 هـ، والمنصور في أوج سلطانه، فأراد المنصور أن يجعل منه قريناً لأبى علي القالي، الوافد من قبل على الناصر والحكم، فقربه وأذن له أن يجلس بجامع مدينة الزاهرة، يملي كتابه المسمى " بالفصوص " على أدباء قرطبة، وهو كتاب في الآداب والأخبار والأشعار، ولكن أدباء قرطبة أنكروا ما ورد فيه، وكذبوه في كثير مما يلقيه، وفضحوا كثيراً من سرقاته الأدبية والشعرية (1). ومع ذلك فقد كان صاعد أديباً بارعاً، خفيف الروح، متوقد الذهن، حاضر البديهة، وكان يأتي بكثير من غريب الشعر بداهة، فأعجب به المنصور، وأولاه رعايته، وألحقه بديوان الندماء، وأجرى عليه راتباً حسناً؛ وكان بهذا الديوان بعض أدباء العصر مثل زيادة الله بن مضر الطبني، وابن العريف، وابن التياني، وغيرهم. وغدا صاعد شاعر المنصور ينظم له المدائح والطرف، ويصطحبه المنصور في نزهاته برياض الزاهرة، وينظمه في مجالس أدبه وأنسه. وقد أورد لنا ابن بسام وصفاً مسهباً لهذه المجالس الأدبية، التي يجتمع فيها المنصور بخلانه وندمائه ومنهم صاعد، وأورد لنا كثيراً مما قيل فيها من النظم. وقد كان بعض الفتيان الصقالبة من بطانة المنصور، يأخذ بقسط حسن من الشعر والأدب، ويغشى مجالس المنصورالأدبية ويشترك في المطارحات الشعرية، وكان من أشهرهم الفتى فاتن، وكان من أبرع العارفين منهم باللغة والأدب. وقد كان للفتيان الصقالبة في الواقع تراث من الشعر والأدب، واشتهروا بذلك أيام المنصور خاصة، وأصدر أحدهم في ذلك كتاباً سماه " الإستظهار والمغالبة على من أنكر فضل الصقالبة "، ضمنه كثيراً من أشعارهم ونوادر أخبارهم (2).
ولبث صاعد على مكانته حتى وفاة المنصور، ومن بعده حتى نهاية الدولة العامرية، ثم أفل نجمه بعد ذلك، وساءت أحواله عند ظهور الفتنة، فغادر الأندلس متخفياً في سنة 403 هـ، وجاز البحر إلى صقلية، واتصل بأميرها فأولاه رعايته، وحسنت حاله، وكانت وفاته بها في سنة 410 هـ.
_______
(1) الصلة لابن بشكوال (طبعة القاهرة) رقم 40.
(2) راجع الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 7 - 22، والمعجب ص 16 و17.(1/579)
وكان للمنصور، فضلا عن مجالس الأدب والأنس العابرة، مجلس أسبوعي يعقده للبحث والمناظرة، ويشهده كثير من العلماء والأدباء (1). وكان في غزواته يستصحب بعض العلماء والأدباء من أصدقائه، إذ كان شغف البحث والمناظرة، يلازمه دائماً حتى في ميدان الحرب؛ وإلى جانب هذا الشغف الشخصي بالحياة العقلية، كان المنصور مولعاً بالعمل على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ كثيراً من دور العلم بقرطبة، وبالغ في الإنفاق عليها، وكان يزور المدارس والمساجد، ويجالس الطلاب أحياناً، ويمنح المكافآت النفيسة لمن يستحقها.
وإلى جانب هذا الشغف بالآداب والعلوم ونشر الحياة العقلية، كان المنصور يشغف أيضاً بجمع الكتب، وكان أكابر المؤلفين يهدون إليه كتبهم، على نحو ما كان متبعاً أيام الحكم، ومن ذلك أن صاعداً البغدادي أهدى إليه كتاب " الفصوص " المتقدم ذكره، فأثابه عنه بخمسمائة دينار (2).
وكان المنصور يمقت الفلسفة وما إليها، ويرى أنها مخالفة للدين، ويكره التنجيم والمنجمين، وقد أمر بأن يستخرج من المكتبة الأموية العظيمة (مكتبة الحكم المستنصر) سائر كتب الفلاسفة والدهريين، وأن تحرق بمحضر من كبار العلماء، وفي مقدمتهم أبو العباس بن ذكوان، وأبو بكر الزبيدي، والأصيلي وغيرهم، وكان ذلك بلا ريب عملا غير موفق، وكان خسارة علمية فادحة.
وينعى المستشرق سيمونيت على المنصور هذا التصرف، فيقول: " إنه إذا كان الحكم الثاني قد استطاع لنزعته العلمية والأدبية أن يحمي الفلاسفة، فقد جاء المنصور من بعده فقام بحرق كتب الفلسفة التي كانت بمكتبة الحكم، وذلك لكي يرضى الفقهاء والدهماء " (3). واشتد المنصور أيضاً في مطاردة المنجمين، وبلغه أن أحدهم وهو محمد بن أبي جمعة، يهجس في تنبؤاته بانقراض دولته، فأمر بقطع لسانه وقتله، فخرست ألسن المنجمين جميعاً (4).
_______
(1) راجع جذوة المقتبس للحميدي ص 73، والمعجب ص 20.
(2) الصلة لابن بشكوال رقم 40.
(3) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. 351
(4) البيان المغرب ج 3 ص 315، وأعمال الأعلام ص 77.(1/580)
وللمنصور شعر جيد، نظمه في مختلف مناسبات حياته، ومن ذلك قوله في الفخر:
رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر
وما صاحبي إلا جنان مشيع ... وأسمر خطى وأبيض باتر
وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر
فسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر
وما شدت بنياناً ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر
رفعنا العوالي بالعوالي مثلها ... وأورثناها في القديم معافر
وقوله يتهدد الفاطميين بمصر، ويمني نفسه بفتح مصر والشأم:
منع العين أن تذوق المناما ... حبا أن ترى الصفاء والمقاما
لي ديون بالشرق عند أناس ... قد أخلوا بالمشعرين الحراما
إن قضوها نالوا الأماني وإلا ... جعلوا دونها رقاباً وهاما
عن قريب ترى خيول هشام ... يبلغ النيل خطوها والشاما
وأما عن نثر المنصور، فقد رأينا أن نورد نموذجاً له، وصيته لولده عبد الملك حينما حضرته الوفاة، وقد نقلها إلينا ابن حيان عن أبيه خلف بن حسين، وهذا نصها:
" يا بني: لست تجد أنصح لك، ولا أشفق عليك مني، فلا تعديَّن وصيتي، فقد جردت لك رأيي ورويتي، على حين اجتماع من ذهنى، فاجعلها مثالا بين عينيك. وقد وطأت لك مهاد الدولة، وعدلت لك طبقات أوليائها، وغايرت لك بين دخل المملكة وخرجها، واستكثرت لك من أطعمتها وعددها، وخلفت لك جباية تزيد على ما ينوبك لجيشك ونفقتك، فلا تطلق يدك في الإنفاق، ولا تقيض لظلمة العمال، فيختل أمرك سريعاً، فكل سرف راجع إلى اختلال لا محالة، فاقصد في أمرك جهدك، واستثبت فيما يرفع أهل السعاية إليك، والرعية قد استقصيت لك تقويمها، وأعظم مناها أن تأمن البادرة، وتسكن إلى لين الجنبة. وصاحب القصر قد علمت مذهبه، وأنه لا يأتيك من قبله شىء تكرهه، والآفة ممن يتولاه ويلتمس الوثوب باسمه، فلا تنم عن هذه الطائفة جملة، ولا ترفع عنها سوء ظن وتهمة، وعاجل بها من خفته على أقل بادرة، مع(1/581)
قيامك بأسباب صاحب القصر على أتم وجه. فليس لك ولا لأصحابك شىء يقيكم الحنث في يمين البيعة، إلا ما تقيمه لوليها من هذه النفقة، فأما الانفراد بالتدبير دونه، مع ما بلوته من جهله وعجزه عنه، فإني أرجو أني وإياك منه في سعة ما تمسكنا بالكتاب والسنة. والمال المخزون عند والدتك، هو ذخيرة مملكتك وعدة لحاجة تنزل بك، فأقمه مقام الجارحة من جوارحك التي لا تبذلها إلا عند الشدة، تخاف منها على سائر جسدك. ومادة الخراج غير منقطعة عنك بالحالة المعتدلة. وأخوك عبد الرحمن قد صيرت إليه في حياتي ما رجوت أني قد خرجت له فيه عن حقه من ميراثي، وأخرجته عن ولاية الثغر، لئلا يجد العدو مساغاً بينكما في خلاف وصيتي، فيسرع ذلك في نقض أمري، وتجلب الفاقرة علي دولتي. وقد كفيتك الحيرة فيه، فأكفه الحيف منك عليه، وكذلك سائر أهلك فيما صنعت فيهم، بحسب مما قدرت به خلاصي من مال الله الذي في يدي.
وخلافتك بعدي أجدى عليهم مما صرفته، فلا تضيع أمر جميعهم، والحظهم بعيني فإنك أبوهم بعدي. فإن انقادت لك الأمور بالحضرة فهذا وجه العمل، وسبيل السيرة، وإن اعتاصت عليك، فلا تلقين بيدك إلقاء الأمة، ولا تبطر بك وأصحابك السلامة، فتنسوا ما لكم في نفوس بني أمية وشيعتهم بقرطبة. فإن قاومت من توثب عليك منهم، فلا تذهل عن الحزم فيهم، وإن خفت الضعف فانتبذ بخاصتك وغلمانك، إلى بعض الأطراف التي حصنتها لك، واختبر غدك إن أنكرت يومك. وإياك أن تضع يدك في يد مرواني ما طاوعتك بنانك، فإني أعرف ذنبي إليهم ".
وهذه وصيته لغلمانه نقلها إلينا أيضاً ابن حيان عن أبيه:
" تنبهوا لأمركم واحفظوا نعمة الله عليكم، في طاعة عبد الملك أخيكم ومولاكم ولا تغرنكم بوارق بني أمية ومواعيد من يطلب منهم شتاتكم، وقدروا ما في قلوبهم وقلوب شيعتهم بقرطبة من الحقد عليكم، فليس يرأسكم بعدي أشفق عليكم من ولدي. وملاك أمركم أن تنسوا الأحقاد، وأن تكون جماعتكم كرجل واحد، فإنه لا يفل فيكم " (1).
_______
(1) نقل إلينا ابن بسام (عن ابن حيان) هذين النصين في الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 56 - 58. ونقلهما ابن الخطيب أيضاً في أعمال الأعلام ص 81 و82.(1/582)
وفي وصية المنصور لولده وغلمانه، يرتسم برنامج سياسته كلها، وتبدو يالأخص نواحي توجسه وتخوفه، فهو لم يكن يأمن جانب بني أمية قط، وقد لبث يتوقع الشر منهم حتى وفاته. ثم توفي وهو يتوقع الشر منهم لبنيه ودولته. وقد كان المنصور في ذلك صائب التقدير، بعيد النظر.
* * *
هذا وأما علائق المنصور الدبلوماسية فإنه لم يتح له عقد الكثير منها، ولم تفد إليه سفارات من ملوك النصارى على نحو ما حدث أيام الناصر والحكم المستنصر. ذلك لأن عهد المنصور كان كله عهد حروب مستمرة، بين الأندلس وبين اسبانيا النصرانية، ولم يقع بين الفريقين تهادن أو سلم طويل الأمد.
وكل ما نستطيع أن نسجله من ذلك حادثان متشابهان، أولهما قدوم برمودو الثاني ملك ليون إلى قرطبة في سنة 985 م، مستجيراً بالمنصور ليعاونه على مقاومة الأشراف الخارجين عليه وتوطيد عرشه. وقد أجابه المنصور إلى طلبه وبادر بمعونته. ومما هو جدير بالذكر أن برمودو قدم ابنته تريسا Teresa، بعد ذلك إلى المنصور عروساً له، فقبلها المنصور وتزوجها أو اتخذها سرية له (1).
والثاني، وهو من أشهر الحوادث الشائقة التي وقعت أيام المنصور، هو مقدم سانشو غرسية ملك نافار على المنصور، معتذراً إليه، لائذاً بعفوه ومهادنته, والوجه الشائق في ذلك هو أن سانشو غرسية هذا كان صهراً للمنصور، وكان تقرباً من المنصور، واكتساباً لمودته قد قدم ابنته عروساً إليه (981 م) فتزوجها المنصور، واعتنقت الإسلام، وسميت باسم "عبدة"، وكانت من أحظى نسائه لديه، ورزق منها بولده عبد الرحمن الذي سمي أيضاً " شنجول " أو " سانشول " أى شانجُه (سانشو) الصغير نسبة لجده ملك نافار. ثم ساءت العلائق بين المنصور وصهره، وتابع المنصور غزو نافار مرة بعد مرة، حتى اضطر سانشو إلى طلب الصلح، وسار إلى قرطبة مستصرخاً المنصور ولائذاً بعفوه. ووصل سانشو إلى قرطبة في الثالث من رجب سنة 382 هـ (4 سبتمبر سنة 992 م) فسر المنصور بمقدمه سروراً عظيماً، وبعث القواد والكبراء وطوائف الجند في موكب فخم، وعلى رأسهم ولده عبد الرحمن وهو طفل في مهده، لاستقباله ومرافقته
_______
(1) R. M. Pidal: La Espana del Cid (Madrid 1947) p. 71.(1/583)
إلى قصر الزاهرة، فلما وقعت عين سانشو على حفيده، ترجل وقبل يده ورجله، ثم رافق الركب إلى الزاهرة، وقد اصطفت الجند على طول الطريق في صفوف كثيفة زاهية كاملة السلاح والعدة، واصطف الوصفاء والصقالبة من باب القصر إلى الداخل صفين. وسار سانشو، وقد بهره كل ما رأى، حتى وصل إلى مجلس المنصور في عصر ذلك اليوم، وقد جلس المنصور في هيئة فخمة، ومن حوله الوزراء وأعاظم رجال الدولة؛ فلما أبصره سانشو هوى إلى الأرض فقبلها مرات متوالية، ثم قبل يدى المنصور ورجليه، فأمره بالجلوس على كرسي مذهب خصص له، ثم انصرف الناس واختلى الملك النصراني بالمنصور، وأفضى كل إلى صاحبه بما أراد، ثم خرج سانشو وفي أثره الخلع السلطانية، وما انفض المجلس إلا عند دخول الليل.
وكان مقدم سانشو غرسية إلى قرطبة، واستقباله بها، من أيام الأندلس المشهودة، وقد أعاد بروعته وما اقترن به من مغزى عميق بظفر الإسلام على أعدائه، ذكرى أيام الناصر في وفود الملوك النصارى عليه، ملتمسين منه الصلح والمودة (1).
* * *
وقد أجمعت الرواية الإسلامية، الأندلسية والمشرقية، على الإشادة بخلال المنصور وباهر صفاته. وهي جميعاً سواء أوجزت القول أو أفاضت، تنم عن عميق التقدير والإعجاب، ثم هي مع ذلك لم تغفل التنويه بالجوانب القاتمة في تلك العبقرية الفذة، على أنها على العموم أكثر ميلا إلى إبراز محاسن المنصور ومواهبه، والإشادة بما أسبغته على الأمة الأندلسية من ضروب العظمة والبهاء.
قال ابن الأثير يصف المنصور: " وكان شجاعاً، قوى النفس، حسن
التدبير، وكان عالماً محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء
ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة " (2). وقال ابن خلدون " وكان
ذا عقل ورأي وشجاعة، وبصر بالحروب، ودين متين " (3). ويصفه الفتح
ابن خاقان في " المطمح " في تلك العبارات الشعرية: " وكان أمضاهم (يعني من
_______
(1) أورد لنا ابن الخطيب في " أعمال الأعلام " وصفاً شائقاً لهذا الحادث. ص 66 و73 و74.
(2) ابن الأثير ج 9 ص 61.
(3) ابن خلدون ج 4 ص 147.(1/584)
تقدمه) وأذكاهم جناناً، وأتمهم جلالا، وأعظمهم استقلالا. قام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة. وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك، وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كل فريق. وملك الأندلس بضعاً وعشرين حجة، لم تدحض لسعادتها حجة، ولم تزخر لمكروه بها لجة، وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أشد سهام " (1).
ويجمل ابن حيان حياة المنصور في تلك الفقرة: " وامتثل رسم المتغلبين على سلطان ولد العباس بالمشرق من أمراء الديلم في عصره. فنال بغيته، وتهنأ معيشته، وأورثه عقبه بعده، عن غير اقتدار عليه، بجند خاص، ولا صيال بعشيرة، ولا مكابرة بمال وعدة، بل رمى الدولة من كنانها، وعدا عليها بأعضادها، وانتضلها بمشاقصها، وأنفق على ضبطها أموالها وعددها، حتى حولها إليه وسبكها في قالبه، وسلخ رجالها برجاله، وعفى رسومها بما أوضح من رسومه " (2).
هذا، وقد أشاد ابن الخطيب بخلال المنصور في مواطن وفقرات عديدة نقتطف منها ما يلي:
قال مشيراً إلى ولاية هشام: " فاستقر الأمر لهشام، يكنفه الحاجب المنصور أسعد أهل الأندلس مولداً، وأشهرهم بأساً ونداً، وأبعدهم في حسن الذكر مداً، الحازم العازم، العظيم السياسة، الشديد الصلابة، القوي المنة، الثبت الموقف، معود الإقبال، ومبلغ الآمال، الذي صحبته ألطاف الله الخفية في الأزمات، واضطرد له النصر العزيز في نحو سبع وخمسن من الغزوات، ولم تفارقه السعادة حالتي المحيا والممات ".
وقال: " فقد أجمع الشيخة أنه نهض بجد لا كفاء له، وأصحب سعداً لا نحس يخالطه، وأعطى إقبالا لا إدبار معه، قد وثق بذلك فلم يلتفت إلى غيره ... "
" وكان مهيباً وقوراً، فإذا خلا كان أحسن الناس مجلساً، وأبرهم بمن يحضر منادماً ومؤانساً، وكان شديد القلق من التبسط عليه، والدالة، والامتنان،
_______
(1) نقله البيان المغرب ج 2 ص 292، والمقري في نفح الطيب ج 1 ص 189.
(2) نقله صاحب الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 43.(1/585)
لا يغفرها زلة، ولا يحلم عنها جريرة، ولم يكن يسامح في نقصان الهيبة، وحفظ الطاعة أحداً، من ولد ولا ذي خاصة، دعاه ذلك إلى قتل ولده عبد الله صبراً بالسيف بما هو معروف ".
" وكانت الجزالة والرجولة، ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره، الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على لذة تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره " (1).
ولم يكن النقد الغربي أقل تقديراً لعظمة المنصور، وقد أشاد بعبقريته ومواهبه كثير من المؤرخين والنقدة الغربيين، وهذه نماذج من أقوالهم:
قال المؤرخ الإسباني اليسوعي ماسديه مشيراً إلى المنصور: " وكان سياسياً كبيراً، وقائداً عظيماً، فقد أخمد نار الثورات التي كانت تعصف بالمملكة، واكتسب حب الشعب بجميع طبقاته، وتفوق في شهرته وهيبته على أكبر القواد، بما اجتمع في أحكامه من الصرامة واللين والقصاص والعفو، وكان يهدم المدن التي تقاوم جيوشه ويبيدها، ولكنه لم يسمح قط لجنده بأن تسىء معاملة مدينة سلمت طوعاً " (2).
ويقول المؤرخ الإسباني المعاصر الأستاذ مننديث بيدال معلقاً على عصر المنصور: " عاش الإسلام في اسبانيا أروع أيامه وأسطعها، وانتهى نصارى الشمال إلى حالة دفاع كانت دائماً مقرونة بالمحن، ولاح كأنهم لم يعيشوا إلا لتأدية الجزية والسلاح والأسرى والمجد للخلافة الأموية " (3).
ويلاحظ الأستاذ بيدال في نفس الوقت أن عبقرية المنصورالعسكرية والسياسية كانت من عوامل القضاء على الروح القومية النصرانية المستعربة، وذلك لما أغدقه المنصور من عطفه ورعايته على كثير من النصارى والمستعربين (4).
ويختتم العلامة دوزي كلامه عن المنصور بالفقرة الآتية: " وعلى الجملة، فإذا وجب أن نستنكر الوسائل التي لجأ إليها المنصور في اغتصاب السلطة، فمن
_______
(1) راجع أعمال الأعلام ص 58 و74 و75.
(2) J.F. Masdeu: Historia Critica de Espana y de la Cultura Espanola.
(3) R.M.Pidal: La Espana del Cid, p. 72.
(4) R.M. Pidal: Origenes des Espanol, p. 423.(1/586)
الواجب أيضاً أن نعترف بأنه استخدمها بطريقة شريفة. وما كنا لنسرف في لومه لو أن القدر خلقه على أريكة العرش، ولعله كان يعتبر عندئذ من أعظم الملوك الذين عرفهم التاريخ. ولكنه خلق في القرية، واضطر لتحقيق أطماعه، أن يشق لنفسه طريقاً تكتنفه آلاف الصعاب. ومن الأسف أنه من أجل تذليلها، قلما راعى شرعية الواسطة. لقد كان المنصور رجلا عظيماً من وجوه كثيرة، ولكن يستحيل علينا، متى رجعنا إلى مبادىء الأخلاق الخالدة أن نحبه، ومن الصعب أن نعجب به " (1).
_______
(1) Dozy: Hist. Vol. II. p. 275.(1/587)
الفصل الثالث
الممالك النصرانية الإسبانية خلال القرن العاشر الميلادي
نهوض اسبانيا النصرانية في عهد الفتنة الأندلسية. وفاة أردونيو الثاني. الحرب الأهلية في ليون. استقرار راميرو في الملك. ولاية قشتالة. جهادها في سبيل الاستقلال. الكونت فرنان كونثالث. ثورته ضد راميرو الثاني. هزيمته وأسره. ثورة قشتالة. الإفراج عن الكونت. طاعته لملك ليون. استمراره في العمل لاستقلال قشتالة. وفاة راميرو. الحرب الأهلية بين ولديه أردونيو وسانشو. معاونة فرنان كونثالث لسانشو. انتصار أردونيو وفوزه بالملك. يعقد الصلح مع الناصر. وفاته وجلوس سانشو. موقف فرنان كونثالث. اضطراب الأحوال في ليون. فرار سانشو وجلوس أردونيو الرابع. التجاء سانشو وجدته طوطة إلى الناصر. سانشو يسترد العرش بمعونة الناصر. نكثه لعهوده. فرنان كونثالث يعلن استقلال قشتالة. التجاء أردونيو إلى الحكم. اتحاد الأمراء النصارى. غزو الحكم لقشتالة ونافار. اضطرارهما لعقد الصلح. بداية الكفاح بين قشتالة والمملكة الإسلامية. الحكم يأذن بنقل رفات القديس بلايو. الثورة في جليقية. مصرع سانشو وجلوس ولده راميرو. وفاة فرنان كونثالث وصفاته. وفود الأمراء النصارى وسفاراتهم على قرطبة. عدوان النصارى على أراضي المسلمين وردهم. النزاع بين راميرو وبرمودو على العرش. تدخل المنصور في ذلك. غزو المنصور لشنت ياقب. برمودو يلتمس الصلح. وفاته وجلوس ولده ألفونسو. ملكة نافار. غرسية سانشيز وأمه طوطة. ولده سانشو غرسية. غزو المنصور لنافار. وفاة سانشو وجلوس ولده غرسية سانشيز. ولده سانشو الكبير. عناصر المجتمع في اسبانيا النصرانية. طبقة الأشراف والفرسان والملاك والزراع الأحرار. طبقة الأرقاء. رقيق الضياع. التنظيم السياسي للمملكة النصرانية. السلطة المركزية. الأشراف. القضاء واشتراك الأشراف في مزاولته. رجال الدين وسلطانهم الإقطاعي. مقارنة بين هذا النظام ونظام المملكة الإسلامية.
لما بلغت الثورات والفتن الداخلية بالأندلس، ذروتها في النصف الأخير، من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، فيما اصطلح على تسميته بالفتنة الكبرى، وبددت قوى الأندلس ومواردها في ذلك الصراع الداخلي المدمر، أخذت اسبانيا النصرانية، وقد أمنت شر الغزوات الإسلامية طوال هذه الفترة، تتنفس الصعداء، فاشتد ساعدها، ونمت مواردها، وتوطدت حكوماتها.
ولم تأت فاتحة القرن العاشر الميلادي، حتى كانت مملكة ليون، التي خلفت مملكة جليقية، وبسطت سلطانها على ولاية قشتالة، في أواسط اسبانيا الشمالية، قد(1/588)
بلغت مستوى من القوة والبأس، يتيح لها أن تخوض مع المملكة الإسلامية صراعاً عنيفاً.
وقد رأينا كيف بلغ هذا الصراع ذروته في عهد الناصر، وكيف أنه بالرغم مما حققه الناصر من إخماد الفتنة، وإحياء قوة الأندلس، استطاع النصارى بقيادة ملكهم أردونيو الثاني، أن يحرزوا على المسلمين نصرهم الخطير، في موقعة شنت إشتيبن في سنة 917 م.
وكانت موقعة شنت إشتيبن، وما تلاها من تكرر غزو النصارى للأراضي الإسلامية، نذيراً خطيراً لحكومة قرطبة. ولكن وفاة أردونيو الثاني في سنة 925 م وضع حداً مؤقتاً لتلك الفورة القومية، التي جاشت بها اسبانيا النصرانية. ذلك أن أخاه وخلفه فرويلا، لم يحكم سوى عام واحد، ثم توفي، فاضطرم النزاع على العرش بين سانشو وألفونسو ولدى أردونيو، وانتهى بأن فاز ألفونسو بالعرش بمعاونة صهره وحميه سانشو ملك نافار. ولكن سانشو لم ييأس، فجمع جيشاً جديداً، وتوج نفسه ملكاً في شنت ياقب في أقاصي جليقية، ثم زحف على ليون فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه. فعاد ملك نافار إلى مؤازرة ألفونسو ومعاونته، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يستولى على مدينة ليون مرة أخرى. بيد أن أخاه سانشو لبث محتفظاً بجليقية؛ مصراً على دعواه في الملك.
واستمرت الحرب الأهلية بين النصارى أعواماً، وانتهى طورها الأول، حينما توفي سانشو ابن أردونيو في سنة 929 م، واستقر الملك لأخيه ألفونسو الرابع دون منازع. ثم بدأ طورها الثاني في سنة 931 م، ففي تلك سنة توفيت زوجة ألفونسو، فحزن لفقدها أيما حزن، وغلب عليه اليأس والزهد، فتنازل عن العرش لأخيه راميرو ثاني ملوك ليون بهذا الإسم، ولجأ إلى دير ساهاجون واعتنق الرهبانية، ولكنه عافها بعد قليل، فترك عزلة الدير، ونادى بنفسه ملكاً في حصن شنت منكش Simancas، وكان عمله في نظر الرهبان عاراً كبيراً، فأثاروا عليه دعاية شديدة، حتى اضطر أن يعود إلى الرهبانية. وقد كان ألفونسو في الواقع " أميراً أصلح لقلنسوة الراهب منه لتاج الملك، وأشد شغفاً بالمقدس منه بميدان الحرب "، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى نجدة(1/589)
ثوار طليطلة، فغادر الدير، وزحف في بعض أنصاره على مدينةْ ليون واستولى عليها، فعاد راميرو مسرعاً، وحاصر أخاه في ليون واستولى عليها بدوره. ثم أراد أن يضع حداً لمساعي ألفونسو ومحاولته فسمل عينيه، وسمل كذلك أعين أبناء عمه الثلاثة، وهم أولاد فرويلا الذين اشتركوا في الثورة عليه.
ويعلق النقد الإسباني الحديث على تلك القسوة بقوله: " وإنه ليروعنا ذكرى العقوبة التي أنزلها راميرو الثاني بأخيه ألفونسو، وبأبناء عمه الثلاثة، وإنه لن يكفي مر القرون ليمحو ذكرى عقوبة سمل العينين التي ورثت عن التشريع القوطي، قبل أن نراها تطبق بكثرة من جانب ملوكنا نحو ذوي قرباهم " (1).
وهكذا استقر الملك لراميرو بعد صراع عائلي عنيف. وكان راميرو الثاني أو رذمير كما تسميه الرواية الإسلامية، ملكاً شجاعاً مقداماً، نذر نفسه للكفاح ضد المسلمين، ومقارعتهم بكل الوسائل، فتارة يغير على الأراضي الإسلامية، وتارة يحرض الثوار على حكومة قرطبة، أو يسير إلى إنجادهم بالفعل، كما حدث حينما سار لمعاونة طليطلة على مقاومة الناصر (930 م)، وتارة يشتبك مع المسلمين في معارك طاحنة. وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق المشئومة، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين، تحت أسوار مدينة سمورة في سنة 327 هـ (939 م).
1 - نشأة مملكة قشتالة
لم يكن اضطراب الأمور في مملكة ليون، قاصراً على قسمها الغربي في جليقية، حيث كان الزعماء (الكونتات) الجلالقة، يثورون على العرش من آن لآخر، بغية توطيد سلطانهم المحلي، بل كان يشمل أيضاً قسمها الشرقي، في منطقة قشتالة، التي كانت تسمى يومئذ " بردوليا " ثم سميت فيما بعد " قشتالة Castilla " (2) ، وذلك لكثرة الحصون التي كانت تقام بها. وكانت هذه المنطقة، التي استحالت فيما بعد إلى مملكة قشتالة، تمتد شرقاً حتى هضاب نافار، ومن
_______
(1) M. Lafuente: Historia General de Espana (Barcelona 1889) T. II.p. 360.
(2) كلمة Castillo الإسبانية معناها الحصن. وقد كانت تسمى في الجغرافية العربية القلاع قبل أن تنتظم إلى مملكة قشتالة. وتسمى بالإضافة إلى ولاية " ألبة " Alava " ألبة والقلاع ".(1/590)
ولاية ريوخا جنوباً، حتى الأراضي التي سميت فيما بعد أراجون وسوبرابي، وكان سكانها الأصليون من البشكنس وأهل ألبة. وكان ملوك الجلالقة أو ملوك أوبييدو قد غزوها وأضافوها إلى أملاكهم، وكانت عاصمتها يومئذ مدينة برغش. وأبدى زعماء قشتالة منذ البداية، مقاومة عنيفة للملوك الجلالقة، وبذلوا جهدهم للمحافظة على استقلالهم المحلي، وثاروا بالفعل في عهد أردونيو الثاني في أوائل القرن العاشر. فحاربهم أردونيو وأخضعهم، وقبض على كثير منهم وأعدمهم، واضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته، وكانوا يتمتعون بسلطات محدودة تحت سلطان زعيم محلي، مقره في " برغش ". وهو يخضع بدوره لملك ليون.
ولكن هذا النظام المهين، لم يرق لكونتات قشتالة، فلبثوا يتحينون الفرص للثورة، وتحقيق استقلالهم المنشود.
وعرضت هذه الفرصة، وألفت قشتالة بطل ثورتها التحريرية، في شخص زعيمها الكونت فرنان كونثالث (وفي الرواية الإسلامية فرّان غنصالس)، الذي غدت حياته مستقى للملاحم الشعرية، والقصص الإسباني في العصور الوسطى، فحشد الكونت أنصاره وقواته، وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، وولد أردونيو؛ وكان راميرو يومئذ في أوج قوته، بعد انتصاره على المسلمين في موقعة الخندق، فلم يلق مشقة في هزيمة الكونت وسحق قواته، وأسر فرنان كونثالث، وزجه راميرو إلى ظلام السجن في مدينة ليون، وعين لحكم قشتالة آسور فرناندز كونت مونزون، ثم عين بعد ذلك لحكمها ولده سانشو، وأمره أن يعامل القشتاليين بالرفق والحسنى؛ ولكن ذلك لم يخمد جذوة الوطنية القشتالية. ولبث القشتاليون مخلصين لأميرهم المأسور، واستمروا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم بالفعل على ليون، فخشى راميرو العاقبة، وأطلق سراح فرنان كونثالث، ولكن بشروط فادحة، هي أن يقسم يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يزوج ابنته أوراكا لأردونيو ولد راميرو الأكبر. وقبل فرنان كونثالث هذه الشروط مرغماً. وظل أهل قشتالة على بغضهم لملك ليون، وولائهم لأميرهم. وفقد راميرو بذلك عون الزعماء القشتاليين ومساهماتهم المخلصة في الدفاع عن البلاد، واستطاع المسلمون خلال ذلك الإغارة مراراً على أراضي ليون والعيث فيها، وقام الناصر بتجديد مدينة سالم، ثغر(1/591)
الحدود بين أراضي قشتالة والأراضي الإسلامية، وتحصينها (سنة 946 م).
واضطر راميرو أن يلتزم خطة الدفاع، إزاء الغزوات الإسلامية المتوالية.
وكان فرنان كونثالث، يعمل أثناء ذلك، على توطيد مركزه، وضم كونتيات قشتالة كلها تحت لوائه، ليجعل منها وحدة سياسية، أو بالحرى إمارة مستقلة، يغدو عرشها من بعده وراثياً في أسرته. وقد استطاع غير بعيد أن يحقق هذه الغاية (1).
2 - مملكة ليون
وفي أوائل سنة 950 م توفي راميرو الثاني ملك ليون، فنشبت الحرب الأهلية مرة أخرى بسبب وراثة العرش. وذلك أن راميرو ترك ولدين أولهم أردونيو، وهو ولد زوجه الأولى تاراسيا، وسانشو وهو ولد زوجه الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار. فادعى أردونيو أنه أحق بالعرش باعتباره أكبر الأخوين، ولكن سانشو نازعه في ذلك، معتمداً على عون أخواله النافاريين، وجدته طوطة ملكة نافار، وكذلك على عون الكونت فرنان كونثالث وأهل قشتالة. وكان الكونت غير ميال إلى معاونة أردونيو، بالرغم من كونه زوج ابنته، إذ كان قد أرغم على تلك المصاهرة كما تقدم، وقد آثر أن يقف إلى جانب سانشو، إذ وعده بأن يرد إليه أملاكه، وأن يحقق أمانيه في الاستقلال، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يعمل على إضعاف مملكة ليون لكي يدعم بذلك استقلاله. وهكذا نشبت الحرب بين أردونيو وبين جيش متحد من قوات سانشو، ونافار، وقشتالة. ولكن أردونيو هزم أعداءه، وأخضع سائر الخارجين عليه واستقر في العرش، ورأى انتقاماً لخيانة فرنان كونثالث أن يطلق زوجه الملكة ابنة الكونت، وبذلك كفرت هذه الأميرة عن خصومة أبيها لمملكة ليون.
وانتهز المسلمون فرصة الحرب الأهلية، فتوالت غزواتهم لأراضي ليون؛ ومن جهة أخرى فقد كان أشراف ليون في تمرد مستمر على ملكهم؛ وخشى أردونيو العاقبة، فبعث سفيراً إلى قرطبة في أوائل سنة 955 م يطلب عقد الصلح مع الناصر، فأجابه الناصر إلى طلبه، وبعث إليه سفيره محمد بن الحسين، فعقد معه
_______
(1) R.M.Pidal: La Espana del Cid p. 70 ; Altamira: Historia de Espana, Vol. I. p. 244-245(1/592)
معاهدة صلح، تعهد فيها أردونيو بأن يصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر. ثم توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في الملك؛ وكان أول ما عمل أن رفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع الناصر، فاضطر الناصر إلى إعلان الحرب، وبعث حاكم طليطلة أحمد بن يعلى في الجيش إلى ليون، فغزاها، وتوغل في أراضيها، واضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يقر ما سبق أن تعهد به أخوه. وبذلك استقرت علائق السلم بين الفريقين.
ومن جهة أخرى فإن فرنان كونثالث لم يتحول عن سياسة العداء نحو ليون؛ وقد كان قبل أن يرث سانشو العرش، يؤازره ويناصره ضد أخيه أردونيو، فلما تولى أردونيو عرش ليون، انقلب إلى خصومته وفقاً لسياسته المأثورة ضد ليون، وكان يبغى في الوقت نفسه أن تعود ابنته أوراكا مطلقة أردونيو الثالث إلى العرش، بعد أن تزوجت من ابن عمه الأمير أردونيو، وقد عاونه القدر غير بعيد على تحقيق بغيته.
ذلك أن الأحوال ما لبثت أن ساءت في مملكة ليون، فقد ثار الأشراف بسانشو ونزعوه عن العرش، واحتجوا لخلعه بهزيمته أمام المسلمين في بعض المعارك التي خاضها، وبأن بدانته الفائقة تمنعه من ركوب الخيل، ومن تولى الإدارة، ففر سانشو إلى بنبلونة، إلى جانب جدته طوطة ملكة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة، باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، وهو ابن ألفونسو الرابع، عم المك المخلوع وصهر الكونت فرنان كونثالث، وكان أحدباً دميماً سيىء الخلال، حتى لقب بالردىء El Malo. ولجأ سانشوا إلى عون الناصر، فأرسل إليه طبيباً يهودياً من قرطبة، يتولى علاجه من بدانته؛ وفي سنة 958 م (347 هـ) قصدت طوطة إلى قرطبة، ومعها ولدها الفتى غرسية سانشيز، الذي كانت تحكم نافار باسمه، وسانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم الناصر استقبالا حافلا، وعقد السلم مع طوطة، وأقر ولدها ملكاً على نافار، ووعد سانشو بالعون على استرداد عرشه، وذلك مقابل تعهده، أن يسلم للمسلمين، بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمده الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق وانتهت هذه الحرب الأهلية الجديدة، بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرة أخرى، وفر أردونيو إلى برغش.(1/593)
ولكن سانشو نكث بعهده للمسلمين، وأبى تنفيذ ما تعهد به، ثم ثوفي الناصر بعد ذلك بقليل، ولزمت ليون ونافار السكينة حيناً. ولكن فرنان كونثالث اتجه وجهة أخرى. وكان قد انتهز فرصة الحرب الأهلية، وأعلن استقلال قشتالة، ونصب نفسه أميراً مستقلا عليها، وأخذ يسعى لتوسيع أملاكه بالإغارة على الأراضي الإسلامية. وكان يرى في نزول ميدان الكفاح ضد المسلمين، وسيلة لتدعيم هيبته في نفوس النصارى المتعصبين، فأخذ يغير على الأراضي الإسلامية مرة بعد أخرى.
وكان فرنان كونثالث، على قول المؤرخ الإسباني " ذا عبقرية تمازجها الغطرسة، وروح تمازجها العجرفة، معتداً بنفسه، وعالماً بما يمكن أن يجنيه من قلبه وساعده، محباً للاستقلال، تملؤه فكرة تحرير بلاده قشتالة من نير ليون، وأن يقيم لها سيادة خاصة " (1).
وقد رأينا فيما تقدم، كيف لجأ أردونيو الرابع ملك ليون المخلوع إلى الحكم، وكيف استقبله الخليفة بقصر الزهراء في حفل مشهود، ووعده بأن يعاونه على استرداد عرشه، لقاء عهود قطعها على نفسه، وكيف خشى سانشو عاقبة هذا المسعى، فبعث إلى الحكم يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن ينفذ ما تعهد به للناصر، وكيف عاد بعد ذلك إلى نكثه السابق حينما توفي خصمه أردونيو.
وعندئذ لم يجد الحكم بداً من الحرب، ولم يجد الأمراء النصارى بداً من الاتحاد. وقد فصلنا فيما تقدم كيف اجتاحت الجيوش الإسلامية، أراضي قشتالة، ومزقت جيوش أميرها فرنان كونثالث، في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمته هو وحليفه سانشو ملك ليون على طلب الصلح، وكيف اجتاحت غربي نافار عقاباً لأميرها غرسية سانشيز على نكثه، وإغارته على أراضي المسلمين، وكيف توالت غزوات المسلمين لأراضي قشتالة، ما بين سنتي 963، و 967 م.
وهنا نقف قليلا أمام تلك الحقيقة التاريخية الهامة، وهي أننا نجد قشتالة إحدى ولايات مملكة ليون القديمة، تحارب المسلمين لأول مرة كإمارة مستقلة.
ومن ذلك التاريخ تحتل قشتالة مكانتها في تاريخ الكفاح، بين اسبانيا النصرانية
_______
(1) Modesto Lafuente: ibid ; T. II. p. 361.(1/594)
خريطة:
الممالك الإسبانية النصرانية في أواخر القرن العاشر عهد الحكم المستنصر والمنصور.(1/595)
واسبانيا المسلمة، وتغدو بالرغم من نشأتها المتواضعة شيئاً فشيئاً، أعظم الممالك النصرانية رقعة، وأوفرها قوة ومنعة، وأشدها مراساً في محاربة المسلمين، وانهاك قوى المملكة الإسلامية.
واستمر سانشو حيناً يحكم في ظروف صعبة من جراء ثورات الزعماء والأشراف الخارجين عليه، وكان بعد أن عقد الصلح مع الحكم، قد أرسل إليه تحقيقاً لرغبة زوجه تريسا، وأخته الراهبة إلبيرة، سفارة يطلب إليه الإذن بنقل رفات القديس بلايو إلى ليون. وكان نصارى قرطبة قد عنوا بنقل رفات هذا القديس من الوادي الكبير، فأجاب الخليفة سؤله، ونقلت الرفات في العام التالي في حفل فخم، وأودعت ليون بكنيسة خاصة أقامها الملك، وسماها دير سان بلايو. ولم يحضر سانشو هذا الحفل لانشغاله بمقاومة الخوارج عليه. وكان من أشد خصومه والمحرضين عليه الحبر سسناندو أسقف شنت ياقب؛ وكان هذا الأسقف قد حصن مدينته وقصره الأسقفي، بحجة حمايتها وحماية مزار القديس ياقب من غارات النورمان، ولكنه أعلن العصيان، وعبثاً حاول سانشو استرضاءه، بيد أنه اضطر أخيراً أن يفتح مدينته للملك حينما رأى فشل الزعماء الخارجين في مقاومته.
وكان بين الزعماء الخارجين عليه من الأشراف وأشدهم مراساً، الكونت جوندسالفو (غندشلب) سانشيز حاكم جليقية، وكان قد استطاع أن يوطد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على لاميجو وبازو وقلمرية، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي ولاية البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته، ألفى رسل الزعيم الثائر يعرضون عليه التسليم والطاعة، مع رجاء واحد فقط هو أن يأذن الملك بمقابلة الكونت، فقبل سانشو. وكان الكونت قد دبر مشروعاً دنيئاً لاغتياله. فدعاه إلى مأدبة أقامها وقدم إليه فاكهة مسمومة تناولها سانشو دون أن يخامره الريب، وسرعان ما شعر بدبيب الموت يسري إلى أحشائه، فحمل في الحال إلى ليون وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودفن بها تحقيقاً لرغبته، وكان ذلك في سنة 966 م (1).
وهكذا توفي سانشو ملك ليون مسموماً، بعد أن حكم اثنتي عشرة سنة، فخلفه ولده راميرو الثالث، طفلا في الخامسة من عمره تحت وصاية عمته الراهبة
_______
(1) Modesto Lafuente ; ibid, T. II. p. 341-342.(1/596)
إلبيرة. ولكن معظم الأشراف أبوا الاعتراف بسلطانه. ونشبت في ليون طائفة من الثورات المحلية، ولاسيما في ولايات جليقية، وحاول كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وتوطيد سلطانهم المحلي. وكان مثل فرنان كونثالث في الاستقلال بولاية قشتالة، أقوى مشجع لهم، ولبثت أخطر حركة من ذلك النوع، هي ثورة جوندسالفو سانشيز (قاتل مليكه) حيث استمر على استقلاله يحكم المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وحكم القواعد الثلاثة الهامة لاميجو وبازو وقلمرية، الواقعة فيما وراء نهر دويرة.
وفي خلال ذلك، توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة في سنة 970 م وخلفه في الإمارة ولده غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار وخلفه ولده سانشو غرسية الثاني.
ويعلق المؤرخ لافونتي على عمل فرنان كونثالث مؤسس استقلال قشتالة وسياسته بقوله: " إن جميع الوسائل التي تذرع بها الكونت لتحقيق غايته لا تبدو مستحسنة في نظرنا، فإن معاملته لملوك ليون راميرو الثاني، وأردونيو الثالث، وسانشو الأول، وأردونيو الردىء، وكذلك معاملته لغرسية ملك نافار، حليفاً وخصماً بالتوالي لهؤلاء وهؤلاء، وساعياً في تولية وعزل هؤلاء وهؤلاء، ومقسماً للولاء وناقضاً له، ولقد كانت مقتضيات السياسة وملابساتها في صالحه، وإن كان ذلك لا يطابق حكم الأخلاق الصارم. بيد أننا نلاحظ أنه من مفاخر الكونت أنه لم يحالف المسلمين قط، ولم يتهادن قط مع أعداء وطنه أو دينه. أما عن بدء عهد استقلال قشتالة، فيمكن أن نضعه في منتصف القرن العاشر (الميلادي)، وهو الوقت الذي رأينا فيه الكونت يعمل لحسابه دون خضوع لملوك ليون " (1).
وأدركت الممالك النصرانية يومئذ، وفي مقدمتها مملكة ليون، التي شغلت بحوادثها الداخلية، أنه لا مجال للعدوان على أراضي المسلمين، ولزمت السكينة حيناً.
واتجه الملوك والأمراء النصارى إلى تحسين علائقهم مع بلاط قرطبة، فتوالت زياراتهم وسفاراتهم على الحكم، يسألون الصلح والمهادنة. وكان من الوافدين بأنفسهم على قرطبة أمير جلِّيقية، والراهبة إلبيرة الوصية على عرش ليون. وقد فصلنا من قبل قصة هذه الزيارات والسفارات في موضعها.
_______
(1) Modesto Lafuente: ibid., T. II. p. 861(1/597)
ولما توفي الحكم المستنصر، وشغل المسلمون بعض الوقت بشئونهم الداخلية، اعتقد النصارى أن الفرصة قد عرضت مرة أخرى لغزو أراضي المسلمين، فأغار القشتاليون على الأراضي الإسلامية، وتوغلوا فيها جنوباً وعاثوا فيها؛ وهنا نهض محمد بن أبي عامر لرد عدوانهم، فغزا أراضي قشتالة في أوائل سنة 977 م (366 هـ) ثم غزاها ثانية، واقتحم مدينة شلمنقة في العام التالي.
وبدأت بذلك سلسلة الغزوات الشهيرة المتوالية، التي شهرها المنصور بن أبي عامر، على الممالك الإسبانية النصرانية، واستغرقت طيلة حياته، والتي فصلنا أخبارها فيما تقدم.
ونستطيع أن نشير هنا فيما يتعلق بمملكة ليون، إلى ما وقع من إقدام راميرو الثالث ملك ليون، على معاونة القائد غالب الناصري ببعض قواته، في حربه مع المنصور، فلما سار المنصور بعد ذلك لمحاربة راميرو ومعاقبته على هذا التحدي، استغاث راميرو بغرسية فرناندز أمير قشتالة، وسانشو غرسية ملك نافار، فسار المنصور، لمقاتلة القوات النصرانية المتحدة، وهزمها في موقعة شنت منكش في سنة 981 م (371 هـ).
وعلى أثر ذلك، رأى أشراف ليون، أن راميرو لم يعد صالحاً لحكم المملكة، فقرروا خلعه، وتولية ابن عمه برمودو ملكاً عليهم (982 م). ولكن راميرو لم يذعن لهذا القرار، فجمع أنصاره واستعد للحرب، واضطرمت بين برمودو وراميرو حرب أهلية، انتهت بهزيمة راميرو، وفراره إلى مدينة أسترقة، وامتناعه بها. وحاول راميرو بعد ذلك، أن يلجأ إلى المنصور، وأن يستمد عونه لاسترداد عرشه. ولكنه توفي بعد ذلك بقليل، وتخلص برمودو بذلك من منافسته.
بيد أن برمودو، لم يشعر مع ذلك بالطمأنينة. فقد لبث فريق كبير من الأشراف على معارضتهم لحكمه، ولبث النضال الداخلي مؤذناً بالخطر. وعندئذ قرر برمودو أن يلجأ إلى المنصور، فالتمس منه التأييد والعون، على أن يعترف بطاعته، فأجابه المنصور إلى طلبه، وبعث إليه بقوة من جنده، حلت بمدينة ليون عاصمة المملكة، وبذلك أصبحت ليون مملكة تابعة تؤدي الجزية، ولكن برمودو حينما شعر بتوطد مركزه، واشتداد ساعده، قرر أن يتخلص(1/598)
من نير المنصور، فهاجم الحامية الإسلامية، واستخلص مدينة ليون من يدها, فنهض المنصور لمحاربته، وسار إلى مدينة ليون فاقتحمها وخربها، ومزق قوى النصارى، ثم استمر يغزو أراضي ليون تباعاً، ويوقع الهزائم المتوالية ببرمودو، حتى اضطر برمودو إلى طلب الصلح، والعودة إلى الاعتراف بالطاعة (995 م)، وقد رأينا كيف سار المنصور بعد ذلك، إلى غزو مدينة شنت ياقب عاصمة إسبانيا النصرانية الروحية (997 م)، وكيف انضم إليه في تلك الغزوة معظم أشراف جليقية. وعندئذ لم ير برمودو مناصاً في النهاية، من العود إلى التماس الصلح، والاعتراف بالطاعة، ونبذ كل مقاومة. فأجابه المنصور إلى طلبه.
وعاش برمودو بعد ذلك عامين آخرين، قضاهما في إصلاح الكنائس والأديار والقلاع، التي هدمت خلال الحرب. ثم توفي سنة 999 م، فخلفه ولده ألفونسو الخامس طفلا. وقام بالوصاية عليه الكونت مننديث كونثالث أحد أشراف المملكة (1).
3 - مملكة نافار
أشرنا فيما تقدم إلى نشأة مملكة نافار المستقلة، في أواخر القرن التاسع الميلادي، وكيف تولى عرشها سانشو غرسية (الأول)، عقب اعتزال أخيه فرتون الملك في سنة 905 م. وقد عمل سانشو على توسيع أطراف مملكته الصغيرة، واستطاع أن يدفع حدودها جنوباً حتى ناجرة، وخاض مع المسلمين حروباً عديدة، أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد الناصر. وقد غزا الناصر نافار سنة 920 م، ثم بعد ذلك في صائفة 924 م، ودخل عاصمتها بنبلونة وخربها، وسحق قوى نافار، وقضى على كل مقاومة من جانبها وكل نزعة للعدوان.
ولما توفي سانشو في سنة 916 م، خلفه ولده غرسية سانشيز طفلا، وحكم أولا تحت وصاية عمه خمينو غرسيس، ثم بعد ذلك تحت وصاية أمه الملكة طوطة، التي لبثت تحكم باسمه طويلا، حتى بعد أن بلغ سن الفتوة والنضج. وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة، مع المملكتين النصرانيتين الأخريين. فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجا من أوراكا إبنة الملكة طوطة وأخت غرسية. وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجاً من إبنة أخرى لطوطة هي
_______
(1) ابن خلدون، ج 4 ص 181؛ وكذلك Altamira: ibid, Vol. I. p. 246.(1/599)
سانشا، وكانت طوطة تحتل بذلك مقاماً ملحوظاً في الممالك الثلاث. ولما توفي راميرو الثاني ملك ليون في سنة 950 م، واضطرمت الحرب الأهلية حول وراثة العرش بين ولديه أردونيو وسانشو، وقفت نافار إلى جانب سانشو، ولد الملكة أوراكا النافارية، ثم وقفت بعد ذلك إلى جانبه مرة أخرى، بعد أن تولى العرش عقب وفاة أخيه، وقام أشراف ليون بخلعه، ولجأت الملكة طوطة في معاونته إلى الناصر حسبما تقدم.
ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين جارتها قشتالة، ونشبت الحرب بينهما، فهزم الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة، وأسر في موقعة نشبت بين الفريقين على مقربة من ناجرة، واعتقل في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة قشتالة ولزمت السكينة حيناً.
ولما توفي الناصر، وتولى مكانه ولده الحكم المستنصر، طالب ملك ليون بتسليم الحصون التي تعهد بتسليمها إلى أبيه، وطالب ملك نافار بأن يسلمه أسيره فرنان كونثالث أمير قشتالة، فرفض الملكان مطالب الحكم، وأطلق غرسية أسيره فرنان كونثالث، فهرع إلى برغش عاصمته، وقبض على صهره أردونيو الرابع، وأرسله مخفوراً إلى الحدود الإسلامية، وهنالك التجأ إلى القائد غالب حاكم الثغر، ثم سار معه إلى الحكم مستجيراً به، واستقبله الحكم كما تقدم في احتفال مشهود.
واستطال حكم غرسية سانشيز حتى سنة 970 م، واستمرت أمه الملكة العجوز طوطة، محتفظة بإشرافها عليه، ومشاركتها الفعلية في الحكم، حتى وفاتها في سنة 960 م.
ولما توفي غرسية سانشيز، خلفه في عرش نافار ولده سانشو غرسية الثاني. وكانت مملكة نافار قد اتسعت رقعتها عندئذ، وأصبحت تشمل عدا ولاية نافار الأصلية، ولايات كانتبريا، وسوبرابي، ورباجورسا، ونمت مواردها وقواها حتى أن سانشو لم يحجم عن الإغارة على الأراضي الإسلامية، ورد المنصور على هذه الجرأة، فغزا نافار، وتوغل فيها حتى اقتحم عاصمتها بنبلونة، وذلك في سنة 987 م.
وخلف سانشو في الحكم ولده غرسية سانشيز الثالث، فلم يدم حكمه سوى(1/600)
خمسة أعوام، وفي عهده غزا المنصور نافار مرة أخرى (999 م). ثم توفي غرسية في العام التالي، فخلفه ولده سانشو الثالث الملقب بالكبير.
4 - عناصر المجتمع في اسبانيا النصرانية
سبق أن تحدثنا فيما تقدم عن عناصر المجتمع في اسبانيا المسلمة، ويجدر بنا أن نتحدث هنا عن عناصر المجتمع في اسبانيا النصرانية.
لم يكن في اسبانيا النصرانية بعد الفتح الإسلامي، ما يمكن أن يسمى بالحياة القومية العامة. وكانت كل ولاية أو مملكة، تعيش وفق ظروفها ونظمها الخاصة، وكان هذا التباين ذاته، يقوم في الداخل، ويتفاقم أحياناً بما يحدث إلى جانبه من خلافات أخرى، تصيب النظم والحياة الإجتماعية.
وقد بقي تكوين المجتمع النصراني الإسباني عقب الفتح، على ما كان عليه أيام القوط، فكان يتكون من عنصرين رئيسيين، هما الأحرار، والعبيد؛ وكان الأحرار وهم الذين يستطيعون التصرف في أشخاصهم، والتنقل بحرية من مكان إلى آخر، ينقسمون بدورهم إلى أشراف وعامة.
وكانت طبقة الأشراف، تتكون أولا من الحكام ومن خاصة الملك، وتتوقف في تكوينها على الملك، يمنحها الألقاب والأراضي والوظائف. ويلحق بهذه الطائفة كبار الملاك، الذين يحصلون على أملاكهم سواء بالميراث أو الهبة. وكان للأشراف امتيازات كثيرة، سواء بالنسبة لأشخاصهم أو أملاكهم، فكانوا داخل أراضيهم سادة بكل معنى الكلمة، لهم مطلق الحرية والتصرف، بل كان لهم أن يتركوا خدمة الملك، وأن ينتقلوا إلى مملكة أخرى، إذا غضبوا منه لسبب من الأسباب. وكان من جراء ذلك، أن كثيراً من الأشراف النصارى، كانوا ينتقلون إلى الأراضي الإسلامية، وينضوون تحت لواء الأمراء والخلفاء، ويحاربون معهم ضد مواطنيهم وأبناء دينهم.
وكان هؤلاء الأشراف يعفون من الضرائب، خلافاً لما كان عليه الأمراء في عهد القوط، وكانوا ملزمين فقط بمساعدة الملك وقت الحرب، فينتظمون مع أتباعهم في الجيش المحارب على نفقة الملك.
وكان يلحق بهذه الطبقة من الأشراف، بعض طوائف أخرى أقل أهمية من الناحية الاجتماعية، مثل الفرسان والمحاربين، وهم الأشخاص الذين يستطيعون(1/601)
أن يقتنوا لأنفسهم خيلا وسلاحاً، ليشتركوا في الحرب، ثم يمنحون نظير هذا الاشتراك بعض الإمتيازات. وقد نمت هذه الطبقة فيما بعد. وكذلك كان ينتمي إلى الأشراف، وينضوي تحت حمايتهم، بعض الطوائف الميسورة، مثل صغار الملاك، وأصحاب الصناعات. ولم تكن هذه الحماية تقف عند الأشخاص أو الأسر المعينة فقط، ولكنها كانت تشمل أحياناً بعض القرى والضياع، فينضوي أهل القرية أو الضيعة، تحت حماية الشريف بشروط معينة، وكان هؤلاء يقدمون جزءاً من أملاكهم إلى السيد المتولي حمايتهم، ويؤدون إليه إتاوات معينة، وأعطية ْشخصية. بيد أنهم كانوا في حل من تركه إذا قصر في حمايتهم، والانضواء تحت حماية سيد آخر.
ويلحق أخيراً بهذه الطبقة الشعبية الزراع الأحرار، وهم الأشخاص الأحرار الذين لا يملكون أرضاً، ولكن يتلقون من الملاك أرضاً لزرعها. وكذلك الأحرار الذين كانوا من قبل رقيقاً، ثم وفقوا إلى تحقيق حرياتهم، وكان هؤلاء عليهم أن يؤدوا إلى السيد أو المالك ضرائب وإتاوات عينية فادحة، بيد أنه كان في وسعهم أن يتركوه متى شاءوا.
إلى جانب هذه الطبقات الحرة من المجتمع النصراني، كانت توجد الطبقة المستعبدة أو طبقة الأرقاء، وقد بقيت أحوالها على ما كانت عليه أيام القوط تقريباً. وكانت تتكون من عناصر عدة، فمنهم عبيد الدولة، وعبيد الملك، وعبيد الكنيسة والأديار (عبيد رجال الدين)، ثم عبيد الأفراد وعبيد الأرض الملحقين بها. وكان عبيد الأفراد على الأغلب من أسرى الحرب، ومنهم الأسرى المسلمون.
وقد استمرت هذه الطوائف من الرقيق، قائمة حتى القرن الثاني عشر، ثم اندمجت بعد ذلك في طائفة واحدة من الأرقاء، هم رقيق الضياع.
وكان رقيق الضياع يعتبرون من مرافق الأرض، وينتقلون معها بانتقال الملكية. وكانوا يزرعون الأرض على نفقتهم، ويؤدون إلى السيد، سواء أكان هو الملك، أو الأشراف أو الكنيسة، جزءاً من المحصول، وإتاوات أخرى، ويقدمون إلى جانب ذلك خدمات شخصية كثيرة، مثل القيام بحرث أرض السيد، أو ضم محاصيله وعصر نبيذه وزيته، أو المعاونة في بناء داره، وتنحصر حقوقهم في التمتع بالسكن، والعيش في الضيعة. وكان بيع الضيعة يغدو في معظم(1/602)
الأحيان بالنسبة لهم محنة أليمة، إذ يفرق أحياناً بين الرجل وزوجه، أو بينه وبين أولاده.
وكانت هذه الطبقة من الأرقاء تتكون من أبناء العبيد، ومن المحكوم عليهم بالرق، في قضية مدنية أو جنائية، ومن أسرى الحرب، وقد كانوا أسوأ طوائف الرقيق حظاً.
وكان تحرير الرقيق، يقع إما بالعتق أو بالفرار أو الثورة. على أن ثورات العبيد كانت قليلة، وكان الأغلب أن يظفر العبيد بحرياتهم، في أعقاب الثورات التي يشتركون فيها. أما العتق فكان يجري وفقاً لتعاليم الكنيسة. على أن هذه الطائفة من المتحررين، لم تكن تتمتع بكامل حقوق الطوائف الحرة الأخرى، فكان السيد محتفظ لنفسه أحياناً قبل المعتوقين ببعض الخدمات أو الإتاوات.
وقد استمرت الطبقة الوسطى، تنمو على كر الزمن، بزيادة عدد المعتوقين أو الأحرار الأصائل، حتى إذا كان القرن العاشر، كانت هذه الطبقة، تكون الجزء الأعظم من السكان، وتتمتع بظروف وأحوال أفضل بكثير مما كانت عليه من قبل (1).
5 - تنظيم السلطات السياسية
أما من حيث التنظيم الأساسي، وتوزيع السلطات السياسية، في الممالك الإسبانية النصرانية، فقد كانت هذه السلطات موزعة، بين ثلاث جهات رئيسية، هي الملك، والأشراف، ورجال الدين.
وقد كان المفروض أن تكون السلطة الملكية، هي أعلى السلطات وأشملها، وقد كانت كذلك من الوجهة النظرية. فقد كان الملك، هو رئيس الدولة الأعلى، وله الولاية على كل فرد تضمه أرض المملكة. وكان الملك مصدر التشريع، ومنه وباسمه تصدر القوانين العامة، وكذا كان له حق الموافقة على القوانين المحلية، التي يصدرها الأشراف بالنسبة للمنتمين إليهم، وله أن يدعو رعاياه إلى الحرب، وأن يرغمهم على الخدمة فيها، وأن يصدر السِّكة، وأن يباشر العدالة. وهو الذي يعين الأساقفة ويقيلهم، ويؤسس الكنائس والأديار، وهو الذي يقود الجيش، وعلى الجملة فهو الذي يتولى سائر الوظائف السياسية والعسكرية والدينية والمدنية.
_______
(1) Altamira: ibid ; Vol. I. p. 287-293.(1/603)
على أن هذه السلطات لم تكن متساوية في جميع الأحوال والعصور، وقد تعدلت بمضي الزمن، وانتقصت أطرافها، أحياناً بطريق التنازل من جانب الملوك، وبخاصة لأن الملك لم يكن يزاول هذه السلطات بطريق مباشر.
وكان الأشراف يتمتعون داخل أملاكهم، بقدر كبير من الاستقلال، ويبسطون حكمهم على طائفة كبيرة من الأراضي والقرى والضياع والحصون، وكان السيد يعيش في حصنه، وهو يقع عادة في موقع إستراتيجي حصين، ويحيط به عدد من المساكن المحصنة، ويخضع لسلطته سائر سكان المنطقة، بعضهم كعبيد، والبعض الآخر من المشمولين بحمايته. وكان يجني منهم الضرائب، والإتاوات العينية، ويدعوهم للخدمة العسكرية متى دعاه الملك إلى الحرب، ويباشر القضاء بينهم، وله أن يوقع عليهم بعض الأحكام الجنائية التي تتصل بالقانون العام. وعلى الجملة فقد كان للشريف على سكان منطقته، السيادة المطلقة، وهو الذي يوزع بينهم مختلف المناصب والأعمال.
وأما القضاء قِبل الأشراف أنفسهم، فقد كان يزاوله بالنسبة للسيد، أشراف من طبقته، ولا يزاوله قضاة الملك، لأنهم لم يكونوا من الأشراف. وكان للشريف أن يشهر الحرب على زملائه الأشراف، إذا أصابه منهم حيف أو إهانة، وله أن يترك خدمة الملك دون أن يخسر شيئاً من أملاكه، بل كان له أن يشهر الثورة ضد الملك. ولم يكن يحد من هذه السلطة، التي يمنحها الملك إياه سوى أمرين، الأول الخيانة، وفي هذه الحالة يجرد الشريف من أملاكه وامتيازاته، والثاني متى ضمت لأملاكه أراض جديدة، فإنه لا يستطيع أن يبسط عليها سلطته وامتيازاته إلا بموافقة الملك.
وكان الأشراف يشاركون في مزاولة القضاء مشاركة فعلية، فقد كانوا يؤلفون جزءاً من المحاكم العادية، ويشتركون في تشكيل المحاكم الملكية كلما اجتمعت، ويحتلون كذلك بعض المناصب الإدارية الهامة. وكان لهذه المساهمة الخطيرة، أثرها في إذكاء شهوتهم إلى الاستئثار بالسلطة، وتوطيد استقلالهم المحلي، وكثيراً ما كانوا يلجأون إلى الثورة، لفرض إرادتهم على العرش، أو يتدخلون في وراثة العرش بالقوة القاهرة.
ومع ذلك فقد كان الملوك، يعمدون إلى الإغضاء في أحيان كثيرة، ولو كان(1/604)
في ذلك إضرار بالسلطة الملكية. ذلك أن ضعف الملوكية، وضرورات الحرب، ثم الحاجة إلى معاونة الأشراف أيام الحرب الأهلية حول وراثة العرش، كانت ترغم الملوك على التسامح، بل وأحياناً على زيادة المنح والامتيازات للأشراف، وذلك حرصاً على استتباب الأمن والسكينة، إذ كان الأشراف في تلك العصور قوة يخشى بأسها.
وقد كانت طائفة الأشراف هذه، بالرغم من مركزها الاجتماعي الممتاز، تنطوي على عيوب ومثالب كثيرة، فقد كانت تجنح إلى استغلال الرعايا، وانتزاع ما في أيديهم، بل وقد كانت ترتكب الجرائم جهاراً، فتعمد إلى نهب التجار والمسافرين، وكان الأشراف يقتتلون فيما بينهم للفوز بثمار أمثال هذه الجرائم. وقد استمر هذا النظام الإجرامي الجائر عصوراً، بالرغم من تدخل الملك. والأساقفة، لحفظ الأمن في كثير من الأحيان.
وإلى جانب الأشراف، كان رجال الدين من الأساقفة والرهبان ومن إليهم، يتمتعون كذلك في أراضيهم بسلطان مستقل. وكان للكنائس والأديار أراض شاسعة خاصة، ترجع إلى الهبات والنذور وغيرها، وفيها تزاول السلطة بطريق مطلق، وفقاً لروح هذا العصر الإقطاعي. وكان لها أيضاً كثير من العبيد والزراع تتمتع قبلهم كالأشراف، بالحق في تحصيل الجباية والمحاصيل وغيرها. وكان الملوك في أحيان كثيرة يهبون بدافع الورع والحماسة الدينية، إلى الكنائس والأديار، رقاعاً شاسعة من الأرض، فتبسط سلطانها على سكان المنطقة، وتحصل منهم الإتاوات، وتزاول بينهم القضاء. وكانت الكنائس والأديار، تدفع هذه السلطات أحياناً إلى حدود مرهقة، اجتناباً لافتئات الأشراف المجاورين. وكان رجال الدين، على مثل الأشراف، يلبون دعوة الملك إلى الحرب هم ورجالهم، ويحشدون الصفوف من بين رعاياهم من الأحرار والزراع والأرقاء، أو يعهدون بذلك إلى رئيس من غير رجال الدين. والخلاصة أن الأساقفة والرهبان كانوا كالأشراف، سادة بكل معاني الكلمة، وكانوا يمتازون في ذلك على الأشراف، بأن كان الملك يصدر الوثائق والمراسيم المكتوبة بامتيازاتهم، وكان يتبع الكنيسة أحياناً مناطق كثيفة من السكان، كما كان الشأن في شنت ياقب، حيث قامت حول الكنيسة مدينة عظيمة، صارت تابعة لها هي وما حولها من الأراضي الشاسعة.(1/605)
وكانت سلطة الأسقف تتخذ في أحيان كثيرة صورة مطلقة في المدينة وفي الحقل، يزاولها على يد كونتات وموظفين وغيرهم. وكان له جيشه أو جنده الخاص، يحمون أراضيه من الأجانب أو الأشراف المغيرين (1).
ونلاحظ أن هذا التنظيم السياسي، الذي تطبعه روح إقطاعية عميقة، والذي ينطوي على توزيع السلطة بين مختلف الطوائف والعصبيات، بصورة تجعل دولا عديدة داخل الدولة، يتنافى في جملته وتفاصيله مع التنظيم السياسي للدولة الأندلسية الإسلامية. فقد رأينا فيما تقدم، كيف كان العرش يحرص منذ البداية على سلامة السلطة المركزية، وكيف بذل أمراء بني أمية، منذ عبد الرحمن الداخل جهودهم، لإخماد النزعة القبلية، وتحطيم رياستها؛ ثم جاء الناصر فحطم العصبية العربية، وقضى على رياسة القبائل العربية بصورة نهائية، واستخلص السلطة كلها للعرش، ولم يكن العرش يتسامح بعد ذلك، مع أية رياسة محلية تنزع إلى الاستقلال، إلا ما كان بالنسبة لبعض الثغور النائية، مثل طليطلة وسرقسطة، وذلك لأسباب عملية واستراتيجية.
_______
(1) R Altamira: ibid, Vol. I. p. 293-299(1/606)
الفصل الرابع
عبد الملك المظفر بالله
عبد الملك بن المنصور يتولى الحجابة وتدبير المملكة. إشادة الرواية الإسلامية بعهده وبخلاله. يحذو حذو أبيه في سياسته نحو المغرب. يتابع سنته في الغزو. خروجه إلى الغزو ومسيره إلى الثغر الأعلى. عيثه في أراضي برشلونة. عوده إلى قرطبة واستقبال هشام له. جلوسه في الزاهرة. سفارة أمير برشلونة. إحتكام أميرى قشتالة وجليقية إليه. غضب سانشو غرسية وعدوانه. مسير عبد الملك لغزو قشتالة. غزوه لمملكة ليون. غزوة بنبلونة. استقباله لسفير القيصر في مدينة سالم. غزوة قلونية أو غزاة النصر. إتخاذ عبد الملك لقب المظفر بالله. قصة هذا اللقب ومرسومه. استئنافه للغزو واختراقه لقشتالة. الغزوة السابعة أو غزاة العلة. مرضه وتفرق جيشه. وفاته. ما قيل عن اغتياله بالسم. موقفه من الخليفة هشام. إنهماكه في الشراب واعتماده على الغلمان والوزراء. الوزير عيسى ابن القطاع. المنافسة بينه وبين الفتيان. تغلب الفتى طرفة واستئثاره بالسلطة. تغير عبد الملك عليه. القبض عليه وإعدامه. ابن القطاع يسترد نفوذه وسلطانه. كبرياؤه وتعسفه. الوقيعة في حقه. استظهار عبد الملك بالصقالبة والبربر. سخط الأسر العربية لذلك. تآمر ابن القطاع على إزالة بني عامر. وقوف عبد الملك على المؤامرة. بطشه بالوزير وأصحابه. استرداده لسائر السلطات. صفات عبد الملك وخلاله.
لما توفي المنصور بن أبي عامر بمدينة سالم، في السابع والعشرين من رمضان سنة 392 هـ، بعد أن ألقى إلى ولده عبد الملك، وصيته ونصائحه الأخيرة، بادر عبد الملك بالعودة إلى قرطبة، تاركاً لأخيه الأصغر عبد الرحمن، أمر العناية بمواراة أبيه، والعودة بالجيش. وما كاد يصل إلى العاصمة، حتى بادر برؤية الخليفة هشام المؤيد، واستصدر منه المرسوم بتوليته الحجابة، وجلس في الحكم مكان أبيه بالزاهرة. وتلى نص المرسوم بالمسجد الجامع، وأنفذت الكتب إلى الجهات، وإلى عدوة المغرب، معرفة بوفاة المنصور وتولية ابنه عبد الملك تدبير المملكة مكانه. وكان لوفاة المنصور وقع عظيم بقرطبة، فحزن الناس لفقده أيما حزن، وأدرك العقلاء أن رزءاً فادحاً نزل بالإسلام والأندلس.
واعتقد فريق من الفتيان المروانيين بالقصر، وبعض الناقمين من العناصر الأخرى، أن الفرصة قد سنحت، للتحرر من نير الحكم القائم، والعود إلى النظام الخلافي، ولكن السلطات العامرية كانت ساهرة. فقبضت في الحال على عدد من المحرضين،(1/607)
وأبعدوا إلى العدوة، واستتب الأمر لعبد الملك، دونما جهد أو اضطراب، واستقبل الناس حكمه بالاستبشار والرضى.
وكان عبد الملك، حينما خلف أباه المنصور في الحكم، في الثامنة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بقرطبة في سنة 364 هـ، ويكنى أبا مروان ويلقب بسيف الدولة وبالمظفر بالله، وأمه حرة تدعى الذلفاء؛ وقد رأينا كيف تمرس عبد الملك في شئون الحكم أيام أبيه، وكيف تولى القيادة، واشترك معه في كثير من غزواته، ومن ثم فقد قبض عبد الملك على زمام الأمور بحزم وكفاية، واعتزم أن يسير على خطى أبيه، سواء في تدبير الشئون الداخلية، أو الاستمرار في غزو الممالك النصرانية.
وتشيد الرواية الإسلامية بعهد عبد الملك على قصره، وما بلغته الأندلس فيه من الرخاء والنعماء، وتقدمه إلينا في صور طيبة لامعة. فيقول لنا ابن حيان في قوة وحماسة: " انصب منه الإقبال والتأييد على دولته انصباباً، ما عهد مثله في دولة. وسكن الناس منه إلى عفاف، ونزاهة، ونقي سريرة، ووثوق في بعد همته، اطمأنوا بها إلى جنبه، في السرِّ والعلانية، فباحوا بالنعم، واستثاروا الكنوز، وتناهوا في الأحوال، وتناغوا في المكاسب، وتحاسدوا في اقتناء الأصول، وابتناء القصور، وغالوا في الفرش والأمتعة، واستفرهوا المراكب والغلمان، وغالوا في الجواري والقيان، فسمت أثمان ذلك في تلك المدة، وبلغت الأندلس فيها الحد الذي فاق الكمال؛ فمهد تلك الدولة في احتشاد النعم عندها، وارتفاع حوادث الغير عنها ... في كنف ملك مقتبل السعد، ميمون الطائر، غافل عن الأيام، مسرور بما تتنافس فيه رعيته من زخرف دنياها. فاجتمع الناس على حبه. ولم يدهنوا في طاعته، ورضى بالعافية منهم، وآتوه إياها فصفى عيشه، وانشرح قلبه، وخلصه الله من الفتنة ".
ويشيد ابن حيان بعد ذلك، بعفة عبد الملك، وورعه وتواضعه وشجاعته وحيائه، وتورعه عما يشين الملك من المجون والاستهتار، وبره بوالديه، وثباته على عهد أبيه. كل ذلك في عبارات تنم عن عميق تأثره وإعجابه (1).
بيد أن هذه الصور المشرقة التي تقدم إلينا عن خلال عبد الملك، تغشاها
_______
(1) نقله أعمال الأعلام ص 84 و85، والبيان المغرب ج 3 ص 3.(1/608)
من الناحية الأخرى خلة قاتمة، هي شغفه بمعاقرة الشراب وانهماكه في لذاته (1).
افتتح عبد الملك المنصور عهده، بإجراء كان له في نفوس الناس أطيب وقع؛ وذلك أنه أسقط سدس الجباية عن سائر الناس، في سائر بلاد الأندلس. فكان لذلك أثره في التخفيف عن الناس، والرفق بهم، وبث شعور الرضى والاستبشار بالعهد الجديد.
وحذا عبد الملك حذو أبيه المنصور نحو المغرب، في تأييد زناتة ومغراوة، والإبقاء على ولائهم. وكان المنصور حينما توفي زيري بن عطية زعيم مغراوة، في سنة 391 هـ، قد أقر ولده المعز حاكماً على المغرب حسبما قدمنا. فلما تولى عبد الملك الحجابة، أعلن المعز طاعته له، ودعى له على منابر المغرب، فكتب إليه عبد الملك بعهده، على سائر ما يملكه من أقطار المغرب (سنة 393 هـ) على أن يؤدي إلى حكومة قرطبة، مقادير معينة من المال والخيل والدرق. واستمر المعز على الوفاء بعهوده، أيام عبد الملك وأخيه عبد الرحمن من بعده (2).
واعتزم عبد الملك أن يسير على سنن أبيه في متابعة غزو الممالك النصرانية، وألا يترك لها فرصة لتذوق السلم والدعة. وكان الملوك النصارى قد تنفسوا الصعداء عند وفاة المنصور، واعتقدوا أن الظروف قد تتغير، وأن أخطار الغزوات الإسلامية قد تخبو، ولكن سرعان ما تبدد هذا الأمل. ذلك أنه لم تمض أشهر قلائل على تولية عبد الملك، حتى اتخذ الأهبة لغزوته الأولى، واستعد لها استعداداً خاصاً، ووفدت على قرطبة طوائف كبيرة، من الزعماء والمتطوعة من العدوة، للاشتراك فيها، وأجزل لهم عبد الملك الصلات والأرزاق، ووزع فيهم ما كان مخزوناً من السلاح.
وخرج عبد الملك بالجيش من مدينة الزاهرة، في شعبان سنة 393 هـ (يونيه 1003 م). وتصف لنا الرواية مشهد خروجه فتقول لنا إنه " خرج على الناس شاكي السلاح، في درع جديد سابغة، وعلى رأسه بيضة جديدة مثمنة الشكل مذهبة، شديدة الشعاع، وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان الخاصة، في أحسن تعبئة، فساروا أمامه، وقد تكنفه الوزراء الغازون معه " (3). وسار عبد الملك
_______
(1) الببان المغرب ج 3 ص 3.
(2) نفح الطيب ج 2 ص 198، والاستقصاء ج 1 ص 95.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 5.(1/609)
أولا إلى مدينة طليطلة، ثم ارتد منها إلى مدينة سالم، وهنالك انضم إليه الفتى واضح في قواته، ووفد عليه في نفس الوقت قوة من النصارى، أرسلها الكونت سانشو غرسية أمير قشتالة، وفقاً لمعاهدته مع المنصور.
وتابع الحاجب عبد الملك سيره بعد ذلك في نحو الثغر الأعلى، واستراح أياماً في سرقسطة، ثم غادرها قاصداً إلى الثغر الإسباني أو بعبارة أخرى إلى إمارة برشلونة التي بدت من أمرائها منذ أيام المنصور نزعة إلى العدوان؛ وأشرف على سلسلة من الحصون القوية الواقعة جنوبي جبال مونسيش، واستولت قوات الفتى واضح على حصن مدنيش (1)، وحاصر الحاجب بقواته حصن ممقصر أو ممقصره (2)، واستولى عليه بعد قتال عنيف، وأباد حاميته، وعاث المسلمون بعد ذلك في بسائط برشلونة، وخربوا كثيراً من حصون العدو، واستولوا على كثير من الغنائم والسبي.
وقضى الحاجب وجيشه عيد الفطر في بسائط برشلونة، واحتفل بالعيد احتفالا فخماً، واستقبل طبقات الأجناد مهنئين ومسلمين. وبعث من معسكره رسالتين إلى قرطبة من إنشاء كاتبه أحمد بن برد يصف فيهما الفتح، إحداهما برسم الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتقرأ على الكافة في جامع قرطبة.
ثم قفل عبد الملك بجيشه عن طريق مدينة لاردة. واخترق الثغر الأعلى جنوباً إلى قرطبة، فدخلها في الخامس من ذي القعدة. وهنالك تلقاه الأكابر والعلماء مهنئين مستبشرين؛ وقصد الحاجب من فوره إلى الخليفة هشام، فاستقبله أحسن استقبال، وأكرم منزله، وخلع عليه من ثيابه وسلاحه، فشكره الحاجب وقبل يده. وفي اليوم التالي جلس بقصر الزاهرة، واستقبل مختلف الوفود، وكان يوماً مشهوداً (3).
وقد نظم ابن دراج القسطلي في التهنئة بهذه الغزوة قصيدة هذا مطلعها:
بدا ريح السعد واستقبل النجح ... فبالله فاستفتح فقد جاءك الفتح
_______
(1) هو باسمه الإسباني Meya.
(2) هو باسمه الإسباني حصن Monmagastre؛ ويسميه ابن الخطيب حصن منغص (أعمال الأعلام ص 87).
(3) راجع في أخبار هذه الغزوة: البيان المغرب، ج 3 ص 5 - 9، وأعمال الأعلام ص 87.(1/610)
وقد قدّم النصر العزيز لواءه ... وقبل طلوع الشمس ينبلج الصبح
فقد في سبيل الله جيشاً كأنه ... من الليل قطع طبق الأرض أو جنح
كتائب في أقدامها النجح والهدى ... وألوية في عقدها اليمن والنجح (1)
ولم يمض قليل على ذلك، حتى أرسل أمير برشلونة الكونت رامون بوريل الثالث، سفارة إلى قرطبة يطلب عقد الصلح والمهادنة، فاستقبل السفراء الفرنج استقبالا حافلا، على نمط أسلافهم من السفراء النصارى. وكانت هذه آخر فرصة من نوعها أبديت فيها أبهة الخلافة وفخامتها (2).
وكان من أثر هيبة عبد الملك في نفوس الملوك النصارى، أن احتكم إليه أمير قشتالة الكونت سانشو غرسية، ومننديث كونثالث زعيم جليقية، والوصي على ملك ليون الطفل. وكان ملك ليون وهو ألفونسو الخامس، يومئذ ما يزال حدثاً في العاشرة من عمره، وكانت أمه إلبيرة أختاً لسانشو غرسية، وكان سانشو يرى بذلك أنه أحق بالوصاية على ابن أخته الملك الطفل، من مننديث كونثالث. فلما احتكم الطرفان إلى عبد الملك، ندب قاضي النصارى أصبغ بن سلمة، لبحث النزاع والفصل فيه، فقضى لمننديث كونثالث بأحقيته للوصاية، واستمر بالفعل وصياً على ملك ليون حتى قتل غيلة في سنة 398 هـ (1008م) (3).
والظاهر أن سانشو غرسية لم يرضه هذا الحكم، فبدت منه أعراض العدوان على أرض المسلمين، أو هو قد اعتدى عليها بالفعل. ومن ثم فإنا نجد عبد الملك يخرج بقواته في صيف سنة 394 هـ (1004 م) ويقصد إلى أراضي قشتالة ويعيث فيها، ولم يبد سانشو أية مقاومة، فقفل عبد الملك إلى قرطبة، واضطر سانشو إلى طلب الصلح، وقصد بنفسه إلى قرطبة، فاستقبله عبد الملك أحسن استقبال، وأعيد عقد الصلح والتهادن بين الفريقين، وتعهد سانشو أن يعاون عبد الملك في غزواته ضد مملكة ليون، وضد خصومه من بني قومس وغيرهم.
وفي العام التالي (395 هـ - 1005 م) خرج عبد الملك في قواته وسار
_______
(1) تراجع هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج القسطلي الذي سبقت الإشارة إليه ص 466 و467.
(2) الذخيرة. القسم الرابع، المجلد الأول، ص 64.
(3) ابن خلدون ج 4 ص 181، البيان المغرب ج 3 ص 10.(1/611)
صوب طليطلة؛ وهنالك لحق به الفتى واضح وسانشو غرسية في بعض قواته، ثم سار شمالا نحو أراضي ليون، وبعث واضحاً في قواته إلى مدينة سمورة، وكانت قد خربت منذ أيام المنصور، وليس فيها سوى قليل من النصارى يقيمون في بعض أبراجها، فقتل الرجال، وسبى النساء. وعاث عبد الملك بعد ذلك في أراضي ليون، وإلى جانبه سانشو غرسية، واقتحم أملاك بني غومس، ووصل في زحفه في جلِّيقية، إلى بلدة لونة الحصينة، واستولى في هذه الغزوات على كثير من الغنائم والسبي. ولكنه لم يحقق خلالها نتائج حربية ذات شأن (1).
وفي أواخر سنة 396 هـ (صيف سنة 1006 م) خرج عبد الملك إلى غزوته الرابعة. وتصف الرواية الإسلامية هذه الغزوة بأنها غزوة " بنبلونة "، وبعبارة أخرى " بنبلونة " عاصمة نافار. وتقول لنا إن عبد الملك سار بجيشه إلى سرقسطة ثم إلى وشقة، ثم إلى بربشتر، ومنها نفذ إلى أرض العدو. ولكن هذا الإتجاه الذي اتخذه الجيش الإسلامي، لا يحمل على الاعتقاد بأنه كان يقصد إلى نافار أو بلاد البشكنس، وإنما يبدو بالعكس أنه اتجه شمالا إلى أراضي ولاية " ريباجرسا " الصغيرة الواقعة شمال شرقي بربشتر، وهي إحدى ولايات البرنيه الفرنجية.
وتقول الرواية الإسلامية إن المسلمين اقتحموا في هذه الغزوة بسيط أبنيونش وشنت يوانش، (سان خوان) وعاثوا في أرض العدو قتلا وسبياً وحرقاً، ثم تقول لنا إن الجيش الإسلامي قد انقضت عليه يومئذ عاصفة مروعة من رعد وبرق ومطر غزير. تخللها قصف مفزع وبرد قارس، وخشى أن تكون سبباً في نكبته. ولكن تداركه لطف الله. وقفل عبد الملك راجعاً بجيشه إلى قرطبة. ولكن الشعب لم يبد في استقباله شيئاً من الحماسة، لضآلة النتائج التي ترتبت على هذه الغزوة، ولكونها لم تسفر عن شيء من الغنائم والسبي، التي كانت تملأ أسواق قرطبة أيام أبيه المنصور (2).
ومما يتصل بأخبار هذه الغزوة، أن عبد الملك عرج في طريق العودة على مدينة سالم، وقضى بها عيد الأضحى، وهنالك وافاه سفير من قبل قيصر
_______
(1) راجع أخبار هذه الغزوة في الذخيرة. القسم الرابع، المجلد الأول ص 65؛ والبيان المغرب ج 3 ص 11 و12.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 12 و13؛ وأعمال الأعلام ص 87.(1/612)
قسطنطينية، الإمبراطور بسيل الثاني، ومعه كتاب مكتوب بالذهب يطلب فيه قيصر استئناف المودة والصداقة، التي كانت قائمة بين ملوك بني أمية، وبين القياصرة، ومعه كذلك هدية وعدد من الأسرى المسلمين الذين أسروا في أطراف الجزائر التابعة لقيصر، فسر عبد الملك لذلك، وصرف السفير أجمل صرف (1).
ونمى إلى عبد الملك في تلك الأثناء، ما كان يجيش به أمير قشتالة سانشو غرسية من قصد إلى العدوان، فرأى أن يعاجله بالغزو. فخرج من قرطبة في صيف سنة 397 هـ (1007 م) في غزوته الخامسة، وهي المعروفة بغزوة قلونية، أو غزوة النصر، وسار مخترقاً أراضي قشتالة. ويبدو من أقوال الرواية الإسلامية أن عبد الملك لم يواجه يومئذ أمير قشتالة فحسب، ولكنه كان يواجه جبهة متحالفة من الملوك النصارى، يشترك فيها سانشو غرسية، وألفونسو الخامس ملك ليون، وسانشو الثالث ملك نافار، وعدد من الزعماء النصارى في مقدمتهم بنو غومس (2). ويشير صاحب البيان المغرب إلى هذه الغزوة بقوله " غزاة النصر التي لقى فيها (أي عبد الملك) شانجه بجميع النصرانية على اختلافها " (3). ولا تقدم إلينا الرواية الإسلامية بعد ذلك شيئاً من التفاصيل، سوى قولها إن الحاجب عبد الملك، قد هزم النصارى في تلك الموقعة هزيمة عظيمة في ظاهر مدينة قلونية (كلونية)، الواقعة شمال نهر دويرة على مقربة من شنت إشتيبن، وأحرز عليهم نصراً مبيناً، وافتتح الحصن صلحاً. ووصل كتاب الفتح إلى قرطبة، وقرىء على الكافة كالعادة، فكان له وقع عظيم، وكان أهل قرطبة يخشون سوء العاقبة من اجتماع الجيوش النصرانية لقتال المسلمين. وقفل عبد الملك بالجيش إلى قرطبة، فوصل إليها في أواخر ذي الحجة من تلك السنة، واتخذ على أثر ذلك لقبه " المظفر بالله " تنويهاً بما أحرزه من النصر العظيم (4).
وقد ساق لنا المؤرخ الفقيه أبو المطرف ابن عون الله، وهو من معاصري هذه الحوادث، قصة هذا اللقب، فذكر أن عبد الملك كان مثل أبيه يسمو إلى
_______
(1) الذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول، ص 65 و66.
(2) راجع ابن خلدون ج 4 ص 182.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 14.
(4) ابن خلدون ج 4 ص 182؛ والبيان المغرب ج 3 ص 14؛ والذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول ص 66.(1/613)
الألقاب السلطانية، فتقدم إلى الخليفة هشام، على أثر عوده من غزوة قلونية، والتمس إليه إخراج الأمر له، بأن يتسمى " بالمظفر " وهو اللقب الذي اختاره وآثره، وأن يكنى في سائر ما يذكر عنه " بأبى مراون "، وأن ينعم على ابنه الغلام محمد، الذي منح لقب الوزارة، بلقب " ذي الوزارتين "، ويعلي بذلك مرتبته على سائر الوزراء، وأن يكنى بأبى عامر، كنية جده، وكان الخليفة يقيم يومئذ عند الحاجب بقصر الزاهرة، في الجناح الفخم الذي أنشىء وقتها، ففي منتصف المحرم سنة 398 هـ، تحرك الخليفة خفية إلى قصر ناصح من قصور الزاهرة، واستدعى حاجبه، وفاوضه فيما أراد. ولما انصرف من لدنه، اتبعه في الحال بمرسوم التكريم الذي التمسه، فأذاع عبد الملك نص المرسوم، وبعث بالكتب للعمل به، وإليك نص هذا المرسوم، وقد زعم البعض أنه كان بخط الخليفة هشام نفسه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. من الخليفة هشام بن الحكم المؤيد بالله، أتم الله عليك نعمه، وألبسك عفوه وعافيته، إنا أريناك ... من صنع الله الجسيم، وفضله العظيم، لنا عليك ما شفى الصدور، وأقر العيون، فاستخرنا الله سبحانه في أن سميناك المظفر؛ فنسأل الله تعالى سؤال إلحاف وضراعة وابتهال، أن يعرفنا وإياك بركة هذا الاسم، ويحليك معناه، ويعطينا وإياك وكافة المسلمين، فضل ما حملت منه، وأن يخير لنا ولهم في جميع أقضيته، ويقرنه بيمنه وسعادته، بمنه وخفي لطفه، وكذلك أبحنا التكني في مجالسنا ومحافلنا، وفي الكتب الجارية منك وإليك، في أعمال سلطاننا، وسائر ما يجري فيه اسمك معنا ودوننا، إنافة بمحلك لدينا، ودلالة على مكانك منا، وكذلك ما شرفنا به فتاك أبا عامر، محمد ابن المظفر تلادنا، أسعده الله، بالإنهاض إلى خطة الوزارتين، وجمعناه بها في التكني على المشيخة والترتيب، وآثرك في الدولة، وأنت الحقيق منا بذلك كله، وبجميل المزيد عليه، لأنك تربيتنا، وسيف دولتنا، وولي دعوتنا، ونشىء نعمتنا، وخريج أدبنا، فأظهر ما حددناه لك في الموالي، وأهل الخدمة، واكتب بها إلى أقطار المملكة، وتصدقه بشكر النعمة، أحسن الله توفيقك، وأمتعنا طويلا بمعافاتك، وآنسنا ملياً بدوام سلامتك، إنه ولي قادر عزيز قاهر ".
وكانت الكتب تخرج من قبل عبد الملك على النحو الآتي: " من الحاجب(1/614)
المظفر سيف الدولة أبى مروان عبد الملك بن المنصور ". فكان بذلك أول من اجتمع له لقبان ملوكيان من حكام الأندلس (1). وكان صدور هذا المرسوم حادثاً مشهوداً، أطلق عبد الملك على أثره الصلات والكسى، وكثرت تهاني الشعراء ومدائحهم.
والظاهر أن عبد الملك لم يجن من هذا النصر ما كان يؤمل من إرغام أمير قشتالة على التزام السلم والهدوء، وأن سانشو غرسية بالعكس استمر في عدوانه.
ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، حتى تأهب عبد الملك لاستئناف الغزو، فخرج من قرطبة في أوائل شهر صفر سنة 398 هـ (أكتوبر 1007 م) واخترق قشتالة الوسطى، حتى ضفاف نهر دويرة، وقصد إلى حصن شنت مرتين المنيع، الواقع على مقربة من غربي قلونية على الضفة اليمنى من النهر، فحاول النصارى في البداية أن يردوا المسلمين في ظاهر الحصن، ولكن المسلمين صدوهم بعنف، فالتجأوا إلى الحصن، وحاولوا الدفاع من وراء الأسوار، فهاجم المسلمون الحصن بشدة وثلموا أسواره بالمجانيق والنار، واضطر النصارى إلى التسليم، فأمر عبد الملك بقتل الجند وسبي النساء والذرية، وإصلاح ما تهدم من الحصن، وقفل راجعاً إلى قرطبة فوصلها في أوائل شهر ربيع الآخر.
وفي شوال من نفس العام (صيف 1008 م)، خرج عبد الملك بالجيش، وكانت غزوته السابعة والأخيرة، وتعرف "بغزاة العلة". ذلك أنه ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى اشتد به المرض، فاستقر بها حيناً يرقب البرء. وفي أثناء ذلك دب الخلل إلى الجيش، وتفرق عنه أكثر المتطوعة، وأخفق مشروع الغزو، واضطر عبد الملك أن يعود أدراجه إلى قرطبة، عليلا ضعيفاً، وذلك في منتصف المحرم سنة 399 هـ. ومع ذلك فما كاد عبد الملك يشعر بقليل من التحسن، حتى عقد العزم على التأهب لاستئناف الغزو، وخرج بالفعل من قرطبة في منتصف شهر صفر، ولكن أصابته عندئذ نكسة شديدة، صحبتها نوبة سعال عنيف، فحمل إلى قصر الزاهرة في محفة، ومن حوله خاصة غلمانه، وتوفي على الأثر، وكان أخوه عبد الرحمن حاضراً مع أكابر رجال الدولة، وقيل إنه توفي مسموماً من شربة دست له بتحريض أخيه عبد الرحمن. وكانت وفاته في 16 صفر سنة 399 هـ
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 15 - 17؛ وأعمال الأعلام ص 88 و89.(1/615)
(21 أكتوبر سنة 1008 م) (1)، ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
* * *
حكم عبد الملك المظفر ستة أعوام وبضعة أشهر، قضى معظمها في متابعة الغزو، ولم يكن لديه سعة من الوقت ليتناول تدبير الأمور بنفسه. وكانت الدولة قد توطدت منذ أيام أبيه المنصور، ولم يقع تبدل في طرق الحكم، فكان الخليفة هشام، كعهده أيام المنصور محجوباً في قصره، وكان عبد الملك يحرص على حجبه وإخفائه بين صفوف الجند، كلما سنحت فرصة خروجه في موكبه، بيد أنه يبدو أن عبد الملك كان أكثر تودداً للخليفة، ورفقاً به من أبيه، فقد كان يدعوه إلى قصوره بالزاهرة للتريض والاستجمام، وكان هشام ينفق أوقاتاً في ضيافته (2).
وكان عبد الملك لانهماكه في الشراب واللهو، قد اعتمد في تدبير شئون الدولة، على خاصته من أكابر الفتيان العامريين أمثال طرفة، وواضح، وزهير، وخيران، ومجاهد، وعلب عيسى بن سعيد اليحصبي المعروف بابن القطاع، وزيره ووزير أبيه من قبل. وكان عبد الملك لأول ولايته، قد فوض أمره إليه ومنحه سائر السلطات العليا، ثقة منه بإخلاصه، واعتماداً على كفايته. ووطد حسن ظنه فيه، ما أبداه عيسى من البراعة والحزم في تدبيير الأمور، وتوطيد النظام والأمن. وكان الفتيان الصقالبة، ولاسيما زعيمهم طرفة، خادم عبد الملك الأكبر، ينقمون على عيسى، حظوته واستئثاره بالسلطة، ويعملون ما وسعوا للنيل من مكانته. واضطرمت المنافسة بالأخص بينه وبين طُرفة، وبذل طرفة جهوداً عنيفة لإفساد الجو بينه وبين الحاجب، واستطاع مع استمرار الوقيعة والدس أن يزعزع ثقة عبد الملك فيه، وأن يصرفه عن الاعتماد عليه، وانتهى الأمر بأن تغلب طرفة على الوزير، وحل محله في تدبير الأمور، واجتمعت السلطة في يده شيئاً فشيئاً، حتى غدا كل شىء في القصر وفي الدولة، وسما شأن الفتيان
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 37، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 66، وأعمال الأعلام ص 89. وذكر المقري أن وفاة عبد الملك كانت في المحرم سنة 399 (ج 1 ص 198). ويؤيد ابن الأثير رواية وفاة عبد الملك بالسم ويقول لنا إن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها فتناول أخاه مما يلى الجانب المسموم، وأخذ مما يلى الجانب الصحيح فأكله بحضرته، فاطمأن المظفر وأكل ما بيده منها فمات (ج 8 ص 225).
(2) البيان المغرب ج 3 ص 16.(1/616)
الصقالبة، وغلبوا على من عداهم من الكبراء وأصحاب المناصب. ومرض الحاجب في أوائل سنة 396 هـ، واستبد طرفة بالأمر، وأمضى كثيراً من الأمور دون علم الحاجب أو موافقته، وأبدى كثيراً من الاستهتار والتبذل والطيش، فلما أبل الحاجب من مرضه، كانت نفسه قد تغيرت على طرفة، ولما خرج إلى الغزو في شهر رمضان من هذا العام، خرج معه الوزير عيسى، واستطاع خلال الطريق أن يقنع عبد الملك بسوء مسلك طرفة وخطر مشاريعه، وكان من المقرر أن يلتقي طرفة بسيده في سرقسطة، فقدم إليها في بعض القوات في نفس اليوم الذي وصل فيه الحاجب مع جيشه؛ وما كاد يدخل إلى عبد الملك في قصره، حتى قُبض عليه، وصُفد بالأغلال، وحمل إلى إحدى جزر الشاطىء، واعتقل حتى انتهى عبد الملك من غزوته، فأمر بقتله، وهو في طريق العودة، وأمر الحاجب في نفس الوقت بقتل عبد الملك بن إدريس الجزيري الكاتب البليغ أمين البلاط، وكان من خاصة طرفة، وكان الوزير عيسى قد حذر عبد الملك من ممالأته لطرفة ومعاونته على إفساد أمور الدولة (1).
وأضحى عيسى بن سعيد، بعد قتل طرفة، رجل الدولة الأول، واسترد كامل حظوته وسلطانه، على أنه لم ينعم طويلا بظفره. وكان هذا الوزير قد تقلب في مناصب الدولة منذ أيام المنصور، وحظى لديه، وسما شأنه، حسبما رأينا، ثم تضاعف شأنه، واستأثر بتدبير الأمور منذ بداية عهد عبد الملك، وجمع الأموال الطائلة، وزاد في توطد سلطانه ونفوذه مصاهرته للحاجب، حيث تزوج ابنه عبد الملك المكنى أبا عامر، أخت عبد الملك الصغرى، إحدى بنات المنصور، وهكذا بلغ الوزير أقصى مراتب النفوذ والثقة، وكثر بذلك حساده والوشاة في حقه. وكان عيسى يذكي من حوله عواطف الخصومة والنقمة. بما كان يجنح إليه من الصلف والخشونة والكبرياء، والنكول عن قضاء حاجات الناس، والنظر في مظالمهم، والتعالي عليهم، وكان حجابه وعماله، على شاكلته من الغلظة والتعسف في معاملة الناس. فكان ذلك كله سبباً في تسمم الجو حول الوزير، وحول تصرفاته. أضف إلى ذلك أن الوزير، لم يكن يشارك الحاجب في مجالس شرابه وأنسه إلا في القليل النادر، لأنه كان مقلا للشراب، فكان تخلفه يمهد
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 24 - 26.(1/617)
لخصومه المقربين من الحاجب، سبل الدس والوقيعة في حقه. وقد كانت الذلفاء والدة الحاجب في الوقت نفسه تبغض الوزير، لأنه أيد ولدها عبد الملك في الزواج من قينة حسناء من جواريه هام بها، وكانت تعارضه في ذلك. والخلاصة أن عبد الملك أخذ يفقد ثقته في وزيره بسرعة، وقد كان فيما يبدو كثير التأثر بالوشاية، سريع التقلب والغدر، وأخذ الوزير من جانبه يشعر بهذا النقص في حظوته ويتوجس من عواقبه.
والظاهر أن عيسى بن سعيد، كانت تحدوه في نفس الوقت أطماع ومشاريع أخرى. فقد كان يشعر أنه غدا باجتماع سائر السلطات في يده، ومشايعة رؤساء الجند له، أقوى رجل في الدولة، وأنه يستطيع أن يقف في وجه بني عامر، وأن يغدو بطل المناهضة لحكمهم. والواقع أن حكم العامريين كانت تشتد وطأته على الناس يوماً بعد يوم. وكان عبد الملك جرياً على سنة أبيه المنصور، قد مضى في الاستظهار بالفتيان الصقالبة والبربر، وبلغ الفتيان في عهده نحو ألفي غلام، ووفد عليه كثير من البربر؛ وكان أهم من وفد إليه من زعمائهم زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي، عم أبي المعز بن باديس صاحب إفريقية، وزعيم الفرقة الخارجة عليه، وفد عليه مع إخوته، فاستقبلهم عبد الملك، وغمرهم بصلاته، واستمروا بقرطبة حتى وقعت الفتنة، وكان لهم في حوادثها شأن يذكر (1). وفي رواية أخرى أن وفود زاوي وقومه على الأندلس، كان في أواخر أيام المنصور، وأنه هو الذي أذن لهم في الجواز (2). وكانت الأرستقراطية العربية تمقت هذا الإيثار للصقالبة والبربر، والاستظهار بهم، وترى فيه افتئاتاً على حقوقها ومكانتها، وكان كثير من الأسر العربية الكبيرة مثل آل حدير، وآل فطيس، وآل شهيد، وغيرهم، يتوقون إلى انتهاء حكم العامريين، ورد الأمر إلى بني أمية، وكان عيسى بن سعيد، وهو أيضاً من البطون العربية، يعتنق فكرتهم، ويعتقد أنه يستطيع أن يعمل على تحقيقها.
واعتزم عيسى بالفعل أن يعمل في هذا السبيل، واتجه ببصره إلى سليل من
_______
(1) الذخيرة عن ابن حيان القسم الرابع المجلد الأول ص 61.
(2) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين (القاهرة 1955) ص 17، وابن خلدون ج 6 ص 157 و158.(1/618)
المروانية هو هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكان بينهما مودة وصداقة. وكاشف عيسى هشاماً بمشروعه، في إزالة بني عامر، وإزالة الخليفة هشام المؤيد. لعجزه وعقمه، وإقامته مكانه في الخلافة، ورد الأمر بذلك إلى بنى أمية. فاستجاب هشام إلى دعوته، وجرت بينهما المفاوضة بمنتهى التكتم والحذر. وكانت خطة عيسى، تتلخص في أن يدعو عبد الملك وأخاه عبد الرحمن وصحبه، إلى حفل عظيم يقيمه بالمنية التي وهبه عبد الملك إياها بقرب قصر الزاهرة، وذلك تيمناً بمولود رزق به ولده عبد الملك بن عيسى، وأن يحيط المنية بطوائف من رجاله المسلحين، فإذا حضر عبد الملك وأخوه وصحبه، انقض عليهم أولئك الرجال وقضوا عليهم جميعاً، وعندئذ يسير عيسى بصاحبه هشام إلى قصر الزاهرة فيجلسه فيه، ويأخذ له البيعة بالخلافة، وقد تقدم عيسى بالفعل بدعوته إلى عبد الملك فقبل الدعوة، وحدد بالفعل يوم الحفل.
ولكن سرعان ما اتصل خبر المؤامرة بعبد الملك، نقله رجل من ثقات عيسى إلى نظيف الفتى الصقلبي، فأبلغه فوراً إلى سيده. وفي رواية أن عبد الملك بادر في الحال فقتل عيسى. ولكن الرواية الراجحة هي أن عبد الملك وأخاه عبد الرحمن اتفقا على تدبير قتله، في مجلس شراب ينظم لهذا الغرض، ونظم المجلس بالفعل في بهو القصر الكبير المشرف على النهر، وذلك في 20 ربيع الأول سنة 397 هـ.
واستدعى الحاجب وزيره عيسى إليه؛ ومن غرائب القدر أن كان الوزير أيضاً يجلس مع بعض خاصته على الشراب، ومنهم الكاتب أبو حفص ابن برد، فبادر عيسى بالركوب إلى عبد الملك، ومعه بعض خاصته، فاستقبله عبد الملك بظاهر من الحفاوة. ثم أخذ بعد قليل في عتابه ومحاسبته على ما عزى إليه، ثم أغلظ له القول، وعيسى يعتذر ويحتج ببطلان ما نسب إليه، ويشدد القسم على ذلك، ويناشد حقن دمه. وفجأة جذب عبد الملك سيفه من جانب الفراش وشهره على عيسى، وطعنه في وجهه، فسقط على الأرض، فانهال عليه الجماعة طعناً بسيوفهم، ثم احتز رأسه ووضع جانباً؛ وقتل الجماعة أيضاً صاحبيه خلف ابن خليفة، وحسن بن فتح، وألقيت جثث الثلاثة في النهر، بعد أن وضعت في زنابيل مثقلة بالحجارة، وأمر عبد الملك بأن ينصب رأس عيسى على باب مدينة الزاهرة، عبرة للناس. وتركت معلقة في مكانها حتى انقضت الدولة العامرية،(1/619)
ونفذ الجند في الحال إلى منازل عيسى وأصحابه، وصودر ما فيها، وقبض على أبناء عيسى وزجوا إلى السجن، وأرغم ولده عبد الملك على طلاق زوجته أخت الحاجب؛ وجدت الشرطة في أثر هشام بن عبد الجبار، حتى قبض عليه، ثم حمل إلى الزاهرة فأمر الحاجب باعتقاله في سجن أعد له، وهناك قتل خفية، ولم يسمع له خبر بعد ذلك قط.
وكان لمقتل الوزير عيسى بن سعيد أعمق وقع في قرطبة، لما كان له من رفيع المنزلة والسلطان، ولبثت الوفود أياماً تحضر إلى الزاهرة لمشاهدة رأسه (1).
وثاب المظفر بعد مقتل وزيره إلى نفسه، وعمل على جمع السلطة في يده، والحد من سلطة الوزراء والكتاب، ومراقبتهم ومحاسبتهم، وواظب على الجلوس بنفسه، وهجر اللهو والراحة؛ وكانت الأحوال المالية قد ساءت، مما أسرف فيه من النفقة والصلات، وبما أسقطه للناس من سدس الجباية، فاقتصد في النفقة، واجتهد في توفير المال، وتنمية الموارد، فنجحت المحاولة، وتحسنت الأحوال المالية في أواخر عهده (2).
وقد أشرنا من قبل إلى طرف من أخلاق عبد الملك، وما جمعت من الصفات المشرقة والقاتمة معاً. ونزيد هنا ما رواه صاحب الذخيرة عن ابن حيان، من أن عبد الملك كان عرياً عن العلم والمعرفة والأدب، ولم يكن يجتمع في مجالسه سوى الأعاجم من الجلالقة والبربر ومن إليهم، ولم يكن يؤمها أحد من أهل المعرفة، من الأدباء والعلماء. بيد أنه مع ذلك لبث يسبغ رعايته على من كان يتصل منهم بأبيه من العلماء والأدباء والندماء وغيرهم، وأبقى لهم أرزاقهم ورواتبهم كما كانت ْأيام أبيه (3). وكان يستمع إلى الشعر، ويصل الشعراء، وقد أبقى بالأخص على شاعر أبيه صاعد البغدادي، وجعله شاعراً ونديماً له. وكان من خواص شعرائه أيضاً أبو عمر بن دراج القسطلي، والكاتب الشاعر أبو حفص ابن برد. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب نبذاً من الشعر، نظمها صاعد وابن دراج تحقيقاً لرغبة
_______
(1) راجع تفاصيل هذه المؤامرة وذيولها في الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 103 - 107، والبيان المغرب ج 1 ص 27 - 35.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 36، وأعمال الأعلام ص 89.
(3) الذخيرة - القسم الأول المجلد الأول ص 60.(1/620)
المظفر، في وصف مختلف صنوف الزهر، من الآس، والنرجس، والبنفسج، والورد والسوسن. ومما جاء في قصيدة ابن دراج في وصف السوسن ومديح الحاجب عبد الملك تلك الأبيات (1):
إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسوسن المجتلى ثناياه
يا حسنه بين ضاحك عبق ... يطيب ريح الحبيب ريّاه
يا حاجباً مذ يراه خالقه ... توّجه بالعلى وحلاه
إذا رآه الزمان مبتهجاً ... فقد رأى كل ما تمناه
وإن رآه الهلال مطلعاً ... يقول ربي وربك الله
ونظم بعضهم في وصف عهد عبد الملك الأبيات الآتية:
زمان جديد وصنع جديد ... ودنيا تروق ونعمى تزيد
وغيث يصوب وعيش يطيب ... وعز يدوم وعيد يعود
ودهر ينير بعبد المليك ... كشمس الضحى ساعدتها السعود
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 18 - 21. وكذلك الروض المعطار ص 160.(1/621)
الفصْل الخامِسُ عبد الرحمن بن المنصور وسقوط الدولة العامرية
نظام الطغيان العامري. كيف كانت تلطفه عبقرية المنصور. ظهور مثالبه في عهد عبد الملك. عبد الرحمن المنصور يخلف أخاه. يتقلد الحجابة. تلقيبه بشنجول أو شانجه الصغير. إنحرافه وسوء خلاله. تودده للخليفة هشام. تلقبه بالمأمون وناصر الدولة. شروعه في اغتصاب ولاية العهد. ضغطه على هشام لتحقيق ذلك. مرسوم ولاية العهد ونصه. جلوس عبد الرحمن في الزاهرة. عكوفه على الشراب واللهو. إرغامه الكبراء على لبس العمامة. خروجه إلى الغزو. يخترق أراضي ليون. إعتصام النصارى بالجبال. ارتداد عبد الرحمن. أنباء الإنقلاب في قرطبة. الاضطراب في الجيش. سيره إلى قلعة رباح. سخط أهل قرطبة على بني عامر. المؤامرة وعناصرها. الذلفاء والدة عبد الملك ودورها. ترشيح محمد بن هشام للخلافة. نضج المؤامرة وتهيؤ الظروف لتنفيذها. مهاجمة المتآمرين للقصر. مصرع عبد الله بن أبي عامر. موقف الخليفة هشام وتصرفه. إقتحام العامة للقصر. الزاهرة وتسليمها. إقتحام الجموع لها ونهبها. إستيلاء المهدي على أموالها ونفائسها ثم تدميرها. نبوءة المنصور بخراب الزاهرة. وقوف شنجول على خبر الانقلاب وحيرته. يناشد أهل الثغر تأييد هشام. تخلي زعماء الجند عن نصرته. شنجول وصديقه ابن غومس. مسيره صوب قرطبة. فرار البربر تحت جنح الظلام. مسيره إلى أرملاط. التجاؤه وابن غومس إلى الدير. وقوعهما في يد فرسان المهدي. القبض على حشم شنجول ونسائه. مقتل شنجول وابن غومس. ما يقوله شاهد عيان عن هذه الحوادث. تأملات عن انهيار الدولة العامرية.
كانت وفاة عبد الملك المظفر، فاتحة لفترة من أعجب فترات التاريخ الأندلسي وأشدها غموضاً واضطراباً، وكانت نذيراً بانقلاب من أعنف ما عرفت الأندلس وأشدها تقويضاً لبنائها وسلامها ورخائها.
مضت خمسة وثلاثون عاماً على حكم الطغيان المطبق، الذي فرضه المنصور ابن أبي عامر على الشعب الأندلسي، وقضى في ظله على سلطان الخليفة الشرعي، ومحيت رسوم الخلافة، وسحقت العصبية العربية، وطوقت أعناق الشعب بأغلال خانقة. وبالرغم مما نعمت به الأندلس أيام المنصور من الاستقرار والعزة والرخاء، فإن الشعب لم يكن يرى في المنصور، سوى مغتصب للسلطة الشرعية، وكان يتوق إلى التحرر من هذا الطغيان الذريع، والتخلص من وطأة الصقالبة والبربر، والعود(1/622)
إلى الأوضاع الطبيعية المألوفة. وكانت شخصية المنصور العظيمة، وعزمه الصارم،
وهمته البعيدة، وخلاله الرفيعة، وتفانيه في الجهاد، والعمل على إعزاز الأندلس
وإسعادها: كانت تفرض نفسها على الناس، وتخفف نوعاً من وطاة النظام وحدته،
وتبث في نفوس الشعب نوعاً من الإعجاب المقرون بالإغضاء والتسامح. فلما
توفي المنصور، ونهض ولده عبد الملك بأعباء الحكم، بدأ ينقشع هذا الشعور
الملطف، وبدت مثالب الحكم المطلق على أشدها، وزاد إحساس الشعب بما يعانيه
من ضروب الإرهاق والضغط، وظهرت شخصية عبد الملك ضئيلة باهتة بالنسبة
لشخصية أبيه العظيم، وبدت بالرغم مما اضطلع به من الغزوات، وما تمتعت به
البلاد في ظله من السلام والرخاء، لا تحمل سوى الأوزار الظاهرة، من عكوف
على الشراب، وانهماك في الملاذ، والمضي في اغتصاب السلطة الشرعية، وتمكين لنير الصقالبة والبربر، والتطلع إلى ألقاب الملك، بصورة تكشف عما وراءها من الأطماع الخطرة.
وجاء عبد الرحمن ابن المنصور إثر أخيه عبد الملك، وقد كان أضعف منه شخصية، وأسوأ خلالا، ليتابع حكم الإرهاب والطغيان، وجلس غداة وفاة أخيه بقصر الزاهرة، كما يجلس خليفة العرش مكان سلفه، في السابع عشر من صفر سنة 399 هـ (22 أكتوبر سنة 1008 م). ومثل في نفس اليوم لدى الخليفة هشام، فخلع عليه الخلع السلطانية، وقلده الحجابة، ثم أقبل إليه الأكابر والأعيان بقصر الزاهرة، مهنئين مبايعين.
وكان عبد الرحمن وكنيته أبو المطرِّف، حينما تولى الحكم، فتى في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يلقب منذ حداثته " بشنجول " (سانشول) أو شانجُه الصغير، وذلك لأنه حسبما تقدم كان حفيداً لسانشو غرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية، حينما تزوجت المنصور، قد اعتنقت الإسلام، وتسمت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن " أشبه الناس بجده ". وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، إنحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجراً كثير الإستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو " يخرج من منية إلى منية، ومن متنزه إلى متنزه، مع الخياليين والمغنين(1/623)
والمضحكين، مجاهراً بالفتك، وشرب الخمر " (1).
وجرى عبد الرحمن على سنة أبيه وأخيه، في الحجر على الخليفة هشام وحجبه، وفي الاستبداد بالرأي والحكم (2)، ولكنه نهج في معاملة الخليفة نهجاً جديداً، فأكثر من الإتصال به، والتقرب إليه، وبالغ في إرضائه وإرضاء حاشيته، وتحقيق رغباتهم؛ هذا في حين أن المنصور كان يقتصر في الاتصال بالخليفة على المواقف الضرورية، ويقتصد في رؤيته، ويؤثر التظاهر بتوقيره مع البعد عنه، ويحرص على عدم تدليله، وكبح جماح حاشيته؛ وجرى ولده المظفر على هذه السياسة. ولكن عبد الرحمن بالغ في التودد لهشام ومخالطته؛ ومن ذلك أنه استأذنه في أن يقوم بالتنزه مع أهله في قصور الملك بقرطبة، ويكون الخليفة هنالك مع خاصته وجواريه. فأذن هشام بذلك، وخرج مع الحاجب في موكبه مستخفياً، وقد ارتدى برنساً كالذي ترتديه الجواري، حتى لا يعرفه أحد، واخترق الموكب شوارع قرطبة المقفرة ومن حوله الجند، ونزل بقصر ناصح. وهنالك عرض عليه الحاجب شئون المملكة، والتمس إليه أن يأذن له في التلقب بالمأمون، وأن يضاف إلى اسمه ناصر الدولة، فخرجت رقعة الخليفة بذلك إلى الوزير الكاتب جَهْور بن محمد، وتسمية عنوانها " الحاجب المأمون ناصر الدولة أبو المطرِّف حفظه الله " وأبلغت بعد ذلك إلى الجهات والكافة. وكان ذلك لعشرة أيام فقط من ولاية عبد الرحمن. فعجب الناس لهذه الجرأة، وأنكر الناس على الحاجب هذا التسمي بألقاب الملك والخلافة، واعتبروها افتئاتاً وغروراً، ممن لا تؤهله خلاله لمثل هذا التكريم. ولكن سوف نرى أنها لم تكن سوى مقدمة لما هو أخطر وأبعد أثراً (3).
ذلك أنه لم تمض على هذا الإجراء فترة يسيرة، حتى غادر الخليفة هشام قصر ناصح بقرطبة، إلى القصر الخليفي بمدينة الزهراء مستخفياً كعادته، يتقدم موكبه الحاجب عبد الرحمن، ونزل عبد الرحمن بمدينة الزاهرة. وأقام الخليفة بالزهراء يومين. وفي اليوم الثالث الموافق 14 ربيع الأول سنة 399 هـ، غادر القصر الخليفي في أهله، إلى منية جعفر المجاورة، ومعه الحاجب. وكان عبد الرحمن
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 39.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 148.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 40 - 42؛ وأعمال الأعلام ص 90.(1/624)
بعد أن حصل على ألقاب الملك، يجيش بمشروع ضخم، هو أن ينتزع ولاية العهد من الخليفة الضعيف الساذج، وأن يقضي بذلك نهائياً على تراث بني أمية، وينقل رسوم الخلافة جملة إلى أسرة بني عامر، فتخلف أسرة بني أمية في ملك الأندلس. وقد رأينا فيما تقدم كيف أن أباه المنصور، بالرغم من قوة نفسه، وعريض سلطانه، كان ينأى عن المغامرة بمثل هذه المشاريع الدقيقة، لأنه كان يدرك بذكائه، وبعد نظره، أنها تنطوي على أخطر العواقب، وأنه لم يقدم على اتخاذ ألقاب الملك إلا بعد طول روية وأناة، وأنه كان أبداً حريصاً على ْالإبقاء على رسوم الخلافة وأوضاعها. وقد حذا ولده عبد الملك المظفر حذوه في حرصه وتعقله. ولكن عبد الرحمن لم يكن إلا فتى طائشاً، متعجلا، كثير الغرور، قصير النظر. وقد وصف لنا ابن حيان موقفه من المشروع في تلك العبارات القوية: " وقد تقدم القول في سبب تعلق هذا الجاهل بدعوى الخلافة، عجرفية من غير تأويل ولا عقيدة، وكيف استهواه كيد الشيطان، وغرته قوة السلطان إلى أن ركبها عمياء مظلمة، لم يشاور فيها نصيحاً، ولا فكر في عاقبة، بل جبرها بالعجلة " (1).
وخلا عبد الرحمن بالخليفة، وأطال التقرب منه، وعرض عليه مشروعه، ويقال إنه أقنعه بأنهما على صلة رحم من ناحية الخؤولة، إذ ولد كلاهما من أم بشكنسية (نافارية) (2). ويقال من جهة أخرى، إن عبد الرحمن دس إلى الخليفة من هدده بالويل، وأنذره بأن عبد الرحمن قد اعتزم الفتك به، إذا لم يمنحه ولاية عهده (3). ويقال أيضاً إن هشاماً استفتى في ذلك فقهاء قرطبة وعلماءها، فأقروه على ما طلب. وكان أشد الساعين لتأييد عبد الرحمن، قاضي الجماعة أبو العباس ابن ذكوان، وكاتب الإنشاء أبو حفص بن برد (4). وعلى أي حال فقد استجاب هشام المؤيد إلى طلب عبد الرحمن. وخرج أصحابه عشية ذلك اليوم، يذيعون الخبر على الملأ، ويقولون إن الخليفة قد اختاره ولياً لعهده، إذ ليس له ولد يؤمل خلافته، وكثر الإرجاف لذلك.
_______
(1) أعمال الأعلام ص 91؛ والبيان المغرب ج 3 ص 43.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 42.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 39.
(4) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150.(1/625)
وفي صباح اليوم التالي، وهو اليوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة 399 هـ (نوفمبر 1008 م)، أحيط قصر الخليفة بصفوف كثيفة من الجند، وأخرج عبد الرحمن هشاماً، وأجلسه في الساحة الكبرى، وجلس من حوله الوزراء والقضاة والقادة وأكابر رجال الدولة، فكان يوماً مشهوداً، وصدر مرسوم ولاية العهد وهو من إنشاء كاتب الرسائل أبى حفص أحمد بن برد، وذيل بشهادة قاضي الجماعة أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وشهادة الوزراء وهم تسعة وعشرون وزيراً، ويليهم شهادة مائة وثمانين رجلا، من أكابر أهل الدولة والحكام، والفقهاء، وغيرهم. وإليك نص هذا المرسوم الشهير:
" هذا ما عهد به أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله - أطال الله بقاءه - إلى الناس عامة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصة، وأعطى عليه صفقة يمينه ببيعة تامة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعله الله إليه من إمامة المسلمين، وخصه به من إمرة المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء، بما لا يصرف، وخشى أن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدور ذلك به، ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوى إليه، ولم يوردها ملجأ تنعطف عليه، أن يكون يلقى الله مفرطاً فيها، ساهياً عن أداء الحق إليها. ونفض عند ذلك طبقات الرجال من أحياء قريش وغيرهم، ممن يستحق أن يسند الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه، ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وورعه، يعد اطراح الهوادة، والتبرىء من الهوى، والتحري للحق، والزلفى إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب، عالماً بأن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، وموقناً أن لا وسيلة إليه أرضى من الدين الخالص، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوض إليه النظر في أمر الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف همته، وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه ومعرفته وحزمه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، النازح عن كل عيب، ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله، إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، وارثاً للمكرمات، يجذب بضبيعة إلى أرفع منازل الطاعة، وينمو بعينيه إلى أعلا درج النصيحة،(1/626)
أب منقطع القرين، وصنو معدوم الغريم، ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه، فلا غرو أن يبلغ في سبيل الخير مداه، ويحوي من حلل المجد ما حواه، مع أن أمير المؤمنين أكرمه الله بما طالعه من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، أمل أن يكون ولي عهده القحطاني، الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو ابن العاص، وأن يتحقق به ما أسنده أبو هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. فلما استوى له الاختبار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهباً، ولا إلى غيره معدلا، خرج إليه من تدبير الأمر في حياته، وفوض إليه النظر في الخلافة بعد مماته، طائعاً راضياً، ومجتهداً متخيراً، غير محاب له، ولا مائل له بهواه، ولا مترك نصح الإسلام وأهله فيه. وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها، وأمضى أمير المؤمنين أعزه الله، عهده هذا، وأنفذه، وأجازه، وبتله، لم يشترط فيه مثنوية ولا خياراً، وأعطى على الوفاء بذلك في سره وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذمة الخلفاء الراشدين من آله وآبائه، وذمة نفسه، بأن لا يبدل ولا يغير، ولا يحول ولا يتأول.
وأشهد على ذلك الله وملائكته، وكفي بالله شهيداً. وأشهد عليه من أوقع اسمه في هذا الكتاب. وهو - أعزه الله - جائز الأمر، ماضي القول والفعل، بمحضر من ولي عهده المأمون ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور - وفقه الله - وقبوله لما قلده، والتزامه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 399 " (1).
* * *
وعلى أثر صدور هذا المرسوم الفذ في تاريخ الخلافة الإسلامية، خرج عبد الرحمن في موكب عظيم من الوزراء والقادة وأكابر أهل الدولة، إلى قصر الزاهرة وهو " يختال في ثوب الخلافة، يحسب أنها له نحلة، وأنه مستحق لها، وخليق بها " (2). وأقبل عليه المهنئون من الوزراء ورجال الدولة، يتكلفون البشر، والدعاء له بما أكرمه الله به، وقلوبهم تفيض إنكاراً وسخطاً، وأنفذت
_______
(1) ورد نص هذا المرسوم في أعمال الأعلام ص 91 - 93؛ ونفح الطيب ج 1 ص 198 و199؛ وابن خلدون ج 4 ص 149؛ والبيان المغرب ج 3 ص 44 - 46؛ وقد اتبعنا نحن بالأخص النص الوارد في أعمال الأعلام لأنه أوفاها وأصحها.
(2) البيان المغرب عن ابن عون الله ج 3 ص 46.(1/627)
الكتب في الحال إلى سائر نواحي الأندلس والعدوة، بوجوب إذاعة المرسوم، والدعاء لولى العهد على المنابر بعد الخليفة.
وفي اليوم التالي جلس عبد الرحمن بقصر الزاهرة في هيئة الملك، واصطف من حوله رجال الدولة وفق مراتبهم، وأقبل وجوه قرطبة لتهنئته، وفي مقدمتهم طائفة من المروانية المبعدين عن الخلافة، وغيرهم من بطون قريش. يقول المؤرخ: " وخرجوا من عنده، وقلوبهم ذؤوبة عليه، موقدة ببغضه ". وبادر الشعراء وفي مقدمتهم أبو العلاء صاعد البغدادي، برفع قصائد التهاني. وقد أورد لنا ابن حيان طرفاً مما قاله الشعراء في ذلك (1).
بيد أن شاعراً آخر، هو ابن أبي يزيد المصري، نظم في ذم ابن ذكوان وابن برد وهما المسؤولان عن تحرير مرسوم البيعة هذين البيتين:
إن ابن ذكوان وابن برد ... قد ناقضا الدين عين عهد
وعاندا الحق إذ أقاما ... حفيد شنجُه ولي عهد (2)
وذهب عبد الرحمن في غروره واختياله إلى أبعد مدى، فعين ابنه الطفل عبد العزيز في خطة الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة، وهو لقب عمه المظفر. واعتقد عبد الرحمن أنه حقق بذلك مشروعه العظيم، في تخليد ملك الدولة العامرية، وأن الأمور قد دانت كلها له، فأطلق العنان لأهوائه، وانكب على لهوه وشرابه، يحيط به نفر من البطانة السيئة، والندماء الأسافل، يصورون له الأحوال في أبدع الصور وأحبها إلى نفسه.
وكان من الحوادث البارزة في تلك الآونة، حادث ظاهر البساطة في ذاته، ولكنه أذكى موجة جديدة من السخط. وذلك أن عبد الرحمن أصدر أمره إلى رجال الدولة وأكابر أهل الخدمة، بأن يتركوا قلانسهم الطويلة، المبرقشة الملونة، التي كانوا يضعونها على رؤوسهم، ويمتازون بها على باقي الطوائف، وأن يستبدلوها فوراً بالعمائم. وقد كانت العمائم هي غطاء الرأس عند البربر. فأنف الكبراء لذلك، ولكنهم رضخوا للأمر كارهين، وحضروا إلى قصر الزاهرة بالعمائم لأول مرة في يوم 14 جمادى الأولى، وعلق جمهور الشعب على ذلك بمختلف الأقوال والتأويلات.
_______
(1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 46 و47؛ وأعمال الأعلام ص 94 - 96.
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150.(1/628)
وكان عبد الرحمن أثناء ذلك قد فكر في أن يشغل الناس بحديث الغزو أسوة بأبيه وأخيه، وكان سانشو غرسية أمير قشتالة من جهة أخرى قد أبدى أنه لا يزمع احترام السلم المعقود، وأخذ بالفعل يغير على الحدود الإسلامية. ولم تكن أخبار قرطبة، وما يسودها من اضطراب الأحوال، خافية على الملوك النصارى.
واعتزم عبد الرحمن أن يسير إلى الغزو، وأن يقصد إلى جلِّيقية، فاعترضه كبير الفتيان الصقالبة، وحذره من مغادرة قرطبة في هذا الوقت، وأوضح له أن المروانية (بني أمية) يأتمرون به، ويدبرون انقلاباً ينتزعون به الحكم، وأن كثيراً من الجند يميلون إليهم، فلم يصغ إلى قوله، وأمر بالخروج إلى الغزو (1)، وعهد بإدارة الحكومة في غيبته إلى ابن عم أبيه عبد الله بن أبي عامر المعروف بعسكلاجة.
وكان خروجه من قرطبة في 16 جمادى الأولى سنة 399 هـ (يناير سنة 1009 م) أعني في أعماق الشتاء، وسار بالجيش صوب طليطلة في طريقه إلى جليقية والأمطار تنهمر والبرد يهرأ الأجسام، وهو على سجيته من اللهو والشراب. ثم اخترق حدود مملكة ليون، ودخل جليقية. ولكن ملك ليون ألفونسو الخامس تحصن بقواته في رؤوس الجبال، ولم يتقدم لقتال المسلمين، ولم يجد عبد الرحمن سبيلا لقتاله لفيضان الأنهار وكثرة الثلوج، فقرر العودة بجيشه، فارتد راجعاً أدراجه. وبالرغم من أنه لم يحقق في غزوته هذه أية نتائج ذات شأن، فقد نظم ابن دراج القسطلي، على سجيته، في تلك الغزوة قصيدة طويلة، يشيد فيها بعبد الرحمن، وهذا مطلعها:
هو البدر في فلك المجد دارا ... فما غسق الخطب إلا أنارا
تجلى لنا فأرتنا السعود ... غيوب المنى في سناه جهارا
وأوفى فكادت صوادي القلوب ... تفوت العيون إليه بدارا
وحل فحلت جسام الفتو ... ح تبأى اختيالا وتزهى افتخارا (2)
وما كاد عبد الرحمن يصل إلى طليطلة، حتى وافته الأنباء بأن انقلاباً حدث في قرطبة، وأن الثوار قد استولوا على مدينة الزاهرة، ونهبوا ذخائرها، وأضرموا النار في صروحها. وتسربت الأنباء إلى الجند، فوقع الاضطراب في الجيش،
_______
(1) أعمال الأعلام ص 96.
(2) وردت هذه القصيدة كاملة في ديوان ابن دراج (ص 459 - 463).(1/629)
واضطر عبد الرحمن أن يسير لفوره بالجيش إلى قلعة رباح، في طريقه إلى قرطبة.
- 2 -
لم يكن ذلك الهدوء الظاهر، الذي ساد قرطبة خلال هذه الأشهر القلائل التي اضطلع فيها عبد الرحمن بالأمر، سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة. وكان حكم الطغيان الذي فرضه بنو عامر على الأندلس قد أخذ منذ أيام عبد الملك، يحدث آثاره المادية والأدبية، في نفوس الشعب، ويبدو لهم بغيضاً مرهقاً. ولم يكن يستر هذه الآثار سوى سياج خفيف من الحذر والترقب. ذلك أن سلطان بني عامر كان يستند دائماً إلى قوة عسكرية يخشى بأسها، قوامها البربر والصقالبة؛ فلما جاء عبد الرحمن، وكشف عن نيته في الاستئثار برسوم الملك، واغتصاب ولاية العهد، ألفت العناصر الناقمة، وفي مقدمتها بنو أمية أصحاب الولاية الشرعية، في ذلك مادة جديدة، للتنديد بحكم بني عامر وطغيانهم واجترائهم، وفي تلمس الوسائل الكفيلة بسحق دولتهم؛ وكانت شخصية عبد الرحمن الهزيلة، وأرومته الأجنبية، وما أبداه من ضروب الاستهتار والمجون، تذكي عاطفة السخط عليه، سواء بين الخاصة أو الكافة، وتمهد السبيل إلى الانقلاب المنشود.
وكانت خيوط المؤامرة التي اجتمعت حولها العناصر الناقمة، تتوثق شيئاً فشيئاً، وكان أهم مدبريها شخصيتين، الأولى الذلفاء والدة عبد الملك المصور، وقد كانت تعتقد اعتقاداً جازماً بأن ولدها قد توفي غيلة بالسم، وأن قاتله هو أخوه عبد الرحمن، وكانت لذلك تتوق إلى الانتقام، والثانية هي شخصية فتى من بني أمية هو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكان عبد الملك قد أمر بإعدام أبيه هشام بتهمة التآمر مع الوزير عيسى بن سعيد كما تقدم.
وكانت الذلفاء امرأة ذكية قوية العزم، كثيرة المال والوجاهة، وكانت بالرغم مما أصبغه عبد الرحمن عليها وعلى أسرة ولدها وأخيه عبد الملك، من ضروب الرعاية والإكرام، تسعى دائبة للإيقاع به. فلما شعرت بأن الجو قد تهيأ للسعي، بما ثار حول تصرفات عبد الرحمن من ضروب الإنكار والسخط، اتصلت بوجوه بني أمية، وأخذت تحثهم على التحرك والقيام لاسترجاع دولتهم، والانتقام من بني عامر، وكان صلة الوصل بينها وبينهم فتى من صقالبة العامريين يدعى بشرى(1/630)
وكان من قبل من فتيان المراونية، ثم انتقل إلى العامربين فيمن انتقل من فتيان القصر، ولكنه بقي على ولائه لسادته الأقدمين. وتعهدت الذلفاء بأن تعاون المتآمرين بالمال والتدبير؛ وسرعان ما استجاب بنو أمية للدعوة واختاروا من بينهم زعيماً هو محمد بن هشام بن عبد الجبار. وكان فتى جريئاً مغامراً في الثالثة والثلاثين من عمره إذ كان مولده في سنة 366 هـ، وأمه أم ولد تدعى مزنة (1)، وكان مذ قتل أبوه هشام، يتحرز على نفسه، ويختفي في أحواز قرطبة وكهوفها، ويجتمع حوله الصحب من المغامرين. فلما أجمع بنو أمية أمرهم على اختياره، بايعوه سراً بالولاية والخلافة، وكان له ولأبيه من قبل دعاة من أهل قرطبة من المروانية وغيرهم، يدعون له؛ واشتدت هذه الدعاية مذ أجمع المتآمرون رأيهم على اختياره. وكان خروج عبد الرحمن المنصور أو شنجول إلى الغزو فرصة سانحة للعمل، فأخذ محمد بن هشام يحشد أنصاره، ويجتمع بهم سراً في كهوف جبل قرطبة. وكثر إرجاف دعاته في المدينة أن دولة بني عامر قد قضي عليها، وأن الأمر سيعود إلى المروانية، وكثر تشهيرهم بعبد الرحمن وقبيح تصرفاته. وكانت هذه الدعاية تجد لدى جمهور الكافة أذناً صاغية، لما وقر في نفوسهم من بغض عبد الرحمن وازدرائه. وإليك كيف يصف لنا ابن الخطيب موقف الشعب القرطبي، وحالته النفسية إزاء العامريين، وإزاء عبد الرحمن:
" وقد جبل الله أهل قرطبة على ملل ملوكها، والقلق بذوي أمرها، والإرجاف بما يتوقع لها. وكان سفهاؤهم بالأسواق والمجامع غير المحتشمة، تؤثر عنهم في العامريين نوادر حارة، واستراحات عنهم؛ كان المنصور وولده المظفر يستحضر لذلك مشيختهم، ويأمرهم بإنهاء وعيده، ويشافههم بإنكاره، ولا يزال حكامه يبلغون في تغيير ذلك وإنكاره أقصى المبالغ ضرباً للظهور، وقطعاً للألسنة. فلما ذهب عبد الرحمن هذا المذهب، وأطاع هذا الخرق، كثر الحمل وشهرت البغضة " (2).
ولم يكن المروانية، وحدهم في هذا التدبير الذي قصد به إلى سحق نير العامريين ودولتهم، فقد كان إلى جانبهم سائر العناصر الناقمة من قريش، ومن المضرية
_______
(1) جذوة المقتبس ص 19.
(2) أعمال الأعلام ص 90.(1/631)
واليمنية، أو بعبارة أخرى من البيوت العربية، التي عمل المنصور وآله على سحق رياستها ومكانتها الاجتماعية، وإخضاعها لنفوذ البربر والصقالبة. وقد رأينا فيما تقدم أن هذه لم تكن أول مؤامرة أو محاولة من نوعها لتحطيم نير بني عامر، وأن المنصور وولده عبد الملك، استطاعا أن يقضيا على بعض المؤامرات الخطيرة، التي دبرت لتحقيق هذه الغاية.
كانت الظروف قد تهيأت. إذاً أمام المتآمرين للعمل. فقد خرجت معظم وحدات الجيش مع عبد الرحمن إلى الغزو، ولم يبق منه سوى فرق قليلة ترابط في قرطبة والزاهرة، وجمهور الشعب متأهب بعواطفه ونفسيته الضجرة المتذمرة لتأييد أي انقلاب.
ولما نضجت المؤامرة، واتسع نطاق الدعوة لمحمد بن هشام، وكثر الإرجاف بالانقلاب المنشود، شعر الوزراء العامريون بالخطر، وضاعفوا الأهبة والحرس حول قصور الزاهرة. وكان محمد بن هشام وأعوانه خلال ذلك يجتمعون سراً وينظمون خطتهم الأخيرة. وكان محمد هذا الذي اختاره بنو أمية زعيماً لهم، قد فطر منذ نشأته على الشر والمغامرة، لا يخالط سوى الزعانف والأشرار. وقد وصفه ابن الخطيب في قوله: " جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لايدري في أي واد يهلك " (1).
وفي يوم 16 جمادى الأولى سنة 399 هـ (15 فبراير 1009 م) جاءت الأنباء إلى قصر الزاهرة بأن عبد الرحمن قد عبر بجيشه إلى أرض النصارى، فأدرك المتآمرون في الحال أن الفرصة قد سنحت للعمل، واعتزم محمد بن هشام لفوره أن ينزل الضربة المنشودة. وكان قد بث نفراً من رجاله حول قصر قرطبة، وقد تسلحوا تحت ثيابهم خفية. ففي عصر هذا اليوم، كان محمد يكمن في الضفة الأخرى من النهر (نهر الوادي الكبير) قبالة القصر. وكانت خطة المتآمرين أن يسددوا الضربة الأولى لقصر قرطبة، وهو يومئذ المقام الشتوي للخليفة هشام المؤيد، وحوله قلة من الحرس، ولأن ظروف العمل في قرطبة، كانت أدعى إلى النجاح نظراً لعطف الكافة والدهماء وتأييدهم. وفي الوقت المحدد عبر محمد النهر، والتف حوله من أصحابه اثنا عشر فتى، منهم طرسوس المجوسي، وهو أشدهم
_______
(1) أعمال الأعلام ص 109؛ وراجع البيان المغرب ج 3 ص 52.(1/632)
جرأة وفتكاً؛ فساروا حذرين حتى باب القصر، ثم شهر طرسوس سيفه، وهجم في الحال على صاحب المدينة عبد الله بن أبي عامر (عسكلاجة) وانتزعه من مجلسه، وكان يحتسي الخمر مع قينتين من جواريه، وجىء به مخموراً إلى محمد بن هشام، فأمر بضرب عنقه، ورفع رأسه على رمح، فلما أبصرت العامة رأسه مرفوعاً، هرعت إلى محمد بن هشام، والتف حوله منهم جمهرة كبيرة من السفلة والغوغاء، فقويت بذلك عصبته، ثم بادرت باقتحام سجن العامرية، وأفرج عمن فيه من القتلة واللصوص، وتلاحق عليه أقاربه المروانية من كل صوب، واستنهضوا الناس لنصرته، حتى اجتمع حوله منهم طوائف غفيرة.
ونمي الخبر إلى الخليفة هشام المؤيد، فأمر بإغلاق أبواب القصر، وصعد إلى السطح، ومن حوله خادمان يحمل كل منهما مصحفاً، وحاول مخاطبة العامة، فأسكتوه وأغلظوا له القول، فانصرف عنهم إلى داخل القصر، وأمر الخدم بالكف عن كل مقاومة حتى يقضي الله أمره. فأمر محمد بن هشام العامة بنقب أسوار القصر، واقتحام أبوابه، وبذل العامة في ذلك جهوداً فادحة، وأتوا بالسلالم، وصعدوا إلى أعلا الأسوار، وسيطروا على عدة نواح من سطح القصر، وارتد الخدم أمامهم، ووصلوا إلى خزائن السلاح فنهبوها واشتد ساعدهم. ولما سمع الخليفة بذلك، خشي البادرة على نفسه وأهله، فبعث إلى محمد بن هشام يعرض عليه أن يقصي بني عامر من الحكم، وأن يشركه في أمره، فرفض محمد ذلك، وطلب إلى فاتن محافظ القصر أن يفتح الأبواب، فأذعن ودخل محمد القصر، واحتل مجلسه، ومن حوله خاصة أصحابه، واعتزم أن يقضي ليله بين الشموع المضيئة. ثم قام بطرد العامة من القصر وأجلاهم عن سطحه، وكفهم عن انتهاك حرمه، وعين ابن عمه محمداً بن المغيرة في كرسي الشرطة، وابن عمه الآخر عبد الجبار بن المغيرة في خطة الحجابة، ودعا سليمان بن هشام من قرابته فسماه ولي عهده، وبعث إلى الخليفة هشام يعاتبه على إيثار بني عامر، ويدعوه إلى خلع ْنفسه، منذراً مهدداً، فارتاع هشام وبادر بالقبول، واستدعى محمد في الحال بني عمومته، وأكابر بيته، ونفراً من الأعيان والوزراء والقضاة في جوف الليل، وأعلن هشام خلع نفسه بمحضر من بعضهم، وقدم إلى محمد بعض حلله الخلافية الفاخرة، فتم الخلع، وذلك بعد أن مكث هشام في الخلافة ثلاثة وثلاثين عاماً(1/633)
وبضعة أشهر، وآلت الخلافة في تلك الليلة إلى محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن عبد الرحمن الناصر، وتلقب بالمهدي. وكان ذلك صبيحة يوم الأربعاء 17 جمادى الآخرة سنة 399 هـ (16 فبراير سنة 1009 م).
وهرعت الجموع من سائر أنحاء قرطبة إلى محمد بن هشام، ملتفة حوله، مؤيدة لبيعته، واعتبروه بطلا منقذاً، إذ كان أول من استطاع أن يثور في وجه بني عامر، وأن يعمل لإزالة ملكهم، وشعروا أن كابوس الإرهاب العامري قد تقلص، وأن عهداً جديداً سوف يبدأ، ولم يخطر ببالهم قط، أن هذا التحول كان نذير المحنة الغامرة، التي سوف تطيح بكل ما نعموا به في ظل الدولة العامرية من السكينة والأمن والرخاء.
وفي الوقت نفسه كانت مدينة الزاهرة، معقل بني عامر، عرضة لهجوم مماثل. وكان القائمون على أمرها قد نمى إليهم ما وقع بقرطبة، وبادر محافظ الزاهرة عبد الله بن مسلمة إلى ضبط أسوارها وأبوابها، وحشد ما لديه من الجند، فبلغوا سبعمائة، وتأهب للدفاع وبعث محمد بن هشام إلى الزاهرة جمهوراً غفيراً من العامة مع طائفة من أصحابه. فأحاطوا بها وحاولوا اقتحامها، ولكن نظيفاً الخادم، ونصراً المظفري، وهما من الفتيان العامريين، استطاعوا في قوة من الغلمان إجلاء العامة عن الأسوار، ثم دخل الليل فحال بين الفريقين.
وفي صباح اليوم التالي، 18 جمادى الأولى، ندب محمد بن هشام أو الخليفة المهدي، ابن عمه عبد الجبار بن المغيرة لمهاجمة الزاهرة، فسار إليها على رأس قوة كبيرة من العامة، الذين أقبلوا على التطوع فرساناً ومشاة، ووزعت عليهم الأسلحة، وأمامهم رأس عبد الله بن أبي عامر مرفوعاً فوق رمح، وهاجموا قصر عبد الملك المظفر، وكان خارج الأسوار، وكان فيه أهله وأمه الذلفاء، فنهبوه وتخاطفوا متاعه وذخائره، وذلك بالرغم من أن الذلفاء هي التي أمدت محمداً بن هشام بعونها ومالها. فلما شعر أهل الزاهرة، بأنه من العبث مقاومة هذه الجموع الهائلة، عرضوا التسليم على أن يصدر لهم المهدي الأمان، فبعث إليهم المهدي الأمان المنشود مكتوباً بخطه، وكان ذلك وقت الظهر، ففتحوا أبواب المدينة وسلموها، ودخل عبد الجبار لفوره قصر الزاهرة، واقتحمته الجموع، ونهبت منه من المتاع والنفائس ما لا يقدر ولا يوصف، واستأثر عبد الجبار(1/634)
وصحبه المقربين من ذلك بأعظم نصيب, واستولت العامة على خزائن الكسوة والمتاع والسلاح والحلي، ولم يكف النهب إلا في مساء اليوم التالي. وحرص عبد الجبار على أن يحيط بقواته، بيوت الحُرم والمال وخاص المتاع والجوهر، وأن يبعد العامة عنها، وقد استولى المهدي على جميع محتوياتها ونقلها إلى قصر الخلافة بقرطبة. ويقال إنه حصل من أموال الزاهرة المنهوبة خمسة آلاف وخمسمائة ألف دينار من النقود، ومن الذهب ما قيمته ألف ألف وخمسمائة ألف. وأطلق المهدي الحرائر من بني عامر، واصطفى الجوارى لنفسه، ووهب منهن لوزرائه وأصحابه، وأذن للذلفاء أن تنتقل وأسرة ولدها عبد الملك وولده الصغير محمد، مطلقة السراح إلى دورها بالمدينة، وكانت لحرصها قد نقلت إليها معظم خزائن المال والمتاع.
ولم يكتف المهدي بذلك كله، بل عمد بعد أن استصفى سائر ما في الزاهرة من الخزائن والأموال الطائلة، إلى هدم صروحها وأسوارها، واستطالت الأيدي إلى كل نفيس من مرمر قصورها وطرائفها وأنقاضها وأبوابها، فلم تمض أيام قلائل على ذلك السيل المدمر، حتى اختفت صروح الزاهرة ومعالمها الضاحكة، وغدت أطلالا دارسة، وخرائب موحشة. وكان المهدي يتعجل إزالة رسوم بني عامر بكل ما وسع، خشية أن يعود عبد الرحمن المنصور، قبل أن يتم إحكام ضربته وتوطيد مركزه.
وقد ذكرت لنا الرواية أن المنصور بن أبي عامر، كان يتوقع ذهاب دولته وخراب الزاهرة، وكان هذا الخاطر ينتابه من آن لآخر، ويفضي به إلى خاصته, وقد نقل إلينا الوزير أحمد بن حزم، والد الفيلسوف الشهير، أن المنصور كان يقول: " ويحاً لك يا زاهرة الحسن، لقد حسن مرآك، وعبق ثراك، وراق منظرك، وفاق مخبرك، وطاب تربك، وعذب شربك، فياليت شعري من الذي يهدمك، ويوهن جسمك ويعدمك "، وأنه كان يؤكد لأصحابه صحة هذه النبوءة في مناسبات كثيرة (1).
- 3 -
لما وصلت أنباء هذا الإنقلاب الخطير الذي وقع في قرطبة، إلى عبد الرحمن
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 65.(1/635)
المنصور أو شنجول، وهو في طليطلة، بادر بالسير في قواته إلى قلعة رباح، والحيرة تغلب عليه، والاضطراب يسود صفوف الجنود، وهنالك تمهل قليلا، وأعلن في الحال أنه ينزل عن ولاية العهد، ويقتصر على الحجابة، وبعث كتبه بذلك إلى طليطلة وأعمالها، وفيها يناشد الناس أن يهرعوا إلى نصرة الخليفة المظلوم هشام، وإلى التمسك بطاعته، ويصف لهم ما ارتكبه محمد المهدي ودهماء قرطبة من العيث والسفك. فلم يعبأ أحد بدعوته، وكان أول الخارجين عليه الفتى واضح مولى أبيه، وهو يومئذ والي طليطلة. وحاول شنجول في الوقت نفسه، أن يأخذ العهد على زعماء الجند بنصرته والقتال معه، ولا سيما زعماء البربر الذين يؤلفون سواد الجيش، فتظاهروا بموافقته، ولكنهم تعاهدوا فيما بينهم، وعلى رأسهم كبيرهم محمد بن يعلى الزناتي زعيم زناتة، أن يتخلوا عن شنجول وألا يغامروا بمحاربة أهل قرطبة، وفيها أسرهم وأموالهم، وخصوصاً بعد الذي ترامى إليهم عن التفاف الناس حول محمد بن هشام، وتفانيهم في نصرته؛ وقوى هذا العزم لديهم ما أفضى إليهم القاضي أبو العباس بن ذكوان - وكان قد صحب شنجول في غزاته - من أنه يتبرأ من شنجول ويقضي بفسقه، وينكر عليه ما يدعو إليه من قتال المسلمين بقرطبة، وفيهم العلماء والصالحون، والنسوة والأطفال. ومما تجدر ملاحظته أن القاضي ابن ذكوان هذا، كان من قبل من أخص رجال الدولة العامرية، وكان من أشد المعاونين لعبد الرحمن المنصور على انتزاع ولاية العهد من هشام.
وكان إلى جانب شنجول في معسكره، زعيم من زعماء بني غومس سادة مقاطعة كريون في جلِّيقية، وكان قد صحبه يرجو عونه على بعض خصومه من الزعماء المجاورين، فلما رأى اضطراب أحوال الجند، نصح شنجول بأن يعدل عن السير إلى قرطبة، وأن يعود في أصحابه إلى طليطلة فيتفق مع واضح، فأبى شنجول نصحه، وزعم أنه متى اقترب من قرطبة، سارع الناس إلى نصرته.
وقد بقي هذا الزعيم النصراني إلى جانب شنجول حتى النهاية (1).
وعلى أي حال فقد سار شنجول في قواته صوب قرطبة، حتى انتهى إلى " منزل هاني "، وهي أقرب محلاته إلى المدينة. وما كاد الليل يرخي سدوله،
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 70.(1/636)
حتى غادر معظم الجند البربر أمكنتهم تحت جنح الظلام، وأسفر الصبح وهو صبح نهاية شهر جمادى الآخرة سنة 399 هـ (نهاية فبراير سنة 1009 م) فلم يبق إلى جانب عبد الرحمن سوى خاصته وحرمه وحشمه وجمع يسير من غلمانه، وابن غومس في نفر من أصحابه، وغادر المعسكر تباعاً زعماء البربر، والفتيان الصقالبة ووجوه الأندلسيين، وهنا نصحه ابن غومس مرة أخرى بأن ينجو بنفسه وصحبه، فأبى.
وسار شنجول في أهله حتى وصل إلى أرملاط من مشارف قرطبة، وقد تركه النفر القليل الذي بقي معه، فاستولى عليه اليأس، وأدخل حرمه قصر أرملاط، ثم خرج مودعاً والصراخ يتبعه، وسار ومعه ابن غومس، وقد عول على الفرار، فالتجأ ليلا إلى الدير القريب. وكان محمد بن هشام في تلك الأثناء يتتبع أخباره وحركاته، فلما نمى إليه أنه يزمع الفرار، بعث في الحال الحاجب ابن ذرى في طائفة من الفرسان، فسار مسرعاً إلى أرملاط ودهم الدير، وقبض على شنجول وابن غومس. وأخذ نساء شنجول من القصر، وهن سبعون جارية، فبعث بهن إلى قرطبة. ولما شعر شنجول بأنه هالك أعلن أمام معتقله أنه يعترف بطاعة المهدي، فاستاقه ابن ذرى هو وابن غومس، ثم أمر بتوثيق يديه بالرغم من احتجاجه، وفي خلال الطريق طلب شنجول أن يفك وثاق يديه قليلا ليستريح، فأجيب إلى طلبه، وعندئذ أخرج من خفه سكيناً بسرعة البرق، وحاول أن يغمده في صدره، فتداركه الجند، وأوثقوا يديه، وأمر الحاجب بقتله، فذبح في الحال، وفصل رأسه عن جسمه، وقتل ابن غومس، وحمل رأس شنجول إلى المهدي في نفس المساء، وحمل جسده معروضاً على بغل، وأمر المهدي فحنطت الجثة، وركب عليها الرأس، وألبست كسوتها، ونصبت على خشبة طويلة على باب السُّدة، ونصبت رأس ابن غومس على سارية إلى جانبها. وكان مقتل عبد الرحمن المنصور في اليوم الثالث من رجب سنة 399 هـ (3 مارس سنة 1009 م).
وقد انتهت إلينا من تعليقات المعاصرين على تلك الحوادث المتوالية المدهشة تعليق شاهد عيان يقول فيه:
" ومن أعجب ما رأيت من عبر الدنيا، أنه تم من نصف نهار يوم الثلاثاء(1/637)
لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة المؤرخ إلى نصف نهار يوم الأربعاء تتمة الشهر، وفي مثل ساعته فتح مدينة قرطبة، وهدم مدينة الزاهرة، وخلع خليفة قديم الولاية وهو هشام بن الحكم، ونصب خليفة جديد لم يتقدم له عهد، ولا وقع عليه اختيار، وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزوال دولة آل عامر، وكرور دولة بني أمية، وإقامة جنود من العامة المحشودة عورض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب ضدادهم، تقتحمهم العين هجنة وقماءة. وجرى هذا كله على يدي بضعة عشر رجلا من أراذل العامة، حجامين وخرازين، وكنافين، وزبالين، تجاسروا عليه، وقد تكفل المقدور بوقوعه، فتم منه ما لم يكن في حسبان مخلوق تمامه" (1).
* * *
وهكذا انهارت الدولة العامرية بسرعة مدهشة لم يكن يتوقعها أحد؛ فقد تولى عبد الرحمن المنصور الحكم عقب وفاة أخيه عبد الملك في 17 صفر سنة 399 هـ والدولة محكمة النظام موطدة الدعائم، والجيش على ولائه للدولة العامرية، فلم تمض سوى ثلاثة أشهر حتى انهار ذلك الصرح الشامخ، الذي شاده المنصور ابن أبي عامر، والذي لبث خمسة وثلاثين عاماً معقد النظام والسلامة والأمن والرخاء للأندلس، واستطاعت جموع يسيرة من الدهماء، أن تحقق بسرعة البرق ما لم يجرؤ على تصوره أو محاولته من قبل، أحد من أكابر خصوم الدولة العامرية والمتربصين بها. ومن الواضح أن الأسباب الجوهرية لمثل هذا الانقلاب الصاعق، ترجع قبل كل شىء إلى العوامل الأدبية والنفسية، فقد كان نظام الطغيان المطبق الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، بالرغم من كل ما حققه للأندلس من السؤدد والرخاء، يبدو كالكابوس المرهق، وكان الشعب يتوق إلى التخلص من هذا النير، الذي سلبه كل مظاهر الحرية. فلما تولى عبد الرحمن المنصور، كانت النفوس قد أشبعت ببغض هذا النظام والرغبة في زواله، وكان سلوك عبد الرحمن وتصرفاته ومجونه واستهتاره، عاملا جديداً في إذكاء هذا البغض وهذه الرغبة.
وكان لاجترائه على اغتصاب ولاية العهد، أسوأ وقع في نفوس قوم جبلوا على تقديس شعائر الخلافة وحقوقها الشرعية. فلما خرج عبد الرحمن إلى الغزو، كان
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 74.(1/638)
الشعب يضطرم سخطاً وبغضاً وازدراء، وكان يرقب أول بادرة للانفجار. فلما وقعت هذه البادرة بوثوب محمد بن هشام؛ لبى الشعب لفوره دعوة الخروج والثورة، ولم يفكر في شىء من العواقب، ولم يفكر إلا في تحطيم هذا النير البغيض - نير بني عامر - بأية وسيلة. وكان له ما أراد، وقد حقق رغبته بأيسر أمر.
على أن الأمة الأندلسية لم تجن خيراً من هذا الانقلاب، الذي حققه الشعب القرطبي دون تدبر ودون تحوط. ذلك لأنه لم يقف عند القضاء على دولة بني عامر، بل بالعكس كان نذيراً بانهيار دعائم النظام والأمن، اللذين تمتعت بهما الأندلس في ظل الدولة المنقضية، ودفع الأمة الأندلسية إلى معترك مروع من الفتن المضطرمة، والفوضى الشاملة، التي انتهت بانهيار حكومتها المركزية، وتمزيق وحدتها، ومواجهتها لأخطر مصير عرفته منذ قيامها في شبه الجزيرة.(1/639)
الكتابُ الرابع
سُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود 399: 422 هـ- 1009: 1031 م(1/641)
الفصل الأوّل
الخلافة في معترك الفتنة والفوضى
غداة الانقلاب. اقتسام السلطان. الشعب القرطبي. شخصية المهدي. اضطهاده للبربر. تحامل العامة عليهم. نفي المهدي للفتيان العامريين. إخفاؤه للخليفة هشام وادعاؤه بوفاته. عيثه وطغيانه. هشام بن سليمان. سعيه إلى خلع المهدي. القتال بين الفريقين. هزيمة هشام ومصرعه. تحريض المهدي على البربر والفتك بهم. مسيرهم إلى قلعة رباح. يرشحون سليمان بن الحكم للخلافة. استنصارهم بسانشو غرسية أمير قشتالة. الحرب بينهم وبين الفتى واضح. هزيمته وفراره. تأهب المهدي للدفاع. مسير البربر وحلفائهم النصارى إلى قرطبة. موقعة قنتش. هزيمة القرطبيين وتمزيق جموعهم. المهدي يظهر الخليفة هشام. فشل محاولته وفراره. مبايعة سليمان بن الحكم. المهدي وواضح يدبران محاولة جديدة. استنصارهما بأميرى برشلونة وأورقلة. مسير المهدي وحلفائه الفرنج إلى قرطبة. اللقاء بينهم وبين البربر. هزيمة البربر وفرار سليمان. تجديد البيعة للمهدي. مسيره لمطاردة البربر. هزيمته وارتداده إلى قرطبة. استعداده للدفاع. الوحشة بينه وبين واضح. ائتمار الفتيان به ومقتله. عود هشام المؤيد إلى الخلافة. واضح يتولى الحجابة. تمسك البربر بولاية سليمان. مسير البربر إلى الزهراء واحتلالها. عيثهم بأراضي قرطبة. هشام يقدم الحصون الأمامية لأمير قشتالة. حصار البربر لقرطبة. واضح يحاول الفرار. ضبطه ومقتله. ابن وداعة وابن مناو. هشام يحاول استرضاء البربر وسليمان. فشل المحاولة. اشتداد الحصار على قرطبة. مقتل حباسة بن ماكسن. هياج البربر. القتال بينهم وبين أهل قرطبة. هزيمة القرطبيين. اقتحام البربر للمدينة والفتك بأهلها. سليمان المستعين يسترد الخلافة. مصير هشام المؤيد. سليمان يتلقب بالظافر. تفكك عرى الدولة. توزيع الكور بين زعماء البربر. خلال سليمان وشعره.
تربع محمد بن هشام الملقب بالمهدي على كرسي الخلافة، مكان الخليفة هشام المؤيد، في 17 جمادى الآخرة سنة 399 هـ (16 فبراير سنة 1009 م)، وانقضى عهد السلطة الثنائية - سلطة الخليفة الشرعي الإسمية، وسلطة حاجبه والمتغلب عليه الفعلية - ليفسح مجالا لعود السلطة الموحدة. ولكن الظروف التي وقع فيها هذا الانقلاب الحاسم، الذي أودى بين عشية وضحاها، بسلطان دولة من أعظم الدول الأندلسية، لم تكن تسمح لأية سلطة نظامية أن تثبت وأن تستقر، فقد كان الخليفة الجديد، شخصية مغامرة رخوة، تحركها النزعات الوضيعة، ولا تحدوها أية غاية مثلى، وقد أطلقت سائر الأهواء المتوثبة من عقالها، وأخذ كل حزب وكل فريق وكل طائفة، تحاول أن تحصل نصيبها من(1/642)
أسلاب الدولة المنهارة. فقد كان هناك المروانية أو بنو أمية، يرون أنهم أصحاب السلطة الشرعية، وأصحاب التراث المتخلف عن مغتصبيها، بني عامر؛ وكان هناك الفتيان العامريون، وأنصارهم من الصقالبة، ومن إليهم من الجند المرتزقة، وقد كانوا أولياء الدولة العامرية، وكانوا من حيث العدد والعصبية قوة يعتد بها؛ وكان هناك البربر، وقد كانوا عماد الجيش العامري، وكان عددهم قد تضاعف في أواخر أيام المنصور وبنيه، وتوافد كثير من زعمائهم إلى شبه الجزيرة؛ ثم كان هناك أخيراً الشعب القرطبي، أو بعبارة أخرى كتلة العامة والدهماء الذين آزروا الخليفة الجديد والتفوا حوله، وقد كانوا قوة خطرة متقلبة، كثيرة الأهواء والنزعات، لا تؤمن عواقبها.
استقبل الشعب القرطبي، ولاية الخليفة الجديد، بمظاهر السرور والرضى، وأقاموا الحفلات والولائم، وظنوا أنهم قد أفلتوا من أغلال النظام العامري المرهق، ليستقبلوا عهداً أكثر تسامحاً، وأوسع آفاقاً، وما دروا أن القدر يتربص بهم، وأن الأندلس سوف تجوز من تلك الساعة، عهداً مليئاً بالمحن والأحداث المؤلمة.
والواقع أن الخليفة الجديد لم يكن رجل الموقف، ولم تكن جرأته التي تذرع بها لانتزاع السلطة من هشام المؤيد، والقضاء على سلطان بني عامر، جرأة زعيم مقدام يقدر المسؤوليات التي أخذها على عاتقه، ولكن جرأة مغامر متهور، وزعيم عصابة غير مسؤولة، التفت حوله جموع الدهماء الصاخبة، دون وعي ولا تدبر، شأنها دائماً في كل انقلاب وكل حدث جديد. ومن ثم فإنه ما كاد يشعر باستقرار أمره، وتمكن سلطانه، حتى أطلق العنان لطغيانه وأهوائه، وجمع حوله بطانة سوء، أخذت تتنكر للناس، وتضطهدهم، وتسومهم سوء الخسف، وأبدى الموكلون بالقصر من رجاله نحو البربر بنوع خاص منتهى الشدة والفظاظة، وكان المهدي ورجاله يخصون البربر بالبغض والزراية، لأنهم كانوا عضد المنصور، وسند نظامه الحديدي، وكان أهل قرطبة ينساقون مع المهدي في هذه العاطفة ضد البربر، وينظرون إليهم شزراً.
وبدا سخط المهدي نحو البربر في سوء معاملتهم، والتشدد في دخولهم القصر، فكانوا يمنعون من الركوب عند الدخول، وينزع سلاحهم، ويوجه إليهم قارص(1/643)
الكلام، ولم يفرق في ذلك بين أصاغرهم وزعمائهم، حتى أن كبيرهم زعيم قبيلة صنهاجة، زاوي بن زيري بن مناد، عند مقدمه إلى القصر، مع جماعة من رجاله، ردوا عند الباب بفظاظة، وأهينوا، فانصرفوا وقلوبهم تضطرم سخطاً.
وسرت إلى العامة عندئذ، موجة من التحامل ضد البربر، فهاجمت بعض جموعهم دور البربر في ضاحية الرُّصافة، ونهبوا بعضها، وبادر صاحب المدينة بضبط الحال ورد الغوغاء، وقتل ثلاثة منهم. وأسرع زاوي بن زيري، وحبوس بن ماكسن، وأبو الفتوح بن ناصر، وغيرهم من زعماء البربر بالدخول على محمد بن هشام، وأخبروه بما وقع, فاعتذر لهم، ووعدهم برد ما نهب، وقتل عدد من الغوغاء، ولكن البربر لم تهدأ ثائرتهم، وبقيت نفوسهم على اضطرامها.
وكان من أعمال العنف التي قام بها محمد بن هشام، أن نفى عدداً من الفتيان الصقالبة العامريين. فغادروا قرطبة، ولجأوا إلى أطراف الأندلس الشرقية، وكان من تملكهم لبعض نواحيها ومدنها ما سنذكر في موضعه. ولم يقبل منهم على مسالمة محمد بن هشام ومصادقته، سوى الفتى واضح صاحب مدينة سالم والثغر الأوسط، فإنه بعث إليه كتاباً يؤكد فيه طاعته، ويبدي ابتهاجه بمصرع عبد الرحمن المنصور، فرد عليه المهدي بالشكر، وبعث إليه أموالا ومتاعاً، ومرسوماً بولاية الثغر كله.
وعمد محمد بن هشام بعد ذلك إلى مطاردة الخليفة هشام المؤيد، فحبسه في القصر أولا، وأخرج جواريه وفتيانه، ودوابه المحبوبة، ثم أخرجه بعد ذلك من القصر، وأخفاه في بعض منازل قرطبة. وتوفي في ذلك الوقت رجل نصراني أو يهودي، قيل إنه كان يشبه هشاماً شبهاً قوياً، فأعلن محمد بن هشام، وفاة الخليفة، وأحضر الوزراء والفقهاء فشهدوا بأنه هو الخليفة هشام المؤيد حقاً.
ودفن هذا الخليفة المزعوم في اليوم السابع والعشرين من شعبان سنة 399 هـ (1).
ولما شعر محمد بن هشام أن الأمر قد استتب له، أطلق العنان لأهوائه، وشهواته الوضيعة، وانكب على معاقرة الخمر، وبالغ في الاستهتار والمجون، والمجاهرة بالفسق والفجور، بصورة مثيرة أفقدته عطف الكثيرين واحترامهم،
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 77؛ وابن الأثير ج 8 ص 252.(1/644)
وبطش بكثير من الناس، وفي مقدمتهم ولي عهده سليمان بن هشام، فقد سجنه وسجن معه جماعة من قريش، وأخرج من الجيش نحو سبعة آلاف جندي، أقيلوا وقطعت أرزاقهم، وأضحوا عنصراً من عناصر التوتر والشغب؛ وزاد في التحامل على البربر، والتعريض بهم والطعن فيهم، في كل فرصة وموطن، حتى أصبح بغضه لهم، وتربصه بهم، من الأمور الذائعة، وأخذ كل فريق يحترز من صاحبه، ويتوقع منه الشر والغدر.
وكان هشام بن سليمان بن الناصر، وهو والد سليمان ولي العهد المعتقل، قد وجد على محمد بن هشام من جراء انحرافه وطغيانه ومجونه، وخشي سوء العاقبة على بني أمية، وانهيار أمرهم، فأخذ يسعى في خلع محمد بن هشام، وانضم إليه جماعة من الناقمين عليه، وفي مقدمتهم جماعة العبيد العامريين، وطوائف البربر، ومن تغيرت نفوسهم على محمد بن هشام، وحاصر الثوار محمد بن هشام في قصره، فبعث إلى هشام القاضي ابن ذكوان، وأبا عمر بن حزم، يعاتبانه على تصرفته، وأمر بالإفراج عن سليمان بن هشام، ووقع بين الرسولين وبين هشام حوار شديد، أعلن فيه أنه أحق من محمد بالعرش، فانصرفا عنه. والتفت العامة من الربض الغربي حول محمد؛ وخرج محمد المهدي في جموعه لمقاتلة خصومه، ودار القتال بينهما يومين متواليين، ثم أسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، وأسر هشام وابنه وأخوه أبو بكر ونفر من الزعماء، قتلهم المهدي جميعاً (1). وانثالت الدهماء على دور البربر، فأعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في أواخر شوال سنة 399 هـ (يونيه سنة 1009 م).
ودافع البربر عن أنفسهم، ثم انسحب معظمهم إلى أرملاط (2) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتك العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فأصدر للبربر أماناً، ونادى بالكف عنهم، ونصحهم بتغيير زيهم اتقاء
_______
(1) البيان المغرب عن ابن حيان ج 3 ص 84.
(2) وهي بالإسبانية Guadimellato(1/645)
الأذى، وكتب إلى البربر في أرملاط أماناً، فم يلتفتوا إليه، وغادروا أرملاط وساروا شمالا إلى قلعة رباح، وهناك أخذوا ينظمون أنفسهم ويتدبرون أمرهم.
وكان ممن فر من بني أمية عقب هزيمة هشام بن سليمان ومصرعه، ولد أخيه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان إماماً للبربر، فسار معهم، ورشحوه منذ البداية لتولي الأمر مكان المهدي، ولقبوه بالمستعين. وكان سانشو غرسية أمير قشتالة يرقب تطور الحوادث في قرطبة باهتمام، متأهباً لمظاهرة الفريق الخارج على الآخر، ففاوضه سليمان وزعماء البربر في طليطلة على أن يمدهم بالجند، وتعهدوا إليه بتسليم بعض الحصون الواقعة على الحدود، فقبل معاونتهم؛ وفي أثناء ذلك حاول الفتى واضح صاحب مدينة سالم أن يعرقل مسير البربر، فأمر مدن الثغر أن تمنع المؤن عن البربر، ولقوا من جراء ذلك شدة وإرهاقاً. وأمده المهدي ببعض قواته بصحبة غلامه بليق، فجمع جموعه وسار لقتال البربر، ولجأ البربر من جانبهم إلى حليفهم سانشو، فأمدهم بالجند والمؤن الوفيرة. والتقى البربر وجيش واضح في مكان يسمى شرنبة على مقربة من قلعة النهر أو قلعة هنارس الحالية Alcala de Henares فهزم واضح هزيمة شنيعة، واستولى البربر على محلته وسلاحه، وفرت فلوله صوب قرطبة. وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 399 هـ (1).
وارتاع المهدي لتلك الهزيمة، وأخذ في تحصين قرطبة، وحفر حول فحص السرادق، وهو محلة البربر خندقاً، ورتب الرجال على الأبواب والأسوار، وأخذ ينظم قواته النظامية ومن العامة. وكان واضح قد أتاه منهزماً في أربعمائة فارس من الثغر، انضمت إلى قواته. وسار سليمان بن الحكم من جهة أخرى في جموع البربر، ومعها القوات القشتالية بقيادة سانشو غرسية، صوب قرطبة، وعسكروا بشرقها في سفح جبل يعرف بجبل قنتج أو قنتش وذلك في يوم 11 ربيع الأول سنة 400 هـ. وبرز واضح في جموعه من أهل قرطبة والثغر، واشتبك الفريقان في القتال يوم السبت 13 ربيع الأول (5 نوفمبر 1009 م)، واضطرمت بينهما معركة شديدة، وسرعان ما دب الخلل إلى جيش قرطبة، فارتد منهزماً إلى الوادي، وتبعه البربر بعنف. فضاقت بهم المسالك، وقتل منهم عدد جم
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 87.(1/646)
يقدره البعض بعشرة آلاف، بينهم عدد كبير من العلماء والأئمة، وقتل النصارى وحدهم نيفاً وثلاثة آلاف رجل، وثبت واضح في رجاله حتى دخل الليل، فانسل تحت جنح الظلام وفر هارباً إلى الثغر (1).
ولما رأى المهدي هزيمة جنده، سقط في يده، وحاول أن ينقذ نفسه بحيلة سخيفة، يدفع بها دعوى سليمان، فأظهر الخليفة هشاماً المؤيد، وكان قد أخفاه حسبما تقدم، وزعم أنه مات، وأجلسه في مكان بارز في شرفة القصر، وبعث القاضي ابن ذكوان إلى البربر، يخبرهم أن الخليفة هشاماً ما زال على قيد الحياة، وأنه الإمام الشرعي، وليس المهدي سوى نائبه وصاحبه، فرده البربر بجفاء وسخرية، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان. ولم ير المهدي أمامه سوى الفرار والنجاة بحياته، فغادر القصر سراً، واخترق قرطبة متنكراً، ولحق بطليطلة. ودخل زاوي بن زيري زعيم البربر القصر، ودخل سليمان بن الحكم في أثره في يوم الإثنين الخامس عشر من ربيع الأول سنة أربعمائة، وبايعه الناس بالخلافة، وتلقب بالمستعين بالله، واستقبله الشعب القرطبي القُلَّب بحماسة، شأنه مع كل متغلب وظافر (2). ووكل سليمان بعض الفتيان الصقالبة بالمحافظة على هشام المؤيد في بعض أجنحة القصر، ونزل البربر في الزهراء اتقاء للاحتكاك مع العامة. ومع ذلك فقد كانت حوادث الاعتداء تتوالى عليهم في دروب قرطبة وأزقتها. وكان من أول أعمال سليمان أن أمر بإنزال جثة عبد الرحمن بن المنصور عن خشبتها، فغسلت ودفن في دار أبيه؛ ووفد سانشو غرسية إلى القصر، فاستقبل بحفاوة وخلع عليه وعلى أصحابه، ثم عاد إلى معسكره، ووعده البربر بتسليم الحصون التي تعهدوا بتسليمها متى استقر سلطانهم، ثم غادر قرطبة بعد أن ترك من جنده مائة أنزلوا في ربض منية العقاب.
أما محمد المهدي فما كاد يصل إلى طليطلة، حتى أخذ يدبر أمره من جديد، وكانت الثغور ما تزال باقية على طاعته ودعوته، وانضم إليه واضح وأخذ الأمر ييده. ولما علم سليمان بما يدبره المهدي وواضح، خرج في قواته من قرطبة،
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 90؛ ويقول ابن الخطيب إن النصارى قتلوا من أهل قرطبة ثلاثين ألفاً، وهو رقم يحمل طابع المبالغة (أعمال الأعلام ص 113).
(2) الذخيرة لابن بسام. المجلد الأول القسم الأول، ص 30 و31؛ والبيان المغرب ج 3 ص 89 و90.(1/647)
وسار صوب طليطلة، ثم دعا أهلها إلى طاعته، فأبوا. وانصرف سليمان بقواته إلى مدينة سالم، فلقي نفس الفشل في استمالة أهلها، فارتد عندئذ إلى قرطبة اتقاء لأهوال الشتاء (أواخر شعبان سنة 400 هـ). وفي خلال ذلك كله كان الفتى واضح قد سار إلى طرطوشة من ثغور الثغر الأعلى، واتصل بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل وزميله أمير أورقلة الكونت أرمنجو، واتفق معهما على أن يمداه بجيش لمقاتلة البربر في قرطبة، فقبلا معاونته بشروط باهظة، من تقديم الطعام والشراب، وأن يتناول كل منهما في اليوم مائة دينار، وأن يتناول كل جندي دينارين في اليوم، وأن يستولي الجند النصارى على ما يغنمونه من سلاح البربر وأموالهم، وأخيراً أن يستولوا على مدينة سالم، وقد احتلوها بالفعل في طريقهم إلى طليطلة، بعد أن أخلاها واضح من المسلمين (1).
وسار الجيش الفرنجي برفقة واضح إلى طليطلة، حيث انضم إليه المهدي في قواته، وسارت القوات المتحدة صوب قرطبة. وكان سليمان المستعين قد وقف على أهبة خصومه، ووفرة القوات الزاحفة عليه، فاستنفر الناس لنصرته، فلقيت دعوته فتوراً، فحشد ما استطاع من جموعه، وخرج مع البربر لملاقاة خصومه. وكان اللقاء على قيد نحو عشرين كيلومتراً من شمالي قرطبة في مكان يعرف " بعقبة البقر "، وذلك في منتصف شوال سنة 400 هـ (أواخر مايو سنة 1010 م)، واحتل البربر بقيادة زعيمهم زاوي بن زيري المقدمة، ورابط سليمان بقواته في المؤخرة. واقتتل البربر مع الفرنج قتالا شديداً، قتل فيه كثير منهم، وفي مقدمتهم الكونت أرمنجو (وتسميه الرواية العربية أرمقند)، ولكن جانباً من فرسان الفرنج اخترقوا صفوف البربر، فظن سليمان أن الهزيمة وقعت بهم فارتد منهزماً وكشف بذلك مؤخرة البربر، فلما رأى البربر فرار سليمان بقواته، ارتدوا لفورهم نحو الزهراء، فأخذوا أهلهم وأموالهم وغادروها إلى الجنوب مسرعين، وفر سليمان في بقية من صحبه شرقاً صوب شاطبة. وفي اليوم التالي دخل واضح ومحمد المهدي قرطبة، وجدد المهدي البيعة لنفسه وعين واضحاً لحجابته (2).
واعتزم المهدي أن يقضي على البربر قبل أن يعودوا لمقارعته. فجمع الأموال
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 94.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 94 و95؛ والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 32.(1/648)
من أهل قرطبة، وأعطى الفرنج أعطياتهم، وحشد كل ما استطاع من قواته، وخرج لمطاردة البربر. وكان البربر قد وصلوا عندئذ إلى " وادي آره " أو وادي يارو (1). على مقربة من مربلة في طريقهم إلى الجزيرة الخضراء. وكان جيش المهدي يتكون من نحو ثلاثين ألف من المسلمين، وتسعة آلاف من الفرنج.
وهناك التقى الجمعان، واشتبكا في معركة طاحنة، دارت فيها الهزيمة على المهدي وحلفائه، وقتل من الفرنج نحو ثلاثة آلاف، وغرق منهم عدد جم، واستولى البربر على كثير من أسلحتهم وخيلهم ومتاعهم (2)، ووقعت هذه الموقعة، في شهر ذي القعدة سنة 400 هـ (يونيه 1010 م)، وعلى أثرها ارتد المهدي إلى قرطبة، وهنالك غادره حلفاؤه النصارى عائدين إلى بلادهم. وسار البربر جنوباً إلى ناحية ريُّه، وهنالك لحق بهم سليمان المستعين بمن معه. وأخذ الفريقان يدبران معاً استئناف الصراع للاستيلاء على قرطبة.
وعكف المهدي على تحصين قرطبة، وحفر حولها خندقاً، أقيم وراءه سور، وأخذ يستعد للدفاع، ويحشد الجند توقعاً لمعاودة البربر الكرة. وكانت جموع من البربر في أثناء ذلك تغير على نواحي قرطبة من آن لآخر. وفي أثناء ذلك كان واضح قد ضاق ذرعاً بتصرفات المهدي وحماقاته، وسوء خلقه من عكوف على الشراب والمجون. وكان الفتيان العامريون وفي مقدمتهم واضح جميعاً ينقمون على المهدي ما فعله بهشام المؤيد، وبني عامر، وكان قد وصل إلى قرطبة جملة منهم من شاطبة، وفيهم بعض الفتيان البارزين مثل خيران وعنبر، فأتمروا على الغدر بالمهدي، وأخرجوا هشاماً من محبسه بالقصر، وأجلسوه للخلافة ونادوا بولايته، وأتوا بالمهدي بين يديه، فضرب عنقه، واحتز رأسه، وألقى بجسده من أعلى السطح، ورفعوا رأسه على قناة طيف بها في الشوارع، ووقعت هذه الجريمة في الثامن من ذي الحجة سنة 400 هـ (23 يوليه 1010 م) (3).
وهكذا استرد هشام المؤيد الخلافة، بعد سلسلة من الخطوب والأحداث المثيرة، وكان يومئذ كهلا في نحو السابعة والأربعين من عمره، وكان قد مضى
_______
(1) وبالإسبانية Guadiaro
(2) البيان المغرب ج 3 ص 96؛ وأعمال الأعلام ص 113.
(3) ابن خلدون ج 4 ص 150؛ وابن الأثير ج 8 ص 226؛ والذخيرة القسم الأول، المجلد الأول ص 32؛ والبيان المغرب ج 3 ص 96 و99 و100.(1/649)
عليه مذ ولى الخلافة صبياً لأول مرة أربعة وثلاثون عاماً، وفي تلك الفترة شهدت الأندلس طائفة من الأحداث الجسام، لم تشهد مثلها من قبل: شهدت قيام الحاجب المنصور ودولته العامرية، واختفاء سلطة الخلافة، في ظل نظام الطغيان المرهق الذي فرضه بنو عامر، ثم شهدت الثورة الغامرة التي أطاحت بالدولة العامرية وعود الخلافة الأموية في ثوبها الباهت المهلهل، على يد مغامرين مثل محمد بن هشام المهدي، وسليمان المستعين، وشهدت وفاة هشام المزعومة، ثم بعثه، وعوده إلى تولي الخلافة، شبحاً من أشباح الماضي، وألعوبة في يد واضح وزملائه الفتيان العامريين، أصحاب الحول والسلطان، بعد ابتعاد البربر ومصرع المهدي.
وتولى واضح بالطبع منصب الحجابة للخليفة الذي اصطنعه، وسكنت الفتنة، وهدأت الخواطر نوعاً، وبعث الخليفة برأس المهدي إلى سليمان المستعين وحلفائه البربر، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته، وأخذ يظهر في شوارع قرطبة خلافاً لما كان عليه فيما مضى، إظهاراً لهيبة الخلافة وسلطانها. ولكن البربر لم يقبلوا دعوته، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان، وكان البربر في الواقع يضطرمون حقداً على أهل قرطبة لما أصابهم منهم من أنواع النكال، ويزمعون الانتقام منهم بكل وسيلة. وحاول سليمان والبربر أن يحصلوا مرة أخرى على معاونة سانشو غرسية أمير قشتالة، وعرضوا أن يسلموه سائر الحصون الأمامية التي افتتحها الحكم والمنصور، إذا ارتضى محالفتهم ومعاونتهم على استعادة قرطبة، وخلع المؤيد، ولكن سانشو لم يصغ إليهم في تلك المرة، معتزماً أن يوجه مطالبه إلى الخليفة القائم. وعندئذ عول البربر على السير إلى قرطبة، فسارت جموعهم حتى وصلت إلى الزهراء غربي قرطبة، فهاجموها وقتلوا معظم الجند الذين بها، واحتلوها وذلك في شهر ربيع الأول سنة 401هـ (نوفمبر سنة 1010 م)، واستمروا بها بضعة أشهر حتى أواخر شعبان من تلك السنة، ثم زحفت جموعهم على أرباض قرطبة، يعيثون فيها تخريباً ونهباً وقتلا، ويجتنبون الاشتباك مع جند واضح، وضج أهل قرطبة لهذا الاعتداء، وزادت نفوسهم حقداً على البربر، وتحرقاً للانتقام منهم، وانتشرت جموع البربر في نفس الوقت جنوباً، حتى وصلت إلى أحواز غرناطة ومالقة وهي تنشر الخراب والدمار أينما حلت.(1/650)
وفي تلك الأثناء وصل سفراء سانشو غرسية أمير قشتالة إلى قرطبة، يطالبون بالحصون الواقعة على الحدود، والتي افتتحها المسلمون منذ أيام الحكم حتى نهاية عهد بني عامر. ولم ير هشام وواضح بداً من إجابة سانشو إلى طلبه، اتقاء لعدوانه من جهة، واتقاء لتحالفه مع البربر من جهة أخرى. وعقد مجلس من الفقهاء والقضاة، وكتب محضر رسمي بتسليم عدد كبير من الحصون إلى النصارى، يقال إنها أربت على المائتين (1)، ومنها معاقل هامة، كانت قواعد أمامية للمسلمين، مثل شنت إشتيبن، وقلونية، وأوسمة، وغرماج وغيرها، وخسرت الأندلس بذلك خط دفاعها الأول، وتركت حدودها الأمامية مفتوحة لغزوات النصارى.
واستمر البربر على حصارهم لقرطبة، وعيثهم في أرباضها الخارجية، وكانت الحالة تسوء من يوم إلى يوم، وكان الناس في قرطبة، جيشاً وشعباً، يزمعون مقارعة البربر، والقضاء عليهم بكل ما وسعوا، ويرفضون كل رأي أو مسعى يتجه إلى مسالمتهم أو التفاهم معهم، ولم يجد المؤيد وواضح بداً من الانسياق مع التيار العام، واتخاذ كل وسيلة ممكنة للدفاع عن المدينة، ولكن الموارد كانت تقل يوماً عن يوم، حتى اضطر المؤيد إلى إخراج سائر نفائس القصر وتحفه ورياشه، ليقتني بثمنها الخيل والسلاح، وفضلا عن ذلك فقد أرهق القرطبيون بالمطالب والمغارم حتى ضاقوا ذرعاً؛ وأخيراً شعر واضح بأنه يواجه حالة مستحيلة، واعتزم أن يغادر قرطبة سراً، إلى بعض نواحي الثغر، ولكن بعض أكابر الجند وقفوا على مشروعه، فنهض أحدهم، وهو على بن وداعة مع نفر من زملائه، فعاتبوه على ما بدد من الأموال، وما أساء من تصرف، ثم قتلوه واحتزوا رأسه، وطيف بها في الشوارع، ونهبت دوره ودور أصحابه، فوجد بها مال كثير معبأ كان يعتزم الفرار به. وهكذا كفر واضح بدمه عن جريمته في اغتيال المهدي، وهكذا أضحت الجريمة وسيلة ذائعة في بلاط قرطبة، لاقتناص السلطان أو التخلص من صاحبه (2).
وعلى أثر ذلك ولى المؤيد ابن وداعة شرطة المدينة، فاستعمل الحزم والشدة، في قمع الشغب وصون النظام والأمن، فهابته العامة، وقلت حوادث الشغب، وتولى تدبير الأمور للمؤيد رجل من موالي العامريين يسمى ابن مناو؛ ثم جاءت
_______
(1) أعمال الأعلام ص 117.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 103 و104؛ وأعمال الأعلام ص 117 و118.(1/651)
إلى قرطبة كتب من أهل الثغور يعتذرون فيها عن عجزهم عن إرسال الأمداد، وينصحون المؤيد إما بمصالحة البربر، أو التفاوض مع أمير قشتالة؛ فكتب هشام إلى زاوي بن زيري يحثه على عقد الصلح، ويعده بما شاء من مال أو ولاية، فرد زاوي بأنه لايستطيع مخالفة أصحابه، وأنه مع ذلك لايدخر وسعاً في العمل لتأليف كلمة المسلمين وحقن الدماء (1).
ثم بذلت محاولة مماثلة لدى سليمان بن الحكم والبربر، إذ كتب أهل قرطبة على لسان هشام وابن مناو كتابين، وجه أحدهما من هشام إلى سليمان، وفيه يرجو العمل على إخماد الفتنة، وتسليم الأمر إليه، وعلى أن يغدو سليمان ولي عهده والقائم بأعباء الخلافة عنه، ووجه الثاني من وزراء قرطبة إلى وزراء البربر، فلم يحفل سليمان بكتاب هشام، وقال للرسل بل إنه هو أمير المؤمنين والخليفة، وأنه لا يعترف لهشام بصفة ما.
كل ذلك والأمر يشتد على أهل قرطبة. ودخل الوزراء ووجوه الجند والفتيان على هشام، وكشفوا له خطورة الحالة، واشتداد ضغط البربر على المدينة وأرباضها، وتفاقم الضيق والغلاء، وقصور الثغور عن إنجاد المدينة، وكون الشعب منقسم على نفسه ما بين راغب في الكفاح، وراغب في الصلح، فبكى هشام فيما قيل، واعتذر لعجزه وقصوره، وقال لهم افعلوا ما ترون.
وعجل باضطرام النار حادث وقع في آخر ذي الحجة سنة 402 هـ، إذ تقدم جماعة من وجوه البربر وفي مقدمتهم حباسة بن ماكسن ابن أخي زاوي، وكان من أشجع قادة البربر، ومعه جماعة قليلة من الفرسان، ونزلوا في بقعة قريبة من الأسوار، فرآهم أهل قرطبة من وراء الخندق، فاجتمع منهم عدد عظيم، وانقضوا على حباسة وصحبه، فدافعوا عن أنفسهم دفاعاً عظيماً، ولكنهم غلبوا في النهاية على أمرهم، وأسر حباسة، فلما عرفه القوم قتلوه بوحشية، وقطعوا جسده إرباً لعظيم حقدهم عليه، ولما قاسوه من شدة قتاله ونكايته، فلما وقف أخوه حبوس وعمه زاوي على الخبر، اضطرب البربر، واستعدوا للقتال، وفي اليوم التالي اشتبكوا مع أهل قرطبة في عدة معارك، وفتكوا بكثير منهم،
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 107 و108.(1/652)
واستمرت المعارك من ذلك الحين بين الفريقين سجالا، وأهل قرطبة يخرجون من المدينة مرة بعد أخرى، ويقاتلون البربر محاولين تحطيم الحصار المرهق، والبربر من جانبهم ينزلون بهم أشد الضربات، وفي 26 شوال سنة 403 هـ (مايو سنة 1013 م) نشبت بين الفريقين معركة عامة، وقاتل أهل قرطبة قتالا شديداً، ولكنهم هزموا بعد معارك طاحنة، وقتل منهم عدد جم، وساد الاضطراب أرجاء المدينة، وفتحت أبوابها؛ وخرج القاضي ابن ذكوان مع جماعة من الفقهاء وساروا إلى معسكر البربر، وطلبوا الأمان من سليمان وزعماء القبائل البربرية، فمنح الأمان لقاء مبالغ عظيمة فرضت على المدينة، ودخل البربر المدينة دخول الوحوش المفترسة، فقتلوا كثيراً من سكانها، ولم يفروا الأطفال والشيوخ، وأوقعوا بها السلب والنهب، وأحرقوا الدور، واغتصبوا النساء والبنات، وارتكبوا أشنع ضروب السفك والإثم، وكانت محنة من أروع ما قاسته عاصمة الخلافة.
وفي اليوم التالي دخل سليمان المستعين قصر قرطبة، واستدعى هشاماً المؤيد وعنفه على موقفه، فاعتذر بأنه مغلوب على أمره. وهنا تختلف الرواية في مصير هشام، فالبعض يقول إن سليمان أخفاه حيناً، ثم قتله ولده محمد بن سليمان، والبعض الآخر بأنه فر من محبسه، وقصد إلى ألمرية حيث عاش حيناً في خمول وبؤس حتى توفي. بيد أننا نرجح الرواية الأولى، وإن كان اسم هشام سوف يظهر بعد ذلك على مسرح الحوادث. (1)
ولما استتب الأمر لسليمان، وهدأت الخواطر نوعاً، تلقب بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين، وانتقل إلى مدينة الزهراء بحاشيته وقواد البربر وجندهم، فاحتلوها وما حولها، ونزل علي والقاسم ابنا حمود قائدا فرقة العلوية بشقندة ضاحية قرطبة، وأخذ سليمان ينظم شئون الحكومة المضطربة. وكانت الفوضى قد سرت إلى جميع النواحي، وتفككت عرى الدولة، وقصر نفوذ الحكومة إلا عن قرطبة وما يجاورها، وقبض البربر الذين رفعوا سليمان إلى العرش، على السلطة الحقيقية، فتولوا مناصب الحجابة والوزارة، وسائر المناصب الهامة؛ ورأى سليمان إرضاء لهم من جهة، وإبعاداً عن قرطبة من جهة أخرى،
_______
(1) راجع في سقوط قرطبة ومصير هشام، ابن خلدون ج 4 ص 151؛ وابن الأثير، ج 9 ص 75 والمراكشي ص 22 - 25؛ وأبو الفدا ج 2 ص 139؛ والبيان المغرب ج 3 ص 112 و113؛ وأعمال الأعلام ص 118 - 120.(1/653)
يقطعهم كور الأندلس، وكانوا ست قبائل رئيسية، فأعطى قبيلة صنهاجة وزعماؤها بني زيري، ولاية البيرة (غرناطة)، وأعطى مغراوة جوفي البلاد، وبني برزال وبني يفرن ولاية جيان ومتعلقاتها، وبني دُمَّر وازداجة منطقة شذونة ومورور؛ وأقر المنذر بن يحيى التجيبي على ولاية سرقسطة والثغر الأعلى، وكان قد انضم إلى سليمان، وحارب مع البربر من أجل قضيته، وولى بني حمود الأدارسة ثغور المغرب، فولى علياً بن حمود على ثغر سبتة، وأخاه القاسم بن حمود على ثغور الجزيرة الخضراء، وطنجة وأصيلا، وهكذا سيطر البربر على ولايات الأندلس الجنوبية والوسطى، وأخذوا يحتلون في شئونها مكانة لها خطرها (1).
وكان الفتيان العامريون لما رأوا غلبة البربر على حكومة قرطبة الجديدة، قد توجسوا من غدرهم، وفر معظمهم إلى شرقي الأندلس، بعيداً عن سلطان الحكومة المركزية، وأنشأوا هنالك في القواعد الشرقية، حكومات محلية حسبما نذكر بعد.
وقضى سليمان المستعين في الحكم للمرة الثانية نحو ثلاثة أعوام، استمرت خلالها حال الاضطراب والفوضى في قرطبة وسائر أنحاء الأندلس. ولم تهدأ الخواطر ولم تطمئن النفوس. وغلب سلطان البربر، واشتد طغيانهم وتحكمهم، ولبثت الأهواء المتوثبة تجيش في صدور الطامعين من زعمائهم، حتى تمخضت غير بعيد عن انقلاب جديد في مصاير الخلافة.
وكان من أبرز صفات سليمان، مواهبه الأدبية الرفيعة، فقد كان أديباً متمكناً، وشاعراً مطبوعاً، قال فيه ابن بسام إنه " أحد من شَرُف الشعر باسمه، وتصرف على حكمه " وأورد له القصيدة الآتية، وهي الوحيدة التي عثر بها من نظمه، وفيها يعارض قطعة الرشيد " ملك الثلاث الآنسات عناني " وفيها تبدو براعته ورقة خياله:
عجباً يهاب الليث حد سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
فأقارع الأهوال لا متهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لُحن لناظري ..
. من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال، وتلك بنت المشترى ... حسناً وهذي أخت غصن البان
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 113 - 115؛ وأعمال الأعلام ص 119.(1/654)
حاكمت فيهن السلو إلى الصبا ... فقضى بسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ..
. في عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذل الهوى عزٌّ وملك ثاني
ما ضر أني عبدهن صبابة ... وبنو الزمان وهن من عبداني
إن لم أصغ فيهن سلطان الهوى ... كلفاً بهن فلست من مروان
وإذا الكريم أحب أمَّن إلفه ... خطب القلى وحوادث السلوان
وإذا تجارى في الهوى أهل الهوى ... عاش الهوى في غبطة وأمان (1)
_______
(1) ابن بسام في الذخيرة. المجلد الأول القسم الأول ص 33 و34؛ والمراكشي ص 25.(1/655)
الفصل الثاني
دولة بني حمُّود
ظهور البربر في الميدان. علي والقاسم ابنا حمود. بنو حمود ونسبتهم. ولاية الثغور بين البربر والفتيان العامريين. استيلاء البربر على قرطبة باسم سليمان. خيران العامرى ينتزع ألمرية ويدعو للمؤيد. علي بن حمود يزعم أنه تلقى ولاية العهد من هشام. تحالفه مع خيران وعبوره إلى الجزيرة. مسير القوات المتحالفة إلى قرطبة. القتال بينها وبين البربر. هزيمة البربر وسليمان. علي بن حمود يدخل القصر. اشتداده في معاملة البربر. خيران يخرج عليه ويدعو لعبد الرحمن المرتضى. انضمام الثغور الشرقية وسرقسطة لهذه الدعوة. القتال بين المرتضى وصنهاجة. انتصار البربر ومقتل المرتضى. اضطهاد علي لأهل قرطبة. مصرعه. أخوه القاسم يخلفه. جنوحه إلى سياسة اللين والتفاهم. غلبة البربر عليه. خروج يحيى بن علي واستيلاؤه على الخلافة. التجاء القاسم إلى إشبيلية. خلع المعتلي وعود القاسم. اصطفاؤه للبربر. سخط أهل قرطبة. محاربتهم وهزيمتهم للبربر. مسير القاسم إلى إشبيلية ثم إلى شريش. يحيى المعتلي يطارده ويأسره. إستقرار المعتلي في الثغور الجنوبية. رد الأمر لبني أمية. خلافة عبد الرحمن المستظهر. وصف ابن حيان لبلاطه. عطفه على البربر. فتك القرطبيين بهم. فرار المستظهر ومصرعه. خلافة المستكفي. إضطهاده للزعماء. خلعه وفراره. يحيى بن حمود يحتل قرطبة. فتك القرطبيين بالحامية البربرية. رد الأمر لبني أمية. بيعة هشام المعتد بالله. وزيره حكم بن سعيد. سوء مسلكه ومصرعه. خلع هشام ومصيره. الإجماع على إبطال الخلافة والتخلص من بني أمية. استيلاء يحيى المعتلي على قرمونة. الحرب بينه وبين ابن عباد. هزيمة يحيى ومصرعه. خلافة إدريس المتأيد بالله. غزو إدريس وحلفائه لأحواز إشبيلية. الحرب بين زهير العامري وباديس أمير غرناطة. مصرع زهير. الحرب بين ابن عباد والبربر. هزيمة ابن عباد ومقتل ولده إسماعيل. وفاة إدريس وخلافة ولده يحيى. خروج حسن بن يحيى ومبايعته بالخلافة. مقتل الوزير ابن بقنه. مصرع حسن. محاولة الحاجب نجا ومصرعه. خلافة إدريس العالي. الثورة عليه وخلعه. خلافة محمد بن إدريس المهدي. طغيانه والسخط عليه. مصرعه. خلافة إدريس السامي. عودة إدريس العالي. خلافة المستعلي. إستيلاء باديس على مالقة. حكومة بني القاسم بن حمود بالجزيرة. إستيلاء ابن عباد على الجزيرة. إنقراض دولة بني حمود. تفكك الأندلس وانقسامها.
لما قضي على دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى أيام الحكم المستنصر، ثم بعد ذلك أيام المنصور بن أبي عامر، وأصبح المغرب ولاية أندلسية تخضع لحكومة قرطبة، تفرق كثير من زعمائه في مختلف الجهات، ولاذوا بالاختفاء، بعيداً عن بطش السلطة الجديدة، وأخذوا يرقبون الفرص لاستعادة سلطانهم؛ وهاجر(1/656)
عدد كبير منهم إلى الأندلس، من البربر والمغاربة، وانضووا تحت لواء الدولة العامرية في أواخر عهدها، وعاونوا في توطيد سلطانها وتدعيم جيشها.
ولما انهارت الدولة العامرية، وعم الاضطراب والفوضى في قرطبة، ظهر البربر طرفاً بارزاً من أطراف المعركة، التي اضطرمت حول السلطان والخلافة؛ ولما نجح بنو أمية في تحقيق ضربتهم الأولى على يد محمد بن هشام المهدي، انحاز البربر للفريق المعارض، لما نالهم من مطاردته واضطهاده، وكانت الخصومة تضطرم في الواقع منذ بعيد بين الأمويين والبربر، لاعتقاد الأمويين أن البربر كانوا أكبر عضد للمنصور، في اغتصاب السلطة والقضاء على سلطان بني أمية. ولما فشل البربر في محاولتهم الأولى للقضاء على رياسة المهدي، التفوا حول خصيمه سليمان المستعين، ليكون مرشحهم الشرعي، ووسيلتهم إلى انتزاع السلطة، وانتهى الصراع بين الفريقين، آخر الأمر بانتصار البربر، واستيلاء مرشحهم سليمان على الخلافة، وحصولهم على نصيبهم من أسلاب السلطة،، بتولي رياسة الولايات والثغور الجنوبية.
وكان من بين الزعماء المغاربة، الذين قادوا جموع البربر في معركة قرطبة المظفرة، رجلان من عقب الأدارسة، هما علي والقاسم ابنا حمُّود بن ميمون ابن حمود. ونحن نعرف أن الأدارسة يرجعون نسبتهم إلى الحسن بن علي بن أبى طالب؛ وإذاً، فقد كان علي والقاسم، وفقاً لهذا القول، علويين من سلالة آل البيت. وهذا ما يقوله العلامة النسابة ابن حزم، إذ يرجع نسبة علي والقاسم، إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (1)، ويقوله أيضاً عبد الواحد المراكشي وابن عذارى، وابن الخطيب (2).
بيد أنه بالرغم من هذه النسبة العلوية، وهذه الأرومة العربية العريقة، التي ينتحلها بنو حمود، فإنهم، إذا تركنا مسألة النسبة والسلالة جانباً، كانوا ينتمون في الواقع من حيث النشأة والعصبية والمصير، إلى البربر، وكان الطابع البربري غالباً عليهم، حتى أنهم لم يكونوا يتكلمون العربية، وإنما كانوا يتكلمون باللهجة البربرية، وقد أشار ابن الخطيب إلى ذلك في حديثه عن علي بن حمود (3).
_______
(1) راجع جمهرة أنساب العرب (القاهرة) ص 43 و44.
(2) المراكشي في المعجب ص 24؛ وابن عذارى في البيان المغرب ج 3 ص 119؛ وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 128.
(3) أعمال الأعلام ص 121.(1/657)
وقد رأينا أن سليمان المستعين حينما استرد الخلافة، عقب انتصار البربر على أهل قرطبة، خص علياً والقاسم، بولاية الثغور المغربية، وندب علياً لحكم سبتة، وندب القاسم لحكم الجزيرة الخضراء وطنجة وأصيلا، وذلك في أوائل سنة 404 هـ (1013 م).
وفي الوقت الذي استولى فيه البربر، على الولايات والثغور الجنوبية، كان الفتيان العامريون, منذ اضطرام الفتنة، قد استقروا بشرقي الأندلس، واستولى كثير منهم على الثغور الشرقية، وفي مقدمتهم مجاهد الذي استولى على دانية والجزائر الشرقية فيما بعد، وخيران، الذي استولى على ألمرية ومرسية. وكان خيران حينما استولى محمد بن هشام المهدي على الخلافة للمرة الثانية، بمؤازرة واضح والجند النصارى، وتولى واضح منصب حجابته، قد عاد إلى قرطبة مع نفر من الفتيان العامريين، وانضموا إلى واضح، ثم اشتركوا معه في تدبير اغتيال المهدي، وإعادة هشام المؤيد إلى كرسي الخلافة حسبما تقدم. وكان أولئك الفتيان يعتبرون هشاماً إمام دولتهم بعد ذهاب المنصور. فلما قتل واضح واستولى البربر على قرطبة، وانتزع سليمان المستعين الخلافة من هشام المؤيد، غادر خيران ومعه عدة كبيرة من الفتيان قرطبة، اتقاء بطش البربر، وسار إلى شرقي الأندلس، وانضم إليه حال سيره كثير من الناقمين من بني أمية وغيرهم، ثم زحف على ألمرية، وكانت بيد أفلح الصقلبي، فانتزعها منه، واستولى على كثير من الأماكن المجاورة، واشتد بأسه في تلك الناحية، ودعا لهشام المؤيد.
وكان تمزق الأندلس على تلك الصورة، وانتثار السلطة، بين الأمويين والبربر، والفتيان العامريين، مما يفسح المجال لأطماع الطامعين والمتغلبين، وكانت تلك الأطماع تجيش في الواقع، في صدور أولئك الذين رأوا في ضعف السلطة المركزية، وذيوع الخلاف والفوضى، فرصة يمكن انتهازها. وكان علي ابن حمُّود الحسني، قد ولي حكم سبتة، وولي أخوه الأكبر القاسم، حكم الجزيرة الخضراء، لا يفصلهما سوى مضيق جبل طارق. وكان علي يطمح إلى أكثر من حكم مدينة، ويتطلع إلى الوثوب بحكومة قرطبة المضطربة المتداعية. وكان يرى في الفتيان العامريين خصوم سليمان المستعين حلفاءه الطبيعيين، فكاتب كبيرهم خيران صاحب ألمرية، وأظهر كتاباً زعم أنه تلقاه من الخليفة هشام المؤيد يوليه(1/658)
فيه ولاية عهده، ويطلب إليه أن ينقذه من أسر البربر وسليمان؛ ويقول لنا ابن حيان، إن هشاماً المؤيد لما رأى اضطراب أمره وتصرم دولته، قد منح علي ابن حمود ولاية عهده، وأوصى إليه بالخلافة من بعده، وأرسل إليه ذلك بسبتة سراً، وولاه طلب دمه، واستكتمه السر حتى يحين الأوان لذلك (1).
فذاعت دعوة علي، ولباها بعض حكام الثغور الجنوبية مثل، عامر بن فتوح الفائقي مولى الحكم المستنصر ووزير ولده المؤيد، وكان يومئذ حاكماً لمالقة.
وكتب إليه خيران أن يعبر إليهم. فعبر علي من سبتة إلى الجزيرة الخضراء في أواخر سنة 406 هـ (1016 م) وسار في أشياعه من البربر إلى مالقة، فسلمها إليه عامر ابن فتوح، ودعا له بولاية عهد المؤيد حال ظهوره حياً، وسار خيران في قواته والتقى بعلي في ثغر المنكب الصغير، ما بين مالقة وألمرية، فجمع الزعيمان قواتهما ونظما خطتهما للزحف على قرطبة، وبويع علي بن حمود على طاعة المؤيد. ثم سارت القوات المتحدة صوب قرطبة، وانضم إليها خلال السير زاوي بن زيري وحبوس الصنهاجي في قوة من بربر غرناطة. وكان سليمان المستعين، قد ترامت إليه أنباء أولئك الخوارج عليه، وزحفهم لقتاله، فخرج من قرطبة للقائهم في جند البربر، والتقى الفريقان في ظاهر قرطبة على قيد عشرة فراسخ منها، ونشبت بينهما معركة شديدة، انتهت بهزيمة سليمان، وقتل عدد جم من أنصاره، وكان سليمان وأبوه الحكم، وأخوه عبد الرحمن، بين الأسرى.
ودخل علي بن حمود قصر قرطبة في الثامن والعشرين من محرم سنة 407 هـ (أول يوليه سنة 1016 م) وبحث عن هشام المؤيد فلم يجده، وكان الاعتقاد سائداً بأن سليمان أخفاه ولم يقتله، فلما علم بأنه قُتِل، أتى بسليمان وأبيه وأخيه وقتلهم بنفسه انتقاماً للمؤيد. ثم أعلن وفاة المؤيد، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبويع بالخلافة وتلقب بالناصر لدين الله، وكانت مدة خلافة سليمان الثانية مذ دخل قرطبة إلى أن قتل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، وكانت أمه أم ولد تدعى ظبية ومولده في سنة 354 هـ (2).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 114 و116.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 116 و117 و119 ر 120، وابن خلدون ج 6 ص 221 وج 4 ص 153؛ والمراكشي ص 24؛ وأعمال الأعلام ص 129؛ ونفح الطيب ج 6 ص 224، وجذوة المقتبس ص 20.(1/659)
وهكذا اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة حتى نهاية عصر الخلافة مائتين وثمانية وستين عاماً، وانهارت دعائم الخلافة الأموية نهائياً، بعد أن لبثت منذ عهد هشام المؤيد أربعين عاماً، ستاراً للمتغلبين من بني عامر، ثم شبحاً هزيلا يضطرب في غمر الفتنة والفوضى.
ولما قبض علي بن حمود على زمام الحكم، اشتد في معاملة البربر، وإخماد تمردهم وشغبهم، وحماية السلطة المركزية من عدوانهم، فهابوه ولزموا السكينة، وقضى بمنتهى الشدة على كل نزعة إلى الخروج والعصيان، وفتك بالمعارضين له سواء في ذلك العرب والبربر، وأذل الزعماء واستأثر بالسلطة. وحاول من جهة أخرى أن يحسن معاملة القرطبيين، وأن يقيم العدل، ويقمع الفوضى، وكان من معاونيه في الحكم، جماعة من أولياء الخلافة السابقين مثل أبي الحزم بن جهور، وأحمد بن برد وغيرهما.
على أن الحوادث ما لبثت أن تطورت بسرعة. ذلك أن خيران العامري، لما دخل قرطبة مع علي بن حمود ولم يجد الخليفة هشاماً المؤيد على قيد الحياة، خشي سطوة الناصر وغدره، فغادر قرطبة، معلناً الخلاف، وسار إلى شرقي الأندلس حيث يحتشد معظم الزعماء العامريين وأنصارهم، وأعاد الدعوة لبني أمية في شخص مرشح جديد منهم، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن الناصر، باعتباره أصلح من بقي منهم، وكان قد فر خفية من قرطبة إلى جيان، فاستدعاه خيران وبايعه وجمع كبير من أصحابه بالخلافة، ولقبوه بالمرتضى، وانضم إليهم في تلك الحركة المنذر بن يحيى التجيبي والي سرقسطة والثغر الأعلى ومعه قوة من المرتزقة النصارى، وكذلك ولاة شاطبة وبلنسية وطرطوشة وألبونت وغيرها. وأعلن المرتضى الخلاف على الناصر، وسار في جموعه أولا إلى غرناطة ليحارب جيش صنهاجة القوي، فلقيه أميرها زاوي بن زيري في قواته ونشبت بينهما معركة طاحنة استمرت أياماً، وانتهت بهزيمة أهل الأندلس، ومقتل المرتضى، وتمزق جموعه، وسقوط معسكره في أيدي البربر. وفي رواية أخرى أن المرتضى استطاع الفرار ناجياً بحياته، فبعث خيران في أثره بعض أعوانه فقتلوه على مقربة من وادي آش، وحملوا رأسه إلى خيران. وكان خيران والمنذر قد حقدا عليه لما رأيا من حدته وصرامة نفسه، وخشيا من غدره (1).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 127.(1/660)
وسار خيران والمنذر فيمن بقي من أصحابهما ولحقا بألمرية. وسار الإفرنج المرتزقة حلفاء المنذر إلى الشمال. قال ابن حيان " فحل بهذه الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبة أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم جمع بعد، وأقروا بالإدبار، وباؤوا بالصغار " واستطاع أخ للمرتضى، وهو أبو بكر هشام بن محمد، أن ينجوا من الموقعة، في بعض أصحابه إلى ألبونت، حيث دعا لنفسه بالخلافة، وأقام بها يرقب الحوادث (1).
وتغفل معظم الروايات الإسلامية تاريخ هذه الموقعة، ولكن الظاهر من سياق الحوادث، ومما ذكره صاحب البيان المغرب، أن سير المرتضى من شرقي الأندلس صوب قرطبة، كان في سنة 409 هـ (2)، وأن الموقعة حدثت في أواسط هذا العام، وفي خلافة القاسم بن حمود، بعد مقتل أخيه على حسب ما يجىء.
وكان علي بن حمود، حينما ترامت إليه أنباء خروج المرتضى ومسيره لقتاله، قد انقلب على أهل قرطبة خشية من غدرهم، ولما آنسه من ميلهم إلى المرتضى، وعاد فأطلق يد البربر، واشتد على أهل قرطبة، ونزع سلاحهم، واعتقل كثيراً من أعيانهم، وفي مقدمتهم وزيره أبو الحزم بن جهور، وصادر أموالهم، وهبت على القرطبيين ريح من الإرهاب والروع فلزموا السكينة حيناً (3).
ولكن القدر كان يتربص بعلي بن حمود، ذلك أنه بينما كان يتأهب لقتال خصومه، المجتمعين يومئذ في منطقة جيان حول راية المرتضى، إذ ائتمر به نفر من فتيان القصر الصقالبة من موالي بني أمية، وتسلل ثلاثة منهم إليه وهو في الحمام وقتلوه، وذلك في الثاني من ذي القعدة سنة 408 هـ (23 مارس سنة 1018 م)، وكان سنه وقت مقتله خمس وخمسون سنة، ولم يمكث في الخلافة سوى عام وتسعة أشهر.
فبعث زعماء زناتة إلى أخيه القاسم بنبأ موته، وكان يكبره ببضعة أعوام، وكان يومئذ والياً لإشبيلية، فحضر مسرعاً، وبويع بالخلافة في الثامن من ذي القعدة، أعني لستة أيام من مقتل أخيه، وتلقب بالمأمون، وقبض على الفتيان
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 125 و126 و127.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 125. وذكر ابن الخطيب وحده أن الموقعة حدثت بالفعل في سنة 409 هـ (أعمال الأعلام ص 131).
(3) البيان المغرب ج 3 ص 123؛ وأعمال الأعلام ص 129.(1/661)
الثلاثة الذين قتلوا أخاه وأعدمهم لوقته. وكان يحيى بن علي، ولد الخليفة القتيل والياً على سبتة، وولده الآخر إدريس والياً على مالقة، فاختلف البربر في البداية على مسألة الخلافة، ولكن أكثرهم انضم إلى جانب القاسم لأنه غبن أولا، وقدم عليه أخوه الأصغر.
وهكذا استتب الأمر للقاسم، فعدل عن سياسة الشدة إلى سياسة اللين والمسالمة، وأحسن إلى الناس ونادى بالأمان وبراءة الذمة ممن تسور على أحد، وأسقط كثيراً من المكوس. فهدأت الخواطر، واطمأن الناس نوعاً، وكانت حركة المرتضى قد وصلت خلال ذلك إلى ذروتها، ووقعت الحرب بين جموع المرتضى وحليفه خيران والمنذر بن يحيى التجيبي، وبين قوى صنهاجة على مقربة من غرناطة، وانهزم أهل الأندلس وقتل المرتضى، وبعث زاوي بن زيري إلى القاسم بما وقع مع سهمه من الغنائم، ومنها سرادق المرتضى، فسر القاسم لذلك، وعرض سرادق المرتضى على نهر قرطبة ليراه الناس (1). وعمد القاسم إلى استمالة خيران واستعطافه، ولكنه بقي معتصماً بألمرية، وأقطع زميله زهيراً العامري ولاية جيان وقلعة رباح، محاولا بذلك أن يعقد السلم مع الفتيان العامريين، وأن يأمن خصومتهم وكيدهم.
واتخذ القاسم بطانة من السود، وأسند إليهم مناصب الرياسة والقيادة، ولكنه لم يتخلص من قبضة البربر وسيطرتهم عليه، فضعف أمره وتكاثرت الصعاب من حوله. وكان ابن أخيه يحيى بن علي والي سبتة، يرقب الفرصة للخروج عليه، فاتفق مع أخيه إدريس والي مالقة، على أن يتركها له، لتكون قاعدة للعمل، وأن يستقر إدريس مكانه في سبتة. وأخذ يحيى يحشد أنصاره تباعاً في مالقة حتى اجتمع له جيش قوي. وفي أثناء ذلك كان عمه القاسم يشكو أمره إلى زعماء البربر، ولكنهم عجزوا عن التوفيق بينهما؛ وزحف يحيى في قواته على قرطبة، وخشي القاسم العاقبة فآثر الانسحاب على الحرب، وغادر قرطبة إلى إشبيلية في 23 ربيع الثاني سنة 412 هـ (أغسطس سنة 1022 م)، وضبط البربر القصر حتى مقدم ابن أخيه يحيى.
ودخل يحيى بن علي بن حمود قرطبة بعد ذلك بأيام قلائل، في مستهل جمادى
_______
(1) أعمال الأعلام ص 131.(1/662)
الأولى سنة 412 هـ. وبويع بالخلافة، وتلقب بالمعتلي بالله، وكان في الثانية والأربعين من عمره. واستقبل البربر والأندلسيين معاً رياسته بالاستبشار والرضى. وكان المعتلي فارساً بارعاً يتحلى بخلال الفروسية، ويجانب العصبية، ويؤثر العدل، ويجزل العطاء لمن وفد عليه، أو مدحه بشعره، فأحبه الناس؛ وكان من وزرائه أبو العباس أحمد بن برد، والكاتب محمد بن الفرضي، ولكنه وقع مثل عمه القاسم تحت نفوذ البربر وإمرتهم، فاستبدوا به، وضيقوا عليه.
وكان القاسم بن حمود أثناء ذلك قد استقر في إشبيلية، وتسمى بالخلافة، وتلقب بالمستعلي، وأخذ يرقب سير الحوادث. ومن الغريب أن القاسم وابن أخيه يحيى، تهادنا واتفقا على أن يعترف كلاهما بصفة صاحبه. ويعلق الفيلسوف ابن حزم على ذلك بأنه لم يسمع بخليفتين تصالحا " وهو أمر، لم يسمع في الدنيا بأشنع منه، ولا أدل على إدبار الأمور " (1).
على أن هذا الوضع الشاذ لم يدم طويلا. ذلك أن البربر أعلنوا خلع يحيى المعتلي في الثاني عشر من ذي القعدة سنة 413 هـ، ولم يكن قد مضى على خلافته سوى عام ونصف، فبادر يحيى بمغادرة قرطبة إلى مالقة. وفي الحال تحرك عمه القاسم من إشبيلية تلبية لدعوة البربر، ودخل قرطبة في الثامن عشر من ذي القعدة المذكور، وجددت له البيعة وتسمى بأمير المؤمنين.
ولكن القاسم لم يوفق في سياسته أيضاً في تلك المرة. ذلك أنه أصطفى البربر، ومكنهم من أهل قرطبة، فاشتدوا في معاملتهم ومطاردتهم، وضاق أهل قرطبة في النهاية ذرعاً بتلك الحالة، فثاروا بالبربر، واستعدوا لقتالهم، وأعلنوا خلع القاسم، واستمرت المعارك حيناً حتى استطاع القرطبيون إرغام القاسم على مغادرة القصر، وذلك في جمادى الثانية سنة 414 هـ (سبتمبر سنة 1023 م). فانقلب البربر إلى محاصرة المدينة بعد أن أغلق القرطبيون أبوابها. واستمر الحصار خمسين يوماً، والمعارك في كل يوم تتجدد، وأخيراً خرج القرطبيون واشتبكوا مع البربر في معركة كبيرة حاسمة، وقاتلوا قتال اليائسين، حتى هزموا البربر ومزقوا جموعهم، وتفرقت بقايا البربر وانفضت عن القاسم، فسار القاسم في نفر من صحبه إلى إشبيلية، وكان بها إبناه محمد والحسن، فأغلقت المدينة أبوابها دونه،
_______
(1) راجع نقط العروس ص 80، والبيان المغرب ج 3 ص 132 و133.(1/663)
وأخرج منها إبناه ومن معهم من البربر، وقام أعيان المدينة، وعلى رأسهم قاضيها محمد بن إسماعيل بن عباد، بضبط الأمور فيها، وسار القاسم وصحبه إلى بلدة شريش (1).
وفي تلك الأثناء كان يحيى المعتلي، قد سار من مالقة إلى الجزيرة الخضراء، وكانت بها أموال عمه القاسم وأسرته فاستولى عليها، واستولى أخوه إدريس والي سبتة، على ثغر طنجة، وكانت أيضاً من أعمال القاسم، وكان يعدها ملجأ له وملاذاً يحتمي به إذا ذهب سلطانه بقرطبة؛ ولما انقلب القاسم في فلوله إلى شريش سار يحيى المعتلي لقتاله، وحاصر شريش حتى سلمت، وقبض على عمه وبنيه، وحملهم في الأصفاد إلى مالقة، وهناك أودعهم السجن، وانفرد يحيى برياسة البربر، وبسط سيادته على شريش ومالقة، وسبتة وطنجة من ثغورالمغرب، وبايعه البربر بالخلافة، وسموه المعتلي بالله، وبقي القاسم في يرسف في سجنه ردحاً طويلا من الزمن، حتى قتل خنقاً في سنة 431 هـ، وهو في نحو الثمانين من عمره (2).
وكان أهل قرطبة قد سئموا عندئذ حكم البربر وأشياعهم، وأجمعوا على رد الأمر إلى بني أمية. وكان ثمة ثلاثة من المرشحين الذين اعتبروا أصلح من بقي من بني أمية لتولي الخلافة، هم سليمان بن المرتضى، ومحمد بن العراقي، وعبد الرحمن ابن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله، فقرر القرطبيون أن يختاروا أحدهم بطريق الشورى، وعقدت لذلك جلسة كبرى بالمسجد الجامع، حضرها الوزراء والأكابر والخاصة والعامة. وحضر سليمان بن المرتضى ومحمد بن العراقي في البداية، وكاد الاختيار يقع على أولهما، وبدىء بالفعل في تحرير مرسوم البيعة، لولا أن حضر عندئذ عبد الرحمن بن هشام في كبكبة عظيمة، ومن حوله طائفة كبيرة من الجند شاهرة السلاح، فدخل المقصورة، وعقدت له البيعة في الحال، بين دهشة الحضور واضطرابهم، وذلك في السادس عشر من رمضان سنة 414 هـ (ديسمبر سنة 1023 م). ثم خرج من المسجد إلى القصر وقد اصطحب معه ابنى عمه سليمان والعراقي، فاعتقلهما لديه. ويصف لنا ابن حيان هذا الحفل الشهير، وكان من شهوده، بإفاضة ممتعة (3).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 134 و135؛ وأعمال الأعلام ص 133.
(2) راجع البيان المغرب ج 3 ص 135 و144؛ والمراكشي ص 29.
(3) راجع الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 35 و36. ويقول لنا ابن حيان إن الحفل عقد في الرابع من رمضان، والظاهر أن هناك تحريفاً، لأنه يقول لنا بعد ذلك عند مقتل =(1/664)
واتخذ عبد الرحمن لقب المستظهر بالله، وكان يوم جلوسه فتى في الثالثة والعشرين من عمره، وندب للوزارة بعض القدامى من وزراء بني أمية السابقين مثل أحمد ابن برد، وجماعة من الفتيان الطامحين الأغمار، مثل أبي عامر بن شهيد، وأبي محمد ابن حزم (وهو الفيلسوف المستقبل)، وابن عمه عبد الوهاب بن حزم، وقد كانا على قول ابن حيان " من أكمل فتيان الزمان فهماً ومعرفة، ونفاذاً في العلوم الرفيعة ". فقدمهم على سائر رجاله، وأولاهم منتهى النفوذ والثقة؛ ويورد لنا ابن حيان ثبت المناصب الوزارية والرئيسية يومئذ على النحو الآتي:
خدمة المدينتين، الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة القطع بالناض والطعام، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز. وخدمة المباني، وخدمة الأسلحة وما يجري مجراها، وخدمة الخزانة القبض والنفقة. وخدمة الوثائق ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة. وخدمة الأنزال والنزائل، وخدمة أحكام السوق.
ثم يعلق ابن حيان على ذلك بقوله: " وهذا زخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل، تنافسها طالبوها يومئذ بالأمل، فلم يَحْلوا منها بنائل، ولا قبضوا منها مرتزقاً، ولا نالوا بها مرتفقاً، وغرهم بارق الطمع وسط بلد محصور، وعمل معصوب، وخراب متسول، ومع سلطان فقير، لا يقع بيده درهم إلا من صبابة، مستغل جوف المدينة، أو نهب مغلول ممن تقلقل عنها، يقيم منها رمقه، ويفرق جملته على من تكنفه من جنده ودائرته، ويتطرق إلى ما يقبح من ظلم رعيته، فلم يلبث الأمر أن تفرَّى به فسُفك دمه، وانحسم الأمل من دولته " (1).
تلك هي الصورة القوية التي يقدمها إلينا المؤرخ الأندلسي المعاصر عن بلاط المستظهر، وظروف ولايته. والواقع أن هذا الخليفة الفتى كان يتمتع بخلال باهرة، وكان ممكناً أن يكون معقد الآمال، لو أتيح له من السلطان وحرية التصرف ما طلب، ولكن الظروف عاجلته وغلبته على أمره؛ وكان قد بدأ ولايته بأن أرسل إلى المدن والثغور يدعو إلى تأييد بيعته، فلم تثمر دعوته أو لم يتسع
_______
= المستظهر إن خلافته كانت سبعة وأربعين يوماً، ومقتله في الثالث من ذي القعدة. وهو ما يرد تاريخ البيعة إلى السادس عشر من رمضان (راجع البيان المغرب ج 3 ص 135).
(1) نقله في الذخيرة. القسم الأول المجلد الأول ص 36 و37.(1/665)
الوقت لذلك، وقبض على عدد من الوزراء والأكابر وصادر أموالهم، وكان يرجو بإزالتهم تمكين نفوذه وسلطانه، ثم قبض على عدد من أبناء عمه المروانية، واعتقلهم بالقصر مع ابني عمه سليمان والعراقي، وكانت هذه البوادر المكدرة تقضي على هيبته بسرعة، وتذكي السخط عليه في صدور الخاصة والعامة معاً.
ثم وقع حادث كان نذير الاضطرام. وذلك أنه استقبل عدة من الفرسان البربر فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر، فغضب لذلك الكبراء، وأوغروا صدور العامة قائلين لهم, إننا حاربنا البربر وقهرناهم، وهذا الرجل يسعى في ردهم إلينا، وتمكينهم من أمرنا. فهاجت العامة، وزحفت جموعهم على القصر، واقتحموه على غرة، وقتلوا البربر حيث وجدوا، وفتحوا المطبق وأخرجوا من كان به من المعتقلين، ووثبوا إلى جناح الحرم، وأدرك عبد الرحمن المستظهر أنه هالك، فاختبأ في أتون الحمام، واعتدى الثوار على آل عبد الرحمن وحريمه، وسبوا أكثرهن، وكانت مناظر شنيعة مروعة (1).
ولما اختفي المستظهر بالله، ظهر ابن عمه محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن الناصر، وكان مختفياً خفية البطش به، فأخذ إلى القصر، وأجلس في مجلس الملك، وبويع بالخلافة في اليوم الثالث من ذي القعدة سنة 414 هـ (17 يناير 1024 م)، وتلقب بالمستكفي بالله. وبحث عن المستظهر حتى عثر به في أتون الحمام في حالة مزرية، فأخذ إلى حضرة الخليفة الجديد، وأعدم أمامه، وكانت إمارته مذ ولي حتى قتل سبعة وأربعين يوماً، لم يحدث فيها حدث هام، ولم يجاوز سلطانه مدينة قرطبة.
وكان عبد الرحمن المستظهر أديباً شاعراً من الطراز الأول، وقد نوه ابن بسام بمواهبه الأدبية الرفيعة، وأورد له طائفة من القصائد الجيدة (2).
ومن شعره من قصيدة طويلة قالها في ذكر ابنة عمه أم الحكم بنت المستعين أيام خطبته لها:
حمامة بنت العبشمين رفرفت ... فطرت إليها من سراتهم صقرا
تقل الثريا أن تكون لها يدا ... ويرجو الصباح أن يكون لها نحرا
_______
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 38 و39، والبيان المغرب ج 3 ص 148 و139.
(2) راجع الذخيرة. القسم الأول المجلد الأول ص 40 - 43.(1/666)
وإني لطعان إذا الخيل أقبلت ... جوانبها حتى ترى جونها شقرا
ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتى ... وجاعل وفدى عند سائله وفرا
وكان المستكفي يوم ولادته في الثانية والأربعين من عمره إذ كان مولده في سنة 366 هـ، وأمه أم ولد تسمى حوراء. وكان عاطلا من الخلال الحسنة، ميالا إلى البطالة، شغوفاً بالمجون والشراب، عاجزاً سيىء الرأي، وقد شبهه ابن حزم، في سوء خلاله، وفي مجونه وفسقه، وفي خضوعه لغانية خبيثة، بسميه المستكفي العباسي، وقد كان كلاهما في نفس السن، وحكم كل منهما نحو سنة وخمسة أشهر (1).
ولم تقع خلال ولاية المستكفي القصيرة، أحداث ذات شأن، وكان مما عمله أن أمر بخنق ابن عمه محمد العراقي، ونعاه للناس، وندب لولاية عهده ابن عمه سليمان بن هشام بن عبيد الله بن الناصر. وفي أيامه هدمت القصور الناصرية، وخربت قصور المنصور بالزاهرة، فسادتها الوحشة والخراب.
واضطهد المستكفي معظم الرجال البارزين من الساسة القدماء، ومن المفكرين، وغادر كثير منهم قرطبة، ولجأوا إلى بلاط يحيى بن حمود بمالقة، وكان من هؤلاء الوزير السابق والشاعر اللامع أبو عامر بن شهيد؛ ووصف هؤلاء ليحيى ابن حمود سوء الأحوال في قرطبة. ومع أن يحيى لم يكن متحمساً لفكرة السير إلى قرطبة، فإن الأنباء ترامت إلى القرطبيين بأنه يتخذ أهباته لاسترداد عاصمة الخلافة؛ وعلى أي حال فقد سئم القرطبيون ولاية المستكفي العاطلة الماجنة الفاسدة ونادوا بخلعه. فدخل عليه الوزراء والكبراء، وأغلظوا له في القول، وطلبوا إليه التخلي، فاستعطفهم بلين القول، ثم غادر قرطبة في نفس اليوم متنكراً في زي امرأة. وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة 416 هـ (مايو سنة 1025 م). وسار المستكفي صوب الثغر في نفر من صحبه, ووصل إلى إقليج من أحواز قرطبة، وهنالك اغتاله بعض مرافقيه، لاعتقادهم أنه يحمل مالا. وكان مقتله لسبعة عشر يوماً فقط من خلعه (2).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 141، وأعمال الأعلام ص 136.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 142 و143؛ وأعمال الأعلام ص 136.
ومما هو جدير بالذكر أن محمد بن عبد الرحمن المستكفي هو والد الأديبة الشهيرة والشاعرة الأندلسية الكبيرة " ولادة " التي اشتهرت بروعة أدبها وشعرها، والتي أوحت إلى الوزير الشاعر ابن زيدون =(1/667)
ومضت بضعة أشهر؛ والحكومة في قرطبة فوضى لا ضابط لها. وأخيراً
قرر يحيى بن حمود أن يسير إلى العاصمة، فقصد إليها في قواته ودخل القصر في الخامس عشر من رمضان من نفس العام (9 نوفمبر سنة 1025 م)، وبقي بها إلى نهاية هذا العام، ثم غادرها في أوائل المحرم سنة 417 هـ قاصداً إلى مالقة، وترك بها وزيريه أحمد بن موسى، ودوناس بن أبي روح، يدبران شئونها، ومعهما حامية صغيرة من البربر، بيد أنه لم يمض زهاء شهرين حتى تجهمت الحوادث كرة أخرى.
ذلك أن خيران وزهير الفتيين العامريين، قصدا إلى قرطبة، وأوعزا إلى القرطبيين بالتخلص منن البربر، فثار القرطبيون فجأة، وفتكوا بالحامية البربرية، وكانت زهاء ألف رجل، وفر أحمد بن موسى وزميله دوناس إلى مالقة، وكان ذلك في العشرين من ربيع الأول من سنة 417 هـ.
وأجمع القرطبيون على أثر ذلك على رد الأمر لبني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جَهْوَر بن محمد بن جهور، واتفقوا على مبايعة هشام بن محمد ابن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، أخى عبد الرحمن المرتضى. وكان عند مقتل أخيه في سنة 409 هـ، قد فر من قرطبة في نفر من صحبه، ولجأ إلى مدينة ألبونت في شمال شرقي الأندلس، واستظل من ذلك الحين بحماية واليها عبد الله بن قاسم الفهري. وبعث إليه أهل قرطبة بالبيعة، وهو بمقره بحصن ألبونت، فتلقاها في 25 ربيع الآخر سنة 418 هـ، وتلقب بالمعتد بالله، وبقي بمقره بألبونت مدة سنتين وسبعة أشهر، وهو يخطب له بقرطبة، ثم قدم إليها في شهر ذي الحجة سنة 420 هـ (1) فجددت له البيعة، واستمر في كرسي الخلافة عامين آخرين. وسر القرطبيون لمقدمه في البداية، ولكنه ألقى زمام الأمور إلى رجل من الموالي يسمى حكم بن سعيد القزاز، فاستأثر بكل سلطة، وأطلقت يده في الأموال، وكان أخرق عسوفاً، فجمع حوله نفراً من السفهاء العاطلين عن كل إخلاص وحزم، وأطلق العنان لغوايته وأهوائه، فاضطربت الشئون وامتعض العقلاء،
_______
= المتيم بها طائفة من غرر قصائده. وقد لبثت ولادة عصراً تخلب بجمالها وأدبها وشعرها ألباب المجتمع القرطبي الرفيع. وتوفيت في سنة 484 هـ (1091 م) (راجع الصلة لابن بشكوال رقم 1540؛ وقلائد العقيان ص 70، ونفح الطيب ج 2 ص 447 - 449).
(1) جذوة المقتبس ص 26 و27.(1/668)
وزعماء البيوتات الكبيرة، وشعروا بما نالهم على يده من ضروب الإهانة والنيل؛ وأحاط هذا الوزير المستبد الماجن الخليفة برجاله، وأبعد عنه الصحب وذوي الحجي، ودفعه بالرغم من شيخوخته، إلى تيار الشراب والمجون، حتى ساءت الأمور إلى الذروة، وفقدت الخلافة والحكومة، كل عطف هيبة، وتهامس الناس في وجوب إزالة هذه الحالة، والتخلص من أوزارها وعواقبها. والتفت جماعة الناقمين حول فتى من أبناء عمومة هشام، هو أمية بن عبد الرحمن العراقي، من أحفاد الناصر، وكان فتى شديد التهور والجهالة، ولكن بعيد الأطماع؛ وفي ذات يوم تربصت تلك الجماعة الناقمة بالوزير حكم بن سعيد وفتكت به، وطافت برأسه في المدينة، وتركوا جثته في العراء (ذو القعدة سنة 422 هـ - نوفمبر سنة 1031 م). ثم سار أمية في جموعه إلى القصر، والخليفة هشام عاكف على شرابه ونسائه، فنهبت العامة بعض أجنحة القصر، ولولا أن زجرهم الوزير الشيخ ابن جهور ونصحهم بالكف عنه، لما أبقوا على شىء. وخشي هشام المعتد على نفسه، فبادر إلى الخروج من القصر مع ولده ونسائه، وهو يناشد الجماعة أن يحقنوا دمه، ولجأ إلى ساباط الجامع واجتمع رأي الناس جميعاً كباراً وصغاراً على خلعه، والتخلص جملة من بني أمية، وإبطال رسم الخلافة، وعلى نفي بني أمية وإجلائهم جميعاً عن المدينة، وكان رائد الجماعة وناصحهم في ذلك أبو الحزم ابن جهور، وكان هذا الوزير النابه يستأثر نظراً لماضيه التالد، وأسرته العريقة، ورأيه الناضج، بمحبة الشعب وثقته وتأييده، وسنرى فيما بعد أي دور خطير يلعبه ابن جهور في مصاير قرطبة.
وانتهى القوم إلى خلع هشام المعتد، وإبعاده وأهله إلى أحد الحصون القريبة، ثم غادره بعد أيام قلائل، وسار إلى الثغر، حيث التجأ إلى سليمان بن هود صاحب لاردة من أعمال الثغر الأعلى، وقضى هنالك بقية أيامه حتى توفي في سنة 428 هـ دون عقب؛ وأبعد أمية بن عبد الرحمن عن القصر، وكان يهجس بتولي كرسي الخلافة مكان المعتد، فلما رأى وعيد القوم، اختفى وغادر قرطبة إلى حيث لا يعلم أحد. ونودي في سائر أحياء قرطبة وأرباضها بأن لا يبقى بها أحد من بني أمية، ولا يأويهم أحد، وتولى ابن جهور تنفيذ هذا الأمر بمنتهى الحزم، حتى أجلاهم عن المدينة ومحا رسومهم (1).
_______
(1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 145 - 152؛ وأعمال الأعلام ص 138 - 140.(1/669)
وبخلع هشام المعتد، تنتهي رسوم الدعوة الأموية بصورة نهائية، وينقطع ذكرها إلى الأبد من منابر الأندلس والمغرب الأقصى.
* * *
ولنعد الآن قليلا إلى الوراء لنتتبع مصاير دولة بني حمود في جنوبي الأندلس، وقد رأينا أن يحيى بن علي بن حمود الملقب بيحيى المعتلي، بعد أن خلع عمه القاسم من الخلافة، وأرغم على مغادرة قرطبة في سنة 414 هـ، سار إلى بلدة شريش، فسار يحيى في أثره، وما زال به حتى هزمه وقبض عليه، ثم قتل في سجنه فيما بعد، واستولى يحيى على سائر ما كان بيده من البلاد والثغور، وانفرد برياسة البربر في الأندلس. ثم عاد فدخل قرطبة مرة أخرى على أثر خلع المستكفي في سنة 416 هـ.
ولكنه غادرها بعد ذلك إلى مالقة، التي غدت من ذلك الحين معقله وعاصمة ملكه، في أوائل سنة 417 هـ، واستمر بها مدى حين.
وكان يحيى المعتلي يخشى بالأخص على مملكته الفتية، من مطامع القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، الذي استقل برياسة إشبيلية، حسبما تقدم. فسار بقواته إلى قرمونة حصن إشبيلية من الشمال الشرقي، وانتزعها من يد حاكمها محمد ابن عبد الله البرزالي كبير بني برزال، واستقر بها يرقب الفرصة للوثوب بابن عباد وتحطيمه، فسار البرزالي إلى ابن عباد وتحالف معه على قتال يحيى. وكان يحيى قد استسلم إلى لهوه وملاذه، وعكف على معاقرة الشراب والمجون المستمر، وجنوده تغير على إشبيلية من آن لآخر. ورأى القاضي ابن عباد أن يدحض دعوى المعتلي في الخلافة أولا، فأظهر في أواخر سنة 426 هـ شخصاً زعم أنه هشام المؤيد، وأنه كان مختفياً ولم يمت، وبايعه بالخلافة، ودعا الناس إلى الدخول في طاعته. ثم سير ابن عباد إلى قرمونة بعض قواته مع ابنه إسماعيل، ومعها طائفة من قوات البربر المتحالفة معه، فطوقت المدينة ليلا، وكمن معظمها في أماكن مستورة، ووقف يحيى على الخبر فخرج في قواته وهو ثمل، واشتبك مع المهاجمين في معركة حامية وكاد يوقع بهم الهزيمة، لولا أن ظهرت قوات ابن عباد من كمينها، وأطبقت عليه، فانهزم أصحابه، وقتل في المعمعة واحتز رأسه، وحمل سريعاً إلى ابن عباد في إشبيلية (المحرم سنة 427 هـ - نوفمبر سنة 1035 م)، واستمر فتك جند ابن عباد بالبربر أمام أسوار قرمونة، ولم يقف إلا حينما تدخل محمد بن عبد الله(1/670)
البرزالي، وقد ساءه هذا الفتك الذريع بقومه، فكف ابن عباد مرغماً، ودخل البرزالي قرمونة، واستولى على ما فيها من مال ومتاع، وسبى نساء يحيى وجواريه (1).
ولما قتل يحيى المعتلي على هذا النحو، سارع وزيراه أبو الفوز نجا الصقلبي، وأبو جعفر أحمد بن موسى بن بقنّة البربري، باستدعاء أخيه إدريس لتولي الملك مكانه، وكان والياً لسبتة. وكان ليحيى ولدان حدثان هما إدريس وحسن؛ وفي رواية أنه كان قد أوصى بولاية عهده لولده حسن، ولكن حداثة سنه حالت دون ولايته. وهكذا بويع إدريس بالخلافة في مالقة، قاعدة المملكة الحمودية وتلقب بالمتأيد بالله، وعين ابن أخيه حسناً لحكم سبتة وأعمالها، وندب لمعاونته الحاجب نجا، واعترفت بولايته رندة والجزيرة، وكان من حلفائه المعترفين ببيعته الفتى زهير العامري صاحب ألمرية، وحبوس بن ماكسن زعيم صنهاجة وصاحب غرناطة؛ وقد سارا في قواتهما لمعاونة إدريس على محاربة ابن عباد، وانضم إليهما البرزالي صاحب قرمونة. وفي شهر ذي القعدة سنة 427 هـ (1036 م) سارت القوات المتحالفة إلى أحواز إشبيلية وعاثت فيها، واحتلوا قرية طشّانة، ثم احتلوا "القلعة"، الواقعة شرقي إشبيلية، وأحرقوا طَريانة الواقعة في جنوبها، ثم احتلوا حصن القصر، وانصرف زهير بعد ذلك إلى ألمرية.
وفي العام التالي توفي حبوس بن ماكسن، وخلفه في حكم غرناطة ولده باديس، وبعث باديس وأخوه بُلُقِّين إلى زهير يطلبان تجديد التحالف الذي كان بينه وبين أبيهما، ولكن زهيراً سار في قواته إلى غرناطة، والتقى بباديس وأخيه في قرية من أحواز غرناطة تسمى "ألفنت" (2). والظاهر أنه وقع بين الفريقين نوع من سوء التفاهم، واعتبر باديس أن زهيراً توغل في أرضه بقواته أكثر مما يجب؛ أو أن باديس وأخاه بلقين، قد وضعا خطة للغدر بزهير. وعلى أي حال فقد عمل باديس على قطع طريق الرجعة على زهير، ووضع له الكمائن في المضايق. ووقع القتال بين زهير والبربر، فهزم زهير وقتل، ولم يعثر على جثته، واحتوى باديس على معسكره، واستولى على غنائم هائلة من الخيل والسلاح والمتاع، وقبض باديس على كاتب
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 188 و189 و190؛ وأعمال الأعلام ص 137.
(2) وهي بالإسبانية Daifontes، وهي تقع على قيد نحو خمسة كيلومترات من شمالي غرناطة.(1/671)
زهير أحمد بن عباس ثم قتله بعد ذلك. وحدثت هذه الواقعة في أواخر سنة 429 هـ (1038 م) (1).
وكان القاضي ابن عباد، المتغلب على إشبيلية، بعد قتل منافسه يحيى المعتلي قد خلا له الجو، واشتد بأسه، وأخذ يطمح إلى التغلب على ما يجاور إشبيلية من المدن والمقاطعات. فبدأ بأن سير ولده إسماعيل في جيش زحف على قرمونة حصن إشبيلية، من الشمال الشرقي، وكان بها محمد بن عبد الله البرزالي، فاستولى عليها، واستولى كذلك على إستجة الواقعة في شرقها. فاستغاث البرزالي بإدريس المتأيد، وباديس أمير غرناطة، وهرعت الجند البربر من مالقة وغرناطة استجابة لدعوته. ونشبت بين البربر وبين جند ابن عباد الأندلسيين وقائع عديدة، انتهت بهزيمة الأندلسيين ومقتل إسماعيل بن عباد، وذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م) (2).
ولم تمض على ذلك أيام قلائل حتى توفي إدريس المتأيد في قلعة ببشتر، وكان قد نقل إليها مريضاً من مالقة. وكانت وفاته في السادس عشر من محرم سنة 431 هـ.
وعلى أثر وفاته بويع ولده يحيى بالخلافة في مالقة، وذلك بترتيب وزيره أبى جعفر ابن بقنّة وسعيه. وتلقب يحيى بالقاسم بأمر الله، وكان فتى حَدَثاً قليل الخبرة والحزم، ولكن ابن بقنَّة سارع برفعه إلى العرش استبقاء لسلطانه الذي تأثل في ظل أبيه. بيد أن الحوادث ما لبثت أن تطورت بسرعة. ذلك أن نجا الحاجب الصقلبي، وكان يومئذ بسبتة، لم يرقه هذا الاختيار، فبادر بالدعوة إلى حسن بن يحيى المعتلي (ابن أخى إدريس). وكان إدريس قد اختاره لولاية عهده، وكان وقت وفاة عمه حاكماً لسبتة والثغور المغربية، فبويع حسن بالخلافة، وجهز الحاجب جيشاً، وسار بقواته مع حسن في أسطول يمم شطر مالقة، ونزلت القوات إلى البر، وحاصرت مالقة من البر والبحر، ولم تمض أسابيع قلائل حتى اضطر يحيى إلى التسليم والتنازل عن الخلافة، ثم سار إلى قمارش، وأقام بها.
_______
(1) راجع في تفصيل هذه الحوادث: البيان المغرب ج 3 ص 190 و191 و293، والإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 269 و527 و528.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 199.(1/672)
وبويع حسن بن يحيى بالخلافة في مالقة في جمادى الثانية سنة 431 هـ، وتلقب بالمستنصر بالله، واعترفت بطاعته غرناطة وغيرها، وعهد بتدبير الأمور إلى الوزير أبي جعفر بن بقنة، وعهد إلى الحاجب نجا بحكم الثغور المغربية. وكان حسن أميراً حازماً، قوي النفس، فنظم الإدارة، واستكثر من الجند، وجبى الأموال. واستراب بوزيره أبي جعفر، وكان يسر له نصرته ليحيى، فدبر مقتله، وذلك في يوم عيد الفطر سنة 433 هـ (1)، ثم أمر بقتل يحيى القاسم، فقتل في ربيع الثاني سنة 434 هـ. وكانت أخته زوجة للمستنصر، فما لبثت أن دبرت مقتله انتقاماً لأخيها، وهلك حسن بالسم في جمادى الأولى سنة 434 هـ (ديسمبر سنة 1042 م).
والروايات بعد ذلك متضاربة، فمنها ما يقول بأن الحسن لم يعقب ذرية (2) ومنها ما يقول إنه ترك ولداً صغيراً بسبتة. وعلى أي فقد نهض الحاجب نجا على أثر وفاة المستنصر، وعبر البحر في قواته من سبتة إلى الجزيرة؛ وهنا يقال إنه نهض ليؤيد دعوة ولد الخليفة المتوفى، ويقال من جهة أخرى إنه نهض ليستخلص تراث الحموديين لنفسه، بعد أن اضطربت شئونهم. وسار نجا إلى الجزيرة وفيها ابنا القاسم بن حمود، فخرجت إليه أمهما سبيعة، وعنفته على مسلكه وعدم ولائه لسادته، فاستحى منها، وغادر الجزيرة ميمماً شطر مالقة. وكان معظم جنده من قبيلة برغواطة البربرية، أخوال حسن بن يحيى، فاسترابوا منه ومن مقاصده وائتمروا به، وقتلوه في الطريق. ثم ساروا إلى مالقة، وكان حسن بن يحيى أيام خلافته قد قبض على أخيه إدريس، وزجه إلى السجن ليأمن منافسته. فأخرجه الجند من سجنه وبويع بالخلافة. وتلقب بالعالي، وذلك في جمادى الثانية سنة 434 هـ (يناير سنة 1043 م)، وأطاعته البربر في غرناطة وقرمونة وجيان وغيرها.
وهو الممدوح بالقصيدة المشهورة، التي نظمها عبد الرحمن بن مُقانا القبذاقي الأشبوني في مديحه ومطلعها:
البرق لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين
لعبت أسيافه عارية ... كمخاريق بأيدي اللاعبين
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 290؛ والمراكشي ص 36.
(2) المراكشي ص 37.(1/673)
ولصوت الرعد زجر وحنين ... وبقلبي زفرات وأنين
وأناجي في الدجى عاذلتي ... وبك لا أسمع قول العاذلين (1)
ومنها:
عيرتني بسقام وضنى ... إن هذين لدين العاشقين
قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقنيها قبل تكبير الأذين
إسقنيها مرة مشمولة ... لبثت في دنها بضع سنين
مع فتيان كرام نجب ... يتهادون رياحين المجون (1)
وكان العالي أميراً رقيق الخلال، جواداً كثير الصلات، أديباً ينظم الشعر، ومع ذلك فقد كان يجمع حوله بطانة سيئة، وصحاباً من أراذل القوم. وكان ضعيف الرأي، متهاوناً في شئون الحكم، فسرى التفكك إلى سلطانه، وفي أواخر سنة 438 هـ (1046 م)، ثار عليه ابن عمه محمد بن إدريس بن علي بن حمود، فخرج إدريس في صحبه من مالقة إلى حصن ببشتر، وعاونه باديس بن حبوس أمير غرناطة بجنده ليسترد سلطانه. فغزا مالقة ولكنه لم يفز بطائل، فارتد مع أهله وصحبه إلى سبتة.
وبويع محمد بن إدريس في شعبان سنة 438 هـ. وتلقب بالمهدي، وتوطد أمره بمالقة؛ ولكن بعض النواحي نكلت عن تأييده، ولاسيما غرناطة؛ وكان أميرها باديس من أشد معارضيه، وكان يشعر أنه أحق من غيره بزعامة البربر؛ وأبدى المهدي عزماً في تنظيم الحكومة وإصلاح الأمور، ولكنه كان طاغية سفاكاً للدماء يسرف في قتل مواطنيه البربر، حتى كرهه معظمهم، واجتمع رأي معارضيه من الزعماء وعلى رأسهم باديس على وجوب خلعه، والاعتراف بطاعة محمد بن القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء، واتفق رأي البعض الآخر ومنهم أبو النور بن أبي قرة اليفرني صاحب رندة، على الاعتراف بطاعة إدريس بن يحيى العالي. وهكذا ادعى الخلافة ثلاثة أمراء من بني حمود في وقت واحد، وفي مناطق صغيرة متقاربة، وهذا إلى الخليفة المزعوم الذي أقامه ابن عباد صاحب إشبيلية باسم هشام المؤيد؛ ويستعرض الفيلسوف ابن حزم هذه الحالة وهو معاصر لها في مرارة وتهكم، ويصفها بأنها " فضيحة لم يقع في العالم
_______
(1) راجع هذه القصيدة بأكملها في نفح الطيب ج 1 ص 202 و203.(1/674)
إلى يومنا مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد " (1).
واستمر محمد بن إدريس المهدي في كرسي الخلافة زهاء ستة أعوام.
ولما لم ير خصومه وسيلة للتغلب عليه، لجأوا إلى الغيلة، فدسوا عليه من قتله بالسم، وذلك في أواخر سنة 444 هـ (أوائل سنة 1053 م).
فبويع من بعده ولد أخيه وهو إدريس بن يحيى بن إدريس بن علي بن حمود، وتلقب بالسامي، وأقام حيناً بمالقة، ثم أصابته فيما يظهر لوثة، فغادر مالقة، وهام على وجهه في صفة تاجر، وغادر البحر إلى شاطىء العدوة، فأخذ إلى سبتة، حيث قتله حاكمها سواجات البرغواطي (2).
وكان إدريس بن يحيى العالي، قد لجأ على أثر خلعه إلى سبتة، فأقام بها في كنف سواجات، وأقام كذلك حيناً في رندة، في كنف حاكمها أبي نور بن أبي قرة، فلما هلك السامي، سار إلى مالقة واستقبله أهلها بحماسة، ودعى له بالخلافة مرة أخرى، واستمر في الحكم حتى توفي سنة 446 هـ (1054 م) بعد أن عهد بالخلافة لابنه محمد.
فخلفه ولده محمد، وتلقب بالمستعلي، وأقرت بيعته ألمرية ورندة، ولكن معظم الزعماء البربر، وفي مقدمتهم باديس صاحب غرناطة نكلوا عن طاعته.
وفي سنة 449 هـ (1057 م)، سار باديس في قواته إلى مالقة، واستولى عليها
وضمها إلى إمارته، وغادرها المستعلي، وسار إلى ألمرية، ثم عبر منها البحر إلى مليلة فقبله أهلها حاكماً عليهم، واستمر بها حتى توفي سنة 456 هـ (1064 م) والمستعلي هو آخر من حكم في مالقة من أمراء بني حمود.
وفي أثناء ذلك كان رأي الزعماء البربر، وفي مقدمتهم باديس صاحب غرناطة وإسحاق بن محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، ومحمد بن نوح صاحب مورور، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، قد اجتمع على البيعة لبني محمد بن القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء. وكان يحيى المعتلي حينما خلع
_______
(1) ابن حزم في رسالته " نقط العروس " ص 83. وراجع البيان المغرب ج 3 ص 217 و244؛ وأعمال الأعلام ص 141.
(2) البيان المغرب ج 2 ص 217؛ وأعمال الأعلام ص 142.(1/675)
عمه القاسم بن حمود، قد قبض على ولديه محمد وحسن، واعتقلهما بالجزيرة، فلما توفي يحيى، أفرج عنهما. وتولى محمد حكم الجزيرة، وذلك في الوقت الذي قامت فيه دولة المهدي في مالقة. ثم حاول محمد أن ينتزع الخلافة لنفسه، فسار في أنصاره إلى مالقة يحاول انتزاعها من يد المهدي، ولكنه أخفق في محاولته، فارتد إلى الجزيرة، وتوفي بها في سنة 440 هـ.
فخلفه محمد ولده وحكم الجزيرة فترة قصيرة؛ ثم خلفه ولده القاسم، وتلقب بالواثق، وكانت خلافته هزيلة ضيقة الرقعة والموارد، ولم يتح لها من البقاء سوى فترة يسيرة. ذلك أن ابن عباد صاحب إشبيلية اعتزم أن يقضي على خلافة الحموديين بصفة نهائية، فبعث قواته إلى الجزيرة الخضراء فطوقتها من البر والبحر واضطر القاسم سراعاً إلى التسليم، وغادر الجزيرة بالأمان مع أهله وصحبه (446 هـ - 1055 م) وسار إلى ألمرية حيث التجأ إلى حماية صاحبها المعتصم ابن صمادح، ولبث لها حتى توفي سنة 450 هـ (1058 م).
وفي نفس الوقت كان باديس أمير غرناطة قد استولى على مالقة من يد المستعلي (449 هـ)، وانهار بها سلطان الحموديين، وهكذا انقرضت دولة بني حمود من مالقة والجزيرة معاً، وانتهى بذلك سلطانهم بالأندلس بعد أن حكموا المثلث الإسباني الجنوبي، وثغور العدوة الشمالية، زهاء نصف قرن (1).
* * *
وهكذا انحدرت إسبانيا المسلمة، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) عقب انهيار دعائم الخلافة الأموية والدولة العامرية، إلى معترك مروع من التمزق والفوضى، واستحالت الأندلس بعد أن كانت كتلة موحدة، تمتد من ضفاف دويرة شمالا إلى مضيق جبل طارق جنوباً، ومن شاطىء البحر المتوسط منذ طركونة شرقاً حتى شاطىء المحيط الأطلنطي غرباً، إلى أشلاء ممزقة، ورقاع متناثرة، وولايات ومدن متباعدة متخاصمة، يسيطر على كل منها حاكم سابق استطاع أن يحافظ على سلطته المحلية خلال الانهيار،
_______
(1) راجع في تفاصيل الحوادث المتقدمة، البيان المغرب ج 3 ص 288 و291 و292؛ وابن خلدون ج 4 ص 154 و155؛ وابن الأثير ج 9 ص 96 و97؛ والمراكشي ص 37 - 39، وأعمال الأعلام ص 142 و143. وراجع بحثاً بالإسبانية للأستاذ المستشرق الغرناطي سيكودي لوثينا عن دولة بني حمود عنوانه: Los Hammudles, Senores de Malaga y Algeciras, p. 47-53.(1/676)
أو متغلب من الفتيان الصقالبة أو القادة ذوي السلطان السابق، أو زعيم أسرة محلي من ذوي الجاه والعصبية. وسيطر البربر من جانبهم على أراضي المثلث الإسباني الجنوبي، وما كان منه بيد الدولة الحمودية، وأنشأوا هنالك إمارات عدة، ما لبثت أن نزلت إلى ميدان الصراع العام، الذي شمل هذه المنطقة. وهكذا قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى دول عديدة هي دول " الطوائف "، وذلك منذ أوائل الربع الأول من القرن الخامس، حتى الفتح المرابطي، زهاء سبعين عاماً، قضتها جميعاً في سلسلة لا نهاية لها من المنازعات الصغيرة، والخصومات والحروب الأهلية الانتحارية، وكادت بتنابذها وتفرقها ومنافساتها، تمهد لسقوط الأندلس النهائي. وقد كان من رحمة القدر، أن اسبانيا النصرانية، كانت في نفس الوقت الذي انتثرت فيه وحدة الأندلس على هذا النحو الخطر، تعاني من انقسام الكلمة، وتعصف بها ريح الخلاف والتفرق، فلم تتح لها فرصة للوثوب بالأندلس الممزقة، إلى أن كان الوقت الذي بلغ فيه تنابذ الطوائف ذروته، واشتد ساعد اسبانيا النصرانية كرة أخرى، واستطاعت أن تضرب ضربتها القوية بانتزاع طليطلة، أول قاعدة إسلامية كبيرة (478 هـ - 1085 م)؛ وعندئذ تطورت الحوادث بسرعة واتجهت الأندلس الجريحة، في توجسها وانزعاجها، إلى إخوانها المسلمين فيما وراء البحر، بعدوة المغرب، تستدعيهم لنصرتها. وكان أن تدفقت الجيوش المرابطية من المغرب على شبه الجزيرة الإسبانية، وكان أن أنقذت دولة الإسلام في الأندلس.(1/677)
الكتابُ الخامس
النظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة(1/679)
الفصل الأول
نظم الحكم والأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية في عصري الإمارة والخلافة
- 1 -
تعاقبت خلال هذه الفترة الطويلة التي سردناها من تاريخ الأندلس، على الأمة الأندلسية، أنواع من نظم الحكم، ومن الأوضاع السياسية والإدارية، كانت تسير طوراً بعد طور مع مختلف الحوادث، والحروب والانقلابات المتوالية. وبالرغم من أنه لم يفتنا أن نشير في مختلف المواطن إلى تلك التغييرات المتوالية، التي شهدتها الأمة الأندلسية، فإنه يجدر بنا أن نتحدث عنها حديثاً خاصاً، وأن نقدم منها إلى القارىء صورة مجتمعة متماسكة.
كانت الأندلس عقب الفتح ولاية تتبع إفريقية، ويقوم باختيار حاكمها والي إفريقية. وقد أستمر هذا الوضع نحو ثمانية أعوام فقط، تعاقب فيها على ولاية الأندلس ثلاثة من الولاة هم عبد العزيز بن موسى، وأيوب بن حبيب اللخمي، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي. غير أنه كان من الواضح أن هذا النظام لم يكن يلائم قطراً ضخماً كالقطر الأندلسي، وخصوصاً بعدما بدأت الغزوات الإسلامية لغاليس (جنوب فرنسا)، وبدأت الأندلس تخوض الصراع مع مملكة الفرنج فيما وراء البرنيه، ومع نصارى الشمال. ومن ثم فقد رأت خلافة دمشق أن تكون الأندلس ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة، ويقوم الخليفة بتعيين واليها. وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز هو الذي أصدر هذا القرار شعوراً منه بأهمية الأندلس السياسية والعسكرية والاجتماعية.
وكان أول ولاة الأندلس من قبل الخلافة، هو السمح بن مالك الخولاني، وقد ندبه عمر بن عبد العزيز لولايتها في سنة مائة من الهجرة (719 م). بيد أنه(1/680)
لما توفي عمر بن عبد العزيز (101 هـ) عاد الأمر في تعيين ولاة الأندلس إلى ولاة إفريقية، ولكن بمصادقة الخليفة. وكان الوالي عادة هو قائد الجيش العام، وإليه يرجع أمر الغزو في الشمال. ولما وقعت نكبة بلاط الشهداء في سنة 114 هـ (732 م)، أخذت الخلافة مرة أخرى بيدها تعيين والي الأندلس، واختار الخليفة هشام بن عبد الملك لولايتها عبد الملك بن قطن. واستمر الأمر بعد ذلك حيناً يرجع إلى والي إفريقية، وأحياناً إلى اختيار الجماعة، أعني جماعة الزعماء والقادة في شبه الجزيرة، وكان ذلك يحدث بالأخص حين تضطرب الأمور، ويقع الخلاف بين مختلف القبائل والزعامات. ولما اضطرمت الفتنة بين الشاميين والبلديين، وأخذ الفريقان يتبادلان الرياسة، ضعف أمر السلطة المركزية، ولم تهدأ الأمور حتى عين أبو الخطار الكلبي والياً للأندلس (125 هـ). ولكن أبا الخطار كان يمنياً فمال إلى اليمنية، واضطرمت الفتنة بين اليمنية والمضرية، ولما تفافم الأمر، وخشي الزعماء عاقبة الفتنة والحرب الأهلية، اتفقوا على تعيين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من المضرية للولاية، وذلك دون موافقة أو مصادقة لا من والي إفريقية ولا من الخلافة، وكان ذلك في سنة 129 هـ (747 م).
واستمر يوسف بن عبد الرحمن الفهري والياً للأندلس زهاء عشرة أعوام، وهو يزاول سلطة شبه مطلقة. وقد استطاع بعزمه وحزمه، أن يعيد إلى الأندلس نوعاً من الاستقرار والسكينة. ولكن القدر كان يدخر للأندلس مصيراً آخر، في ظل سلطة أخرى، لم تكن تخطر ليوسف أو غيره من الزعماء المتطلعين إلى الرياسة. وذلك أن عبد الرحمن الأموي عبر إلى الأندلس في ربيع الآخر سنة 138 هـ (سبتمبر سنة 755 م)، وهرع في الحال إلى لوائه جمع من الصحب والأنصار، ووقع الحدث الحسم في موقعة المسارة في العاشر من ذي الحجة سنة 138 هـ (13 مايو سنة 756 م) فهزم يوسف الفهري وصحبه، وانتهت رياسته للسلطة، وكتب النصر لسليل بني أمية، فبويع عبد الرحمن الأموي في الحال بالإمارة، وبعثت من ذلك التاريخ دولة بني أمية بالأندلس، بعد أن سقطت بالمشرق قبل ذلك ببضعة أعوام.
ومن ذلك التاريخ تقوم الدولة الأموية في الأندلس، وتستقر قواعدها تباعاً، بعد معارك طويلة متعددة، بينها وبين الزعامات المحلية والعناصر الثائرة. وقد(1/681)
بقيت الدولة الأموية عصراً تتشح بثوب الإمارة، وذلك وفقاً لما قرره مؤسسها عبد الرحمن الداخل. وبالرغم من أن بلاط قرطبة، بلغ في عصر أمراء مثل الحكم ابن هشام، وولده عبد الرحمن، مبلغاً عظيماً من القوة والبهاء، وأضحى ينافس بلاط بني العباس في الأخذ بزعامة الإسلام، فإن أمراء بني أمية لبثوا على مبدئهم من الاكتفاء بلقب الإمارة، إلى أن كان عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر) فعندئذ تغيرت أوضاع الغرب الإسلامي بقيام الخلافة الفاطمية في الضفة الأخرى من البحر، على مقربة من الأندلس. وكان هذا الحادث الخطير في ذاته أول حافز للناصر على اتخاذ سمة الخلافة، وصدر مرسومه بذلك في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة سنة 316 هـ (يناير 929 م) وبذا تحولت الدولة الأموية من إمارة إلى خلافة، وكان عبد الرحمن الناصر أول من تلقب من أمرائها " بأمير المؤمنين ".
وقد تميزت الخلافة الأموية بعدة خصائص، أولها الاعتماد في توطيد سلطانها على الموالي والصقالبة، وهي سياسة بدأت في عهد الإمارة منذ عبد الرحمن الداخل، ووصلت إلى ذروتها في عهد الناصر، وذلك حسبما فصلناه في موضعه، وثانيها الاسترابة بالقبائل والزعامات العربية، والعمل المستمر على إخضاعها، والقضاء على سلطانها ونفوذها، وذلك لما لقيه بنو أمية منذ البداية من معارضة هذه القبائل والزعامات، وانتقاضها المتوالي، وثوراتها المتعددة، وثالثاً عطفها الواضح على أهل الذمة وهم النصارى واليهود، وكفالة حرياتهم الدينية والاجتماعية، وهذه السياسة أيضاً ترجع إلى عصر الإمارة، حيث أنشىء منذ عهد الحكم بن هشام أو قبله بقرطبة، منصب خاص لإدارة شئون أهل الذمة يعرف صاحبه " بالقومس "، وقد كان للنصارى المعاهدين، فوق ذلك قاض خاص، وقد يكون أسقفهم في نفس الوقت؛ وعين بعد ذلك للنصارى مطران خاص، مركزه بمدينة إشبيلية. وقد استمر هذا التسامح نحو النصارى المعاهدين عصوراً، وذلك بالرغم مما كانوا يدبرونه في بعض الأحيان ضد الحكومة المسلمة من الدسائس والمؤامرات ويعقدون من الصلات المريبة مع نصارى الشمال.
وبلغت الخلافة الأموية بالأندلس ذروة قوتها ونفوذها السياسي والأدبي في عهد الناصر وولده الحكم المستنصر. بيد أنه بوفاة المستنصر (366 - 976 م) وولاية ولده الحدث الضعيف هشام المؤيد، تبدو طلائع ذلك الانقلاب الحاسم(1/682)
الذي كان يدخره القدر لمصير الخلافة الأموية. ذلك أن محمد بن أبي عامر، الذي أخذ يبزغ نجمه منذ أواخر أيام الحكم، ما كاد يلي منصب الوزارة، حتى أخذ يستجمع أزمة السلطة في يده تباعاً، ويحطم كل معارضة لسلطانه، وانتهى الأمر بأن فرض ابن أبي عامر نفسه حاكماً مطلقاً للأندلس، وأنشأ مدينة الزاهرة، لتكون له قاعدة جديدة للحكم، واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور (371 هـ - 981 م)، وبالرغم من أنه لم يتعرض بشىء للخلافة الأموية أو رسومها، فإن الخلافة لم تكن في ظل حكمه سوى شبح باهت، واسم بلا مسمى. وهكذا قامت الدولة العامرية واستمرت في ظل المنصور، ثم ولده عبد الملك المظفر، فأخيه عبد الرحمن زهاء ثلاثين عاماً، ثم انتهت بمصرع عبد الرحمن المنصور في رجب سنة 399 هـ (1009 م).
وهنا استعادت الخلافة الأموية سلطانها بقيام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، وتربعه في كرسي الخلافة مكان الخليفة هشام المؤيد، وانتهى بذلك عهد السلطة الثنائية، سلطة الخلافة الأموية الإسمية، وسلطة بني عامر الفعلية، ولكن عودة الخلافة الأموية على هذا النحو لم يكن سوى بداية مأساة مروعة، استمرت زهاء أربعين عاماً، اضطرمت الأندلس فيها بالفتن المدمرة، وغدت الخلافة الإسمية، والسلطة الفعلية، غنماً متداولا، بين بني أمية، والفتيان العامريين، والبربر، وبني حمود، وانتحل بنو حمود ألقاب الخلافة، وقامت في وقت واحد بالأندلس أكثر من خلافة في قرطبة، ومالقة، وإشبيلية، وغدت قرطبة والأندلس كلها مسرحاً لمعارك وحروب أهلية متوالية، ودمرت خلال ذلك مدينة الزهراء الخلافية، وعدة من أحياء قرطبة، وسادت الفوضى كل جنبات الأندلس، واستمرت هذه المحنة زهاء أربعين عاماً، ثم تمخضت في النهاية عن مأساة جديدة.
وهي تمزق الأندلس إلى ولايات ومدن عديدة مستقلة، يحكم كل منها زعيم أو أمير مستقل، وبدأ بذلك عهد الطوائف.
تلك خلاصة وجيزة للأوضاع النظامية، وأنواع الحكم المتوالية، التي عاشت في ظلها الأمة الأندلسية زهاء ثلاثة قرون منذ فتح الأندلس في سنة 92 هـ (711 م) حتى قيام دول الطوائف، في الربع الثاني من القرن الخامس الهجري.(1/683)
- 2 -
الحجابة والوزارة
كانت حكومة الأندلس في عصر الولاة، هيئة إدارية محلية قوامها الحاكم (الوالي) وقادة الجيش. ولم تك ثمة مناصب وزارية بالمعنى المعروف، إذ لم يكن الوالي سوى رئيس مؤقت لإدارة الإقليم، وقد كان الوالي في معظم الأحيان هو قائد الجيش العام. ولم تظهر المناصب الوزارية إلا في بداية عصر الإمارة مذ قامت الدولة الأموية بالأندلس، على يد مؤسسها عبد الرحمن الداخل. وقد اقتبس الداخل لنظام حكومته، من أنظمة الحكومة الأموية بالمشرق، وأنشأ منصب الحجابة، ولكنه لم ينشىء مناصب الوزارة، بل اكتفى بتعيين نفر من أخلص أنصاره كمعاونين ومستشارين، يعاونونه في القيام بأعباء الحكم، ويبذلون له النصح في مهام الأمور. وعين للجيش أيضاً قائده العام. بيد أنه كان يقود الجيش بنفسه مواطن كثيرة. وقد امتازت حكومة الداخل بالاعتماد على الموالي والاسترابة بالعرب، لما لقيه الداخل من خصومتهم ومناوأتهم. وقد غدت هذه الظاهرة فيما بعد، ظاهرة الاسترابة بالعرب، من مميزات الحكومة الأموية بالأندلس، سواء في عهد الإمارة أو عهد الخلافة، واتخذت أسطع مظاهرها في عهد عبد الرحمن الناصر.
واتجهت الحكومة الأموية، إلى جانب الاعتماد على الموالي، إلى اصطناع الصقالبة، واتخذ هذا الاتجاه طابعه القوي منذ عهد الحكم بن هشام، وظهر الصقالبة لأول مرة بكثرة في البلاط الأموي، واحتلوا معظم مناصب القصر والخاص. غير أن الاعتماد على الصقالبة لم يمنع قيام الحجابة والوزارات القوية.
فكان منصب الحجابة في الواقع هو أهم المناصب التنفيذية، وكان يليه في معظم الأحيان رجال من الطراز الأول، أحياناً من رجال السيف، مثل عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث وعبد العزيز بن أبي عبدة حاجبا الحكم، وأحياناً من رجال القلم مثل عيسى بن شهيد حاجب عبد الرحمن بن الحكم، والحاجب جعفر المصحفي، حاجب الحكم المستنصر، وأحياناً يجمع الحاجب بين السيف والقلم مثل الحاجب عبد الكريم، وهاشم بن عبد العزيز حاجب الأمير محمد بن عبد الرحمن.(1/684)
وكان يعاون الحاجب، وهو بمثابة رئيس الوزارة، عدة من الوزراء، يتولون مختلف المناصب الوزارية. وقد بلغت الوزارة في ظل الحكومة الأموية الأندلسية شأواً بعيداً، وتعاقب في ولايتها جمهرة من أعظم الرجال، وألمعهم خلالا، وكانت تضم عدة من أخطر مناصب الدولة، مثل منصب كبير الخاص.
وكان يشغله على الأغلب فتيان الصقالبة. وخطة الخيل. وخطة الكتابة أو الكتابة العليا، وكان يتولاها وزير من الكتاب النابهين. وخطة صاحب المدينة أو حاكم قرطبة، وصاحب المدينة الزهراء، وكانتا من أهم المناصب الوزارية. وخطة المظالم، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم. ولكنها في عهد الناصر، قسمت إلى خطتين (325 هـ)، وجعل العرض خطة مستقلة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة، وكان أول من وليها مستقلة محمد بن قاسم بن طملس، وكان يتولى المظالم وزير، وقد وليها قبله أيام الناصر جماعة من الوزراء النابهين مثل أحمد بن حدير. وعبد الملك بن جهور. وخطة الشئون المالية. وخطة الشرطة، وكانت من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة 317 هـ في عهد الناصر لدين الله، قسمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى؛ وقد رتب رزق الشرطة الوسطى، وسطاً بين رزقي العليا والصغرى، وكان أول من تقلدها سعيد بن سعيد بن حدير. وخطة القضاء، وتتبعها خطة المواريث، وكذلك خطة السوق أو الحسبة. وخطة الشورى، وكانت من الخطط العارضة، ومن المناصب ذات النفوذ العلمي والأدبي قبل كل شيء، وتسند عادة إلى من يعتبر في وقته عميد العلماء وشيخهم، وكان أشهر من وليها رجال مثل بقي بن مخلد. وفي أيام المنصور بن أبي عامر، كان ثمة ديوان يسمى ديوان الندماء، كان يلحق به كل أديب وشاعر ممن يؤثرهم الأمير بصحبته ومجالسته. وفي أواخر الدولة العامرية، غلب الصقالبة في تولي الخطط الكبرى من حجابة ووزارة، وبدأ ذلك بنوع خاص في عهد عبد الملك بن المنصور.
ولما انهارت الدولة العامرية استمرت هذه الظاهرة حيناً، وتولى أولئك الفتيان الحجابة للخلفاء الأخيرين من بني أمية، وغلبوهم على أمرهم، ثم استبدوا فيما(1/685)
بعد، عند انهيار الدولة، برياسة طائفة من المدن والولايات، وكان من هؤلاء أمراء الطوائف، مثل مجاهد العامري صاحب دانية، وخيران العامري صاحب ألمرية.
وظهرت في الدولة العامرية بدعة أخرى، هي إسناد منصب الحجابة إلى الأطفال.
فقد استصدر عبد الملك بن المنصور من الخليفة المحجور هشام المؤيد، مرسوماً بتعيين ولده الطفل محمد في منصب الحجابة، ولقب بذي الوزارتين، وعين عبد الرحمن المنصور ولده الطفل عبد العزيز في منصب الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة. وكانت هذه المهازل وأمثالها دليلا على تصدع ذلك الصرح الإدارى المحكم الذي شاده الأمراء والخلفاء من بني أمية، خلال قرنين من الجهود المتوالية. وفي أيام الخليفة المستظهر العابرة (رمضان - ذو القعدة 414 هـ) استحدث بالوزارة عدة خطط جديدة مثل: خطة خدمة المدينتين الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز، وخدمة المعالي، وخدمة الأسلحة، وخدمة الخزانة، وخدمة الوثائق، ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة، وخدمة أحكام السوق، وهي خطط يصفها ابن حيان بأنها عبث وزخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل.
- 3 -
الجيش، نظامه وتكوينه
كان أول جيش إسلامي عبر إلى شبه الجزيرة لفتح الأندلس، مكوناً من العرب والبربر، وكان قائد الجيش الفاتح، طارق بن زياد، فيما يرجح بربرياً من قبيلة نفزة. وقد لعب البربر منذ البداية في تكوين قوى الأندلس الغازية والدفاعية أعظم دور، وكان تدفقهم من الضفة الأخرى من البحر - من المغرب - على شبه الجزيرة أسرع وأغزر من تدفق المتطوعة العرب، وكانوا يؤلفون الكثرة في جيش الغزو. ولما نظم عبد الرحمن الغافقي جيشه الضخم لغزو بلاد الفرنج، كان البربر من عناصره المختارة الغالبة، وكانت القيادة دائماً بيد الضباط العرب، وكان الخلاف الذي اضطرم منذ بداية الفتح بين العرب والبربر، يعمل عمله المقوض بين صفوف الجيش، وقد بدأ تكوين الجيوش الغازية الضخمة، منذ عهد السمح بن مالك الخولاني والي الأندلس، وكان أعظم هذه(1/686)
الجيوش، الجيش الضخم الذي حشده عبد الرحمن الغافقي لغزو مملكة الفرنج. وبالرغم من أن البربر كان لهم في إنجاح معظم الغزوات الشمالية أثر فعال، فإنهم كانوا أيضاً في بعض الأحيان عنصراً خطراً على سلامة الجيش، لما كان يسودهم في بعض الأحيان من البغض وعدم التعاون لقادتهم العرب. وكان أسطع مثل لذلك الخلاف المدمر، ما حدث في موقعة بلاط الشهداء (114 هـ - 732 م) من تخاذل البربر وتخلفهم عن القتال أمام الفرنج، وإرغامهم هيئة الجيش على الانسحاب بعد مقتل قائده البطل عبد الرحمن الغافقي. ولما قامت ثورة البربر في المغرب، وهزم العرب في منطقة طنجة، وعبرت فلول الجيش المنهزم وهم من الشاميين بقيادة بلج بن بشر القشيري إلى الأندلس، وذلك بدعوة الوالي ابن قطن، ليستعين بهم على مغالبة البربر في الأندلس، رجحت كفة العناصر العربية في الجيش مدى حين. ولكن جيش الأندلس ما لبث أن انقسم إلى قسمين، معسكر الشاميين وهم أنصار بلج، ومعسكر العرب والبربر المحليين. ولبثت الحرب الأهلية تضطرم حيناً، حتى قام يوسف بن عبد الرحمن الفهري فاستقر في ولاية الأندلس، وقام بإصلاح الجيش وتنظيمه، ليعود كما كان جيشاً أندلسياً، يضطلع بالغزو ورد هجمات نصارى الشمال.
وعنى عبد الرحمن الداخل بتنظيم الجيش أشد عناية، وحشد له المتطوعة والمرتزقة من سائر الطوائف. وبلغت قواته يومئذ نحو مائة ألف مقاتل. وهذا عدا الحرس الخاص، الذي يتكون من الموالي والبربر والرقيق، وقد بلغت قواته نحو أربعين ألفاً. ووضع عبد الرحمن الداخل أيضاً نواة الأسطول الأندلسي بما أنشأ من قواعد لبناء السفن في بعض الثغور النهرية والبحرية. ولكن بداية قيام الأسطول الأندلسي الفعلية ترجع إلى ما بعد ذلك بنحو نصف قرن، حينما فاجأ النورمانيون الأندلس بغزو الثغور الغربية، ثم بغزو إشبيلية، والفتك بأهلها.
وكان ذلك في سنة 230 هـ (843 م) في عهد عبد الرحمن بن الحكم، فعندئذ أدركت الحكومة الأندلسية وجوب العناية بأمر الأسطول والتحصينات البحرية وبدىء بإنشاء السفن الحربية. وكانت أكبر دور الصناعة لإنشاء السفن في مياه الوادي الكبير تجاه إشبيلية. ومن ذلك الحين يقوم الأسطول الأندلسي بدوره في شئون(1/687)
الغزو والدفاع، وقد بلغت وحداته في عهد عبد الرحمن الناصر زهاء مائتي سفينة.
ومما تجدر ملاحظته أن الجيش الأندلسي، فد تلقى خلال عهد الفتنة الكبرى التي شملت سائر نواحي الأندلس، ولاسيما المنطقة الجنوبية، واستمرت تضطرم زهاء ستين عاماً، منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) كثيراً من الدربة والتجارب المريرة في معاركه المستمرة مع جيوش الثوار، وأضحى في أواخر هذه الحقبة في عهد عبد الرحمن الناصر، من حيث العدد والكفاية قوة لها خطرها. وقد بذل الناصر جهوداً عظيمة لإصلاح الجيش وتقويته، ومده بالأسلحة والعتاد الوفير. وعنى في الوقت نفسه بأمر الأسطول، فأنشأ له وحدات جديدة، وجعل مركزه الرئيسي ثغر ألمرية، وأنشأ بها أعظم دار للصناعة، وبلغ الأسطول الأندلسي في عهد الناصر، حسبما تقدم، زهاء مائتي سفينة مختلفة الأنواع والأحجام، وهذا عدا أسطول آخر خصص لشئون المغرب البحرية، وكان الأسطول الأندلسي يومئذ من أقوى الأساطيل، وكان يسيطر على مياه إسبانيا الشرقية والجنوبية.
وفي عهد المنصور بن أبي عامر، بلغ الجيش الأندلسي المرابط ذروة القوة والضخامة، وقد رأى المنصور أن يعتمد بالأخص في تكوين الجيش على حشود البربر، فاستقدمهم من العدوة، وبذل لهم الأعطية السخية، وكذلك حشد في جيشه كثيراً من المرتزقة النصارى، ومعظمهم من المستعربين رعايا الحكومة الأندلسية، واستطاع المنصور، بما بذله من جهود عنيفة متوالية، ومن أموال وفيرة، أن ينشىء للأندلس قوة عسكرية هائلة لم تعرفها الأندلس في أى عصر سابق, أو لاحق. وقد نقلت إلينا الرواية بعض أرقام عن الجيش الأندلسي المرابط في عهد المنصور، من ذلك أن الفرسان بلغ عددهم إثنتي عشر ألف ومائة فارس من سائر الطبقات، تصرف لهم النفقة والسلاح والعلافة، وبلغ عدد الرجالة (المشاة) في الجيش المرابط ستة وعشرين ألف مقاتل. وكان عدد الجيش المرابط، يتضاعف وقت الصوائف مراراً بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة، وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف، ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف أيضاً، وقد يعدو المائة ألف أو تزيد.(1/688)
- 4 -
الموارد الاقتصادية وصنوف الجباية
لما افتتح المسلمون الأندلس، كان الشعب الإسباني المغلوب، ما يزال يعيش في ظل بقايا النظم الرومانية، التي اتخذها القوط أساساً لتشريعاتهم ونظمهم الإدارية. وكان عبء الضرائب يقع معظمه على طبقات الشعب الدنيا، ولا يكاد يقع شىء منه على عاتق الأشراف ورجال الدين، ومن إليهم من الطبقات الممتازة. فلما افتتح المسلمون شبه الجزيرة، فرضت الضرائب على قاعدة المساواة دون تمييز بين طبقة وأخرى، وفرضت الجزية على من لم يعتنق الإسلام من أبناء الشعب المغلوب. وفي خلال الحقبة الأولى، التي تميزت باستمرار الغزوات الإسلامية، وما تقتضيه من حشد الجيوش المستمرة، لم تكن موارد القطر المفتوح قد حققت كلها واستغلت. وقد كان من الواضح منذ البداية أن القطر المفتوح قطر زراعي قبل كل شىء. وكان خراج الأرض الزراعية، والجزية، وأخماس الغنائم، هي المصادر الرئيسية للدخل، وقد ازدهرت الزراعة بالأخص عقب الفتح لما حدث من توزيع أفضل للأرض، وتحسين أحوال العاملين فيها، وكان يوسف الفهري آخر الولاة، أول من عدل نظام الضرائب القديم، ففرض على كل ولاية، أن تقدم ثلث الدخل، ورفع الجزية عمن توفوا من النصارى، وقسم الأندلس من الناحية الإدارية إلى خمس ولايات حسبما أسلفنا ذلك في موضعه. وكانت حكومة قرطبة الإسلامية تسيطر على أخصب وأغنى وديان شبه الجزيرة الإسبانية، وكان أهم المحاصيل الزراعية هي القمح والزيتون والفاكهة وغابات الأشجار الخشبية، وما تزال هذه المحاصيل إلى اليوم هي أهم موارد اسبانيا الزراعية. وكذا كان تربية الماشية مورداً من أهم موارد الدخل القومي.
ولما استقرت الأمور، واستطاع الفاتحون أن يضعوا أيديهم على موارد البلاد وثرواتها الطبيعية، وأن يستغلوها بمقدرة وذكاء، لم تبق الزراعة هي المورد الوحيد، وإن لبثت دائماً هي المورد الرئيسي. ذلك أن شبه الجزيرة الإسبانية، تضم ثروات متنوعة من المعادن، كانت تستغل منذ أيام الرومان، فكان يستخرج(1/689)
بها الفضة والرصاص والحديد والذهب والزئبق، والقصدير من أنحاء مختلفة، في الشمال والجنوب، فكانت الفضة والنحاس تستخرج في الشمال، وفي جهة قرطبة، وكورة تدمير، وكان الزئبق يستخرج من جبال البرانس، والقصدير بجهة أكشونبة من ولاية الغرب، وكان البللور يستخرج في منطقة لورقة، والرخام من جبل قرطبة وباغة ومن جبال سيرّا مورينا. وكانت تقوم إلى جانب الزراعة صناعات هامة، مثل صناعة النسيج والملابس والأثاث والفخار والزجاج والورق (1)، وكانت التجارة تزدهر في نفس الوقت داخل شبه الجزيرة، وخلال موانيها الشرقية والجنوبية ولاسيما مالقة وألمرية، وتجبي الدولة من المكوس التجارية، سواء على التجارة الداخلية أو الخارجية أو على السفن الصادرة والواردة مقادير عظيمة.
ولم تأت أوائل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، في عصر عبد الرحمن ابن الحكم، حتى كانت إسبانيا المسلمة, قد بلغت مبلغاً عظيماً من الرخاء، وتضاعفت مواردها من الدخل القومي، وبلغت حصيلة الجباية من المكوس وحدها زهاء ألف ألف دينار في السنة، وبلغت في عهد عبد الرحمن الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار. وبلغت من المستخلص (وهي الأملاك السلطانية) سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وقد ذكرنا فيما تقدم، في موضعه، أن الناصر خلف عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب، هذا عدا ما أنفقه من الأموال الطائلة في مختلف الغزوات، وفي مختلف المنشآت الباذخة التي أقامها، وفي مقدمتها مدينة الزهراء الملوكية، وهي مما يدل على ضخامة الموارد المالية للأندلس في عصر الخلافة.
وفي أيام المنصور بن أبي عامر، في أواخر عصر الخلافة، حققت موارد الدخل زيادة عظيمة، ووصل محصل الجباية وحده إلى أربعة آلاف ألف دينار (أربعة ملايين)، سوى رسوم المواريث وسوى مال السبي والغنائم، واستمرت هذه الزيادة في عهد ولده عبد الملك. ثم كان انهيار الدولة العامرية، وانهيار الخلافة الأموية، واضطرام الفتنة في كل مكان، فتحطمت موارد الدخل، وكسدت التجارة والصناعة، وغاضت أسباب الرخاء.
_______
(1) راجع كتاب الأستاذ ليفي بروفنسال L'Espagne Musulmane aux Xème Siècle; p. 176, 183 & 184.، وكذلك نفح الطيب ج 1 ص 78 و93.(1/690)
الفصل الثاني
الحركة الفكرية الأندلسية في عصري الإمارة والخلافة
- 1 -
لبثت الأندلس عقب الفتح، ردحاً من الزمن، بعيدة عن أن تكون مهداً لنشوء الحركة الفكرية. ذلك أنه خلال عصر الولاية، لم تكن الأمور قد استقرت بعد، ولم تترك مشاغل الغزو، والخلافات الحزبية، والانقلابات المتوالية في الرياسة، كبير مجال لاتجاه الأذهان إلى التفكير والأدب، ومن ثم فإنا لا نجد في هذا العصر كتاباً أوشعراء أو مفكرين ذوي خطر، وإن كنا نجد بعض الآثار الشعرية القليلة، التي ترد على ألسنة بعض الولاة أو الزعماء.
ويمكننا أن نرجع الحركة الفكرية الأندلسية، إلى عصر عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172 هـ. ذلك أن هذا الأمير القوي اللامع، منشىء الدولة الأموية بالأندلس، كان أول شخصية بارزة ظهرت في ميدان التفكير والأدب والشعر، ويمكن أن نعتبره بحق رائد النهضة الأدبية النثرية والشعرية، التي تفتحت فيما بعد، وازدهرت في عهد خلفائه، ولنا فيما أوردناه من نماذج قليلة، من نثره، ومن نظمه، ما يدل على براعته وتفوقه في هذا الميدان.
ومن بين أمراء بني أمية بالأندلس، كان الرواد الأوائل في الحديث والفقه، فقد كان الداخل، فوق براعته الأدبية عالماً بالشريعة، وكان ولده هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة 180 هـ (796 م) مبرزاً في الحديث والفقه. وفي عصر هذا الأمير ظهرت، طلائع النهضة الأولى في ميدان التفكير والأدب، وكان يغلب على هذه النهضة في البداية، الطابع الديني قبل كل شىء، وكان قد رحل في عصر الداخل جماعة من فقهاء الأندلس إلى المشرق، ودرسوا بالمدينة على الإمام مالك وغيره من أقطاب المشرق، واستقوا من علم مالك واجتهاده، ونقلوا عنه كتابه (الموطأ)، وكان في مقدمة هؤلاء فقهاء مبرزون، مثل زياد بن عبد الرحمن،(1/691)
وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى الليثي، وكان زياد بن عبد الرحمن عميد فقهاء الأندلس في وقته، وكان الأمير هشام بن عبد الرحمن يوقره ويجله لعلمه وورعه وزهده، وتوفي في سنة 204 هـ (1). وكذا كان عيسى بن دينار، وأصله من طليطلة، وسكن قرطبة، عالماً راسخاً، وكان أستاذ الفتيا في وقته لا يتقدمه فيها أحد، وكان ممن اتجهت إليهم الريبة في ثورة الربض فهرب واستخفى حيناً، ثم عفا عنه الأمير الحكم وأمّنه، فعاد إلى قرطبة وتوفي سنة 212 هـ (2). وأما يحيى بن يحيى الليثي فقد رحل كزميله إلى المشرق، وسمع من مالك، والليث ابن سعد، وعبد الله بن وهب وغيرهم، وعاد إلى الأندلس ليشغل بين فقهائها مركز الصدارة، وكان ذهناً حراً يعتز بحريته واستقلاله، فلم يل قضاءً، ورفض كل دعوة إلى توليه، وتوفي في سنة 234 هـ (3). وعلى يد أولئك الفقهاء والرواد، ذاع مذهب مالك بالأندلس منذ عصر هشام. وكان هشام نفسه كثير الإجلال لمالك ومذهبه، فزاد ذلك في ذيوع المذهب، وفي تمكين مكانته بالأندلس. وكان هذا بداية لنفوذ الفقهاء في شئون الدولة، وهو نفوذ اشتد فيما بعد، وكان له أثر عميق في تحريك القوى المعارضة، التي انتهت باضطرام ثورة الربض ضد الحكم بن هشام، في سنة 202 هـ (818 م)، وذلك حسبما أوضحنا في موضعه.
وفي عصر الحكم بالذات، تتخذ الحركة الفكرية طابعاً أوسع أفقاً، وتظهر طوالع النزعة الأدبية إلى جانب العلوم الدينية، ويظهر الأدباء والشعراء إلى جانب الفقهاء والمحدثين. وكان في مقدمة من ظهروا في تلك الفترة عبد الملك ابن حبيب بن سليمان السلمي، وأصله من إلبيرة وسكن قرطبة، ثم رحل إلى المشرق وسمع الكثير من علمائه. ولما عاد إلى الأندلس عمل مشاوراً مع يحيى ابن يحيى، وسعيد بن حسان، وكان حافظاً للفقه على مذهب المدنيين، بيد أنه كان إلى جانب الفقه، بارعاً في النحو والعروض والشعر، حافظاً للأخبار والأنساب والأشعار، متصرفاً في عدة فنون. وكتب عدة مؤلفات في الفقه والتاريخ منها " الواضحة " و" الجوامع " وكتاب في " فضائل الصحابة "، وكتاب في " غريب الحديث "، وكتاب " حروب الإسلام "، وكتاب " طبقات
_______
(1) راجع علماء الأندلس لابن الفرضي (مصر) رقم 458.
(2) راجع علماء الأندلس رقم 975.
(3) جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 908.(1/692)
الفقهاء والتابعين " و" مصابيح الهدى " وغيرها، وكان محمد بن عمر بن لُبابة يقول فيه: عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس، ويحيى بن يحيى عاقلها، وعيسى ابن دينار فقيهها. وتوفي عبد الملك بن حبيب في سنة 238 هـ (1).
وفي عصر الحكم بن هشام تتخذ الحركة الفكرية، التي غلب عليها الطابع الديني، حتى ذلك الوقت، طابعاً أدبياً واضحاً، ويبدأ ظهور الكتاب والشعراء المبرزين، وكان الحكم نفسه في مقدمة شعراء عصره وأدبائه، وكان له نظم بارع أوردنا فيما قدم طرفاً منه. ومن شعراء هذا العصر، عباس بن ناصح الجزيري المصمودي، وهو من أهل الجزيرة، وقد رحل إلى مصر والحجاز والعراق، وتلقى على علمائها، ودرس الفقه، ولقي الأصمعي وغيره ببغداد، ثم عاد إلى الأندلس، ومدح الأمير الحكم فندبه لقضاء الجزيرة، وكان بارعاً في اللغة وشاعراً جزلا، يسلك في شعره مسلك العرب القديمة، وكان له أيضاً حظ من الفقه (2). وكان ولده عبد الوهاب بن عباس بن ناصح أيضاً، فقيهاً وشاعراً محسناً (3)، وكان من الكتاب والشعراء أيضاً حاجب الحكم وقائده عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث، ومؤمن بن سعيد. وكان مؤمن شاعراً مبرزاً كثير الشعر. وكان حاد النكتة والنادرة، ومن شعره قوله:
حرمتك ما عدا نظراً مضراً ... بقلب بين أضلاعي مقيم
فعيني منك في جنات عدن ... مخلدة وقلبي في الجحيم (4)
وبلغ الشعر في عصر الحكم ذروته، على يد شاعرين كبيرين، هما العلامة عباس ين فرناس ويحيى الغزال الجيّاني. وكان أولهما عالماً بالفلسفة والفلك والكيمياء الصناعية والموسيقى. وقد أشرنا فيما تقدم إلى مخترعاته العلمية، وإلى محاولته اختراع طريقة لطيران الإنسان. وكان ثانيهما كذلك عالماً بالفلسفة والفلك، وقد عاش كلاهما طويلا بعد عصر الحكم، وفيما أوردناه فيما تقدم من شعرهما دليل على براعتهما في هذا الميدان.
_______
(1) راجع ابن الفرضي، علماء الأندلس، رقم 816.
(2) راجع ابن الفرضي رقم 881.
(3) ابن الفرضي رقم 881.
(4) راجع جذوة المقتبس للحميدي رقم 826، وقضاة قرطبة للخشني (مصر) ص 103 و105.(1/693)
وفي عصر عبد الرحمن بن الحكم، بلغت الحركة الفكرية الأندلسية الأولى ذروتها، ففي ميدان الكتابة احتشد في بلاط الحكم عدة من أكابر الكتاب المبرزين، وفي مقدمتهم الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، ومحمد ابن سليمان الزجّالي، وفي ميدان العلوم الدينية ظهر في عهد عبد الرحمن، جمهرة من أكابر الفقهاء، مثل محمد بن يوسف بن مطروح، ومحمد بن حارث، وعبد الأعلى بن وهب، وبقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضاح، وغيرهم، وكان عميد هذه الجمهرة من الفقهاء بقي بن مخلد، وهو من أهل قرطبة، ودرس على علماء الأندلس وإفريقية، وبرع في الحديث والرواية، ويمكننا أن نعتبره رائد علم الحديث في الأندلس. وقد أنكر عليه بعض خصومه ما أدخله من كتب الاختلاف وغريب الحديث بالأندلس، ووشوا به للأمير محمد بن عبد الرحمن. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما كان من مناظرته لخصومه، وإلزامهم الحجة، وإلى ما حباه به الأمير من عطفه وحمايته، وقد كان ذلك من أسباب انتشار الحديث بالأندلس.
ولبقي بن مخلد عدة مؤلفات فقهية. وله تفسير للقرآن ومسند للنبي، وينوه العلامة ابن حزم في رسالته بعلم بقي وأهمية كتبه، ويقول لنا إن تفسيره للقرآن لم يؤلف في الإسلام مثله (1). وسمع على بقي جمهرة من فقهاء الأندلس، وكان ورعاً زاهداً، وتوفي سنة 276 هـ (2).
وكان من أعلام الفقهاء في هذا العصر، محمد بن عبد السلام الخشني وهو من أهل قرطبة، ورحل إلى المشرق وسمع، في البصرة وبغداد ومصر، وكان فصيحاً جزل البيان، بارعاً في اللغة، ورواية الحديث، وكان أنوفاً منقبضاً عن السلطان، وقد رفض أن يتولى القضاء للأمير محمد بن عبد الرحمن، وتوفي في سنة 286 هـ (3).
وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتمتع به الأمير عبد الرحمن بن الحكم من المواهب الأدبية والشعرية، وأوردنا فيما تقدم طرفاً من شعره. وكان من ألمع شعراء عصره، صديقه وشاعره عبد الله بن الشمر بن نمير، وهو من أهل وشقة، وكان
_______
(1) راجع رسالة ابن حزم عن علماء الأندلس في نفح الطيب ج 2 ص 131.
(2) راجع ابن الفرضي رقم 283.
(3) ترجمته في ابن الفرضي رقم 1134. وهو غير محمد بن حارث الخشني صاحب " قضاة قرطبة " المتوفى سنة 361 هـ.(1/694)
عالماً متمكناً وشاعراً محسناً. وله شعر جيد كثير وقد أخذ الناس من شعره (1).
وكان من أبرز الظواهر الأدبية في هذا العصر، انتشار اللغة العربية وآدابها بين طائفة المستعربين أو النصارى المعاهدين، ونبوغ الكثير منهم فيها، وبلوغهم مرتبة البراعة في كتابتها، ويمكننا أن نذكر من كتابهم المبرزين في هذا العصر، الأسقف جومث بن أنتنيان، قومس أهل الذمة، وكان أديباً بارعاً، وكاتباً مقتدراً، ومن كتاب الأمير عبد الرحمن.
وكانت الفتنة الكبرى في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) وولده الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) عاملا هاماً في اضطرام النهضة الأدبية، والشعرية بنوع خاص. وكان من أبرز شعراء عهد الفتنة الأول عباس ابن فرناس، وقد أوردنا قصيدته في موقعة طليطلة، التي سحق فيها الثوار. وفي أواسط عهد الفتنة ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، وأديب من أعظم أدبائها، هو الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه (246 - 328 هـ) صاحب كتاب " العقد الفريد " الذي يعتبر من أعظم آثار الأدب الأندلسي. ويمكننا أن نعتبر ابن عبد ربه شاعر الدولة المروانية، منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن حتى عهد عبد الرحمن الناصر، وقد ظهر بشعره في موقعة إستجة التي سحق فيها الثائر عمر بن حفصون، وذلك في سنة 278 هـ (891 م)، وظهر بمدائحه للأمير عبد الله، ثم حفيده عبد الرحمن الناصر، وقد كان معلمه في صباه، وبأرجوزته في غزوات الناصر ومآثره. وقد أوردنا من نظمه فيما تقدم عدة من قصائده. وأما كتابه " العقد الفريد " فإنه يعتبر بمحتوياته وتنوعه، من أمتع الكتب في الأدب العربي، وبالرغم من أن موضوعاته، يغلب عليها طابع الأدب المشرقي، فإنه يعتبر عنواناً بارزاً للأدب الأندلسي في مرحلته الأولى. وقد انتقد بعضهم العقد الفريد لأنه " لم يجعل فضائل بلده، واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة ملكه " (2) ويعتبر العقد الفريد بطابعه المشرقي، على النقيض من كتاب " الذخيرة " لابن بسام الشنتريني، المتوفى سنة 542 هـ، والذي يعتبر بمحتوياته وروحه، مثلا ساطعاً للأدب الأندلسي.
_______
(1) ابن الفرضي رقم 691.
(2) راجع نفح الطيب ج 3 ص 126.(1/695)
ومن شعراء عهد الفتنة وأدبائها البارزين سوّار بن حمدون القيسي، وسعيد ابن سليمان بن جودي، وهما من زعماء الفتنة العرب، وكان كلاهما إلى جانب فروسيته من أعلام البيان والنظم في وقته، وقد نقل إلينا ابن الأبار نماذج من نظمهما (1).
وكان من أعلام الأدب في تلك الفترة أيضاً محمد بن أضحى الهمداني، وهو من زعماء العرب بكورة إلبيرة. وكان بارعاً في الأدب، خطيباً مفوهاً، يخطب بين يدي الأمراء في المحافل، وكان خلال الفتنة قد انضوى تحت لواء الأمير عبد الله، ثم انضوى بعد ذلك تحت طاعة الناصر فيمن خضع من ثوار النواحي (2).
وكان الأمير عبد الله نفسه من ألمع شعراء عصره. وكان بارعاً في العربية، حافظاً للغريب من الأخبار، وقد نوه المؤرخ ابن حيان بشاعريته، ورفيع أدبه، وأوردنا نحن فيما تقدم نماذج رقيقة من شعره.
- 2 -
وكان عصر عبد الرحمن الناصر، من ألمع عصور الدولة الأموية بالأندلس، وفيه زهت العلوم والآداب، وظهرت جمهرة من أكابر الشعراء والعلماء. وكان من أعلام تلك الفترة، إلى جانب عميدهم ابن عبد ربه، صاحب العقد الفريد، محمد بن عمر بن لبُابة، وهو من أهل قرطبة. وكان إماماً في الفقه، متمكناً من حفظ الرأي، والبصر بالفتيا، وكان مشاوراً أيام الأمير عبد الله، ثم انفرد بالفتيا أيام الناصر، فلم يكن يشاركه أحد في الرياسة والقيام بالشورى، وكان حافظاً لأخبار الأندلس، وله حظ من النحو والشعر. وقد وُلي الصلاة بالمسجد الجامع، وتوفي في سنة 314 هـ. ومن مؤلفاته كتاب المنتخب في روايات مذهب مالك (3).
وقد حدثنا ابن حيان في المقتبس عن شعراء عصر الناصر الذين التفوا حول بلاطه، وأشادوا بمديحه، فقال: إن " في مقدمتهم معلمه في الصبا أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، ويليه من نمطه عبيد الله بن يحيى بن إدريس، وعبد الملك بن سعيد المرادي، وإسمعيل بن بدر، وأغلب بن شعيب، وحسان بن
_______
(1) راجع الحلة السيراء (طبعة دوزي) ص 80 - 87.
(2) الحلة السيراء ص 98.
(3) ابن الفرضي رقم 1189.(1/696)
حسان [السناط] وغيره، ومن كبار الطارئين عليه من المشرق، طاهر بن محمد المهند البغدادي، ومحمد بن حسين الطبني الإفريقي، وغيرهما، أسلفوا في الناصر لدين الله إحساناً كثيراً.
فمن قول أبي عثمان عبيد الله يحيى بن إدريس في الناصر لدين الله، وقد غزا الروم في شهر رمضان، وأدركه الفطر في بلاد العدو، فلم يتورع، وصمد إلى لقياهم، وقد اجتمعوا:
يهني الخلافة سعي خير إمام ... لله مسعاه وللإسلام
ملك تمكن في المكارم والعلى ... كتمكن الأرواح في الأجسام
عزم الرحيل مصمماً في عيده ... لشفاء غلة سيفه الصمصام
يصل الترحل بالترحل دائبا ... في الحل يحكمه وفي الإبرام
ليعز دين الله في كنف العلى ... ويذب عن حرم الهدى ويحام
مستنجزاً وعد الإله بنصره ... في شيعة الإشراك والإحرام
وقوله حينما نزل الناصر بجيوشه طليطلة، وارتياع الجلالقة لمقدمه، من قصيدة:
على أي فتح تقدما أتتـ ... ـك فتوح الثغر فذاً وتوءما
تباشر تترى من فتوح تواتـ ... ـرت كما تابع النثر الجمان المنظما
ومن نظم أبى الحسن جعفر بن عثمان المعروف بالمصحفي كاتب ولي العهد ْالحكم بن الناصر لدين الله، السامي المحل في الاشتمال على متن البلاغة، من النثر والنظم بالتبريز، ما نظمه وقت انتقال الناصر إلى دين الله عن سرقسطة:
على أيمن الأوقات كان ارتحالك ... وفي أيمن الساعات كان احتلالكا
تنقلت عن دار الشقاق مظفراً ... وقد صال بالمخذول فيها صيالكا
وحاربت ذا السيف العريض بميتة ... أرت مستجيش الشرك كيف اغتيالكا
وأقفلت عنهم والمنايا صوايب ... تسيل بها في ساحتيهم سجالكا
إذا ما القرى رام اغتلاق جفونهم ... فخطفه بالخوف عنها خيالكا
وإن ذهبوا للسير في الأرض مذهبا ... تراءى لهم في كل أفق مثالكا
هل الأجل المرهوب إلا صيالكا ... أم الأمل المرغوب إلا نوالكا
بقيت أمير المؤمنين مملكاً ... فما الروضة الزهراء إلا جلالكا(1/697)
وقال إسمعيل بن بدر في مديح الناصر وذكر غزوته للجزيرة الخضراء:
تطوى المراحل إدلاجاً وتنحيرا ... مشمراً في رضى الرحمن شميرا
وبدر الملوك الذي إشراق سنته ... تجلو عن الدين والدنيا الدياجيرا
من قد قضى الله في ماضى شبيبته ... لا يزال على الأعداء منصورا
قال ابن حيان: " والشعر في الناصر لدين الله رحمة الله عليه، كثير جداً، محمول عن فحول يقدمهم ابن عبد ربه، وابن إدريس، ومهند والطبني ونمطهم ... في تجويد صناعتهم بفضل ما ألفوا لديه من التوسعة عليهم، والإحسان إليهم، فكل منهم كمل فيما صاغه فيه ديواناً بذاته، عفى رسومها، وغيض معينها من الليالي وانصرام الدولة، وتسلط الفتن البربرية، والمطاولة على التواريخ الملوكية، التي كانت له قاصمة وجامعة، حتى مزقت كل ممزق بأيدي الجهال، فهل من باقية " (1).
وكان بين وزراء الناصر وحجابه، عدة من أكابر الكتاب والأدباء، مثل الحاجب موسى بن محمد بن حدير، وقد كان من أهل الأدب والشعر، فضلا عن كونه من بيت رياسة وجلالة (2) وعبد الملك بن جهور، وقد كان وزيراً جليلا، وأديباً وشاعراً محسناً، ومن شعره:
إن كانت الأبدان نائمة ... فنفوس أهل الظرف تأتلف
يارب مفترقين قد جمعت ... قلبيهما الأقلام والصحف (3)
وكان من أعلام تلك الفترة أيضاً القاضي منذر بن سعيد البلوطي (265 - 355 هـ)، وكان بارعاً في علوم القرآن والسنة، وظهر فوق ذلك بفصاحته وجزالة شعره. وقد أشرنا فيما تقدم إلى موقفه الخطابي الرائع، في حفل استقبال سفارة قيصر الروم، وما حباه به الناصر من أجل ذلك، من عطف، وتقدير، وتوليه للخطابة والقضاء. ومن مؤلفاته " كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة ".
وفي عصر الناصر ظهرت حركة دينية، على رأسها أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرّة الجبلي من أهل قرطبة. وكان مولده بها في سنة 269 هـ. وقد
_______
(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحات 27 و31.
(2) جذوة المقتبس رقم 787.
(3) جذوة المقتبس رقم 626.(1/698)
برع ابن مسرة في العلوم الدينية، ولكنه جاهر ببعض الآراء المغرقة، في التأويل والقدر وغيرها، فاتهم بالزندقة وغادر الأندلس. فاراً إلى المشرق وذلك في سنة 298 هـ، ودرس هنالك على أيدي المعتزلة، والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس وهو يخفي نحلته وآراءه الحقيقية، تحت ستار من النسك والزهد. وكان يتخذ لنفسه غاراً يتعبد فيه على مقربة من جبل قرطبة، حتى سمي بالجبلي.
واختلف إليه الطلاب من كل صوب. وكان يستهويهم بغزير علمه وجزالة بيانه، حتى ذاعت شهرته، وتبعه الكثيرون من الصحب والتلاميذ. وقد اختلف في أمر ابن مسرة، فبعضهم يسمو به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع. وتوفي ابن مسرة بقرطبة سنة 319 هـ (931 م) (1). على أن تعاليم ابن مسرة لبثت بعد ذلك حية ذائعة، طوال عهد الناصر، وقام جمهرة من أهل السنة، بمعارضة تعاليمه وإنكارها، ووصل صوتهم في ذلك إلى الخلافة، واضطر الناصر إلى أن يصدر باسمه بياناً في سنة 340 هـ، يستنكر فيه تعاليم ابن مسرة وتلاميذه، ويرميهم بالمروق، والخروج عن تعاليم السنة الحقيقية، وقد أورد لنا ابن حيان هذا البيان الفريد في المقتبس (2)، وقد تحدثنا فيما تقدم عن ابن مسرة وحركته، ولخصنا كتاب الناصر في شأنها.
وفي عصر الناصر بالذات ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، هو أبو القاسم محمد بن هانىء الأزدي الإشبيلي، وقد ولد بإشبيلية في سنة 326 هـ، وظهر منذ حداثته ببراعة شعره وروعة افتنانه، ولكنه اتهم بالكفر والزندقة.
فغادر الأندلس، ولحق بالبلاط الفاطمي بالمهدية، والخليفة المعز لدين الله يتأهب عندئذ لفتح مصر، فأغدق عليه المعز عطفه ورعايته. ولما سار المعز إلى مصر، سار ابن هانىء للحاق به، ولكنه توفي في طريقه في سنة 362 هـ. وقد ُشُبه ابن هانىء بالمتنبي في رصانة شعره، وروعة افتنائه، ومن أشهر قصائده قصيدته التي يصف فيها جيش المعز الذاهب إلى فتح مصر، بقيادة جوهر الصقلي، والتي يقول فيها:
_______
(1) ابن الفرضي رقم 652.
(2) وذلك في النسخة الخطية من السفر الخامس من المقتبس المحفوظة بخزانة القصر الملكي بالرباط بالمغرب وقد نقلناه منه، ونشرناه في آخر الكتاب.(1/699)
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كان الأفق سد بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
ألا إن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حل في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع
تحل بيوت المال حيث محله ... وجم العطايا والرواق المرفع
رحلت إلى الفسطاط أول رحلة ... بأيمن فأل في الذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظمأ لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ويمنهم من لا بغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع
وكان من أعلام الشعر في عصر الناصر أيضاً الوزير جعفر بن عثمان المصحفي، الذي تولى الحجابة فيما بعد لولده الحكم المستنصر، وتوفي في سنة 372 هـ في سجن الزهراء، ضحية لمنافسه القوى محمد بن أبي عامر المنصور. وقد أوردنا من شعره فيما تقدم في غير موطن.
وظهر في عصر الناصر عدد من أكابر الكتاب البلغاء، في مقدمتهم كاتب الناصر الأثير عبد الله بن محمد الزجّالي، وهو الذي أنشأ عن لسانه البيان الخاص بمروق ابن مسرة الذي سبقت الإشارة إليه.
وكان الناصر نفسه عالماً أديباً، يهوى الشعر وينظمه، ويقرب الأدباء والشعراء. وكان في مقدمة شعراء دولته وآثرهم لديه الفقيه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وذلك حسبما أشرنا في موضعه.
وظهر في عهد الناصر عدة من أعلام المؤرخين الذين وضعوا أسس الرواية الأندلسية. أولهم أحمد بن محمد بن موسى الرازي، وقد ولد الرازي سنة 274 هـ وتوفي سنة 344 هـ. ومن تصانيفه " أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم "، وكتاب " الإستيعاب في أنساب أهل الأندلس "، وكتاب في " صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها ". وقد كانت رواية الرازي مستقى خصباً لمؤرخي الأندلس، وفي مقدمتهم عميدهم ابن حيان.
وظهر قرينه ومعاصره ابن القوطية، وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عيسى بن مزاحم؛ ويعرف بابن القوطية لانتسابه بطريق النسب إلى(1/700)
سارة القوطية إبنة وتيزا ملك القوط. وقد ولد بقرطبة وتوفي بها سنة 367 هـ (977 م)، وكان راوية متمكناً حافظاً لأخبار الأندلس. وسير أمرائها وأخبار علمائها وفقهائها وشعرائها. وقد كتب تاريخه المسمى " تاريخ افتتاح الأندلس ".
وكان فوق ذلك من أئمة عصره في اللغة والنحو، وله في ذلك مؤلفات قيمة، وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه، وتؤخذ عنه.
ومن أعلام المؤرخين في ذلك العصر أيضاً أحمد بن موسى العروي المتوفى سنة 388 هـ، وقد ألف كتاباً عنوانه " تاريخ الأندلس ".
واستمرت النهضة الفكرية، التي ازدهرت في عصر الناصر، وفي عهد ولده الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) وازدادت قوة وازدهاراً. وكان الحكم، وهو الخليفة الأديب العالم، رائد هذه الحركة الفكرية العظيمة. وكان من ظواهرها قيام جامعة قرطبة العظيمة، واحتشاد أكابر الأساتذة بين عقودها، وإنشاء المكتبة الأموية الكبرى، التي بذل الحكم في إنشائها من الجهود العظيمة والأموال الزاخرة ما لم يسمع بمثله، حتى بلغت محتويات هذه المكتبة الفريدة زهاء أربعمائة ألف مجلد، من مختلف أصناف العلوم والفنون. وكثرت المكتبات العامة والخاصة، وبلغ شغف اقتناء الكتب أشده في ذلك العصر، واحتشد حول بلاط الحكم، جمهرة من أكابر العلماء، في مقدمتهم الحافظ أبو بكر بن معاوية القرشي، وأبو علي القالي ضيف الأندلس يومئذ، والأديب المؤرخ محمد بن يوسف الحجاري، وإمام النحو والرواية ابن القوطية، وربيع بن زيد الفيلسوف والعلامة الفلكي النصراني، وغيرهم.
وظهر في تلك الفترة جمهرة من الشعراء المبرزين، وكان في مقدمتهم طاهر ابن محمد البغدادي، الوافد من المشرق إلى الأندلس، وكان يعرف بالمهند. وكان شاعراً محسناً، مدح الحكم المستنصر، ثم مدح المنصور بن أبي عامر بعد ذلك، وحظى لديه، وقد اتهم بالغلو في بعض الآراء الدينية. ومن شعره قوله:
متى أشكر النُّعمى التي هي جنتي ... ففي ظلها أمسي وفي ضوئها أضحى
إذا قلت قد جازيت بالشكر نعمة ... شفعت بأخرى منك دائمة السفح
فحمدي لا ينأى وفضلك لاينى ... وأرضي لا تصدى وأفقك لا يضحى (1)
ومنهم محمد بن مطرف بن شخيص، وكان من أهل الأدب البارع، ومن
_______
(1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 515، وبغية الملتمس رقم 859.(1/701)
أعيان الشعراء المجيدين، كان متصرفاً في القول، متقناً لأساليب الجد والهزل، وكان من أخص شعراء بلاط الحكم، وله شعر كثير، ومن شعره في تهنئة الحكم بوفود جعفر ويحيى ابنى حمدون، وتقديم طاعتهم إليه، قصيدة طويلة، هذا مطلعها:
بأيمن إقبال وأسعد طائر ... تباشير محتوم من الأمر واقع
توافت بملك من معدِّ مقوض ... لملك إلى مهدي مروان راجع
فيا لك من بشرى سرور تضمنت ... بلوغ الأماني عن سعود الطوالع
ومن قوله في الغزل:
فهل من شفيع عند ليلى إلى الكرى ... لعلي إذا ما نمت ألقى خيالها
يقولون لى صبراً على مطل وعدها ... وما عدت ليلى فأشكو مطالها
وما كان ذنبي غير حفظ عهودها ... وطي هواها واحتمالي دلالها (1)
ومنهم محمد بن الحسين التميمي الطبني، أصله من طبنة، بلد بأرض الزاب بالمغرب، وكان شاعراً محسناً، وأديباً بارعاً من بيت أدب وجلالة ورياسة، وكان من شعراء الحكم الأثيرين. ومن شعره يهنىء الحكم بحلول عيد الأضحى:
بخلت بجوهر لفظها أن يلقطا ... لما رأته من الجواهر أبسطا
يا أيها الملك المتوج بالهدى ... نوراً على غسق الظلام مسلطا
صل عيدك البهيج السنا في غبطة ... وازدد من الأعياد ألفا مغبطا (2)
ومنهم يحيى بن هذيل، وكان من أهل العلم والأدب والشعر الجيد؛ وتوفي سنة 386 هـ، ومن شعره:
لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم ... غيم حكى غبش الظلام المقبل
وعلت مطارفهم مجاجت الندى ... فكأنما مطرت بدرٍّ مرسل
لما تحركت الحمول تناثرت من ... فوقهم في الأرض تحت الأرجل
فبكيت لو عرفوا دموعى بينها ... لكنها اختلطت بشكل مشكل (3)
ومنهم، ومن أشهرهم يوسف بن هارون الرمادي القرطبي المعروف بأبى جنيش، كان من أشهر شعراء الأندلس في وقته، واشتهر بالأخص بشعره
_______
(1) جذوة المقتبس رقم 144. وبغية الملتمس رقم 276، والمقتبس، قطعة أكاديمية التاريخ ص 54 و60.
(2) جذوة المقتبس رقم 38، والمقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 94.
(3) جذوة المقتبس رقم 907، وبغية الملتمس رقم 1494.(1/702)
الهجائي، وكان سريع البديهة مشهوراً عند العامة والخاصة، لسلوكه في فنون مختلفة من المنظوم. ومدح الرمادي الحكم المستنصر، ولكنه وقع تحت طائلة غضبه لما صدر منه من شعر قاذف في حقه، وأمر باعتقاله مع باقي الشعراء الهجائيين، حماية للناس من ألسنتهم، وزج الرمادي إلى السجن مدة، وكتب خلال اعتقاله كتاباً سماه " كتاب الطير " وصف فيه كل طائر معروف. ثم عفا عنه الحكم وأطلقه مع باقي إخوانه. وتوفي الرمادي فقيراً معدماً أيام الفتنة في سنة 403 هـ.
ومن شعره قوله:
لا تنكروا غرر الدموع فكل ما ... ينحل من جسمي يصير دموعا
والعبد قد يعصى وأحلف أنني ... ما كنت إلا سامعاً ومطيعا
قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلماً ... يمنن علي برده مصدوعا (1)
ونبغ في تلك الفترة عالم من أعظم علماء اللغة في الأندلس، هو أبو بكر محمد ابن الحسن الزبيدي النحوي الإشبيلي. وقد وضع في اللغة والنحو عدة كتب مشهورة منها " الواضح " و" لحن العامة " " وأخبار النحويين "، كما وضع مختصراً لكتاب " العين "، إلى غير ذلك. وكان في نفس الوقت أديباً بارعاً، وشاعراً محسناً، وقد أورد لنا الحميدي شيئاً من نظمه، وندبه الخليفة الحكم، حسبما أسلفنا في موضعه لتدريس اللغة لولده هشام، وألزمه بالبقاء في قرطبة، ولم يأذن له بالرجوع إلى وطنه إشبيلية. وتوفي الزبيدي قرابة سنة 380 هـ (2).
وكان الخليفة الحكم المستنصر نفسه، فوق تمكنه من العلوم الشرعية وتحقيق الأنساب، أديباً ينظم الشعر الرائق. وقد أوردنا من قبل في موضعه شيئاً من نظمه.
ثم كان الانقلاب العظيم، في مصاير الخلافة الأموية، وتغلب محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور على الدولة، وكان من حسن الطالع أن المنصور بنشأته وخلاله العلمية اللامعة، كان من أعظم رواد الحركة الفكرية، وكان المنصور عالماً متمكناً من الشريعة والأدب، بارعاً في النثر والنظم، وقد ذكرنا فيما تقدم شيئاً من نثره ونظمه. وكان يعشق مجالس العلماء والأدباء، حتى أنه كان خلال الغزو، يصطحب معه طائفة من الكتاب والشعراء، ينتظمون في مجلسه خلال
_______
(1) الصلة لابن بشكوال رقم 1491، وجذوة المقتبس رقم 878.
(2) جذوة المقتبس رقم 34.(1/703)
السير، وكان شاعره الأثير أبو العلاء صاعد بن حسن البغدادي المتوفى سنة 417 هـ، وكان قد وفد من المشرق على الأندلس، في أوائل عهد المنصور، وكان عالماً باللغة والأدب والتواريخ، فقربه المنصور، وأغدق عليه عطفه، وجمع له صاعد كتاباً سماه " بالفصوص في الآداب والأشعار والأخبار " فأثابه عنه المنصور بخمسة آلاف دينار، وأمر أن يقرأه على الناس بمسجد الزاهرة (1).
بيد أن المنصور، بالرغم من شغفه بالعلم والأدب، لم يبد تسامحاً إزاء الفلسفة والفلاسفة، أو بعبارة أخرى إزاء الأفكار الحرة. وقد كانت هذه النزعة الضيقة الأفق، تمثل نفس التيار الذي يندفع فيه كل حاكم مطلق. وقد رأينا فيما تقدم كيف طورد عباس بن فرناس، في عهد عبد الرحمن بن الحكم، واتهم بالزندقة لما أبداه من براعة علمية وفنية خارقة، وكيف طورد تلاميذ ابن مسرة وطوردت تعاليمه في عهد الناصر، وأصدر الناصر منشوره بتكفيره وتكفير تلاميذه، وقد استمر هذا التيار الرجعي فيما بعد في عهد الطوائف، حيث أحرقت كتب حزم، وفيما تلا بعد ذلك من عهود، وذلك حسبما نذكره في موضعه.
وكان من أعظم شعراء الأندلس في عصر المنصور أبو عمر أحمد بن محمد ابن درّاج القسطلي. وكان كاتباً بليغاً من كتاب ديوان الإنشاء، وشاعراً لامعاً في نفس الوقت. وقد نبغ في ميدان الشعر نبوغاً جعله عمدة شعراء عصره. وكان من شعراء المنصور المقربين، وله فيه مدائح رائعة، نقلنا بعضها فيما تقدم، ولما توفي المنصور في سنة 392 هـ، تجول ابن دراج في أنحاء الأندلس، ومدح بعض أمراء الطوائف، مثل خيران العامري صاحب ألمرية، ومبارك ومظفر صاحبا بلنسية، والمنذر بن هود صاحب سرقسطة. وقد قال العلامة ابن حزم في حقه، إنه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن دراج، وتوفي ابن دراج في سنة 420 هـ (1029 م) (2).
وكان من أكابر الفقهاء والحفاظ في عصر المنصور، عبد الرحمن بن فطيس قاضي الجماعة بقرطبة، وكان من أئمة المحدثين وكبار العلماء، حافظاً متمكناً من الحديث، عارفاً بأسماء الرجال، وله مشاركة في مختلف العلوم، وتقدم في
_______
(1) كتاب الصلة لابن بشكوال (مصر) رقم 540.
(2) راجع جذوة المقتبس للحميدي رقم 186، وبغية الملتمس للضبي رقم 342.(1/704)
معرفة الآثار والسير والأخبار، وكان جمّاعة للكتب، وقد جمع منها ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس. تقلد قضاء الجماعة بقرطبة سنة 394 هـ، مقروناً بولاية الصلاة والخطبة، وذلك إلى جانب عمله في الوزارة، وذلك أيام المظفر عبد الملك المنصور، وكان مشهوراً في أحكامه بالنزاهة والصلابة في الحق، ونصرة المظلوم، وله مؤلفات كثيرة منها كتاب " أسباب نزول القرآن " و" كتاب في فضائل الصحابة " و" أعلام النبوة ودلالات الرسالة " و" مسند حديث محمد بن فطيس " وغيرها، وتوفي ابن فطيس أثناء الفتنة البربرية في سنة 402 هـ (1).
* * *
ولما انقضى عهد الدولة العامرية، وانهارت الخلافة الأموية، واضطرمت الفتنة بالأندلس، انكمشت الحركة الفكرية، وشغلت الأمة الأندلسية بما دهاها من أمر الفتن المتوالية، وتعاقب الرياسات، ومع ذلك ففي غضون الفتنة، نجد من الخلفاء من يتذوق الشعر وينظمه. فقد كان الخليفة سليمان المستعين، أديباً متمكناً، وشاعراً مطبوعاً، أشاد ابن بسام بأدبه وشاعريته. وقد أوردنا له فيما تقدم قصيدته الرائعة التي يعارض فيها شعر الخليفة الرشيد. وكذلك كان الخليفة المستظهر أديباً شاعراً من الطراز الأول، وقد نوه ابن بسام بمواهبه الأدبية، وأورد له طائفة من القصائد الجيدة.
وحتى في ظل الخلافة الحمودية البربرية، كان للأدب والشعر دولة ومكانة، وكان الخليفة العالي خليفة مالقة أديباً ينظم الشعر. وكان من شعراء دولته الشاعر الكبير، عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني، وكان أديباً بارعاً، وشاعراً متقناً، وهو الذي مدح العالي بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
البرق لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين
ونكتفي بتلك الصورة الموجزة، عن سير الحركة الفكرية الأندلسية، في عهد الإمارة، وعهد الخلافة. وقد ذكرنا فيما تقدم أثناء استعراضنا لتاريخ هذين العهدين كثيراً من تفاصيلها، وأشرنا إلى كثير من أعلام الفكر والأدب، ممن لم نر أن نعود إلى ذكره في هذا الفصل.
_______
(1) الصلة لابن بشكوال رقم 682.(1/705)
الوثائق والملحقات(1/707)
وثائق تاريخية
- 1 -
كتاب الخليفة الناصر لدين الله بشأن حركة ابن مسرة
(منقول عن السفر الخامس من كتاب " المقتبس " لابن حيان، وهو المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط لوحات 13 و14 و15).
" وأنفذ الخليفة الناصر لدين الله إلى آفاق مملكته، شأن هؤلاء المبتدعة (يعني تلاميذ ابن مسرة) كتاباً طويلا قرىء عليهم بأمصارهم، من إنشاء الوزير الكاتب عبد الرحمن بن عبد الله الزجّالي، نسخته:
" بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تعالى جده، وعز ذكره، جعل دين الإسلام أفضل الأديان، فأظهره وأعلاه، ولم يقبل من عباده غيره، ولا رضى منهم سواه، فقال في محكم تنزيله: " ومن يتبع غير الإسلام دينا، فلن يقبل منه ... " الآية، وقضى في محتوم أمره، ونفاذ حكمه، أن تنسخ به الديانات، ويختتم برسالته الرسالات، فبعث محمداً خاتم النبيين، وأكرم الأكرمين، وأعز الخلايق على رب العالمين، بأن كتب الصلاة والسلام عليه في عرشه قبل أن يخلقه، واصطفاه لأمانته قبل أن يكونه، وأرسله بأفضل دين سماه حنيفاً إلى خير أمة اختارها ... كما قال عز من قائل، إذ عرّفنا فضل ما هدانا إليه من الدين، وكرمنا به على سائر الأمم: " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر ... " الآية. فله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، الشكر على خصايص هذه الفضيلة، والحمد بالمنة الجليلة، فقد استنقذ من الغواية وهدى، فأحسن الهداية، وأبان الحجة، وكفانا بواضح المناهج مؤنة الفكرة، ونظم زمام الأمة، وجمع وجوه السعادة العاجلة، النجاة الآجلة في تأليف الجماعة، واجتبا فيهم رعاية الفرقة، حيث يقول عز وجهه، لنبيه صلى الله عليه وسلم .. به وبعباده المخصوص بهداه، ورأفة بسطها على خير .. وإعلاما لهم ... بتواصل الدين من قبله لأنبيائه ... وكراهته لاختلافهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا(1/708)
إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... " الآية. فخوف وحذر، ونهى عن افتراق الكلمة، ونبه على البعد، ونفى الله الخبيث عنها، وفضلها على ساير البلدان، واستقر فيها الدين، كهيئته يوم أكمله الله لعباده. ولما استوسقت الطاعة، وشملت النعمة، وعم الأقطار، بعدل أمير المؤمنين، السكون والدعة، طلعت فرقة لا تبتغي خيراً، ولا تأتمر رشداً، من طغام السواد، ومن ضعف آرايهم، ومن خشونة الأوغاد، كتباً لم يعرفوها، ضلت فيها حلومهم، وقصرت عنها عقولهم، وظنوا أنهم فهموا ما جهلوا، وتفقهوا فيما لم يدركوا، واستولى عليهم الخذلان، وأحال عليهم بخيله ورجله الشيطان، فزينوا لمن لا تحصيل لهم، ولقوم آمنين لا علم عندهم، فقالوا بخلق القرآن، واستيئسوا، وآيسوا من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وأكثروا الجدل في آيات الله، وحرموا التأويل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبريت منهم الذمة بقوله تقدست أسماؤه: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون، الذين كذبوا بالكتاب، وما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الجحيم ثم في النار يُسجرون. فهذا أبلغ الوعيد، وأفضع النكال، لمن جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه: ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ... " ثم تجاوزوا في البهتان، وسدوا على أنفسهم ألوان الغفران، فأكذبوا التوبة، وأبطلوا الشفاعة، ونالوا محكم التنزيل، وغامض متن التأويل، بتقدير عقولهم: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم، يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب. فصاروا بجهل الآثار، وسوء حمل الأخبار إلى القدح في الحديث، وترك نجح السبيل، فأساءوا الفهم عن العوام، وأقدموا بمكروه القول في السلف الصالح، واستبدلوا على نقلة الحديث، ووضعوا من الكتب لوضعها، وتابعوا شهواتهم فيها، وتتابعوا فيما ... وورطهم، ورأوا لتخضع وحشة بحثها لازم الضلالة، وداعية الهلكة، والشذوذ عن مذهب الجماعة، من غير نظر نافذ في دين، ولا رسوخ في علم، حتى تركوا رد السلام على المسلمين، وهي التحية التي نسخت تحية الجاهلين. خلافاً على أدب الله تعالى، وقوله جل جلاله: وإذا حييتم(1/709)
بتحية، فحيوا بأحسن منها أو ردوها، وقالوا بالاعتزال عن العامة وشدوا ... وكشفوا بتكررهم الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، فلجوا في جهالتهم، وتاهوا في غيهم، ونكسوا على رؤوسم، حقداً على الأمة الحنيفة، واعتقاداً لبغضتها، واستحلالا لدمايها، وزرعاً إلى انتهاك حرمها، وسبي ذراريها، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، لولا أن سيف أمير المؤمنين من ورائهم، ونظره محيط. ولما صار غيهم فاشياً، وجهلهم شايعاً، واتصل بأمير المؤمنين من قدحهم في الديانة، وخروجهم عن الجادة، فأشغل نفسه، وأقض مضجعه، وأسهد ليله، أغلظ أمير المؤمنين في الأخذ فوق أيديهم، وأوعز إيعازاً شديداً، وأنذر إنذاراً فظيعاً، وعهد عهداً مؤكداً شافياً كافياً، نظر به لوجهه تبارك اسمه، وقدم فيه بين يدى العقاب الشديد، وأمر بقراءة كتابه هذا على المنبر الأعظم بحضرته، ليفزع قلب الجاهل، ويفت كبد المستهتر الحاير، وينقض عزم العاند المعاجل، ويضطر الغواة إلى الإثابة الصحيحة، التي يتقبلها الله منهم، أو يكشف عن الأذهان سراريهم فيكون عليهم شهيداً، ويأتيهم عذاب غير مردود. ورأى أمير المؤمنين أن يشمل بنظره أقطار كوره، ويرسله في بدوه وحضره، وأن ينفذ عهوده إليك، وإلى ساير قواده، وجميع عماله بها، يقرأ على منابر المسلمين، ولا يحرم القاصي ما عم الداني من تطهير هذا الرجز وتمحيصه، وكفاية المسلمين شبهته وفتنته، فلم يحل الديار، ولا تعقب الآثار، ولا استحق البلا على قوم، ولا أهلك الله أمة من الأمم، إلا بمثل ما تكشف هذه الطغمة الخبيثة، من التبديل للسنة، والاعتداء في القرآن العظيم، وأحاديث الرسول الأمين، صلوات الله عليه وسلم، هذا عند وروده عليك في قبلك، ونشره في سماع رعيتك، وتتبع هذه الطايفة بجميع أعمالك، وابثث فيهم عيونك، وطالب فيهم غورهم جهدك، فمن تحلى منهم بما انتسب إليهم، وقامت عليه البينات بذلك عندك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم ومواضعهم، وأسماء الشهود عليهم، ونصوص شهاداتهم، لنعهد باستجلابهم إلى باب سدته، لينكلوا بحضرته، فيذهب غيظ نفسه، ويشفي حنين صدره، وإياك أن تهون من أهل الريبة، وتتخطاهم إلى ذوي السلامة والأحوال الصالحة، فإن فرطت في أحد الأمرين أو كليهما. فقد برىء الله منك، وأحل دمك، ومالك، فاعلمه، واعتد به إن شاء الله تعالى ".(1/710)
- 2 -
كتاب الخليفة الناصر لدين الله عن غزوة الخندق
(منقول من السفر الخامس من كتاب " المقتبس " لابن حيان، وهو المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط، في حوادث سنة 327 هـ).
قال ابن حيان: وأما لفظ كتاب الفتح الوارد من قبل الناصر لدين الله إلى الحضرة بخبر هذه الغزوة من إنشاء عيسى بن فطيس الكاتب، فإن الفصل الذي رفع فيه خبر هذه الوقعة، وقع كما أثبته هاهنا:
" واستعزم الله أمير المؤمنين ليلته، واستخاره عن رحمته في النهوض إلى مدينة شنت مانكش دار الكفرة ومجمع النصرانية، التي إليها استركن عدو الله، وضاقت الحيل عليهم، ووثقوا بحصانته، ليعلمهم أن كلمة الله هي إظهار دينه، ونصر أوليائه، وإعزاز خلفائه، في مشارق الأرض ومغاربها، ولو كره المشركون، فضم صاحب المقدمة عمال الثغور عندهم وفرسانهم وخيلهم، واكتنف الجمع في مجنبتي العسكر مع من والاهم، وجرد الرجالة من الخيول بأسلحتهم، وصمد لجمع المشركين، فاستقبلهم بنية صادقة، ونفس صابرة، وجموع كثيفة، وكتايب تملأ الفضا، ومغانب تضيق عنها الشعاب، ويصير في سهل الأرض كالآكام، تتألق عليهم سوابغ الدروع، فإذا تداعوا، قلت موج تراكم، وإذا وقفوا فكأنما النقع عليهم ليل مظلم. فلما قربت العساكر من محل الخنازير، ثابوا فيما بينهم، وثاروا إلى خيولهم، وعلوا الشراقين، ينظرون إلى كتايب دين الله، بقلوب قد خلعها الذعر، وقبضهم عن التقدم الوجل، وجعلوا بينهم وبين المسلمين وادي بشررقه، ثقة بوعورته، وقلة مخاوضه، فلم ترعهم إلا مقدمة الجيش وراءه، قد سهل الله عليهم جوازه، وتبعتهم الأثقال، وتحيز أمير المؤمنين كدية سامية، يتطلع منها على عسكر المسلمين، فأمر بالاضطراب فيها للعسكر، وتقدمت الخيول بين يديه، وقد تلاحقت جموع الكفرة، وقدموا صلبانهم، ووثقوا بشيطانهم الذي غرهم. وكان المسلمون على نشطة إلى لقايهم، فلم ينتظر أولهم إلى أن توافي آخرهم، ولا فارسهم أن يقتعد براجلهم، وتخطوا(1/711)
الرماح إلى السيوف، والطعن إلى الضرب، وكروا في حومة المنايا، كرّ من يحمي حليله، ويخشى بعد ساعة أن تسبى ذريته، فلم ير المسلمون حرباً مثلها، ولا شهدوا يوم وغى أطول من يومهم ذاك. ونصر الله تعالى يهون عليهم ما هم فيه، حتى فضوا جموع المشركين (لوحة 143 أ)، وزلزلوا ردؤهم التي كانت أكاليل الجبال، وردم الشعاب، وضمهم إلى معسكرهم، وأثارت سنابك الخيل من القتام، ما غيب من كان في القلب عمن يليه من يمين الحرب ويسارها.
وكان محمد بن هاشم في وقدتها حاثاً سعيره قد طال به مدامها، واستدارت حوله رحامها، فكبا به فرسه، ولم يعلم أحد بمصرعه، فصار في أيدي الخنازير أسيراً، فاستشفوا به الحياة. بعد اليأس منها، فجالدوا بنفوس قد عاودتها رمقها، وانحاز المسلمون إلى معسكرهم، قد قتلوا من أعلام المشركين وقوامسهم وأهل البأس من فرسان الحرب، ومن صبر لوقع السيف، فكانت مصيبتهم بمن قتل منهم عظيمة، فلما أصبح أمير المؤمنين لمحلته، أمر بحمل من عقر فرسه، وصلة من أغنى في حربه، وتعرض المشركون للحرب تعرض من قد تنخل لعدو قد أصابهم، ونكايته قد فلقت قلوبهم. فلما كان في اليوم الثالث من احتلاله، عهد أمير المؤمنين إلى صاحب العسكر بمصاحبتهم بالحرب، وقد تلاحقت بهم المدود من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة، إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم، وهتف على المسلمين بالخروج تحت راياتهم، والتأهب للقاء عدوهم، وأغدوا في نهوضهم، ونزل صاحب العسكر، فرتب تعيينهم، فكثف الردوء، وضم إليها الرجال، وألزم القلب بنفسه، وميز فيه خيل الميمنة والميسرة، وقدم إليهم المقاتلة، وأقام بين يديه جملة الخيل عدة، فإذا رأى في جهة من جهات الحرب خللا سده واستدركه، أو فتقاً رتقه، حتى كانت أيدي المسلمين في الماقط عالية، فتلظت الحرب واحتدمت، وكأن المنايا إنما قصدت فيها أعلام الكفرة وقوامسهم، فصرع قومس غرماج، وابن أخي الخنزير ابن فرذلند، وشيخ النصرانية وعميدها ابن دخبر، إلى العدد الجم من فرسانهم، وأهل الصبر منهم، وانجلت الحرب عن هزيمتهم، وانكشاف أجبل قد كانوا علوها، وسدوا بالخيل والرجال ما بينها، وظنوا أن لا غالب لهم، فزلزلوا زلزالا شديداً، وانصرف المسلمون بعد الظفر والسلامة في المنقلب،(1/712)
فباتوا بأنعم بال، وأسكن حال. فلما ظن أعداء الله أن قد ملوا حربهم، وتجددت لهم مدودهم، رفعوا معسكرهم، وقدموا صلبانهم، وخرجوا بفارسهم وراجلهم فألقوا إلى ما يلي منهم العسكر، سراع خيولهم، فبادر المسلمون إليهم تبادر الأسود الضارة، فغادرو موقفهم، وجالدوا بسيوفهم، حتى انفرج الموقف عن قتل عظيم من عظمائهم، وأعولوا عليه، واستداروا حواليه، وانصرفوا قد أذلهم الله، ووهنهم، وهون عليهم جمعهم، ووفور مددهم، في ضبط المعيشة، وقلة التبسط، ومصابحة الحرب ومماساتها، حتى كأنهم أهل حصن حوصروا فيه، أو فل جيش لا يستطيعون الرجوع إليه. وأقام أمير المؤمنين ومن معه من جيوشه وحشده، وأهل البصاير والحفايظ، وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمل من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجو النجاة بنفسه، فأمر بالرحيل وقد ضاعف النظر، والعدو في ضبط ساقة جيشه لما توقع خروج الكفرة في أثره. وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله أن ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل، ونهض يطأ بلادهم وطأة متثاقل، حتى انصرف إلى نهر دويرة، واستقبل عمارته من حصن مانكش التي اتصلت بنكاية أهله، فلم يدع في جليقية حصناً إلا هدمه، ولا معاشاً إلا انتسفه، حتى انتهى إلى مدينة روضة، وهي خالية على عروشها، فأقام على هدمها، وهدم حصن دبيلش معها، يومين كانا أطول على أعداء الله من عامين، لما غير فيهما من نعمهم، وهدم من مساكنهم، وقطع من شجرهم. وكان أمير المؤمنين يَرَ التقدم على نهر دويرة إلى شنت إشتيبن وغرماج لنقص الزروع لديه وضيق (143 ب) العلف بإفساده. فرفع إليه من حضره من أهل مدينة الفرج وحصونها، يشكون ما يلقونه من مشركي وادي أبينه، ومعاقلها، وترددوا عليه ضارعين إليه، أن يجعل ممر الجيش المؤيد على حصونهم وعمارتهم، وذكروا أن ذلك أنفع لهم ولأهل الثغور معهم، من الإيغال في بلد المشركين، ونكاية من لا ينالهم بغارة، ولا ينهض إليهم بقوة، فصرف الجيوش عند ذلك إلى وادي أبينه، فلم يدع فيها حصناً إلا هدم، ولا قرية إلا هدمت، ولا معاشاً إلا استقصى جميعه. فلما صار في آخره ولم يبق موضع يقوم الجيش بالتردد عليه، أمر الأدلاء بالكشف عن أفضل الطرق إلى حصن أنتيشه، وأرفقها بالمسلمين في منصرفهم برازح ظهرهم، وأحوط عليهم في(1/713)
طريقهم، وأجمعوا على قصد حصن قشترب، وأيأسوا من الخروج على غيره، فلما استقبل أمير المؤمنين لامه، وقطع بعض محلته، استقبل شَعْراء لا يتخللها المتفرد بحمده، ولا يتخلص منها المخف، لو لم يكن أحد يعترضه. ثم أشرف على خنادق قفرة ومهاو تتقاذفه، وأجراف منقطعة قد عرفها المشركون وقدموا إليها، وألقوا إلى ساقة الجيش فرسانهم، فدارت عليهم الحرب، وصرع فيها من جلة فرسانهم، ومتقدمي رجالهم جملة، لو أصيبت بحيث يتراء الجمعان لكانت سبب هزيمتهم، ولكنهم وثقوا بالوعد، وانتظروا تقدم الحماة وترادف الأثقال، فحامى أمير المؤمنين برجاله وخاصته عن المسلمين ساعات من النهار، حتى تقدم أكثرهم، وجازت الخندق لقتالهم، إلا من ضعفت دابته، ْأو ضعفت تعبئته عن استنفارها. فلما رأوا الخلل تصايحوا من قنن الجبال، وانحطوا من أعاليها انحطاط الأوعال، فأصابوا من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لو أصاروا مثله في مجال حرب أو سهل من الأرض، لما أنكر مثله عند مقارعة الرجال، وتصرف الأحوال. وحامى صاحب العسكر عن كل من أجاز الخندق وخلص من مضايقه، حتى أسهلوا، واجتمع لأمير المؤمنين جيوشه وانتظمت جموعه، وسلم الله رجاله، فلم يصب منهم أحد. وفي ذلك دليل للسامع عن الموقعة أنها لم تدر بغلبة، ولا ظفر المشركون أظفروا به فيها عن مساواة ولا كثرة، ولكن ضيق المسالك، ووعر الطريق، وسوء فهم الدليل، خلى لما جلبه إلى أقدار الله تعالى التي لا تصرف، ومحنه التي لم يزل يمتحن بها أولياءه، ليعظهم، ويبتلي عبيده ليرهبهم، وأمير المؤمنين، شاكر لله تعالى على عظيم نعمه، وواقف على تصرف محنته، مستسهل ما اختص به في حب طاعته، ضارع إلى الله في التقبل لقوله وفعله. وكتابه إليك، وهو قافل بالمسلمين على أحسن أحوالهم، وأسهل طريقهم، وأجمعه بمعايشهم، إن شاء الله. فأمر بقراءة كتاب أمير المؤمنين على الناس قبلك أثر صلاة الجمعة ليشكرو الله على ما أنعم به من نصر إمامهم، وسلامة إخوانهم، والصنيع الذي عمهم، فإنه يحب الشاكرين، ويزيد الحامدين. واعهد نسخه إلى عمال الكور حولك إن شاء الله تعالى، والله المستعان. وكتب يوم الإثنين لثمان خلون من ذي القعدة سنة سبع وعشرين وثلاث ماية ".(1/714)
ثبت المراجع
1 - مراجع أندلسية وإسلامية عامة
تاريخ ابن خلدون المسمى " كتاب العبر " (بولاق).
تاريخ الكامل لابن الأثير (الطبعة الأهلية 1303 هـ).
تاريخ الطبري المسمى " تاريخ الأمم والملوك " (الطبعة الأهلية).
تاريخ أبي الفدا المسمى " المختصر في أخبار البشر " (الطبعة الأهلية).
فتوح البلدان للبلاذري (القاهرة 1932).
مروج الذهب للمسعودي (بولاق).
نهاية الأرب للنويري (القسم التاريخي ومعظمه ما زال مخطوطاً).
وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق).
كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة (القاهرة 1325 هـ).
كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار لتقي الدين المقريزي (الطبعة الأهلية 1324 هـ).
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (طبعة دار الكتب).
فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم المصري (طبع لجنة ذكرى جب).
يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي (القاهرة 1947).
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري (القاهرة 1302 هـ).
أخبار مجموعة في فتح الأندلس لمؤلف مجهول (مدريد 1867).
تاريخ افتتاح الأندلس لأبي بكر بن القوطية (مدريد 1868).
البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي (الجزء الأول الخاص بإفريقية والثاني الخاص بالأندلس المنشوران بعناية العلامة دوزي (ليدن 1848 - 1849) والثالث المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال. بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لابن عميرة الضبي (ضمن المكتبة الأندلسية).
كتاب الصلة لابن بشكوال (ضمن المكتبة الأندلسية، والقاهرة سنة 1955) قضاة قرطبة لأبى عبد الله الخشني المنشور بعناية الأستاذ ربيرا (مدريد 1914).(1/715)
دولة الإسلام في الأندلس
تأليف: محمَّد عبد الله عِنَانْ
العصر الثاني
دُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي
__________
الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة
الطبعة: الرابعة، 1417 هـ - 1997 م(2/1)
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الرابعة
1417 هـ = 1997 م
رقم الإيداع: 8988/ 90
الترقيم الدولى: 4 - 082 - 505 - 977
مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 4827851(2/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الطبعة الأولى
إن عصر الطوائف من بين عصور التاريخ الأندلسي، أكثرها تشعباً وأوفرها تبايناً واضطراباً، لا تكاد تجمع بين وحداته المتناثرة جامعة مشتركة، ولكل وحدة منها ظروفها وسيرتها الخاصة، ومن ثم كانت الإحاطة بأحداث هذا العصر، وتنسيقها وربط حلقاتها، واستخراج خواصها، من أشق المهام التاريخية.
وهذا المجلد من " دولة الإسلام في الأندلس " يتضمن تاريخ هذا العصر المضطرب - عصر الطوائف -، وهو يكون " العصر الثاني " من تاريخ الأندلس. وإنه ليسعدني أن أضعه اليوم بين أيدي القراء، بعد هذه الأعوام العديدة، التي انقضت منذ ظهور العصر الأول. على أن هذه الأعوام لم تذهب بحمد الله سدى، فقد أخرج خلالها العصر الرابع والأخير من " دولة الإسلام في الأندلس " باسم " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، ولم يبق علينا لاستكمال هذه الموسوعة من التاريخ الأندلسي إلا أن ننجز العصر الثالث منها، وهو المتضمن " تاريخ الأندلس في عصر المرابطين والموحدين ".
ويشغل عصر الطوائف من تاريخ اسبانيا المسلمة زهاء سبعين أو ثمانين عاماً، منذ انهيار الخلافة الأندلسية، على إثر انهيار الدولة العامرية (سنة 399 هـ - 1009 م) وتفكك الدولة الأندلسية الكبرى، وانقسامها إلى وحدات متعددة، تقوم في كل وحدة منها دولة أو مملكة من ممالك "الطوائف"، تزعم لنفسها الاستقلال والرياسة المطلقة، ولا تربطها بجاراتها أو زميلاتها، أية رابطة، إلا أن تكون المنافسة، أو الحرب الأهلية في سبيل الغنم والتوسع. وهذا البحر الخضم من المنافسات والمنازعات والحروب الأهلية الإنتحارية، هو قوام عصر الطوائف.
وقد مضينا في تتبع أحداث هذه الحقبة المؤلمة من تاريخ الأندلس، حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، استجابة لصريخ الطوائف، ونصرة للأندلس، وإنقاذاً لها من خطر الفناء الداهم، الذي لاح لها قوياً منذراً، ولاسيما بعد سقوط(2/3)
طليطلة في أيدي النصارى، ثم تحول حملات الإنقاذ المرابطية بعد ذلك إلى حملات غازية، واستيلاء المرابطين على الأندلس تباعاً، وضمها إلى الإمبراطورية المغربية الكبرى، وذلك فيما بين سنتي 483 - 502 هـ (1090 - 1108 م).
وقد راعينا في كتابة تاريخ هذا العصر، أن نتناول ممالك الطوائف، كل على حدتها، وأن نستكمل سيرتها منذ قيامها حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، ثم سقوطها في أيديهم، ورأينا أن هذه الطريقة تحقق من الدقة والوضوح والاستيعاب، ما لا يحققه الأسلوب المشترك، الذي سار على نهجه بعض الكتاب الغربيين.
وقد اقتضت هذه الطريقة، في بعض الأحيان، شيئاً من التكرار، في هذا الفصل أو ذاك، ولكنه تكرار بسيط وغير ممل، فضلا عن ضرورته لاستكمال السياق.
وأود أن أذكر هنا أنني قد زرت سائر قواعد الطوائف ومدنها، خلال رحلاتي المتوالية في شبه الجزيرة الإسبانية، ودرست مواقعها وخواصها ومواصلاتها.
وقد كان لهذه الدراسة الإقليمية، أكبر الأثر في تيسير فهم طبيعة الحروب الأهلية التي كانت تقوم بين ممالك الطوائف، ودوافعها الجغرافية، وتحديد مواقعها، وكذلك في تيسير مهمة الكتابة عنها، واستيعاب بواعثها وتفاصيلها.
وقد رجعت في كتابة هذا القسم من تاريخ الأندلس إلى مادة غزيرة منوعة.
ومن حسن الحظ أن قد انتهت إلينا من كتابات المعاصرين عدة آثار هامة، في مقدمتها تاريخ ابن حيان معاصر فتنة الطوائف ومؤرخها قبل كل شىء؛ وإذا لم يكن هذا التاريخ قد وصل إلينا كله بالذات، فإن ما نقل إلينا منه عن طريق الكتاب اللاحقين، ولاسيما ابن بسام وابن عذاري يحمل إلينا منه مادة قيمة. وكذلك الفيلسوف ابن حزم، وهو مثل ابن حيان معاصر للفتنة، ومتتبع لأدوارها، ودارس لظواهرها وتطوراتها، وقد انتهت إلينا منه نبذ تاريخية، وملاحظات نقدية عديدة عن خواص عصر الطوائف، تمتاز بدقتها وعميق نظراتها. ويلحق بهذين الكاتبين المعاصرين اثنان آخران عاشا في أواخر عصر الطوائف، وشهدا خواتيمه، هما ابن بسام الشنتريني، والفتح بن خاقان. ويقدم لنا ابن بسام في مؤلفه الجامع "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، فضلا عما ينقله إلينا من الشذور التاريخية العديدة عن ابن حيان وغيره، وما يقدمه إلينا من نبذ تاريخية بقلمه، أروع صور لتاريخ عصر الطوائف الأدبي والاجتماعي، ومجموعة حافلة(2/4)
من تراجم أمرائه وأعيانه ووزرائه وكتابه وشعرائه، ومختارات عديدة من رسائلهم، ومنثورهم ومنظومهم. وقد كان كتاب "الذخيرة" سواء بما نشر منه، أو بأجزائه المخطوطة، من أقيم مصادرنا وأغزرها، ولا سيما قسمه الثالث، وهو المتعلق "بالجانب الشرقي من جزيرة الأندلس". قد رجعنا في هذا القسم - وهو ما يزال مخطوطاً - إلى نسخته المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة جاينجوس). أما الفتح بن خاقان، فيقدم لنا في كتابه "قلائد العقيان" تراجم طائفة كبيرة من أمراء عصر الطوائف ووزرائه وفقهائه، وهو يقدمها إلينا في أسلوب مسجع متكلف، بيد أنه ينطوي من آن لآخر، على بعض المعلومات والحقائق التاريخية؛ كما يقدم إلينا في كتابه "المطمح" بعض تراجم أخرى من تراجم رجالات الطوائف.
ونكتفي فيما يتعلق بالمصادر، بهذه الإشارة إلى المصادر المعاصرة. وأما المصادر العديدة الأخرى، التي رجعنا إليها، من عربية وأجنبية، ومن مخطوطة ومطبوعة، فقد سجلناها في أماكنها، ثم أثبتناها مجتمعة في نهاية الكتاب. ونود أن نشير بهذه المناسبة إلى أنه قد أتيح لنا خلال بحوثنا بمكتبة الإسكوريال، أن نراجع بعض المصادر المخطوطة، وفي مقدمتها كتاب الحلة السيراء لابن الأبار، وقد راجعنا فيه سائر التراجم المخطوطة التي حذفها دوزي من النسخة المطبوعة، وضمنها مصنفه عن بني عباد Historia Abbadidarum، كما أتيح لنا أن نقف على بعض النصوص والوئائق الهامة، وذلك بالأخص في مجموعتين مخطوطتين، تحمل أولاهما رقم 488 الغزيري، وهي مجموعة ناقصة من أولها وليس لها عنوان معين، والثانية رقم 538 الغزيري وعنوانها "مجموعة رسائل تاريخية وأدبية".
وقد انتفعنا بالأخص في المجموعة الأولى بعدة رسائل مرابطية هامة وردت بها، وفي مقدمتها رسالة يوسف بن تاشفين عن موقعة الزلاّقة، وكذلك بعض رسائل أخرى تتعلق بالطوائف، وبها تصحيحات لبعض الوقائع والحوادث التاريخية.
وقد أثبتنا بعض هذه الرسائل في نهاية الكتاب في باب الوثائق.
وقد عنيت وفقاً لما سرت عليه في العصر الأول من " دولة الإسلام في الأندلس " بكتابة تاريخ اسبانيا النصرانية، خصوصاً وقد اجتازت في عصر الطوائف، عدة تطورات هامة، وشغلت مركز الصدارة والغلبة، وبدأت تنفذ(2/5)
سياسة " الإسترداد " La Reconquista بقوة، ولاسيما بعد استيلائها على مدينة طليطلة. أولى القواعد الأندلسية العظيمة الذاهبة.
كما عنيت بأن أثبت بعض الخرائط التاريخية الموضحة للتطورات الجغرافية، التي جازتها شبه الجزيرة الإسبانية في عصر الطوائف، وخريطة للإمبراطورية المرابطية الكبرى بعد افتتاح الأندلس.
وإني لأرجو وأنا أقدم إلى قراء العربية هذا العصر الجديد من " دولة الإسلام في الأندلس ". أن يتاح لى أن أنجز بعون الله في المستقبل القريب. عصره الثالث، وهو عصر المرابطين والموحدين، وبذلك تكمل هذه الموسوعة التاريخية الأندلسية بسائر عصورها (1).
القاهرة في ربيع الأول سنة 1380
الموافق سبتمبر سنة 1960
محمد عبد الله عنان
_______
(1) وقد ظهر كتاب " عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس " بالفعل في مجلدين كبيرين (سنة 1965)، وبذلك تمت الموسوعة الأندلسية بسائر عصورها.(2/6)
تصدير
مضت عدة أعوام منذ صدرت الطبعة الأولى من كتاب "دول الطوائف" في سنة 1960 متضمناً للعصر الثاني من "دولة الإسلام في الأندلس"، وشغلت خلال هذه الأعوام بإخراج العصر الثالث من هذه السلسلة، وهو "عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس" وتمت بظهوره بحمد الله وعونه، موسوعة الأندلس بعصورها الأربعة.
واليوم نقدم الطبعة الثانية من "دول الطوائف". وبالرغم من أننا كنا قد استوفينا في الطبعة الأولى، سائر ما قصدنا إليه من استيعاب تاريخ هذه الدويلات الأندلسية، استيعاباً مفصلا ودقيقاً، فإنه عرضت لنا، خلال الأعوام الأخيرة طائفة من التعديلات والإضافات رأيناها جديرة بالتدوين، ومعظمها مستقى من المصادر المخطوطة. وقد تمت هذه الإضافات بالأخص بالنسبة للفصل الثالث من الكتاب الثالث المتعلق بتاريخ مملكة دانية والجزائر، وبالنسبة للفصل المتعلق بخواص الطوائف السياسية والاجتماعية والحضارية (الخاتمة). وقد ألحقنا بباب الوثائق وثيقة جديدة هامة، هي رسالة أبي عامر بن غرسية الشهيرة في تفضيل العجم على العرب، وذلك بعد أن ناقشنا محتوياتها، وأوردنا طائفة من الآراء والتعليقات الخاصة بها، وذلك في موضعها عند الكلام على تاريخ مملكة دانية.
وفي اعتقادنا أن الكتاب بصورته الجديدة، وبما أدخل عليه من الزيادات، يلقي أضواء جديدة على تاريخ دول الطوائف، وتاريخ رجالات هذا العصر وأحواله، وكل ضوء يلقي على تاريخ هذا العصر، يمهد لنا السبيل لدراسة العصر اللاحق، وهو عصر الفتح المرابطي والرياسة المرابطية للأندلس.
وقد علمت خلال قيامي بإعداد هذه الطبعة، من صديقي العلامة المستشرق الإسباني الكبير الأستاذ أمبروسيو هويثي ميرانده، أنه يعتزم أن يترجم هذا الكتاب(2/7)
إلى اللغة الإسبانية؛ ليتيح للباحثين الإسبان فرصة الاطلاع بلغتهم على النصوص والمصادر العربية، وعلى وجهات النظر الأخرى. لكي تتسم بحوثهم في هذا الميدان بالانصاف وسعة الأفق.
واني لأرجو لصديقي العلامة الكبير التوفيق في مهمته الجليلة. كما أرجو أن يجد القراء في هذه الطبعة الجديدة، مزيداً من الضوء على تاريخ الطوائف وأحوال دولهم وعصرهم.
القاهرة في رجب سنة 1389
الموافق سبتمبر سنة 1969
محمد عبد الله عنان(2/8)
صفحتان من القسم الثالث من كتاب الذخيرة لابن بسام المخطوطة المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة جاينجوس)(2/9)
صفحتان من رسالة ابن غرسية الموجودة بالمخطوط رقم 538 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال(2/10)
تمهيد
نذر الانحلال والتفكك
- 1 -
في فترة قصيرة لا تتجاوز نصف القرن، تقلبت الأندلس بين مرحلتين متباينتين كل التباين. فهي في منتصف القرن الرابع الهجري وحتى أواخر هذا القرن، تبلغ ذروة القوة والتماسك، في ظل رجال عظام مثل عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر، والحاجب المنصور؛ ثم هي منذ أوائل القرن الخامس، تنحدر فجأة إلى معترك لا مثيل له، من الاضطراب والفتنة والحرب الأهلية المدمرة، لتخرج من هذه الغمار بعد فترة قصيرة، أشلاء لا تربطها أية رابطة مشتركة.
وإنه لمنظر مروع مؤس معاً، ذلك الذي تقدمه إلينا الأندلس في تلك الفترة العصيبة من تاريخها، منظر القواعد والمدن الأندلسية، التي كانت من قبل تلتئم في عقد منتظم واسطته مدينة قرطبة العظيمة، وتسطع في ظل حكومة الخلافة القوية، وتلتف حول عرش الخلفاء المؤثل، وهي تغدو حبات متفرقة منفردة حائرة، تقوم في كل منها حكومة محلية هزيلة، على رأسها متغلب من أهل العصبية أو الرياسة، يسيطر على أقدارها لحساب نفسه. ثم هي بعد ذلك كله، تخوض غمار سلسلة لا نهاية لها من الفتن والحروب الأهلية الصغيرة، وتنسى في خلال هذه الفترة الخطيرة المؤسية من حياتها أو تتناسى، قضية الأندلس الكبرى، قضية الحياة والموت، أو بعبارة أخرى قضية الصراع ضد العدو الخالد - أعني اسبانيا النصرانية -.
بيد أن انتثار شمل الأندلس على هذا النحو لم يكن سوى نتيجة طبيعية للعوامل السياسية والاجتماعية التي توالت في الحقبة السابقة. بل نستطيع أن نرجع هذه العوامل إلى بداية قيام الدولة الأموية ذاتها، أعني إلى عهد عبد الرحمن الداخل.
فقد رأينا هذا الزعيم القوي, بعد أن استولى على تراث الأندلس، واستتب له الأمر، يعمل بكل ما وسع للاستئثار بالسلطة، وإخماد النزعة القبلية، وتحطيم الزعامات والرياسات العربية المحلية. وقد حذا خلفاؤه من أمراء بني أمية حذوه(2/11)
في تتبع العصبية العربية والقضاء عليها. وقد بلغ هذا الصراع بين السلطة المركزية، وبين المنتزين عليها، ذروته في أواخر القرن الثالث الهجري، إبان اضطرام الفتنة الكبرى، وتفاقم ثورة المولدين والعرب، في عهد الأمير عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن (275 - 300 هـ)، حينما اندلع لهيب الثورة، في كل ناحية من نواحي الأندلس، وظهر الزعماء العرب والبربر في معظم النواحي، واستقلت معظم الكور والمدن الكبيرة عن قرطبة. وقد استطاع عبد الله أن يخمد الثورة في كثير من النواحي، وأن ينقذ سلطان بني أمية من الخطر الداهم، ثم جاء من بعده عبد الرحمن الناصر، فأتم المهمة، وقضى على جذور الفتنة من أساسها، وعمل على تدعيم سلطانه بكل الوسائل، فاشتد في مطاردة القبائل والأسر العربية ذات البأس والعصبية، وقضى على رياستها وزعامتها المحلية، ومال إلى اصطناع الموالي والصقالبة، وأولاهم النفوذ والثقة، فاستأثروا في عهده بأرفع المناصب في القصر وفي الحكومة والجيش، وكان من جراء ذلك أن انصرفت القبائل العربية عن الولاء له، وكان تخاذلها في نصرته يوم موقعة الخندق الشهيرة (327 هـ)، يرجع من وجوه كثيرة، إلى سخط الزعماء العرب لسياسته، في إذلالهم وسحق نفوذهم ومكانتهم.
ولم يحد المنصور بن أبي عامر، حين استولى على السلطان، عن هذه السياسة في تدعيم الحكومة المركزية، وسحق كل سلطة محلية. وبالرغم من أنه ينتمي إلى بيت من أكرم البيوتات العربية، فإنه عمل على سحق العصبية العربية، وعمل في نفس الوقت على سحق عصبية الفتيان الصقالبة، ولم يستبق منهم إلا أقلية مخلصة. وآثر أن يعتمد في الجملة على ولاء البربر، فكان منهم معظم قادة الجيش، وكان منهم خلفاء المنصور وعماله في المغرب. وفضلا عن ذلك فقد كان من جراء نظام الطغيان المطلق الذي فرضه المنصور على الأندلس، قرابة ثلاثين عاماً، أن توارت معظم الزعامات والعناصر النابهة في المجتمع الأندلسي من الميدان، ولكنها لبثت في مكانها وعزلتها، ترقب فرص الظهور والعمل.
ومن جهة أخرى فقد كان هذا النظام المطلق، الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، يخفي في ثنياته كثيراً من عوامل الهدم والانتقاض. فقد كانت سائر العناصر التي تعاونت في إقامته وتدعيمه، يتربص بعضها ببعض، ويخشى كل منها على مركزه وسلطانه. وكانت ثمة معارك خفية تجري بين البربر(2/12)
وخصومهم من الصقالبة، في القصر وفي الحكومة. وكان بنو أمية يميلون إلى الصقالبة مواليهم القدماء، ويكرهون البربر، إذ كانوا سنداً للمنصور في استلاب سلطانهم، وكانت البطون العربية تكره هؤلاء وهؤلاء، ولكنها ترى في البربر خصمها الأساسي، وهو من آثار الخصومة القديمة، التي لبثت تضطرم بين العنصرين منذ عصر الفتح.
وهكذا اجتمعت هذه العوامل لتحدث أثرها في الوقت الملائم، واجتمعت في ظلها العناصر الناقمة من سائر الطبقات. فلما وقع الانفجار، وانهارت دعائم الطغيان العامري، ظهرت في ميدان النضال ثلاث قوى: بنو أمية يلتفون حول علم خلافتهم وتراث بيتهم المغصوب. وطوائف البربر تحاول الاحتفاظ برياستها وامتيازاتها. والأسر العربية التي اضطهدت وأبعدت عن الميدان، تحاول استرداد مكانتها وزعامتها القديمة. وظهرت إلى جانب هذه القوى الثلاث، طائفة أقل شأناً، ولكنها استطاعت أن تنتزع نصيبها من أسلاب السلطة، وهي طائفة الفتيان الصقالبة أو الفتيان العامريين.
ولم يصمد بنو أمية في ميدان النضال طويلا. ذلك أنه لم تكن لهم، بعد العوامل الأدبية، التي جمعت بعض طوائف الشعب تحت لوائهم، قوة مادية يعتد بها، ومن ثم فإنه لم تمض بضعة أعوام (399 - 407 هـ) تولى الخلافة خلالها محمد ابن هشام المهدي، فسليمان المستعين، فهشام المؤيد، ثم سليمان للمرة الثانية، حتى استطاع بنو حمود البربر أن ينتزعوا الخلافة، وأن يتزعموا حكومة قرطبة لفترة قصيرة. ثم تطورت الحوادث بسرعة، وعاد بنو أمية فاستردوا الخلافة، وحكموا في قرطبة عدة أعوام أخرى (414 - 422 هـ)، وتولى الخلافة منهم المرتضى. فالمستظهر. فالمستكفي بالله. فهشام المعتد بالله، وهو آخرهم. وبخلعه في أواخر سنة 422 هـ (1031 م) تختتم الدولة الأموية رياستها في الأندلس بصورة نهائية، بعد أن دامت منذ قيام عبد الرحمن الداخل في سنة 138 هـ (756 م) مائتين وأربعة وثمانين عاماً.
وهكذا اختفت القوة الأولى - أعني بني أمية - من ميدان النضال بسرعة، وقد كان واضحاً منذ البداية، أنها لم تكن قوة ذات شأن، ولم تكن سوى رمز تحيط به هالة باهتة من الجلال القديم، ومن الاعتبارات الشرعية والأدبية.
ولم تحقق ظفرها القصير المضطرب، إلا بالاعتماد على قوى وعناصر أخرى، ذات(2/13)
ولاء مريب قلَّب. وتركت بعد اختفائها من الميَدان القوتين الأخريين، وهما البربر والعصبية العربية، وجهاً لوجه.
واستطاع البربر بزعامة بني حمود، أن يسيطروا زهاء ثلث قرن، على المثلث الجنوبي في شبه الجزيرة الإسبانية، وأن يقيموا لهم ملكاً وخلافة، آناً بقرطبة وإشبيلية، ثم بمالقة والجزيرة. وكانت إمارة باديس بن حبوس الصنهاجي بغرناطة، تحمي الجناح الشمالي الغربي، لتلك الخلافة البربرية، فلما انتهت دولة بني حمود سنة 449 هـ (1057 م) كان البربر أثناء ذلك، وبعد أن خسروا معركة قرطبة، قد بسطوا سلطانهم على معظم القواعد الواقعة جنوبي نهر الوادي الكبير، وامتداده لنهر شنيل، مثل قرمونة وإستجة ومورور، وأركش، ورندة، ومالقة، وأن ينتزعوا الرياسة في نفس الوقت، في بعض المناطق الشرقية والغربية الشمالية، على نحو ما نفصل بعد.
وأسفر النضال بين هذه القوى الخصيمة، بعد فوز البربر برياسة المناطق التي سبق ذكرها، عن فوز الأسر العربية، بمعظم القواعد الأندلسية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية وسرقسطة وبلنسية ومرسية وألمرية. واستطاع الفتيان العامريون أن يبسطوا سلطانهم على معظم المناطق الشرقية وعلى ألمرية لفترة قصيرة.
- 2 -
وأضحت الأندلس في أواخر النصف الأول من القرن الخامس الهجري، تقدم إلينا ذلك المنظر المدهش الذي أشرنا إليه فيما تقدم: منظر الصرح الشامخ، الذي انهارت أسسه، وتصدع بنيانه، وقد اقتصت أطرافها، وتناثرت أشلاؤها، وتعددت الرياسات في أنحائها، لا تربطها رابطة، ولا تجمع كلمتها مصلحة مشتركة؛ لكن تفرق بينها بالعكس، منافسات وأطماع شخصية وضيعة، وتضطرم بينها حروب أهلية صغيرة، والأندلس خلال ذلك كله تفقد مواردها وقواها القديمة تباعاً، ويحدق بها خطر الفناء من كل صوب.
هذه الدول الصغيرة، المتخاصمة المتنابذة، التي قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى، تعرف بدول الطوائف، ويعرف رؤساؤها بملوك الطوائف وهم ما بين وزير سابق، وقائد من ذوي النفوذ والصحب، وحاكم لإحدى المدن، وشيخ للقضاء، وزعيم من ذوي المال والحسب. وقد ظهروا جميعاً إبان(2/14)
الفتنة، وبسط كل سلطانه، على ما أتيح له من المدن والأراضي، وأخذ يعمل على تدعيم ذلك السلطان وتوسيعه، وتأسيس الملك لبنيه.
وليس أبلغ تعبيراً في وصف حال الأندلس عقب الفتنة وقيام دول الطوائف من تلك النبذة التي يقدمها إلينا ابن الخطيب حين يقول:
وذهب أهل الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق، إلى حيث لم
يذهب كثير من أهل الأقطار، مع امتيازها بالمحل القريب، والخطة المجاورة لعبّاد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرث، ولا في الإمارة سبب، ولا في الفروسية نسب، ولا في شروط الإمامة مكتسب. اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجبوا العمالات والأمصار، وجندوا الجنود، وقدموا القضاة، وانتحلوا الألقاب، وكتبت عنهم الكتاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ودونت بأسمائهم الدواوين، وشهدت بوجوب حقهم الشهود، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسلت إليهم الفضلاء، وهم ما بين محبوب، وبربري مجلوب، ومجند غير محبوب، وغفل ليس في السراة بمحسوب، ما منهم من يرضى أن يسمى ثائراً، ولا لحزب الحق مغايراً، وقصارى أحدهم يقول: "أقيم على ما بيدي، حتى يتعين من يستحق الخروج به إليه"، ولو جاءه عمر بن عبد العزيز لم يقبل عليه، ولا لقي خيراً لديه. ولكنهم استوفوا في ذلك آجالا وأعماراً، وخلفوا آثاراً، وإن كانوا لم يبالوا اغترارا، من معتمد ومعتضد ومرتضى وموفق ومستكف ومستظهر ومستعين ومنصور وناصر ومتوكل، كما قال الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس ... ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صَوْرَة الأسد (1)
وما أشار به ابن حيان، معاصر الفتنة التي أسفرت عن قيام دولهم ومؤرخها.
إلى تلك الفتنة، وإلى هاته الدول بأسلوبه القوي اللاذع، إذ يقول في مقدمة تاريخه الكبير:
" فركبت سنن من تقدمني، فيما جمعت من أخبار ملوك هذه الفتنة البربرية، ونظمته وكشفت عنه، وأوعيت فيه ذكر دولهم المضطربة، وسياستهم المنفرة،
_______
(1) أعمال الأعلام (طبع بيروت) ص 144. وقائل هذين البيتين هو أبو الحسن بن رشيق القيرواني. وتروي الشطرة الثانية من البيت الأول بصورة أخرى هي: " أسماء مقتدر فيها ومعتضد " (المعجب للمراكشي ص 4).(2/15)
وأسباب كبار الأمراء المنتزين في البلاد عليهم، وسبب انتقاض دولهم، حال فحال بأيديهم، ومشهور سيرتهم وأخبارهم، وما جرى في مددهم وأعصارهم، من الحروب والطوائل، والوقائع والملاحم، إلى ذكر مقاتل الأعلام والفرسان، ووفاة العلماء والأشراف، حسب ما انتهت إليه معرفتي ونالته طاقتي " (1).
ونستطيع القول بأن تمزق الأندلس على هذا النحو، كان ضربة، لم تنهض الأندلس من آثارها قط، بل كان بداية عهد الانحلال الطويل الذي لبثت تتقلب فيه بعد ذلك زهاء أربعة قرون أخرى. وبالرغم من أن عهد الطوائف الحقيقي لم يطل أكثر من سبعين عاماً، وبالرغم من أن الأندلس، قد التأم شملها بعد ذلك في ظل المرابطين ثم الموحدين من بعدهم، وبالرغم من أنها استطاعت أن تسترد تفوقها العسكري القديم في شبه الجزيرة الإسبانية في فترات قصيرة: بالرغم من ذلك كله، فإن الأندلس لم تستطع أن تسترد وحدتها الإقليمية القديمة، ولا تماسكها القديم قط، بل لبثت بالعكس، خلال صراعها الطويل مع اسبانيا النصرانية، تفقد قواها ومواردها تباعاً، وتنكمش رقعتها الإقليمية تدريجياً. حتى إذا كان منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، رأينا رقعة الوطن الأندلسي، ترتد إلى ما وراء نهر الوادي الكبير، وتنحصر في مملكة غرناطة الصغيرة، ورأينا قواعد الأندلس القديمة الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وسرقسطة وبلنسية ومرسية وغيرها، تغدو مدناً إسبانية نصرانية، ويغدو ميزان القوى في شبه الجزيرة الإسبانية بيد مملكة قشتالة الكبرى.
- 3 -
والواقع أن تاريخ الطوائف، يبدأ منذ سقوط الدولة العامرية، في نهاية المائة الرابعة. ذلك أن قيام الخلافة الأموية، خلال الفترة القصيرة التي عاشتها في أعقاب الفتنة، لم يكن سوى حادثاً محلياً، ولم يتعد أثره الفعلي قرطبة وأرباضها.
وقد رأينا كيف استطاعت الدولة الحمُّودية، أن تقيم سلطانها في نفس الوقت في قرطبة وإشبيلية ثم مالقة والجزيرة، وكيف قامت كذلك دولة بني مناد البربرية في غرناطة، وسيطرت عناصر أخرى من البربر، في معظم القواعد الأندلسية الواقعة جنوبي الوادي الكبير. وإلى جانب هذه الدول البربرية، التي قامت منذ أوائل المائة
_______
(1) نقله ابن بسام في الذخيرة (القسم الأول - المجلد الثاني ص 88).(2/16)
الخامسة، كانت ثمة دول أو دويلات عديدة أخرى، تتكون تباعاً في معظم قواعد الأندلس الأخرى الشرقية والغربية والوسطى، في الوقت الذي كانت تقوم فيه خلافة قرطبة، بيد أنها لم تنزع ولاءها الرسمي للحكومة المركزية، ولم تتخذ طابعاً واضحاً من الاستقلال المحلي، إلا بعد سقوط الخلافة النهائي.
ونحن إذا ألقينا نظرة على الخريطة، ألفينا رقعة الوطن الأندلسي الكبرى، وقد انقسمت عقب الفتنة من الناحية الإقليمية إلى ست مناطق رئيسية: الأولى منطقة العاصمة القديمة قرطبة وما إليها من المدن والأراضي الوسطى، والثانية منطقة طليطلة أو الثغر الأوسط، والثالثة إشبيلية وغربي الأندلس وما إليها من الأراضي حتى المحيط الأطلنطي، والرابعة غرناطة وريُّه والفرنتيرة، والخامسة منطقة شرقي الأندلس أو منطقة بلنسية وما إليها شمالاً وجنوباً، والسادسة منطقة سرقسطة والثغر الأعلى. وهذا كله إلى عدد كبير من المدن والقواعد الأندلسية التي استقلت بنفسها، واعتبرت إمارات قائمة بذاتها داخل منطقة، أو أخرى، ثم اختفت تباعاً بالانضمام أو الخضوع إلى إحدى الإمارات الأخرى.
وهكذا نجد أن كل منطقة من المناطق المشار إليها، تضم من الناحية الإقليمية إمارة أو أكثر من إمارات الطوائف، وتختلف من حيث الرقعة، والأهمية السياسية، والعسكرية، والاجتماعية.
وإذا لم تكن قرطبة، من حيث رقعتها الإقليمية، ومواردها الاقتصادية والعسكرية، أهم دول الطوائف، فقد كانت من الناحية الأدبية بين دول الطوائف ذات أهمية خاصة، نظراً إلى كونها كانت مقر الخلافة، وقاعدة الحكومة المركزية، وفي وسعها من الناحية الأدبية أيضاً، أن تدعى الولاية - الاسمية على الأقل - على باقي الإمارات والمدن الأندلسية الأخرى، وهو ما ادعته حكومة قرطبة المحلية بالفعل. ومن ثم فقد رأينا لهذه الاعتبارات الأدبية والتاريخية، أن نبدأ الحديث عن دول الطوائف بالكلام عن إمارة قرطبة.(2/17)
الكِتابُ الأوّل
قرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى(2/19)
الفصل الأوّل
دولة بني جهور في قرطبة
نهاية الخلافة الأموية، أبو الحزم بن جهور واختياره لرياسة الحكومة. نشأته ونباهة بيته. ولايته قرطبة. حكومة الجماعة. أوضاعها ورسومها. مثيلاتها في الجمهوريات الإيطالية، سياسة ابن جهور وإجراءاته الإدارية والمالية. موقفه من أسطورة ظُهور هشام المؤيد. وفاته وقيام ولده أبي الوليد مكانه. وزراؤه. ابن حيان وابن زيدون. محنة ابن زيدون وفراره. ابن السقاء يتولى الأمور. مصرعه. الخلاف بين عبد الملك وعبد الرحمن ولدى أبي الوليد. المأمون بن ذى النون يحاول غزو قرطبة. استنصار عبد الملك بابن عباد. غدر ابن عباد واستيلاء جنده على المدينة. نهاية الدولة الجهورية. موقف المؤرخ ابن حيان وتعليق ابن بسام عليه.
تحدثنا فيما تقدم، في الفصل الثاني من الكتاب الرابع من " دولة الإسلام في الأندلس "، عما حدث من تقلب خلافة قرطبة بين أعقاب بني أمية، وبين المتغلبين من بني حمود، وكيف أنه عندما غادر علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة 417 هـ إلى مالقة، ثار القرطبيون وفتكوا بالحامية البربرية، وأجمعوا على رد الأمر لبني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جَهْور بن محمد بن جهور.
وفي ظل هذا التحول، بويع بالخلافة هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر (ربيع الأول 418 هـ)، وتلقب بالمعتد بالله، وقدم من منفاه في ألبونت إلى قرطبة في أواخر سنة 420 هـ، ولبث في الخلافة زهاء عامين، أساء فيهما السيرة حتى سخط عليه أهل قرطبة وقرروا خلعه، فغادر المدينة ناجياً بنفسه وولده (ذو القعدة 422 هـ). وأجمع القرطبيون بعد فشل هذه التجربة الأخيرة، على إلغاء الخلافة والتخلص نهائياً من بني أمية، وإجلائهم جميعاً عن المدينة، وكان عميدهم ورائدهم في ذلك هو أيضاً أبو الحزم بن جهور، وكان هذا الوزير القوي النابه، يستأثر نظراً لماضيه التالد، ورفيع مكانته، ووفرة حزمه ونضجه، بمحبة الشعب وثقته وتأييده.
وغدت قرطبة على أثر ذلك دون خلافة ودون حكومة. وكانت الأنظار كلها تتطلع إلى ذلك الزعيم، الذي عاون غير مرة برأيه وحسن تدبيره، في(2/20)
مواجهة الأزمات وصون المدينة من شر الدمار والفوضى، ليتولى الحكم وتدبير الأمور في تلك الآونة العصيبة. وهكذا اختير ابن جهور، بإجماع الرأي، للاضطلاع بتلك المهمة الدقيقة.
وينتمي ابن جهور إلى بيت من أعرق بيوتات الموالي الأندلسية. وهو أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن أحمد بن محمد، وكان جدهم الداخل إلى الأندلس، يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي، مولى عبد الملك بن مروان.
دخل في كنف الطالعة البلجية، وكان من أنصار عبد الرحمن الداخل، ثم ولاه عبد الرحمن حجابته، ثم تولى القيادة في عهد ولده هشام. وتولى أبناؤه بعد ذلك مناصب الوزارة والقيادة تباعاً في ظل أمراء بني أمية وخلفائهم. فتولى حفيده عبد الملك بن جهور الوزارة للأمير عبد الله بن محمد، ثم كان من وزراء الناصر لدين الله. وتولى ولده جهور بن عبد الملك البختي أيضاً الوزارة في عهد الناصر.
ووليها كذلك في أواخر عهد الناصر، ولداه مروان بن جهور بن عبد الملك، ومحمد بن جهور بن عبد الملك. ومحمد هذا، هو أبو الوليد، هو والد أبي الحزم جهور، وقد تولى الوزارة أيضاً، في عهد المنصور بن أبي عامر. ثم تولى ولده أبو الحزم جهور الكتابة لعبد الرحمن المنصور في نهاية المائة الرابعة، حتى كانت الفتنة وانهيار الدولة العامرية، عاصر الحوادث والانقلابات العاصفة، التي شهدتها عاصمة الخلافة من ذلك الحين. وتولى خلال ذلك الوزارة لعلي بن حمود مؤسس الدولة الحمودية. وقد نقم عليه واعتقله وصادر أمواله. ولما ثار أهل قرطبة بعد ذلك ببني حمود وأنصارهم من البربر، كان عميدهم في ذلك حسبما تقدم هو أبو الحزم جهور. وكان جهور خلال ذلك كله يتمتع بمكانة بارزة في الزعامة الشعبية، حتى غدا في نهاية الأمر "شيخ الجماعة"، وزعيم المدينة الحقيقي. وكان كثيراً ما يؤثر برأيه في تطور الشئون والأحوال، في تلك الأعوام الأخيرة، التي كانت تحتضر فيها خلافة قرطبة، وتسير سراعاً إلى نهايتها المحتومة.
وألفى جهور نفسه، بعد أن أجمع الشعب على اختياره، رئيساً لحكومة قرطبة الجديدة. وكانت هذه الحكومة التي قامت على أنقاض الخلافة الأموية، تبسط سلطانها على رقعة متوسطة من الأندلس، تمتد شمالا حتى جبل الشارّات (سيرا مورينا)، وشرقاً حتى منابع نهر الوادي الكبير. وغرباً حتى قرب إستجة(2/21)
وجنوباً حتى حدود ولاية غرناطة، وتشمل من المدن عدا قرطبة، جيان وأبَّدَة وبيّاسة والمدور وأرجونة وأندوجر.
بيد أن جهور كان رئيس حكومة من نوع خاص، فإنه لم ينفرد بالرياسة ولم يستأثر بتدبير الأمور والبت فيها، ولكنه جمع حوله صفوة الزعماء والقادة، يتحدث باسمهم، أو باسم "الجماعة"، ويرجع إليهم في الأمور، ويصدر القرارات باسمهم؛ فإذا طُلب منه مال أو مضاء أمر من الأمور، قال ليس لي عطاء ولا منع إنما هو "للجماعة"، وأنا أمينهم، وإذا رابه أمر عظيم، أو اعتزم تدبير مسألة كبيرة، استدعاهم وشاورهم، وإذا خوطب بكتاب، لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء وهكذا كان جهور يتحدث في كل أمر، ويمضي كل أمر لا باسمه، ولكن باسم الجماعة. وقرن جهور ذلك كله بإجراء بارع آخر، هو أنه لم يفارق رسم الوزارة ولم ينتقل من داره إلى قصور الخلفاء، واكتفى بأن رتب عليها الحجاب والحشم، على ما كانت عليه أيام الخلافة، وجعل نفسه ممسكاً للوضع إلى أن يجىء مستحق يتفق عليه فيسلم إليه، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك وهو المشرف عليه (1)، ولم يتخذ أي عنوان أو إجراء يبرز رياسته، أو يحيط نفسه بأي مظهر من مظاهر الأبهة والفخامة، بل لبث على سابق رسمه، من الانزواء والتواضع، والقناعة وخفض الجناح، ومعاملة الجميع بالرفق والحسنى.
وقد عُرفت هذه الحكومة الفريدة في صحف التاريخ الإسلامي "بحكومة الجماعة". وسواء أكان الباعث لدى الوزير جمهور في إقامتها على هذا النحو، يرجع إلى ضرب من بعد النظر والدهاء البارع، يحاول به جمع الكلمة، واتقاء منافسة الزعماء الأقوياء، أم كان راجعاً حقاً إلى محبته للشورى والتضامن؛ فإنها كانت بلا ريب نموذجاً بديعاً من حكم الشورى أو حكم الأقلية الأرستقراطية، في عصر سادت فيه نزعة الرياسة الفردية والحكم المطلق. وكان من أبرز مزاياها أن يستطيع الرئيس أن يتنصل من المسؤولية، وأن يستظل بلواء الجماعة، إذا ما ساءت الأمور، وأن يحرز الثناء وجميل الذكر، إذا حسنت العواقب.
ويمكننا أن نتبين ملامح هذا النوع من حكم "الجماعة" أو حكم الأقلية الأرستقراطية الذي ابتدعه أبو الحزم بن جهور، في بعض الحكومات التي قامت
_______
(1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) ص 27.(2/22)
فيما بعد، في بعض الولايات الإيطالية أيام عصر الإحياء مثل حكومة "الكوموني" في جنوة، وحكومة "السنيوريا" في فلورنس أيام حكم آل مديتشى. وقد كان هذا النظام في الواقع أقرب النظم إلى حكومة الجماعة، فقد كان آل مديتشي، يحكمون وفق إرادتهم حكماً مطلقاً، ولكن يحتجبون في نفس الوقت وراء هيئة منتخبة من النبلاء أو الزعماء الذين يعملون بوحيهم تسمى Balie أو Signoria أي جماعة الحكام أو السادة. ولسنا نود أن نقول إن هذه الحكومات الإيطالية، كانت مأخوذة أو مقتبسة من حكومة الجماعة القرطبية، فليس ثمة دليل على ذلك، ولكنا نود أن نقول إنها قامت في طروف مشابهة، ولمثل البواعث التي أوحت بقيامها في قرطبة.
وسلك جهور في حكومته مسلك الأصالة والحزم، وكان أول همه أن يقمع الشغب، وأن يوطد دعائم النظام والأمن، فصانع زعماء البربر واستمالهم بالرفق وخفض الجناح، اتقاء لدسائسهم وتهدئة لثورات أطماعهم، فحصل على محبتهم وسلمهم، وجعل أهل الأسواق جنداً، وفرق السلاح فيهم، وفي البيوت، حتى إذا دهم أمر في الليل أو النهار، استطاع أهل المدينة الدفاع عن أنفسهم، وأصلح القضاء، وعمل على ضبط العدالة بين الناس، وقضى على كل مظاهر البذخ والإسراف، وخفف أعباء المكوس، وعمل على حفظ الأموال العامة، ولاسيما الأموال السلطانية، حيث عهد بتحصيلها وحفظها، إلى رجال ثقاة يشرف عليهم بنفسه، وعمل على تشجيع المعاملات والتجارة، ومن ذلك أن فرق الأموال على التجار لتكون بيدهم ديناً عليهم، يستغلونها ويحصلون على ربحها فقط، وتحفظ لديهم، ويحاسبون عليها من وقت إلى آخر. وكان من نتائج هذه الإجراءات، أن حل الرخاء مكان الكساد، وازدهرت الأسواق وتحسنت الأسعار وغلت الدور، ونمت الموارد. ويبدي ابن حيان، وقد كان من شهود هذا التحول، دهشته من تحقق الأمن والنظام والرخاء على هذا النحو في قوله: "فعجب ذو التحصيل للذي أرى الله في صلاح الناس من القوة، ولما تعتدل حال، أو يهلك عدو، أو تقو جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون ". ومع ذلك فإن ابن حيان يلاحظ أن جهوراً لم يفته خلال ذلك كله أن يستغل الظروف، وأن يعمل على جمع المال "حتى تضاعف ثراؤه وصار لا تقع العين على أغنى منه"، وإن كان(2/23)
يقرن ذلك "بالبخل الشديد، والمنع الخالص، الذي لولاهما ما وجد عائبه فيه طعناً، ولكمل لو أن بشراً يكمل" (1).
واستمرت حكومة الجماعة هذه برياسة أبي الحزم جهور تدبر الأمور في قرطبة وأراضيها، زهاء اثنتى عشرة عاماً، وقد سادت بها السكينة والدعة والأمن، وجهور لا يتحول عن خطته في التزام المسالمة والتواضع والتقشف، والشعب القرطبي يؤيده بطاعته ومحبته. وكانت قرطبة في أيامه ملاذ الزعماء اللاجئين والرؤساء المخلوعين، وكان من هؤلاء عبد الله بن سابور صاحب أشبونة من أعمال الغرب، حينما انتزعها منه ابن الأفطس صاحب بطليوس، فإنه لجأ إلى قرطبة، وأقام بها آمناً في كنف جهور، وكذلك عبد العزيز البكرى صاحب ولبة وجزيرة شلطيش، فإنه التجأ إليها فيما بعد، حينما حاصره ابن عباد ونزعه سلطانه، والتجأ إليها كذلك القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء حين استولى عليها ابن عباد (2).
وكان للرئيس جهور موقف خاص من أسطورة ظهور هشام المؤيد بالله وإعلانها على يد القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية. ذلك أن ابن عباد، حينما شعر بخطورة مطامع بني حمود في رياسة جنوبي الاندلس، واتشاحهم بثوب الخلافة، وحينما أرهقه يحيى بن علي بن حمود (المعتلي) بغاراته المتوالية، رأى أن يدحض دعاوي أولئك الحمُّوديين، فأعلن في سنة 426 هـ، أن الخليفة هشام المؤيد، حي لم يمت، وأظهر بالفعل شخصاً يشبه هشاماً كل الشبه، وبايعه بالخلافة ودعا الناس للدخول في طاعته، وبعث بذلك إلى رؤساء الأندلس، فاستجاب بعضهم للدعوة، وكان منهم عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، ومجاهد العامري صإحب دانية والجزائر الشرقية، والوزير أبو الحزم بن جهور رئيس قرطبة.
وعقدت البيعة في قرطبة بالفعل لهشام المؤيد. والظاهر أن جهوراً لم يكن يؤمن حقاً بصحة هذه الدعوى، ولكنه استجاب لها، وأقرها لنفس البواعث التي حملت ابن عباد على انتحالها، وهو العمل على دفع خطر الحموديين. ويقال إن جهوراً فوق ذلك، قد اصطنع شهادات لتأييد صحتها. بيد أنه ندم على ذلك فيما بعد، حينما طلب إليه ابن عباد أن يدخل في طاعته، وأعلن تبرؤه من ذلك الدعى (3).
_______
(1) الذخيرة القسم الأول - المجلد الثاني ص 116 و 117.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 213 و 237 و 340.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 190 و 198 و 210.(2/24)
وتوفي الرئيس أبو الحزم جهور بن محمد في المحرم سنة 435 هـ (1044 م) وقرطبة رافلة في حلل السلم والرخاء. فخلفه في الرياسة ابنه أبو الوليد محمد ابن جهور، فحاول في البداية أن يقتفي سياسة أبيه، وأقر الحكام وأرباب المراتب في مناصبهم، وكان من معاونيه في ديوان السلطان المؤرخ الكبير أبو مروان بن حيان حسبما يذكر لنا في حديثه عن الدولة الجَهْورية، وكان من محاسن الدولة الجهورية أيضاً، أن وزر لها الكاتب والشاعر الكبير أبو الوليد بن زيدون. وكان في بداية عهده بالخدمة قد وقع له حادث اصطدم فيه بأحد حكام قرطبة، فقضي عليه بالسجن، فاستغاث بأبي الوليد في حياة والده أبي الحزم، فشفع له وأقاله من عثرته. فلما ولي أبو الوليد الأمر بعد والده قرب إليه الشاعر، وعهد إليه بالنظر على أهل الذمة لبعض الأمور العارضة. ثم رفع مكانته وضاعف جرايته, وعهد إليه بالسفارة بينه وبين رؤساء الأندلس، والترسل إليهم. فلمع في منصبه، واشتهر ببارع رسائله ومحاوراته، كما اشتهر بروائع نظمه. والظاهر أن ابن زيدون كان يحيا حياة مضطربة تثير من حوله الشبهات، فهو من جهة قد هام بحب ولاّدة ابنة الخليفة الأموي السابق المستكفي، وكانت قد ظهرت في مجتمع قرطبة ببهوها الأدبي، الذي يزينه جمالها وشعرها الرائق، وأحدث هيامه بها وشعره المتيم فيها، حول سيرته الوزارية نوعاً من الفضيحة الغرامية، ومن جهة أخرى فإنه يبدو أن خصوم ابن زيدون في الحكومة وفي المجتمع، قد استطاعوا أن يصوروه لدى بني جهور، رجلا ناقص الولاء بجيش بمشاريع لا تتفق مع أهدافهم، وعلى أي حال فقد سخط الوزير أبو الوليد على وزيره الشاعر وألقاه إلى السجن. وأنفق ابن زيدون في ظلمات السجن عاماً وبعض عام، وهو يستعطف الوزير بقصائد ورسائل تذيب الجماد دون أن يتأثر بها. وفي النهاية حزم أمره على الفرار، وفر من سجنه بمعاونة بعض أصدقائه الأوفياء، وقصد إلى إشبيلية سنهّ (441 هـ - 1049 م) والتجأ إلى أميرها المعتضد بن عباد، فولاه وزارته. وألقى إليه مقاليد الأمور، حسبما نذكر بعد في موضعه (1).
_______
(1) إعتاب الكتاب لابن الأبار (مخطوط الإسكوريال) لوحة 59 و 61. وراجع الذخيرة المجلد الأول من القسم الأول ص (290 و 291 و 357) حيث يورد أقوال ابن حيان في علاقة ابن زيدون بدولة الجهاورة وهي أقوال غامضة لا نتضح منها حقيقة أدوار هذه العلاقة. ولم يشر ابن حيان من جهة أخرى إلى نكبة ابن زيدون التي ألقى بسببها إلى السجن ولا إلى فراره. ولكن الفتح يشير إلى ذلك صراحة في القلائد (ص 71) وقد أورد ابن بسام كثيراً من قصائده التي وجهها في سجنه إلى ابن جهور.(2/25)
وكان ابن زيدون أيام تمتعه بثقة بني جهور. قد أنشأ في مديحهم عدد من غرر قصائده، ومنها الأبيات الآتية:
لولا بنو جهور ما أشرقت بهم ... غيد السوالف في أجيادها تلمع
قوم متى تحتفل في وصف سؤددهم ... لا يأخذ الوصف إلا بعض ما يدع
أبو الوليد قد استوفى في مناقبهم ... فللتفاريق منها فيه مجتمع
من مهذب أخلصته أوّليته ... كالسيف بالغ في أخلاصه الصنع
إن السيوف إذا طاب جوهرها ... في أول الطبع لم يعلق بها الطبع
واستمرت الأحوال على انتظامها حيناً، ولكن أبا الوليد ما لبث أن تنكب عن سياسة أبيه، فقدّم على الناس ولده عبد الملك، وأخذ عليهم العهد له، فأساء عبد الملك السيرة، واستبد بالسلطة. وأفسح المجال للأوغاد، وأهمل الشئون، وتسمى بذي السيادتين المنصور بالله. الظافر بفضل الله. وخطب له على المنابر، وذلك خلافاً لما جرى عليه أبوه وجده من قبل، من الاعتصام بالحلم والتواضع، والزهد في مظاهر السلطان. وفي سنة 440 هـ، فوض عبد الملك النظر في الأمور إلى وزير أبيه إبراهيم بن يحيى المعروف بابن السقاء، فضبطها وأصلحها، وعمل على تهدئة الأحوال، وتوطيد الأمن والنظام، واستمر ابن السقاء في النظر مدة طويلة. وكان المعتضد ابن عباد أمير إشبيلية يشعر بأن استمرار هذا الوزير القوي على هذا النحو في رياسة حكومة قرطبة، يحول دون تحقيق مشاريعه في الاستيلاء عليها، فسعى لدي عبد الملك في حق ابن السقاء، وحذره من أطماعه واستئثاره بالسلطة وأغراه بقتله، وكان عبد الملك سيىء الرأي والتقدير، فاستمع لتحريض ابن عباد، وقتل وزيره في كمين دبره (455 هـ - 1063 م) (1).
وهنا بدأت عوامل الفساد تدب إلى جهاز الحكم، وزاد في سوء الحال ما حدث من التنافس بين عبد الملك وأخيه الأكبر عبد الرحمن. وكان أبو الوليد يؤثر ولده الأصغر عبد الملك بمحبته، وكان عبد الرحمن من جانبه يدعي أنه أحق بالولاية من أخيه، فوقع التنافس بين الأخوين، وأخذ كل منهما يستميل طائفة من الجند.
ويؤلف الأحزاب لمناصرته، فلما تفاقم الأمر. وخشي أبو الوليد العواقب، عمد
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 232 و 251 و 256، وأعمال الأعلام ص 149.
(2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 118.(2/26)
خريطة:
دول الطوائف
والممالك الإسبانية النصرانية بعد انهيار الخلافة أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).(2/27)
إلى تقسيم السلطة بين ولديه، فخص أكبرهما عبد الرحمن بالنظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة، وفي التوقيع في الصكوك السلطانية، والدخل والخرج وجميع أبواب النفقات؛ وخص عبد الملك بالنظر في شئون الجند، والإشراف على أعطيتهم، وتجريدهم في البعوث وجميع ما يخصهم، وارتضى الأخوان هذا الحل.
بيد أن عبد الملك لم يلبث أن غلب على أخيه عبد الرحمن، وسجنه في منزله واستبد بالأمر دونه؛ وخلا الجو لعبد الملك، وأطلق العنان لسلطانه وأهوائه، واستولى صحبه من الأوغاد والسفلة، على أزمة الحكم، وبدأ الشعب القرطبي ينصرف عن آل جهور. كل ذلك والرئيس الشيخ أبو الوليد ملتزم داره لشلل أقعده. وكان عبد الملك يعتمد في مشاريعه وتحقيق خططه، على مصادقة ابن عباد وتشجيعه، وقد زاره في إشبيلية، فبالغ ابن عباد في إكرامه والتودد إليه، وكان عبد الملك يظن أنه يستطيع الاعتماد على صداقته ومحالفته، ضد أطماع بني ذى النون أصحاب طليطلة، ومشاريعهم للاستيلاء على قرطبة، ولم يكن يدور بخلده أن بني عباد يضمرون ضده مثل هذه المشاريع.
وأخيراً تكشفت الأمور، وخرج المأمون يحيى بن ذى النون في قواته من طليطلة، قاصداً غزو قرطبة، واستولى في طريقه على حصن المدوّر الواقع غربي قرطبة. وكان المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية قد توفي سنة 461 هـ، وخلفه ولده المعتمد، فسار على سياسة أبيه من إبداء المودة والتحالف لبني جهور. فلما شعر عبد الملك بالخطر الداهم، استغاث بحليفه ابن عباد، فبعث إليه المعتمد بالمدد من الفرسان تحت إمرة قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، فنزلا بالربض الشرقي من قرطبة. وأشرف ابن ذى النون بجنده على المدينة، فألفاها قد استعدت لقتاله بقوات لا قبل له بها، فارتد أدراجه محنقاً، بعد قتال يسير. وكان قد وقع الاتصال أثناء ذلك بين قائدي جيش إشبيلية وبين بعض الناقمين من زعماء قرطبة.
في التخلص من بني جهور، والانضواء تحت ظل بني عباد، والظاهر أيضاً أن كانت لدي القائدين أوامر سرية بتدبير الخطة للاستيلاء على المدينة، وعلى أي حال فإنه ما كاد ابن ذى النون يرتد بقواته، حتى تظاهر القائدان بأنهما يزمعان العودة، وسارا في بعض قواتهما إلى وداع عبد الملك بباب المدينة، وعندئذ(2/28)
اقتحم العباديون الأبواب وملكوها، ودخلوا المدينة واحتلوها، وعاثوا في أنحائها نهباً وهتكاً وسبياً، وكان ذلك في شعبان سنة 462 هـ (1070 م). وأدرك عبد الملك مبلغ خديعته، وأيقن أن النهاية قد حلت، فطلب الأمان لنفسه وذويه، فاعتقل وأخوه عبد الرحمن وسائر الأهل والولد، وأرسلوا في الحال إلى إشبيلية، ثم اعتقل أبوهما، الشيخ المريض المقعد أبو الوليد بن جهور ومن معه، ونفي الجميع إلى جزيرة شلطيش، الواقعة في مصب نهر أراد تجاه ولبة، وهناك توفي ابن جهور الشيخ لأربعين يوماً فقط من نكبته وسقوط دولته.
وهكذا انتهت دولة بني جهور بقرطبة، بعد أن لبثت أربعين عاماً. وكانت أول دولة تسقط من بين دول الطوائف الرئيسية. وكانت دولة نموذجية، ولاسيما في عهد مؤسسها الوزير أبي الحزم بن جهور. وكانت تتمتع بين دول الطوائف بمركز أدبي خاص، وتتخذ في أحيان كثيرة مركز الوسيط والحكم، وتعمل بهيبتها وهيبة رئيسها الوزير المحنك، على فض المنازعات وإقرار السلم بين الأمراء. ومن ذلك ما بذله أبو الحزم من المساعي المتكررة لحسم النزاع بين المعتضد ابن عباد والمظفر بن الأفطس، حينما نشب القتال بينهما بشأن لبلة التي هاجمها ابن عباد، واستغاث صاحبها ابن يحيى بصديقه المظفر، وقد كاد الأمر بينهما يتطور إلى فتنة هوجاء لولا تدخل أبي الحزم ونصحه المتكرر (1).
وندب المعتمد بن عباد ولده الفتى عباداً الملقب بالظافر وسراج الدولة لحكم قرطبة، التي يتصل تاريخها من ذلك الحين بتاريخ مملكة إشبيلية.
وقد تناول ابن حيان، وكان حسبما تقدم من وزراء عبد الملك بن جهور، وشهد بنفسه سائر هذه الحوادث، مأساة سقوط الدولة الجهورية، في كتاب خاص سماه "البطشة الكبرى" يمتاز بقوته وبلاغته (2).
ولما فشل مشروع المأمون بن ذى النون في افتتاح قرطبة، واستولت عليها
_______
(1) أعمال الأعلام ص 151: والبيان المغرب ج 3 ص 210. وراجع في أخبار دولة بني جهور: الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 114 - 126، والبيان المغرب ج 3 ص 185 - 187 و 209 و 210 و 259 - 261، وأعمال الأعلام ص 145 - 151، والحلة السيراء (ليدن) ص 168 - 170، وابن خلدون ج 4 ص 159.
(2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 129، وأعمال الأعلام ص 151.(2/29)
جنود ابن عباد، وتولى حكمها ولده سراج الدولة، وجه ابن حيان إلى المعتمد رسالة تهنئة يقول فيها: " لو أن فتحاً اعتلى عن تهنئة ممنوحة بارتفاع قدر، أو جلالة صنع، أو فرط انتقام مستأصل، أو تنزل حكم من الرحمن فاصل، لكان فتحه هذا لك، على عدو أسود الكيد، مظاهر البغي على الحسد، طالما استحييته لا من خجل، وتنكبته لا عن وهل، فأبى رأيه الفائل، وجده العاثر، وحينه المجلوب، وضربه المكبوب، الا اكتساب العار، ومماتنة محصد الأقدار ". ثم يحمل ابن حيان بعد ذلك على المأمون بن ذى النون، وينوه بتوفيق ابن عباد ويمنه في هزيمته ورد مكيدته، وذلك في عبارات ملتهبة لاذعة (1).
وإنه لمما يلفت النظر في ذلك حقاً أن ابن حيان، يهدي مؤلفه التاريخي العظيم في مقدمته إلى المأمون بن ذى النون، ويصفه "بالأمير المؤثل الإمارة ذي المجدين، الكريم الطرفين" (2). وقد انتهز ابن بسام هذه الفرصة للحملة على ابن حيان، والتنويه بمواقفه المتناقضة في تاريخه لملوك الطوائف. وفي رأيه أن هذا التاريخ، بالرغم مما لقيه لدى بعض أولئك الملوك من ترحاب وتقدير، وما أجزلوه عنه من صلات، فإن ابن حيان "قد أخطأ التوفيق، وما أصاب"، إذ جاءت معظم أقواله كالسهام المرسلة، من قدح مغرض في الأحساب والأعراض، وطمس للمعالم والأنوار، وأنه قد ارتكب بذلك إثماً وظلماً، وإن كان قد سلم من لسانه "أمير بلده، وأكبر أهل زمانه " أبو الحزم بن جهور، وابنه من بعده، فقد جرى لهما "بأيمن طائر، ولم يعرض لذكرهما إلا بخير" (3).
_______
(1) تراجع هذه الرسالة في الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 89 - 91.
(2) الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 88.
(3) الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 84 و 85 و 113 و 114.(2/30)
الفصل الثاني
بنو عباد ومملكة إشبيلية القسم الأول
ظهور القاضي ابن عباد في إشبيلية. بنو عباد وأصلهم ونشأتهم. القاضي اسماعيل بن عباد ينتزع الرياسة في إشبيلية. بنو حمود وسلطانهم على إشبيلية. صد المستعلي بن حمود عن دخولها. تقديم القاضي ابن عباد عليها. حكمه وأهباته. ولده أبو القاسم محمد. الخلاف بين أبي القاسم بن عباد وابن الأفطس والحرب بينهما. البرزالي صاحب قرمونة. تعليق ابن حيان على عصابات البربر. استيلاء المعتلي ابن حمود على قرمونة. إعلان القاسم بن عباد ظهور هشام المؤيد. قصة هشام والغموض حول مصيره. استرداد ابن عباد لقرمونة ومصرع المعتلي. استيلاؤه عليها وعلى إستجه. الحرب بين ابن عباد والبربر. هزيمة جند ابن عباد ومصرع ولده اسماعيل. وفاة أبي القاسم محمد بن عباد، وقيام ولده المعتمد مكانه. المعتضد بن عباد حسبما يصوره ابن حيان. حملة ابن بسام عليه. قسوته وصرامته. إمارات الطوائف في غربي الأندلس. إمارة لبلة ومهاجمة المعتضد لها. تدخل ابن الأفطس والحرب بينه وبين المعتضد. استيلاء المعتضد على لبلة. لبلة وأسوارها الأندلسية. إمارة ولبة وجزيرة شلطيش. استيلاء المعتضد عليها. استيلاؤه على شنتمرية الغرب. استيلاؤه على باجة. إمارة شلب واستيلاؤه عليها. الإمارات البربرية. خطة ابن عباد في الاستيلاء عليها. كمين المعتضد للأمراء البربر وإهلاكهم. استيلاؤه عل أركش ومورور. استيلاؤه على رندة ثم قرمونة. استيلاؤه على الجزيرة الخضراء. اتساع مملكة إشبيلية. ضغط ملك قشتالة على الطوائف. المعتضد وزملاؤه يؤدون له الجزية. خروج اسماعيل بن المعتضد على أبيه. اعتقاله وإعدامه. رسالة المعتضد عن الحادث لرؤساء الأندلس. قطع المعتضد الدعوة لهشام المؤيد. تهكم ابن حيان على قصة هشام. شخصية المعتضد وخلاله وسياسته. قسوته المروعة. قصة الرؤوس المحنطة. قصور بني عباد. صفة المعتضد. شغفه بالنساء. أدبه وشاعريته. وزراؤه وكتابه الأعلام. ابن زيدون وابن عبد البر والبزلياني. وزيره ششقند.
كانت مملكة إشبيلية أو غربي الأندلس، من حيث الرقعة الإقليمية، والزعامة السياسية، والقوة العسكرية، أهم دول الطوائف وأعظمها شأناً، وفضلا عن هذا التفوق الإقليمي والسياسيي، فقد سطعت مملكة إشبيلية بين دول الطوائف زهاء نصف قرن، بفخامة بلاطها، وروعة رسومها، وكان للأدب والشعر بها دولة زاهرة، طبعت هذه الحقبة القصيرة من تاريخها، بطابعها الخالد.(2/31)
وإذا كنا سوف نخص مملكة إشبيلية بالحديث فيما يلي، فإن هذا الحديث سوف يكون مشعباً متعدد النواحي، وسوف يمتد إلى إمارات ودول أخرى، ليس فقط داخل منطقة الغرب أو غربي الأندلس، التي كانت تسيطر عليها مملكة إشبيلية، ولكن إلى مناطق وممالك رئيسية أخرى.
- 1 -
بدأت جذور مملكة إشبيلية مبكرة، منذ انهيار الدولة العامرية في نهاية المائة الرابعة. وفي الوقت الذي كانت تضطرم فيه عاصمة الخلافة قرطبة، بالفتن والانقلابات المتعاقبة، كان قاضي إشبيلية أبو الوليد اسماعيل بن عباد، يعمل في هدوء وصمت، على جمع خيوط الرياسة في يده، وعلى الاستئثار بحكم المدينة العظيمة، التي تركت كباقي القواعد الأخرى لمصيرها.
كان اسماعيل بن عباد يتولى خطة القضاء بإشبيلية منذ أيام المنصور بن أبي عامر، وكان فضلا عما يمتاز به من العلم والحكمة والورع، ينتمي إلى بيت من أعظم البيوتات العربية الأندلسية. فلما وقعت الفتنة وسادت الفوضى كل ناحية من نواحي الأندلس، استمر إسماعيل في خطة القضاء، وأخذ في نفس الوقت يعمل على حفظ النظام، وضبط الأمور في المدينة. وكان علي بن حمود حينما دخل قرطبة وتولي الحكم بها سنة 407 هـ، تولي أخوه القاسم حكم إشبيلية، وبقي ابن عباد على حاله في منصب القضاء. ولما قتل علي بن حمود، تولي أخوه القاسم مكانه في الخلافة في قرطبة، وخلا الجو ثانية لابن عباد. وكان في خلال الفترة التي كانت فيها خلافة الحموديين تتردد بين قرطبة وإشبيلية، وما تخللها من الأحداث المتوالية، يعمل على توطيد مركزه وتدعيم رياسته، ويعمل بالأخص على حماية المدينة من أطماع البربر وعيثهم، ويجمع حوله كلمة الزعماء حتى لا تغدو إشبيلية كما غدت قرطبة مسرحاً للفتنة، ومرتعاً لأطماع البربر. وقد وفق في خطته كما سنرى أعظم توفيق.
ويجدر بنا قبل أن نتحدث عن عهد بني عباد أمراء إشبيلية، أن نذكر كلمة عن أصلهم، وأوّليتهم.
كان بنو عباد، وفقاً لأقوال علماء النسب، ينتمون إلى لخم. ومؤسس دولتهم ومنشىء مجدهم، هو القاضي أبو القاسم محمد بن اسماعيل بن قريش بن عباد(2/32)
ابن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عِطاف بن نعيم. وعطاف هو جدهم الداخل إلى الأندلس في طالعة بَلْج بن بشر القشيري. وأصله من أهل حمص الشام، لخمي النسب صريحاً. ولما دخل إلى الأندلس نزل بقرية "يومين" بقرب بلدة طشانة Tocina من أعمال إشبيلية، وهي واقعة على ضفة نهر الوادي الكبير. ونحن نعرف أن جند الشام قد نزلوا لأول الفتح بإشبيلية أو حمص كما سموها يومئذ، نظراً لما بينها وبين حمص الشام من شبه قوي في الطبيعة والإقليم. وفي رواية أخرى أن بني عباد هم من ولد النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وبذلك كانوا يفخرون ويمدحون، وهذا ما يؤيده قول شاعرهم ابن اللبانة:
من بني المنذر بن ما السماء وهو انتساب زاد في فخره بنو عباد
نبتة لم تلد سواها المعالي ... والمعالي قليلة الأولاد
وتألق نجم بني عباد، في أعقاب الفتنة، على يد جدهم أبي الوليد اسماعيل قاضي إشبيلية، وكان قد تقلب قبل انهيارالخلافة في عدة من الوظائف الكبرى، فولى الشرطة لهشام المؤيد، ثم ولي خطة الإمامة والخطابة بالجامع الأعظم، ثم ولي قضاء إشبيلية. ولما اضطرمت الفتنة، وتجهمت الظروف، استطاع بحزمه ودهائه، ووجاهته وبذله، أن يستغل ظروف الفتنة على أكمل وجه، وأن يجمع في يده أزمة الرياسة والحكم شيئاً فشيئاً، معتمداً في ذلك على عراقة بيته، ورفيع مكانته، وواسع ثرائه، ومعاونة الزعماء والأكابر الذين استمالهم إلى جانبه، بلينه وجوده ولباقته؛ ويصفه ابن حيان بأنه " رجل الغرب (أي غربي الأندلس) قاطبة، المتصل الرياسة في الجماعة والفتنة "، وينوه بوفور عقله وسبوغ علمه، وركانته ودهائه وبعد نظره، ويقول لنا إنه كان " أيسر من بالأندلس وقته، ينفق من ماله وغلاته، لم يجمع درهماً قط من مال السلطان ولا خدمه ".
ولما شعر القاضي ابن عباد بأنه حقق بغيته، من توطيد قدمه في الرياسة، وأثقلته السنون، وكف بصره أو كاد، ندب ولده أبا القاسم محمد ليشغل مكانه خطة القضاء. وكان سلطان بني حمود ما يزال ثمة يتردد بين قرطبة وإشبيلية، ويخفق علم خلافتهم هنا وهناك. وقد رأينا أن القاسم بن حمود قد تولى الخلافة في قرطبة عقب مقتل أخيه علي (أواخر سنة 408 هـ). وفي أوائل سنة 412 هـ، ثار عليه ابن أخيه يحيى بن علي، وزحف بقواته على قرطبة، فغادرها القاسم في نفر من صحبه، وقصد إلى إشبيلية، وهناك تسمى بالخلافة وتلقب بالمستعلي.(2/33)
بيد أنه ما لبث أن استدعى ثانية إلى قرطبة، على أثر خلع ابن أخيه يحيى، وهنالك جددت له البيعة (ذو الحجة سنة 413 هـ). وكان المستعلي حينما استقر بإشبيلية قد اصطنع أبا القاسم بن عباد بعد موت أبيه اسماعيل، وقربه إليه، وأقره في ولاية القضاء. وكان أبو القاسم يشعر من جانبه أن استمرار سلطان الحمّوديين، يهدد رياستهم وينذر بالقضاء عليها. فلما استدعى المستعلي ليتولى الخلافة ثانية في قرطبة، اجتمع رأي أهل إشبيلية على ثلاثة من الزعماء هم القاضي اسماعيل بن عباد، والفقيه أبو عبد الله الزبيدي، والوزير أبو محمد عبد الله بن مريم، يتولون حكمها وضبط الشئون فيها، فكانوا يحكمون بالنهار في القصر، وتنفذ الكتب تحت أختامهم الثلاثة، ومع ذلك فقد كان القاضي ابن عباد، بمركزه ووفرة ثرائه ووجاهته، أقواهم سلطاناً، وأعلاهم يداً. فعكف على العمل على توطيد سلطانه، وعلى إضعاف سلطة البربر في المدينة. ولما عاد المستعلي بعد قليل لاجئاً مع فلوله إلى إشبيلية، بعد أن خلعه القرطبيون، وطلب أن تخلي له ولأصحابه الدور، اتفق زعماء المدينة، وعلى رأسهم أبو القاسم على إغلاق أبوابها، وصد المستعلي وصحبه البربر عن الدخول إليها، وأخرج من كان بها من ولد المستعلي وأهله، ومن زعماء البربر وأكابرهم. واتفق أهل إشبيلية، اتقاء لعدوان المستعلي وأشياعه من البربر، على أن يؤدوا له قدراً من المال، وينصرف عنهم، وتكون له الخطبة والدعوة، ولا يدخل بلدهم، ولكن يقدم عليهم من حكمهم ويفصل بينهم، فقدم عليهم القاضي أبا القاسم بن عباد، ورضى به الناس، وبذا انفرد ابن عباد أيضاً بالرياسة الشرعية، وقد كان منفرداً بها من الناحية الفعلية؛ وكان ذلك في أواخر سنة 414 هـ (1023 م) وبذلك انتهت رياسة البربر في إشبيلية، كما انتهت من قبل في قرطبة (1).
_______
(1) راجع في أصل بني عباد وظهورهم: ابن الأبار في الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال رقم 1654) لوحة 65 أ، ونقله دوزي في كتابه: Scriptorum Arabum Loci de Abbaditis ( الكتابات العربية المتعلقة ببني عباد)، والمسمى أيضاً Historia Abbadidarum ( تاريخ بني عباد) (ليدن سنة 1846 - 1863 في ثلاثة مجلدات) ج 1 ص 220 و 221. وراجع الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 34 - 38. وراجع أيضاً جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 398، والبيان المغرب ج 3 ص 194 - 196 و 314 و 315، وأعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع بيروت) ص 152 و 153.
ونود أن نلاحظ بهذه المناسبة أن العلامة رينهارت دوزي قد عمد إلى تمزيق كتاب "الحلة السيراء"، فاستخرج منه تراجم عديدة نشرها في كتابه Hist. Abbadidarum ( تاريخ بني عباد)، ونشر بعضها في كتابه: Recherches، ثم نشر معظم ما تبقى بعد ذلك من التراجم في مجلد =(2/34)
ونظم ذو الوزارتين أبو القاسم بن عباد حكم المدينة، بعد أن غدا قاضيها وحاكمها السياسي معاً، معتمداً في ذلك على تأييد زعماء البيوتات العربية ومعاونتهم، وعلى تأييد الشعب والتفافه من حوله. وكان بالرغم من استئثاره بالسلطة، يبدي في أحكامه وتصرفاته كثيراً من اللين والرفق، وكان يعمل في هدوء وأناة على التخلص من سائر منافسيه، والقضاء عليهم واحداً بعد الآخر. وعمد في نفس الوقت إلى شراء العبيد، وحشد الرجال، واقتناء السلاح، ولم يكن يخفي عليه أن الحموديين، وشيعتهم من البربر يتربصون به، ويطمحون إلى امتلاك إشبيلية.
وكان بنو حمود من جانبهم يخشون بأسه وأطماعه على مملكتهم، ومن جهة أخرى فإن أطماع ابن عباد لم تكن تقف عند حكم إشبيلية وحدها، بل كانت تتجه إلى التوسع، ولاسيما في ناحية الغرب، التي كانت بطبيعتها الإقليمية تتبع إشبيلية، وكانت من جهة أخرى خالية من المنافسين الأقوياء.
وكان أول صدام عسكري خطير اشترك فيه أبو القاسم بن عباد، قتاله مع
بني الأفطس أصحاب بَطَلْيوس، وهم جيرانه من الشمال. ومما يجدر ذكره أن ابن
عباد مع خصومته للبربر، كان يعتمد على محالفة محمد بن عبد الله البرزالي البربري
صاحب قرمونة، أولا لأن قرمونة كانت حصن إشبيلية من الشرق، وثانياً
لأن البرزالي كان يخشى سطوة بني حمود وأطماعهم في المدينة، ومن ثم فقد
كانت تجمعه مع ابن عباد مصلحة جوهرية مشتركة؛ ولما وقعت الخصومة بن ابن عباد، والمنصور بن الأفطس صاحب بطليوس، بشأن الاستيلاء على مدينة باجة، التي وقع الخلاف بين أهلها على الرياسة، بعث ابن عباد لقتاله ولده اسماعيل
_______
= بعنوان: Extraits de l'Ouvrage intitulé Al - Hollato, S'Syiara. " نبذ من الكتاب المسمى الحلة السيراء " (ليدن 1847 - 1851) باعتباره يضم تراجم " الإسبانيين " أي الأندلسيين وليس المغاربة. ولم يكتف دوزي بذلك، بل عمد إلى تمزيق كثير من التراجم، فنشر أقساماً منها في Hist. Abbad. وكذلك في Recherches، ونشر باقيها في المجموعة المشار إليها. وفي اعتقادنا أن ذلك لم يكن عملا سليماً من الناحية العلمية، إذ ترتب عليه تمزيق الكتاب وبعثرة محتوياته ومن ثم فقد اضطررنا في الطبعة الأولى أن نرجع أحياناً إلى الأصل المخطوط، وأحياناً إلى أجزائه المطبوعة المبعثرة هنا وهناك.
هذا ومما يدعو إلى الغبطة أن كتاب الحلة السيراء قد صدر أخيراً في طبعة كاملة محققة في مجلدين كبيرين (القاهرة سنة 1964) بعناية الدكتور حسين مؤنس مدير معهد الدراسات الإسلامية بمدريد. ومن ثم فقد رأينا أن نرد المراجع التي أثبتناها مخطوطة في الطبعة الأولى، خلال الكتاب، إلى هذه الطبعة الجديدة المطبوعة.(2/35)
على رأس نخبة من جنده، واشترك معه البرزالي بقواته، وحاصرت القوات المشتركة مدينة باجة التي احتلتها قوات ابن الأفطس، وقتلت وأسرت معظمهم، وكان بين الأسرى ولد ابن الأفطس، فاعتقل لدى البرزالي حيناً بقرمونة ثم أطلق سراحه، وكذلك كان منهم أخ لابن طيفور صاحب ميرتُلَة وقد صلب بإشبيلية (421 هـ).
ثم عادت الحرب فاضطرمت بين الفريقين بعد ذلك بأربعة أعوام. وكان ابن الأفطس وهو من الأصول البربرية، يعتمد أيضاً في جيشه على فريق من البربر؛ وسارت قوات إشبيلية بقيادة إسماعيل بن عباد شمالا إلى أراضي ابن الأفطس وتوغلت فيها، ولكنه حين العودة فاجأته قوات كثيفة لابن الأفطس، ومزقت عسكره، ففر مع فلوله إلى مدينة أشبونة، وامتنع بها حيناً، وكانت هزيمة ساحقة لبني عباد (425 هـ - 1034 م).
وكان محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، من أكبر محرضي ابن عباد ومعاونيه في تلك المعارك. ويصفه ابن حيان "بقطب رحي الفتنة" وينوه بفتكه وعيثه وقبح آثاره في تلك المنطقة، وأنه كان من خصوم الخلافة، لا يروم قيامها بقرطبة بأي وجه "رسوخاً في الخارجية ودفعاً لأمر الله"، وأنه كان يقطع السبل على قرطبة، ويضيق عليها الحصار، حتى اضطر وزراء قرطبة إلى الاستعانة ضده بفريق من بربر بني برزال بشذونة، واعتضدوا بهم مدة. واعتضد ابن الأفطس بطائفة أخرى منهم. ويقول ابن حيان معلقاً على تلك الحالة في تسرب البربر إلى سائر الجهات: "فكان في كل بلد جملة منها، سالت عن أهل البلاد سيول بها، وخلطوا الشر بين رؤسائها، واستخرجوا بذلك، ما أظهروه من دنانيرهم وخلعهم، وجاحوا ذات أيديهم وعلموهم كيف يوكل الكتف، فطال العجب عندنا بقرطبة وغيرها من صعاليك، قليل عددهم، منقطع مددهم، اقتسموا قواعد الأرض في وقت معاً، مضربين بين ملوكها، راتعين في كلاها، باقرين على فلذتها، حلوا محل الملح في الطعام ببأسهم الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد، فلا يقتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض إلا في جوارهم، فطائفة عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا بقرطبة تحيز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم، ومكن في الأرض لهم، إلى وقت وميعاد " (1).
_______
(1) نقلها دوزي عن الذخيرة: راجع: Historia Abbadidarum V. I. p. 221.(2/36)
وكان من أشهر أعمال القاضي ابن عباد في تلك الفترة، إعلانه لظهور هشام ْالمؤيد، وإقامته خليفة بإشبيلية، وكان يحيى بن حمود الملقب بالمعتلي، قد استقر في مالقة حسبما أسلفنا، وجعلها مقر ملكه، وبسط حكمه على معظم قواعد الأندلس الغربية الجنوبية. وكان يخشى مشاريع ابن عباد، ويرى فيه خصمه الحقيقي. فلما توثقت عري التحالف بين البرزالي صاحب قرمونة وابن عباد، أخذ يتوجس شراً، ومن ثم فقد انتهز أول فرصة، وسار إلى قَرْمونة، وانتزعها من يد صاحبها محمد بن عبد الله البرزالي، فلجأ محمد إلى إشبيلية واستغاث بحليفه ابن عباد. ولما شعر ابن عباد بخطورة الموقف، وأخذ يحيى المعتلي يرهقه بغاراته المتوالية على أراضي إشبيلية، ويردد النذير بوجوب استردادها باعتبارها من أملاك الحمّوديين، أعلن ذات يوم أن هشاماً المؤيد قد ظهر، وأنه كان مختفياً ولم يمت (أواخر 426 هـ - 1035 م)، وذلك لكي يدحض دعوى الحموديين في الخلافة بظهور الخليفة الشرعي. وقد ساقت إلينا التواريخ المعاصرة تفاصيل هذه القصة أو بالحري هذه الأسطورة. ونحن نعرف مما تقدم أن سليمان المستعين حينما دخل قصر قرطبة في أواخر سنة 403 هـ، قبض على هشام المؤيد وأخفاه.
وأن الرواية تختلف بعد ذلك في مصيره، فيقال إنه قتل بعد ذلك بيد محمد بن سليمان، ويقال من جهة أخرى، إنه فر من محبسه، وعاش حيناً في ألمرية حتى توفي. وعلى أي حال فقد استمر هذا الغموض الذي يحيط بمصير هشام مدة طويلة، ومختلف الروايات والقصص تنسج من حوله، يذيعها بنو عمه المروانية، وفتيان القصر وجواريه السابقين، ومؤداها أن هشاماً لم يمت، وأنه مختف وسوف يظهر في الوقت المناسب. وعلى أساس هذه الروايات، أظهر ابن عباد شخصاً زعم أنه هشام المؤيد، وجمع حوله نفراً من خدم القصر السابقين، فأيدوا روايته وشهدوا بصدق زعمه، ويقال إن هذا الشخص كان بالفعل يشبه هشاماً شبهاً كبيراً. وكان هذا الرجل يعمل مؤذناً بمسجد في قرية من قرى إشبيلية، فاستقبل عند خروجه من المسجد، وألبس الثياب الخلافية، وقبل ابن عباد وولده وصحبه الأرض بين يديه، وخوطب بألقاب الخلافة، ثم أخذ إلى القصر، حيث أقبل الناس أفواجاً لبيعته، وهو يخاطبهم من وراء حجاب، ويخبرهم بأنه قد عهد بحجابته إلى إسماعيل بن عباد. ويقول لنا ابن القطان إن هذا الدعي كان يسمي خلف الحصري، وإنه كان يشبه هشاماً، وإنه حينما أتى به إلى إشبيلية، نودي في(2/37)
الناس، أن اشكروا الله على ما أنعم عليكم به، فهذا مولاكم أمير المؤمنين هشام قد صرفه الله عليكم، وجعل الخلافة ببلدكم لمكانه فيكم، ونقلها من قرطبة إليكم، فاشكروا الله على ذلك (1).
وذاعت قصة ظهور هشام في سائر الأنحاء، وبعث ابن عباد بكتبه إلى سائر قواعد الأندلس، يطلب من رؤسائها الاعتراف والبيعة لهشام المؤيد. فلم يعترف بها سوى بعض الفتيان العامريين السابقين، واعترف بها الوزير أبو الحزم بن جهور لنفس البواعث، التي حملت ابن عباد على اختراعها، وهو العمل على دفع دعاوي الحموديين ومطامعهم حسبما سبقت الإشارة إليه.
ويندد الفيلسوف ابن حزم بقصة هذا الخليفة المزعوم، ويصفها بأنها "أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها". ثم يقول إنها لفضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها، أن يقوم أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بإمرة أمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، وهم: خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام بن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة، ومحمد بن إدريس بن علي بن حمود بمالقة، وإدريس بن يحيى بن حمود بببشتر (2).
وعلى إثر ذلك استعد ابن عباد لاسترداد قَرْمونة من يد يحيى المعتلي، فسير بعض قواته مع ولده إسماعيل، ومعها طائفة من البربر المتحالفين معه. فطوق قسم منها المدينة ليلا، وكمن القسم الثاني في أماكن مستترة. وكان يحيى المعتلي داخل المدينة، وهو عاكف على لهوه وشرابه، فلما وقف على الخبر. خرج مع قواته وهو ثمل، واشتبك مع المهاجمين في معركة حامية، وعندئذ ظهرت قوات ابن عباد من مكمنها وأطبقت عليه، فمزقت قواته وقتل خلال المعركة، واحتز رأسه وحمل إلى القاضي ابن عباد (المحرم سنة 427 هـ) ورد ابن عباد قرمونة إلى صاحبها السابق، حليفه محمد بن عبد الله البرزالي.
بيد أنه لم تمض على ذلك أعوام قلائل حتى ساء التفاهم بين ابن عباد والبرزالي.
وكان ابن عباد يرى أن قرمونة، وهي حصن إشبيلية من الشرق يجب أن تكون في حوزته، فسير ولده إسماعيل في حملة قوية إلى قرمونة فاستولى عليها. ثم استولى بعد ذلك على مدينة إستجة الواقعة في شرقها وكذلك على مدينة أشونة الواقعة
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 199 و 200، وأعمال الأعلام ص 154.
(2) نقط العروس لابن حزم (المنشور بمجلة كلية الآداب ديسمبر 1951) ص 83 و 84.(2/38)
جنوبي إستجة، فاستغاث البرزالي بزملائه من الزعماء البربر، وهرع إلى نصرته إدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، وكان كلاهما يتوجس من مشاريع ابن عباد وأطماعه، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية عدة معارك عنيفة، واستطاع البربر أن يخترقوا أراضي إشبيلية حتى قلعة جابر (1) حصنها من الشرق، وانتهى الأمر بأن هزم الإشبيليون، وقتل أميرهم إسماعيل ابن عباد، واحتز رأسه وحمل إلى باديس، وذلك أسوة بما حدث ليحيى المعتلي، وكان ذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م) (2).
فكان لتلك النكبة أسوأ وقع في نفس القاضي ابن عباد، فندب ولده الثاني عباداً لتدبير الشئون، وقيادة الجيش، فأبدى قوة وحزماً، ولبث زهاء عامين مضطلعاً بمهمته، حتى توفي أبوه في نهاية جمادى الأولى سنة 433 هـ (يناير 1042 م).
وكان القاضي ابن عباد عالماً أديباً، وشاعراً مطبوعاً، ومن قوله في الفخر:
ولابد يوماً أن أسود على الوري ... ولو رد عمرو للزمان وعامر
فما المجد إلا في ضلوعي كامن ... ولا الجود إلا في يميني ثابر
يجيش العلي بين جنبي جايل ... وبحر الندى أسير كفي زاخر
ويمكننا أن نعتبر القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، مؤسس دولة بني عباد الحقيقي، ومنشىء ملكهم ورسوم مملكتهم، وعلى يده اتخذ سلطان بني عباد ألوانه الملوكية المدعمة بالقوى العسكرية، وإن لم يصل بعد إلى غايته من الروعة والضخامة، وأصبح ملوكية وراثية راسخة، بعد أن كان يتخذ فقط صورة الزعامة، والرياسة القبلية.
- 2 -
فولى الأمر من بعده ولده أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل، وتلقب أولا بفخر الدولة، ثم بالمعتضد بالله، وكان يوم ولايته فتى في السادسة والعشرين، وكان مولده في صفر سنة 407 هـ (1016 م). وقد أجمعت الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، على الإشادة بخلال المعتضد الباهرة، وصفاته المثيرة معاً. ويصفه ابن حيان، وهو معاصره، ومتتبع لأحداث حياته وحروبه، بأنه "زعيم جماعة أمراء الأندلس في وقته، أسد الملوك، وشهاب الفتنة، وداحض العار، ومدرك الأوتار،
_______
(1) هي بالإسبانية Alcalà de Guadaira، وما تزال أطلالها قائمة حتى اليوم.
(2) جذوة المقتبس ص 29 و 30.(2/39)
وذو الأنباء البديعة، والجرائر الشنيعة، والوقائع المثيرة، والهمم العلية، والسطوة الأبية". وابن حيان أميل إلى تزكية المعتضد منه إلى الحكم عليه، حسبما يبدو ذلك من قوله "فلقد حمل عليه على ممر الأيام في باب فرط القسوة، وتجاوز الحدود والابلاغ في المثلة، والأخذ بالظنة، والإحتقار للذمة، حكايات شنيعة لم يبد في أكثرها للعالم بصدقها دليل يقوم عليها، فالقول ينساق في ذكرها، ومهما برىء من مغيبها فلم يبرأ من فظاعة السطوة، وشدة القسوة، وسوء الاتهام على الطاعة، سجايا من جبلَّته لم يحاش فيهن ذو رحم واشجة". بيد أن ابن بسام، وقد عاش قريباً من عصر المعتضد، يبدو أشد قسوة في الحكم عليه إذ يصفه فيما يلى: "قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم عليه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض، وأسد فرس الطلى وهو رابض، متهور تتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة، متعسف اهتدى، ومنبت قطع فما أبقى، ثار والناس حرب، وكل شىء عليه ألب، فكفى أقرانه وهم غير واحد، وضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، حربه سم لا يبطىء، وسهم لا يخطىء، وسلمه شر غير مأمون، ومتاع إلى أدنى حين " (1).
وافتتح المعتضد عهده بأمور كشفت عن صرامته وعنف وسائله، منها قتل حبيب وزير أبيه، ومنها اضطهاد الزعماء القدماء ونكبتهم، وقد كان في مقدمة هؤلاء الفقيه أبو عبد الله الزبيدي، وأبو محمد عبد الله بن مريم زميلا جده القاضي ابن عباد في الرياسة، وذلك حتى لا يقوم لأحد من ذوي العصبيات القوية قائمة.
ثم وضع خطته الشاملة للاستيلاء على قواعد الغرب من أمرائها الأصاغر، حتى يخلص الغرب كله من الوادي الكبير إلى المحيط لسلطان بني عباد.
إمارات غربي الأندلس
وكانت أولى هذه القواعد مدينة لبلة الواقعة غربي إشبيلية، وشمال شرقي ثغر ولبة، وكان قد ثار بها أيام الفتنة، أبو العباس أحمد بن يحيى اليحصبي المعروف باللبلي، أحد كبرائها، وضبطها، وبايعه أهلها (سنة 414 هـ) وبسط سلطانه
_______
(1) أورده ابن بسام في ترجمة المعتضد في الذخيرة، وأورده دوزي في Historia Abbadidarum, V.I.p. 241 & 242. وأورده ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 40 و 41.(2/40)
على ما حولها من الأراضي ومنها "جبل العيون" (1)، واستمر في حكم دولته الصغيرة زهاء عشرين عاماً، ثم توفي سنة 434 هـ، وأوصى بالحكم من بعده لأخيه أبي عبد الله محمد بن يحيى اليحصبي الملقب بعز الدولة، فمضى في حكمها على ما كان عليه من النظام والرخاء والأمن، حتى بدأ المعتضد بن عباد يرهقه بمطالبه وغاراته، ثم كشف المعتضد القناع، وهاجم لَبلة بقواته. فاستغاث ابن يحيى بصديقه المظفر ابن الأفطس صاحب بطليوس، فلبى نداءه وسار إلى نجدته بقواته، وحرك في نفس الوقت بعض حلفائه البربر إلى مهاجمة إشبيلية. ولما وقف الوزير أبو الوليد بن جهور على تلك الحركة أهمته، وتوجس من عواقبها، فأرسل إلى الزعماء المتخاصمين رسله ينصحهم بوجوب التريث، والتمسك بأهداب التفاهم والسلم، ويحذرهم من عواقب الفتنة، فلم يصغ إليه أحد منهم، وبادر المعتضد، في الوقت الذي سارت فيه قوات ابن الأفطس إلى إنجاد ابن يحيى، فأرسل قواته لمهاجمة أراضي ابن الأفطس، فعاثت فيها وخربتها، ثم سار المعتضد بنفسه إلى لبلة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، هزم فيها ابن الأفطس أولا، ثم دارت الدائرة بعد ذلك على المعتضد، وقتل عدد كبير من جنده (439 هـ - 1047 م). وسارت بعض طوائف البربر في نفس الوقت، وعاثت في شرقي إشبيلية، وقطعت الطرق، وفتكت بالسابلة، وساءت الأحوال في المنطقة كلها.
والظاهر أن ابن يحيى رأى في النهاية أن يتفاهم مع المعتضد بعد الذي نزل ببلاده من الخراب والعيث، فعقد معه الصلح. ولكن ذلك لم يرض المظفر بن الأفطس، فأبى أن يرد إلى ابن يحيى ودائعه وأمواله، التي أودعها عنده حينما هاجمه المعتضد، ثم أرسل قواته لمهاجمة لبلة، فاستغاث ابن يحيى بالمعتضد فأرسل إليه الأمداد، واستمرت المعارك بين الفريقين حيناً.
تم عادت الحرب فاضطرمت بين المعتضد وابن الأفطس في سنة 442 هـ (1050 م) وعاث المعتضد في أراضي ابن الأفطس، وافتتح منها عدة حصون ضمها إلى مملكته، وأتلف الزروع وخرب كثيراً من القرى، وقتل الكثير من جند ابن الأفطس، ونضبت موارده، فانتهى إلى الاعتصام بحاضرته بطليوس وذلك على ما نفصله فيما بعد في أخبار مملكة بطليوس. وأخيراً تدخل الوزير
_______
(1) وهي بالإسبانية Gibraléon(2/41)
ابن جهور بين الفريقين، واستمر في مساعيه الحثيثة حتى عقد الصلح بين المعتضد وابن الأفطس في ربيع الأول سنة 443 هـ (1051 م).
والتفت المعتضد بعد ذلك إلى لَبلة فضيق الخناق عليها، وفي النهاية اضطر
أميرها عز الدولة أن يتنازل عن حكمها لابن أخيه أبي نصر فتح بن خلف اليحصبي الملقب بناصر الدولة، على أن يعقد السلم مع المعتضد، وأن يؤدي له جزية سنوية.
وانتقل بأهله وأمواله إلى قرطبة، ليعيش هناك في كنف الوزير أبي الوليد بن جهور وذلك في أواخر سنة 443 هـ.
على أن المعتضد لم يقنع بهذا الحل، ولم يمض سوى القليل حتى نقض السلم المعقود، وبعث قواته فهاجمت لبلة، واضطر ناصر الدولة أن يدافع عن نفسه، واستمرت الحرب بينهما حيناً، حتى خربت بسائط لبلة وقتل كثير من جندها، وسبى كثير من أهلها، وذلك بالرغم مما بذله ناصر الدولة من جهود يائسة للدفاع عن ملكه، وما قام به من غارات متعددة على أراضي إشبيلية. وفي النهاية اضطر ناصر الدولة أن ينزل على حكم القوة القاهرة، وأن يسلم لبلة إلى خصمه القوى، وأن يغادرها إلى قرطبة، ليعيش هناك إلى جانب عمه. وكان سقوط لبلة في يد المعتضد بن عباد سنة 445 هـ (1053 م) (1).
هذا وربما كانت لبلة هي الوحيدة بين مدن الأندلس المسلمة، التي ما زالت
تحتفظ حتى اليوم بأسوارها الأندلسية كاملة. وقد زرناها وشهدنا أسوارها العتيقة
الضخمة التي تحيط بها من كل ناحية إلا من ناحيتها الشرقية على النهر المسمى "النهر
الأحمر" Rio Tinto. وتمثل هذه الأسوار، التي جددها الموحدون في القرن الثاني عشر، منعة لبلة الأندلسية وموقعها الحصين فوق الربوة العالية التي تحتلها، وهو منظر رائع حقاً لا يدانيه في روعته سوى أسوار مدينة آبلة الرومانية العربية.
وثمة خاصة أخرى تمتاز بها لبلة، وهي أنه لم يطرأ علي خططها الأندلسية القديمة كثير من التغيير، فهي ما زالت تحتفظ داخل الأسوار بطابعها الأندلسي المحض.
وعنى المعتضد في الوقت نفسه بالاستيلاء على إمارتين صغيرتين أخريين من
_______
(1) راجع ما نقله ابن بسام في الذخيرة (عن ابن حيان) في دوزي: Historia Abbadi- darum V.I.p. 244-252. , والبيان المغرب ج 3 ص 209 و 210 و 211 و 234 و 240 و299 و 300 و 301، وأعمال الأعلام ص 156، وابن حيان (نقله ابن بسام في الذخيرة) القسم الأول المجلد الأول ص 360.(2/42)
إمارات ولاية الغرب، أولهما إمارة ولبة وجزيرة شلطيش، الواقعة جنوب غربي لبلة، وإمارة شنتمرية الغرب في غربها.
فأما إمارة ولبة وجزيرة شلطيش الواقعة تجاهها في المحيط في مصب نهر أوديل فقد آلت في أعقاب الفتنة إلى أبي زيد عبد العزيز البكري - كبير زعمائها - وبويع بها في سنة 403 هـ، واستمر مضطلعاً بحكمها مدة طويلة، والسلام يرفرف على أرجائها. فلما قوي سلطان بني عباد بإشبيلية، واتجهت أطماعهم إلى الاستيلاء على إمارات الغرب، أخذ المعتضد يضيق الخناق على ثغر ولبة، ويرهقه بغاراته، ويقطع السبل إليه. فساءت أحوال الإمارة الصغيرة، ولم يجد البكري سبيلا إلا مفاوضة ابن عباد في عقد الصلح على أن يسلم إليه ثغر ولبة، ويكتفي هو بجزيرة شلطيش، فوافق ابن عباد على ذلك، ولكنه ما لبث أن أخذ في مضايقة البكري في جزيرته، وفرض عليه نوعاً من الحصار. وعندئذ اضطر البكري أن يفاوضه مرة أخرى في التنازل عن جزيرة شلطيش، وانتهى إلى أن باعه أملاكه وسفنه وأثقاله بعشرة آلاف مثقال من الذهب، وغادر الجزيرة، بأهله وأمواله، إلى قرطبة ليعيش هناك في كنف ابن جهور أسوة بزميله ابن يحيى أمير لبلة (443 هـ 1051 م). وفي رواية أخرى أن البكري سار إلى إشبيلية وعاش بها في كنف ابن عباد إلى أن توفي بها في سنة 450 هـ. بيد أننا نؤثر الرواية الأولى وهي رواية ابن حيان، معاصر هذه الحوادث ومدونها بطريق العلم والتحقيق (1).
هذا وقد اختفت جزيرة شلطيش من مصب نهر أوديل ولم يبق لها اليوم وجود.
وأما إمارة شنتمرية الغرب الصغيرة الواقعة على المحيط في جنوبي البرتغال، فقد بويع بها أبو عبد الله محمد بن سعيد بن هارون سنة 433 هـ خلفاً لأبيه سعيد ابن هارون، ولبث في حكمها بضعة أعوام إلى أن بدأ المعتضد في مضايقته ومحاربته.
وألفى ابن هارون أن لا قبل له بمقاومة هذا الأمير الباغي، فنزل له عن ثغره، وخرج بأهله وصحبه إلى إشبيلية (443 هـ - 1051 م) وهناك توفي بعد أشهر قلائل. وقيل إن خروج ابن هارون من شنتمرية كان في سنة 449 هـ (2). وتقوم اليوم مدينة فارو البرتغالية فوق موقع شنتمرية الأندلسية.
ولم يبق من إمارات الغرب بعد ذلك سوى إمارة شلب، وكانت في الواقع
_______
(1) ابن حيان، ونقله دوزي في: Hist.Abbadidarum V.I.p. 252-253
(2) البيان المغرب ج 3 ص 205 و 298، 299.(2/43)
أهم إمارات الغرب بعد إشبيلية، وكانت تشمل فضلا عن كورة شِلْب (1)، وهي الواقعة في قاصية جنوبي البرتغال، كورة باجة. وكان الحاجب عيسى بن محمد قد تغلب في أعقاب الفتنة على هذه المنطقة النائية، وأقام بها دولة، واستمر مسيطراً عليها حتى توفي في سنة 432 هـ. فخلفه في حكمها ولده محمد بن عيسى الملقب بعميد الدولة، واضطر اتقاء لعدوان ابن عباد أن ينزل له عند مدينة باجة وأن يكتفي بحكم شلب. وكان ابن عباد قد استولى قبل ذلك على ميرتلة قاعدتها الجنوبية من يد صاحبها ابن طيفور في سنة 436 هـ، وأصبحت باجة تحت رحمته.
واستمر عميد الدولة في حكم شلب حتى توفي سنة 440 هـ. وعندئذ ثار بها القاضي عيسى بن أبي بكر بن مُزَين فبايعه أهلها، وبسط حكمه عليها، وتلقب بالمظفر واستمر حكمه خمسة أعوام، وابن عباد دائب على مهاجمته وشن الغارات عليه، وهو يرده ما استطاع، حتى قتل في أواخر سنة 445 هـ، مدافعاً عن مدينته.
فخلفه ولده محمد بن عيسى وتلقب بالناصر، وحكم حتى توفي سنة 450 هـ، فخلفه ولده عيسى وتلقب بالمظفر، وسار في الحكم على نهج أبيه وجده، من ضبط الأمور، وإقامة العدل. بيد أن المعتضد ما لبث أن كرر حملاته على شلب، ثم ضرب الحصار حولها، وقطع عنها سائر الأمداد، حتى اشتد الأمر على أهلها، وانتهى بأن اقتحمها بعد أن هدم أسوارها، ودخل القصر وقتل عيسى المظفر، وذلك في شوال سنة 455 هـ (1063 م)، وبذلك انتهت دولة بني مُزَين (2).
الإمارات البربرية
وهكذا استطاع المعتضد بن عباد، في نحو عشرين عاماً، أن يقضي على سائر إمارات الغرب الصغيرة، وأن يبسط سلطانه عليها، وأصبحت مملكة بني عباد، تشمل سائر الأراضي الممتدة من شاطىء نهر الوادي الكبير غرباً حتى المحيط الأطلنطي، هذا عدا رقعة تقع شرقي الوادي الكبير. على أن المعتضد لم يقنع بهذا التوسع الكبير في اتجاه الغرب، وإنما كان يضع الخطط في نفس الوقت للقضاء على الإمارات البربرية الصغيرة القائمة في شرقي الوادي الكبير في جنوبي الأندلس، حتى يقضي على خططهم وأطماعهم، وحتى يؤمن جناحه الدفاعي في تلك الناحية، ويغدو حراً في العمل والحركة في اتجاه الشمال والشرق.
_______
(1) وهي بالبرتغالية Silves
(2) البيان المغرب ج 3 ص 192 و 296 - 298. والحلة السيراء لابن الأبار ص 186.(2/44)
وكانت هذه الإمارات البربرية التي استولى عليها وضبطها الزعماء البربر، المتخلفون من عصبة المنصور بن أبي عامر، فضلا عن مملكة بني حمود في مالقة والجزيرة، ومملكة باديس بن حبوس في غرناطة، تنحصر في أربعة وهي إمارة بني يفرن في رندة، وإمارة بني دمَّر في مورور، وإمارة بني خزرون في شذونة وأركش، وإمارة بني برزال في قرمونة. وكان بنو عباد في بداية أمرهم، يخطبون ود هؤلاء الزعماء البربر، ويعتمدون أحياناً على محالفتهم كما حدث عندما تحالف القاضي ابن عباد مع أمير قرمونة على قتال بني الأفطس، ثم على قتال يحيى بن حمود فيما بعد. ثم كان بين أبي نور هلال بن أبي قرة اليفرني صاحب رندة، وبين المعتضد بن عباد صداقة ومودة وثيقة العري، وكان المعتضد يبعث إليه، وإلى باقي الأمراء البربر، بالهدايا والصلات الجزيلة، وكل ذلك لكي يكسب حيادهم ومودتهم، وهو في أعماق نفسه يضمر لهم غاية الكيد والشر، ويتحين الفرص للإيقاع بهم.
وفي سنة 445 هـ، دبر المعتضد كمينه لأولئك الأمراء، فدعاهم إلى زيارته يإشبيلية، فلبى الدعوة ثلاثة منهم هم أبو نور بن أبي قرة صاحب رندة، ومحمد بن نوح الدمَّري صاحب مورور، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، وقد ساروا إلى إشبيلية في أحسن زي، وأفخم مظهر، ومعهم نحو مائتي فارس من رؤساء قبائلهم. فاستقبلهم المعتضد أحسن استقبال، وأنزل الأمراء بقصر من قصوره، وفي اليوم الثالث استدعاهم إلى مجلسه، وأخذت يؤنبهم على تقصيرهم في محاربة أعدائه، ولما هموا بالرد أمر بالقبض عليهم، وتكبيلهم بالأغلال، ووضعهم في السجن فرادى، واستولى على سائر متاعهم وخيلهم وسلاحهم؛ وبعد مدة من اعتقالهم، أمر بادخالهم في الحمام، وبناء منافذه، وإضرام النار فيه حتى هلكوا، ويقال إنه أطلق ابن أبي قرة، وهلك صاحباه فقط في الحمام، وهما محمد بن نوح، وعبدون بن خزرون. وكان لغدر ابن عباد بالزعماء البربر على هذا النحو، أسوأ وقع في القبائل البربرية، وفي إذكاء سخطها على ابن عباد وتوجسها منه ومن مشاريعه.
واستمر المعتضد بعد ذلك في سعيه للاستيلاء على أملاك أولئك الأمراء؛ فأما أركش فقد حل في حكمها محمد بن خزرون مكان أخيه عبدون، فابتنى(2/45)
ابن عباد قلعة حصينة على مقربة منها، وأخذ رجاله يغيرون منها على أركش ويرهقون أهلها، فسار بنو يرنِّيان، وهو اسم قبيلة البربر النازلة بها، إلى كبيرهم باديس في غرناطة، واتفقوا معه على أن يسلموه أركش على أن يفسح لهم مقاماً في مملكته ينزلون به، وخرجوا من أركش بأموالهم ومتاعهم وحريمهم، وسلموها إلى جند باديس، فلما بعدوا عنها بمسافة نحو عشرين ميلا، تعرضت لهم جند ابن عباد ووقع القتال بينهم وبينه، ودافع البربر عن أنفسهم دفاعاً شديداً، حتى أبيد أكثرهم، وقتل زعيمهم محمد بن خزرون، وقتل قائد باديس الذي كان معهم، وملك ابن عباد أركش وشذونة وسائر هذه المنطقة، وكان ذلك في أواخرسنة 458 هـ (1066 م) (1).
وأما مورور أو مورون، وهي منزل بني دمَّر، فإنه بعد أن هلك أميرها محمد بن نوح في سنة 445 هـ، أو على قول آخر في سنة 449 هـ، في حبس ابن عباد، خلفه ولده مناد بن محمد بن نوح الملقب بعماد الدولة، وضبط مورور وحسنت سيرته، وقصد إليه البربر من إشبيلية ومن إستجة وغيرهما، فكثر جمعه، هذا والمعتضد يتربص الفرصة للإيقاع به، ويرسل جنده للإغارة عليه، وانتساف زروعه، وحرق قراه، وأخيراً حاصرت جند ابن عباد مورور حصاراً شديداً، وضيقت عليها المسالك، حتى اضطر عماد الدولة أن يذعن إلى التسليم، على أن يعيش في إشبيلية، في كنف المعتمد وتحت حمايته، فأجابه المعتضد إلى طلبه، وسلم إليه المدينة (458 هـ) وقصد إلى إشبيلية بأهله وماله، وعاش بها حتى توفي في سنة 468 هـ (2).
وأما رندة، وهي أهم هذه الإمارات الجنوبية وأمنعها، فكانت منزل بني
يفرن. ولما وقع أميرها أبو نور هلال بن أبي قرة اليفرني في اعتقال المعتضد سنة 445 هـ، قام ولده باديس مكانه في رندة، ولكنه كان فاجراً سفاكاً، فسطا على الأموال والأعراض، وعاث رجاله في المدينة سبياً ونهباً، ولم يعف عن الاعتداء على أقرب الناس إليه. فلما أفرج عن أبيه، عاد إلى رندة، وقتل ولده الفاسق (449 هـ)، ولكنه لم يعش بعده سوى أشهر قلائل وتوفي في نفس العام، فخلفه ولده أبو نصر فتوح، وبويع له في رندة، وفي سائر بلاد ريُّه، وكان
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 294.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 295 و 296.(2/46)
محسناً عادلا، ولكنه كان شغوفاً بالشراب، مخلداً إلى الراحة، فدس عليه المعتضد رجلا من أقرب صحبه يدعى ابن يعقوب، فهجم عليه في أصحابه ذات يوم، وهو يصيح بشعار ابن عباد، فألقى أبو نصر نفسه من أعلى القصبة فمات، ولم يبد أهل المدينة أية مقاومة، وخلصت رندة وأعمالها على هذا النحو، إلى المعتضد، وذلك في سنة 457 هـ (1065 م) (1).
وأما قَرْمونة فكانت حسبما تقدم في يد بني برزال. وتقع قرمونة على مقربة من شمالي شرقي إشبيلية، وتعتبر لمنعتها الفائقة حصن إشبيلية من الشرق، وما يزال يقوم بها حتى اليوم، بابها الغربي المواجه لطريق إشبيلية، والمسمى حتى اليوم باسمه الأندلسي باب إشبيلية، وهو يعتبر بعقده الشاهق وواجهته العظيمة، من أمنع الأبواب الأندلسية الباقية. وكان أمير قرمونة أيام القاضي ابن عباد، محمد بن عبد الله البرزالي، الذي سبق أن أشرنا إلى قصة تحالفه مع ابن عباد ضد بني الأفطس وضد يحيى بن حمود. واستمر في حكم قرمونة وأعمالها مثل إستجة ومرشانة حتى توفي سنة 434 هـ، فخلفه ولده عزيز الملقب بالمستظهر، وانتظمت الأحوال وعم السلم والرخاء في عهده، إلى أن بدأ المعتضد في مضايقته وغزو أراضيه. ولم تزل الحرب بينهما بضعة أعوام حتى خربت البلاد، وفنى كثير من البربر، واضطر المستظهر أن يذعن إلى التسليم، فخرج من قرمونة وسلمها إلى ابن عباد، وذلك في سنة 459 هـ (1067 م)، وتوفي بعد قليل في إشبيلية (2).
هذا وسوف نعود إلى تناول هذه الإمارات البربرية في فصل خاص بها.
وكان المعتضد قد استولى قبل ذلك على الجزيرة الخضراء. وكان أميرها القاسم بن محمد بن حمود، قد خلف أباه في حكمها في سنة 440 هـ، وكان المعتضد يسعى إلى القضاء على سلطان الحمُّوديين وخلافتهم. ومن جهة أخرى فقد كان يهمه الاستيلاء على الجزيرة، وهي باب الأندلس من الجنوب، فبعث قواته إليها فطوقتها من البر والبحر، وضيقت عليها الحصار، حتى اضطر القاسم إلى طلب الأمان والتسليم إلى قائد المعتضد عبد الله بن سلام، فأجابه إلى مطلبه. وخرج
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 208 و 312 و 313.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 312.(2/47)
القاسم بأهله وأمواله في مركب أعده له ابن سلام، وسار إلى ألمرية حيث التجأ إلى أميرها المعتصم بن صمادح، وعاش بها حتى توفي. وكان استيلاء ابن عباد على الجزيرة الخضراء في سنة 446 هـ (1054 م) (1).
وهكذا أضحت مملكة إشبيلية أو مملكة بني عباد تضم من أراضي الأندلس القديمة رقعة شاسعة تشمل المثلث الجنوبي من شبه الجزيرة، وأرض الفرنتيرة شمالا حتى شواطىء الوادي الكبير، ثم تمتد بعد ذلك من عند منحنى الوادي الكبير، غرباً حتى جنوبي البرتغال وشاطىء المحيط الأطلنطي، وبذلك أضحت أعظم ممالك الطوائف، وأغناها من حيث الموارد الطبيعية، وأقواها من حيث الطاقة الحربية.
ولم يكن يغشى هذه المكانة التي بلغتها إشبيلية من الضخامة والقوة والغنى، سوى ناحية قاتمة واحدة، هي موقفها من ملك قشتالة فرناندو الأول (2). ذلك أن هذا الملك القوي كان يطمح إلى أن يبسط سيادته على اسبانيا كلها، وكان يرى في ممالك الطوائف، وما يسودها من الخلاف والتفرق، فرائس هينة. ففي سنة 1062 م (454 هـ)، خرج من قشتالة بجيش كبير من الفرسان والرماة، وغزا مملكة طليطلة، وعاث فيها وخرب سهولها وزورعها، حتى اضطر ملكها المأمون ابن ذى النون، أن يطلب الصلح، وأن يتعهد بدفع الجزية. وفي العام التالي، سنة 1063 م (455 هـ) عاد فغزا أراضي مملكتي بطليوس وإشبيلية، واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون، في طلب الصلح والتعهد بدفع الجزية، وقصد المعتضد بنفسه إلى معسكر ملك قشتالة، وقدم إليه عهوده شخصياً، وطلب إليه ملك قشتالة بهذه المناسبة أن يسلمه رفات القديسة "خوستا" شهيدة إشبيلية، فوعده بتحقيق رغبته. ولما توفي فرناندو بعد ذلك بثلاثة أعوام وخلفه ولده سانشو (شانجه) في حكم مملكة جليقية، كان المعتضد يؤدي إليه الجزية أسوة بأبيه، واستمر في تأديتها حتى وفاته (3).
- 3 -
وحدثت خلال هذه الفترة التي قضاها المعتضد بن عباد في افتتاح الإمارات
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 242 و243.
(2) ويسمى في الرواية العربية فرذلند أو فرانده.
(3) راجع: R. Menendez Pidal: La Espana del Cid, p. 135 & 140.(2/48)
الغربية، والإمارات البربرية، عدة حوادث داخلية هامة، كان في مقدمتها بطش المعتضد بولده اسماعيل.
وقد ساق إلينا ابن حيان قصة هذه المأساة، وكان معاصراً لها، متتبعاً لحوادثها، في خبر طويل، خلاصته أنه في سنة 450 هـ، تواترت الأنباء في قرطبة بأن المعتضد قد دبر نزول قواته بمدينة الزهراء ضاحية قرطبة الغربية تمهيداً لافتتاحها، وندب ولده وولي عهده إسماعيل الملقب بالمنصور للقيام بهذه المهمة. ولكن إسماعيل لم يشأ أن يقوم بهذه المهمة، لأنه وفقاً لبعض الروايات كان يحقد على أبيه ويستوحش منه لأسباب خاصة، أو لأنه وفقاً لرواية أخرى كان يرى أن مهاجمة قرطبة على هذا النحو مغامرة خطيرة يرجح فشلها، ولاسيما لما كان بين آل جهور سادة قرطبة، وبين باديس أمير غرناطة من محالفة وثيقة العرى. ومن ثم فقد راجع إسماعيل أباه وحذره من العواقب، فأغلظ له أبوه في القول، وألزمه المسير، وأنذره بالقتل إذا نكل، فعندئذ ثارت نفس إسماعيل، وعول على الفرار مع بعض خواصه. ويقال إن الذي شجعه على ذلك وزير أبيه وكاتبه، أبو عبد الله محمد بن أحمد البزلياني، حينما شكا إليه ما يلقاه من غلظة والده وقسوته، فحسن له العقوق والعصيان، والسير إلى أطراف المملكة، حيث ينفرد بنفسه، وعندئذ دبر إسماعيل أمره، وانتهز فرصة غياب أبيه إلى مكان متنزهه في حصن الزاهر، في الضفة الأخرى من النهر، فحزم قدراً كبيراً من المال والذخائر والمتاع، وأخذ أمه وحرمه، وخرج من إشبيلية تحت جنح الليل، ومعه الوزير البزلياني، وثلة من نحو ثلاثين فارساً، وسار في طريق الجزيرة الخضراء، وعلم أبوه بالخبر بعد وقت، فبادر بإخراج عدة من فرسانه في أثره، وبعث ينذر قواد الحصون.
وكان إسماعيل قد وصل خلال ذلك إلى قلعة من قلاع كورة شذونة، وطلب إلى حاكمها ابن أبي حصاد، أن يجيره، فاستقبله وأنزله بالقلعة هو ومن معه، وبادر فكتب إلى المعتضد بحصول إسماعيل في يده، وأنه نادم على ما فعل، ورجاه في العفو عنه، فسر المعتضد، واستجاب إسماعيل لدعوة أبيه إليه بالعودة، ودخل إشبيلية بسائر ماله ومتاعه، فاعتقله أبوه في بعض الدور، واسترد المال والمتاع، وعجل بإعدام الوزير البزلياني لفرط حنقه عليه، وقتل معه نفراً من خواص إسماعيل، فلم يشك إسماعيل عندئذ في مصيره. ودبر مع بعض الموكلين به مؤامرة لدخول القصر والفتك بأبيه والجلوس مكانه، واستطاع بالفعل أن يدخل(2/49)
القصر ليلا مع بعض أعوانه، ولكنه سقط مرة أخرى في يد أبيه الساهر الحذر.
وعندئذ قرر المعتضد قتل ولده، وقتله بنفسه، وأخفى جثته، فلم يقف أحد على أثره، وعذب شركاءه أشنع عذاب، وقطع أطرافهم، ثم أعدمهم، وأعدم كذلك نفراً من حرمه ونسائه، حتى قطع دابر كل من كانت له بولده علاقة أو صلة، وكانت مأساة مروعة، وكان لها في قواعد الأندلس أعمق صدى (1).
وقد أورد لنا ابن بسام في الذخيرة صورة كتاب أمر المعتضد بكتابته عن المأساة إلى رؤساء الأندلس يصف فيه أطوار الحادث ويبرر تصرفه في إزهاق ولده "الخائن الغادر" حسبما يصفه. وقام بإنشاء هذه الرسالة ابن عبد البر كاتب المعتضد، وذلك ارتجالا، بين يدي المعتضد، وبمحضر من الوزراء والكتاب، فجاءت قطعة من البلاغة الرفيعة، وإليك بعض ما ورد فيها:
" إن الغوى اللعين، العاق الشاق، إسماعيل ابنى بالولاد، لا بالوداد، ونجلى بالمناسب لا بالمذاهب، كنت قد ملت بهواى إليه، وقدمته على من هو أسنى منه، وحبك الشىء يعمي ويصم، والهوا يطمس عين الرائي، إذ يلم، فآثرته بأرفع الأسماء والأحوال، ووسعت عليه في خطيرات الذخائر والأموال، وأخضعت له أكابر رقاب الجند ووجوه الرجال، ودربته في مباشرة الحروب، وأجريته على مقارعة الخطوب، ولم يكن مما أحسبه أني إنما أشحذ على نفسي منه الشفرة، وأوفد بالتدريب والتخريج تحت حصى الجمرة، وما كنت خصصته بالإيثار، واستعملته بالمكافحة والقرار، إلا لجزالة كنت أتوسمها فيه، كانت عيني بها قريرة، وشهامة كنت أتوهمها فيه كانت نفسي بها مسرورة، فإذا الجزالة جهالة، والشهامة شرة وكهامة، وقد تفتن الآباء بالأبناء، وينطوي عنهم ما ينطوون عليه من الأسواء، مع أن الآراء قد تنشأ وتحدث، والنفوس قد تطيب وتخبث، بقرين يصلح أو يفسد، وخليط يغوي أو يرشد، كما أن داء العر قد يعدي، كذلك قرين السوء قد يردي، ومن اتخذ الغاوي خديناً، عاد غاوياً ظنيناً، ومن يكن الشيطان له قريناً، فساء قرينا".
ويصف الكتاب بعد ذلك أدوار المؤامرة التي دبرها إسماعيل منذ فراره وعوده،
وعفو والده عنه، ويقول "فإذا به كالحية لا تغنى مداراتها، والعقرب لا تسالم
_______
(1) راجع رواية ابن حيان في دوزي Historia Abbadidarum, V.I.p. 256-259 وكذلك البيان المغرب ج 3 ص 244 و 248 و 249.(2/50)
شباتها، وكأنه قد استصغر ما أتى، واستحقر ما جنى، فزرا وسرا ما صارت به الصغرى، التي كانت العظمى". ثم يصف ائتماره بأبيه وتسوره القصر ليلا، وفشل المؤامرة، والقبض على المتآمرين، "حتى أظفر الله بهم، وأقيمت حدود الله تعالى على الجميع منهم، وأنفذت حكم العدل فيهم ".
ثم يحاول أن يبرر تصرفه فيما يلي: "فاعجب يا سيدي لأبناء الزمن، وأنباء الفتن، وانقلاب عين الإبن المقرب الودود، إلى حال الواتر المحسود، والثائر الحقود، واعتبر في ورد المساءة، من موطن المسرة، وطلوع المحنة. وقد أربت هذه الحال على كل ما جر عليه عقوق من الأبناء والبنين، من السلف المتقدمين، فلم يكن أكثر مما وجدناه من ذلك في الأخبار والآثار، استيحاشاً وشروداً، ونبوا ونددوا، إلا ما شذ لأحد ملوك الفرس، وآخر من بني العباس. وجمع هذا اللعين في إرادته ومحاولته، بين الشاذ والنادر، والمنكر الدائر، وزاد إلى استيحاشه الذم، التعرض لإباحة الحرم، وإلى ما رام من إتلاف المهجات، السافح فيها كان يجري على العورات المصونات، وهو زمان فتنة، وشمول إحنة ودمنة، والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وأصدق من هذا قوله تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، فاحذروهم " نفثت يا سيدي نفثة مصدور، وأطلت في الشرح والتفسير، خروجاً إليك عن هذا الخطب الخطير، والملم الكبير، وهو خبر فيه معتبر " (1).
ونحن نعرف أن فتك المعتضد بن عباد بولده لم يكن هو أول مثل من نوعه في تاريخ الأندلس. فقبل سبعين عاماً، قتل المنصور بن أبي عامر ولده عبد الله، ومن قبل ذلك قتل الناصر لدين الله ولده عبد الله أيضاً، وكلاهما في مثل هذه الظروف، ولمثل هذه الأسباب، أعني لتطلعه إلى انتزاع السلطان من يد أبيه، وائتماره بحياته. بيد أن المعتضد هو أول أمير من هؤلاء يعني بشرح موقفه وظروفه، وتبرير تصرفه الدموي، في هذه الوثيقة أو هذه الرسالة، التي وجهها إلى زملائه أمراء الأندلس. وقد كان من الطبيعي أن يتوجس أمير مستبد، صارم عنيف الأهواء، مثل المعتضد بن عباد،
_______
(1) راجع دوزي Historia Abbadidarum, V.I.p. 253-256 , والبيان المغرب ج 3 ص 245 و 248.(2/51)
من تصرف ولده الحاقد الناقم، المتربص به، ولاسيما إذا صحت الوقائع التي تسوقها إلينا الرواية المعاصرة عن ائتماره بأبيه، وتسوره القصر ليلا للفتك به، وهي رواية مؤرخ معاصر محايد معاً، هو ابن حيان القرطبي.
وفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، قطع المعتضد بن عباد الدعوة لهشام المؤيد في سائر أنحاء مملكة إشبيلية، وقد كان يدعي له بها منذ نحو خمسة وعشرين عاماً، أعني منذ زعم القاضي ابن عباد في سنة 426 هـ، أنه عثر بهشام المؤيد حياً، وبايعه ودعا له. وقيل في ذلك إن المعتضد دعا وجوه دولته إلى مجلسه، ونعى لهم هشاماً، وأنه قد مات بالفعل قبل ذلك من علة مزمنة، ولكن لم يعلن وفاته يومئذ، لاشتداد الفتنة، واضطرام النضال بينه وبين الأمراء المتألبين عليه، فلما سكنت الفتنة وجب التصريح بالحق. ومن ذلك الحين يصبح هشام في ذمة التاريخ، وينقطع ذكره بصفة نهائية. ويعلق ابن حيان على ذلك متهكماً في قوله: "وصارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها أن تكون إن شاء الله الصادقة، فكم قتل وكم مات، ثم انتفض من التراب، ومزق الكفن قبل نفخة الصور ".
وقد قال بعضم في ذلك:
ذاك الذي مات مراراً ودفن ... فانتفض الترب ومُزق الكفن
فقد أعلنت وفاته لأول مرة على يد منتزع عرشه محمد بن هشام المهدي، ودفن بمحضر من العلماء والفقهاء في شعبان سنة 399 هـ، ونشر بعد نحو عام على يد الفتى واضح، وتولى الخلافة؛ وتوفي للمرة الثانية قتيلا بيد سليمان المستعين أو ولده محمد بن سليمان في سنة 403 هـ، ودفن خفية؛ ولما دخل علي بن حمود قرطبة، وكان الاعتقاد سائداً بأن هشاماً لم يمت وأنه قد اختفى، ولم يجد هشاماً بعد البحث عنه، أعلن وفاته ودعا لنفسه بالخلافة (407 هـ). ثم جاء القاضي ابن عباد بعد ذلك في سنة 426 هـ، فأعلن ظهور هشام، ودعا له، احتماء بظل الخلافة، ودفعاً لدعاوي بني حمود (1).
- 4 -
وقد أشرنا من قبل في بداية حديثنا عن المعتضد بن عباد إلى ما نسب إليه من
_______
(1) راجع رواية ابن حيان وتعليقاته على ذلك في دوزي: Historia Abbadidarum V.I.p, 250 , والبيان المغرب ج 3 ص 249.(2/52)
الصفات الباهرة المثيرة معاً، ونود هنا أن نستعرض في شىء من التفصيل خواص هذه الشخصية القوية العنيفة.
كان المعتضد بن عباد، بلا مراء، أعظم ملوك الطوائف في عصره، وأوفرهم عزماً ودهاء، وأبعدهم مطامع. وتقدمه إلينا الروايات المعاصرة في صور قاتمة، يتجلى فيها عنفه، وقسوته وغدره، والتجاؤه إلى أي الوسائل لتحقيق غاياته، مهما كانت مجافية لمبادىء الأخلاق والشهامة والفروسية. وقد رأينا فيما تقدم في تطبيق سياسته، وفي حروبه، وفي تصرفاته، ما يؤيد هذه الصفات المثيرة.
ويقول لنا ابن حيان إن المعتضد كان يتخذ سيرة سميه الخليفة المعتضد بالله العباسي قدوة له (1)، ويهتدي بأخباره السياسية "التي أضحت عند أهل النظر أمثلة هادية إلى الاحتواء على أمد الرياسة، في صلابة العصا، وشناعة السطا، فجاء منها بمهولات تذعر من سمع بها، فضلا عمن عاينها". ثم يستدرك فيقول: "نسبوا إلى هذا الأمير الشهم عباد أمثالها من غير دلالة" (2). وقد رأينا فيما تقدم أن ابن حيان يميل أحياناً إلى الدفاع عن المعتضد، بالرغم مما يقصه من أخبار بطشه وقسوته المروعة.
وقد أنفق المعتضد بن عباد معظم حكمه في محاربة جيرانه من أمراء الطوائف، وكشف في محاربتهم عن قوة عزمه، وضخامة عدته، وإحكام خططه، ولكنه كشف في نفس الوقت عن قسوته وغدره، وروعة وسائله، وعلى أي حال فقد استطاع المعتضد بهذه الوسائل المثيرة أن يحقق أطماعه، وأن ينشىء مملكة إشبيلية الكبرى، أعظم ممالك الطوائف، وأن يوطد بها ملك أسرته، وأن يسبغ عليها نوعاً من الزعامة السياسية والأدبية لاسبانيا المسلمة كلها.
ويبدي ابن حيان حماسة في وصف سياسة المعتضد إذ يقول: "وسياسته أعيت على أنداده من أملاك الأندلس، فخرج منهم رجالا مساعير حرب أباد بهم أقتاله، ومن نادر أخباره المتناهية الغرابة، أن نال بغيته، وأهلك تلك الأمم العاتية، وإنه لغائب عن مشاهدتها، مترفه عن مكابدتها، مدبر فوق أريكته، منفذ
_______
(1) قال ابن الأثير في وصف الخليفة المعتضد العباسي ما يأتي: " وكان شهماً شجاعاً مقداماً ذا عزم، وكان فيه شح، وكان مهيباً عند أصحابه، يتقون سطوته، ويكفون عن الظلم خوفاً منه " (ج 7 ص 169 و 170).
(2) ابن حيان، ونقله دوزي في Hist. Abbadidarum V.I.p, 243(2/53)
لحيلها، من جوف قصره، ما مشى إلى عدو أو مغلوب من أقتاله غير مرة أو مرتين، ثم لزم عريسته يدبر داخلها أموره، جرد نهاره لإبرام التدبير، وأخلص ليله لتملي السرور، ... وهو واصل نعم ليله، بإجابة كيده، ومبتدع نشاط لهوه بقوة أيده، له في كل شىء شوين، وعلى كل قلب سمع وعين.
ما أن سبر أحد من دهاة رجاله غوره، ولا أدرك قعره، ولا أمن مكره، لم يزل هذا دأبه منذ ابتدائه إلى انتهائه" (1).
وقال ابن القطان: "كان ذا سطوة كالمعتضد العباسي ببغداد، وكان ذا سياسة ورأي يدبر ملكه من داره. وكان يغلب عليه الجود، فلم يعلم في نظرائه أبذل منه للمال" (2).
ووصفه ابن الخطيب بأنه: "كان شديد الجرأة، قوي المنة، عظيم الجلادة، مستهيناً بالدماء" (3).
وقد انتهت إلينا عن قسوة المعتضد بن عباد قصة مروعة، هي قصة حديقة الرؤوس المحنطة، رؤوس أعدائه الذين سقطوا في ساحة الحرب، أو قتلوا غيلة، وحملت إليه رؤوسهم. ويقول لنا ابن حيان، إن المعتضد كان له بهذه الحديقة التي تملأ قلوب البشر ذعراً، مباهاة أكرم لديه من خزانة جواهر مكنونة، وقد أودعها هام الملوك الذين أبادهم بسيفه، منها رأس محمد بن عبد الله البرزالي، ورؤوس الحجاب ابن خزرون، وابن نوح، وغيرهم ممن قرن رؤوسهم برأس إمامهم الخليفة يحيى بن علي بن حمود، فخص رؤوسهم بالصون بعد إزالة جسومهم الممزقة، وبالغ في تطييبها وتنظيفها، وأودعها المصاون الحافظة لها، فبقيت عنده ثارية تجيب سائلها اعتباراً. ثم يقول لنا إن هذه الرؤوس الفانية كانت تحمل إلى المعتضد في ليالي أنسه وسروره، يشاهدها وهو يترع كؤوس الزاح، فترتاح نفسه لمعاينتها، والخلق يذعرون من التماحها (4). ويضيف
_______
(1) ابن حيان، ونقله دوزي في: Hist. Abbad. V.I.p. 243-244
(2) البيان المغرب ج 3 ص 284.
(3) أعمال الأعلام ص 156.
(4) ابن حيان ونقله دوزي في Hist, Abbadidarum, V.I, p. 243-244 , والبيان المغرب ج 3 ص 205 و 256.(2/54)
ابن بسام إلى ذلك أنه لما افتتحت اشبيلية، وخلع المعتمد بن عباد، عثر المرابطون بهذه الرؤوس في جوالق وأوعية، ظن في البداية أن بها أموال أو جواهر، فهالهم الأمر، وسلم كل رأس منها لمن بقي من عقب أصحابها (1).
على أن هذه النواحي القاتمة لم تكن كل شىء في شخصية المعتضد، فقد كانت ثمة في هذه الشخصية نواح أخرى لامعة عنى ابن حيان أيضاً بالإشارة إليها. من ذلك ما سمت إليه همته من إنشاء القصور الباذخة، والرباع العظيمة المغلة، وما عنى به من تنظيم بلاط بني عباد، وتجهيزه بالعدد والمظاهر الملوكية الفخمة، ونفيس المتاع والرياش، حتى غدا أعظم وأفخم بلاط بين قصور الطوائف.
وقد اشتهرت قصور بني عباد في التاريخ والشعر، وقد كانت منها بمدينة إشبيلية قاعدة ملكهم عدة، منها قصر الإمارة وهو "القصر المبارك"، وقد كان يقع في شرقي نهر الوادي الكبير، في المكان الذي يشغله اليوم قصر إشبيلية الشهير El Alcàzar. والظاهر أنه كان من إنشاء المعتضد بن عباد، أو أنه هو الذي زاد فيه وأسبغ عليه رونقه وفخامته التي اشتهر بها. وقد كان ثمة أيضاً قصر الزاهي، وهو القصر الذي كان يتخذه المعتضد، ومن بعده ولده المعتمد، مكاناً للهو والقصف، وقد كان يقع على الضفة الأخرى من النهر، وتحيط به حدائق غناء (2). وقد ذكر لنا ابن زيدون في شعره، وذكر لنا المقري أسماء قصور أخرى تتصل بعصر المعتضد، وهي على الأغلب من إنشائه، ومن ثم فإنا نرجىء ذكرها إلى موضعها. وقد اقتنى المعتضد كثيراً من الجياد الصافنات، والغلمان والحشم، وأنشأ له جيشاً منتخباً من أبرع الفرسان والمقاتلة، وبذل لهم الصلات الوفيرة، فكان له ما شاء من التفوق العسكري على أنداده وخصومه، وكان جواداً "يباري جوده السحاب".
وأما عن شخص المعتضد، فقد ترك لنا عنه معاصره ابن حيان تلك الصورة الرائعة، قال: " وكان عباد قد أوتي من جمال الصورة، وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة، وسباطة البيان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، ما فاق
_______
(1) ابن بسام في الذخيرة ونقله نفس المصدر ص 240. والبيان المغرب ج 3 ص 205 و206.
(2) قلائد العقيان ص 24.(2/55)
به أيضاً على نظرائه ". وقد اشتهر المعتضد بشغفه بالنساء، فكان إلى جانب زوجه الحسناء الأثيرة لديه، إبنة مجاهد العامري، وأخت ولده على إقبال الدولة صاحب دانية، يقتني في قصوره الفخمة، عدداً كبيراً من الجواري البارعات في الحسن والسحر، من سائر الأجناس والملل، بلغ عددهن حسبما قيل، نحواً من السبعين، وكان له من الولد الذكور نحو العشرين، وكذلك مثلهم من الإناث (1).
بقيت من صفات المعتضد، خلة لامعة، تبعث إلى الإعجاب والعطف في تلك الشخصية التي لا توحي معظم صفاتها إلا شعور المقت والروع، تلك هي أدبه الرفيع ونظمه الرائق. وهنا أيضاً نستعير قلم ابن حيان إذ يقول: "ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان، أدنى نظر، بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه، على قطعة وافرة علقها من غير تعهد لها، ولا إمعان في غمارها، ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام، وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة، في معان أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واقتبسها الأدباء للبراعة" (2).
وقال الحميدي: "كان أبو عمرو بن عباد صاحب إشبيلية، من أهل الأدب البارع، والشعر الرائع، والمحبة لذوي المعارف. وقد رأيت له سفراً صغيراً في نحو ستين ورقة من شعر نفسه" (3).
وقال ابن القطان: "وكان لأهل الأدب عنده سوق نافقة، وله في ذلك همة عالية، ألف له الأعلم أديب عصره، ولغوي زمانه، شرح الأشعار الستة، وشرح الحماسة، وألف له غيره دواوين وتصانيف لم تخرج إلى الناس" (4).
والأدب والشعر من محاسن الأسرة العبادية ومآثرها العريقة، فقد نبغ معظم رجالاتها في النثر والنظم، ولم تكن براعة المعتضد في الشعر إلا قبساً من تراث أسرته؛ ولقد بلغ ولده المعتمد، فيما بعد، في عالم الشعر أسمى مراتبه، وكان من أعظم شعراء الأندلس في عصره. وذكر لنا ابن بسام أن شعر المعتضد قد جمع بعناية ولد أخيه اسماعيل في ديوان أطلع عليه (5)، واختار منه ما اختار في الذخيرة
_______
(1) ابن حيان، ونقله دوزي في المصدر السابق ص 245. وفي الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43.
(2) ابن حيان، ونقله دوزي في المصدر السابق ص 245. وفي الحلة السيراء ج 2 ص 42.
(3) في جذوة المقتبس رقم 672. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 285.
(4) البيان المغرب ج 3 ص 284.
(5) وهذا ما ذكره أيضاً ابن الأبار في الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43.(2/56)
من المقطوعات. وهذه المقطوعات منوعة بين الفخر والغزل والوصف وغيرها، وكلها تدل على افتنان المعتضد، ومقدرته الشعرية الممتازة. فمن قوله في الفخر:
حميت ذمار المجد بالبيض والسمر ... وقصرت أعمار العداة على قسر
ووسعت سبل الجود طبعاً وصنعة ... لأشياء في العلياء ضاق بها صدري
فلا مجد للإنسان ما كان ضده ... يشاركه في الدهر بالنهي والأمر
ومن قوله حين استولى على رندة، وهو مما يتفق مع عنفه وصرامته:
لقد حصلت يا رندة ... فصرت لملكنا عقدة
سأفني مدة الأعداء ... إن طالت بي المدة
وتبلى بي ضلالتهم ... ليزداد الهوى جدة
فكم من عدة قتلـ ... ـت منهم بعدها عدة
نظمت رؤسهم عقدا ... فحلت لبة السدة (1)
وربما كان لهذه السجية الأدبية أكبر أثر في أن المعتضد قد نظم في سلك وزرائه جماعة من أعظم شعراء العصر وكتابه. وكان في مقدمة هؤلاء أبو الوليد بن زيدون إمام الشعر وقطبه، وكان قد انتظم من قبل في وزارة بني جهور بقرطبة، ثم ساءت أحواله فغادر قرطبة إلى إشبيلية في سنة 441 هـ، فأكرم المعتضد وفادته، وعينه في وزارته، وغمره بثقته وعطفه، وما زال متمتعاً برفيع مكانه ونفوذه حتى وفاة المعتضد. بيد أنه يبدو أنه لم يكن مطمئناً على نفسه في خدمة هذا الطاغية الخطر، حتى أنه لما توفي المعتضد نظم هذين البيتين ابتهاجاً بذهابه، ولم يظهرهما يومئذ "لأنه كان غير مأمون على الدماء، ولا حافظاً لحرية الأولياء".
ْلقد سرني أن النعي موكل ... بطاغية قد حم منه حمام
تجانب صوب الغيث عن ذلك الصدا ... ومر عليه المزن وهو جهام (2)
ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد البر ولد أبي عمر، صاحب كتاب "بهجة الجالس وأنس المجالس". نظمه المعتضد في سلك وزرائه، وكان كاتبه
_______
(1) تراجع مقطوعات أخرى من شعر المعتضد فيما أورده ابن بسام في الذخيرة ونقله دوزي في: Hist. Abbadidarum V.II.p. 48-60. وكذلك في الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43 - 49.
(2) راجع ما أورده ابن بسام، ونقله دوزي في Hist. Abbadidarum, V.II.p. 48 وراجع قلائد العقيان ص 71.(2/57)
ولسانه لدى الرؤساء، وقد اشتهر برائق نثره وروعة أسلوبه. وقد رأينا نموذجاً من نثره فيما اخترناه من مقتطفات رسالته، عن مصرع إسماعيل ابن المعتضد. بيد أنه لم يكن أيضاً سعيداً ولامطمئناً، لخوفه المستمر من أن يبطش به المعتضد، ومن ثم فقد عول في النهاية على الفرار، وغادر إشبيلية ناجياً بنفسه (1).
ومنهم أيضاً الكاتب البارع أبو عبد الله البزلياني الذي يصفه ابن بسام بأنه "أحد شيوخ الكتاب، وجهابذة أهل الأدب". وقد رأينا كيف ساق سوء الطالع هذا الوزير الكاتب إلى الاشتراك مع إسماعيل ولد المعتضد في مؤامرته وفراره، وكيف قبض عليه المعتضد وأعدمه لفوره.
ومما هو جدير بالذكر أنه كان بين وزراء المعتضد أو معاونيه، رجل من النصارى المستعربين، هو سسنندو دافيدس (أوششنند) الذي اشتهر فيما بعد في قصور الطوائف. وأصله من مقاطعة بيرة في شمالي البرتغال، وأسر حدثاً في غارة قام بها القاضي ابن عباد في منطقة قُلُمرية، ثم أخذ إلى إشبيلية وربى مع "فتيان" القصر، واشتغل في شئون الخاص. ولما تولى المعتضد، قدر مواهبه، ومعرفته بشئون الجزيرة، فنظمه بين وزرائه أو معاونيه، فنال ثقته، وتمكن نفوذه، وعلت مكانته في البلاط العبادي بسرعة. ولكنه لم يلبث أن تعرض لخصومة بعض رجال البلاط وسعايتهم، فخشى العاقبة، وفر من إشبيلية إلى الشمال، ولجأ إلى بلاط فرناندو ملك قشتالة، فرحب به، ونظمه بين مستشاريه، وكان له فيما بعد أكبر أثر في تكييف سياسته نحو ملوك الطوائف (2).
وتوفي المعتضد بن عباد في الثاني من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة (مارس 1069 م). ويقول لنا ابن حيان إن وفاته كانت بسبب ذبحة قصيرة الأمد، ترتبت على الإجهاد، وكانت شبه البغت. وكانت ولايته زهاء ثمانية وعشرين عاماً.
_______
(1) راجع قلائد العقيان ص 181 و 183.
(2) الذخيرة، القسم الرابع المجلد الأول ص 129 وكذلك: Isidro de las Cagigas Los Mozarabes (Madrid 1947) p. 456-456.(2/58)
الفصل الثالِث
بنو عباد ومملكة إشبيلية القسم الثاني
المعتمد بن عباد. شخصيته وخلاله. ذكرياته بشلب. استيلاؤه على قرطبة. النضال بين بني عباد والبربر. عوامل الخصومة بينهما. محاربة المعتمد لغرناطة واستيلاؤه على جيان. اتفاقه مع ألفونسو السادس على فتح غرناطة. الوزير ابن عمار. نشأته وشاعريته. مقدرته ودهاؤه. سعيه إلى فتح مرسية. اتفاقه مع أمير برشلونة على غزوها. فشل هذه المحاولة. استعانته بابن رشيق في فتحها. محاولته الاستقلال بحكمها. تغلب ابن رشيق عليها. فرار ابن عمار والتجاؤه إلى بني هود. محاولته فتح حصن شقورة. سقوطه في يد صاحب الحصن. تسليمه لابن عباد. اعتماد الرميكية وابن عباد. تغدو ملكة إشبيلية. الوحشة بينها وبين ابن عمار. هجاء ابن عمار للمعتمد. والرميكية. استعطاف ابن عمار للمعتمد وشعره في ذلك. قسوة المعتمد وقتله لوزيره. تعليقات على الحادث. ابن عمار وعبقريته. مقدرته الأدبية والنثرية. غزو المعتمد لأراضي طليطلة. يؤدي الجزية لملك قشتالة. يعقد حلفاً معه. موضوع هذا الحلف. مطالبة ألفونسو للمعتمد بالجزية. والخلاف على قيمتها. تنكيل ابن عباد برسل ألفونسو. غزو ألفونسو لأراضي إشبيلية. خطته في إضعاف الطوائف والقضاء عليهم. إدراك المعتمد لخطته وتفكيره في الاستعانة بالمرابطين. وعيد ألفونسو له ورد المعتمد عليه. ذيوع فكرة استدعاء المرابطين بين أمراء الأندلس وشعوبها. سفارة أمراء الأندلس لعاهل المرابطين. الإتجاهات المختلفة والآراء المعارضة. ما ينسب لابن عباد من رسائل وجهها إلى أمير المسلمين. استجابة أمير المسلمين لنداء الأندلس. عبوره إلى شبه الجزيرة الإسبانية.
- 1 -
لما توفي المعتمد بن عباد، خلفه يوم وفاته ولده، محمد بن عباد، الملقب بالظافر، والمؤيد بالله، والمعتمد على الله، وهو اللقب الذي غلب عليه واشتهر به طول حياته.
وكان المعتمد يوم جلوسه على عرش مملكة إشبيلية، فتى في الثلاثين من عمره، وكان مولده بمدينة باجة في سنة 431 هـ (1040 م) وقيل بل في ربيع الأول سنة 432 هـ (1). وكان مثل أبيه، في حسن القوام، وروعة المظهر، وعنفوان
_______
(1) يقول بالرواية الأولى النويري، وبالرواية الثانية ابن زيدون وابن اللبانة شاعرا المعتمد. راجع دوزي: Historia Abbadidarum V.II,p, 61 & 131 , وكذلك ابن الأبار في الحلة السيراء ج 2 ص 53.(2/59)
الصبا، ولكن لم يكن مثله في الصرامة والقسوة والاستهتار بالدماء، بل كان بالعكس وديعاً، يعف عن الدماء، بعيداً عن قبول السعايات.
ويقول لنا ابن الأبار في وصف المعتمد ما يأتي: " وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل مخالفاً لأبيه في القهر والسفك، والأخذ بأدنى سعاية، رد جماعة ممن نفى أبوه، وسكن وما نفر، وأحسن السيرة، وملك فأسجح، إلا أنه كان موالعاً بالخمر، منغمساً في اللذات، عاكفاً على البطالة، مخلداً إلى الراحة، فكان ذلك سبب عطبه، وأصل هلاكه " (1).
وقد خاض المعتمد مثل أبيه، سلسلة طويلة من الحروب والأحداث، وتقلب في غمار الخطوب والجدود، وكان عهده عهد الحسم في تاريخ دول الطوائف، وفي تاريخ الأندلس قاطبة؛ ولكنه لم يشتهر في ميدان الحرب والسياسة، قدر ما اشتهر في ميدان الأدب والشعر، والفروسية، والجود، ومهما كانت وجوه الضعف الشخصية التي كان ينطوي عليها، من عكوف على الشراب، وانغماس في مجالي اللهو والترف، ومهما كانت أخطاؤه السياسية الفادحة، التي ترتبت عليها محنة الأندلس، ثم محنته الخاصة: مهما كان من هذه الصفات القاتمة فإن شخصية المعتمد بن عباد، تبرز لنا من خلال هذه الغمار، ومن الناحية الأخرى، مشرقة وضاءة، تتوجها عبقريته الأدبية والشعرية، وتزينها صفاته الإنسانية الرقيقة وتطبعها محنته المؤلمة، بالرغم من كل أوزاره وأخطائه، بطابع الاستشهاد المؤثر.
وكان المعتمد أثناء حياة أبيه المعتضد، والياً لمدينة شلب، وليها عقب استيلاء بني عباد عليها في سنة 455 هـ (1063 م)، وكان يعاونه خلال تلك الفترة في إدارة ولاية شلب وزيره أو أمينه أبو بكر بن عمار، الذي تولى وزارته بإشبيلية فيما بعد، واشتهر ذكره، واضطلع له بأخطر المهام السياسية والعسكرية.
وقد تركت حياة المعتمد في شلب، تلك المدينة البرتغالية الجميلة النائية، وهو يومئذ في عنفوان فتوته، يتقلب خلالها في مجالي اللهو والأنس، في نفسه ذكريات لا تمحى، صورها لنا فيما بعد، في بعض قصائده. ومن ذلك قوله مخاطباً وزيره ابن عمار حين وجهه إلى شلب ليتفقد أعمالها:
ألا حب أوطانب بشلب أبا بكر ... وسلهن هل عهد الوصال كما أدري
_______
(1) في الحلة السيراء ج 2 ص 54.(2/60)
وسلم على قصر الشراجيب من فتى ... له أبداً شوق إلى ذلك القصر
منازل آساد وبيض نواعم ... فناهيك من غيل وناهيك من خدر
فكم ليلة قد بت أنعم جنحها ... بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر
وبيض وسمر فاعلات بمهجتي ... فعال الصفاح البيض والأسُل السمر
وليل بسدِّ النهر لهواً قطعته ... بذات سور مثل منعطف البدر
نضت بردَها عن غصن بان منعم ... نضير كما انشقت الكمام عن الزهر
وباتت تسقينى المدام بلحظها ... فمن كأسها حينا وحيناً من الثغر
وكان أول عمل قام به المعتمد عقب ولايته، هو تدخله في حوادث قرطبة، حينما هددها المأمون بن ذى النون بقواته، فبعث إليه عبد الملك بن جَهْور يستنجد به، فوجه إليه الأمداد مع قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، وانتهى الأمر باستيلاء قوات إشبيلية على قرطبة، وفقاً لخطة سرية وضعت من قبل، وبالقضاء على دولة بني جهور، وضم قرطبة إلى مملكة إشبيلية (462 هـ - 1070 م). وندب المعتمد ولده عباداً الملقب بسراج الدولة لحكم المدينة. وقد فصلنا عند الكلام عن دولة بني ذى النون، كيف دبر المأمون بن ذى النون استرداد قرطبة على يد ابن عكاشة، وكيف قتل سراج الدولة ولد المعتمد مدافعاً عنها، ثم دخلها المأمون في سنة 467 هـ (1075 م) ثم توفي بها بعد ذلك بأشهر قلائل، وأخيراً كيف عاد المعتمد، فسار على أثر ذلك إلى قرطبة في قواته، واستولى عليها، وقتل ابن عكاشة انتقاماً لولده، وبذلك عادت قرطبة إلى مملكة إشبيلية.
على أن أهم ما شغل به المعتمد، في تلك الفترة الأولى من ولايته، هو النضال ضد مملكة غرناطة البربرية. ونحن نعرف أن الخصومة بين بني عباد وبين الإمارات البربرية قد بدأت في عصر مبكر، وقد فصلنا من قبل كيف اشتبك القاضي ابن عباد مع يحيى بن حمود المعتلي حول قرمونة، في معركة دموية قتل فيها المعتلي، واستولى ابن عباد على قرمونة، وأعطاها لصاحبها البرزالي حليفه يومئذ، وكيف نشبت الخصومة فيما بعد بين ابن عباد والبرزالي، فلما أراد ابن عباد استرداد قرمونة باعتبارها حصن إشبيلية من الشرق، وسير إليها قواته، استغاث البرزالي بإدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية معارك طاحنة هزم فيها الإشبيليون، وقتل أميرهم إسماعيل بن عباد، وذلك في أوائل سنة 431 هـ.(2/61)
ولما تولى المعتضد بن عباد، عقب وفاة والده القاضي محمد بن اسماعيل ابن عباد في سنة 433 هـ، كان من أبرز أعماله القضاء على مختلف الولايات البربرية الشرقية، والجنوبية الشرقية، وهي مورون وأركش ورندة. واستولى على الجزيرة الخضراء من يد أميرها القاسم بن حمود (446 هـ)، ثم استولى على قرمونة وأعمالها في سنة 459 هـ (1067 م).
وبذلك تم القضاء على سائر الإمارات البربرية المتاخمة لإشبيلية من الشرق والجنوب الشرقي، وتم تأمين جناحها الدفاعي من هذه الناحية، ولم يبق في جنوبي الأندلس من الإمارات البربرية. سوى مملكة باديس في غرناطة ومالقة.
وحاول المعتضد في نفس الوقت أن ينتزع مالقة من باديس، وسير إليها قواته بالفعل تحت إمرة ولديه جابر والمعتمد، وكادت مالقة تسقط بالفعل في أيدي المهاجمين، ولكن باديس قدم في قواته مسرعاً، فانقلبت الآية وهزم جند إشبيلية هزيمة شديدة، وفشلت المحاولة (458 هـ) (1).
وكان المعتمد بن عباد يتابع سياسة أبيه وجده في التوجس من البربر والقضاء على سلطانهم. وكان يخشى أن تغدو مملكة غرناطة البربرية، مهبطاً للقبائل والقوات البربرية، التي تفد من وراء البحر باحثة عن طالعها وأرزاقها. هذا من ناحية العوامل المادية، وأما من ناحية العوامل الأدبية، فنستطيع أن نشير بهذه المناسبة، إلى ما كان بين العرب والبربر من خصومة قديمة مؤثلة ترجع إلى عصر الفتح ذاته، وقد شرحنا عوامل هذه الخصومة في "العصر الأول" من كتابنا. ونزيد هنا أن بني عباد، كانوا حسبما أشرنا من قبل، ينتمون إلى لخم، من أكرم وأشرف القبائل العربية، وكانوا من أهل العلم والأدب المؤثل، حماة للعلوم والآداب والفنون، يغص بلاطهم بأقطاب العصر وشعرائه، وتتمتع في ظلهم مملكة إشبيلية بحضارة زاهرة، وثقافة رفيعة. أما القبائل البربرية فلم تكن راسخة في تعاليم الإسلام، وكانت بعيدة عن العربية وثقافتها وتراثها، يؤثرون التمسك بعجمتهم وبداوتهم، وكانت قصورهم عاطلة عن ذلك الجو الفكري والأدبي، الذي تزدان به قصور الأصول العربية، وكان هذا التباين يبدو بالأخص بين بلاط غرناطة البربري، وبين بلاط إشبيلية العربي.
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 274 و 275.(2/62)
اجتمعت هذه العوامل المادية والأدبية، لتذكى ضرام النضال بين مملكة غرناطة، حصن البربر في الجنوب، وبين مملكة إشبيلية. وكانت مملكة غرناطة قد بلغت ذروة قوتها في عهد ملكها باديس بن حبوس الصِّنهاجي، وكان باديس قد رشح ولده بُلُقِّين للأمر من بعده ولقبه سيف الدولة، ولكنه توفي بالسم في حادث غامض. وفي خلال ذلك كان النضال مستمراً بين المعتضد بن عباد وبين البربر، وقوة باديس تضعف شيئاً فشيئاً. فلما توفي باديس في سنة 465 هـ (1073 م)، خلفه في حكم غرناطة حفيده عبد الله بن بُلُقِّين، وفي حكم مالقة حفيده تميم، ولم يمض على وفاته سوى عام، حتى سار المعتمد بن عباد في قواته إلى جيان، أهم قواعد مملكة غرناطة الشمالية واستولى عليها (466 هـ - 1074 م) ولم يبق من مملكة غرناطة سوى العاصمة ورباضها. وعندئذ فكر أمير غرناطة في الإستعانة بالنصارى، وتوصل بواسطة المأمون بن ذى النون، إلى أن يعقد مع ألفونسو السادس ملك قشتالة، معاهدة صداقة وتحالف، يتعهد فيها بدفع الجزية. وحدث في نفس الوقت أن ظفر المأمون بن ذى النون، بانتزاع قرطبة من ابن عباد (467 هـ)، فكانت هزيمة المعتمد، سبباً في انقشاع الخطر نوعاً عن غرناطة.
وخرج عبد الله بن بُلُقِّين بعد ذلك في قواته ومعه سرية من حلفائه النصارى، وأغار على أراضي ابن عباد، وعاث فيها، واستطاع أن يسترد حصن قبرة القريب من جيان (1).
بيد أن المعتمد لم يقف مكتوفاً إزاء هذه الحركة، فاتجه بدوره إلى النصارى، وأرسل وزيره الشهير أبا بكر بن عمار إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس، فعقد معه حلفاً دفع مقابل عقده خمسين ألف دينار. ويقضي هذا الحلف بأن يتعاون المعتمد وألفونسو السادس، على افتتاح غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها للمعتمد، وأن تكون ذخائر القلعة الحمراء لألفونسو. وظهر أثر هذه المعاهدة على الفور، إذ عمد النصارى إلى تخريب بسائط غرناطة، ولاسيما أراضي مرجها الشهير La Vega (2) .
_______
(1) R. Menendez Pidal: La Espana del Cid, p, 257 & 260.
(2) R. M. Pidal: ibid ; p, 257(2/63)
ولا بد لنا قبل أن نمضي في تتبع أخبار المعتمد، أن نتحدث عن الوزير ابن عمار، وهو الذي اضطلع بأخطر دور في تنفيذ مشاريع المعتمد. فهو أبو بكر محمد بن عمار بن الحسين بن عمار المهري، وأصله من قرية من أرباض شلب تسمى "شنبوس" (1)، ولد بها سنة 422 هـ (1031 م)، في أسرة متواضعة لم يكن لها في الظهور شأن، ووفد على مدينة شلب فنشأ بها وتلقى دراسته الأولى، ثم رحل إلى قرطبة، فأكمل دراسته على جماعة من شيوخ العصر، وبرع في الأدب، ونظم الشعر فتى، واتخذه وسيلة للتكسب، فكان يمدح كل من وصله، مهما كانت مكانته أو مركزه. ثم قصد إشبيلية ومدح المعتضد، فنظمه في سلك شعرائه وأمنائه، ولما ندب المعتضد ولده المعتمد لحكم شلب على أثر افتتاحها، اتصل به ابن عمار وألفى المعتمد في صفاته وأدبه ورقيق نظمه ما حببه إليه، فعهد إليه بوزارته، وتوثقت بينهما علائق المودة والصفاء، حتى غدا أثير المعتمد، ينظمه في مجالس أنسه، ولا يصبر على فراقه، وكانت براعة ابن عمار في النظم هي أحب صفاته لأميره الشاعر. ولما توفي المعتضد، وخلفه ولده المعتمد في الملك، عين ابن عمار أولا والياً لبلده شلب، ولكن مقامه بها لم يطل، إذ لم يصبر المعتمد على فراقه، فاستدعاه إلى إشبيلية وولاه وزارته. فظهر ابن عمار يومئذ بمقدرته ودهائه، فكان المعتمد يعهد إليه بمهام الأمور ويندبه إلى سفاراته، وتنفيذ مشاريعه الخطيرة، فيؤديها ابن عمار على أحسن وجه. واستمر ابن عمار على حظوته ومكانته لدى المعتمد أعواماً طويلة، إلى أن فسد الجو بينهما، بتدخل اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، فكان ذلك إيذاناً بنكبته على ما نذكره بعد.
وكان من أهم المشاريع التي اضطلع بها ابن عمار يومئذ، استيلاؤه على مدينة مرسية باسم ابن عباد. وهنالك ما يدل على أن مملكة إشبيلية كانت تمتد في ذلك الوقت حتى لورقة وشقورة (2) على مقربة من مرسية. وكانت مرسية بعد أن غادرها خيران العامري، قد تغلب عليها أبو بكر بن طاهر، ثم ولده أبو عبد الرحمن بن طاهر من أعيانها، ولكنه لم يوفق إلى إخماد العناصر الناقمة، فكتب بعض هؤلاء إلى المعتمد بن عباد يستدعونه لفتحها، وشرحوا له ضعف ابن طاهر وقلة أهباته الدفاعية، فعهد المعتمد إلى ابن عمار بوضع الخطة اللازمة لتحقيق
_______
(1) وهي اليوم بلدة Estombar البرتغالية الواقعة جنوبي شلب.
(2) قلائد العقيان ص 9، ودوزي في: Hist. Abbadidarum, V, II, p, 86(2/64)
هذه الغاية، فسار ابن عمار، وعقد مع الكونت رامون برنجار أمير برشلونة صفقة، يتعهد فيها بأن يعاونه بفرسانه على فتح مرسية، مقابل عشرة آلاف مثقال من الذهب تدفع إليه، واتفق الطرفان، أن يقدم كل منهما رهينة إلى الآخر ضماناً بالوفاء، فقدم المعتمد ولده الرشيد، وقدم الكونت ابن أخيه، وبعث المعتمد بقواته، وعلى رأسها ابن عمار. ولحقت بها قوات الكونت، وحاصرت القوات المتحالفة مدينة مرسية، ولكن ابن عباد تأخر في أداء المال، واعتقد الكونت أنه قد غرر به، فقبض على ابن عمار وعلى الرشيد، وارتد بقواته عن المدينة. وعلم ابن عباد بالأمر، وهو على رأس قواته على ضفاف نهر الوادي الكبير على مقربة من شقّورة، وبادر بأداء المال، وبعث معه رهينة الكونت، وأفرج عن الرشيد وابن عمار، وأخفقت هذه الحملة الأولى في فتح مرسية، وجهز المعتمد بإشارة وزيره حملة أخرى على رأسها ابن عمار، واتصل ابن عمار في طريقه بقائد حصن بَلج أو بُليج، Vélez Rubio وهو يومئذ عبد الرحمن بن رشيق، فسار معه، وندبه للقيادة، وحاصر ابن رشيق مرسية، واستمر في إرهاقها، وفي تحريض أهلها على القيام ضد ابن طاهر، حتى تم له الأمر، وفتحت المدينة أبوابها بطريق الخيانة، ودخلها جند ابن عباد، وقبض على ابن طاهر، واعتقل حتى أذن ابن عباد بتسريحه، فلحق ببلنسية، وكان افتتاح مرسية على هذا النحو في سنة 471 هـ (1078) (1).
على أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد. ذلك أن ابن عمار سولت له نفسه، أن يستقل بحكم هذه المدينة النائية، بعيداً عن سلطان مليكه، وعمد بالفعل إلى حكمها حكم أمير مستقل، وتجاهل أوامر ابن عباد ورغباته، وأخذ يدس الدسائس بين أمراء هذه الناحية، ولكن هذه المغامرة لم يطل أمدها؛ ذلك أن ابن رشيق، وهو فاتح المدينة الحقيقي، كان يتربص بابن عمار، ويتحين فرصته، وفي ذات يوم غادر ابن عمار مرسية لتفقد بعض الحصون الخارجية، فوثب ابن رشيق واستولى على المدينة، وأغلق أبوابها في وجه ابن عمار، فكانت تلك الضربة خير جزاء له على خيانته.
_______
(1) راجع في فتح مرسية: أعمال الأعلام ص 160، والمراكشي في المعجب ص 65، ودوزي عن الشلبي في: Hist.Abbadidarum, V. II. p,86-87. وكذلك: R.Menendez Pidal: Piles Ibars: Murcia Arabe, V.I.p. 189-191, La Espana del Cid p. 259 & 281(2/65)
ولم ير ابن عمار أمامه سوى الفرار، فسار صوب الشرق وقضى وقتاً قصيراً في بلاط ألفونسو السادس، فلم يلق منه عوناً، ثم قصد إلى سرقسطة، والتجأ إلى أميرها المقتدر بن هود، فأكرم وفادته، واستخدمه في شئونه، ولكنه توفي بعد قليل في سنة 475 هـ (أواخر 1081 م) وقسمت مملكته بين أولاده، فاختص المؤتمن بسرقسطة، وبقي ابن عمار معه على ما كان عليه. ولم يطل مكث ابن عمار حتى أغراه على سجيته، بفتح حصن شَقُورة، وهو يومئذ من أعمال دانية، وقصد ابن عمار إلى ذلك الحصن، في جماعة قليلة من أصحابه، وكان حاكمه رجل وافر الدهاء يدعى ابن مبارك، فدعا ابن عمار وصحبه إلى الدخول، وهش لاستقباله، فخدع ابن عمار بموقفه، وما كاد يستقر في الحصن، حتى هوجم وقبض عليه، ووضعت في يده الأغلال، وزج إلى ظلام السجن، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 477 هـ (يوليه 1084 م).
ووقف ابن عباد على ذلك الخبر، فبعث إلى ابن مبارك يطلب إليه تسليم ابن عمار وبعث إليه مالا وخيلا، فاستجاب لدعوته، وسلم ابن عمار لرسله، وعلى رأسهم ولده يزيد الراضي، فأخذ أولا إلى قرطبة حيث كان المعتمد يومئذ، وأدخل إليها مكبولا في هيئة زرية، وقده احتشد الألوف من أهلها لرؤيته، وقد كانت تهتز لموكبه حين كان يدخلها أيام عزه. ثم أخذ بعد أيام قلائل إلى إشبيلية، فأودعه المعتمد مكاناً خاملا في قصره، وكان يستحضره من آن لآخر، ويبالغ في عتبه وتأنيبه، وابن عمار يمعن في استعطافه واسترحامه. ويقال إن المعتمد تأثر في النهاية بمحنته، ووعده بصفحه، ولكن عاد فنقم عليه لأنه نقل إلى بعضهم ذلك الوعد، أو على قول راجح، لأن خصوم ابن عمار الساعين في هلاكه، وفي مقدمتهم الوزير أبو بكر بن زيدون وهو ولد الشاعر، ضاعفوا سعايتهم، وأبرزوا للمعتمد؛ أبياتاً بخط ابن عمار، نظمها أيام أن كان بمرسية، وفيها يتعرض بالهجو اللاذع لبني عباد، ولاعتماد الرُّميكية زوجة المعتمد (1).
وقد أشرنا من قبل إلى ما كان بين اعتماد الرميكية، وبين ابن عمار من
_______
(1) راجع دوزي: Hist.Abbadidarum, V.II, p. 90,91,100-104، وابن الأبار في الحلة السيراء ج 2 ص 150 و 151، وأعمال الأعلام ص 160 و 161، والمراكشي في المعجب ص 66، وقلائد العقيان ص 83 و 90 و 91 و 97 وكذلك R. Menendez Pidal: La Espana del Cid. p. 289(2/66)
وحشة كانت تزداد على مر الأيام. وكانت الرميكية، وهي ملكة إشبيلية الأثيرة، تحتل مكانة بارزة في حياة المعتمد، وفي بلاط إشبيلية. ولزواج المعتمد بهذه المرأة الموهوبة اللامعة، التي شاطرته أيام عزه ومجده وأيام محنته، وأنجبت له أولاده الملوك، قصة تتردد بين التاريخ والأسطورة. فأما التاريخ فتقول لنا الرواية، إن المعتمد حينما كان ولياً للعهد، أيام والده المعتضد، رأى اعتماداً ذات يوم صحبة مولاها رُميك وهو من وجهاء إشبيلية، فراقت لديه، فاشتراها منه وهام بها حباً، وتزوجها. بيد أن هناك رواية أخرى أكثر طرافة، وأقرب إلى لون الأسطورة، وهي أن المعتمد كان يتنزه ذات يوم مع وزيره ابن عمار في نهر إشبيلية، وهو نهر الوادي الكبير، وهما يتبادلان طرائف الشعر، وكانت الريح قد جعلت ماء النهر أشبه بالزرد، فنظم المعتمد هذه الشطرة:
"صنع الريح من الماء زرد"
وطلب إلى ابن عمار أن يكملها، فعجز الوزير الشاعر، وكانت ترقبهما فتاة حسناء ممن يغسلن ثيابهن في النهر، فردت على الفور:
"أي درع لقتال لو جمد"
فدهش المعتمد، وأعجب ببراعة الفتاة وسرعة خاطرها، كما أعجب بحسنها وخفة روحها، وسألها إن كان لها زوج، فأجابت بالنفي، فعندئذ استدعاها إلى قصره وتزوجها (1).
وهكذا شاء القدر أن تغدو اعتماد الرميكية زوجة للمعتمد بن عباد، وأن تغدو سيدة قصر إشبيلية. ولما تولى المعتمد الملك، كانت الرميكية تحتل مكانة بارزة في البلاط، وفي الشئون، وكانت لسمو مكانتها، وتمكن نفوذها يطلق عليها لقب "السيدة الكبرى" (2)، وكانت تشاطر زوجها هوى الشعر ونظمه، وكانت تعيش في هذا الأفق الأدبي الرفيع الذي يسيطر على بلاط إشبيلية، ويجتمع في ظله أعظم شعراء العصر، وتشترك في كثير من الأحيان في مجالس الشعر والأدب، التي كان يشغف بعقدها المعتمد، وتزدان في أحيان كثيرة بحضور زوجه الحسناء الساحرة؛ وكانت اعتماد فوق ذلك بنفوذها وحظوتها لدى المعتمد تشترك في توجيه الشئون. وكان الوزير ابن عمار، وهو يومئذ في إبان مجده
_______
(1) نفح الطيب ج 2 ص 451.
(2) المعجب ص 77. وكان هذا اللقب يطلق على والدة المعتمد ابنة مجاهد العامري.(2/67)
ونفوذه، من أساطين هذه المجالس الأدبية، وكان يستأثر لدى المعتمد بثقته ويملك عليه كل حبه وعطفه، وكانت الرُّميكية تنظر إلى مكانته وتمكن نفوذه بعين السخط، وكان ابن عمار من جانبه يحقد عليها ويخشى بأسها وسعايتها؛ واستمرت معركة الدسائس والمنافسة حيناً بين اعتماد وابن عمار، لتسفر عن نتيجتها الطبيعية، وهي هزيمة الوزير وتغير مليكه عليه. ويقال إن الأبيات الطاعنة التي نسبت إلى ابن عمار، قد نظمها في ذلك الوقت سراً في هجو الرميكية، ونمى خبرها إلى المعتمد، ويقال من جهة أخرى إن ابن عمار نظمها أيام وجوده في مرسية، ونجح خصمه أبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية في الحصول على أصولها مكتوبة بخطه وبعثها إلى المعتمد.
وقد أورد لنا ابن الأبار في ترجمته لابن عمار، تلك القصيدة التي قيل إنها كانت سبباً في نكبة ابن عمار ومصرعه ومطلعها:
ألا حى بالغرب حياً حلالا ... أناخوا جمالا وحازوا جمَالا
وعرِّج بيومين أم القرى ... ونم فعسى أن تراها خيالا
لتسأل عن ساكنيها الرماد ..
. ولم تر للنار فيها اشتعالا
ويومين قرية من قرى إشبيلية ومنها كانت أوّلية بني عباد.
ومنها في هجو الرميكية:
تخيرتها من بنات الهجين ... رميكية ما تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار ... لئيم النجادين عمًّا وخالا
قصار القدود ولكنهم ... أقاموا عليها قروناً طوالا
ثم يشير إلى أيام شبابه مع المعتمد إشارات بذيئة ويخاطبه بقوله:
سأكشف عرضك شيئاً فشيئاً ... وأهتك سترك حالا فحالا (1)
وعلى أي حال فقد اجتمعت العوامل السياسية والشخصية، لتؤكد محنة ابن عمار. وقد وجه ابن عمار من سجنه إلى المعتمد قصائد في الاستعطاف تذيب الجماد، أو على قول ابن الخطيب "تعالج بمرامها جراح القلوب، وتُعَفِّى على هضبات الذنوب، لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب، والأجل المحسوب"، ومن أشهرها تلك القصيدة المؤثرة التي تهز أوتار القلوب، والتي مطلعها:
_______
(1) الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال) لوحة 74 و 102، وراجع دوزي: Hist. Abbadidarum V. II. p. 117. وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 451 و 452.(2/68)
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح ... وعذرك إن عاقبت أجلي وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله تجنح
حنانيك في أخذي برأيك لاتطع ... عداي ولو أثنوا عليك وأفصحوا
ومنها:
أقلني بما بيني وبينك من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح
وعفِّ على آثار جرم سلكتها ... بهبة رحمي منك تمحو وتصفح
ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ... كل إناء بالذي فيه يرشح
ومنها:
ْإلا إن بطشاً للمؤيد يرتمي ... ولكن حلماً للمؤيد يرجح
وبين ضلوعي من هواة تميمة ... ستشفع لو أن الحمام مجلح
سلام عليه كيف داربه الهوي ... إلى فيدنو أو على فينزح
ليهنئه إن مت السلوُّ فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرِّح (1)
على أن تضرع ابن عمار لم يؤثر في مليكه الصارم، ولم تجد الرحمة سبيلا إلى قلبه؛ ويقال إنه مما قضى على عطف المعتمد، وحفزه إلى التعجيل بالقضاء على وزيره، هو أن ابن عمار، حينما وعده المعتمد بصفحه، حدّث بذلك ولده الرشيد، وذاعت القصة بعد ذلك، ونقلها أبو بكر بن زيدون عدو ابن عمار الألد إلى المعتمد، فاضطرم سخطاً على ابن عمار، ونهض من فوره، وفي يده طبرزين (2) كان قد أهداه إليه ألفونسو ملك قشتالة، وذهب إلى حيث كان ابن عمار يرسف في أغلاله، ففزع ابن عمار لرؤيته، وارتمى على رجليه يقبلهما ويبللهما بدموعه، ولكن المعتمد أخذ يضربه بتلك الآلة حتى أجهز عليه، ولم يتركه إلا جثة هامدة تضرجها الدماء، ثم أمر به فغسل وكفن، ودفن في ركن من " القصر المبارك ". وكان مصرع ابن عمار على هذا النحو المؤسى في أواخر سنة 477 هـ (أوائل 1085 م) (3).
_______
(1) وردت هذه القصيدة في قلائد العقيان ص 98، وأعمال الأعلام ص 161، وفي المعجب ص 67 و 68.
(2) هو آلة أشبه بالبلطة.
(3) راجع دوزي: Hist. Abbadidarum, V. II. p. 118-119. , والمعجب ص 68 و69. ويقول لنا المراكشي إن مصرع ابن عمار وقع في سنة 479 هـ. وراجع ترجمة ابن عمار وأحداث حياته كلها مفصلة في الحلة السيراء ج 2 ص 131 - 165. ونقلها دوزي بنصها في: Hist. Abbad.. ( ص 88 - 123).(2/69)
وهكذا قتل المعتمد بن عباد بيده، وزيره الشاعر المبرز، رفيق صباه، ويده اليمنى في كثير من المشاريع الخطيرة، في بادرة من الحقد المضطرم، والقسوة التي لا تخبو، وكانت هذه الضربة الدموية من أفدح أخطائه؛ ويقال إن المعتمد ندم فيما بعد على تسرعه، ونغصت عليه هذه الفعلة صفاء حياته. ويحاول الأمير عبد الله بن بُلُقِّين أمير غرناطة وهو معاصر للحادث وعليم بظروفه، أن يوضح لنا سبب حقد المعتمد على وزيره في الفقرة الآتية: " وكانت العداوة الواقعة بينه (أي ابن عمار) وبين المعتمد على يد الرشيد ابنه، فإنه بفسوقه كان يتكبر على أولاده، ويضيق عليهم، ويسىء الصنيعة مع من يجب عليه إكرامه من قرابة سلطانه، والمعتمد في هذا كله يصبر له، ولأنه قد استمال النصارى، واندخل معهم بحيلته، فمتى ما دهم أمر من قبلهم، وجهه إليهم، فيتجلى من أمرهم ما يضيق الصدر به، وكل ذلك بأموال رئيسه وسعادة أيامه، وهو بجهله يعتقد أن ذلك لا يتهيأ إلا بسببه، ويرد الخمس كله إلى نفسه؛ وكانت هذه المعاني مما أحنق عليه المعتمد، حتى عقب عليه بما كان جديراً به، وأمكنه الله منه، وجازاه بما لم يكن له منه بد، ولا رآه لغيره أهلا " (1).
ويعلق ابن الخطيب، على ذلك وقد كان أيضاً من الوزراء الذين عرفوا نزعات الملوك ونقمتهم بقوله: "وسبحان الذي جعل نفوس أكثر الملوك تنقاد في أزمة حب التشقي، وطلب الإنصاف، فلا تتوقف في مطاوعته، وذلك لأنها نفوس غير مقهورة بالرياضة والملكات، ولا مرغمة بفراق الشهوات، إلا القليل النادر، ممن كانت نفسه متصفة بالرحمة في أصل جبلتها، فهي ساكنة الفورة" (2).
وكان ابن عمار من أعظم رجالات الأندلس في عهد الطوائف، فكان وزيراً نابهاً، وقائداً مجرباً يقود الحملات العسكرية الناجحة، وسياسياً بارعاً، ومفاوضاً لا نظير له، يعقد الصلات البعيدة المنال، ويذلل المشكلات الصعبة، وقد ذاع صيته في سائر بلاد الأندلس، وكذلك في ممالك اسبانيا النصرانية، حتى كان ألفونسو السادس ملك قشتالة، إذا ذكر عنده ابن عمار، قال "هو رجل الجزيرة" (3). بيد أنه كان في نفس الوقت، سياسياً مغامراً، قليل الولاء
_______
(1) كتاب البيان أو مذكرات الأمير عبد الله المنشورة بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (القاهرة 1955) ص 81.
(2) أعمال الأعلام ص 162.
(3) المعجب ص 63.(2/70)
والوفاء، مكيافيلِّيا، يسعى إلى تحقيق غايته بأي الوسائل، دون اعتبار لخلق أو مبدأ. وكانت مواهبه الأدبية والشعرية، ألمع ما في خلاله، وقد كان ابن عمار بلا ريب من أعظم شعراء الأندلس في عصره، وكان هذا العصر الذي سطعت فيه قصور الطوائف عصراً، اجتمع فيه بالأندلس من أكابر الشعراء، جمهرة لم تجتمع في أي عصر آخر، ويكفي أن نذكر من هؤلاء بنو عباد، وفي مقدمتهم المعتمد، وابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وأبو بكر بن اللبانة، والمعتصم ابن صمادح وولده رفيع الدولة، وبنو القبطرنة، وابن عبدون. وكان ابن عمار في طليعة هذه الجمهرة الشاعرة، وقد ملأ الأندلس بروائع شعره، كما ملأها بذكر أعماله ومغامراته. وقد جمع شعر ابن عمار، ورتبه في ديوان خاص، أبو الطاهر محمد بن يوسف التميمي (1)، وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة طائفة كبيرة من أخبار ابن عمار، كما وضع تأليفاً خاصاً في تاريخه (2)، وكذلك وضع أبو بكر ابن قاسم الشلبي مجموعاً في تاريخ ابن عمار (3). وهذه العناية بسيرة ابن عمار وتراثه الشعري من معاصريه، ومن إليهم، تنبي عن أهمية هذه الشخصية البارزة في تاريخ الطوائف، وعن رفيع مكانتها السياسية والأدبية.
- 2 -
إلى ذلك الحين استطاع المعتمد بن عباد أن يؤسس أعظم مملكة للطوائف، تمتد في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة، من غرب ولاية تدمير شرقاً، حتى المحيط الأطلنطي، ومن ضفاف وادي يانة جنوباً حتى أرض الفرنتيرة.
وكان المعتمد قد استطاع في الواقع في أواخر أيام الملك العاجز الضعيف القادر ابن ذى النون، أن يستولي على معظم أراضي مملكة طليطلة الجنوبية الشرقية، من المعدن شرقاً حتى مدينة قونقة. ولعل المعتمد كان يفكر في غزوات وفتوح أخرى، ينتزع فيها ما استطاع من أراضي جيرانه، لولا أن أيقظه سقوط طليطلة من غمار أحلامه وأطماعه. أجل، لم يكن خافياً على المعتمد، وعلى أمراء
_______
(1) دوزي: Hist.Abbadidarum, V.II.p. 89
(2) دوزي: Hist.Abbadidarum, V.II.p. 105
(3) الحلة السيراء ج 2 ص 173.(2/71)
الطوائف جميعاً، أن مملكة طليطلة كانت بظروفها وارتماء ملكها الضعيف في أحضان النصارى، صائرة حتماً إلى الفناء، وأن عاصمتها التالدة - طليطلة - سوف تسقط حتماً في يد ملك قشتالة، وكان ابن عباد يشهد تطور هذه المأساة جامداً، بما ينسب إليه من عهود قطعها في ذلك لملك قشتالة. وربما كان هذا التصرف من المعتمد نحو قضية طليطلة من بين أخطائه السياسية العديدة، أخطرها جريرة، وأبلغها دلالة على استهتاره وتهاونه نحو أمته ودينه. ولكن طليطلة ما كادت تسقط في أيدي القشتاليين، حتى أدرك المعتمد فداحة الخطأ الذي ارتكبه في سياسته، وشعر أن هذه النكبة، ليست إلا نذيراً قوياً له، ولسائر ملوك الطوائف.
وقد سبق أن ذكرنا فيما تقدم أن المعتضد بن عباد تعهد بأداء الجزية لفرناندو ملك قشتالة منذ سنة 455 هـ (1063 م)، وأنه كان يؤدي إليه هذه الجزية بانتظام حتى وفاته في سنة 1065 م، ثم بعد ذلك إلى ولده سانشو ملك جلِّيقية.
ولما استطاع ألفونسو التغلب على أخويه، وأضحى ملكاً لقشتالة، كان المعتمد ابن عباد يؤدي إليه الجزية التي كان يدفعها أبوه. وكان ألفونسو يرسل في كل عام رسله لقبضها من المعتمد. ومما هو جدير بالذكر أن رسول ألفونسو إلى المعتمد بقبض الجزية في سنة 472 هـ (1079 م) لم يكن سوى الفارس القشتالي الشهير ردريجو بيبار الملقب بالسيد الكمبيادور، أو السيد الكنبيطور كما تسميه الرواية العربية. ولما وفد السيد عندئذ إلى إشبيلية، كانت قوات ملك غرناطة البربرية تغير على أراضي إشبيلية مع سرية من الفرسان النصارى، فطلب السيد من مواطنيه الكف عن هذا العدوان تحقيقاً لمقتضيات الصداقة والرعاية، التي يكنها الملك ألفونسو لصديقه ملك إشبيلية، ولما لم يصغ المغيرون إليه خرج إلى قتالهم في بعض القوات القليلة التي كانت معه، واستطاع أن يوقع بهم الهزيمة، فسر المعتمد من تصرفه، وأدى إليه عدا الجزية، طائفة كبيرة من التحف والهدايا برسم ملك قشتالة (1).
وهكذا فإن المعتمد، على الرغم من ضخامة ملكه، واتساع موارده، لم يستطع أن ينجو من ذلك النير المرهق، الذي استطاع ألفونسو السادس أن يفرضه على سائر ملوك الطوائف، ونعنى تأدية الجزية، بل يبدو أن المعتمد رأى فوق ذلك، أنه لن
_______
(1) R.Menendez, Pidal: La Espana del Cid. p. 250,259-261(2/72)
يستطيع أن يمضي في حكم مملكته آمناً إلا بتوثيق أواصر المودة مع ألفونسو ومحالفته.
وتقدم إلينا الرواية القشتالية موضوع ذلك الحلف ولكنها لا تقدم إلينا تاريخه، وتقول لنا إن الوزير ابن عمار ذهب إلى ليون وتولى المفاوضة في عقده. وخلاصة ما تم الاتفاق عليه، هو أن يقوم ملك قشتالة بمعاونة المعتمد في حروبه ضد سائر أعدائه من الأمراء المسلمين، وأن يؤدي إليه المعتمد جزية سنوية كبيرة، وأن يقوم بغزو أراضي مملكة طليطلة الجنوبية، وأن يسلم منها إلى ملك قشتالة الأراضي الواقعة شمال جبال سيرا مورينا (جبل الشارّات). وتزيد الروايات القشتالية على ذلك بأن المعتمد قدم في هذه المناسبة (أو في مناسبة لاحقة) إحدى بناته لتحكون زوجة أو حظية لملك قشتالة، وهي التي تعرفها الروايات القشتالية باسم " زائده "، وهي قصة سوف نتناولها في موضعها المناسب (1).
بيد أن الأمور لم تسر حسبما كان يرجو المعتمد، ففي سنة 475 هـ (1082 م) وجه ألفونسو السادس سفارته المعتادة إلى المعتمد بطلب الجزية، وعلى رأسها يهودي يدعى ابن شاليب، وعسكر رسل ملك قشتالة في ظاهر المدينة، فأرسل إليهم المعتمد المال مع بعض أشياخ المدينة، وفي مقدمتهم الوزير ابن زيدون.
فلما شاهد ابن شاليب المال والسبائك، رفض تسلمها بغلظة، بحجة أنها من عيار زائف، وهدد بأنه إذا لم يقدم له المال من عيار حسن، فسوف تحتل مدائن مملكة إشبيلية، حتى يتم الدفع على الوجه المرغوب. فلما وقف المعتمد على ذلك بعث رجاله فقبضوا على ابن شاليب، ومن معه من الفرسان القشتاليين، وأمر باليهودي، فصلب، وألقى الفرسان النصارى إلى السجن. ولما علم ملك قشتالة بما وقع لسفرائه، اضطر أن يعيد حصن المدوّر القريب من قرطبة إلى المعتمد، ثمناً لإطلاق سراحهم، بيد أنه أقسم أن ينتقم من المعتمد، أروع انتقام، وأن يخرب أراضي مملكة إشبيلية كلها حتى المجاز، ثم بادر تنفيذاً لوعيده، فحشد جيشاً ضخماً من الجلالقة، والقشتاليين، والبشكنس، وبعث سرياته فعاثت في أحواز باجة ولبلة، وسار هو إلى أراضي إشبيلية، وهو يحرق القرى، وينتسف الزروع، ويسبي كل من وقع في يده من المسلمين، ثم حاصر إشبيلية نفسها مدى ثلاثة أيام، ثم عاث في أراضي شذونة، وانحدر جنوباً، وهو يخرب كل
_______
(1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Madrid 1881) V. II p. 404(2/73)
ما يقع في طريقه، حتى وصل إلى مدينة طريف، فوقف على شاطىء الزقاق، والموج يضرب قوائم فرسه، والمعتمد طيلة هذه العاصفة الهوجاء يلتزم الدفاع (1) وكانت خطة ألفونسو السادس في إضعاف ملوك الطوائف، تقوم أولا على استصفاء أموالهم باقتضاء الجزية، وقد انتهى إلى أن فرض الجزية عليهم جميعاً، ثم على تخريب أراضيهم، وانتساف زروعم وأقواتهم ومحاصيلهم، بالغارات المخربة الناهبة، وأخيراً على اقتطاع حصونهم وأرضيهم كلما سنحت الفرص، وقد نجحت خطته في ذلك كل النجاح، وبدا ضعف ملوك الطوائف إزاء قوته وعدوانه المنظم، واضحاً ملموساً. وكان لاعتداده بقوته وسلطانه، ويقينه من تفرق الطوائف وتخاذلهم، يخاطبهم بلغة السيد، ويتسمى في خطاباته إليهم بالإمبراطور ملك الملتين، ويجاهر باحتقارهم، والاستهانة بهم. ومما يروى في ذلك، أنه قال لسفير المعتمد إليه، وهو يهودي يدعى بابن مشعل "كيف أترك قوماً مجانين. تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم وأمرائهم، المعتضد، والمعتمد، والمعتصم، والمتوكل، والمستعين، والمقتدر، والأمين، والمأمون، وكل واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً، ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً، قد أظهروا الفسوق والعصيان، واعتكفوا على المغانى والعيدان، وكيف يحل البشر أن يقر منهم على رعيته أحداً، وأن يدعها بين أيديهم سُداً" (2).
وهنا أدرك المعتمد، فداحة الأخطاء التي تردى فيها بمصانعة ألفونسو ومحالفته واستعدائه على زملائه أمراء الطوائف، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سوف ينحدر إليه، إذا لم تتداركه يد العناية بعون أو نجدة غير منتظرة، والظاهر أنه فكر عندئذ ولأول مرة، أن يستنصر بإخوانه المسلمين فيما وراء البحر، في عدوة المغرب، فكتب إلى عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين ينبئة بما آلت إليه أحوال الأندلس من الخطورة، وما رزئت به من فقد قواعدها وثغورها، ويلتمس إليه الإنجاد والعون (3). وقد تطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى خطة عملية التف حولها سائر ملوك الطوائف وشعب الأندلس كله حسبما نوضح في موضعه.
_______
(1) الحلل الموشية ص 25 و 26. ودوزي Hist.Abbadidarum V. II. p. 174, 187, 188-231. وراجع ابن خلدون ج 6 ص 186.
(2) دوزي عن كتاب "الاكتفاء" في Hist. Abbadidarum: V II. p. 20. وراجع R. Menendez Pidal: La Espana del Cid, p. 259, 318 & 319
(3) روض القرطاس (طبعة أبسالة 1843) ص 92.(2/74)
وكان استيلاء ألفونسو السادس على طليطلة معقد نجاحه، وذروة ظفره، فما كاد يدخل عاصمة القوط القديمة، حتى لاح له أن نهاية الطوائف كلها قد دنت، وأنه سوف يتبع نصراً بنصر، ويلتهم مدينة بعد أخرى، ومن ثم فقد بدأ يضع خطته لتنفيذ الخطوة التالية، وذلك بالاستيلاء على مملكة إشبيلية، أهم دول الطوائف، وأقواها يومئذ. فوجه إلى المعتمد بن عباد، رسالة ملؤها الوعيد والنذير، يطالبه بتسليم أعماله، ويحذره من مثل طليطلة ومحنتها، وهي فيما يبدو من إنشاء بعض النصارى المعاهدين أو اليهود الذين يخدمون في بلاط قشتالة، وقد نقل إلينا صاحب الحلل الموشية، نص هذه الرسالة، كما نقل إلينا رد المعتمد عليها، وإليك نص هاتين الرسالتين، اللتين تنمان عن روح العصر، وأساليبه:
قال ألفونسو في رسالته: " من الإنبيطور ذي الملتين، الملك المفضل، أذفنش بن شانجه، إلى المعتمد بالله، سدد الله آراءه وبصره مقاصد الرشاد، سلام عليك من مشيد ملك شرفته القنى، ونبتت في ربعه المنى، باغترار الرمح بعامله، والسيف بساعد حامله، وقد أبصرتم بطليطلة نزال أقطارها، وما حاق بأهلها حين حصارها. فأسلمتم إخوانكم، وعطلتم بالدعة زمانكم، والحذر من أيقظ باله، قبل الوقوع في الحبالة، ولولا عهد سلف، بيننا نحفظ ذمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الأقدار تقطع بالأعذار، ولا يعجل إلا من خاف الفوت فيما يرومه، وخشي الغلبة على ما يسومه، وقد حملنا الرسالة إليك القرمط ألبرهانس؛ وعنده من التسديد الذي تلقى بأمثالك، والعقل الذي تدبر بلادك به ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدق ويجل، وفيما يصلح لا فيما يخل، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك ".
وأجاب المعتمد على رسالة ملك النصارى بالرسالة الآتية: " من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله، محمد بن المعتضد بالله أبي عمر وابن عباد، إلى الطاغية الباغية أذفنش بن شانجه، الذي لقب نفسه بملك الملوك وسماها بذي الملتين، قطع الله بدعواه، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإن أول ما يبدأ من دعواه أنه ذو الملتين، والمسلمون أحق بهذا الاسم، لأن الذي تملكوه من أمصار البلاد، وعظيم(2/75)
الاستعداد، ومجبى المملكة، لا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملتكم، وانما كانت سنة سعد، أيقظ منها مناديك، وأغفل من النظر السديد جميل مباديك، فركبنا مركب عجز نسخه الكيس، وعاطيناك في كؤوس دعة، قلت في أثنائها ليس، ولم تستح أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنا لنعجب من استعجالك برأي لم تحكم أنحاؤه، ولا حسن انتحاؤه، وإعجابك بصنع وافقتك فيه الأقدار، واغتررت بنفسك أسوأ الاغترار، وتعلم أنا في العدد والعديد، والنظر السديد، ولدينا من كماة الفرسان، وحيل الإنسان، وحماة الشجعان، يوم تلتقي الجمعان، رجال تدرعوا الصبر، وكرهوا القبر، تسيل نفوسهم على حد الشفار، وينعاهم المنام في القفار، يريدون رحى النون بحركات العزائم، ويشفون من خيط الجنون بخواتم العزائم، قد أعدوا لك ولقومك جلاداً رتبه الاتفاق، وشفاراً حداداً شحذها الإصفاق، وقد يأتي المحبوب من المكروه، والندم من عجلة الشروه، نبهت من غفلة طال زمانها، وأيقظت من نومة تجدد إيمانها، ومتى كانت لأسلافك الأقدمين مع أسلافنا الأكرمين، يد صاعدة أو وقفة متساعدة، إلا ذل تعلم مقداره، وتتحقق مثاره، والذي جرأك على طلب ما لا تدركه قوم كالحمر، لا يقاتلونكم جميعاً، إلا في قرى محصنة، أو من وراء جدر، ظنوا المعاقل تعقل، والدول لا تنتقل، وكان بيننا وبينك من المسالمة، ما أوجب القعود عن نصرتهم، وتدبير أمرهم، ونسأل الله المغفرة فيما أتيناه في أنفسنا؛ وفيهم من ترك الحزم وإسلامهم لأعاديهم، والحمد لله الذي جعل عقوبتنا، توبيخك وتقريعك، بما الموت دونه، وبالله نستعين عليك، ولا نستبطىء في مسيرنا إليك، والله ينصر دينه، والسلام على من علم الحق فاتبعه، واجتنب الباطل وخدعه " (1).
- 3 -
وعلى أثر هذا النذير، جد المعتمد في حشد رجاله، وتقوية جيشه، وإصلاح حصونه، واتخاذ كل ما يستطاع من الأهبات الدفاعية. على أنه كان يوقن، كما
_______
(1) أورد نص هاتين الرسالتين صاحب "الحلل الموشية". وقد اعتمدنا في نقلهما على النص الذي نقله دوزي عن مخطوطات باريس، وليدن، وجاينجوس (مدريد)، وهو فيما يبدو أصح وأدق من النص الذي ورد في طبعة تونس. راجع: Hist. Abbadidarum, V. II. p. 185, 186 & 187 وفي طبعة تونس (ص 23 - 25).(2/76)
يوقن زملاؤه ملوك الطوائف، أن ملك قشتالة يعتزم العمل على إبادتهم جميعاً، وأنهم بقواتهم ومواردهم المحدودة، وصفوفهم الممزقة، لن يستطيعوا له دفعاً.
في هذه الآونة العصيبة، قرر المعتمد أن ينفذ فكرته في الاستنصار بإخوانه فيما وراء البحر، في عدوة المغرب، وهم يومئذ المرابطون، وعاهلهم يوسف ابن تاشفين. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لأكثر من أمير من أمراء الطوائف، وخطرت لكثيرين من زعماء الأندلس وعلمائها. ويقول لنا الأمير عبد الله بن بلقِّين إن أخاه تميماً أمير مالقة، كان أول من فكر في الاستنصار بالمرابطين لينتقم منه (1)، ولكن فكرة الاستنصار بالمرابطين لمقاتلة النصارى كانت أعم وأخطر، وكانت قد شاعت في الأندلس على أثر سقوط طليطلة، وما أشاعته تلك النكبة في الناس من ذعر ويأس، وذاعت بعد الأمراء، بين سائر الزعماء والفقهاء وطبقات الكافة. وعقد عندئذ في قرطبة اجتماع كبير من الزعماء والفقهاء، واجتمع رأيهم على وجوب الاستنصار بالمرابطين، وقدم ابن عباد على أثر ذلك إلى المدينة، وأقر ما ارتأته "الجماعة". وانضم إلى المعتمد في ذلك عدة من زملائه رؤساء الطوائف، ولاسيما أميرى بطليوس وغرناطة. واتفق الرأي على أن ترسل إلى عاهل المرابطين سفارة مشتركة من قضاة قرطبة وبطليوس وغرناطة، ومعهم أبو بكر بن القصيرة الكاتب (وفي رواية أخرى الوزير أبو بكر بن زيدون).
وهنا تختلف الرواية في التفاصيل فتقول إحداها إن سفارة الأندلس عبرت البحر، ولقيت أمير المسلمين بسبتة، وكان قد وصل إليها إثر افتتاح جيشه لها، من يد واليها يحيى بن سكوت البرغواطي، وشرح له السفراء ما يلقاه أهل الأندلس من الإرهاق والذلة على يد النصارى، وما يهددهم به ملك قشتالة من أخذ بلادهم، وإبادتهم، وأنهم يعتمدون على نصرته وحسن بلائه، في دفع هذا الخطر عن الأندلس المسلمة. وفي رواية أخرى أن المعتمد بن عباد نفسه، قد عبر البحر في جماعة من الزعماء، وسار إلى سبتة أو إلى فاس لمقابلة أمير المسلمين، وأنه هو الذي استنصره بنفسه للجهاد وإنقاذ الأندلس (2).
_______
(1) مذكرات الأمير عبد الله ص 102.
(2) راجع في ذلك ما نقله دوزي عن النويرى: Hist. Abbadidarum: V. II. p. 143. وما ورد في الإستقصاء للسلاوي ج 1 ص 111، ومذكرات الأمير عبد الله ص 102، وابن خلدون ج 6 ص 186. وقد أشار ابن الأبار إلى ذلك أيضاً (الحلة السيراء ج 2 ص 186).(2/77)
ومن جهة أخرى، فإنه يقال لنا إن المعتمد كان يعارضه في هذا الاتجاه ولده الرشيد وجماعة من زعماء إشبيلية، وأنه حين خاطب الزعماء في أمر استدعاء المرابطين أشاروا عليه بأن الأفضل، أن يسعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة، وأن يعقد معه الصلح والمهادنة، بأي وسيلة، وكيفما كان الأمر. ولما خلا بولده الرشيد، أفضى إليه بمخاوفه من سطوة ملك قشتالة، وأنه بعد أن استولى على طليطلة وعادت دار كفر، قد رفع رأسه، وأخذ يتجه إلى أخذ إشبيلية، وأنهم في هذه الجزيرة لا ناصر لهم، وليس في ملوك الطوائف نفع ولا عون يرتجى، وأنه لا مناص من استدعاء المرابطين لردع ملك قشتالة، فاعترض الرشيد على رأيه وقال له: "يا أبت أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا"، فقال المعتمد لولده: "أي بني والله لا يسمع عني أبداً أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم اللعنة علي في الإسلام؛ مثلما قامت على غيري. حرز الجمال عندي والله خير من حرز الخنازير". وانتهى الرشيد بأن فوض لأبيه الرأي فيما يحب عمله (1).
وأما عن أمراء الأندلس، فقد كان يتفق في الرأي مع المعتمد، على استدعاء المرابطين حسبما رأينا، عبد الله بن بلقين أمير غرناطة، وقد أوفد رسله مع رسل ابن عباد إلى أمير المسلمين، وكذلك عمر المتوكل أمير بطليوس، فقد كان في مقدمة المؤيدين، لوقوع بلاده في منطقة الخطر، ولاشتداد ملك قشتالة في إرهاقه. وأما ابن صمادح أمير ألمرية، فلم يكن من المتحمسين لهذا الاستدعاء (2)، وكانت ثمة آراء معارضة أخرى، شعارها التوجس من مقدم المرابطين وأطماعهم.
وقد أورد لنا صاحب الحلل الموشية نصوص رسائل، قيل أن المعتمد بن عباد بعثها إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، بعضها من إنشائه، وبعضها من إنشاء وزرائه، ومنها رسالة مؤرخة في جمادى الأولى سنة 478 هـ، أعني بعد سقوط طليطلة بأشهر قلائل، وفيها يصف له حال الأندلس، وما أصاب أهلها من الخلاف والتمزق، وما دهاها من عدوان النصارى وإرهاقهم. بيد أنه قد
_______
(1) الحلل الموشية ص 27 و 28 ونقلت في دوزي: Hist. Abbadidarum: V. II. p. 188-189
(2) راجع مذكرات الأمير عبد الله ص 103 و 104.(2/78)
وردت من بينها رسالة، نشك كل الشك في أنها صادرة من المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين، لأنها قد صدرت بنصها، بعد ذلك بنحو قرنين من محمد الفقيه (ابن الأحمر) ملك غرناطة، إلى السلطان أبي يوسف المريني ملك المغرب، يستنصره ويستنجد به على النصارى (1).
وقد تتبعنا هنا فكرة استنصار الأندلس بالمرابطين بالأخص من ناحية ارتباطها بالمعتمد بن عباد وسياسته. وسوف نعود إلى تتبع مراحلها من الناحية الأخرى، ناحية ارتباطها بتاريخ المرابطين.
وعلى أي حال فقد استجاب زعيم المرابطين، بعد مشاورات ومباحثات طويلة مع الزعماء والفقهاء، لدعوة أمراء الأندلس، واعتبر الصريخ، دعوة إلى المشاركة في الجهاد، والذود عن الدين المشترك، بيد أنه عملا بنصح وزيره عبد الرحمن بن أسبط، وهو أندلسي من أهل ألمريه، خبير بشئون الجزيرة، اشترط لإجابة الدعوة، وعبوره إلى الأندلس، أن يسلم إليه ثغر الجزيرة الخضراء، ليكون قاعدة لعبوره في الذهاب والإياب، فنزل المعتمد عند هذه الرغبة بالرغم من معارضة ولده الرشيد، وكان حاكم الجزيرة يومئذ هو ولده يزيد الراضي، فأمره باخلائها والانتقال عنها، لكي تحتلها جنود أمير المسلمين (2).
وفي تلك الأثناء كان زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين يحشد جنده وعدده، ويرسلها تباعاً إلى الشمال. فلما تكاملت الحشود، بعث يوسف بقوة من الفرسان تحت إمرة قائده داود بن عائشة، فعبرت البحر، واحتلت ثغر الجزيرة الخضراء وفقاً لما تعهد به المعتمد. وفي شهر ربيع الآخر سنة 479 هـ (أغسطس 1086 م) بدأت الجيوش المرابطية وعلى رأسها زعيمها البطل الشيخ، تعبر البحر من سبتة تباعاً إلى ثغر الجزيرة، وما كادت السفن تتوسط ماء المضيق (مضيق جبل طارق) تتقدمها سفينة يوسف، حتى نهض الزعيم المرابطي، وبسط يديه نحو السماء
_______
(1) راجع الحلل الموشية ص 30 و 31، ودوزي Hist. Abbad. V. II. p. 190-191. وقد وردت الرسالة بنفسها منسوبة إلى محمد بن الأحمر في "الذخيرة السنية" ص 159 - 161. وراجع نهاية الأندلس لمحمد عبد الله عنان الطبعة الثالثة ص 98.
(2) الحلل الموشية ص 32 و 33. وكذلك في دوزي Hist. Abb. V. II. p. 192-193، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 159.(2/79)
قائلا: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين، فسهل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه".
ويروى أن البحر قد هدأ على أثر هذا الدعاء، وسارت السفن في ريح طيبة، حتى رست على الشاطىء، وما كاد يوسف يعبر إلى أرض الأندلس، حتى صلى لله شكراً (1)، ثم نزل بالجزيرة الخضراء، وشرع في تحصينها وإصلاح خططها.
هذا وسوف نتتبع ما تلا ذلك من الحوادث فيما سيأتي بعد، في حديثنا عن موقعة الزلاّقة.
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 93. وهذا ما رواه يوسف نفسه في رسالته التي بعث بها عقب انتصاره في موقعة الزلاقة، إلى المعز بن باديس أمير تونس والتي، نشرناها في آخر الكتاب.(2/80)
الفصل الرّابع
بنو الأفطس ومملكة بطليوس
مملكة بطليوس. الفتى سابور الفارسي وتغلبه على تلك المنطقة. وزيره عبد الله بن مسلمة يخلفه في الحكم. بنو الأفطس وأصلهم. ابن الأفطس وابن عباد. الحرب بينهما حول باجة وبعدها. انشغال ابن عباد بقتال البربر. الثورة في أشبونة وإخمادها. المظفر بن الأفطس. حروبه مع المعتضد بن عباد. موقعة يابرة وهزيمة المظفر. توسط ابن جهور وعقد الصلح بين الفريقين. غزو ملك قشتالة لشمالي مملكة بطليوس. استيلاؤه على بازو ومليقة. غزوه لمدينة شنترين. إذعان المظفر لدفع الجزية. مسير فرناندو لفتح قلمرية. اقتحامها وأسر حاميتها. وفاة فرناندو ملك قشتالة. وفاة المظفر. مقدرته الشعرية والأدبية. المنصور بن الأفطس. وفاته وقيام أخيه عمر المتوكل مكانه. المتوكل وشهرته في عالم الشعر والأدب. وزراؤه الشعراء. سيادة الأمن والرخاء في عهده. وزيره ابن الحضرمي. طغيانه وعزله. حوادث مملكة طليطلة. اضطلاع المتوكل بحكمها. محاولة المتوكل إنجاد طليطلة. سقوط طليطلة. تجبر ألفونسو ووعيده. رد المتوكل عليه. اتفاق ملوك الطوائف على استدعاء المرابطين.
كان يجاور مملكة إشبيلية من الشمال، مملكة بطليوس، تفصلها عنها جبال الشارّات الكبرى (سيرّا مورينا). وكانت مملكة بَطَلْيوس، تشمل رقعة كبيرة تمتد من غرب مملكة طليطلة، عند مثلث نهر وادي يانة، غرباً حتى المحيط الأطلنطي، وتشمل أراضي البرتغال (1) كلها تقريباً حتى مدينة باجة في الجنوب، وكانت العاصمة بطليوس تتوسط هذه الرقعة الكبيرة التي تشمل عدا العاصمة، عدة مدن هامة أخرى مثل ماردة، ويابرة، وأشبونة، وشنترين، وشنترة، وقُلُمرية، وبازو، وغيرها.
كان بنو مسلمة، أو بنو الأفطس، كما اشتهر اسمهم، سادة هذه المملكة الشاسعة، حكموها نيفاً وسبعين عاماً، وسطع بلاطهم أيام الطوائف. وكان استيلاؤهم على حكمها من المصادفات المحضة. ذلك أن هذه المنطقة، وهي النصف الشمالي، من ولاية الغرب الأندلسية، كان يحكمها عند اضطرام الفتنة، واليها الفتى سابور الفارسي، أحد صبيان فائق الخادم مولى الحكم المستنصر، وقد استبد بحكمها
_______
(1) ويسميها ابن الخطيب أرض "برتقال" (أعمال الأعلام ص 183).(2/81)
منذ انهيار الخلافة، واستمر قائماً بأمرها ثلاث عشرة عاماً. وكان فارساً شجاعاً، ولكن عاطلا عن المعرفة والخبرة بشئون الحكم، فكان يعاونه في تدبير الشئون وزيره عبد الله بن محمد بن مسلمة، وكان من قبل والياً لماردة، وكان هو الحاكم الحقيقي. وتوفي سابور في سنة 413 هـ (1022 م)، وترك ولدين حدثين هما عبد الملك وعبد العزيز، وأوصى أن يستمر وزيره في الحكم، حتى يبلغا أشدهما.
فاستولى عبد الله على الأمور وضبط المملكة، واحتوى على تراث سابور لنفسه، وتلقب بالمنصور، وأضحى سيد المملكة الحقيقي.
وينتمي أبو محمد عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، إلى قبيلة من قبائل مكناسة المغربية، وأصله من بلدة فحص البلوط من ولاية قرطبة، من أسرة متواضعة لم يكن لها نصيب في النباهة والمعرفة. بيد أن بني الأفطس كانوا بالرغم من ذلك يرجعون نسبتهم إلى تجيب، وقد مدحتهم الشعراء بهذا الصفة، وهذا ما يثير تعجب ابن حيان، وما يصفه " بالغريب النادر " (1).
وكان عبد الله بن الأفطس مع ذلك رجلا كثير المعرفة والدهاء، بعيد النظر، وافر الحزم والسياسة، فلما استولى على حكم هذه المنطقة الشاسعة بعد وفاة سابور، أبدى في ضبطها وإدارتها مقدرة وبراعة. بيد أنه كان يرقب حركات جاره من الجنوب القاضي أبى القاسم بن عباد ونمو قوته، في حذر وتوجس. ذلك أنه كان بالرغم من مناعة حاضرته بطليوس، ومناعة أسوارها وقصبتها الضخمة، فإن اتساع رقعة مملكته، وتباعد قواعدها الأخرى في الجنوب والشرق، كان يجعل من الصعب عليه الدفاع عنها إزاء أطماع جاره القوي. وسرعان ما بدأت تتحقق مخاوفه. ذلك أن القاضي ابن عباد انتهز قيام ثورة محلية في مدينة باجة، وقعت بين أهلها بسبب الرياسة، وسير إليها حملة بقيادة ولده إسماعيل، ومعه قوة من جند حليفه البرزالي صاحب قرمونة. وكان ابن الأفطس قد استطاع خلال تلك الفترة أن يحتل باجة بجنده، إذ هي أقرب إليه، وأكثر اتصالا بمنطقته من منطقة بني عباد، فهاجمت قوات إشبيلية المشتركة مدينة باجة، وحاصرت قوات ابن الأفطس، ووقع بينهما قتال عنيف انتهى بتمزيق قوات ابن الأفطس وأسر معظمها، وكان محمد بن الأفطس ولد المنصور بين الأسرى، فاعتقل حيناً لدى
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء (المخطوط) لوحة 85 أ. وفي المطبوع ج 2 ص 97.(2/82)
البرزالي في قرمونة حتى أطلق سراحه (سنة 421 هـ)، وعاد إلى بطليوس وقد صقلته المحنة، وشحذت عزمه، لمقاومة بني عباد ومحاربتهم.
ثم عادت الحرب فاضطرمت بعد ذلك ببضعة أعوام بين ابن عباد وابن الأفطس، ذلك أن حملة جديدة بقيادة إسماعيل بن عباد، توغلت شمالا في أراضي ابن الأفطس وعاثت فيها، وعندما سار في طريق العودة، خرج عليه ابن الأفطس في قوة كثيفة، وطارده بشدة، ففر إسماعيل في قلة من فلوله، وأسر معظم عسكره، وفتك ابن الأفطس بهم كما فتك النصارى بكثير منهم، وكانت محنة شنيعة لبني عباد (425 هـ - 1034 م).
وشغل أبو القاسم بن عباد في الأعوام التالية، عن محاربة الأفطس بمحاربة البربر، فاشتبك أولا مع يحيى المعتلي، وانتزع منه قرمونة (427 هـ)، ليردها إلى صاحبها حليفه محمد بن عبد الله البرزالي. بيد أنه عاد فسير قواته إلى قرمونة واستولى عليها. وعندئذ هرع البربر لنصرة البرزالي، وفي مقدمتهم إدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية موقعة دموية، هزم فيها الإشبيليون وقتل أميرهم إسماعيل بن عباد (431 هـ) وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في أخبار الدولة العبادية.
وأما ابن الأفطس، فقد شغل بقيام الثورة في أشبونة. أقصى ثغور مملكته.
ذلك أن عبد الملك وعبد العزيز ابنى سابور، حينما توفي والدهما، واستولى ابن الأفطس على تراثه، غادرا بطليوس ولجآ إلى ثغر أشبونة، ثم ثار عبد العزيز واستولى على حكم المدينة، واستمر في حكمها بضعة أعوام. ولما توفي حل أخوه عبد الملك مكانه، ولكنه كان سيىء الحكم والإدارة، فاختل النظام، وغلبت الفوضى، وكتب أهل أشبونة سراً إلى ابن الأفطس، أن يرسل إليهم والياً من عنده، فسير إليهم ولده محمداً في قوة كثيفة، ودخل محمد أشبونة دون صعوبة، ورأى عبد الملك بن سابور أن يذعن إلى التسليم، على أن يؤمن في نفسه وأهله وماله؛ فمنح ما طلب، وسمح له بأن يسير إلى حيث شاء، فقصد إلى مدينة قرطبة، واستأذن الوزير ابن جهور في الالتجاء إليها، فأذن له ودخلها بأهله وأمواله، ونزل دار أبيه سابور، وعاش هناك حتى توفي (1).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 237.(2/83)
وكان عبد الله بن الأفطس المنصور، خلال ذلك يمضي في تنظيم مملكته الشاسعة وفي تحصينها، وفي تقوية جيوشه وأهباته، وذلك كله توقعاً لعدوان بني عباد، ولاسيما بعد أن خلف المعتضد بن عباد أباه القاضي أبا القاسم في الحكم، وظهرت إمارات توثبه ونياته العدوانية. ثم توفي المنصور في جمادى الأولى سنة 437 هـ (1045 م).
فخلفه ولده محمد بن عبد الله بن الأفطس وتلقب بالمظفر. وكان عالماً وفارساً شجاعاً، وقد عركته خطوب الحرب والأسر الذي عاناه. فسار في الحكم سيرة أبيه من العمل على ضبط النظام، والدفاع عن الثغور. وكان مثل أبيه يرى في بني عباد خصومه الأوائل، ويعمل على تقوية أهباته الدفاعية لاتقاء عدوانهم. وقد رأينا فيما تقدم، كيف دبر المعتضد بن عباد خطته للاستيلاء على إمارات الغرب الصغرى، وبدأ في ذلك بمهاجمة مدينة لبلة، وكيف أن المظفر بن الأفطس هرع إلى نجدة صاحبها ابن يحيى، وبعث بعض قواته من البربر لمهاجمة إشبيلية، وكيف حاول الوزير ابن جهور عبثاً أن يحول بتدخله، ونصحه للفريقين، دون نشوب الحرب بينهما. وهكذا اضطرم القتال بين المعتضد وابن الأفطس، وعاث كل منهما في أراضي الآخر، وهزم ابن الأفطس أولا، ولكنه استأنف الكرة، واستطاع أن يوقع بالمعتضد هزيمة شديدة قتل فيها كثير من جنده (439 هـ - 1047 م).
ثم تطورت الحوادث وساء التفاهم بين ابن عباد وابن الأفطس، حيث أبى أن يرد إلى حليفه القديم، ما ائتمنه عليه من أمواله وذخائره أيام الحرب، ولم يكتف ابن الأفطس بذلك بل أرسل قواته من الفرسان لمهاجمة لبلة، فاستغاث ابن يحيى بالمعتضد، فلبى دعوته وأرسل قواته، فاشتبكت مع خيل ابن الأفطس فمزقتهم وأفنتهم، واحتزت من رؤوسهم، نحو مائة وخمسين. وجهز المعتضد بعد ذلك قوة كبيرة على رأسها ولده إسماعيل ووزيره ابن سلام، وعبرت القوات العبادية نهر وادي يانة، وتوغلت في أراضي ابن الأفطس شمالا، حتى مدينة يابُرة، وحشد ابن الأفطس في الوقت نفسه سائر قواته، واستعان بقوة بعثها إليه حليفه إسحق بن عبد الله البرزالي تحت قيادة ولده المعز، والتقى الفريقان دون أهبة ولا نظام على مقربة من يابرة، فهزم ابن الأفطس وفشا القتل في جنده، وقتل المعز بن إسحق، وحز رأسه وأرسل إلى إشبيلية، وقتل عم لابن الأفطس(2/84)
وأرسل رأسه كذلك، ولجأ ابن الأفطس في بقية فرسانه إلى يابرة، تحت كنف صاحبها عبيد الله الخراز. وكانت موقعة دموية شنيعة قدر فيها عدد القتلى بأكثر من ثلاثة آلاف، وكان وقوعها في سنة 442 هـ (1050 م).
واستمرت الحرب بين الفريقين بعد ذلك عدة شهور أخرى، استطاع المعتضد خلالها أن يوقع بقوات ابن الأفطس غير مرة وأن يعيث في أراضيه، وأن يفتح منها عدة حصون. وتفاقمت الحال، بما أصاب مملكة بطليوس من تخريب الزروع، وهلاك الأقوات ونضوب الموارد، ووقوع القحط، واضطر المظفر بن الأفطس في النهاية، أن يعتصم بقاعدته بطليوس، بعد ما نكل سائر أصدقائه عن معونته. ولم ينقذه من عدوان المعتضد سوى تدخل الوزير أبى الوليد ابن جهور، حيث لبث موالياً لسعيه في درء الفتنة، وحقن الدماء، حتى كلل سعيه في النهاية بالنجاح، وعقد الصلح بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس في ربيع الأول سنة 443 هـ (1051 م) (1).
وكان المظفر في نفس الوقت عرضة لمضايقة المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة وعدوانه. وقد أغار المأمون مراراً على أراضي ابن الأفطس، ووقعت بينهما معارك محلية كثيرة. ولم نعثر على تاريخ هذه المعارك بطريقة قاطعة. ولكن الظاهر أنها وقعت بعد الصلح بين ابن عباد وابن الأفطس، أعني بعد سنة 443 هـ (2).
على أن المظفر ما كاد يفيق من تلك الحروب المدمرة، حتى بدأت الحوادث والأزمات الخطيرة في أطراف مملكته الغربية والشمالية. وكان خصومه في تلك المرة هم النصارى، جيرانه من الشمال. وكان فرناندو الأول (فرديناند أو فرذلند) ولد سانشو الكبير، بعد أن استتب له ملك قشتالة وليون، يرقب تطور الحوادث لدى جيرانه المسلمين باهتمام، ويتحين فرص العمل، وكانت أطراف مملكة بطليوس الشمالية الواقعة فيما بين نهر التاجُه ونهر دويرة، تشمل منطقة نائية مجردة من وسائل الدفاع القوية، وتكاد تكون قواعدها المنعزلة المستقلة معتمدة في الدفاع على نفسها. فاتجهت أنظار فرناندو، إلى تلك المنطقة، ولم يلبث أن اخترقها بقواته وذلك في سنة 449 هـ (1057 م) واستولى أولا على مدينتي لاميجو (مليقة)
_______
(1) راجع ما نقل في الذخيرة عن ابن حيان، المجلد الأول القسم الأول ص 361 - 365، والبيان المغرب ج 3 ص 211 - 213 و 334 و 235.
(2) راجع البيان المغرب ج 3 ص 282 و 283.(2/85)
وبازو الواقعتين في شمال البرتغال، واللتين عمرهما المسلمون منذ أيام المنصور؛ ولم يلق الغزاة دفاعاً يذكر، ولم يتحرك ابن الأفطس ليقينه من عقم المحاولة.
واسترق فرناندو، سكان المدينتين الإسلاميتين، وأسكن بهما النصارى.
ولم تمض بضعة أعوام أخرى حتى بعث فرناندو بحملة قوية إلى تلك المنطقة تقدر بعشرة آلاف فارس، وكان ابن الأفطس قد رفض أداء الجزية لملك قشتالة، فسارت قوة من الفرسان النصارى جنوباً، صوب مدينة شنترين الواقعة على نهر التاجُه، وهي من أهم قواعد مملكة بطليوس البرتغالية، وكان ابن الأفطس على علم بتحرك النصارى، فهرعت قواته إلى شنترين قبل أن يصلوا إليها. ولما أشرف عليها النصارى بعث قائدهم " القومس " إلى ابن الأفطس للمفاوضة، فاجتمع الاثنان في نهر التاجُه، وانتهت المفاوضة بينهما على عقد الهدنة، وعلى أن يدفع ابن الأفطس لملك قشتالة جزية سنوية مقدارها خمسة ألاف دينار.
على أن أعظم خطب نزل بالمسلمين وبمملكة بطليوس يومئذ, هو فقد مدينة قُلُمرية أعظم مدن البرتغال الشمالية، وكان قد افتتحها المنصور بن أبي عامر منذ ثمانين عاماً في سنة 375 هـ. وكانت يومئذ تحت حكم مولى من موالي ابن الأفطس يدعى راندة، ولديه للدفاع عن المدينة نحو خمسة آلاف جندي. ويقال إن الذي أشار على فرناندو بغزو قلمرية هو مستشاره المستعرب سسنندو الذي سبق ذكره، وكان في الأصل من أهل هذه الناحية. وسار فرناندو بنفسه إلى قلمرية في قوات كثيفة وضرب حولها الحصار، واستمر الحصار زهاء ستة أشهر، والضيق يشتد بالمدينة المحصورة يوماً عن يوم. وفي النهاية تفاهم راندة مع فرناندو سراً على أن يخرج من المدينة آمناً على نفسه وأهله، وأصبح أهل المدينة فلم يجدوا قائدهم, فعرضوا التسليم على أن يمنحوا الأمان، فرفض فرناندو واستمر في الحصار، حتى فتك الضيق ونفاد الأقوات بالحامية وأهل المدينة، وأخيراً اقتحم النصارى المدينة عنوة، فسلمت الحامية، واعتبر جنودها أسرى، وسبى الكثير من أهلها نساء ورجالا. وخرج منها من استطاع منهم تاركين متاعهم وأموالم، ووقعت هذه الحادثة بالمسلمين في سنة 456 هـ (1064 م). وعين فرناندو مستشاره سسنندو حاكماً لقلمرية وأعمالها، ومنحه عندئذ لقب " الكونت " أو " الوزير ".
ثم عمد فرناندو بعد ذلك إلى إخراج السكان المسلمين من سائر الأراضي الواقعة(2/86)
بين نهري دويرة ومنيو (منديجو) وذلك تنفيذاً لخطته في إجلاء المسلمين عن الأراضي المتاخمة لمملكته شيئاً فشيئاً.
ولما سقطت قلمرية في يد العدو، قصد واليها السابق راندة إلى بطليوس، وكان قد لجأ إلى المعسكر النصراني، ثم غادره طمعاً في عفو سيده، فاستقبله ابن الأفطس بجفاء وأنبه على شنيع مسلكه، ثم أمر بضرب عنقه جزاء خيانته (1).
هذا وسوف نعود إلى تفصيل حوادث سقوط قلمرية في أخبار فرناندو ملك قشتالة.
وهدأ ضغط النصارى على أراضي ابن الأفطس بوفاة فرناندو ملك قشتالة بعد ذلك بنحو عامين في سنة 1065 م. ووقعت بين أبنائه الثلاثة حرب استمرت بضعة أعوام، شغل خلالها النصارى عن عدوانهم على أراضي المسلمين. ولما خلص عرش قشتالة وليون بعد ذلك إلى ولده ألفونسو، تحولت دفة هذا العدوان إلى مملكتي طليطلة، وإشبيلية، حسبما نفصل بعد.
وتوفي المظفر بن الأفطس في سنة 461 هـ (1068 م)، فخلفه ولده يحيى الملقب بالمنصور.
ولابد لنا قبل أن نترك الكلام على المظفر بن الأفطس، أن نذكر ذلك الجانب اللامع الوضاء في حياته، ونعني الناحية الفكرية. فقد كان المظفر من أعلم أهل عصره، وكان شغوفاً بالشعر والأدب، وكان ينكر الشعر على قائله في زمانه، ويقول: " من لم يكن شعره مثل شعر المتنبي أو المعري فليسكت "، ولا يرضى بدون ذلك. وقد اشتهر في عالم الأدب بكتابه الضخم الموسوم "بالمظفري" نسبة إلى اسمه، وهو موسوعة أدبية وتاريخية عظيمة تحتوي على كثير من الأخبار والسير والنبذ المختارة، والطرائف المستملحة، والغرائب الملوكية، والنوادر اللغوية. وأنفق المظفر في تصنيفه أعواماً، وانتفع في تصنيفه بسائر ما تحتويه خزائنه الزاخرة بنفائس الكتب، ولم يستعن في وضعه إلا بكاتبه أبي عثمان سعيد بن خيره. وقيل إن "المظفري" كان يحتوي على خمسين مجلداً، وقيل بل على عشرة أجزاء ضخمة وقد لبث هذا المصنف الكبير عصوراً، معروفاً متداولا، تذكره التواريخ
_______
(1) راجع في سقوط قلمريه وما تقدمه من حوادث: البيان المغرب ج 3 ص 238 و 239، وأعمال الأعلام ص 184، ودوزي في Hist. des Musulmans d'Espagne, V. III. p. 67-77(2/87)
الأندلسية، بيد أنه قد غاض ودثر في النهاية، ولم تصل إلينا منه سوى شذور قليلة (1).
وما كاد المنصور بن الأفطس يبدأ حكمه حتى ثار به أخوه عمر، وكان يرى نفسه أحق منه بالملك والحكم. وكان عند وفاة والده المظفر حاكماً لمدينة يابرة وما إليها، فنهض لمناوأة أخيه. واستمر النزاع بينهما بضعة أعوام حتى تفاقم.
ولجأ عمر إلى معاونة المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة، واتجه المنصور إلى معاونة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، واضطرمت الفتنة، وكادت تدمر كل شىء، لولا أن توفي يحيى المنصور فجأة سنة 464 هـ (1072 م)، فخمدت الفتنة ودخل عمر بطليوس، وتولى الحكم مكان أخيه دون منازع، وتلقب بالمتوكل على الله، وندب ابنه العباس حاكماً ليابرة.
وكان المتوكل بن الأفطس من أشهر ملوك الطوائف وأبقاهم ذكراً، وهو لم يشتهر بحروبه وأعماله السياسية، وإنما اشتهر بعلمه وأدبه وشعره، وبلاطه الزاهر، الذي كان جامعة أدبية أكثر منه قصراً ملوكياً. وقد وصفه لنا معاصره الفتح بن خاقان في تلك العبارات الشعرية: " ملك جند الكتائب والجنود، وعقد الألوية والبنود، وأمر الأيام فائتمرت، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت إلى لسن وفصاحة، ورحب جناب للوافد وساحة، ونظم يزري بالدر النظيم، ونثر تسري رقته سري النسيم، وأيام كأنها من حسنها جمع، وليال كان فيها على الأنس حضور مجتمع، راقت إشراقاً وتبلجاً، وسالت مكارمه أنهاراً وخلجاً " (2).
وقال ابن الخطيب: " وكان المتوكل ملكاً عالي القدر، مشهور الفضل، مثلا في الجلالة والسرو، من أهل الرأي والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بطليوس في مدته دار أدب وشعر ونحو وعلم ".
ونقل إلينا ابن الخطيب تلك التحفة الأدبية من نظم المتوكل، رواها وزيره أبو طالب ابن غانم قال: كتب إلى المتوكل بهذين البيتين في ورقة كرنب من بعض البساتين:
انهض أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... ما لم تكن حاضراً لدينا (3)
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 236، 237، وأعمال الأعلام ص 183، 184 والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 41، 42.
(2) قلائد العقيان ص 36.
(3) أعمال الأعلام ص 185.(2/88)
وحسبك أن تعلم أنه كان من بين وزراء المتوكل، الكاتب والشاعر الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون "عظيم ملكهم، ونظيم سلكهم" حسبما يصفه صاحب القلائد، وصاحب مرثيتهم الرائعة التي نشير إليها فيما بعد، وهو من أبناء مدينة يابرة، وبنو القبطرنة وهم الشاعر المبدع أبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، وأخواه أبو محمد وأبو الحسن، وكلاهما أيضاً شاعر رائق النظم.
وفي عهد المتوكل على الله تمتعت مملكة بطليوس بفترة من السلام والأمن والرخاء، وسطع بلاطها في ظل أميرها الحكيم العالم. والواقع أن مملكة بطليوس كانت بالرغم مما نزل بها من الأحداث والخطوب، في عهد المظفر بن الأفطس، تتفوق من حيث انتظام الأحوال وسيادة الأمن والرخاء، على كثير من دول الطوائف الأخرى. وفي ذلك يقول المؤرخ " وكانت أيام بني المظفر (يقصد بني الأفطس) بمغرب الأندلس أعياداً ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الأدب، خلدت فيهم، ولهم قصائد شادت مآثرهم، وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم " (1).
وكان معاونه في الحكم الوزير ابن الحضرمي، قد أساء السيرة، وتجبر وطغى وتعسف في معاملة الناس فأقاله، وأبعده عن خدمته. فكتب إليه الوزير يستعطفه فراجعه المتوكل بخطاب جاء فيه: " ياسيدي وأكرم عددي، الشاكي ما جنته يده لا يدي، ومن أسأل الله التوفيق في ذاته إذ حرمه في ذاتي ... نعم فإني رأيت الأمر قد ضاع، والإهمال قد انتشر وذاع، فأشفقت من التلف، وعدلت إلى ما يعقب إن شاء الله الخلف، وأقبلت استدفع من مواقع أنسي، وأشاهد ما ضيعته بنفسي، فم أر إلا لججاً قد توسطتها، وغمرات قد تورطتها، فشمرت عن الساق للجتها، وخدمت النفس بمهجتها، حتى خضت البحر الذي أدخلني فيه رأيك، ووطئت الساحل الذي كان يبعدني عنه سعيك .... وقد أطمعت في العدو لبست لأهل دهري الاستكبار والعتو، واستهنت بجيرانك، وتوهمت أن المروءة في التزام زهوك، وتعظيم شأنك، حتى أخرجت النفوس علي وعليك، فانجذب مكروه ذلك إليك، ومع ذلك فليس لك عندي إلا حفظ الحاشية وإكرام الغاشية " (2).
ووقعت أيام المتوكل في جارته مملكة طليطلة أحداث كان لها صدى في مملكته.
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 42.
(2) قلائد العقيان ص 41.(2/89)
ذلك أن يحيى بن ذى النون صاحب طليطلة الملقب بالقادر بالله، كان أميراً ضعيفاً سيىء الخلال، وكانت تناهضه عصبة قوية من الأعيان. وفي سنة 472 هـ ْقامت ثورة في طليطلة أضرمها أولئك الخصوم الناقمون، وحاولوا الاعتداء عليه، ففر من المدينة ناجياً بنفسه، ولجأ إلى بعض حصونه الخارجية، وخشي أعيان المدينة انهيار النظام، وذيوع الفوضى، فاتجهوا إلى المتوكل، واستدعوه لضبط المدينة، فأجابهم كارهاً، وغادر بطليوس إلى طليطلة، وأقام بها زهاء عشرة أشهر يدبر شئونها، حتى تهيأت لأميرها المنفي سبل العودة، فغادرها المتوكل، وقد حصل من أسلاب ابن ذى النون وذخائره على قسط وافر (1).
وكان ألفونسو السادس خلال ذلك يشدد الضغط على مملكة طليطلة، ويرهقها بغاراته المتوالية، وينتسف زروعها وأقواتها، تمهيداً لمشروعه الضخم في الاستيلاء عليها. وكان القادر بن ذى النون يدافع العدو ما استطاع، ويتطلع حوله للاستنجاد بجيرانه المسلمين، فلا يجد سميعاً أو منجداً. ولم يتقدم لإغاثته سوى المتوكل بن الأفطس، فقد سار بجنده لمدافعة جند قشتالة. بيد أن ألفونسو السادس لم يشأ الدخول في معارك عقيمة، وآثر الانسحاب مؤقتاً، حتى تحين الفرصة المنشودة.
بيد أنه لم تمض على ذلك بضعة أعوام، حتى حلت النكبة بمملكة بني ذى النون، واستولى ألفونسو السادس ملك قشتالة على طليطلة، وذلك في المحرم من سنة 478 هـ (1085 م) حسبما نفصل في موضعه. وشعر ملك قشتالة على أثر إنزال هذه الضربة الفادحة بالمسلمين، أنه أضحى قادراً على تحدي دول الطوائف جميعاً، والقضاء عليها، واحدة بعد أخرى. وكان من أثر ذلك أن أرسل إلى المتوكل يطلب إليه تسليم بعض قلاعه وحصونه، وأن يؤدي الجزية، ويتوعده بشر العواقب إذا رفض، ولم يك ثمة شك في خطورة هذا الوعيد، بعد أن سقطت طليطلة حصن الأندلس على نهر التاجُه، وعبر النصارى نهر التاجُه لأول مرة، ومع ذلك أبي المتوكل أن يستجيب إلى الوعيد، ورد على ملك قشتالة برسالة قوية حازمة، تفيض شجاعة وإباء ونبلا يقول فيها:
" وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد
_______
(1) أعمال الأعلام ص 180.(2/90)
ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويلدد بجنوده الوافرة، وأحواله المتظافرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا محمد عليه السلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون ...
أما تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك، علمت أي مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك تتجرعه، فلم نزل نذيقها من الحمام ضروب الآلام شؤماً تراه وتسمعه، وإذا المال تتورعه. وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد كل عام عليه، وأما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، إلا السيوف تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ويومك، وبالله تعالى وملائكته المسومين، فنقوى عليك ونستعين ... وما تتربصون بنا إحدي الحسنيين، نصر عليكم فيالها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله، فيالها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفتر بما مددت، ويقطع بك فيما أعددت " (1).
وندب المتوكل قاضيه العلامة والفقيه الأجل، أبا الوليد الباجي، ليطوف بحواضر الأندلس، ويتصل بالرؤساء، ويدعوهم إلى لم الشعث، وتوحيد الكلمة ومدافعة العدو، فقام بالمهمة، واتصل بسائر الرؤساء، ولم يدخر وسعاً في نصحهم ووعظهم (2).
ومع ذلك فإن المتوكل لم يجد من زملائه المسلمين من يستنصر به، وقد روعهم جميعاً ما حل في طليطلة، وكان ملك قشتالة قد استولى منذ سنة 1080 م (473 هـ) على مدينة قورية وقلاعها، وهي من أطراف مملكة بطليوس الشمالية وحصنها على ْنهر التاجه، وأضحى السبيل بذلك أمامه ممهداً لكي يجتاح أراضيها بسهولة. وكان المعتمد بن عباد قد تلقى منه مثل المطالب والنذر التي تلقاها المتوكل، ورد عليه بمثل رد المتوكل أو أشد. وكان أن تطورت الحوادث بسرعة، واعتبر ملوك الطوائف بالخطب الداهم، وانتهى بهم الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء القدر أن يكون نقطة تحول في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين.
_______
(1) تراجع هذه الرسالة في الحلل الموشية (تونس 1329 هـ) ص 20 - 22.
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 98.(2/91)
وقد كان عمر المتوكل، إلى جانب زميله المعتمد بن عباد، وكلاهما يومئذ هدف لأخطر عدوان مباشر من جانب ملك قشتالة، في مقدمة المؤيدين لهذه الخطوة، وقد كتب إلى أمير المسلمين، كما كتب المعتمد، يلتمس عونه وغوثه.
والظاهر أن المتوكل وجه صريخه لأمير المسلمين قبل سقوط طليطلة، حسبما يبدو ذلك من رواية صاحب الحلل الموشية (1)، وقد انتهت إلينا من قلم هذ الأمير العالم تلك الرسالة البليغة المؤثرة يصف فيها لأمير المسلمين محنة الأندلس، وما دهاها من التفرق والانحلال، ويستنصره إلى الجهاد، والإنجاد العاجل:
" لما كان نور الهدى، أيدك الله، دليلك، وسبيل الخير سبيلك، ووضحت في الصلاح معالمك، ووقفت على الجهاد عزائمك، وصح العلم بأنك لدعوة الإسلام أعز ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، وجب أن تستدعي، لما أعضل الداء، وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها "أهلكهم الله" (2)، عند إفراط تسلطها واعتدائها (3)، وشدة كلبها واستشرائها، تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها عن كل ذخيرة، وتسترضى بكل خطيرة (4)، ولم يزل دأبها التشطط والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى نفد (5) الطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، واضطرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم، فإنما هم بأيديهم أسارا وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، وقد هموا بما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب، فيالله وياللمسلمين، أبسطوا هكذا بالحق الإفك، ويغلب التوحيد الشرك، ويظهر على الإيمان الكفر، ولا يكشف هذه البلية النصر، ألا ناصر لهذا الدين المهتضم، ألا حامي لما استبيح من الحرم، وأنا لله على ما لحق عرشه من ثل، وعزه من ذل، فإنها الرزية التي ليس فيها عزاء، والبلية التي ليس مثلها بلاء. ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك، أعزك الله، بالنازلة في مدينة قورية، أعادها الله، وأنها مؤذنة للجزيرة بالخلا، ومن فيها من المسلمين بالجلا، ثم مازال ذلك التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند، حتى تخلصت
_______
(1) الحلل الموشية ص 20.
(2) الزيادة من البيان المغرب (الأوراق المخطوطة).
(3) البيان المغرب "واعتزازها".
(4) البيان المغرب "نفيسة".
(5) البيان المغرب "استصفى".(2/92)
القضية، وتضاعفت البلية، وتحصلت في يد العدو مدينة سُرية، وعليها قلعة تجاوزت حد القلاع، في الحصانة والامتناع، وهي من المدينة كنقطة الدائرة "وواسطة القلادة" تدركها من جميع نواحيها، ويستوي في الأرض بها قاصيها ودانيها، وما هو إلا نفس خافت، وزمر داهق، استولى عليه عدو مشرك، وطاغية منافق، إن لم تبادروا بجماعتكم عجالا، وتتداركوها ركباناً ورجالا، وتنفروا نحوها خفافاً وثقالا، وما أحضكم على الجهاد بما في كتاب الله، فإنكم له أتلى، ولا بما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم إلى معرفته أهدى، وكتابي إليكم هذا يحمله الشيخ الفقيه الواعظ، يفصلها ويشرحها، ومشتمل على نكتة هو يبينها ويوضحها، فإنه لما توجه نحوك احتساباً، وتكلف المشقة إليك طالباً ثواباً، عولت على بيانه، ووثقت بفصاحة لسانه والسلام " (1).
والظاهر أن المتوكل، تلقى كما تلقى ابن عباد من أمير المسلمين، كتاباً يعده فيه بالجواز والإنجاد.
ونحن نقف في سرد أخبار المتوكل ومملكة بطليوس عند ذلك الحد، إذ هي تندمج عندئذ في تيار الحوادث العامة، الذي جرف الأندلس وملوك الطوائف جميعاً، وهو ما سنعني بتفصيله في موضعه.
_______
(1) البيان المغرب - في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها في مكتبة القرويين.(2/93)
الفصل الخامِسُ
مملكة بني ذى النون في طليطلة
مملكة طليطلة وأهمية موقعها. بنو ذى النون. أصلهم وظهورهم. عبد الرحمن بن ذى النون وولده إسماعيل. أحوال طليطلة عقب الفتنة. استدعاء أهلها لإسماعيل. ولايته لطليطلة، وتلقبه بالظافر. كبير الجماعة أبو بكر الحديدي. وفاة إسماعيل وقيام ولده المأمون. الحرب بين المأمون وابن هود. هزيمة المأمون وارتداده. استعانته بفرناندو ملك قشتالة. عيث النصارى في أراضي ابن هود. التحالف بين المأمون وابن عباد. استعانة ابن هود بملك قشتالة وعيثه في أراضي طليطلة. تحالف المأمون مع غرسية ملك نافار. عيث النصارى في أراضي طليطلة وسرقسطة. سعي أهل طليطلة للصلح. مهاجمة ابن هود لمدينة سالم. غزو القشتاليين لأراضي طليطلة. غزو النافاريين لأراضي سرقسطة. وفاة ابن هود وانتهاء الفتنة. النزاع بين المأمون وبين ابن الأفطس. إغارة ملك قشتالة على أراضي طليطلة. تعهد المأمون له بالجزية. استيلاء المأمون على بلنسية. مختلف الروايات في ذلك. وفاة فرناندو ملك قشتالة والنزاع بين أولاده. فرار ألفونسو. التجاؤه إلى المأمون. محاولة المأمون غزو قرطبة وفشله. مؤامرة ابن عكاشة. استيلاؤه على قرطبة واستدعاؤه للمأمون. مقتل سراج الدولة ابن المعتمد. دخول المأمون قرطبة ثم وفاته. زحف ابن عباد على قرطبة واقتحامه إياها. مصرع ابن عكاشة. المأمون وخلاله. ثراؤه وقصوره الباذخة. ما ينسب إليه من البخل. ابن حيان يهدي إليه كتابه. يحيى القادر حفيد المأمون وخلفه. الوزيران ابن الفرج وابن الحديدي. بطش القادر بابن الحديدي. القلاقل والمؤامرات ضد القادر. ضغط ابن هود عليه. يلتمس حماية ملك قشتالة ويعترف بطاعته. الثورة في طليطلة وفرار القادر. المتوكل بن الأفطس يتولى حكم طليطلة. استعانة القادر بألفونسو واسترداده لعرشه. مشروع ألفونسو لغزو طليطلة. المعتمد بن عباد يعقد حلفاً مع ألفونسو خضوع ملوك الطوائف لملك قشتالة. اختلاف أهل طليطلة. الحزب الموالي للنصارى. تخريب ألفونسو لأراضي طليطلة. انصراف ملوك الطوائف عن غوثها. أبو الوليد الباجي ودعايته. عمر المتوكل يحاول إنجادها. حصار ألفونسو لطليطلة. القادر وموقفه المريب. تفاقم الخطب. محاولة أهل المدينة التفاهم مع ألفونسو. إصرار ألفونسو على التسليم. عروض التسليم وشروطه. ألفونسو السادس يدخل طليطلة. مغادرة القادر إياها. سقوط طليطلة وآثاره المادية والأدبية. طليطلة حاضرة قشتالة. أثر النكبة في موقف الطوائف. فجيعة الشعر الأندلسي.
لم تكن أهمية مملكة بني ذى النون في طليطلة وأعمالها، في ضخامة رقعتها، وإن كانت أيضاً من أكبر دول الطوائف رقعة، ولكن في موقعها الحربي (الاستراتيجي) على مشارف الأندلس الشمالية الوسطى. ونحن نعرف أن طليطلة وأعمالها، كانت منذ قيام الدولة الإسلامية بالاندلس تعرف بالثغر الأوسط(2/94)
لمتاخمة حدودها للممالك الإسبانية النصرانية، واعتبارها بذلك حاجز الدولة الإسلامية وجناحها الشمالي الأوسط، ضد عدوان النصارى.
ولم يتغير هذا الوضع بقيام دولة بني ذى النون، على أثر انهيار الخلافة، وتمزق الأندلس، في تلك المنطقة، ومن ثم كانت أهمية مملكة طليطلة. وكانت هذه المملكة تشمل رقعة كبيرة في قلب الأندلس، تمتد شرقي مملكة بطليوس، من قورية وتَرجالُه نحو الشمال الشرقي، حتى قلعة أيوب وشنتمرية الشرق، جنوب غربي مملكة بني هود في الثغر الأعلى، وتمتد شمالا بشرق فيما وراء نهر التاجُه متاخمة لقشتالة القديمة، وجنوباً بغرب حتى حدود مملكة قرطبة، عند مدينتي المعدن والمدور، وتتوسطها عاصمتها طليطلة. ومن أعمالها مدينة سالم ووادي الحجارة وقونقة ووبذة وإقليش ومورة وطلبيرة وترجالُه وغيرها.
كانت هذه المنطقة الشاسعة الهامة وقت الفتنة غنماً لبني ذى النون، أقاموا بها مملكة لامعة زاهية، ولكن سيئة الطالع، قصيرة الأمد. وقد كان بنو ذى النون من أصول البربر، من قبائل هوارة، ويقال إن أصل لقبهم هو زنون، فتطور بمضي الزمن إلى رسمه المعروف، أعني ذى النون، وقد ظهروا وفقاً لأقوال الرواية، منذ أيام الدولة الأموية، حيث كان جدهم الأعلى ذو النون بن سليمان حاكماً لحصن إقليش، منذ أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن. وظهر جدهم ذو النون هذا، ونال عطف الأمير محمد عن طريق حادث عارض، خلاصته أن الأمير محمدا، عند اجتيازه في بعض غزواته لأرض شنت برية (1)، موطن ذى النون اعتل له خصي من أكابر خصيانه، وهو في طريق العودة من غزاته، فتركه عند ذى النون حتى يبرأ من علته أو يموت، فاعتنى به ذو النون عناية فائقة حتى برىء، ثم أخذه بنفسه إلى قرطبة، فسر الأمير محمد بمروءته، وكافأه على صنيعه بأن أهدى له سجلا بولايته على ناحيته، واعتباره زعيم قومه، وارتهن بعض أولاده كفالة بحسن طاعته، ومن ذلك الحين يظهر اسم بني ذى النون على مسرح الحوادث. ومنها أن موسى بن ذى النون، اشترك أيام الفتنة في الخلاف
_______
(1) شنت برية وبالإسبانية Santaver، هي بلدة حصينة كانت تقع شمالي غرب قونقة، وجنوبي شرقي وادي الحجارة على مقربة من منابع نهر التاجه، وقد كانت قاعدة للكورة الأندلسية التي تسمى بهذا الاسم، والتي تشغل منطقة قونقة وإقليش حتى شرقي طليطلة.(2/95)
وخرج عن الطاعة، وذلك في سنة 260 هـ، وأخضعه الأمير محمد (1). ومن ذلك أيضاً أن ابنه الفتح بن موسى، خرج في مستهل عهد الناصر بقلعة رباح وأحوازها، فبعث إليه الناصر بحملة طاردته وانتهت بإخضاعه.
ويقول لنا ابن الخطيب إن بني ذى النون لم يكن لهم رياسة ولا نباهة إلا في دولة المنصور بن أبي عامر، ولكن ابن حيان يذكر لنا من جهة أخرى "أنه في شهر جمادى الأولى سنة 363. هـ في عهد الحكم المستنصر بالله سجل لمطرف بن اسماعيل ابن عامر ذى النون على وبذة" (2) وحصنه، وأضيفت إليه أكثر حصون شنت برية وقراها (3). ويقع حصن وبذة هذا على مقربة من شمال حصن إقليش معقل بني ذى النون فيما بعد. وعلى أي حال ففي أيام المنصور، ظهر عبد الرحمن ابن ذى النون وولده إسماعيل، وخدم في ظل المنصور، والظاهر أن عبد الرحمن هذا هو ولد مطرف بن إسماعيل بن ذى النون السابق ذكره. فلما انقرضت الدولة العامرية، لحق بالثغر، واجتمع إليه بنو عمه، ومنحه سليمان الظافر حكم إقليش.
ولما مات الفتى واضح العامري حاكم قلعة قونقة، استولى عليها إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذى النون، وضبطها حتى يجىء بزعمه من يولي عليها. وأخذ إسماعيل يستولي على الأنحاء المجاورة شيئاً فشيئاً، حتى بسط حكمه على كورة شنتبرية كلها.
وأولاه سليمان الظافر عطفه، فمنحه رتبة الوزارة، ولقبه بناصر الدولة. ونحن نعرف أن البربر كان لهم في أيام سليمان الغلبة والكلمة العليا، فلما اضطرمت الفتنة وانهارت السلطة المركزية، أعلن إسماعيل استقلاله بما في يده من الأراضي، وجبي الأموال، واتسعت أعماله. وينوه ابن حيان، ببخله وإمساكه في النفقة، ثم يصفه فيما يلي: " ولم يرغب في صنيعة، ولا سارع إلى حسنة، ولا جاد بمعروف، ولا عرّج عليه أديب ولا شاعر، ولا امتدحه ناظم ولا ناثر، ولا استخرج من يده درهم في حق ولا باطل، ولا حظى أحد منه بطائل، وكان
_______
(1) نقل إلينا ابن حيان هذه المعلومات عن عيسى بن أحمد الرازي، ووردت في القطعة المخطوطة من تاريخ ابن حيان المحفوظة بمكتبة جامع القرويين (لوحة 272 ب).
(2) وهي بالإسبانية Huete
(3) ورد ذلك في المقتبس لابن حيان - قطعة مكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد المنشورة بعناية الأستاذ عبد الرحمن الحجي (بيروت 1965) ص 150.(2/96)
مع ذلك سعيد الجد، تنقاد إليه دنياه، وتصحبه سعادته، فينال صعاب الأمور بأهون سعيه، وهو كان فرط الملوك في إيثار الفرقة، فاقتدى به من بعده، وأموا في الخلافة نهجه، فصار جرثومة النفاق، ومنه تفجر ينبوع الفتن والمحن " وهكذا كان مؤسس مملكة بني ذى النون (1).
وكانت طليطلة حينما اضطرمت الفتنة، وانهار سلطان الحكومة المركزية، قد قام بالأمر فيها وضبطها قاضيها أبو بكر يعيش بن محمد بن يعيش الأسدي. بيد أنه يبدو أنه لم يكن منفرداً بالرياسة، وأنه كان يحكم معه جماعة من الرؤساء على نحو ما كانت الجماعة في بدايتها بقرطبة، وكان من هؤلاء ابن مسرّة، وعبد الرحمن ابن متيوه. ثم وقع الخلاف بين الجماعة، وعزل القاضي ابن يعيش، وسار إلى قلعة أيوب وتوفي بها في سنة 418 هـ (2). ولما توفي عبد الرحمن بن متيوه، خلفه في الحكم ولده عبد الملك، وأساء السيرة، واضطربت الأمور، فرأى أهل طليطلة أن يتخلصوا من أولئك الزعماء جملة، وبعثوا رسلهم إلى عبد الرحمن ابن ذى النون في شنتبرية يستدعونه لتولي الرياسة، فوجه إليهم ولده إسماعيل، وكان ذلك في سنة 427 هـ (1036 م).
وهكذا تولى إسماعيل بن ذى النون حكم طليطلة وأعمالها، وتلقب بالظافر وامتدت رياسته شرقاً حتى قونقة وجنجالة، واعتمد في تدبير الأمور على كبير الجماعة بطليطلة أبي بكر بن الحديدي، وكان عالماً وافر العقل والدهاء، يحظى بتأييد الكثرة الغالبة من أهل المدينة، فكان إسماعيل لا يقطع أمراً دون رأيه ومشورته.
ولم يطل أمد اسماعيل في الملك أكثر من بضعة أعوام، إذ توفي في سنة 435 هـ (1043 م). وفي عهده ذاعت قصة ظهور هشام المؤيد، وكان هشام المزعوم هذا بقلعة رباح من أعمال مملكته، فأخرج منها وأخذ إلى إشبيلية، حيث أظهره القاضي ابن عباد، وأخذ له البيعة وأعلن خلافته، حسبما ذكرنا ذلك في موضعه.
فخلفه ولده يحيى بن إسماعيل، وتلقب بالمأمون، وسار على سنة أبيه في
_______
(1) راجع في أصل بني ذى النون ونشأتهم: الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 110 و111، وأعمال الأعلام ص 176 و 177، وابن خلدون ج 4 ص 161.
(2) ابن بشكوال في الصلة رقم 1520.(2/97)
تقديم وزيره ابن الحديدي، والاعتماد على رأيه في مهام الشئون. وكان ثمة إلى جانب ابن الحديدي ثلاثة وزراء آخرين، أوصى أبوه إسماعيل بأن يشركهم في رأيه، ويعتمد على عونهم، وهم الحاج بن محقور، وابن لبون، وابن سعيد ابن الفرج (1). وفي عهد المأمون اتسعت حدود مملكة طليطلة، وترامت شرقاً حتى بلنسية، وأضحت من أعظم دول الطوائف رقعة وموارد، وساد بها الأمن والرخاء.
بيد أن عهد المأمون الذي استطال ثلاثة وثلاثين عاماً، كان في الوقت نفسه مليئاً بالحروب والخصومات، التي اضطرمت بين المأمون، وبين منافسيه القويين ابن هود صاحب سرقسطة والثغر الأعلى، وابن عباد صاحب إشبيلية. ووقع النزاع بادئ بدء بين المأمون، وبين ابن هود جاره من الناحية الشمالية الشرقية. وكانت سلسلة المدن والقلاع الحصينة التي تمتد بين الثغر الأعلى، وبين مملكة طليطلة، منذ قلعة أيوب حتى وادي الحجارة، موضع الاحتكاك بين الفريقين، وكانت مدينة وادي الحجارة بالأخص مثار نزاع بينهما، وبالرغم من أنها كانت من أعمال مملكة طليطلة، إلا أن فريقاً من أهلها كانوا ينزعون إلى الانضواء تحت سلطان سليمان بن هود صاحب سرقسطة، وكان سليمان يعمل على بث الاضطراب فيها، على يد رسله وأعوانه، فلما نضجت دعوته أرسل إليها قوة من جيشه بقيادة ولده وولي عهده أحمد فنازلتها، ثم دخلتها بمعاونة بعض أهلها الضالعين معه، (436 هـ - 1044 م). وما كاد المأمون بن ذى النون يقف على هذا الاعتداء، حتى هرع في قواته إلى وادي الحجارة، ونشبت بينه وبين أحمد بن هود معارك كانت الغلبة فيها لابن هود، فارتد بقواته، وابن هود يطارده حتى حصره في مدينة طلبيرة، الواقعة على نهر التاجه غربي طليطلة، وشدد ابن هود في الضغط على المأمون ومضايقته، ثم كتب إلى أبيه يخبره بما تهيأ له، فكتب إليه أبوه أن يرفع الحصار عن طلبيرة، وأن يترك المأمون وشأنه، فصدع بالأمر، وارتد بقواته عائداً إلى سرقسطة، ونجا المأمون من مأزق شديد الحرج.
ولم يشأ المأمون أن يقف عند هذا الحد، بل صمم على متابعة الحرب والانتقام من ابن هود، ففاوض فرناندو الأول ملك قشتالة، وطلب عونه، وتعهد
_______
(1) أعمال الأعلام ص 177، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 113.(2/98)
بأن يقر بسيادته، وأن يؤدى له الجزية (1)، فاستجاب فرناندو لدعوته، وبعث سريات من جنده، فعاثت في أراضي ابن هود المتاخمة لقشتالة، وأمعنت فيها تخريباً، وكان ذلك في أوان الصيف والزروع على وشك الحصاد، فقام الجند النصارى بحصدها، ونقلها إلى بلادهم، وجردت المنطقة من سائر الزروع والأقوات، وقتل النصارى، وسبوا ما استطاعوا، ثم عادوا إلى بلادهم، كل ذلك وابن هود ممتنع في حصونه مجتنب للاشتباك مع المعتدين، وانتهز المأمون هذه الفرصة، فأغار بدوره على أراضي ابن هود المتاخمة له وعاث فيها.
ورأى المأمون في نفس الوقت أن يقوي أواصر الصداقة مع المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، طمعاً في عونه ونصرته على ابن هود، فوعده ابن عباد بما طلب، وأسفرت المفاوضات بينهما، عن اعتراف المأمون بالدعوة الهشامية، التي احتضنها ابن عباد، ورفضها في البداية إسماعيل بن ذى النون، وأخذت البيعة لهشام المؤيد في طليطلة، ودعى له على منابرها (2). بيد أن ابن عباد ما لبث أن شغل بحروبه مع ابن الأفطس، ولم ينل المأمون من عونه شيئاً.
وأما ابن هود فإنه ما لبث أن انحدر إلى نفس الطريق الذي انحدر إليه المأمون وسعى بدوره إلى محالفة النصارى، واستعدائهم على خصمه ابن ذى النون، وبعث إلى فرناندو أموالا وتحفاً طائلة، على أن يغير على أراضي ابن ذى النون، فاستجاب فرناندو إلى دعوته، وبعث سرياته فاخترقت أراضي طليطلة شمالا، حتى وادي الحجارة. وقلعة النهر (قلعة هنارس)، وأمعنت فيها عيثاً وتخريباً، فاستشاط المأمون غيظاً، والتمس محالفة غرسية ملك نافار أخى فرناندو ملك قشتالة، وبعث إليه بالأموال والتحف، فأغار بقواته على أراضي ابن هود المتاخمة له، فيما بين تطيلة ووشقة وعاث فيها، وافتتح منها قلعة قلهرّة (437 هـ - 1045 م)، وكانت مما افتتحه المنصور بن أبي عامر من أعمال نافار الجنوبية، وقام فرناندو ملك قشتالة مرة أخرى بالإغارة على أحواز طليطلة وتخريبها.
وهكذا استباح النصارى أراضي المملكتين الإسلاميتين، بمساعي ابن هود وابن ذى النون الذميمة، وانهارت فيها خطوط الدفاع، وساءت أحوال المسلمين إلى
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 278، وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p.53
(2) البيان المغرب ج 3 ص 220.(2/99)
أبعد حد. واضطر أهل طليطلة أن يبعثوا إلى سليمان بن هود بعض كبرائهم، سعياً إلى طلب الصلح والمهادنة، فقصدوا إليه في سرقسطة فناشدوه السلم، وحذروه من العواقب، ومما تهيأ للنصارى من الظفر، فتظاهر بالقبول، وكذلك أبدى ابن ذى النون ميله إلى المهادنة والصلح، وصرف حلفاءه النصارى إلى بلادهم.
على أن ابن هود لم يكف عن خطته، فخرج بقواته مع سرية من حلفائه النصارى وهاجم مدينة سالم، وهي نهاية أعمال طليطلة المتاخمة له، وقتل معظم المدافعين عنها، ثم استولى على سائر الحصون التي كان قد انتزعها منه المأمون، وكان معه في تلك الغزوة، عبد الرحمن بن إسماعيل بن ذى النون، أخو المأمون الثائر عليه يدله على عوراته وثغراته. وهرع المأمون بقواته إلى مدينة سالم للدفاع عنها، وانتهز النصارى من حلفاء ابن هود هذه الفرصة، فعاثوا في أراضي طليطلة كرة أخرى، واشتد الخراب والكرب بأهل طليطلة، فبعثوا إلى فرناندو يسألونه الصلح والمهادنة، فطلب منهم أموالا كثيرة، واشترط شروطاً فادحة، عجزوا عن قبولها، وبعثوا يقولون له، لو كانت لدينا هذه الأموال، لأنفقناها على البربر، واستدعيناهم للدفاع عنا، فرد عليهم فرناندو بما يأتي، وهي أقوال تمثل سياسة اسبانيا النصرانية نحو الأندلس أصدق تمثيل:
" أما استدعاؤكم البرابرة، فأمر تكثرون به علينا، وتهددونا به، ولا تقدرون عليه، مع عداوتهم لكم، ونحن قد صمدنا إليكم ما نبالي من أتانا منكم، فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديماً في أول أمركم، فقد سكنتموها ما قضي لكم، وقد نصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا إلى عدوتكم، واتركوا لنا بلادنا فلا خير لكم في سكناكم معنا بعد اليوم، ولن نرجع عنكم، أو يحكم الله بيننا وبينكم " (1).
وفي الوقت نفسه كانت قوات غرسية ملك نافار، حليف ابن ذى النون، تغير على أراضي ابن هود، وتعيث فيها. وهكذا استمرت الفتنة والنضال بين "هذين الأميرين المشئومين على المسلمين" ثلاثة أعوام من سنة 435 إلى آخر سنة 438 هـ، ولم تنقطع إلا بموت سليمان بن هود في العام ذاته، وكانت فتنة
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 282.(2/100)
وضيعة كبيرة، ونموذجاً صارخاً لتلك الحروب والمنافسات الإنتحارية المدمرة التي انحدر إليها ملوك الطوائف (1).
وتنفس المأمون بن ذى النون الصعداء لوفاة خصمه الألد، وهدأت الأمور في الثغر الأعلى، إذ قسمت مملكة ابن هود بين أولاده الخمسة كما سيجىء، بيد أن المأمون لم يلتزم السلم والهدوء طويلا، بل اتجه إلى مخاصمة بني الأفطس جيرانه من الغرب، ونشبت بينه وبين المظفر ابن الأفطس صاحب بطليوس سلسلة من المعارك المحلية، لم تسفر عن أية نتائج ذات شأن. وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن هذه المعارك، قد نشبت بين الفريقين على الأرجح بعد سنة 443 هـ (1051 م).
وكان فرناندو ملك قشتالة، قد عاد في تلك الآونة إلى الإغارة على أراضي مملكة طليطلة، ولكن في تلك المرة لحسابه الخاص، وكان هذا الملك القوي، يطمح إلى إخضاع ممالك الطوائف الضعيفة المتخاصمة، أو على الأقل إلى أن يرهقها بمطالبه في أداء الجزية، ثم يتوصل باستصفاء أموالها إلى إضعافها. ففي سنة 1062 م (454 هـ) خرج في جيش قوي من الفرسان والرماة، وانقض على أراضي مملكة طليطلة الشمالية، فخربها وعاث فيها عيثاً شديداً، ولم يجد المأمون في النهاية بداً من أن يذعن إلى طلب الصلح، وأن يتعهد بأداء الجزية.
وكان من أهم أعمال المأمون بعد ذلك، استيلاؤه على بلنسية وأعمالها. وكانت بلنسية يومئذ تحت حكم عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر، وهو حفيد للمنصور وكان قد ولي حكمها على أثر وفاة أبيه عبد العزيز في آخر سنة 452 هـ، وكان صهراً للمأمون بن ذى النون، تزوج ابنته عقب وفاة أخيه زوجها الأول، فأهانها وأساء عشرتها، لما كان عليه من ذميم الصفات، والخلاعة، والانهماك في الشراب، والانحطاط في مهاوي اللذات الوضيعة. فحقد عليه المأمون وأضمر له الشر، وكانت ثمة أسباب سياسية أخرى لغضب المأمون على صهره، خلاصتها أنه طلب إليه أن يعاونه بالجند فاعتذر عبد الملك بأنه لا يستطيع بذل مثل هذه المعاونة، نظراً لتحالف الفتيان العامريين أمراء قسطلونة وشاطبة ومربيطر ضده، وتربصهم به. فاعتزم المأمون أمره ضد صهره، وهنالك في استيلاء
_______
(1) راجع في حروب المأمون وابن هود، البيان المغرب ج 3 ص 278 - 282، وأعمال الأعلام ص 178. وراجع دوزي: Hist. des Musulmans d'Espagne V.III.p. 74-75(2/101)
المأمون على بلنسية روايتان الأولى، أنه قدم إلى بلنسية زائراً لصهره، فاستقبله عبد الملك هو وغلمانه وعبيده بقصره، فأقام لديه أياماً، ثم دبر له في ذات ليلة كميناً، فقبض عليه وعلى ابنه، وأخرجهما ليلا إلى بلدة شنت برية، واستولى بذلك على بلنسية بأيسر أمر.
وأما الرواية الثانية فتقول لنا إن المأمون استعد سراً لغزو بلنسية، واستعان بفرقة من الجند النصارى أمده بها حليفه فرناندو الأول صاحب السيادة الاسمية عليه، وأن القوات المتحالفة دهمت بلنسية، والبلنسيون مثل أميرهم غافلون غارقون في اللهو واللعب، فلم يستطع البلنسيون دفاعاً، ومزقت قواتهم، وقتل منهم عدد جم، وأسر عبد الملك بن أبي عامر وآله، ولم ينقذ حياته سوى تدخل زوجه ابنة المأمون. وتسمي الرواية هذه الموقعة بموقعة بطرنة، وهي بلدة من ضواحي بلنسية، وتنسب وقوعها إلى سنة 455 هـ أو 457 هـ أو 458 هـ، بيد أن المرجح أنها وقعت في ذي الحجة سنة 457 هـ (أكتوبر سنة 1065 م). وتختلف الرواية في مصير عبد الملك بن أبي عامر، فيقال إن صهره المأمون اعتقله في شنت برية أو قلعة إقليش، أو قلعة قونقة (1).
ولم يمض قليل على ذلك حتى توفي فرناندو ملك قشتالة (ديسمبر 1065)، وثارت بين أولاده الثلاثة سانشو ملك قشتالة، وألفونسو ملك ليون، وغرسية ملك جليقية، حرب أهلية استمرت أعواماً، وانتهت مرحلتها الأولى في سنة 1071 م، بانتصار سانشو واغتصابه ملك أخويه، والتجأ غرسية إلى حماية ابن عباد ملك إشبيلية، والتجأ ألفونسو إلى حماية المأمون بن ذى النون، وعاش في بلاط طليطلة زهاء تسعة أشهر معززاً مكرماً، حتى توفي أخوه سانشو قتيلا تحت أسوار سمورة، حينما أراد انتزاعها من يد أخته أوراكا، فغادر طليطلة إلى ليون واسترد عرشه. ويقال إنه حينما وصل إليه نبأ وفاة أخيه وهو بطليطلة أخفاه، وأراد أن يغادرها سراً، ففطن المأمون إلى ذلك، وحاول اعتقاله، ولكنه استطاع الفرار. وعلى أي حال، فإن ألفونسو، استطاع خلال إقامته بطليطلة في ضيافة صديقه وحاميه المأمون، أن يدرس أحوالها وأحوال بلاطها،
_______
(1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 252 و 253 و 261 و 267 و 303، ودوزي: Hist. des Musulmans d'Espagne V.III.p. 79 , وراجع أيضاً اشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (الطبعة الثانية سنة 1958) ص 49.(2/102)
ومواطن ضعفها، وأن يستغل ذلك فيما بعد، في تدبير القضاء على مملكة المحسن إليه (1).
وقد أشرنا من قبل عند الكلام على دولة بني جهور بقرطبة، إلى ما حدث من محاولة المأمون بن ذى النون غزو قرطبة، وانتزاعها من يد الجهاورة، وكيف استغاث عبد الملك بن جهور بصديقه ابن عباد، فبعث إليه بالمدد تحت إمرة قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، ورد المأمون عن المدينة، ولكن قوات ابن عباد استولت عليها بطريقة غادرة، وفقاً لخطة سرية وضعها المعتمد ابن عباد من قبل، وانتهى الأمر بالقضاء على دولة الجهاورة (462 هـ - 1070 م) وندب المعتمد لحكمها ولده الحاجب سراج الدولة عباداً بن محمد بن عباد، وأبقى معه حامية بقيادة ابن مرتين.
ولكن المأمون بن ذى النون لم يقف عند هذا الحد، ولبث يتحين الفرصة لتنفيذ مشروعه في الاستيلاء على قرطبة، وهنا لجأ إلى سلاح التآمر والدس، فاتصل برجل من رجاله يدعى حكم بن عكاشة، وكان مغامراً وافر الجرأة، وكان من قبل من معاوني ابن السقاء، وزير بني جهور، فلما قتل ابن السقاء، قبض عليه فيمن قبض عليهم، وزج إلى السجن، ففر من محبسه ولحق بالمأمون ابن ذى النون، فاستخدمه وولاه أحد الحصون القريبة من قرطبة، وكان "شهماً صارماً". وتفاهم المأمون مع ابن عكاشة، على تدبير مؤامرة للفتك بالعباديين وأميرهم، والاستيلاء على قرطبة. فوضع ابن عكاشة خطته، ولبث يدبر أمره، ويحشد إلى جانبه من استطاع من المغامرين، وفي ذات ليلة دخل المدينة في جمع من شيعته بواسطة رجال من أنصاره فتحوا له الأبواب، ولم يفطن قائد العباديين ابن مرتين إلى ما يحدث من حوله، وكان رجلا متهاوناً، عاكفاً على لهوه وشرابه. وقصد المغيرون دار ابن جهور حيث كان يقيم سراج الدولة، ودهموه على غرة، فلقيهم في نفر من رجاله، وقتل مدافعاً عن نفسه. ثم قصدوا بعد ذلك إلى دار ابن مرتين، وكان منكباً على لهوه، فلما وقف على الخبر، فر تحت جنح الظلام، ولكنه أخذ بعد أيام قلائل وقتل. وفي صباح اليوم التالي
_______
(1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 232، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 124، وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas p. 53(2/103)
كانت خطة ابن عكاشة قد كللت بالنجاح، فبسط حكمه على المدينة، وانضم إليه كثيرون من الدهماء، ودعا الناس إلى بيعة المأمون بن ذى النون وطاعته، وبعث إليه برأس سراج الدولة. وكان المأمون يقيم يومئذ في بلنسية، فقدم على عجل، ودخل قرطبة في موكب عظيم، وذلك في أواخر جمادى الآخرة سنة 467 هـ (1075 م). ولكنه لم يلبث طويلا حتى مرض وتوفي بعد ذلك بأشهر قلائل، في أواخر ذي القعدة من نفس العام. واحتمل جثمانه إلى طليطلة ودفن بها. ويقال إنه توفي مسموماً. وتولى ابن عكاشة من بعده حكم قرطبة، نائباً عن يحيى القادر بن ذى النون حفيد المأمون وخلفه في حكم طليطلة. وكانت وفاة المأمون إيذاناً بتطور الحوادث. ذلك أن المعتمد بن عباد، مذ قتل ولده وضاعت قرطبة، كان يضطرم رغبة في استرداد المدينة والانتقام لولده، وكان جماعة من أهل قرطبة قد بعثوا إليه يدعونه للقدوم، فما كاد المأمون يختفي من الميدان، حتى زحف على قرطبة في قواته، وأدرك ابن عكاشة أن لا طاقة له بالمقاومة، ففر من المدينة، ودخلها جند ابن عباد على الأثر، وبعث المعتمد في أثر ابن عكاشة سرية من الفرسان طاردته حتى ظفرت به وقتلته، وجىء به فصلب مع كلب إمعاناً في الزراية به، وفر ولده حريز بن عكاشة إلى طليطلة، فولاه يحيى بن ذى النون حاكماً لقلعة رباح (1)، وكان حريز هذا شاعراً مطبوعاً ذكره الفتح في " مطمح الأنفس " (2).
وكان المأمون بن ذى النون من أعظم ملوك الطوائف، وأطولهم عهداً، إذ حكم ثلاثة وثلاثين عاماً، وامتدت رقعة مملكة طليطلة في عهده حتى وصلت شرقاً إلى بلنسية، وازدهرت وعمها الرخاء. وجمع المأمون ثروات طائلة، وابتنى بعاصمته قصوراً باذخة اشتهرت في ذلك العصر بروعتها وفخامتها. وكان منها مجلسه الشهير المسمى " المكرم " كان آية في الروعة والبهاء. وقد نقل إلينا ابن حيان عن ابن جابر، وقد كان من شهوده في حفلة من حفلات المأمون الباذخة، بعض أوصافه. قال: " وكنت ممن أذهلته فتنة ذلك المجلس، وأغرب ما قيد لحظي
_______
(1) أعمال الأعلام ص 158 و 159، وابن خلدون ج 4 ص 161، وراجع دوزي: Hist.Abbadidarum V.II.p. 122-126
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 196. والقاهرة ج 2 ص 179.(2/104)
من بهي زخرفه، الذي كاد يحبس عيني عن الترقي عنه، إلى ما فوقه، إزاره الرائع الدائر بأسِّه حيث دار، وهو متخذ من رفيع المرمر الأبيض المسنون، الزارية صفحاته بالعاج في صدق الملاسة، ونصاعة التلوين، قد خرمت في جثمانه صور البهائم وأطيار وأشجار ذات ثمار، وقد تعلق كثير من تلك التماثيل المصورة بما فيها من أفنان أشجار وأشكال الثمر. وكل صورة منها منفردة عن صاحبتها، متميزة من شكلها، تكاد تقيد البصر عن التعلي إلى ما فوقها. قد فصل هذا الإزار عما فوقه كتاب نقش عريض التقدير، مخرم محفور، دائر بالمجلس الجليل من داخله، مرقوم كله بأشعار حسان، قد تخيرت في أماديح مخترعه المأمون. وفوق هذا الكتاب الفاصل في هذا المجلس، بحور منتظمة من الزجاج الملون الملبس بالذهب الإبريز، وقد أجريت فيه أشكال حيوان وأطيار، وصور أنعام وأشجار، يذهل الألباب ويقيد الأبصار. وأرض هذه البحار مدحوة من أوراق الذهب الإبريز، مصورة بأمثال تلك التصاوير من الحيوان والأشجار بأتقن تصوير، وأبدع تقدير ".
ثم قال: " ولهذه الدار بحيرتان، قد نصت على أركانهما صور أسود مصنوعة من الذهب الإبريز، أحكم صياغة تتخيل لمتأملها، كالحة الوجوه، فاغرة الشدوق، ينساب من أفواهها نحو البحيرتين الماء، هوناً كرشيش القطر أو سحالة اللجين. وقد وضع في قعر كل بحيرة منها حوض رخام يسمى المذبح، محفور من رفيع المرمر، كبير الجرم، غريب الشكل، بديع النقش، قد أبرزت في جنباته، صور حيوان وأطيار وأشجار ... ".
وذكر ابن بدرون أن المأمون يحيى بن ذى النون صاحب طليطلة، بنى بها قصراً تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالا كثيراً، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل على القبة حواليها محيطاً بها، متصلا بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر، والمأمون قاعد فيها لا يمسه من الماء شىء، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل (1).
_______
(1) نقله نفح الطيب ج 2 ص 523. وراجع " سراج الملوك " للطرطوشي (القاهرة) ص 45.(2/105)
ونقل إلينا ابن حيان أيضاً، عن ابن جابر أوصاف ذلك الحفل الباهر الذي أقامه المأمون، احتفالا بختان حفيده يحيى، الذي تولى الحكم فيما بعد باسم القادر، وفيه من صور البذخ والإغداق والسعة ما ينم عن الغنى الطائل، الذي حققه بنو ذو النون، واتسم به بلاطهم. بيد أن المأمون كان بالرغم من ذلك ينسب إلى التقتير والشح، وكان قليل من الشعراء يقصدون إليه للمديح " لقلة نائله، وتفاهة طائله " على حد قول ابن بسام (1).
والواقع أنه لم يكن ببلاط بني ذى النون للشعر والأدب دولة زاهرة، كما كان الشأن في إشبيلية وألمرية وبطليوس. بيد أننا نجد مع ذلك أكابر شعراء العصر وعلمائه يعيشون في ظل المأمون، وكان من هؤلاء شاعره ابن أرفع رأس، صاحب الموشحات المشهورة، والعلامة الرياضي ابن سعيد مؤلف تاريخ العلوم المسمى "طبقات الأمم"، وكان يلقي دروسه في المسجد الجامع، والعلامة النباتي ابن بصّال الطليطلي.
وقد رأينا فيما تقدم كيف ينوه ابن حيان أيضاً، بما جبل عليه مؤسس دولة بني ذى النون اسماعيل، من البخل والتقتير، ومع ذلك فإنه مما يلفت النظر حقاً، أن ابن حيان لم يجد من يهدي إليه مؤلفه التاريخي الضخم، سوى المأمون بن ذى النون، إذ يقول لنا في مقدمته إنه كان بعد تأليفه ينوي الاستئثار به لنفسه، وأن يخبئه لولده ضناً بفوائده الجمة على من تنكب إخماده به إلى ذمه ومنقصته، ثم يقول: " إلى أن رأيت زفافه إلى ذى خطبة سنية، أتتني على بعد الدار، أكرم خاطب، وأسنى ذى همة، الأمير المؤثل الإمارة، المأمون ذى المجدين، الكريم الطرفين يحيى بن ذى النون " (2).
- 2 -
وخلف المأمون حفيده يحيى بن ذى النون الملقب بالقادر. ذلك أن هشاماً ولد المأمون، توفي قبل وفاته أو أنه قد حكم بضعة أشهر فقط ثم توفي (3). وكان القادر
_______
(1) راجع ما نقله ابن بسام في الذخيرة عن ابن حيان، في أوصاف الحفلات والقصور المأمونية، القسم الرابع المجلد الأول ص 99 - 104 و 114.
(2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 88.
(3) راجع ابن خلدون ج 4 ص 161، وأعمال الأعلام ص 171. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas (Cit.Cronica General p. 54,nota)(2/106)
فتى حدثاً، قليل الخبرة والتجارب قد ربي في أحجار النساء، ونشأ بين الخصيان والغانيات، فغلب على أمره العبيد والموالي. وكان يحكم مملكة عظيمة ولكن مفككة. وكان المأمون قد قسم الأعمال بين وزيريه الأثيرين، وهما ابن الفرج والفقيه أبو بكر بن الحديدي، وكان الأول يختص بتدبير الأجناد، والنظر في طبقات القواد، والشئون السلطانية، والأعمال الديوانية، ويختص الثاني بالنظر في الشئون المالية وشئون الرعية، وإبداء الرأي والمشورة. وأوصى المأمون قبل وفاته حفيده، بأنه متى اضطلع بالحكم، أن يعتمد على عون ابن الحديدي ونصحه، وأن يأخذ رأيه في كل أمر، واتخذ العهود الوثيقة على ابن الحديدي، أن يخلص النصح لحفيده، وأن يشد أزره بكل ما وسع. بيد أنه لم يمض سوى قليل، حتى بدأ نفر من خاصة القادر يسعون لديه في حق ابن الحديدي، ويوغرون صدره عليه، ويقنعونه بأنه لا يمكن أن يحكم بصورة حقيقية، حتى يتخلص من نير ابن الحديدي وطغيانه؛ وكان المأمون قد قبض من قبل بإيعاز ابن الحديدي على جماعة من أعيان طليطلة، واعتقلهم بالمعتقل خشية انتقاضهم فرأى القادر بعد أن استقرت لديه فكرة التخلص من ابن الحديدي، أن يستظهر بهم عليه، فأطلقهم واستدعاهم إلى مجلسه، فلما حضر ابن الحديدي ورآهم، استشعر الخطر، وحاول أن يلوذ بحماية القادر، فغادر القادر المكان، وفتك الحضور بابن الحديدي، ونهبت دوره، وكان ذلك في أوائل المحرم سنة 468 هـ (1076 م).
ولم يلبث القادر أن أدرك سقطته؛ وأخذ يجني ثمار جريمته. فقد وهم أنه تخلص من نير ابن الحديدي، ولكنه وقع في براثن تلك الطغمة التي آزرته في الجريمة، وبدأ أولئك الأعيان الحاقدون، خصوم جده القدماء، يحيكون له الدسائس، ويضعون الصعاب في طريقه، ويثيرون الشعب ضده، حتى ضعف سلطانه، وبدأت أعراض الثورة تبدو في النواحي. وكان ابن هود صاحب سرقسطة، يرهقه بمطالبه وغاراته، ويستعين ضده بالجند النصارى، حتى انتهى بأن انتزع منه مدينة شنتبرية. ومن جهة أخرى فقد ثار أبو بكر بن عبد العزيز ببلنسية وخلع طاعة بني ذى النون، ونادى بنفسه أميراً مستقلا، فداخله ابن هود وخطب إليه ابنته أملا في أن يستطيع بذلك التغلب على بلنسية. وكادت مدينة(2/107)
قونقة تسقط في يد سانشو راميرز ملك أراجون، لولا أن افتداها أهلها بمبلغ كبير من المال. وحاول القادر أن يرد خصومه، فبعث جنده تحت إمرة الفتى بشير لمقاتلة ابن هود وراميرز، ولكنهما انصرفا دون قتال. وعندئذ اضطر القادر أن يتجه ببصره إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وأن يلتمس عونه وحمايته.
وكان المأمون قد اعترف بطاعته من قبل، وقبل تأدية الجزية. وحذا القادر بالطبع حذوه، ولكن ملك قشتالة أخذ عندئذ يشتط في مطالبه، ويطالب القادر بالمال تباعاً، وبتسليم بعض حصونه القريبة من الحدود، وقد تسلم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك والقادر عاجز عن رده، مرغم على إرضائه، حتى كادت خزائنه تنضب، وكان خصومه في الداخل من جهة أخرى يدبرون السعي لإسقاطه. وأخيراً اضطرمت طليطلة بالثورة، فاضطر القادر أن يلوذ بالفرار، وأن يلجأ مع أهله وولده إلى حصن من حصونه الشرقية، هو حصن وبذة (472 هـ) وألفى أهل طليطلة أنفسهم بلا أمير، ولا حكومة تقي المدينة شر الفوضى، فرأى الجماعة منهم أن يستدعوا المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس، ليتولى أمرهم، وقبل المتوكل هذه المهمة كارهاً، وقدم إلى طليطلة، وقام بالأمر فيها.
وفي تلك الأثناء سار القادر بن ذى النون من ملجئه إلى مدينة قونقة، وكتب إلى ألفونسو ملك قشتالة يذكره بسالف الود بينه وبين جده المأمون، وما كان للمأمون من فضل في عونه وإغاثته، ويطلب منه العون في محنته. فاستجاب ألفونسو لدعوته، وهو يزمع في قرارة نفسه، أن ينتهز كل فرصة سانحة، وسار معه إلى طليطلة في سَريَّة من فرسانه. وكان المتوكل بن الأفطس خلال ذلك يجد في اقتناص كل ما يستطيع اقتناصه من أسلاب القادر، من أثاث وفراش وآنية وسلاح وكتب وغيرها، حتى بعث منها إلى بطليوس المقادير الجمة.
فلما شعر بحركة ألفونسو ومقدم القادر، غادر طليطلة مسرعاً إلى حاضرته، وذلك بعد أن قضي في حكمها زهاء عشرة أشهر، ويقال إن ألفونسو حاصر طليطلة بقواته، واضطر ابن الأفطس أن يغادرها بطريق الفرار (إبريل 1080) (1).
_______
(1) ابن الخزرجي في كتاب الاكتفاء في أخبار الخلفاء، ونقله دوزي في: Hist.Abba-didarum V.II.p. 16(2/108)
ودخل القادر طليطلة في حمى ألفونسو وجنده النصارى، بعد أن تصدى له أهلها وحاولوا رده بالقوة، فنكلت بهم الجند النصارى، ومزقوهم شر ممزق، وجلس القادر مرة أخرى على عرشه المضطرب الواهي، والفوضى تسود المدينة، وأهلها في كدر ووجوم، يتوقعون من تلك الحال سوء المصير، وكان ذلك في آخر سنة 474 هـ (1081 م) (1).
- 3 -
والواقع أن كل شىء كان ينذر بوقوع النكبة المرتقبة. ذلك أن ألفونسو السادس ملك قشتالة كان يدبر خطته الكبرى للاستيلاء على طليطلة، وكانت وهي في يد ملكها الضعيف المتخاذل، تبدو له ثمرة دانية القطوف، بعد أن غدا القادر في يده شبه أسيره. وتقول لنا الروايات القشتالية إن القادر كان حينما طلب من ألفونسو معاونته على استرداد المدينة، قد تعهد له بأن يحكمها باسمه، وأن يسلمها إليه متى شاء، على أن يعاونه على استرداد بلنسية لتكون مقر إمارته. بيد أن الحوادث التالية، وموقف القادر في الدفاع عن مدينته، يجعلنا نشك في أنه قطع مثل هذا العهد. وعلى أي حال فإن سقوط طليطلة في يد القشتاليين، لم يحدث بدون ممهدات ووقائع عنيفة.
وكان ألفونسو إلى جانب خططه العسكرية، قد مهد لمشروعه بأعمال السياسة.
وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لما رأى من استفحال قوة ألفونسو، وتغلبه على سائر ممالك الطوائف المتاخمة لمملكته، قد خشي أن ينساب تيار الغزو إلى أراضيه، ورأى أن عقد المهادنة والصلح مع ملك قشتالة، هو خير ضمان لاتقاء شره، وسلامة مملكته. فبعث وزيره البارع ابن عمار إلى ليون ليفاوض ملك قشتالة، وانتهى ابن عمار إلى أن عقد معه معاهدة، يتعهد فيها ملك قشتالة بأن يعاون ابن عباد بالجند المرتزقة ضد سائر أعدائه من الأمراء المسلمين، ويتعهد ابن عباد مقابل ذلك، بأن يؤدي إلى ملك قشتالة جزية كبيرة، ويتعهد بالأخص بما هو أهم، وهو أن يتركه حراً طليقاً في أعماله ضد طليطلة، وألا يعترض مشروعه في الاستيلاء عليها. وربما كان في الرسالة التي بعث بها المعتمد فيما بعد إلى
_______
(1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 124 - 127.(2/109)
ألفونسو السادس ما يؤيد هذه الرواية، حيث يعرب المعتمد عن ندمه لمسالمة ملك قشتالة. وقعوده عن نصرة إخوانه. وتزيد الروايات القشتالية على ذلك أن المعتمد ابن عباد قدم في هذه المناسبة أو في مناسبة لاحقة، إحدى بناته لتكون زوجة أو حظية لملك قشتالة، وهي التي تعرفها التواريخ القشتالية "بزائدة" وذلك لكي يكون مهرها ما استولى عليه من أراضي طليطلة، حتى لا ينزع النصارى منه هذه الأراضي، وهي قصة سوف نتناولها في موضعها، عند الكلام على الفتح المرابطي لمملكة إشبيلية.
وفي هذا الوقت كان معظم ملوك الطوائف، قد خضعوا لوعيد ملك قشتالة، وتعهدوا بأن يؤدوا له الجزية، إلا ملك بطليوس الشهم عمر المتوكل، حسبما ذكرنا ذلك في موضعه، فكان ألفونسو السادس بذلك على يقين من أن الجو قد أضحى ممهداً لتنفيذ مشروعه، وأنه لن يجرأ أحد أن يقف في طريقه. وكان مما يقوي أمله أن أهل طليطلة، لم يكونوا على وفاق فيما بين أنفسهم، وأن حزباً قوياً منهم يناصر سياسته وأطماعه، ويشجعه على العمل، وكانت الغزوات والحملات المتوالية، التي شنها ألفونسو على أراضي طليطلة، حتى ذلك الحين، سواء لحسابه الخاص، أو بحجة معاونة القادر ضد الثوار عليه، قد نالت من هاتيك السهول، وخربت كثيراًَ من ربوعها النضرة، وأشاعت فيها الضيق والحاجة، وأخذت العاصمة طليطلة، تتأثر بهذا الضغط على مواردها، بيد أن ألفونسو كان يزمع أن يستمر في حملاته المخربة حتى يتم تجريد المدينة العظمى من سائر مواردها.
وقد بدأت هذه الحملات الجديدة منذ سنة 474 هـ (1081 م)، أي مذ عاد القادر إلى عرشه، واستمرت أربع سنوات كاملة، وكانت تنظم بتواطىء الحزب الموالي من أهل طليطلة، وهو الحزب الذي تصفه الرواية القشتالية بالحزب " المدجّني " أي الموالي لملك النصارى، وفي كل عام يجتاح ألفونسو بقواته أراضي طليطلة من سائر جنباتها، ويخرب الضياع، ويقطع الأشجار، ويبيد الزروع، ويسبي الذرية، ولا يجد أمامه من يرده عن ذلك العيث. وكان من الواضح أن هذه الأعمال المدمرة، سوف تنتهي بالقضاء على كل موارد طليطلة، وبتجريدها من وسائل الدفاع، وهو ما كان يرمي إليه ملك النصارى.
وكان موقف ملوك الطوائف في تلك الآونة العصيبة من حياة اسبانيا المسلمة،(2/110)
موقفاً يثير الألم والحسرة معاً. فقد كان أعظمهم وأقواهم المعتمد بن عباد، بعد أن تفاهم مع ألفونسو السادس، على تركه وشأنه في مشاريعه نحو طليطلة، مشغولا بمحاربة عبد الله بن بلقِّين بن باديس صاحب غرناطة. وكان المقتدر بن هود أقوى الأمراء المتاخمين لمملكة طليطلة من ناحية الشمال والشرق، مشغولا بنضاله المستمر ضد هجمات ملك أراجون وأمراء برشلونة. وكانت دول الطوائف الشرقية والجنوبية، بعيدة عن ميدان الخطر، لا تستطيع حتى إذا شاءت، لبعد الشقة، أن تقوم بإنجاد طليطلة بصورة ناجعة. وهكذا عدمت طليطلة كل مصدر للعون الحقيقي، كل ذلك والموقف يتحرج، وألفونسو السادس ماض في غزواته المدمرة، حتى أضحت سهول طليطلة كلها خراباً يباباً. ولم يكن يخفى على عقلاء المسلمين أن الموقف عصيب، وأن سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله، فبادر جماعة منهم إلى الحث على الاتحاد واجتماع الكلمة إزاء الخطر المشترك، ونهض القاضي العلامة أبو الوليد الباجي، بإشارة المتوكل بن الأفطس، حسبما تقدم، فطاف بالولايات والقواعد الأندلسية صائحاً منذراً، محذراً من عواقب التفرق، وهو يهيب بملوك الطوائف وشعوبها، أن يبادروا إلى نجدة طليطلة، مؤكداً أن ملك قشتالة سوف يسحق دول الطوائف كلها، واحدة بعد الأخرى. ولكن جهود أولئك الرسل العقلاء الذين كانوا يستشقون ببصرهم الثاقب، ما يضمره المستقبل من ويل، ذهبت كلها سدى، وغلبت الأطماع والأهواء الشخصية، على كل تفكير سليم ومبدأ حكيم، ولبث ملك إشبيلية وهو أولى وأقرب من تقع عليه تبعة الإنجاد، يشهد تفاقم الخطب جامداً معرضاً، وكل همه أن يحتفظ بما انتزعه من أراضي مملكة طليطلة الجنوبية، ولم يتقدم لإنجاد القادر وإنجاد أهل طليطلة، سوى أمير بطليوس الشهم عمر المتوكل بن الأفطس، فقد نزل إلى ميدان النضال ضد ألفونسو السادس، وحاول مدافعته، فبعث ولده الفضل والي ماردة في جيش قوي، ليحاول رد ألفونسو عن طليطلة. ولكنه لم يستطع مغالبة قوى النصارى المتفوقة عليه في العدد والعدة، فارتد آسفاً بعد أن خاض معارك دامية. وكان المتوكل قد بذل مثل هذه المحاولة قبل ذلك ببضعة أعوام في سنة 471 هـ، وتغلب عليه(2/111)
أيضاً ألفونسو السادس، وانتزع منه مدينة قورية من أملاكه الشمالية المجاورة لأراضي طليطلة.
وهكذا تركت المدينة المنكوبة لمصيرها. وفي خريف سنة 477 هـ (1084 م) اقترب ألفونسو السادس بقواته من المدينة، ونزل بالمنية المسورة الواقعة في منحنى نهر التاجُه، وهي المنية الشهيرة التي كان المأمون بن ذى النون قد زودها بالقصور الفخمة والبساتين اليانعة، وجعل منها جنة يخلد إليها أيام أنسه ولهوه، وهي التي تعرفها الرواية القشتالية ببستان الملك Huerta del Rey. ويقول ابن بسام في وصفها " المنية المسورة، التي كان المأمون يحشد إليها كل حسن، ويباهي بها جنة عدن " (1). وضرب ألفونسو الحصار حول طليطلة. ثم دخل الشتاء, وشحت الأقوات، واشتد الأمر بأهل المدينة. وكان موقف القادر بن ذى النون مريباً، ولم يكن دون شك متفقاً في الشعور مع الحزب المناوىء لملك قشتالة المتشدد في مقاومته، وكان جماعة من هؤلاء يعملون بكل ما وسعوا لإطالة أمد المقاومة، عسى أن يمل ملك قشتالة ويخبو عزمه، أو أن يتقدم لإنجادهم أحد.
وكان الأمر يشتد بالمدينة المحصورة يوماً عن يوم، حتى تحرج الموقف, واضطر الزعماء والقادة بالاتفاق مع القادر أن يرسلوا إلى ملك قشتالة وفداً للتحدث في أمر الصلح، فأبى أن يستقبلهم، واستقبلهم وزيره سسنندو (ششنند). وكان هذا الوزير في الأصل من النصارى المستعربين، أسر حدثاً وربي في بلاط إشبيلية، وظهر أيام المعتضد بن عباد، وسفر بينه وبين فرناندو ملك قشتالة، ثم نزح إلى جلِّيقية، وخدم فرناندو، ثم من بعده ولده ألفونسو، وكان داهية ذا براعة فائقة، فانتهى بأن وطد صولة ألفونسو لدى معظم ملوك الطوائف، والتزموا بأداء الجزية. فلما قصد إليه وفد طليطلة استمع إليهم، وأبدى أنه لا فائدة من المفاوضة، وأنه لا أمل بأن يتزحزح الملك النصراني عن موقفه قيد شعرة، وأنه لابد من تسليم المدينة. ويقول لنا ابن بسام في هذه المناسبة إن سسنندو أدخل زعماء طليطلة لدى مليكه، وأن ألفونسو حين أفضوا إليه أنهم ينتظرون العون والإنجاد من بعض ملوك الطوائف، أنبهم وسخر منهم، واستدعى من خيامه
_______
(1) ابن بسام في الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 128. ويقوم اليوم مكانها حصن سان سرفاندو San Servando(2/112)
سفراء ملوك الطوائف، وقد كانوا جميعاً يومئذ لديه يسعون إلى خطب وده، ويقدمون إليه الأموال، وأن زعماء طليطلة خرجوا من لدنه، يتعثرون في أذيالهم، وقد فقدوا كل أمل وأيقنوا بسوء المصير (1).
وكان قد مضى على حصار القشتاليين للمدينة يومئذ زهاء تسعة أشهر، وقد تفاقم الخطب، وبلغت الشدة بالمحصورين أقصاها، وتحطمت كل محاولة لعقد الصلح مع ملك قشتالة، سواء من جانب القادر للاعتراف بطاعته والحكم باسمه، أو من جانب زعماء المدينة، ولم تجد صلابة أولئك الذين تمسكوا بالمقاومة والدفاع حتى الموت شيئاً، وغلب صوت العامة الذين أضناهم الجوع والحرمان. ولم تمض ثلاثة أيام على تلك المقابلة، حتى عرضت المدينة التسليم لملك قشتالة. ويلخص الأب ماريانا، وهو من أقدم المؤرخين الذين كتبوا عن سقوط طليطلة شروط التسليم فيما يلي: " أن يسلم القصر وأبواب المدينة والقناطر وحديقة الملك (وقد كانت حديقة نضرة غناء على ضفة التاجه) إلى الملك ألونسو (ألفونسو)، وأن يذهب الملك المسلم حراً إلى مدينة بلنسية وفقاً لرغبته، وأن يسمح بالحرية لمن شاء أن يتبعه من المسلمين، وأن يأخذوا معهم أموالهم. وأما الذين يقيمون في المدينة، فلا تؤخذ منهم أمتعتهم ولا أملاكهم، وأن يبقى المسجد الجامع بأيدي المسلمين يقيمون فيه شعائرهم، وألا تفرض عليهم ضرائب أكثر مما كانوا يدفعونه لملوكهم، وأن تجري عليهم أحكام شريعتهم، وعلى يد قضاتهم المسلمين دون غيرهم، وأن يقسم الطرفان كل وفق تقاليده على احترام هذه العهود، وأخيراً أن يقدم أهل المدينة لفيفاً من أعيانهم كرهائن ". على أن هذا النص الذي يقدمه ماريانا ينقصه شىء من الدقة في بعض تفاصيله. والمتفق عليه، أن شروط تسليم طليطلة قد صيغت على النحو الآتي: أن يؤمن أهل المدينة في النفس والمال، وأن يغادرها من شاء منهم حاملين أموالهم، وأن يسمح لمن عاد منهم باسترداد أملاكهم، وأن يؤدي المقيمون بها إلى ملك قشتالة ما كانوا يؤدونه لملوكهم من الضرائب والمكوس وأن يحتفظ المسلمون إلى الأبد بمسجدهم الجامع، وأن يتمتعوا أحراراً بإقامة شعائرهم وأن يحتفظوا بقضاتهم وشريعتهم، وأن يسلموا إلى ملك قشتالة سائر القلاع
_______
(1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129 و 130.(2/113)
والحصون والقصر الملكي، والمنية المسورة التي كان ينزل بها ملكهم. وأما بالنسبة ْللقادر فقد تكفل ملك قشتالة بأن يمكنه من الاستيلاء على بلنسية، وقيل بل عرض عليه أيضاً أن يحصل له على دانية وشنتمرية الشرق، إذ كان يعرف جيداً أنها إذا خلصت للقادر، فستكون في الواقع ملكاً له ورهن تصرفه، وأن القواعد الشرقية كلها سوف تخضع له عن طريق ملكها الإسمي الضعيف، أعني القادر (1).
تلك هي الشروط التي اتفق عليها لتسليم طليطلة، وتظاهر ملك قشتالة بقبولها، وتعهد باحترامها وعدم النكث بها. وكان ذلك في اليوم السادس من شهر مايو سنة 1085 م. ومضى على ذلك زهاء أسبوعين آخرين، كان يستعد خلالهما القادر لتهيئة أسباب الرحيل، وإخلاء المدينة. وفي يوم الأحد الخامس والعشرين من مايو (فاتحة شهر صفر سنة 478 هـ) دخل ألفونسو السادس مدينة طليطلة ظافراً، ونزل في الحال بقصرها المشهور، وهو الذي كان ينزل به أيام محنته في ضيافة المأمون، وعهد بحكم المدينة إلى سسنندو، فسلك مع أهلها مسلك المودة واللين، وبذل جهده ليخفف عنهم وقع هذا التبديل في مصايرهم، فاستمال قلوب الكثيرين منهم، وأقبل بعض العامة على التنصر، ونصح سسنندو إلى مليكه أن يلتزم الاعتدال والروية في معاملة المدينة المفتوحة، وأن يقف مؤقتاً عند هذا الحد، وألا يلح على ملوك الطوائف خوفاً من أن تنقلب الآية، فيتجهوا بأبصارهم إلى وجهة أخرى (2).
واستتبع استيلاء ألفونسو على طليطلة استيلاؤه على سائر أراضي مملكة طليطلة، الباقية بعد الذي استولى عليه منها ابن عباد صاحب إشبيلية، أعني قسمها الواقع شمال نهر التاجه من طلبيرة غرباً حتى وادي الحجارة وشنتبرية شرقاً، وهي تتضمن ثمانين موضعاً بها مساجد، هذا عدا القرى والضياع (3).
أما الملك المنكود يحيى القادر بن ذى النون، فقد غادر طليطلة بأهله وأمواله، ومعه جماعة كبيرة من الكبراء والأشراف الذين آثروا مغادرة المدينة المفتوحة
_______
(1) Mariana: Historia General de Espana (Cap. 16) . وكذلك: R. Menendez Pidal: La Espana del Cid (Madrid 1947) p. 306
(2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 131.
(3) كتاب الإكتفاء للخزرجي، ونقله دوزي في: Hist. Abbadidarum V.II.p. 29(2/114)
قاصداً إلى بلنسية، واستقر أياماً بمحلة ملك قشتالة واضعاً نفسه تحت حمايته، وكان ملك قشتالة قد وعده بأنه إذا تعذر تحقيق غايته في الحصول على بلنسية بطريقة سلمية، فإنه سوف يبعث لمعاونته قائده الشهير ألبرهانيس. وقد ظهر للقادر بالفعل، خلال مسيره من موقف الحصون المختلفة، أنها جميعاً تقف ضده ولم يبق على ولائه منها سوى حصن قونقة، فنزل به القادر وصحبه، حتى تتهيأ له ظروف العمل. وسوف نعود إلى تتبع أخباره فيما بعد.
ويصف لنا ابن بسام خروج القادر من طليطلة في تلك العبارات اللاذعة:
" وخرج ابن ذى النون خائباً مما تمناه، شرقاً بعقبى ما جناه، والأرض تضج من مقامه وتستأذن في انتقامه، والسماء تود لو لم تُطلع نجماً إلا كدرته عليه حتفاً مبيداً، ولم تنشىء عارضاً، إلا مطرته فيه عذاباً شديداً، واستقر بمحلة أذفنش، مخفور الذمة، مذال الحرمة، ليس دونه باب، ولا دونه حرمه ستر ولا حجاب " (1).
ويبدي ابن الخطيب شماتته في القادر وفي أهل طليطلة حين يقول: " واقتضاه الطاغية الوعد، وسلبه الله النصر والسعد. وهلكت الذمم، واستؤصلت الرمم، ونفذ عقاب الله في أهلها جاحدي الحقوق، ومتعودي العقوق، ومقيمي أسواق الشقاق والنفاق، والمثل السائر في الآفاق " (2).
* * *
وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى، وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد، وارتدت إلى النصرانية حظيرتها القديمة، بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً. ومن ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة، ويغدو " قصرها " منزلا للبلاط القشتالي، بعد أن كان منزلا للولاة المسلمين.
وقد كانت بمنعتها المأثورة، وموقعها الدفاعي الفذ، في منحنى نهر التاجه، حصن الأندلس الشمالي، وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها. وانقلب ميزان القوى القديم، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة، بعد أن استطاعت أن تحافظ
_______
(1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 130.
(2) أعمال الأعلام ص 181.(2/115)
عليه زهاء أربعة قرون، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لا شك فيه. ومن ذلك الحين تدخل سياسة الإسترداد الإسبانية " لاريكونكستا La Reconquista , في طور جديد قوي، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة، منذ الفتح الإسلامي، عبر نهر التاجه، إلى أراضي الأندلس، تحمل إليها أعلام الدمار والموت، وتقتطع أشلاءها تباعاً، في سلسلة لا تنقطع من الغزوات والحروب.
وكان لظفر ألفونسو السادس بالاستيلاء على طليطلة، فضلا عن آثاره المادية الخطيرة، وقع أدبي عميق في سائر ممالك اسبانيا النصرانية، فقد كانت طليطلة عاصمة المملكة القوطية القديمة، وكانت إلى جانب ذلك حاضرة اسبانيا الدينية، وقد وطد استيلاء ملك قشتالة عليها، مركز الصدارة الذي يتمتع به بين زملائه ملوك اسبانيا النصرانية، ووطد هيبته الملوكية والإمبراطورية، فأضحوا جميعاً يقرون له بلقب الإمبراطور، الذي اتخذه لنفسه. ومن جهة أخرى، فقد كان لتلك النكبة التي حلت بالإسلام في اسبانيا، أعظم وقع في جنبات الأندلس، وفي سائر أنحاء العالم الإسلامي، وقد ارتاع لها ملوك الطوائف جميعاً، وأدركوا بعد فوات الوقت، أنها نذير بالقضاء عليهم واحداً بعد الآخر، وأدرك المعتمد بن عباد ْبالأخص، وهو أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث، أنه لن يمضي وقت طويل حتى يواجه نفس الخطر الداهم. بيد أن النكبة كانت في نفس الوقت نقطة تحول عظيم في تفكير أولئك الأمراء المتخاصمين المتنابذين، ملوك الطوائف، وفي روحهم، فجنحوا جميعاً ولأول مرة إلى اجتماع الكلمة، ونبذ الشقاق، واتجهوا بأنظارهم جميعاً، إلى ما وراء البحر يلتمسون غوث إخوانهم في الدين، إلى أولئك البربر المرابطين، الذين كان لتدخلهم في سير الحوادث بالأندلس، أعظم الآثار (1).
وأذكى رزء الأندلس بفقد طليطلة، فجيعة الشعر الأندلسي، ونظمت في بكائها القصائد الرائعة. وكان من أشهرها هذه القصيدة الرائية الكبرى، التي مطلعها:
_______
(1) راجع في حوادث سقوط طليطلة: الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 127 - 132، وأعمال الأعلام ص 181، وابن خلدون ج 4 ص 161، ونفح الطيب ج 2 ص 522 و523، وراجع أيضاً R.Menendez Pidal: La Espana del Cid p. 303-307، ودوزي Hist. des Musulmans de l'Espagne, V.III.p.120 et suiv. وكذلك: P.y Vives Los Reyes des Taifas p. 54 & 56(2/116)
خريطة:
دول الطوائف والممالك الإسبانية النصرانيّة عقب سقوط طليطلة 478 هـ - 1085 م.(2/117)
لثكلك كيف تبتسم الثغور ... سرورا بعد ما يئست ثغور
أما وأبي مصاب هد منه ... ثبير الدين فاتصل الثبور
ومنها:
طليطلة أباح الكفر منها ... حماها إن ذا نبأ كبير
فليس مثالها إيوان كسرى ..
. ولا منها الخورنق والسدير
محصنة محسنة بعيد ... تناولها ومطلبها عسير
ألم تك للدين صعباً ... فذلله كما شاء القدير
وأخرج أهلها منها جميعاً ... فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلم ... معالمها التي طمست تنير
مساجدها كنائس أي قلب ... على هذا يقر ولا يطير
فيا أسفاه يا أسفاه حزناً ... يكرر ما تكررت الدهور
ومنها:
كفى حزناً بأن الناس قالوا ... إلى أين التحول والمسير
أنترك دورنا ونفر عنها ... وليس لنا وراء البحر دور
ولا ثم الضياع تروق حسناً ... نباكرها فيعجبنا البكور
لقد ذهب اليقين فلا يقين ... وغر القوم بالله الغرور
فلا دين ولا دنيا ولكن ... غرور بالمعيشة ما غرور
رضوا بالرق يالله ماذا ... رآه وما أشار به مشير
مضى الإسلام فابك دماً عليه ... فما ينفي الجوى الدمع الغزير
ونح واندب رفاقاً في فلاة ... حيارى لا تحط ولا تسير
ولا تجنح إلى سلم وحارب ... عسى أن يجبر العظم الكسير (1).
_______
(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 593 وما بعدها حيث يورد القصيدة بأكملها، وهي في أكثر من سبعين بيتاً.(2/118)
الكِتابُ الثاني
الدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس(2/119)
الفصل الأوّل
دولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة
البربر ونصيبهم من أنقاض الخلافة. بنو مناد. الخلاف بين باديس المنصور وقومه. هجرة زاوي بن زيري إلى الأندلس. انضواؤهم تحت لواء المنصور. اشتراك البربر في معركة الخلافة. محاصرتهم لقرطبة وظفر مرشحهم سليمان بالخلافة. تفريق سليمان لهم. نزول زاوي وقومه بالبيرة. إنشاء مدينة غرناطة ونزولهم بها. الحرب بين المرتضى وصنهاجة. هزيمة أهل الأندلس ومصرع المرتضى. توجس زيري من البقاء في الأندلس. رحيله إلى إفريقية. استيلاء حبوس بن ماكسن على غرناطة. حكمه وصفاته. ولده باديس يخلفه. ائتمار ابن عمه يدير به. فشل المؤامرة. الخلاف بين باديس وزهير العامري. مسير زهير إلى غرناطة. الحرب بينه وبين باديس. هزيمته ومصرعه. مصرع وزيره ابن عباس. استيلاء باديس على جيان. الحرب بين باديس وابن عباد. تدخل باديس في شئون مالقة ثم استيلاؤه عليها. مهاجمة ابن عباد لمالقة وفشله. استيلاؤه على أركش. الوزير اسماعيل بن نغرالة اليهودي. صفاته وكفاياته. ولده يوسف. بغض بلقين ولد باديس له وسعيه إلى إسقاطه. يوسف يدبر مصرعه بالسم. الخصومة بين يوسف والناية. تغير باديس على يوسف. اتجاه يوسف إلى ابن صمادح. سخط صنهاجة على يوسف وسعيهم إلى إسقاطه. سخط أهل غرناطة على اليهود. قصيدة الإلبيري في التحريض على اليهود. افتضاح مؤامرة يوسف ومصرعه. مذبحة اليهود في غرناطة. استرداد باديس لوادي آش. حوادث جيان. تولي الناية الوزارة. إئتمار الوزراء به ومصرعه. وفاة باديس. أعماله ومنشآته. عمله لتوطيد زعامة البربر. النزعة العنصرية بين البربر وأهل الأندلس. صفات باديس وخلاله. ولاية حفيده عبد الله بن بلقين. استيلاء ابن عباد على جيان. إغارته على غرناطة ورده. تحالف عبد الله مع ألفونسو السادس. اتفاق ابن عباد وألفونسو على فتح غرناطة. فشل المحاولة. تعهد عبد الله بتأدية الجزية لألفونسو. عبد الله والشئون الداخلية. الخلاف بين عبد الله وأخيه تميم صاحب مالقة. الصلح بين عبد الله وابن عباد. سقوط طليطلة وتأثيره. اتفاق عبد الله مع ملوك الطوائف على استدعاء المرابطين. حملة ابن الخطيب على عبد الله.
كان انهيار الخلافة الأموية، والسلطة المركزية، وما اقترن بذلك من الفوضى الغامرة، فرصة سانحة لظهور الزعامات البربرية، في ميدان النفوذ والسلطان. وقد ظهر البربر في الواقع، منذ أيام المنصور بن أبي عامر، واحتلوا مراكز الصدارة في الجيوش الأندلسية، واتخذهم المنصور له عضداً وسنداً، وآزر المنصور القبائل الموالية في المغرب لبني أمية، ضد أولياء الدعوة الفاطمية،(2/120)
وشد أزرهم بالمال والجند، واستطاع أن يجعل من المغرب ولاية أندلسية. فلما انهار صرح الخلافة الأموية، بعد انهيار صرح الدولة العامرية، وتواثب الزعماء والخوارج الطامحون، إلى انتزاع أشلائها، واقتسام سلطانها، استطاع الزعماء البربر أن يظفروا من ذلك بنصيب وافر. فقامت منهم دولة بني حمود في جنوبي الأندلس، وأنشأت خلافة جديدة، أحياناً في قرطبة، وأحياناً في إشبيلية ومالقة، وقامت خلالها ومن بعدها، عدة دول بربرية محلية، في غرناطة، وفي رندة، وفي مورور وشذونة، وفي قرمونة، وقامت دولة بني ذى النون في طليطلة، وحيناً في شرقي الأندلس، وقامت كذلك دولة بربرية صغيرة في أرض السهلة في شنتمرية الشرق، وإذا نحن اعتبرنا دولة بني الأفطس في بَطَلْيوس من الدول البربرية، وإنها لكذلك على أرجح الآراء، استطعنا أن نقدر المدى العظيم، الذي وصل إليه سلطان القبائل البربرية بالأندلس في عصر الطوائف.
وقد أتينا فيما تقدم على أخبار دولة بني حمود، وأخبار الدويلات البربربة، التي قامت في المنطقة الوسطى والجنوبية، على أنقاض دولة بني حمود، وبينا كيف استطاع المعتضد بن عباد، أن يقضي على هذه الدويلات واحدة بعد الأخرى، وأن يضمها جميعاً إلى مملكة إشبيلية الكبرى. وبقي علينا أن نتناول في هذا الفصل، أخبار دولة بني مناد في غرناطة، وقد كانت بعد دولة بني حمود، أقوى الدول البربرية في الجنوب.
- 1 -
إن بني مناد يرجعون في الأصل إلى قبيلة صَنهاجة البربرية الشهيرة، وهي بطن من بطون قبيلة البرانس الكبرى، وكان منزلهم بأواسط المغرب. فلما غلب العبيديون (الفاطميون) على إفريقية، وقامت دولتهم بها، انحاز بني مناد إليهم، وحاربوا إلى جانبهم الخوارج عليهم. وكان زعيمهم زيري بن مناد من أعظم أمراء البربر، وقد حارب قبائل المغرب المخالفة للعبيديين مع جوهر قائدهم، وقتل في بعض المعارك، فخلفه ولده بُلُكِّين. ولما سار المعز لدين الله في سنة 362 هـ إلى مصر، بعد افتتاحها على يد جوهر، اختار بلكين لولاية إفريقية، ثم خلفه على ولايتها ولده المنصور، ثم خلف المنصور ولده باديس. وفي خلال ذلك، كانت المعارك تضطرم في ربوع المغرب باستمرار، بين أمراء صنهاجة هؤلاء،(2/121)
وبين خصومهم من أمراء زناتة وغيرها، من القبائل الموالية لبني أمية خلفاء قرطبة. وقد تتبعنا فيما تقدم أدوار تلك المعركة، التي نشبت في المغرب، بين الدعوة الفاطمية، وبين الخلافة الأندلسية، منذ أيام الناصر لدين الله، واستعر لظاها بالأخص أيام الحكم المستنصر، ثم المنصور بن أبي عامر، وكانت صنهاجة تحمل دائما، وعلى يد بني مناد ولاة إفريقية، علم الدعوة الفاطمية، وتحمل زناتة وحلفاؤها علم الخلافة الأندلسية. وقد انتهت هذه المعركة أيام المنصور، حسبما رأينا، إلى هزيمة صنهاجة، وتوطيد سلطان الدعوة المروانية بالمغرب.
وقد حدث أيام ولاية باديس بن المنصور على إفريقية، حادث كان له فيما بعد أكبر صدى، في حوادث الأندلس. ذلك أن باديس استبد بقومه آل مناد، ووقعت بينه وبين أعمامه وأعمام أبيه، فتن ومعارك، قتل في أثنائها، عم أبيه ماكسن بن زيري بن مناد، فاستوحش الباقون من عاديته، وعولوا على مغادرة إفريقية، وكتب شيخهم زاوي بن زيري إلى المنصور بن أبي عامر، يستأذنه الجواز بقومه إلى الأندلس، للجهاد في سبيل الله، فأذن لهم، وعبر زاوي ابن زيري ومعه أبناء أخيه ماكسن المقتول، حُباسة وحَبُّوس وماكْسَن في أهلهم وأموالهم إلى الأندلس سنة 391 هـ، فأكرمهم المنصور وأنزلهم منزلا حسناً (1)، واتخذهم له بطانة وعوناً، ونظمهم مع زناتة، وسائر بطون البربر الأخرى، وقويت شوكتهم في أواخر أيام المنصور، ثم في أيام ولديه عبد الملك، وعبد الرحمن، ورجحت كفتهم في الجيش، وغدوا للدولة عضداً. وقد كان إذن المنصور لزيري وقومه، وهم من صنهاجة ألد خصوم الدعوة المروانية والدولة العامرية، بالجواز إلى الأندلس، عملا من أعمال السياسة المستنيرة، وكان غنماً مادياً وأدبياً للدولة العامرية.
_______
(1) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 17، وابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 157 و 158 و 159. ولكن هناك رواية أخرى تقول إن زاوي وقومه وفدوا على عبد الملك المظفر بن المنصور، وأنه هو الذي أذن لهم بالجواز. وهذه هي رواية ابن حيان التي أوردها صاحب الذخيرة (المجلد الأول القسم الرابع ص 61)، ويتابعه فيها صاحب البيان المغرب (ج 3 ص 263) وكذلك ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة) ج 1 ص 440 و 521. وقد أخذنا نحن بالرواية الأولى، أولا لأنها رواية عبد الله بن بلكين، وهو حفيد ماكسن أخى زاوي، وأدرى بتاريخ أسرته، وثانياً لأن ابن خلدون، وهو حجتنا الأولى في تاريخ البربر، يأخذ بها، ويحدد لنا سنة الجواز في سنة 391 هـ، أعني قبل وفاة المنصور بنحو عامين.(2/122)
بيد أن الدولة العامرية لم تعمر طويلا، فكان السقوط، وكان انهيار السلطة المركزية، وبداية عهد الفتنة والفوضى، وقام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، باغتصاب الخلافة من هشام المؤيد سنة 399 هـ (1009 م). ومن ذلك الحين يأخذ البربر بقسط بارز في تلك المعركة المضطرمة المشعبة، التي تدور حول عرش الخلافة. وكان أول باعث لإقحام البربر في تلك المعارك، ما خصهم به المهدي من الاضطهاد وسوء المعاملة، ثم تحريض عامة قرطبة على مطاردتهم، والتف البربر عندئذ حول سليمان بن الحكم خصم المهدي ومنافسه، وتوالت الخطوب والمعارك، وفتك أهل قرطبة خلال ذلك بحباسة بن ماكسن ابن أخى زيري، فازدادوا نقمة واضطراماً، وحاصر البربر قرطبة، وفتكوا بأهلها، ثم دخلوها في مناظر مروعة من العيث والسفك، وانتهى الأمر بجلوس مرشحهم سليمان على عرش الخلافة، وتلقب بالمستعين، وذلك في شوال سنة 403 هـ (مايو سنة 1013 م)، وقبض البربر، وهم الذين عاونوه ونصروه، على سائر السلطات في القصر وفي الحكومة.
وعندئذ رأى سليمان المستعين، أن يعمل على تفريق البربر في الكور والثغور، إرضاء لهم من جهة، وتفريقاً لشملهم وإبعاداً لهم عن قرطبة، من جهة أخرى، فأقطع قبيلة صنهاجة وزعماءها بني زيري بن مناد ولاية إلبيرة (غرناطة)، وأقطع بني برزال وبني يفرن ولاية جيَّان، وبني دمّر وإزداجة منطقة مورور وشذونة، وأقطع آل حمود الأدارسة ثغور المغرب، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في مواضعه، في أخبار سقوط الخلافة الأندلسية (1).
ويقول لنا الأمير عبد الله بن بلكين في مذكراته، إن صنهاجة حينما رأت تفكك الدولة، واستقلال كل أمير ببلده، اعتزموا الرحيل عن الأندلس، ولكن أهل إلبيرة، وقد كانت ولايتهم تتمتع بسعة الرقعة والخصب والنماء، ولم يكن لهم من يدافع عنهم، لجأوا إلى زاوي بن زيري، ودعوه وقومه إلى الإقامة بأرضهم ومشاركتهم في خيراتهم ونعائمهم، والدفاع عنهم، وقبل زيري وقومه دعوتهم، واستبشروا بالنزول في تلك الأرض، وطابت لهم ربوعها، وأجمعوا على الدفاع عنها.
_______
(1) راجع الفصل الأول من الكتاب الرابع من " دولة الإسلام في الأندلس ".(2/123)
وأنهم بعد أن نزلوا بأرض إلبيرة، رأوا أنها بموقعها لا تصلح للدفاع، واتفق رأيهم على أن يبتنوا في البسيط الواقع على مقربة منها، في وادي شَنيل المنحدر من جبل شُلَّير (1)، وهو البسيط الذي يحجبه الجبل، مدينة جديدة ينزلون بها، وتكون معقلهم، فشرعوا في بنيانها. وهكذا قامت مدينة غَرناطة، وكان قيامها نذيراً بخراب إلبيرة، فعفت منازلها بسرعة، وأسبل عليها النسيان ذيله، وأخذت غرناطة تنمو بسرعة وتحتل مكانها (2).
استقر بنو مناد إذاً في كورة غرناطة، لكنهم لم يكونوا بمعزل عن حوادث قرطبة. ذلك أن علياً بن حمود الإدريسي، لما استولى على عرش الخلافة في المحرم سنة 407 هـ (يوليه 1016 م)، وقتل سليمان آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس، نهض خيران العامري، فأعلن الخلاف، وأعاد الدعوة لبني أمية في شخص عبد الرحمن بن محمد من أحفاد الناصر، ولقبه بالمرتضى، وانضم إليه في تلك الحركة منذر بن يحيى التجيبي أمير الثغر، وعدة من ولاة شرقي الأندلس، وسار في جموع كبيرة لمقاتلة الحمّودبين، ولكنه عرج في جموعه أولا على غرناطة لمقاتلة جيش صَنهاجة القوي، فلقيه أميرها زاوي بن زيري في قواته، ونشبت بينهما معركة شديدة استمرت أياماً، وانتهت بهزيمة أهل الأندلس وتمزيق جموعهم، ومقتل خليفتهم المرتضى، وكان ذلك في سنة 409 هـ (1019 م).
على أن هذه المعركة كان لها أثر عميق في نفس زاوي، فبدلا من أن يرى في كسبها دليل التفوق والاستقرار، شعر بالعكس مما آنسه من مرارة القتال وروعته أن هذا النصر إن كان بداية طيبة، فقد تعقبه نكسات ومحن لا يستطيعون الصمود لها، وأن أهل الأندلس لن يتركوا مقارعة البربر، حتى يفوزوا بالقضاء عليهم.
وقال زيري لقومه، حسبما يروي لنا الأمير عبد الله: " وقد علمت وأيقنت أنه هذا يكون دأبهم أبداً (أي أهل الأندلس)، وإن كنا قد منحنا الظفر في أول صفقة، لم نأمنهم على أنفسنا وديارنا في كل حين، وهم إن قتل منهم واحد خلفه ألف، مع ميل جنسيتهم من الرعايا إليهم ". وهو ما يورده ابن حيان على لسان زيري على النحو الأتي: " إن انهزام من رأيتموه لم يكن عن قوة منا، إنما جره مع القضاء، غدر ملوكهم لسلطانهم ليهلكوه كما فعلوا. فإني عرفت ذلك من يوم
_______
(1) هو بالإسبانية Sierra Nevada أو جبل الثلج.
(2) راجع كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 18 - 22.(2/124)
نزولهم، ولذلك ما كنت أقوي نفوسكم، وقد نجانا منهم برحمته، ومضى القوم ولم يعدموا إلا رئيسهم، واستخلافه هين عليهم، ولست آمن عودهم جملة إليكم فيما بعد، فلا يكون لنا قوام بهم ". هذا ومن جهة أخرى فقد كان زاوي يخشى من غدر بربر زناتة أعدائهم الحقيقيين، ويخشى بالأخص أن يتحالفوا ضدهم مع أهل الأندلس، فتكون الطامة الكبرى عليهم. وأخيراً فقد كان زاوي يرى بعد وفاة باديس بن المنصور أمير إفريقية، الذي اضطهده وقومه، وولاية ولده الطفل المعز حفيد أخيه بلكين، أن الجو قد تهيأ لعودته، واحتلال مكانته في وطنه. ومن ثم فقد اعتزم زاوي أن يغادر الأندلس إلى إفريقية، وقال لقومه: " فالرأي الخروج عن أرضهم، واغتنام السلامة مع إحراز الغنيمة، والرجوع إلى الحملة التي انفصلنا عنها" (1).
وهكذا قرر زاوي بن زيري العودة إلى إفريقية بالرغم من معارضة ولده ووجوه قومه. وخرج عن غرناطة في أهله وأمواله، مستخلفاً عليها بعض شيوخ قومه، وركب البحر من المنكب، ومعه الكثير من الأموال والذخائر. وكان خروجه من الأندلس في سنة 410 هـ (1020 م). واستقبله حفيد أخيه المعز ابن باديس صاحب إفريقية وبنو عمه أجمل استقبال، وأنزل في القيروان أجمل منزل، وكان بعد مهلك الشيخة من بني عمه وذوي قرابته زعيم القوم، وكان النساء من محارمهم نحو ألف امرأة لا يحتجبن عنه. بيد أنه لم يلق بالقيروان في ظل المعز، ما كان يؤمل من رياسة وسلطان (2).
قال ابن الخطيب: " وكان زاوي كبش الحروب، وكاشف الكروب، خدم قومه، شهير الذكر أصيل المجد، المثل المضروب في الدهاء، والرأي، والشجاعة والأنفة والحزم " (3).
وعلى أثر ارتحال زاوي سعى الفقيه ابن أبي زمنين قاضي غرناطة، في أن يعين لولايتها حبوس بن ماكسن ابن أخى زيري، فلحق به في حصن أشتر على مقربة
_______
(1) راجع التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 24 و 25، والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 402 و 403، والبيان المغرب ج 3 ص 128، وابن خلدون ج 6 ص 180.
(2) الذخيرة القسم الأول، المجلد الأول ص 402، والإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 525.
(3) الإحاطة ج 1 ص 522.(2/125)
من وادي آش. وكان يرابط هنالك مترقباً رحيل عمه. فبادر بالسير إلى غرناطة، ودخلها في موكبه وطبوله، واحتلها فلم يعارضه أحد من قومه، وتربع في رياستها من وقته. وقيل إن عمه زاوي اختاره ليخلفه قبل رحيله. وقيل من جهة أخرى إن نزاعاً حدث بسبب ذلك، بينه وبين ابن عمه جلالي بن زاوي، ولكنه انتهى برحيل جلالي ولحاقه بأبيه، وخلصت له الرياسة، ومن ذلك الحين تبدأ بغرناطة دولة بني زيري بن مناد (1).
وبدأت ولاية حبُّوس لغرناطة في سنة 411 هـ، حسبما تقدم في أخبار الفتنة، فسار حبوس سيرة حسنة، وضبط النظام والأمن، وقسم الأعمال بين أقاربه وبني عمه، واتسعت رقعة مملكته، فغلب على قبره ونواحيها وعلى مدينة جيان، وأتم بناء غرناطة، وحشد الجند ونظم الجيش، وكان يشرك بني عمه في الرأي، ويجري في حكمه على طريق الشورى. ووطد حبوس ملك قومه بغرناطة، وأقام له بلاطاً فخماً، وعقد علائق المودة والتحالف مع سائر جيرانه من رؤساء البربر وفي مقدمتهم بني حمود أصحاب مالقة، وعقد الصداقة أيضاً مع زهير الفتى العامري صاحب ألمرية. ولما قتل يحيى بن حمود (المعتلي) أمام أسوار قرمونة سنة 427 هـ على يد القاضي ابن عباد، وخلفه في الملك ولده إدريس المتأيد بالله، كان حبوس وحليفه زهير العامري من المعترفين ببيعته، وقد سارا لمعاونته على محاربة ابن عباد، وسار معهما البرزالي صاحب قرمونة في قواته، وزحفت القوات المتحدة على إشبيلية، وعاثت في بسائطها، ثم عاد كل إلى قواعده، وذلك في أواخر سنة 427 هـ (1036 م). وفي العام التالي (428 هـ) توفي حبوس بن ماكسن، وخلفه في حكم غرناطة ولده باديس (2).
ويشيد ابن حيان، وقد عاصر هذا العهد، بخلال حبوس، فيقول لنا إنه كان أحد نائبي برابرة الأندلس الذين يعتد بهم، وإنه كان على قسوته " يصغي إلى الأدب، وينتمي في العرب، للأثر المقفو في قومه صنهاجة. وكان وقوراً حليماً فظاً مهيباً، نزر الكلام، قليل الضحك، كثير الفكر، شديد الغضب،
_______
(1) الذخيرة المجلد الأول القسم الأول ص 403، والإحاطة ج 1 ص 485.
(2) راجع في أخبار حبوس بن ماكسن: البيان ص 25 و 26، والإحاطة ج 1 ص 485 والبيان المغرب ج 3 ص 264.(2/126)
شجاعاً، حسن الفروسية، جباراً متكبراً، داهية واسع الحيلة، كامل الرجولة، له في كل ذلك أخبار مأثورة " (1).
- 2 -
فخلفه في حكم غرناطة ولده باديس، الذي قدر له أن يكون أقوى ملوك البربر في جنوبي الأندلس، وأعظمهم شأناً، في تلك الفترة التي كثرت فيها الممالك والرياسات، ولم ينازعه في الملك أخوه بُلُقِّين بن حبوس، ولكن كان له في الملك منافس من قومه، هو ابن عمه يدِّير بن حُباسة بن ماكسن. وكان يدير ومن ورائه بعض شيوخ غرناطة يحاول منذ أيام عمه حبوس، أن ينتزع السلطة لنفسه، فلما فشل أيام حبوس، حاول أن يعيد الكرة في أوائل عهد باديس.
وكان من مشجعيه ومحرضيه الكاتب أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، وهو من علماء المشرق الذين وفدوا على الأندلس أيام الفتنة، ولحق بغرناطة. وكان فضلا عن أدبه الغزير، يعني بدراسة الفلك والحكمة، ويلقي بنبوءاته في روع يدير، أنه سوف يظفر بعرش غرناطة، ويحكمها ثلاثين عاماً (2).
وكان لأبي العباس كاتب حبوس، مساعد من اليهود يدعى أبو إبراهيم يوسف ابن اسماعيل بن نغرالة كان يتولى جمع المال، وكان رجلا متواضعاً حسن السيرة، فلما توفي أبو العباس تقدم مكانه، وعلت منزلته، ولما ولي باديس زادت حظوته وظهرت همته في جمع الأموال. فلما دبر القوم مؤامرتهم لانتزاع السلطة من باديس وإجلاس يدير مكانه، لجأوا إلى أبي إبراهيم، وحاولوا ضمه إليهم، فتظاهر بالقبول، وأخطر مولاه باديس ودبر اجتماعهم بمنزله، وحضور باديس ليسمع بنفسه مشاوراتهم من مكان معين، ومن ذلك الحين غدا ذلك اليهودي أثيراً عند باديس، وصار ناصحه الأول، لا يبرم أمراً دون رأيه.
وكان المتآمرون قد اعتزموا أمرهم لقتل باديس، أثناء تنزهه، بمكان بالضاحية يعرف بالرملة، وكان ممن رشوه لذلك شيخ من صنهاجة يدعى فرقان. فأفضى بالأمر لباديس وحذره في الوقت المناسب، وعلم المتآمرون بافتضاح تدبيرهم، ففروا إلى خارج غرناطة، وفي مقدمتهم يدير بن حباسة والكاتب أبو الفتوح
_______
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 404.
(2) الإحاطة ج 1 ص 463 و 465.(2/127)
الجرجاني، وقد فرا معاً إلى إشبيلية. ووقف باديس على أسماء كثير ممن شاركوا في المؤامرة من شيوخ صنهاجة ورجالها، وهم بقتلهم جميعاً، فرده أبو إبراهيم عن عزمه، وحذره من اتساع نطاق الفتنة، لأنهم رجاله وجنده وأولى أن يلاينهم وأن يغمرهم بالعطايا، وأن يضرب بعضهم ببعض، فنزل عند نصحه، واستتب له الأمر دون منازع (1).
وكان أول حادث خطير واجه باديس، هو حربه مع زهير العامري صاحب ألمرية. وكان زهير من أخص الفتيان العامريين الذين تفرقوا عقب الفتنة، واحتلوا معظم القواعد الشرقية، وكان قد ولي حكم ألمرية بعد وفاة صاحبها الفتى خيران في سنة 419 هـ (1028 م)، وامتد سلطانه شرقاً حتى شاطبة، وشمالا حتى بيّاسة وقرطبة. وكان يرتبط بعلائق المودة بجيرانه الأقربين بني حمود أصحاب مالقة، وبني زيري أصحاب غرناطة. وقد رأينا كيف تحالف زهير مع حبوس ابن ماكسن على قتال ابن عباد، فلما توفي حبوس وخلفه باديس، بدأت العلائق بين زهير وباديس في الفتور، وذلك لما عمد إليه زهير من إيواء عدو باديس الألد محمد بن عبد الله زعيم زناتة وحمايته، وأرسل باديس إلى زهير رسوله يعاتبه، ويطلب إليه تجديد المحالفة التي كانت بينه وبين أبيه حبوس (2)، ولم يمض قليل على ذلك، حتى خرج زهير من ألمرية في قواته ومعه كاتبه ومستشاره الأثير أحمد ابن عباس، وسار متجهاً صوب غرناطة. ولم توضح لنا الرواية غرض زهير من تلك الحركة. ولكن الأمير عبد الله بن بلقين حفيد باديس، يقول لنا في مذكراته، إن زهيراً " أدركه الطمع في غرناطة عقب موت حبوس " (3) وإذاً فقد كان زهير يرمي إلى غزو غرناطة، وافتتاحها. وعلى أي حال فقد استمر زهير في السير بقواته، واختراق أراضي غرناطة من شرقها حتى وصل إلى قرية ألفنت (4) الواقعة على مقربة من شمال غرناطة. وكان باديس في أثناء ذلك قد عبأ قواته وقد ملأته الدهشة والريب، لاقتحام زهير أراضيه على هذا النحو، وشعر أنه قد غدا
_______
(1) فصل لنا الأمير عبد الله أدوار هذه المؤامرة بإفاضة (التبيان ص 31 - 34).
(2) ابن حيان في الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 166، ونقلها البيان المغرب ج 3 ص 169.
(3) كتاب التبيان ص 34.
(4) هي بالإسبانية Daifontes وهي تقع على قيد عشرين كيلوا متراً شمالي غرناطة.(2/128)
في قبضته وتحت رحمته. ولكنه بدأه بالجميل والمودة، وزوده هو ورجاله بالصلات والقِرى، ثم لقيه ووقعت بينهما المناظرة، ومن حول كل رجال دولته، فاشتط زهير، وأغلظ لباديس في القول، وكان كاتبه أحمد بن عباس هو الذي أشار عليه بهذا المسلك، فغادره باديس مقضباً، وقد عول على الحرب، ووافقه قومه شيوخ صنهاجة. وكان باديس قد حشد قواته ورتبها ترتيباً محكماً، وهدم رجاله قنطرة في مؤخرة القوات المهاجمة، قطعاً لخط رجعتها، ورتب من ورائها الكمائن في المفاوز المستترة. كل ذلك وزهير في غروره وعجبه، لا يشعر بما يدبره خصومه. وفي صباح اليوم التالي، فاجأت قوات صنهاجة جيش زهير بهجومها العنيف، وكان يقودها بلقين بن ماكسن أخو باديس، فلقيها زهير بعزم وثبات، ودفع لردها قائده هذيلا الصقلبي في خيرة قواته من الفتيان العامريين والصقالبة، ووقعت بين الفريقين معركة هائلة، صدمت فيها قوات الصقالبة وأسر قائدهم هذيل، وقتل في الحال بأمر باديس، فدب الخلل في قوات زهير، ونكصت على أعقابها، والبربر من ورائها يحصدونها حصداً، وفر زهير فيمن فر من أصحابه إلى شعب الجبال المجاورة، ولكنه أخذ وقتل، ولم يعثر بجثته، وأبيد معظم قواته قتلا وأسراً، وظفر البربر بغنائم هائلة من المال والسلاح والعدة والغلمان والخيام، وأمر باديس بقتل القواد والفرسان من الأسرى، وكان من بين الأسرى عدة من الكتاب في مقدمتهم أحمد بن عباس وابن حزم والد الفيلسوف وأبو عمر الباجي وغيرهم، فأطلق باديس سراحهم جميعاً ما عدا ابن عباس وعدة آخرين من الأسرى، فقد زجهم في الأصفاد إلى المعتقل. وتمت هذه الوقيعة الساحقة على زهير العامري وأصحابه، في آخر يوم من شوال سنة 429 هـ (1038 م) (1) ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى قتل ابن عباس في معتقله بالقصبة.
قتله باديس بيده تشفياً منه، لتيقنه من أنه هو ناصح زهير والمحرض له على غزوه.
ولم ينقذه ما عرضه لافتداء نفسه من المبالغ الضخمة. ولم تنجح شفاعة الوزير ابن جهور عميد قرطبة لدى باديس للإبقاء على حياته. وكان ابن عباس من أعلام كتاب عصره، وافر المعرفة والأدب، عظيم الوجاهة، والسراوة،
_______
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 166 - 169، والبيان المغرب ج 3 عى 169 173، والإحاطة ج 1 ص 526 - 528، والتبيان ص 34 و 35.(2/129)
وكان له في حكومة ألمرية، في ظل صاحبها زهير، أعظم نفوذ وسلطان (1).
وكان من أثر مصرع زهير، وانهيار حكومته على هذا النحو، أن استولى باديس على القسم الغربي من أراضي مملكة ألمرية المتاخمة لمملكته، وهي تشمل مدينة جيان وأعمالها، وكذلك جزءاً من أراضي ولاية قرطبة الجنوبية.
* * *
وكان لهذا النصر الباهر الذي أحرزه باديس في بداية حكمه، أعظم أثر في توطيد سلطانه وإذاعة ذكره. وكان باديس، مثل معظم أمراء البربر في جنوبي الأندلس، يتوجس من أطماع القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية ومشاريعه.
وكانت المعركة الحقيقية، تدور في هذا القسم من اسبانيا المسلمة، بين بني عباد والبربر، وقد بدأت منذ الساعة الأولى بين بني عباد وبني حمود، الذين يمثلون زعامة البربر. ومن ثم فقد كان باديس، ومن قبله والده حبوس، ينضوي تحت لواء الحموديين، ويشد أزرهم كلما دعت الظروف، وقد أشرنا من قبل إلى ما كان من مسير حبوس في قوات صنهاجة لمعاونة إدريس المتأيد بالله على محاربة ْابن عباد (427 هـ). ولما سير القاضي ابن عباد قواته تحت إمرة ولده إسماعيل لغزو مدينة قرمونة، وانتزاعها من يد صاحبها محمد بن عبد الله البرزالي، استعان البرزالي بإدريس المتأيد وباديس، فهرعا إلى إنجاده، وكانت قرمونة قد سقطت بالفعل في يد إسماعيل بن عباد، ونشبت بين قوى العباديين وبين البربر على مقربة من إستجة معارك شديدة انتهت بهزيمة جيش ابن عباد، ومقتل قائدهم إسماعيل، وذلك في المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م) (2). وهكذا أكد باديس مرة أخرى تفوقه وتفوق قومه صنهاجة على قوات الأندلس المناوئة للبربر.
ومما هو جدير بالذكر أنه على أثر انتهاء المعركة، ووجود باديس تحت أسوار إستجة، وفد على مخيمه فجأة الكاتب أبو الفتوح الجرجاني، وكان قد فر حسبما تقدم عند اتهامه بالتآمر مع يدِّير على إشبيلية، وهنالك علم أن باديس أمر بالقبض
_______
(1) راجع في ترجمة أحمد بن عباس: الإحاطة ج 1 ص 267 - 270، والذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 175 - 180.
(2) البيان المغرب ج 3 عى 199، وابن خلدون ج 6 ص 180، والمعجب للمراكشي ص 50.(2/130)
على زوجه وأولاده ونفيهم إلى المنكب. وكانت زوجه أندلسية بارعة الحسن، وله منها ولدان، وكان يعبدها حباً. فلما اقترب باديس من إشبيلية هرع أبو الفتوح إليه يستأمنه ويستجير به. ولكن باديس استقبله بجفاء، وبعث به مخفوراً إلى غرناطة، وهناك شُهر وعذب ثم اعتقل أياماً، دخل من بعدها باديس إلى مطبقه، وأخذ في تأنيبه وسبه، ثم قتله بيده، واحتز رأسه (آخر المحرم سنة 431 هـ) (1).
ولما اضمحل شأن بني حمود وافترقت كلمتهم، بدأ باديس بالتدخل في شئون مملكة مالقة، تحيناً للفرصة في أخذها. ومن ذلك أنه حينما ثار على إدريس ابن يحيى العالي، ابن عمه محمد بن إدريس في سنة 438 هـ (1046 م)، واستطاع أن ينتزع منه الملك، تقدم باديس لمعاونة الملك المخلوع، وسار معه في بعض قواته إلى مالقة، ولكنهما لم يفوزا بطائل، فلجأ إدريس عندئذ إلى سبتة، وبويع محمد بن إدريس وتلقب بالمهدي، ولكنه لم يفز عندئذ بإجماع الزعماء البربر على مبايعته، وكان باديس أشدهم معارضة في إقامته، ذلك لأنه كان يشعر عندئذ، وبعد أن ضعف شأن بني حمود، أنه أحق برياسة البربر في الأندلس، وأخذ من ذلك الحين يتحين الفرصة لتسديد الضربة القاضية لرياسة بني حمود، وذلك بانتزاع مالقة مقر سلطانهم.
وتم له ذلك في سنة 449 هـ (1057 م)، وذلك بعد أن ارتقى عرش مالقة، بعد محمد بن إدريس المهدي، ثلاثة أخر من بني حمود، وهم إدريس ابن يحيى الملقب بالسامي، ثم إدريس بن يحيى العالي، ثم ولده محمد المستعلي.
فلما تولى المستعلي نكل الزعماء البربر عن مبايعته، وفي الحال سار باديس في قواته إلى مالقة واستولى عليها، وضمها إلى إمارته، وغادرها المستعلي وعبر البحر إلى المغرب، وانتهت بذلك مملكة بني حمود في مالقة، وبقيت بعد ذلك في الجزيرة الخضراء فترة قصيرة أخرى، حتى بعث ابن عباد قواته إلى الجزيرة فطوقتها، من البر والبحر، واضطر صاحبها القاسم بن حمود أن يغادرها بالأمان مع أهله وصحبه، وذلك في سنة 446 هـ (1055 م)، وبذلك انتهت دولة بني حمود في الجزيرة أيضاً، وطويت صفحتهم بالأندلس.
ولما استولى باديس على مالقة، عنى بتحصينها، وشيد قصبتها على أجمل
_______
(1) الإحاطة ج 1 ص 465 و 466، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 96.(2/131)
طراز وأمنعه، حماية لها من أطماع الطامعين من أمراء الأندلس، ولاسيما بني عباد. وقد كان أهل مالقة بالفعل قد سئموا حكم البربر، وتاقت نفوسهم للتخلص منه، فبعثوا إلى المعتضد بن عباد رسلهم سراً يستحثونه على افتتاح مالقة، واستجاب المعتضد لدعوتهم، وسير إليها حملة بقيادة ولديه جابر والمعتمد، فزحفت على مالقة وطوقتها، وكادت المدينة تسقط في أيديهم، لولا أن اعتصمت حاميتها من البربر والسود بقصبتها المنيعة، ودافعت دفاعاً شديداً، بقيادة قائدها الشجاع مخلوف بن ملول، وهرع باديس في قواته إليها، ونشبت بينه وبين المهاجمين معركة شديدة مزق فيها جند إشبيلية، وقتل وأسر منهم عدد جم، وأسرع جابر والمعتمد ابنا عباد بالفرار في فل جندهما إلى رندة (1).
وكان ذلك في سنة 458 هـ (1066 م). وبعث محمد بن عباد (المعتمد) إلى والده المعتضد من رندة، قصيدته الشهيرة، يستعطفه فيها ويعزيه في مصابه وهذا مطلعها:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر ... ماذا يعيد عليك البثُّ والحذر
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها ... واصبر فقد كنت عند الخطب تصبر
فإن يكن قَدَرٌ قد عاق عن وطر ... فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة ... فكم غزوت ومن أشياعك الظفر (2)
وكان من مظاهر هذه المعركة، التي اضطرمت بين باديس وبني عباد، ما حدث في نفس هذا العام، من التجاء بني بزنيان وأميرهم محمد بن خزرون أصحاب أركش، حينما أرهقهم ابن عباد بغاراته، إلى باديس ليتسلم هو قاعدة أركش، ويعطيهم بدلا منها، مكاناً ينزلون به في أراضي غرناطة، وقد استجاب باديس لرغبتهم وتسلم منهم أركش، وخرجوا عنها بأهلهم وأموالهم ومتاعهم، فدهمتهم قوات ابن عباد في الطريق ومزقتهم، وانتزعت حصن أركش من يد قائد باديس، وسيطر ابن عباد بذلك على سائر منطقة شذونة، وكانت من قبل تحت سيطرة البربر (3).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 274 و 275. وراجع كتاب التبيان ص 43.
(2) وهي طويلة. وقد أوردها ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 56 - 58.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 272 و 273.(2/132)
- 3 -
وكان باديس قد قطع إلى ذلك الحين ثلاثين عاماً في الحكم، وكانت مملكته تمتد يومئذ من بسطة شرقاً، حتى رندة غرباً، ومن جيّان شمالا إلى البحر جنوباً، وكان قد شاخ وأخلد إلى الراحة، وانهمك في الشراب، وترك مقاليد الأمور كلها لوزيره اليهودي يوسف بن نغرالة (1)، وكان يوسف قد حل في المنصب مكان أبيه اسماعيل بن نغرالة وزير حبوس ثم باديس، وكان هذا الوزير اليهودي قد استأثر بعطف باديس وثقته، فرفعه فوق سائر كتابه ووزرائه، وفوضه في جميع أموره، وعين معظم المتصرفين والعمال من اليهود، واستطاع بمهارته وحنكته أن يملأ خزائن باديس بالمال، وأن يمكنه من الإنفاق على جيشه، ومن تحقيق مشاريعه الإنشائية. وكان اسماعيل فوق ذلك من أهل الأدب والشعر، وكان حسن السيرة رضي الأخلاق، وافر الأناة والحلم، فلم يثر من حوله خصومة ولا منافسة. ويقدم إلينا ابن حيان، وهو المؤرخ المعاصر عن ابن نغرالة، الصورة الآتية: " وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علماً وحلماً وفهماً، وذكاء ودماثة، ورصانة ودهاء، ومكراً وملكاً لنفسه، وبسطاً من خلقه، ومعرفة بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالا لحقودهم بحلمه ". ثم يقول لنا إنه كان بارعاً في الآداب العبرية والعربية، وإنه شغف بالعربية ونظر فيها، وقرأ كتبها، وألف فيها، وكتب رسائل يشيد فيها بالإسلام وفضائله، ودرس الرياضة والفلك والهندسة والمنطق، وكتب كتاب " السجيح في علوم الأوائل الرياضية ". وأخيراً إنه كان بارعاً في الجدل يتفوق فيه على سائر الناس، قليل الكلام، ماقتاً للسباب، دائم التفكر، جماعة للكتب (2). وقد ساعدته هذه الصفات كلها، بلا ريب، على الاستئثار بعطف الأمير وإعجابه وثقته وخلقت من حوله جواً من العطف بين سائر ممن يتصلون به أو يتعامل معهم.
واستمر ابن نغرالة عن مكانته حتى توفي، فندب باديس ولده يوسف للاضطلاع بمنصبه. وكان يوسف فتى جميلا غض الإهاب، وافر الذكاء والبراعة، فقام بالأعمال خير قيام، واستعمل اليهود كذلك على الأعمال، وأبدى في جمع المال همة مضاعفة، فتمكنت منزلته لدى باديس، واجتمعت في يده السلطات شيئاً فشيئاً
_______
(1) كتاب التبيان ص 42.
(2) الإحاطة عن ابن حيان ج 1 ص 446 و 447.(2/133)
حتى غدا كأبيه من قبل، أول رجل في الدولة، وأمضاهم تصرفاً في شئونها.
وكان بُلُقِّين ولد باديس الأكبر الملقب بسيف الدولة، والمرشح من بعده لولاية عهده، ينظر إلى استئثار الوزير اليهودي بزمام الأمور، واستئثار بني جنسه بالتصرف في الأعمال، وسيطرتهم التامة على الدولة، ينظر إلى ذلك كله بعين السخط والحسد، وكان يجاهر ببغضه لابن نغرالة، وسعيه إلى إسقاطه، ويفضي أحياناً إلى خاصته برغبته في إزالته وقتله، وكان يذكي فيه هذا الشعور تحريض وزراء الدولة، ولاسيما علي وعبد الله ابنا إبراهيم الشيخ، وإلقاؤهم في روعه أنه أحق بهذا النفوذ، وهذه الأموال التي يتمتع بها اليهود، وأنه قد أخمله وأخمل سائر رجال الدولة بسيطرته عليها (1).
وكان يوسف من جانبه، يضع عيونه وجواسيسه من خاصة باديس في القصر وفي الحريم، فلا يكاد باديس يأتي بحركة أو تصدر عنه كلمة، حتى يقف عليها لفوره، وكان في نفس الوقت يحيط بلقين بعيونه، ويتقصى سائر حركاته وسكناته، ويقف على نياته نحوه. وكان بلقين مع بغضه ليوسف، يبدي له المودة ويتردد على داره، ويشاطره الشراب، وكان منهمكاً مدمناً. فاعتزم يوسف أن يتخلص من بلقين، قبل أن يقضي هو عليه، ودعاه ذات يوم مع خاصته وصحبه، إلى مجلس شراب حافل، ودس له السم في كأسه، فما كاد يغادر مجلسه حتى ملكه قىء شديد، وما كاد يصل إلى داره، حتى لزم فراشه، ثم توفي بعد يومين. فروع باديس لمهلك ولده، على هذا النحو المفاجىء، واستطاع يوسف أن يقنعه باتهام بعض فتيان ولده وجواريه وقرابته، فقتل منهم باديس عدة، وفر الباقون. وكان مصرع بلقين بن باديس في سنة 456 هـ (1064 م) (2).
ْوكان هذا الحادث مقدمة لحادث أخطر وأوسع مدى، وهو الذي اتسم به عهد باديس قبل كل شىء. ذلك أن باديس ترك المجال لوزيره يوسف، وزاد بفقد ولده انطواؤه على نفسه، وزاد يوسف بذلك استئثاراً وسيطرة على الدولة، وبُسط على غرناطة وأعمالها نوع من الطغيان اليهودي المرهق، واستسلم سائر الوزراء والشيوخ إلى هذا السلطان. ولم يكن يناوىء يوسف ويحاول مقاومته سوى " الناية " وهو شخصية غامضة، وأصله من عبيد المعتضد بن عباد،
_______
(1) التبيان ص 39.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 265، والتبيان ص 40، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 231.(2/134)
وكان متهماً في المؤامرة التي دبرها ضده ولده اسماعيل، ففر من إشبيلية، والتجأ إلى باديس وخدمه وحظى عنده، وعهد إليه ببعض المهام الخطيرة. ثم وقع التنافس بينه وبين يوسف، وكان الناية يحرض على قتله، ويفضي إلى الأمير بذلك كلما سنحت الفرص. وشعر يوسف بتغير الأمير عليه، وبأن منزلته أخذت في الضعف، ففكر في التفاهم مع أبي يحيى بن صمادح صاحب ألمرية، واستدعائه للاستيلاء على غرناطة. وكانت تربط ابن صمادح وباديس علائق مودة قديمة، إذ كان باديس قد وقف إلى جانبه حينما أراد ابن أبي عامر محاربته واسترداد ألمرية منه، ومهد يوسف لمشروعه بأن عمل على تعيين زعماء صِنهاجة، الذين يخشى بأسهم، في الأعمال البعيدة، واستطاع ابن صمادح بالفعل أن ينتزع وادي آش، الواقعة شمال شرقي غرناطة، وأن يشحنها برجاله، ومضى يوسف في مفاوضته وهو محجم متهيب من تنفيذ المشروع. كل ذلك وباديس غارق في لهوه، منكب على لذاته (1)، وخصوم يوسف من صنهاجة، وسائر أهل غرناطة، يضطرمون سخطاً على الطاغية اليهودي، ويترقبون الفرص لإسقاطه. ولقي سخط الشعب الغرناطي على اليهود في تلك الآونة، متنفسه في الشعر، ونظم الفقيه الورع الزاهد أبو إسحاق الإلبيري (2) قصيدته الشهيرة في التحريض على سحق اليهود، والتخلص من طغيانهم، وإليك بعض ما ورد في تلك القصيدة التي ذاعت يومئذ ذيوع النار في الهشيم، وألهبت مشاعر الشعب الغرناطي، وكانت كالشرارة التي أضرمت الحريق، وأثارت الانفجار:
ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين
لقد زل سيدكم زلة ... تقرب بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً ... ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا ... وتاهوا وكانوا من الأرذلين
_______
(1) راجع كتاب التبيان ص 46 و 47 و 50 - 53.
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الإلبيري. كان فقيهاً ومحدثاً وأديباً وشاعراً. سعى به الوزير يوسف بن نغرالة لأمور نقمها منه لدى سلطانه باديس، فأبعده عن غرناطة فسكن إلبيرة القريبة منها، وانقطع إلى العبادة والزهد. ولكنه لبث يحرض صنهاجة على اليهود في شعره ووعظه، حتى وقع الانفجار، وتم الفتك بهم. وتوفي الإلبيري في أواخر سنة 459، بعد أن شهد آثار تحريضه في بطش صنهاجة باليهود.(2/135)
ونالوا مناهم وحازوا المدى ... وقد جاز ذاك وما يشعرون
ومنها:.
أباديس أنت امرء حاذق ... تصيب بظنك مرمى اليقين
فكيف تحب فراخ الزنا ... وقد بغضوك إلى العالمين
وكيف استنمت إلى فاسق ..
. وقارنته وهو بئس القرين
وقد أنزل الله في وحيه ... يحذر من صحبة الفاسقين
فلا تتخذ منهم خادماً ... وذرهم إلى لعنة اللاعنين
فقد ضجت الأرض من فسقهم ... وكادت تميد بنا أجمعين
وكيف انفردت بتقريبهم ... وهم في البلاد من المبعدين
وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخصمون وهم يقصمون
وهم يلبسون رفيع الكسا ..
. وأنتم لأوضاعها لابسون
وهم أمناكم في سركم ... وكيف يكون أميناً خؤون
وقد لابسوكم بأسحارهم ..
. فما تسمعون ولا تبصرون
ومنها في التحريض على ابن نغرالة وقومه:
فبادر إلى ذبحه قربة ... وضح به فهو كبش سمين
ولا ترفع الضغط عن رهطه ... فقد كنزوا كل علق ثمين
وفرق عراهم وخذ مالهم ... فأنتم أحق بما يجمعون
ولا تحسبن قتلهم غدرة ... بل الغدر في تركهم يعبثون
فقد نكثوا عهدنا عندهم ... فكيف تلام على الناكثين
فلا ترض فينا بأفعالهم ... فأنت رهين بما يفعلون
وراقب إلهك في حزبه ... فحزب الإله هم المفلحون (1)
ووقع الانفجار في مساء يوم السبت العاشر من شهر صفر سنة 459 هـ
_______
(1) نشر ابن الخطيب في أعمال الأعلام هذه القصيدة بأكملها وهي في ثلاثة وأربعين بيتاً ص 231 - 233، ونشرها دوزي في كتابه Recherches; V,I.App.XXVI(2/136)
(30 ديسمبر 1066 م). ففي تلك الليلة اجتمع يوسف بن نغرالة بالقصبة على الشراب مع طائفة من صحبه من الضالعين معه من عبيد باديس وخاصته. والظاهر أن مشروعه لاستدعاء ابن صمادح إلى غرناطة كان قد نضج، وأن ابن صمادح كان يكمن مع نفر من صحبه في مكان قريب من المدينة، ينتظر النذير باستدعائه. وكان ثمة في نفس الوقت جماعة من صنهاجة، ممن يرتابون في مشاريع يوسف ونياته، وينقمون على أميرهم تهاونه وتخاذله، يرقبون حركات اليهودي وسكناته.
فحدث والمتآمرون في مجلسهم، أن وقعت مشادة بين عبد من الحضور، وبين حاشية اليهودي، فانطلق العبد إلى خارج القصبة، وهو يصيح: لقد غدر اليهودي ودخل ابن صمادح البلدة. وفي الحال هرع الناس وهم يتصايحون، وفي مقدمتهم رهط صنهاجة المناوئين لليهودي، واقتحموا القصبة، فاستغاث يوسف لفوره بباديس، وحاول الأمير عبثاً أن يهدىء الهاجمين، فهرب يوسف إلى داخل القصر، ومن ورائه مطاردوه، حتى عثروا به في بعض خزائن الفحم وقد تنكر وصبغ وجهه بالسواد فعرفوه وقتلوه، وأخذوه وصلبوه على باب غرناطة.
وكان الجند والمدينة بأسرها، قد ماجت عندئذ، وتخاطف الناس السلاح، وهجموا على بيوت اليهود في كل مكان، وأمعنوا فيهم تقتيلا وتعذيباً، ونهبوا دار يوسف، وكانت غاصة بالنفائس والذخائر، ووجدت له فيما وجد خزانة جليلة من كتب العلوم الإسلامية، ونهبوا سائر دور اليهود وحوانيتهم، وطاردوهم وفتكوا بهم في كل مكان، واستولوا من أموالهم على مقادير هائلة. وهلك من اليهود أكثر من ثلاثة آلاف أو أكثر من أربعة آلاف على قول آخر، في تلك المذبحة التي يصفها ابن بسام بأنها، " ملحمة من ملاحم بني اسرائيل، باءوا بذلها، وطال عهدهم بمثلها " وعاد ابن صمادح أدراجه بعد أن انهار مشروعه (1).
قال ابن الخطيب: " وقبره اليوم (أي قبر يوسف) وقبر أبيه يعرف أصلا من اليهود، ينقلونه بتواتر عندهم أمام باب إلبيرة، على غلوة يعترض الطريق،
_______
(1) راجع أخبار هذه المذبحة في التبيان ص 54، وفي الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 271 و 272، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 447 و 448، وفي أعمال الأعلام ص 233، والييان المغرب ج 3 ص 266 و 275 و 276 وقد اتبعنا ما ورد من التفاصيل في التبيان والذخيرة.
وجاء في المصادر الأخرى أن اجتماع ابن نغرالة في أصحابه كان في داره، وأنه هوجم وقتل بها.(2/137)
ومكانه من الترفه والترف، والظرف والأدب، معروف " (1).
- 4 -
وأفاق باديس بعد هذا الحادث من خموله وتهاونه، ونهض لاسترداد وادي آش من يد ابن صمادح، فسار إليها في قواته، واستنصر بالمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، فوافاه في بعض قواته على مقربة منها. وضرب باديس الحصار حول وادي آش، وشدد في إرهاقها، وكان بها فضلا عن الحامية، بعض وزراء ابن صمادح وأكابر دولته، ولما اشتد الضيق بالمحصورين بعث زعماؤهم إلى المأمون يرجونه أن يتوسط لهم لدى باديس في تسليم المدينة، والخروج بالأمان، ففعل وأخلى جند ابن صمادح المدينة، وسلمت إلى باديس، واقتطع المأمون من باديس مدينة بسطة ثمناً لمؤازرته، وبعث ابن صمادح إلى باديس يستسمحه ويعتذر عن تصرفه، ثم وافاه إلى غرناطة، وعاد الوئام بين الرجلين (2).
وكانت مدينة جيان قد خرجت عن الطاعة، وكان قد لجأ إليها ماكْسَن الابن الأصغر لباديس حينما سخط عليه أبوه ونفاه من غرناطة، لارتيابه في ولائه وتوجسه من مشاريعه (3). فنزل في جيان في كنف حاكمها مسكن بن حبوس، واستبد مسكن بحكم المدينة، ولم يجد ماكسن سبيلا إلى منافسته، وقنع بالسلامة والدعة، وأخيراً تمكن باديس من إغراء الحامية بالمال والوعود، فثارت على مسكن وماكسن معاً، ونادت بالطاعة لباديس، ففر كلاهما من المدينة ناجياً بنفسه، وقصد ماكسن إلى طليطلة، حيث لجأ إلى ابن ذى النون وخدم في جيشه، وعادت جيان بذلك إلى سلطان باديس.
وكان باديس بعد مقتل وزيره ابن نغرالة، قد استوزر الناية، فعلا سلطانه بسرعة، وانتهى إلى الاستئثار بالأمور على نحو ما كان ابن نغرالة. وقدّم الناية بني برزال، وأخر صنهاجة وأهلهم، فسخطوا عليه، وأخذوا يترقبون الفرص لإهلاكه. وكان من مشاريع الناية أن يفتتح مدينة بياسة القريبة من جيان، وكانت عندئذ من أملاك إقبال الدولة علي بن مجاهد العامري، ووافق باديس على مشروع
_______
(1) الإحاطة ج 1 ص 448، وباب إلبيرة ما يزال إلى اليوم قائماً بمدينة غرناطة.
(2) التبيان ص 55 - 57.
(3) التبيان ص 49.(2/138)
وزيره كارهاً، وانتهى الناية بالاستيلاء على بياسة بعد جهود ونفقات طائلة، وازدادت بذلك مكانته لدى باديس توطداً. وهنا شعر وزراء الدولة، وحكام المدن، أن سلطان الناية يكاد يحجب سلطان باديس ذاته. وخشوا عاقبة تمكنه، وأذاعوا أنه طامع في الرياسة بالائتمار مع بني برزال، ودبروا مؤامرة لقتله والتخلص منه، واتفق على أن يقوم واصل حاكم وادي آش وهو صديق الناية وموضع ثقته بتنفيذ الجريمة، ووعدوه بالوزارة. ولم يمض سوى قليل، حتى وفد الناية على وادي آش لتحقيق بعض الأمور السلطانية، ونزل عند واصل، فانتهز واصل الفرصة السانحة. وقتل ضيفه بالليل وهو سكران. وطار الخبر إلى غرناطة، فانزعج باديس، وأوضح له رجال الدولة أن الجريمة تمت لخيره، وإنقاذه من استبداد وزيره. فتظاهر بالاقتناع مرغماً، وعهد إلى واصل بمنصب قائد الفرسان.
واستطال حكم باديس بضعة أعوام أخرى، وتوفي في العشرين من شوال سنة 465 هـ (يونيه 1073 م) (1) بعد حكم دام سبعاً وثلاثين سنة.
وكان باديس بن حبوس أعظم ملوك البربر في عصر الطوائف وأقواهم جانباً، وكانت مملكته من أكبر ممالك الطوائف رقعة، إذ كانت تمتد من بسطة شرقاً حتى إستجة ورندة غرباً، وبياسة وجيان شمالا حتى البحر جنوباً. وباديس هو الذي مصّر مدينة غرناطة، وغدت منذ عهده من أهم قواعد الأندلس الجنوبية، وأنشأ قصبة غرناطة فوق أنقاض قلعتها القديمة، وسميت باسمها القديم " القلعة الحمراء " وهو الاسم الذي خلد على كر العصور، وغدا فيما بعد علماً على حمراء غرناطة، وأقام داخل القصبة قصره ومسجده الذي دفن فيه، وأنشأ سوراً ضخماً حول الربوة التي تقع عليها القصبة (2). وأنشأ حسبما قدمنا قصبة مالقة المنيعة، التي ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، وأنشأ له جيشاً قوياً مرابطاً من قومه صنهاجة وغيرهم، وبذل له المال الوفير، ووطد الدولة، ونظم مراتبها وعمالاتها. بيد أن بلاطه لم يسطع كما سطعت قصور ملوك الطوائف الأخرى، ولم يسطع بالأخص، كما سطعت دولة بني ذى النون البربرية في الشمال، ولم يجتمع حوله
_______
(1) الإحاطة ج 1 ص 450. وفي ابن خلدون أنه توفي سنة 467 هـ (ج 4 ص 161).
(2) ابن خلدون ج 6 ص 180. وراجع كتابي " نهاية الأندلس " الطبعة الثالثة ص 289.(2/139)
الكتاب والشعراء كما اجتمعوا في قصور الطوائف الأخرى، ذلك أن بلاط غرناطة البربري. لبث محتفظاً بطابع البداوة والخشونة، الذي كان يغلب على دولة آل زيري، ولم تعرف دولتهم تلك الخواص الحضارية والأدبية الرفيعة، التي امتازت بها دول الطوائف الأخرى.
ومما هو جدير بالذكر أن سياسة باديس، كانت متأثرة بالروح العنصري، وكانت ترمي قبل كل شىء إلى تأييد زعامة البربر وسلطانهم، في جنوبي الأندلس.
وكان يقابل هذا الاتجاه لدى الأمراء الأندلسيين اتجاه مماثل، فقد كانوا جميعاً يداً واحدة ضد البربر، في تلك المعركة التي اضطرمت زهاء نصف قرن، منذ استطاع بنو حمود أن يقيموا سلطانهم وخلافتهم في جنوبي الأندلس. ولما تضاءل سلطان بني حمود، تولى باديس زعامة البربر، وأخذ يقود نفس المعركة القديمة ضد أمراء الأندلس. وقد كان هؤلاء الأندلسيون، على قول ابن حيان، معاصر هذه الأحداث، " نمطاً واحداً متظاهرين على عظيم البرابرة يومئذ باديس ابن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة، ومن تميز معه من البربر، وكانوا متعاضدين متناصرين على من يباينهم من الأمراء سواهم، على اختلافهم في الرأي والدعوة ". ويسوق لنا ابن حيان دليل هذا التحزب في موقف الأندلسيين والبربر من الخلاف، فقد كان أمراء الأندلس يدعون للخليفة هشام الذي نصبه ابن عباد في إشبيلية، وكان باديس ومن والاه من أمراء البربر يدعون لإمامهم بمالقة، وهو إدريس بن يحيى بن حمود.
وكانت هذه النزعة العنصرية تحمل باديس في بعض الأحيان، على أخطر القرارات والمشاريع. ومن ذلك ما حدث حينما قام أحد الفرسان باغتيال أمير رندة البربري أبي نصر بن أبي نور وذلك بتحريض من المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية.
فقد ثار باديس لذلك الحادث أيما ثورة، وجال بخاطره أن يفتك برعاياه الأندلسيين في غرناطة، وأن يزهقهم جميعاً تخلصاً من شرهم ومؤامراتهم، ورتب الخطة لتنفيذ هذا العزم الدموي، وذلك حين اجتماع الغرناطيين بالمسجد الجامع يوم الجمعة، ولم يقتنع بنصح وزيره اليهودي اسماعيل بن نغرالة وتحذيره من عواقب عمله، وحشد الجند للتنفيذ، ولكن ابن نغرالة سبقه، فدس بعض النساء إلى دور زعماء الأندلسيين وغيرهم، لتحذيرهم من الحضور إلى المسجد، وهكذا(2/140)
فشل تدبيره، ثم عدل عنه بعد ذلك حينما أيد نصح وزيره بعض شيوخ صنهاجة (1).
وتشيد الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، بما كان عليه باديس من القوة والطغيان والجبروت. فيقول لنا عنه معاصره ابن حيان: " إنه أرفع أملاك البرابرة في هذا الوقت شأناً، وأشدهم سلطاناً، وأكثرهم رجالا، وأوسعهم أعمالا أملى النصر العزيز علي الأعداء إملاء واختياراً، فلبسه بغياً واستكباراً، وأساء الانتقام، ولم يقل العثرة، وأخذ بالظنة، وأسرف في العقوبة، وشدّ يداً بالعصبية وتقلد الحمية الجاهلية، واستأثر بالقسوة والجبرية، فأسلف في ذلك كله أخباراً مأثورة " (2). ويقول لنا الفتح في القلائد بعبارته المسجعة المنمقة: " كان باديس ابن حبوس بغرناطة، عاتياً في فريقه، عادلا عن سنن العدل طريقه، يجتري على الله غير مراقب، ويسري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولم يشرب الماء إلا من قلب دم. أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، وما زال متقداً في مناحيه، مفتقداً لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل " (3).
ويقدم إلينا عنه ابن الخطيب تلك الصورة القوية الجامعة: " كان رئيساً يبساً، طاغية جباراً شجاعاً، داهية، حازماً، جلداً شديد الأمر، سديد الرأي، بعيد الهمة، مأثور الإقدام، شره السيف، واري زناد الشر، جماعة للمال، ضخمت به الدولة، ونبهت الألقاب، وأمنت لحمايته الرعايا، وطم تحت جناح سيفه العمران، واتسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر، وانفسخ الملك، وكان ميمون الطائر، مطعم الظفر، مصنوعاً له في الأعداء، يقنع أقتاله بسلمه، ولا يطمع أعداؤه في حربة " (4).
على أن حفيده الأمير عبد الله بن بلقين، يحاول أن يقدمه إلينا في صورة أقل جفاء، وأكثر إشراقاً حين يقول: " وكان باديس بن حبوس - جدنا رحمه الله -، كبير النفس، عالي الهمة، حاد المزاج، لا يستطيع أحد أن يمخرق عليه في أمر
_______
(1) الإحاطة ج 1 ص 445 و 446، والبيان المغرب ج 3 ص 314.
(2) نقله أعمال الأعلام ص 230.
(3) قلائد العقيان ص 18.
(4) الإحاطة ج 1 ص 443.(2/141)
من الأمور، ولا ينكسر لأحد من بني عمه، ثقة منه بسعادته، وأن الانخضاع والتمريض في القول لا يعنيه، ولا يزيد في أيامه. وكان ذلك كله منه في حزم وروية، لا يفسد جانباً حتى يصلح آخر، ويضرب بعضهم ببعض، فوجست أنفس البعض منه، وأشربوا هيبته ومخافته " (1).
والخلاصة أن باديس كان طاغية من أقوى الطغاة البربر، الذين عرفتهم الأندلس، ومن أشدهم دهاء وقسوة وإقداماً، ومن أكثرهم ظفراً في الحروب.
وكان أسوة بسائر ملوك الطوائف، قد اتخذ ألقاب الملك، وتلقب بالمظفر بالله، الناصر لدين الله.
- 5 -
ولما توفي باديس المظفر بالله، اتفق رجال الدولة وشيوخ صنهاجة على تولية حفيده عبد الله بن بُلُقِّين مكانه، وكان صبياً حدثاً. وكان أخوه الأكبر تميماً يتولى حكم مالقة منذ أيام جده. أما ماكسن ولد باديس، فقد كان خارجاً على أبيه حسبما ذكرنا من قبل، وكان قد عاد إلى مدينة جيان، وامتنع بها، وكان سيىء الخلال والسيرة، فلم يلتفت إليه، ولم يقم أحد بدعوته، وتولى تدبير الدولة ورعاية الملك الصبي، الوزير سماجة أحد شيوخ صنهاجة، وكان هذا الوزير رجلا حازماً، قوي العزم، شديد السطوة، مرهوب الجانب، فضبط الدولة، واستأثر بالسلطة، وأحسن السيرة.
وكان المعتمد بن عباد يرقب سير الحوادث في غرناطة. فلما توفي باديس، وخلفه حفيده الصبي، أدرك أن الفرصة قد سنحت لتحقيق مشاريعه، فسار في قواته إلى مدينة جيان، أهم قواعد مملكة غرناطة الشمالية، واستولى عليها (466 هـ - 1074 م). ثم سار بعد ذلك إلى غرناطة في قوات كبيرة، وابتنى بعض الحصون على مقربة منها، لكي يستطيع بواسطتها إرهاق المدينة. فحشد الوزير سماجة قوات صنهاجة، وأبدى منتهى العزم في مقاومة المغيرين، فاضطر ابن عباد أن يعود أدراجه دون طائل (2). ورأى الأمير عبد الله بتوجيه وزيره سماجة، أن يعقد مع ألفونسو السادس ملك قشتالة، على نسق معظم أمراء الطوائف، معاهدة
_______
(1) كتاب التبيان ص 27.
(2) أعمال الأعلام ص 234.(2/142)
حلف وصداقة، يتعهد فيها بتأدية جزية قدرها عشرون ألف دينار. وعلى أثر ذلك سار عبد الله في قوات صنهاجة، ومعها سرية من الجند النصارى أمده بها ألفونسو السادس، وأغار على أراضي إشبيلية المجاورة، واستطاع أن يسترد حصن قبرة الواقع في جنوب غربي جيان.
وفي العام التالي سار ألفونسو إلى إشبيلية وغرناطة، ومعه وزيره ومستشاره النصراني المستعرب الكونت سسنندو (ششنند)، وهو الذي سبق ذكره في حوادث سقوط طليطلة، ليطالب بأداء الجزية المفروضة. ويقول لنا الأمير عبد الله في مذكراته، إنه أبى أن يدفع تلك الجزية، وإنه لم يخش يومئذ ضراً من ألفونسو، وذلك أسوة بما فعل غيره من ملوك الطوائف (1). وهنا يقوم المعتمد بن عباد بدوره المأثور في انتهاز الفرصة، وفي استعداء ملك قشتالة. ذلك ْأنه بعث وزيره ابن عمار إلى ألفونسو السادس، فعقد معه اتفاقاً وحلفاً، خلاصته أن يتعاون الفريقان في افتتاح غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها لابن عباد، وأن يكون سائر ما فيها من الأموال لملك قشتالة، وأن يؤدي ابن عباد إليه فوق ذلك جزية قدرها خمسون ألف دينار (2).
وأمد ملك قشتالة ابن عمار بسرية من جنده. وبدأ بتنفيذ الخطة بإنشاء حصن على مقربة من غرناطة، شحنه بالجند لإرهاق المدينة. وحاول ابن عباد أن يؤثر بواسطة هذا الحصن في أهل المدينة، ولكنه لم ينل منها مأرباً بالرغم مما أحاق بها من الضيق. ولما منى ابن عباد بالهزيمة في قرطبة على يد ابن ذى النون (467 هـ) اضطر أن يخلي الحصن، فاحتلته جنود غرناطة.
ثم عاد ابن عمار فحرض ألفونسو السادس على غزو أراضي غرناطة، وزين له سهولة افتتاحها، وعندئذ رأى عبد الله بن بلقين أن يتفاهم مع الملك النصراني، فسار إليه بنفسه، وأسفرت المفاوضات بينهما عن تعهد عبد الله بأن يؤدي جزية سنوية قدرها عشرة آلاف مثقال من الذهب، وأن يسلم بعض الحصون الواقعة جنوب غربي جيان، وهذه باعها الملك النصراني إلى ابن عباد.
وينقل إلينا الأمير عبد الله بهذه المناسبة، ما سمعه من أقوال الكونت سسنندو (ويسميه ششلاند) مستشار ألفونسو، شرحاً لسياسة مليكه في الاستيلاء
_______
(1) كتاب التبيان ص 69.
(2) التبيان ص 70.(2/143)
على الأندلس، على النحو الآتي، قال: " وإنما كانت الأندلس للروم في أول الأمر، حتى غلب عليهم العرب، وألحقوهم بأنحس البقاع، جليقية، فهم الآن عند التمكن طامعين بأخذ ظلاماتهم، فلا يصح ذلك إلا بضعف الحال والمطاولة، حتى إذا لم يبق مال ولا رجال، أخذناها بلا تكلف " (1).
والتفت عبد الله للشئون الداخلية، فعمل أولا على إزالة وزيره سماجة، وكان هذا الوزير قد غلا في الاستئثار بالسلطة، والاستبداد بالأمور، حتى شعر عبد الله بأنه لم يبق له سلطان إلى جانبه. ومن جهة أخرى، فقد كان هذا الاستبداد يثير سخط رجال الدولة وطوائف الشعب عليه، حسبما يحدثنا بذلك الأمير في مذكراته، ومن ثم فقد عمل عبد الله على إقالة وزيره بالحسنى، وسمح له أن يسير في أهله وأمواله الطائلة إلى ألمرية، حيث نزل بها في كنف صاحبها ابن صمادح، واستقر هناك بحال ثروة وغناء (2).
وحاول عبد الله أن يعمل في نفس الوقت على تنظيم الإدارة، وعزل الحكام الظلمة، وبدأ في ذلك بوادي آش، فعزل حاكمها ابن أبي جوش واعتقله، ثم عزل حاكم المنكب وعين حكاماً آخرين يظن فيهم العدل وحسن السيرة.
وعقد الصلح والمودة مع ابن صمادح صاحب ألمرية، بعد أن سوى النزاع بينهما على حصون الحدود مما يلي فنيانه (3).
وكان تميم بن بلقين أخو عبد الله، قد استقل في تلك الأثناء بحكم مالقة وأعمالها، وتلقب بالمنتصر بالله، واستبد وأساء في حكمه السيرة، وأخذ يغير على نواحي المنكب وغيرها مما هو واقع تحت حكم أخيه. فسار إليه عبد الله في بعض قواته، واستولى على بعض حصون مالقة الأمامية، ثم وقع القتال بين قوات الأخوين أمام مالقة وهزم عبد الله أولا، ولكنه عاد فهزم جند مالقة، وضيق على المدينة، فبعث إليه أخوه يستعطفه، وتدخلت والدتهما في الأمر، وخشي عبد الله من جهة أخرى أن يتحول أخوه إذا اشتد عليه، إلى محالفة ابن عباد، فمال إلى مهادنته، وترك له حكم مالقة ونواحي الغربية أي غربي مالقة.
_______
(1) كتاب التبيان ص 73.
(2) كتاب التبيان ص 87 و 88، وأعمال الأعلام ص 235.
(3) كتاب التبيان ص 89 و 90.(2/144)
وثار في نفس الوقت كباب بن تميت حاكم أرشدونة (أرجدونة) وأنتقيرة وعاث فساداً في تلك المنطقة، فسار إليه عبد الله، وضيق عليه، حتى خضع، وأخرج بالأمان.
وأخيراً تم عقد الصلح والمهادنة بين عبد الله بن بلقين والمعتمد بن عباد، ولم يتيسر ذلك إلا بعد مصرع ابن عمار وزير المعتمد، وهو الذي يصفه عبد الله " بالفاسق " وبأنه كان أس الفتنة، وسويت بين الفريقين سائر وجوه النزاع، من حدود وغيرها (أواخر سنة 477 هـ).
ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك، حتى وقع الحادث بسقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، وذلك في فاتحة صفر سنة 478 هـ (24 مايو سنة 1085 م) , فاهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وأفاق ملوك الطوائف لأول مرة من تلك الغمرة التي خدرت مشاعرهم، وأعمت بصائرهم مدى نصف قرن، سادت فيه بينهم الفتن والحروب الأهلية، ولبثوا يمزقون بعضهم بعضاً، والعدو الخالد يضرب بينهم، ويؤلب بعضهم على بعض ويتربص الفرصة لانتزاع كل ما يمكن انتزاعه من أراضي ذلك الوطن الذي نسوا قضيته، وضحوا بمصلحته العليا، استبقاء لمصالحهم الخاصة، وأطماعهم الدنيا.
كان سقوط الحاضرة الأندلسية الكبرى - طليطلة - إذن نذير الخطر العام فنهض المعتمد بن عباد - وقد كان يحمل في وقوع تلك المحنة أكبر الأوزار - ونهض زملاؤه أمراء الطوائف، يحاولون جمع الكلمة، ويزمعون الاستنجاد بإخوانهم فيما وراء البحر، ويبعثون بصريخهم، إلى عاهل المرابطين الأمير يوسف ابن تاشفين، حسبما فصلنا ذلك من قبل في أخبار مملكة إشبيلية.
ويقول لنا الأمير عبد الله في مذكراته، إن أول من خطر له الاستنصار بالمرابطين من أمراء الأندلس، هو أخوه الأمير تميم والي مالقة، وأنه أراد أن يستعين بهم ضده ليستدرك ما فاته من مملكة جده باديس، ولكن أمير المسلمين لم يلتفت إلى دعوته (1).
وقد كان عبد الله على اتفاق مع زملائه أمراء الطوائف في استدعاء المرابطين، وقد أرسل رسله مع رسل ابن عباد إلى أمير المسلمين، وتم الاتفاق فيما بين
_______
(1) كتاب التبيان ص 102.(2/145)
أمراء الأندلس، وبين أمير المسلمين على أن يتحدوا جميعاً بمعونته على غزو قشتالة، وعلى أنه لا يعرض لأحدهم في بلده، ولا يشجع أحداً ممن يروم الخروج عليه (1).
ويحمل ابن الخطيب على الأمير عبد الله، ويقول إنه كان جباناً مغتمد السيف متكاسلا عن الخيل، زاهداً في النساء، موصوفاً بالضعف، لكنه يكتب ويشعر ويتحدث فيما يتحدث فيه الطلبة، ثم يقول لنا إنه وقف خلال زيارته لبلده أغمات على ديوان لعبد الله بخطه " ألفه بعد خلعه، وقرر فيه أحواله والحادثة عليه، مما يستظرف من مثله " مشيراً بذلك إلى مذكراته، وهي التي رجعنا إليها في مختلف المواطن (2).
ونستطيع أن نستشف من هذه المذكرات التي تركها لنا الأمير عبد الله بعنوان " كتاب التبيان " والتي كتبها فيما بعد خلال إقامته في منفاه بأغمات، وسرد فيها تاريخ آبائه، وأحوال حكمه، وحوادث الأندلس في عصره: نستطيع أن نستشف منها ما يؤيد قول ابن الخطيب في جنوح الأمير عبد الله إلى السلم والملاينة والدعة، وفي مجانبته للإقدام، وتخوفه من الحروب وعواقب النضال، وحبه للسلامة والعافية، وإنه ليشكر الله في آخر مذكراته أن نجا من المصير الذي حل بابن الأفطس، حيث فقد حياته مدافعاً عن نفسه ضد المرابطين (3).
_______
(1) التبيان ص 103.
(2) راجع أعمال الأعلام ص 235.
(3) كتاب التبيان ص 176.(2/146)
الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى في جنوبي الأندلس
الإمارات البربرية في الجنوب. خواصها وتكتلها. إمارة قرمونة. بنو برزال وجوازهم إلى ْالأندلس. ولاية عبد الله البرزالي لقرمونة. استبداده بها. حكمه وسيرته. التحالف بين البرزالي وابن عباد. انقلاب ابن عباد عليه. الحرب بين ابن عباد والبربر. وفاة البرزالي وولاية ولده إسحاق. ولاية عزيز المستظهر. إرهاق ابن عباد له. نزوله عن قرمونة لابن ذى النون. نزول ابن ذى النون عنها إلى ابن عباد. بنو يفرن وجوازهم إلى الأندلس. نزولهم أيام الفتنة برندة. زعيمهم أبو نور هلال. مصانعة ابن عباد للبربر ثم غدره بهم. باديس ولد أبي النور. عود أبي النور إلى رندة ووفاته. ولده أبو نصر فتوح ومصرعه. استيلاء ابن عباد على رندة. بنو دمر وهجرتهم إلى الأندلس. نزولهم بمورور. أبو تزيري الدمري وولده نوح. محمد بن نوح ومصرعه في كمين ابن عباد. ولده مناد يخلفه. غارات المعتمد على مورور. إذعان مناد ونزوله عنها إلى ابن عباد. بنو خزرون وتغلبهم على أركش. محمد بن خزرون وخلفاؤه. غارات ابن عباد على أركش. تخلي بني خزرون عنها وخروجهم منها. مداهمة ابن عباد لهم. استيلاء ابن عباد على أركش وأراضيها. انتهاء الدول البربرية في تلك المنطقة.
إلى جانب دولة بني مناد أو بني زيري في غرناطة، كانت تقوم ثمة عدة إمارات بربرية أخرى في هذه المنطقة الجنوبية من الأندلس، منطقة المثلث الإسباني الواقع جنوب نهر الوادي الكبير، والممتد من غربي مملكة غرناطة شرقاً، حتى مصب الوادي الكبير غرباً، ومن الوادي الكبير شمالا، حتى ثغر مربلة وأرض الفرنتيرة جنوباً.
ومن الواضح أن اجتماع هذه الممالك البربرية الصغيرة في هذه المنطقة، يرجع إلى عوامل جغرافية وعسكرية. ذلك أن المثلث الإسباني هو أقرب مناطق شبه الجزيرة إلى المغرب، بحيث تغدو مغادرة الأندلس وقت الخطر أو عند الضرورة أمراً ميسوراً، وكذلك تستطيع الأمداد من أقوامها أن تعبر البحر من المغرب إلى الأندلس بسرعة وسهولة. ومن جهة أخرى فإن اجتماع هذه الإمارات في هذه المنطقة جنباً إلى جنب، كان يحمل معنى التكتل القَبَلي أو العنصري بصورة واضحة، ويمكنها وقت الخطر من توحيد الصفوف، والتعاون على رد العدو(2/147)
المهاجم. وهذا ما رأينا ينطبق بصورة عملية في المعارك التي لبثت طوال أيام الطوائف، تضطرم في هذه المنطقة بين البربر وبين خصومهم الألداء بني عباد، وهم أقوى الممالك الأندلسية المناهضة لهم في معظم النواحي.
وقد قامت هذه الممالك البربرية الصغيرة إلى جانب شقيقتها الكبرى، دولة بني مناد في غرناطة، وفي مثل الظروف التي قامت فيها، وكانت مملكة غرناطة تتولى حمايتها والدفاع عنها كلما دهمها خطر بني عباد، وكانت هي تلتف في نفس الوقت حول غرناطة، كلما دعت إلى ذلك ضرورة سياسية أو عسكرية.
ولم تكن هذه الإمارات البربرية تملك مقومات الدولة الراسخة المستقرة، ولكنها كانت في الواقع أقرب إلى سيادة العصبة القبلية، أو رياسة الأسرة ذات البأس والجاه، ولم يكن في حكومات أو جيوش منظمة بالمدى الصحيح، وإنما كانت تستند في سلطانها إلى حشود القبيلة أو الأسرة المسيطرة، وكانت تجري في الحكم على قاعدة الإستبداد المطلق، وأصول العرف البدوي الساذج، ومن ثم فإنها لم تكن محبوبة من رعاياها الأندلسيين. الذين عرفوا منذ بعيد مزايا الحكم المنظم، ورفاهة العيش المتحضر.
وكانت ثمة من هذه الإمارات - غير مملكة غرناطة - أربع تقوم من حولها وهي إمارة قرمونة، وإمارة رندة، وإمارة مورور، وإمارة شذونة وأركش.
1 - دولة بني برزال في قرمونة
وكان أهم هذه الإمارات، إمارة قرمونة الواقعة في منحنى الوادي الكبير، بين إمارة قرطبة شرقاً، ومملكة إشبيلية غرباً، وقاعدتها مدينة قرمونة الحصينة الواقعة شمال شرقي إشبيلية. وكانت تشمل غير قرمونة، مدينة إستجة الواقعة في شرقها. ومدينة المدَوّر الواقعة غربي قرطبة على نهر الوادي الكبير.
وكانت مدينة قرمونة منذ أيام هشام المؤيد، وقبل انهيار الدولة العامرية، ييد حاكمها الحاجب أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن برزال المعروف بأبى عبد الله البرزالي، وكان بنو برزال هؤلاء ينتمون إلى بطن من بطون زناتة من بني يفرن، وكانوا يقطنون بالمغرب بأرض المسيلة والزاب الأسفل. ونحن نعرف أن زناتة كانت أيام الدولة الأموية من القبائل المشايعة لها بالمغرب ضد خصومها الشيعة العبيديين أو الفاطميين، وكان من خصوم الشيعة في نفس الوقت جعفر ويحيى(2/148)
ابنا علي بن حمدون الأندلسي، صاحب المسيلة وما جاورها من أراضي المغرب الأوسط. فلما اضطرمت الحرب بين بني زيري زعماء صنهاجة وأولياء العبيديين.
وبين زناتة وحلفائها، ومنهم جعفر ويحيى ابنا حمدون، في أواخر أيام الحكم المستنصر، وهزمت صنهاجة وقتل كبيرهم زيري بن مناد (سنة 360 هـ)، هاجر جعفر ويحيى في الأهل والصحب والمال إلى الأندلس، خوفاً من انتقام صنهاجة، وخدما الحكم المستنصر، وحظيا في دولته، وذلك حسبما ذكرنا من قبل في أخبار الحكم.
ولما استطالت صنهاجة على المغرب الأوسط، شعر بنو برزال الزناتيين باشتداد وطأتها، فكتبوا إلى جعفر بن علي الأندلسي، أن يسعى في جوازهم إلى الأندلس لدى الخليفة الحكم، فعمل جعفر على تحقيق رغبتهم، ووصفهم لدى الحكم بالشجاعة والإنقياد إلى الطاعة، فأذن لهم بالجواز، وانتظموا في خدمة الجيش تحت يد جعفر، واستمروا كذلك أيام الحكم ثم المنصور، حتى ندب كبيرهم الحاجب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن برزال أو البرزالي لحكم مدينة قرمونة في أواخر الدولة العامرية، واستقر أهله وصحبه هنالك في كنفه، إلى أن وقعت الفتنة، فخاض بنو برزال غمارها إلى جانب أضرابهم من البطون البربرية الأخرى، ولما انتثر عقد الأندلس، واحتفظ كل رئيس بمدينته، دعا أبو عبد الله لنفسه في قرمونة، وذلك في سنة 404 هـ (1013 م)، واستبد بحكمها، وضبط شئونها، ورتب جندها (1). وفي بعض الروايات المتعلقة بالطوائف أن أبا عبد الله سار في حكمه سيرة حسنة، وعامل الرعية بالرفق والعدل فمالت إليه النفوس، وعمرت قرمونة، وسادها الأمن، وبايعته مدينة إستجة ثم أشونة والمدور وغيرها من البلاد (2)، وغدت قرمونة بذلك إمارة لها خطرها وأهميتها في تلك المنطقة، وغدت بعد غرناطة، ثاني الإمارات البربرية.
ولكن ابن حيان، وهو المؤرخ المعاصر، يحمل على أبى عبد الله البرزالي ويصفه " بقطب رحي الفتنة " وينوه بفتكه وعيثه، وقبح آثاره في تلك المنطقة،
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 267 و 268: ونبذ تاريخية في أخبار البربر (الرباط 1934) ص 44.
(2) نشرت هذه الرواية المتعلقة بالطوائف، وهي لكاتب مجهول في نهاية الجزء الثالث من البيان المغرب. راجع منها ص 311 و 312.(2/149)
وقطعه للسبل إلى آخر ما جاء في أقواله، مما سبق أن ذكرناه في موضعه من قبل (1).
وعلى أي حال فإنه يبدو أن البرزالي، كان زعيما قوياً، وافر الإقدام والعزم والشجاعة. وهذا ما يقرره لنا ابن الخطيب، إذ يصفه بأنه كان يلي باديس في جلالة الشأن، وقوة السلطان، " بقية أمراء البربر المسلطين في هذه الفتنة، وأعظمهم شأناً في الدهاء والرجولة، وأبصرهم بتدبير العساكر، وأربطهم جأشاً على الخطوب المقلقة " (2).
وقد رأينا من قبل كيف كان القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية، يعتمد في البداية على محالفة البرزالي ضد خصومه، وكيف كان البرزالي من جانبه يرحب بهذه المحالفة، اتقاء لشر بني حمود وأطماعهم في إمارته. وكان من آثار هذا التحالف أن حارب البرزالي إلى جانب ابن عباد ضد بني الأفطس أصحاب بطليوس، في حملته ضد باجة سنة 421 هـ، وكان من آثاره أيضاً أن توجس يحيى ابن حمود المعتلي صاحب مالقة شراً من مشاريع ابن عباد، فسار في قواته إلى قرمونة وانتزعها من يد البرزالي، فاستغاث البرزالي بحليفه ابن عباد، وبعث ابن عباد قواته مع ولده إسماعيل، ونشبت بينه وبين المعتلي معركة قتل فيها المعتلي، واستردت قرمونة وأعيدت إلى البرزالي، وذلك في المحرم سنة 427 هـ (1036 م).
ولكن ابن عباد كانت له نحو قرمونة مشاريع أخرى، فقد كانت قرمونة حصن إشبيلية من الشرق، وكان وجودها بيد هذا الزعيم البربري أمر لا يحتمل، ومن ثم فقد تحول ابن عباد فجأة إلى مخاصمة البرزالي، وسير إليه قواته فاستولت على إستجة، ثم استولت بعد ذلك على مدينة قرمونة، وعندئذ استغاث البرزالي، بزملائه البربر، وهرع إلى نصرته باديس صاحب غرناطة، وإدريس المتأيد صاحب مالقة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، انتهت بانتصار البربر وهزيمة الإشبيليين ومقتل أميرهم إسماعيل بن عباد، واسترداد قرمونة، وذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م).
وتوفي أبو عبد الله محمد البرزالي بعد ذلك بثلاثة أعوام سنة 434 هـ (1042 م) بعد أن حكم قرمونة وأعمالها ثلاثين عاماً.
_______
(1) راجع ص 36 من هذا الكتاب. وراجع البيان المغرب ص 206.
(2) أعمال الأعلام ص 236.(2/150)
فخلفه والده الأكبر إسحق بن محمد، وهو في سن الكهولة. ويصفه ابن حيان بأنه كان رئيساً حازماً وافر الكفاية والبأس والفروسية، ولكن دون أبيه محمد في القسوة والفظاظة " وكلاهما على ذلك موصوف بالعفة والنزاهة، والبعد عن آفات الملوك الشائنة " (1). والظاهر أنه لم يحكم طويلا. بل إن صاحب الرواية الخاصة بالطوائف، التي سبقت الإشارة إليها، يغفل ذكره تماماً، ويقول لنا إن الذي خلف أبا عبد الله البرزالي، هو ولده عزيز الملقب بالمستظهر وإن أخاه إسحق بايعه، وتم له الأمر (2).
وسار المستظهر في حكمه سيرة حسنة، وبايعت له البلاد التي كانت تحت حكم أبيه، وساد الأمن والرخاء في أيامه، بيد أنه لم يلبث أن بدأ المعتضد بن عباد في مضايقته وإرهاقه بغزو أراضيه وانتساف زروعه، واستمرت المعارك بينهما أعواماً، وهلك في ذلك النضال كثير من البربر، واضطربت الأحوال في مملكة قرمونة، وعندئذ بعث عزيز المستظهر إلى المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة، يعرض عليه أن يسلمه قرمونة، نكاية في ابن عباد، على أن يعوضه عنها ابن ذى النون قسماً من أراضيه الجوفية، فقبل المأمون هذا العرض، وانتقل عزيز بأهله وأمواله إلى حصن المدور شمالي إستجة من أراضيه، وعاش هنالك حتى توفي. وفي أثناء ذلك وقعت المفاوضة بين ابن عباد، والمأمون، وتفاهما على أن ينزل المأمون للمعتضد عن قرمونة لقربها من أراضيه، وأن يتعاون الاثنان على افتتاح قرطبة، واستلم ابن عباد قرمونة ولكنه لم يف للمأمون بشىء من عهوده (3).
وفي رواية أخرى، أن المستظهر اضطر في النهاية أن ينزل مباشرة عن قرمونة إلى ابن عباد، بعدما يئس من القدرة على الاحتفاظ بها، وأنه سار بأمان ابن عباد إلى إشبيلية، وهنالك توفي بعد قليل. وكان استيلاء ابن عباد على قرمونة في سنة 459 هـ (1067 م). وبذلك انتهت دولة بني برزال في هذا القطاع من المثلث الأندلسي، واختفت واحدة من الإمارات البربرية (4).
_______
(1) نقله أعمال الأعلام ص 237.
(2) ذيل البيان المغرب ج 3 ص 312.
(3) راجع أعمال الأعلام ص 238.
(4) راجع في أخبار مملكة قرمونة، أعمال الأعلام ص 236 - 238، وذيل البيان المغرب ص 311 و 312. وكذلك: P.y Vives: Historia de Los Reyes de Taifas ; p. 23(2/151)
2 - دولة بني يفرن في رندة
وبنو يفرن هم أيضاً بطن من بطون زناتة، وكانوا بالمغرب من أولياء الدعوة الفاطمية، وقد اشتركوا في الحرب التي وقعت بالمغرب أيام المنصور بن أبي عامر، وقاتلهم زيري بن عطية أمير مغراوة وعامل المنصور على المغرب، حتى هزمهم بعد معارك هائلة، وهلك أميرهم يدُّو بن يعلي وذلك في سنة 383 هـ. وعلى أثر ذلك افترقوا إلى شقين، وجنحت منهم شيعة إلى الانحياز إلى الدعوة المروانية، واستأذنوا المنصور في الجواز إلى الأندلس، فأذن لهم وخدموا في الدولة والجيش أسوة بباقي الوافدين من القبائل البربرية. ولما انتهت الدولة العامرية، واضطربت نار الفتنة، وتفرقت القبائل البربرية في النواحي، استقر بنو يفرن في ولاية تاكرونَّا، واتخذوا من قلعتها رندة مركزاً لرياستهم (1)، وكان زعيمهم يومئذ هو أبو نور هلال بن أبي قرة بن دوناس اليفرني. وكان زعيماً " جسوراً جشعاً، مقداماً، عزيز الجانب ببأس رجاله ووعورة رحاله، وحصانة قلاعه "، ولكنه كان في نفس الوقت عاطلا عن كل فضيلة وكل خلة حسنة. وبدأ هلال رياسته لمنطقة تاكرونَّا، حسبما يقول لنا صاحب الرواية المتعلقة بتاريخ الطوائف، عقب وفاة إدريس بن علي بن حمود في سنة 431 هـ (1039 م) (2)، وكانت تشمل أراضي ولاية ريُّه، ما بين نهر وادي لكه والبحر، وكانت قاعدتها رندة من أمنع معاقل الأندلس الجنوبية. وقد رأينا القاضي ابن عباد يخطب منذ البداية ود أولئك الأمراء البربر الذين يحتلون أراضي القطاع الأندلسي الجنوبي المتاخم لأراضيه. وجرى ولده المعتضد على سياسته في توثيق أواصر المودة معهم. بيد أن سياسة بني عباد، لم تكن تقوم في ذلك حسبما رأينا، على الصدق والولاء، وإنما كانت تقوم على الخديعة والمصانعة، وقد تجلت حقيقتها في حوادث مملكة قرمونة. وهكذا كان المعتضد يبدي مودته لأبى نور زعيم بني يفرن، وزملائه أمراء بني دمر أصحاب ولاية مورور، وبني خزرون أصحاب ولاية شذونة وأركش،
_______
(1) نبذ تاريخية في تاريخ البربر ص 45.
(2) راجع ذيل البيان المغرب ج 3 ص 312. ويقول صاحب الرواية إن هلالا قد بويع له بعد موت إدريس بن علي بن حمود سنة ست وأربعمائة وهو تحريف. فقد توفي إدريس سنة 431 هـ (1039 م).(2/152)
وكان يستميلهم بالصلات والدعوات الودية. وفي سنة 445 هـ (1053 م) وجه المعتضد دعوته لأبى نور، ولمحمد بن نوح الدمري صاحب مورور، والقائم ابن محمد بن خزرون أمير بني أرنيان وصاحب شذونة وأركش، لزيارته في إشبيلية، فساروا إليه في صحبهم وفرسانهم في أحسن زي وأكمل هيئة. وكان المعتضد قد دبر كمينه لاغتيالهم حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة بني عباد، وانتهت هذه الدعوة الغادرة بالقبض على أولئك الأمراء وصحبهم وتكبيلهم بالأغلال ثم هلاك اثنين منهم، وهما ابن نوح وابن خزرون، في الحمام، وأفلت منهم هلال أبو نور، حيث أطلق المعتضد سراحه وأخلى سبيله.
وفي خلال ذلك كان باديس ولد هلال أبي نور، قد قام بالرياسة في غيبته أثناء اعتقاله بإشبيلية، وكان " فاسقاً مجرماً " فاستبد بالأمر، وأرهق الناس ببغيه وطغيانه، وأطلق العنان لشهواته الدنيئة، فاستباح الحرم وسطا على الأعراض هو وصحبه، فكانوا يأخذون الزوجات من أزواجهن، والبنات من آبائهن، ولم يفر حتى أقرب الناس إليه من خاصة محارمه. فلما تخلص أبو نور من الأسر، وعاد إلى رندة، وعلم بما وقع من ولده من العظائم، أمر في الحال بالقبض عليه وإعدامه وذلك في سنة 449 هـ (1057 م). انه لم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى توفي أبو نور نفسه، وخلفه في الإمارة ولده أبو نصر فتوح بن أبي نور (1).
واستطال حكم أبى نصر زهاء ثمانية أعوام. وكان عادلا حسن السيرة. بيد أنه كان ميالا إلى الدعة منهمكاً في الشراب. وكان المعتضد بن عباد من جهة أخرى يتربص به ويترقب الفرصة لهلاكه، وانتهى بأن دس عليه رجلا من دعاته برندة يدعى ابن يعقوب، وكان فارساً مقداماً، فدهم أبا نصر ذات يوم في جماعة من صحبه، وهو في إحدى شرفات القصبة العليا، وصاحوا بشعار بني عباد، فحاول أبو نصر الفرار، ووثب من الشرفة فهوى إلى أسفل، فارتطم بالصخر وزهق على الأثر، ولم يأبه الناس لما حدث، ولم يتعرض للقتلة أحد, وانتهت بذلك دولة بني يفرن، واستولى ابن عباد على رندة وأعمالها بأيسر أمر، وكان ذلك في سنة 457 هـ (1065 م) (2). ونظم المعتضد بهذه المناسبة قصيدته التي مطلعها:
لقد حصلت يا رندة ... فصرت لملكنا عقدة
_______
(1) ذيل البيان المغرب ج 3 ص 313.
(2) ذيل البيان المغرب ج 3 ص 313 و 314.(2/153)
3 - دولة بني دمّر في مورون
وكانت ثالثة الإمارات البربرية في تلك المنطقة من الأندلس الجنوبية، هي إمارة بني دمر في مورور أو مورون (1). وكانت تشغل رقعة صغيرة تمتد حول مدينة مورور، وجنوباً حتى وادي لكه. وقام بها أيام الفتنة نوح بن أبي تزيري الدمّري زعيم بني دمّر. وقد كان بنو دمر من بربر تونس ومن بطون زناتة، وهم خوارج إباضية. وفد جدهم أبو تزيري إلى الأندلس أيام المنصور، وخدم كسائر زملائه الزعماء البرابرة في الجيش، وانحاز منذ أيام الفتنة إلى تلك المنطقة، واستقر بها وبسط عليها سلطانه. ولما توفي في سنة 403 هـ (1013 م) خلفه ولده نوح بن أبي تزيري، واستمر في حكمها زهاء ثلاثين عاماً، ثم توفي سنة 433 هـ (1041 م) فخلفه ولده محمد بن نوح. وكان محمد فتى غراً، وجندياً جاهلا، خلواً من الفضائل. بيد أنه كان مقداماً جسوراً، " وافر العنف والفتك " (2). وكان حديث عهد بالإمارة، فاستبد وبغى وتلقب بعز الدولة، واستطاع بجرأته وصرامته، أن يحافظ على سلطانه وعلى أراضيه. وكان المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية ينظر بعين السخط إلى قيام تلك الإمارات الصغيرة بجوار مملكته القوية الشاسعة، ويعمل الفكرة في إزالتها، وكان حسبما تقدم يصانع أولئك الأمراء البربر أحياناً ويهاجمهم أحياناً أخرى، وقد ذكر لنا صاحب الذخيرة أنه استغل هذه السياسة المزدوجة تجاه إمارة مورور الصغيرة، فأغارت قواته على أراضي مورور، واستقبل محمد بن نوح هذا العدوان بالحلم والصبر، ولم يقابله بمثله (3). وجنح المعتضد بعد ذلك إلى مصانعة ابن نوح، واستمالته بالصلات والهدايا، كما فعل ذلك مع زميليه، أبى نور صاحب رندة، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، ثم دعاهم وصحبهم كما تقدم إلى زيارته في إشبيلية، ثم قبض عليهم وغدر بهم، وهلك في ذلك الكمين الخائن الذي رتبه المعتضد في سنة 445 هـ (1053 م) محمد بن نوح وابن خزرون. وفي رواية أخرى أن محمداً بن نوح لبث في
_______
(1) وهي بالإسبانية Moron.
(2) أعمال الأعلام ص 239، وذيل البيان المغرب ج 3 ص 295.
(3) نقله صاحب البيان المغرب ج 3 ص 214.(2/154)
معتقل المعتضد حتى توفي في سنة 449 هـ (1057 م).
فخلفه في الإمارة ولده مناد بن محمد بن نوح، وتلقب بعماد الدولة، وسار على سنة أبيه من الصرامة والحزم، وقصده البربر من إشبيلية وإستجة وزادت جموعه، واستمر محافظاً على سلطانه، والمعتضد بن عباد يكرر الإغارة على أراضيه، ويحرق بلاده وزروعه، ويرهقه بطريقة قاسية منظمة. فلما ضاق بهذا العدوان المستمر، ولما شعر في النهاية أنه عاجز عن الدفاع عن إمارته، كتب إلى المعتضد، يسأله الأمان والمسالمة على أن يسلمه أراضيه، ويخرج إلى إشبيلية، يعيش فيها تحت كنفه، فأجابه المعتضد إلى رغبته، وسلم إليه عماد الدولة حصن مورور، وما يتبعه من حصون وأعمال، وذلك في سنة 458 هـ (1066 م)، وانتهت بذلك مملكة بني دمّر الصغيرة، وأضيفت إلى أعمال مملكة إشبيلية الشاسعة.
وسار عماد الدولة إلى إشبيلية في أهله وأمواله، وبالغ المعتضد في إكرامه والتوسعة عليه، وعاش هناك حتى توفي في سنة 468 هـ (1075 م).
4 - دولة بني خزرون في أركش
وكانت دولة بني خزرون هي رابعة الإمارات البربرية الصغيرة في تلك المنطقة. وبنو خزرون هم من أبناء قبيلة يرنيان أو إرنيان من زناتة، وكان زعيمهم أبو عبد الله محمد بن خزرون بن عبدون الخزري، وهو كغيره من زعماء البربر الوافدين على الأندلس أيام الدولة العامرية، قد ظهر أيام الفتنة بمدينة قلشانة بكورة شذونة على مقربة من أركش، وذلك في سنة اثنتين وأربعمائة.
ثم تغلب على مدينة أركش المنيعة، وأقام بها حكومة مستقلة تشمل الأنحاء المجاورة، وتلقب بعماد الدولة، وكان زعيماً جسوراً مقداماً، سفاكاً للدماء، فهابه الناس واستمر يحكم تلك المنطقة حتى توفي في سنة 420 هـ (1029 م). فخلفه ولده عبدون ابن خزرون، وبايعته البلاد المجاورة لأركش وقلشانة وشريش، واستمر حكمه زهاء خمسة وعشرين عاماً، إلى أن هلك بإشبيلية في الكمين الشائن، الذي استدرجه إليه المعتضد بن عباد هو وزميلاه محمد بن نوح الدمري، وأبو نور بن أبي قرة، حسبما أشرنا إلى ذلك غير مرة، وكان ذلك في سنة 445 هـ (1053 م).
فتولى الأمر من بعده أخوه محمد بن خزرون وتلقب بالقائم، وأخذ يحصن بلاده، ويتأهب لمقاومة ابن عباد بعد الذي بدا من غدره. والواقع أن(2/155)
ابن عباد ما فتىء يترقب الفرصة للاستيلاء على هذه المنطقة التي تجاوره من الجنوب الشرقي، وتفصله عن إمارة رندة، وهي التي كان يطمح إلى أخذها في نفس الوقت، فعمد إلى الإغارة عليها، وتخريب أراضيها وإرهاقها بكل الوسائل وابتنى حصناً على مقربة من أركش وشحنه بالمقاتلة لمضايقتها بطريقة منظمة، والقائم صامد يدافع عن أراضيه ما استطاع. وأخيراً ألفى القائم أنه لا يستطيع مدافعة ابن عباد إلى النهاية، فلجأ إلى باديس بن حبوس أمير غرناطة، واتفق معه على أن يعطيه قلعة أركش وسائر البلاد التي تحت حكمه، على أن يعطيهم أرضاً من بلاده ينزلون بها ويقيمون فيها، وبعث باديس بقوة كبيرة من جنده ليعاونهم على الجلاء. وخرج بنو إرنيان من أركش بأهلهم وأموالهم، يقصدون إلى أرض غرناطة. وكان ابن عباد قد رتب الكمائن لاعتراضهم، فما كادوا يبتعدون بأحمالهم عن القلعة حتى خرجت كمائن ابن عباد، ونشب بين الفريقين قتال مرير، دافع فيه بنو إرنيان عن أنفسهم وعن أموالهم وحريمهم أشد دفاع، بيد أنهم مزقوا في النهاية، وقتل أميرهم محمد بن خزرون وقتل معه قائد جند باديس، وأبيد معظمهم. ومما يذكر أن محمداً بن خزرون لما شعر بالهلاك أمر غلامه أن يقتل زوجته وكانت رائعة الحسن، وكذلك أخته، حتى لا تقعا في أيدي العدو، واكتفى ابن عباد بتمزيق بني إرنيان وترك فلولهم دون مطاردة، ودخل أركش واستولى على سائر البلاد التابعة لها، وذلك في سنة 461 هـ (1068 م) (1) وهكذا سقطت الإمارات البربرية الصغيرة الأربع، التي تقع في منطقة المثلث الإسباني الجنوبي، وضمت كلها تباعاً إلى مملكة إشبيلية القوية، وذلك خلال أعوام قلائل فقط، رندة في سنة 457 هـ، ومورور سنة 458 هـ، وقرمونة سنة 459 هـ، وأركش في سنة 461 هـ.
وأضحت مملكة إشبيلية، بعد الاستيلاء على تراث هذه الإمارات، تمتد من ولاية تدمير شرقاً، حتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن وسط الأندلس، من شرقي مملكة طليطلة، وغربي مملكة قرطبة شمالا، حتى أرض الفرنتيرة، وثغر الجزيرة جنوباً، وإذا استثنينا مملكتي ألمرية وغرناطة، فإن مملكة إشبيلية كانت تضم معظم تراث الدولة الأموية الذاهبة في وسط الأندلس وفي جنوبها.
_______
(1) راجع أعمال الأعلام ص 239 و 240، والبيان المغرب ج 4 ص 271 و 272 وذيله ج 3 ص 294 و 295.(2/156)
الكتابُ الثالِث
دول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس(2/157)
الفصْل الأوّل مملكة ألمرية
الفتيان الصقالبة. اشتراكهم في حوادث قرطبة. نزوحهم إلى شرقي الأندلس. استيلاء خيران العامري على أوريولة ومرسية وألمرية. يؤيد خلافة المرتضي. اختيار الفتيان لعبد العزيز المنصور زعيماً لهم. خيران يبايع محمد بن عبد الملك ثم يختلف معه. حكم خيران في ألمرية ومنشآته. شجاعته وإقدامه. وفاته وولاية زهير العامري مكانه. صفاته. وزيره أحمد بن عباس. حملته إلى غرناطة ومصرعه استيلاء عبد العزيز بن أبي عامر على ألمرية. استخلافه لوزيره ابن صمادح عليها. تغلب ابن صمادح على ألمرية. بنو صمادح وزعيمهم أبي يحيى عامل وشقة. ولده معن يتولى الوزارة لصهره عبد العزيز ثم ينزع منه ألمرية. وفاته وقيام ولده أبي يحيى المعتصم مكانه. صداقته لباديس صاحب غرناطة. خلافه مع عبد العزيز صاحب بلنسية. الثورة في لورقة. تأييد عبد العزيز لها. الحرب بينه وبين المعتصم وباديس. استقلال الثوار بحكم لورقة. الخلاف بين المعتصم وباديس. استيلاء المعتصم على أراضي غرناطة الشرقية. استيلاؤه على جيان. الخلاف بين المعتصم وعبد الله صاحب غرناطة والصلح بينهما. أدب المعتصم وشاعريته. أقوال ابن بسام. سقوط طليطلة وموقف المعتصم من استدعاء المرابطين. تنافسه مع ابن عباد لدى أمير المسلمين. مساهمة جنده في موقعة الزلاقة. مساهمته في حصار حصن لييط. وفاته وما يروى حولها. ولده معز الدولة. فراره من ألمرية عند مقدم المرابطين.
1 - عهد الفتيان العامريين
لما وقعت الفتنة، وانتهت الدولة العامرية، بتربع محمد بن هشام المهدي على كرسي الخلافة، في جمادى الآخرة سنة 399 هـ (فبراير 1009 م)، ومقتل عبد الرحمن بن المنصور، بعد ذلك بأيام قلائل، غادر معظم الفتيان الصقالبة قرطبة، فراراً من اضطهاد العهد الجديد، وقصدوا إلى شرقي الأندلس، حيث كانت الأحوال أهدأ وأكثر استقراراً، وجو العمل والمغامرة أكثر انفساحاً، وكان منهم عدة من الفتيان الفحول والخصيان الأذكياء، ذوي الإقدام والعزم، مثل مجاهد، وقد غلب على مدينة دانية والجزائر الشرقية، ولبيب وقد غلب على طرطوشة. ومظفر ومبارك وقد غلبا على بلنسية، ونبيل وقد غلب على شاطبة، وخيران، وقد غلب على ألمرية ومرسية وأوريولة.
وإنما يهمنا هنا، من هذه الجمهرة من الفتيان الصقالبة، خيران العامري،(2/158)
وقد كان من أقواهم عزماً، وأنشطهم إلى خوض غمار الحوادث، التي تلت سقوط الدولة العامرية. ونحن نعرف أن محمداً بن هشام المهدي حينما تولى الخلافة ثار عليه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في أنصاره ومرشحيه من البربر، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة حول قرطبة وفي الزهراء، هزم فيها سليمان وحزبه في البداية. وكان الفتيان العامريون ينقمون على المهدي ما فعله بهشام المؤيد من حبسه بالقصر واضطهاده، وما فعله بعبد الرحمن المنصور وبني عامر، فائتمروا به وقتلوه، وكان من بين مدبري هذه المؤامرة الحاجب واضح الفتى، وزميلاه عنبر وخيران، وكانا قد قدما من شرقي الأندلس إلى قرطبة مع عدد آخر منهم، ليشتركوا في حوادث قرطبة، وليبحثوا عن طالعهم فيها.
ورفع الفتيان الصقالبة، هشاماً المؤيد إلى كرسي الخلافة مرة أخرى، وتولى واضح حجابته. ولكن البربر تمسكوا بموقفهم وبمرشحهم سليمان، واستأنفوا هجومهم على قرطبة وحاصروها، وقاتلوا أهلها بمنتهى الشدة، ودافع القرطبيون عن أنفسهم بمنتهى البسالة، ولكنهم ضاقوا بالحصار والعدوان ذرعاً، ووجه اللوم في ذلك إلى الحاجب واضح، فقتله زملاؤه، وفي النهاية تغلب البربر على كل مقاومة، واعتلى سليمان كرسي الخلافة باسم المستعين، وذلك في شوال سنة 403 هـ (مايو 1013 م).
وكان الفتيان العامريون قد خشوا العاقبة بعد مقتل واضح، وهالهم في نفس الوقت، ما ارتكبه سليمان وصحبه البربر من العيث والسفك، وجرح الكثير منهم خلال القتال ومنهم خيران، فغادروا قرطبة ناجين بأرواحهم، وقصدوا إلى شرقي الأندلس مرة أخرى.
وسار خيران أولا إلى أوريولة في شرقي الأندلس فاستولى عليها، ثم وثب منها على مدينة مرسية عاصمة تدمير، فأخضعها لسلطانه (403 هـ)، وخرج منها بعدئذ بقواته إلى ثغر ألمرية. وكان عليها أفلح الصقلبي، وهو حسبما تصفه الرواية غرٌّ جلف، قد ذهب به العجب كل مذهب، وكان يدل على زملائه الفتيان الصقالبة بقدمه وشيخوخته، فهاجمه خيران، وقتله هو وولده، وانتزع منه ألمرية، وذلك في المحرم سنة 405 هـ (يوليه 1014 م) وغدت ألمرية من ذلك الحين قاعدته الرئيسية، ومستودع أمواله وعدته، كما غدت مركز الدعوة(2/159)
لإمامة هشام المؤيد، وهو الذي كان يعتبره فتيان الصقالبة إمامهم ومولاهم. وقد رأينا فيما تقدم من أخبار الدولة الحمودية، كيف ادعى علي بن حمود الحسني حاكم سبتة أيام الفتنة، أنه تلقى عهد هشام، وكيف تحالف معه خيران ثم عاونه بقواته، كما عاونه بربر غرناطة، وانتهى الأمر بأن زحفت القوات المتحدة على قرطبة، وكتب النصر لعلي بن حمود، ودخل قرطبة، ولما لم يعثر على هشام المؤيد بالقصر، دعا لنفسه بالخلافة، وبدأت بذلك دولة بني حمود (سنة 407 هـ).
ثم رأينا كيف غادر خيران قرطبة مغضباً متوجساً من غدر علي بن حمود، وقصد إلى جيان، ودعا أصحابه بالخلافة لعبد الرحمن المرتضي، وأيده في تلك الحركة عدة من ولاة الثغور، ثم وقعت الحرب بين قوات المرتضي وبربر غرناطة، فهزم المرتضي ثم قتل، وعندئذ سار خيران في أصحابه، وقصد إلى ألمرية مرة أخرى، وكان ذلك في سنة 409 هـ (1019 م).
والظاهر أن خيران، بالرغم من اتخاذه ألمرية قاعدته الرئيسية. قد لعب في حوادث شرقي الأندلس دوراً ملحوظاً. ذلك أن الفتيان العامريين في شرقي الأندلس، قد اتفق رأيهم على أن يتخذوا لهم رئيساً من سلالة مولاهم العظيم، المنصور بن أبي عامر، ينضوون جميعاً تحت لوائه من الناحية الأدبية، فوقع اختيارهم في ذلك على عبد العزيز بن عبد الرحمن بن المنصور، وكان فتى حدثاً ونحن نذكر أنه كان أيام أبيه عبد الرحمن المنصور طفلا، ومع ذلك فلقد أسبغ عليه والده لقب الحجابة، ولقبه بسيف الدولة، وكان منذ مصرع أبيه قد غادر قرطبة سراً، وسار إلى سرقسطة، وأقام بها في كنف صاحبها منذر ابن يحيى التجيبي، فلما اختاره الفتيان العامريون زعيماً لهم، غادر سرقسطة، ولحق بشاطبة، حيث أعلنت بيعته، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م). وفي رواية أخرى أن سليمان بن الحكم المستعين، حينما ولي الخلافة لأول مرة، عمل على رد اعتبار بني عامر، فدفن شلو عبد الرحمن المنصور بالتكريم، وآوى ولده الطفل عبد العزيز، وابن عمه الطفل محمد بن عبد الملك تحت رعايته، فبقيا في كنفه وقتاً قصيراً، حتى خلع، واسترد محمد بن هشام الخلافة. فعندئذ غادر الطفلان قرطبة (1). ولسنا نعرف ما هو الدور الذي أداه خيران في اختيار عبد العزيز
_______
(1) أعمال الأعلام ص 193.(2/160)
للزعامة، وهل كان من مؤيديه أم من خصومه. ذلك أنه لم يمض قليل على ذلك حتى اختلف خيران مع عبد العزيز، وأعلن الخروج عليه، وسار من ألمرية إلى مرسية، وهنالك بايع بالزعامة محمداً بن عبد الملك بن المنصور، وهو ابن عم عبد العزيز، وكان قد غادر قرطبة ولجأ إليه، فقدمه وصحبه إلى مرسية، وثار في نفس الوقت أهل شاطبة بعبد العزيز فغادرها سراً إلى بلنسية. وتسمى محمد بالمؤتمن، ثم بالمعتصم. ثم تنكر له خيران، وأخرجه من مرسيه، واستولى الفتيان على أمواله، فسار إلى غرب الأندلس وعاش هنالك حتى توفي (1) وهكذا لم يكن خيران، وهو في عمالته في شرقي الأندلس، دائماً على وفاق مع أصحابه الفتيان العامريين، وكانت علائقه بالأخص سيئة مع مجاهد صاحب دانية، وكانت تقع بينهما المناوشات والمعارك من آن لآخر.
* * *
ولتتبع بعد ذلك حكم خيران في ألمرية، بعد أن فصلنا الحوادث التي خاضها منذ اضطرام الفتنة، والتي تدل في مجموعها على ما كان يتمتع به هذا الزعيم الصقلبي من الحصافة، والإقدام، وقوة العزم.
استقر خيران في ألمرية، وبسط حكمه على أعمالها، وكانت إمارة ألمرية تشمل يومئذ المنطقة الممتدة من شاطىء اسبانيا الشرقي الجنوبي، على هيئة مثلث كبير، غرباً حتى وادي آش وحدود مملكة غرناطة، وشمالا حتى بسطة وجيان، وقد كانا أهم قواعدها بعد ألمرية، وهذا عدا أوريولة ومرسية، وقد كان يحكمهما بالنيابة زهير العامري. وأبدى خيران في ضبط ألمرية وتنظيمها همة فائقة، وحصن ألمرية، وأصلح قصبتها الشهيرة، وزاد فيها حتى غدت من أعظم القصبات الأندلسية، وأودعها أمواله وذخائره، وما زالت أطلالها الماثلة إلى اليوم تشهد بما كانت عليه من الروعة والحصانة. وزاد خيران في قبلة جامع ألمرية زيادة اتسع لها الجامع، وبنى السور الهابط من الجبل إلى البحر، وجعل له أربعة أبواب منها باب يخرج منه إلى بجانة (2) ونظم خيران جيشه، واستوزر
_______
(1) يراجع في هذه الحوادث أعمال الأعلام ص 210 و 211، وابن خلدون ج 4 ص 162، والبيان المغرب ج 3 ص 164. وكذلك: Gaspar Remiro: Historia de Murcia Musulmana (Zaragoza 1905) p. 96-98.
(2) كتاب ترصيع الأخبار للعذري (نصوص عن الأندلس نشرت منه بعناية الدكتور عبد العزيز الأهواني) (مدريد 1965) ص 83.(2/161)
الكاتب البليغ أحمد بن عباس بن أبي زكريا، وعامل رعيته بالرفق والعدل، وفي أيامه بلغت ألمرية منتهى العمران والرخاء، وغدت من أمنع وأجمل ثغور الأندلس.
وكان خيران رئيساً وافر الدهاء والشجاعة، والحصافة، وحسن التدبير، وكان بصيراً بالحروب ومكايدها، وقد جرت بينه وبين جيرانه البربر أصحاب غرناطة، وقائع أبدى فيها قوته وصرامته، فهابوه، ولم يفكروا في مناوأته.
وكان فوق ذلك كله متواضعاً زاهداً في الألقاب، فلم يتسم بشىء من تلك الألقاب الضخمة، التي تسمى بها سائر أمراء الطوائف في عهده، واكتفى بما كان يوصف به من " الخليفة " و " الفتى الكبير " (1).
وقد مدحه شاعر العصر الكبير، أبو عمرو أحمد بن درّاج القسطلي، بقصيدته الشهيرة، التي مطلعها:
لك الخير قد أوفى بعهدك خيران ... وبشراك قد وافاك عزٌّ وسلطان
هو النجم لا يدعي إلى الصبح شاهد ... هو النور لا يُبغي على الشمس برهان
إليك شحنّا الفلك تهوى كأنها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان
على لجج خضر إذا هبت الصبا ... ترامى بنا فيها ثبير وثهلان (2)
وتوفي خيران العامري بألمرية في جمادى الآخرة سنة 419 هـ (1028 م)، فاجتمع في الحال رجال الدولة، وعلى رأسهم الوزير أحمد بن عباس، ونبأهم بأن خيران، قد أوصى قبل وفاته بأن يخلفه أخوه زهير العامري، واتفق الجميع بذلك على تولية زهير. وكان خيران حينما شعر بدنو أجله قد بعث بالفعل يستدعي زهيراً، نائبه في مرسية وجيان، فقدم زهير على عجل، وأدرك خيران قبيل وفاته، فلما توفي قام في الحال مكانه، وتسلم زمام السلطان، ورضي به الناس ورجال الدولة (3).
وكان زهير ويكنى أبا القاسم، من أهم الفتيان العامريين، وأشدهم بأساً، " وكان شهماً داهية " بعيد النظر، وقد لعب في حوادث الفتنة بقرطبة أدواراً أشرنا إليها في مواضعها، ولما تولى حكم ألمرية اقتفى أثر صاحبه خيران في حسن
_______
(1) أعمال الأعلام ص 212.
(2) وردت هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (دمشق 1961) ص 86 - 88، ووردت في الذخيرة (القسم الأول المجلد الأول ص 74 - 78)، وكذلك ابن الخطيب في أعمال الأعلام (ص 212 - 215) وهي طويلة جداً.
(3) ابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 525 و 526.(2/162)
السيرة وحفظ النظام. وهو الذي زاد في المسجد الجامع بألمرية من غربيه وشرقيه وجوفيه، وعظم المسجد بذلك. وبنى السقاية، وكثر الماء في ألمرية. وكان يكرم الفقهاء ويشاورهم في الأمر.
وكانت مملكة ألمرية وقت أن تولى حكمها زهير، تمتد من ألمرية حتى شاطبة، شرقاً، وتمتد شمالا حتى جيّان وبيّاسة، وحتى أعمال طليطلة، ولو أن زهيراً استمع إلى صوت العقل والحكمة، وقنع بتدبير مملكته الكبيرة، لكان له في تاريخ الطوائف شأن آخر، ولكنه كان يقع تحت نفوذ وزيره الكاتب أحمد بن عباس، وقد كان هذا الوزير، بالرغم من صفاته العلمية والأدبية اللامعة، ميالا إلى التهور والمغامرة، وكان يلقى في روع أميره مشاريع خطيرة، ويحرك أطماعه بتحريضه وسيىء نصحه، والظاهر أنه هو الذي بعث إليه فكرة غزو غرناطة، على أثر موت أميرها حبوس بن ماكسن، وتولى ولده باديس الحكم مكانه في سنة 428 هـ (1037 م). فنظم زهير حملته المشئومة إلى غرناطة، ولم يلتفت إلى ما طلبه إليه باديس وأخوه بُلُقِّين، من تجديد أواصر المودة والصداقة التي كانت معقودة بينه وبين أبيهما حبوس، ثم سار إليها في قواته الكبيرة، وقد أخذه الغرور والعجب، حسبما فصلناه في أخبار غرناطة، وهنالك التقى بقوات باديس في ظاهر قرية ألفنت القريبة من غرناطة، وذلك في آخر شوال سنة 429 هـ (1038 م) ونشبت بينهما الموقعة الهائلة التي انتهت بهزيمة زهير ومصرعه وتمزيق قواته، وأسر أكابر رجاله، وفي مقدمتهم وزيره ابن عباس، وقد قتله باديس أيضاً بعد ذلك بأسابيع قلائل (1).
فكانت هذه النكبة ضربة أليمة لمملكة ألمرية، وكان من أثرها أن استولى باديس على الجزء الشمالي الغربي من أراضي ألمرية، وفيها مدينة جيان أكبر قواعدها الشمالية.
ولما فقدت ألمرية أميرها ووزيرها على هذا النحو، اجتمع أهلها، وأسندوا رياستهم إلى شيخ الجماعة أبي بكر الرميمي، فتولى شئونها، وضبط النظام والأمن.
ثم كتب أهل ألمرية إلى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية يستدعونه لحكم مدينتهم. وكان عبد العزيز يعتبر أنه صاحب الحق الشرعي في تراث الفتيان العامريين، وذلك بحق الميراث والولاء باعتبارهم موالي أسرته، وكان مذ هلك
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 168 - 172.(2/163)
زهير، قد بعث وزيره ابن صمادح إلى باديس، يلح عليه في إعدام أكابر الأسرى من زعماء ألمرية الذين وقعوا في يده، ولاسيما الوزير ابن عباس، حتى لا يعارضه منهم أحد بعد في امتلاك ألمرية، وبادر عبد العزيز على أثر ذلك إلى ألمرية، فبايعه أهلها ودخلها في آخر ذي القعدة سنة 429 هـ، ووجد بيت مالها مليئاً بالمال المضروب والذخائر فنقلها جميعاً إلى بلنسية (1)، وترك عليها والياً من قبله هو صهره ووزيره أبو الاحوص معن بن صمادح التجيبي، فكانت ولايته إيذاناً بتطور مصاير مملكة ألمرية.
ْ2 - عهد بني صمادح التجيبيين
ذلك أن عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، لم يكد يفرغ من شئون ألمرية، حتى جاءته الأنباء بأن منافسه وخصيمه مجاهد العامري صاحب دانية وجزائر البليار، قد تحرك لغزو أراضيه. وكان مجاهد يرقب تقدم عبد العزيز واتساع ملكه بعين الحسد، فلما شغل بما آل إليه من تراث الفتيان في ألمرية، خرج مجاهد في قواته صوب بلنسية، فهرع عبد العزيز إلى مدافعته، وترك صهره ووزيره أبا الأحوص معن بن صمادح ليرعى شئون ألمرية. وكان معن رجلا قليل الولاء كثير المطامع، فما كاد عبد العزيز يغادر ألمرية، حتى وضع مشروعه للاستئثار بالسلطة، والاستيلاء على مملكة ألمرية، وما زال يوطد الأمر لنفسه حتى جاهر بخلع الطاعة، ودعا لنفسه واستجاب الناس لدعوته، واستولى على ألمرية وأعمالها وذلك في سنة 433 هـ (1041 م)، وكان من مؤيديه ومعضديه في هذا الانقلاب باديس صاحب غرناطة. ودخلت مملكة ألمرية بذلك في عهد جديد من تاريخها.
وكان هذا الرئيس الجديد الذي سيطر على أقدار ألمرية، ينتمي إلى بيت من أعرق البيوتات العربية، وكان حسبما يوصف من أهل الدهاء والفضل والعلم والأدب (2). وهو معن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن ابن صمادح، وبه عرف بيتهم. وصمادح هذا هو ولد عبد الرحمن بن عبد الله
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 162، وأعمال الأعلام ص 217، والبيان المغرب ج 3 ص 172 وراجع دوزي: Hist.; V. III ; p. 28
(2) العذري في " نصوص عن الأندلس " من كتاب ترصيع الأخبار ص 84.(2/164)
ابن المهاجر بن عميرة، وهو جدهم الداخل إلى الأندلس. وفي عبد الرحمن ابن عبد الله يجتمعون مع بني هاشم التجيبيين أصحاب سرقسطة، فهم مثلهم ينتمون إلى تجيب (1). وكان والده أبو يحيى محمد بن أحمد بن صمادح حاكم مدينة وشقة وأعمالها منذ أواخر أيام هشام المؤيد بالله. ولما تولى سليمان الظافر الخلافة في سنة 403 هـ أقره على ولايته، وكانت بينه وبين ابن عمه منذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة في البداية علائق مودة وسلام، فلما انتهت أيام سليمان، واغتصب بنو حمود الخلافة القرطبية في سنة 407 هـ، وعادت الأمور إلى اضطرابها، ساءت العلائق بين المنذر وأبى يحيى، وسار منذر إلى وشقة في قواته واستولى عليها، وفر أبو يحيى في أهله وولده ناجياً بنفسه. فكان على قول ابن حيان " أول ساقط من الثوار لم يتملأ سلطانه ولا أورثه من بعده ". وكان أبو يحيى مع رياسته عالماً محدثاً من أهل الفضل والأدب، روى عنه ابنه أبو الأحوص معن، وله مختصر قيم في غريب القرآن. وقد اشتهرت وصيته لابنيه معن وصمادح بأسلوبها البارع، ومحتوياتها الجامعة لمعظم آداب الدنيا والدين، ودلالتها على وفور علمه، وجلالة معارفه، وسمو نفسه (2). ووصف لنا ابن بسام في الذخيرة أبا يحيى بأنه كان فارساً مقداماً، وكان أديباً ذلقاً حسن البيان، ولكنه كان منكود الطالع، فلم تدم رياسته طويلا (3).
ولجأ أبو يحيى إلى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، فأكرم وفادته وتوثقت علاقتهما بالمصاهرة، إذ تزوج ولداه معن أبو الأحوص، وصمادح أبو عتيبة بأختي عبد العزيز. ثم أراد أبو يحيى اللحاق بالمشرق، فمات غرقاً في البحر. وذكر لنا ابن حيان أنه هلك غرقاً في البحر الرومي، فيما بين جزيرة يابسة
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال) في ترجمة المعتصم بن صمادح، لوحة 80 و 81، ونقلها دوزي مقتضبة في كتابه: Recherches, V.II.App.XX.. وذكر ابن الخطيب أن صمادح إنما هو اسم امرأة هي صمادح بنت عبد الرحمن بن عبد الله إلى آخر نسبتهم، وأنهم عرفوا باسم أمهم المذكورة (أعمال الأعلام ص 189). ولكنا لم نجد تأييداً لهذه الرواية. وبالعكس فإن النسابة ابن حزم يقرر أن صمادح هو جدهم (جمهرة أنساب العرب ص 405). ويوافقه ابن الأبار حسبما تقدم. وراجع الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 78 - 81.
(2) ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة" - الجزء الأول - مخطوط مكتبة باريس الوطنية.
(3) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 236.(2/165)
وشاطىء الأندلس، وكان قد ركبه من ثغر دانية، في مركب تأنق في صنعه واستجادة آلته وعدته، مع نفر عديد من صحبه، فغرق معظمهم، ولم ينج منهم سوى القليل، وذلك في جمادى الأولى سنة 419 هـ (1) وبقي ابنه معن في كنف صهره عبد العزيز، وقد ولاه وزارته، فلما قتل زهير العامري، واستولى عبد العزيز على ألمرية، استخلف عليها وزيره معن. قال ابن حيان: " فكان شر خليفة استخلف. لم يكد يواري وجهه عبد العزيز عنه، حتى خان الأمانة، وطرده من الإمارة، ونصب له الحرب، فغرّب في اللؤم ما شاء. وتنكب ابن أبي عامر التوفيق لاسترعائه الذئب الأزل على ثلته، ومسترعي الذئب أظلم، وكان من العجب أن تملاها ابن صمادح، وخلفها ميراثاً في عقبه " (2)، وانتهى الأمر باستيلاء معن على ألمرية والدعاء بها لنفسه حسبما تقدم. واستمر معن في حكم ألمرية وأعمالها زهاء عشرة أعوام. وكانت بينه وبين باديس صاحب غرناطة علائق مودة وصداقة. وتوفي سنة 443 هـ (1051 م) بعد أن وطد رياسته، ومهد الملك لعقبه.
فخلفه ولده أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح بإجماع القرابة ورجال الدولة، ولما يستكمل الثامنة عشرة من عمره؛ وكان أبوه قد أخذ له البيعة بولاية عهده، بعد أن عرضها على أخيه صمادح أبي عتبة، فاعتذر عن قبولها، واتخذ من الألقاب الملوكية لقبين، هما المعتصم بالله والواثق بفضل الله، والرشيد على قول آخر، وتوطدت في بداية حكمه علائق المودة بينه وبين باديس صاحب غرناطة، على ما كانت بينه وبين أبيه (3). ولكن الخلاف لبث بالعكس مستحكماً بينه وبين خاله عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، وكان باديس يعمل على إذكاء هذا الخلاف وتقويته كلما بدت بوادره. ذلك أنه كان باعتباره زعيم البربر يكره الجبهة الأندلسية، ويحاول دائماً أن يعمل على إضعافها، وكان من أبرز الحوادث المتصلة بهذا الخلاف ثورة ابن شبيب صاحب لورقة على المعتصم وذلك في سنة 443 هـ (1051 م). وكان من الواضح أن هذه الثورة لم تكن بعيدة عن وحي
_______
(1) ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة" - ج 1 من مخطوط مكتبة باريس الوطنية.
(2) الذخيرة القسم الأول من المجلد الثاني ص 237، والبيان المغرب ج 3 ص 174 وأعمال الأعلام ص 190.
(3) كتاب التبيان ص 45.(2/166)
عبد العزيز. ذلك أن لورقة، وهي آخر قواعد مملكة ألمرية الشمالية الشرقية، تقع على حدود مملكة بلنسية، وقد استنصر الثائر بعبد العزيز، فبادر بتلبية دعوته، وأمده ببعض قواته، وزحف المعتصم في جيشه على لورقة، وأمده باديس من جانبه بقواته، ونشبت بين الفريقين معارك انتهت بهزيمة ابن شبيب واستيلاء المعتصم على حصون لورقة، وعودتها إلى حظيرة مملكة ألمرية (1). بيد أنه يبدو أن ابن شبيب قد استأنف الثورة بعد ذلك، واستطاع أن يستقل بحكم لورقة، وخلفه إخوته الثلاثة في حكمها بالتعاقب، واعترف آخرهم بطاعة ابن عباد صاحب إشبيلية، واستمر على حكمها باسمه، حتى سقطت إشبيلية في يد المرابطين في سنة 484 هـ (1091 م) (2). فلما توفي عبد العزيز في سنة 452 هـ (1060 م)، وخلفه في حكم بلنسية، ولده عبد الملك الملقب بالمظفر، بعث المعتصم بن صمادح بعض قواته فأغارت على بعض حصونه في تدمير، وساعده في تلك الحركة أيضاً باديس، ولكنه باء بالفشل، وردت جنده على أعقابها (3).
ثم تطورت العلائق بعد ذلك بين المعتصم وباديس، وثابت للمعتصم أطماع في الاستيلاء على أراضي غرناطة المجاورة لمملكته. والظاهر حسبما يحدثنا الأمير عبد الله بن بلقين أمير غرناطة في مذكراته، أن الذي كان يوحي إليه بتلك الأطماع ويشجعها، هو يوسف بن نغرالة اليهودي، وزير باديس، بل يقول لنا الأمير إن مشروع ابن نغرالة كان يرمي إلى تمكين المعتصم من الاستيلاء على غرناطة ذاتها (4). وعلى أي حال فقد استطاع المعتصم أن يستولي على بعض أراضي غرناطة الشرقية وعلى حصن وادي آش. وقد رأينا فيما تقدم من أخبار باديس أنه ركن إلى الدعة في أواخر عهده، ووقع التفكك في مملكته. وهو قد استرد وادي آش من ابن صمادح فيما بعد، ولكن الظاهر أنه فقد جيان في أواخر عهده، واستولى عليها المعتصم بمداخلة الخوارج فيها. وكانت مملكة ألمرية تشمل
_______
(1) ابن خلدرن ج 4 ص 162.
(2) Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 105
(3) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 239، والبيان المغرب ج 3 ص 174.
(4) كتاب التبيان ص 53.(2/167)
عندئذ من القواعد الهامة غير ألمرية، لورقة، وجيان، وبياسة (1) التي استطاع المعتصم أن ينتزعها من أملاك علي بن مجاهد العامري صاحب دانية، بيد أنه لم يحتفظ طويلا بمدينة جيان التي استولى عليها المعتمد بن عباد فيما بعد.
ولما توفي باديس وخلفه حفيده عبد الله بن بلقين، وقعت بين المعتصم وعبد الله منازعات كثيرة بسبب الحصون الغرناطية الواقعة على الحدود مما يلي فنيانة، وانتهى الأمر بأن أرغم عبد الله على هدم تلك الحصون استبقاء للمهادنة والسلم بينه وبين أمير ألمرية (2).
وبذل المعتصم جهوداً عظيمة، في توسيع قصبة ألمرية وتجميلها، وأنشأ بها قصره الكبير الممتد حتى الجبل، وإلى جانبه بستانه العظيم، وأنشأ مجلساً رحباً مفروشاً بالرخام الأبيض، ومجلساً آخر مقرنساً بالرفوف المذهبة، ويليه من الجهة القبلية أبواب عليها شراجب يمكن منها أن يرى جميع مدينة ألمرية، وبحرها، وإقبال السفن إلى مرساها وخروجها منه. وجلب المعتصم الماء إلى المدينة ووصلها إلى جامع ألمرية، وجلب منها فرعاً إلى ما وراء القصبة، ونظم وصول الماء إلى الرياض الملحقة بالقصر، كما ابتنى بخارج ألمرية قصوراً فخمة، وإلى جوارها بساتين تغص بغرائب الأشجار والثمار، وفي إحداها بحيرة عظيمة عليها مجالس مفتوحة، مفروشة بالرخام الأبيض، وكان ذلك البستان الفخم يسمى " بالصمادحية " وهو قريب من ألمرية (3).
على أن أهم ما يشتهر به المعتصم بن صمادح هو أدبه وشعره، وحمايته لدولة الشعر والأدب. وقد كان بلاطه الصغير بألمرية، ينافس في مجالسه الأدبية وفي رعايته للأدباء والشعراء، بلاط إشبيلية.
وكان بلاط المعتصم منتدى لطائفة من أكابر شعراء العصر، فقد كان وزيره أبو الأصبغ عبد العزيز بن أرقم شاعراً مقتدراً يجيد الوصف والمديح، وكان من شعرائه المختصين به، أبو عبد الله محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز، إمام الموشحات، وأبو الفضل جعفر بن شرف، وهو من أهل برجة، وكانت
_______
(1) A.R Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) p. 167
(2) كتاب التبيان ص 89 و 90.
(3) العذري في كتاب " ترصيع الأخبار " ص 85.(2/168)
مدائحه للمعتصم تمتاز بطرافتها، وبديع تصويرها، وأبو القاسم خلف بن فرج المعروف بالميسر، أصله من إلبيرة، وكان يجيد شعر التهكم اللاذع؛ وابن الحداد الوادي آشي، وقد قضى معظم حياته في بلاط المعتصم، ولكن غضب عليه المعتصم ذات يوم لزلة ارتكبها في شعره، فغادر ألمرية، ولجأ حيناً إلى بلاط المقتدر بن هود بسرقسطة، ثم عاد إلى ألمرية، وكان فضلا عن شاعريته التي تبدو في مدائحه الكثيرة للمعتصم، عالماً بالفلسفة. ومن مديحه للمعتصم قوله من قصيدة طويلة:
لعلك بالوادي المقدس شاطىء ... فكالعنبر الهندي ما أنا واطىء
وإني في رؤياك واجد ريحهم ... فروح الهوى بين الجوانح ناشىء
ولي في السُّرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافىء
لذلك ما حنت ركابي وحمحمت ... عِرابي وأوحى سيرها المتباطىء (1)
وقد نوهت الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، بحماية المعتصم لدولة الشعر والأدب. فمثلا يقول لنا ابن بسام: " ولم يكن أبو يحيى هذا من ملوك الفتنة، أخلد إلى الدعة، واكتفى بالضيق من السعة. واقتصر على قصر يبنيه، وعلق يقتنيه، وميدان من اللذة يستولي عليه ويبرز فيه. غير أنه كان رحب اللقاء، جزل العطاء، حليماً عن الدماء والدهماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمته جملة من فحول شعراء الوقت كأبي عبد الله بن الحداد، وابن عبادة، وابن الشهيد وغيرهم .. ".
ويزيد ابن بسام على ذلك، أن ما خاضه المعتصم من الفتن والحروب مع خصومه من ملوك الطوائف، لم يكن مما يتفق وطبيعته الوادعة، وإنما استدرج إليها، وأكره عليها إكراهاً (2).
وقد كان المعتصم في الواقع يؤثر العيش الهادىء بقصره الأنيق المشرف على البحر والمسمى، " بالصمادحية " وينفق كثيراً من وقته في المجالس الشعرية والأدبية.
_______
(1) أوردها ابن بسام في الذخيرة - القسم الأول المجلد الثاني ص 218، وأورد من بعدها قصائد أخرى من مدائحه للمعتصم (ص 218 - 233) وراجع أيضاً نفس المصدر ص 241 و242 وص 372 - 380.
(2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 239، والحلة السيراء (دوزي) ص 172، و (القاهرة) ج 2 ص 82 و 83، وقلائد العقيان ص 47.(2/169)
ولم تقتصر حماية المعتصم ورعايته على دولة الشعر والأدب، ولكن بلاطه كان في نفس الوقت مقصد المفكرين والعلماء من كل ضرب، ومن هؤلاء أبو عبيد عبد الله البكري أعظم جغرافي الأندلس، وصاحب المعجم الجغرافي اللغوي الشهير، فقد عاش حيناً في ألمرية في كنف المعتصم، وكان صديقه الأثير، وأغدق عليه المعتصم فيض رعايته وصلاته.
وكان بنو صمادح أنفسهم جميعاً من نجوم الشعر والأدب، فقد كان المعتصم، وبنوه معز الدولة ورفيع الدولة ورشيد الدولة من شعراء العصر. ولهم جميعاً آثار شعرية انتهى إلينا الكثير منها. وكانت أم الكرام بنت المعتصم كذلك شاعرة عصرها (1) وكان المعتصم فوق ذلك كله، معنياً بشئون الدين، وإقامة أحكام الشريعة، يعقد المجالس في قصره للمذاكرة، ويجلس يوماً في كل أسبوع للفقهاء والخواص، يتناظرون بين يديه في كتب التفسير والحديث (2).
واشتهر المعتصم بن صمادح بشعره وطرائفه الأدبية، وقد أورد لنا صاحب الذخيرة ضمن ما أورده من بعض قصائده، الأبيات الغزلية الآتية:
وتحت الغلائل معنى غريب ... شفاء الغليل وبرء العليل
فهل لي من نيله نائل ... ولابن السبيل إليه سبيل
فما لي إلا الهوى متجر ..
. فغير الغواني متاع قليل
فيا ربة الحسن في غاية ... وعصر الشباب وظل المقيل
ذرينى أعانق منك القضيـ ... ـب وأرشف من ثغرك السلسبيل (3)
ولما تطورت الحوادث، وأدت الفتن والحروب بين ملوك الطوائف، إلى عاقبتها المحتومة، واستأسد عليهم ألفونسو السادس ملك قشتالة، وأخذ يضرب بعضهم ببعض، حتى ظفر بالاستيلاء على طليطلة (صفر 478 هـ)، واتجه ملوك الطوائف وفي مقدمتهم المعتمد بن عباد، إلى الاستنصار بأمير المسلمين يوسف
_______
(1) نقل إلينا ابن بسام في الذخيرة كثيراً من قصائدهم (القسم الأول المجلد الثاني ص 241 - 244). وكذلك في المغرب في حلي المغرب ج 2 ص 196 - 203، وابن الأبار في الحلة السيراء (المخطوط) لوحات 82 و 83 و 84.
(2) الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 82.
(3) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 241.(2/170)
ابن تاشفين المرابطي، لم يكن المعتصم فيما يبدو من المتحمسين لتلك الفكرة ذلك أنه نظراً لموقع مملكته في الطرف الجنوبي في شبه الجزيرة، لم يكن قد آنس بعد خطر النصارى الداهم، كما آنسه ابن عباد وابن الأفطس، وكان فضلا عن ذلك يشعر كما يشعر معظم أمراء الطوائف بما يقترن بمقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة من الاحتمالات الخطيرة (1). ومع ذلك فإن المعتصم، حينما عبر أمير المسلمين إلى الأندلس في شهر ربيع الآخر سنة 479هـ (1086 م) لم يتقاعس عن المساهمة في القوات الأندلسية التي حشدت للتعاون مع الجيش المرابطي، وذلك حسبما نفصل بعد في موضعه، ثم إنه بعد ذلك تقرب من أمير المسلمين يوسف بالهدايا والتحف الجليلة، والتلطف في خدمته، حتى قربه إليه وأغدق عليه عطفه. وكان يوسف يبدي عطفه وتقديره بالأخص لرجلين من أمراء الطوائف هما المعتصم والمعتمد بن عباد، وكان يقول عنهما لأصحابه إنهما رجلا الجزيرة. ويقول لنا عبد الواحد المراكشي، إن المعتصم وابن عباد كان يشعر كل منهما نحو الآخر بعاطفة من المرارة والتحاسد، وأنهما حاولا غير مرة أن يتصافيا باللقاء، وأن المعتمد زار المعتصم بقصره بألمرية، واحتفل المعتصم بإكرامه أعظم احتفال، ومع ذلك فقد لبث الضغن كامناً في نفسيهما. فلما شعر المعتصم بتمكن منزلته لدى أمير المسلمين فيما بعد، أخذ يدس لديه في حق المعتمد، ويحاول أن يغير نفسه عليه، وقد كان في ذلك فاسد التدبير قصير النظر، حسبما أثبتت الحوادث فيما بعد (2).
ولم يشهد المعتصم موقعة الزلاّقة، معتذراً لدى أمير المسلمين بضعفه وكبر سنه، ولكن قواته ساهمت فيها بقيادة ولده معز الدولة. واستمر المعتصم بعد ذلك في الحكم بضعة أعوام أخرى. وكان ألفونسو السادس بعد هزيمته المروعة في الزلاقة، قد استطاع أن ينهض من عثارها بسرعة، وتحول عدوانه عندئذ إلى شرقي الأندلس، حيث كان الضعف يسود الإمارات الأندلسية الصغيرة.
وكانت القوات القشتالية، قد رابطت في حصن لييط (3) المنيع الواقع فيما بين مرسية ولورقة، وأخذت ترهق الأنحاء القريبة بغاراتها المتوالية، وكان أمير المسلمين قد
_______
(1) راجع كتاب التبيان ص 104. وراجع كذلك دوزي: Hist., V.III.p. 124
(2) راجع المعجب ص 73 و 74.
(3) هو بالإسبانية Alédo، وما زالت أطلال هذا الحصن قائمة حتى اليوم.(2/171)
عاد على أثر موقعة الزلاقة إلى المغرب، فلما وقف على اضطراب شئون الأندلس وتفككها بعد رحيله، واشتداد عدوان النصارى في المنطقة الشرقية، عاد فعبر البحر إلى الأندلس في قواته (481 هـ)، وتعاونت القوات الأندلسية مع القوات المرابطية في حصار حصن لييط، وكان المعتصم في مقدمة الأمراء الذين هرعوا إلى المساهمة في ذلك الحصار، وخصوصاً لقرب ذلك الحصن من أراضيه، وتعرضها بذلك لعيث النصارى. وطال الحصار مدى أربعة أشهر، ولم ينجح المسلمون في اقتحام لييط، بالرغم من وفرة قواتهم وعددهم، واضطروا إلى ترك الحصار، بعد أن فنيت معظم حاميته، واضطر ألفونسو بعد ذلك إلى إخلائه لعقم الدفاع عنه.
وتوفي المعتصم بن صمادح في ربيع الآخر سنة 484 هـ (1091 م) بعد أن حكم إحدى وأربعين عاماً. بيد أنه شهد قبل أن يثوي إلى قبره نذر الخاتمة المشئومة تبدو في الأفق. ذلك أن يوسف بن تاشفين عبر البحر للمرة الثالثة (483 هـ) لا لينجد أمراء الأندلس هذة المرة، ولكن ليقضي عليهم وعلى دولهم المنحلة المفككة، وبدأ في ذلك بإمارة غرناطة واستولى عليها، ثم بعث قواته إلى إشبيلية لتقضي هنالك على دولة بني عباد. وهنالك روايتان فيما يتعلق بسقوط ألمرية، الأولى أن المرابطين حاصروها بالفعل، وامتلكوا معظم حصونها، وضيقوا على المعتصم، وهو ملازم سريره يعاني مرض موته، وأنه ألقى عندئذ عبارته المشهورة: " نُغص علينا كل شىء حتى الموت ". وحينما ألفى جاريته تبكي عند رأسه قال هذا البيت:
ترفق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل (1)
ومما قاله أيضاً حينما شعر بدنو أجله:
تمتعت بالنعماء حتى مللتها ... وقد أضجرت عينيَّ مما سئمتها
فيا عجباً لما قضيت قضاءها ... وملِّيتُها عمري تصرم وقتها
وأما الرواية الثانية فتقول بأن المعتصم توفي قبل مقدم المرابطين، وأنه أوصى
_______
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 240 و 241، والبيان المغرب ج 3 ص 168، وأعمال الأعلام ص 193، وابن خلدون ج 4 ص 162.(2/172)
قبل وفاته ولده معز الدولة أحمد، بأنه متى علم بسقوط إشبيلية وخلع أميرها المعتمد وهو قطب الجزيرة، أن يعبر البحر في أهله وأمواله إلى أمراء بني حماد أصحاب القلعة بشرقي العدوة، وأن معز الدولة تولى حكم ألمرية بعد وفاة أبيه بضعة أشهر. فلما سقطت إشبيلية، وأسر أميرها المعتمد، وذلك في رجب سنة 484 هـ، بادر معز الدولة باتخاذ أهبة الفرار، ثم ركب البحر في أهله وأمواله في ثلاث سفن أعدها لذلك، وأحرق السفن الباقية خشية المطاردة، واستطاع أن يغادر ألمرية قبل أن يطوقها المرابطون وذلك في رمضان سنة 484 هـ (1091 م) ونزل على آل حماد أمراء القلعة على مقربة من بجاية، فأكرمت وفادته، وعاش هناك حتى توفي (1).
_______
(1) أورد هذه الرواية صاحب الحلة السيراء (دوزي) ص 174 والقاهرة ج 2 ص 89 و 90 وراجع روض القرطاس (طبعة أبسالة 1843) ص 101.(2/173)
الفصل الثانِي
مملكة مرسية
مدينة مرسية وانشاؤها. تغلب خيران العامري عليها أيام الفتنة. اختياره محمد بن عبد الملك للزعامة ثم تنكره له. زهير العامري يتولى حكم مرسية وأوريولة. إمارته لألمرية. نائبه أبو بكر بن طاهر بمرسية. عراقة ابن طاهر وأدبه. مصرع زهير وقيام عبد العزيز المنصور مكانه في ألمريه. إقراره لولاية ابن طاهر لمرسية. حزم ابن طاهر وسراوته. ولده أبو عبد الرحمن يخلفه. استيلاء ابن ذى النون على بلنسية وعزل صاحبها عبد العزيز المنصور. استقلال أبي عبد الرحمن بمرسية. خلاله وعلمه وأدبه. مطامع ابن عباد في مرسية. اتفاق وزيره ابن عمار وأمير برشلونة على افتتاحها. فشل المحاولة. ابن عباد يستأنف الكرة. ابن رشيق يفتتح مرسية. القبض على ابن طاهر ثم الإفراج عنه. ندب ابن عمار لحكمها. طمعه في الاستقلال بها. تحريضه لأمراء النواحي. تحريضه لأهل بلنسية على الثورة. قصيدته في ذلك. متاعب ابن عمار في مرسية. غدر ابن رشيق به واستيلاؤه على المدينة. فرار ابن عمار والتجاؤه إلى سرقسطة. محاولته فتح حصن شقورة. القبض عليه وتسليمه لابن عباد ثم مصرعه. استبداد ابن رشيق بمرسية. يشترك مع المرابطين في حصار حصن لييط. اتهامه لدى أمير المسلمين بالخيانة. تسليمه لابن عباد ثم فراره. استيلاء المرابطين على مرسية. حياة ابن طاهر في بلنسية ثم وفاته بها.
إن مدينة مُرْسِية، قاعدة ولاية مرسية أو ولاية تدمير القديمة الواقعة في شرقي الأندلس، هي مدينة أندلسية محضة، نشأت وترعرعت في ظل الأندلس المسلمة، ولم يكن لها وجود عند الفتح. وكانت قاعدة ولاية تدمير عند الفتح هي مدينة أوريولة. وفي سنة 216 هـ (831 م)، أنشأ الأمير عبد الرحمن بن الحكم مدينة مرسية لتكون عاصمة لتدمير، ومقراً للعمال والقواد، وقام على إنشائها عامله مالك بن جابر بن لبيد، وسميت في البداية بتدمير، على نسق تدمير الشام (1). وكان إنشاء مرسية في بسيط أخضر من الأرض، يقع في منحنى نهر شقورة، على مسافة قريبة من جنوب غربي أوريولة، الواقعة على نفس النهر، قبيل مصبه في البحر الأبيض المتوسط، وما زالت مرسية حتى اليوم تحتفظ بطابع أندلسي عميق.
_______
(1) الروض المعطار، صفة جزيرة الأندلس، (القاهرة) ص 181، بقيت في معجم البلدان تحت كلمة مرسية.(2/174)
ولما انهارت الدولة العامرية، واضطرمت الفتنة في نهاية المائة الرابعة، وشعر الفتيان العامريون، أنه لا أمل لهم في النهوض والسلطان، خلال الفوضى الشاملة، التي غمرت قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، سار معظمهم إلى شرقي الأندلس. وكان من هؤلاء كبيرهم خيران العامري، فسار أولا إلى أوريولة، وهي أمنع قواعد ولاية تدمير، وبسط عليها سلطانه، ثم سار منها إلى مرسية واستولى عليها، وذلك في سنة 403 هـ (1012 م). واستخلف عليها نائبه، وزميله زهيراً العامري، ثم سار منها في قواته إلى ألمرية، وانتزعها من صاحبها أفلح الصقلبي، على نحو ما ذكرنا في موضعه، وغدت ألمرية من ذلك الحين قاعدته الرئيسية، تتبعها مرسية وأوريولة من شرقي الأندلس.
وقد ذكرنا فيما تقدم، كيف أجمع الفتيان العامريون، الذين تغلبوا على شرقي الأندلس، على أن يتخذوا لهم زعيماً، من بيت مولاهم العظيم المنصور ابن أبي عامر، وكيف وقع اختيارهم في ذلك على عبد العزيز بن عبد الرحمن بن المنصور، فتمت بيعته في شاطبة، ثم لحق بعد ذلك ببلنسية، وبسط سلطانه عليها بتأييد الفتيان، وتسمى بالمنصور، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م).
ثم أشرنا إلى موقف الخصومة، الذي وقفه خيران بعد ذلك من زعامة عبد العزيز المنصور، وإلى ما عمد إليه من ترشيح ابن عمه محمد بن عبد الملك المظفر بن المنصور للزعامة مكانه، واستقدامه إلى شرقي الأندلس، ونزوله له عن رياسة مرسية وأوريولة. وتلقب محمد بالمعتصم، بيد أن أمد رياسته لم يطل، إذ تنكر له خيران، كما تنكر من قبل لابن عمه عبد العزيز المنصور، ثم سار إليه في قواته، وضيق عليه، حتى اضطر إلى مغادرة مرسية، ولجأ إلى أوريولة، فشدد خيران في مطاردته حتى فر منها، وسار إلى دانية، فعاش حيناً في كنف أميرها مجاهد العامري: ثم غادرها إلى غربي الأندلس، وهنالك عاش بقية حياته، وتوفي في سنة 421 هـ (1030 م) (1).
وعاد زهير العامري نائباً لخيران على مرسية وأوريولة: واستقر خيران بألمرية أميراً عليها، حتى توفي سنة 419 هـ (1028 م).
وعندئذ خلفه في حكم مملكة ألمرية، وفي حكم مرسية وأوريولة بالأصالة،
_______
(1) أعمال الأعلام ص 193 و 194، وابن خلدون ج 4 ص 162.(2/175)
زهير العامري، واستمر حكمه عليها حتى مصرعه في حربه مع باديس بن حبوس صاحب غرناطة في سنة 429 هـ (1038 م).
- 1 -
وكان يتولى حكم مرسية وقت أن كان زهير أميراً لألمرية، نائبه أبو بكر أحمد بن إسحاق بن طاهر. وكان بنو طاهر هؤلاء، من أعيان ولاية تدمير وسراتها، وينتمون إلى قيس، وكان منزلهم بمرسية، وقد اشتهروا بالعلم والوجاهة. ولما توفي خيران العامري، وغادر نائبه زهير مرسية ليتولى مكانه إمارة ألمرية، كان رئيس الجماعة بمرسية أبو عامر بن خطاب، فخشي زهير، إن تركه خلفه بمرسية، أن يثور بها وينزعها منه، فصحبه معه إلى ألمرية، وأسكنه بها حافظاً عليه مكانته ونعمته. والظاهر أن أبا عامر هذا هو حفيد أبى عمر أحمد بن خطاب كبير أعيان مرسية وسراتها أيام المنصور بن أبي عامر، وهو الذي استضاف المنصور وجيشه عند مروره بمرسية سنة 374 هـ, في طريقه إلى غزوة برشلونة، وأبدى يومئذ من وافر الشهامة والجود، ما غدا مضرب الأمثال (1). واستخلف زهير على ألمرية أبا بكر بن طاهر، ندّ أبى عامر وخصيمه لثقته بولائه وأمانته، وكان قد استطاع يومئذ أن يفتدي نفسه من أسر مجاهد العامري صاحب دانية، وأن يعود إلى مرسية (2). والظاهر أن ابن طاهر وقع في الأسر حينما غزا مجاهد مرسية، على أثر وفاة صاحبها خيران، وتوجسه من مشاريع خليفته زهير، وكان ابن طاهر عندئذ حاكماً لمرسية حسبما يبدو ذلك من إشارة لابن الأبار، من أنه بعد عوده من الأسر " عاد إلى حاله ونعمته، وأعانه زهير على لم شعثه، ووفى بعهده " (3).
وضبط أبو بكر بن طاهر مرسية، وسار في حكمها سيرة حسنة. وكان فضلا عن عراقة بيته، وأرومته العربية المؤثلة، وثرائه الواسع، من أكابر علماء عصره ومن أغزرهم أدباً، وأبلغهم بياناً، وكان الشعب المرسى يحيطه بتقديره وحبه، لما كان يراه من نبيل صفاته، ووفرة حزمه ولينه وصيانته. وبالرغم من أنه كان
_______
(1) الحلة السيراء (دوزي) ص 251 و 252. و (القاهرة) ج 2 ص 311 و 312
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 187. و (القاهرة) ج 2 ص 117
(3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 187.(2/176)
يستأثر بسائر السلطات، فإنه لم يتخذ شيئاً من مظاهر السلطان والإمارة، ولم يتخذ لقباً من الألقاب الملوكية التي كان يشغف بها أضرابه من رؤساء الطوائف، وإنما كان يسمى فقط بالرئيس (1).
ولما توفي زهير العامري قتيلا في حربه مع باديس بن حبوس صاحب غرناطة في سنة 429 هـ (1038 م)، واستطاع عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية، أن يخلفه في إمارة ألمرية، كانت مرسية وأوريولة من البلاد التابعة لها. وقدر عبد العزيز حزم ابن طاهر، ورسوخ مكانته، فلم يتعرض له بشىء، وأقره على حكم مرسية. وكان ابن طاهر، مع ولائه الظاهر لعبد العزيز المنصور، يسير في رياسته وحكمه على قاعدة الاستقلال التام، ولا ينفذ من أوامر عبد العزيز إلا ما يراه متفقاً مع رأيه وظروف بلده، ويرسل إلى بلنسية فائض الدخل، ويقوم بالنفقة على من ينزل طرفه من الجند، وكان عبد العزيز يقنع منه بهذا المسلك المتسم بالحزم والكرامة والاحترام المتبادل. وفي خلال حكمه الطويل الذي استمر نحو ستة وثلاثين عاماً، ازدهرت أحوال مرسية، وعمها الأمن والرخاء، وذاعت بها العلوم والآداب لقدوة أميرها الأديب العالم، واجتمعت له محبة الشعب وتقديره، وهو ما كان يندر يومئذ في دول الطوائف. وأضحى ابن طاهر في أواخر أيامه من أقوى الرؤساء جانباً، ومن أغنى سراة الأندلس، حتى لقد كان يمتلك وحده نصف أراضي بلده، وكان يعاونه في الحكم والإدارة ولده النابه أبو عبد الرحمن محمد، ولاسيما في أواخر عهده حيث أصيب بالفالج، وطالت علته أعواماً، وتوفي في شهر رمضان سنة 455 هـ (1063 م) (2).
فخلفه في حكم مرسية ولده أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر، وكان عبد العزيز المنصور قد توفي قبل ذلك في شهر ذي الحجة سنة 452 هـ (1061 م)، وخلفه في حكم بلنسية ولده عبد الملك الملقب بالمظفر، فأقر عبد الرحمن مكان أبيه على حكم مرسية. وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر، صنو أبيه في السراوة والحزم والهيبة، فسار في الحكم سيرته، مستقلا عن حكومة بلنسية، معترفاً بطاعتها في نفس الوقت. ونحن نعرف أنه لم يمض على ولاية عبد الملك المظفر لبلنسية أعوام قلائل، حتى زحف فرناندو ملك قشتالة في قواته على بلنسية وحاصرها، ثم
_______
(1) ابن الأثير ج 9 ص 100.
(2) الحلة السيراء (دوزي) ص 187 و 188، وأعمال الأعلام ص 201.(2/177)
هزم البلنسيين هزيمة شديدة في موقعة بطرنة (457 هـ - 1065 م)، وعلى أثر ذلك نفذ المأمون بن ذي النون مشروعه لانتزاع بلنسية من صهره، زوج ابنته عبد الملك المظفر، فدخل بلنسية على أثر ارتحال القشتاليين عنها، وقبض على عبد الملك وولده، ونفاهما إلى إحدى قلاعه، وضمت بلنسية عندئذ إلى مملكة طليطلة.
وهنا ألفى أبو عبد الرحمن بن طاهر، الفرصة سانحة للاستقلال التام عن حكومة بلنسية وإنهاء ولائه الاسمى لها، وسار في حكم مرسية وأعمالها أميراً مطلقاً لها. وكانت إمارة مرسية تشمل عندئذ مدينة أوريولة المنيعة، الواقعة في شمالها الشرقي، وكذلك بلدة مولة الواقعة في شمالها الغربي تجاه أوريولة، وإلش وكتندة. بيد أنها لم تكن تشمل لورقة الواقعة في جنوبها الغربي، وقد كانت لورقة مثل مرسية في البداية تابعة لمملكة ألمرية، بيد أنها انفصلت عن ألمرية على يد ابن شبيب الثائر بها في سنة 443 هـ (1051 م)، وحكمها ابن شبيب المذكور، واخوته الثلاثة من بعده، بالتعاقب، واعترف آخرهم بطاعة ابن عباد صاحب إشبيلية، حسبما ذكرنا في موضعه، واستمرت لورقة بذلك طوال هذه المدة منفصلة عن حكومة مرسية (1).
وكما أن أبا عبد الرحمن، كان قرين أبيه في السراوة والقوة والحزم، فكذلك كان قرينه في العلم والأدب، بل كان يفوقه في ذلك المضمار. وقد كان أبو عبد الرحمن بن طاهر في الواقع من أعظم علماء الأندلس وكتابها في عصره، وقد أشاد معاصره ابن بسام بذكره وذكر أدبه في الذخيرة، وشبهه في أسلوبه بالصاحب بن عباد بالمشرق، ونوه بروعة رسائله ونبلها، ولاسيما رسائله الهزلية، فإنه يتقدم فيها على الجماعة، ثم وضع عنه كتاباً ضمنه رسائله في إعلام رؤساء الأندلس بخلاصه من محنة اعتقاله (حسبما نذكر بعد)، وشكر ابن عبد العزيز صاحب بلنسية على السعي في إنقاذه منها، وهي عدة من الرسائل البارعة، ضمها ابن بسام مع سواها من رسائله في كتاب عنوانه "سلك الجواهر من نوادر وترسيل ابن طاهر". ويشير إليه ابن عبد الملك في ترجمته بقوله: " وكان أحد المتقدمين في البلاغة، بارع الكتابة، فصيحاً، خطيباً، وكانت أيامه أيام عدل وأفضال،
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 162، وراجع: Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p.105(2/178)
ودفع باس، وتسويغ آمال ". ويقول لنا ابن الأبار، إنه كان من أهل العلم والأدب البارع، يتقدم رؤساء عصره في البيان والبلاغة (1).
ويصفه ابن الخطيب بقوله: " وكان صدر زمانه، والمثل السائر في بلاغته وبيانه ". وكان أسلوب ابن طاهر يميل إلى الدعابة. " وأجود رسائله ما اشتمل على الهزل لميل طبعه إليه ". وكان بلاط مرسية في عهده منتجع الأدباء والشعراء، يقصدون إليه، ويلتفون حوله، ويغمرونه بمدائحهم، فيغمرهم برعايته وصلاته.
وكان ممن وفد عليه بمرسية الوزير الشاعر ابن عمار، وزير المعتمد، وفد عليه أيام خموله، فأثابه، ودرس ابن عمار يومئذ أحوال مرسية، ووقف على قصور معداتها الدفاعية، ثم دبر مشروعه لافتتاحها فيما بعد (2).
- 2 -
واستمر أبو عبد الرحمن بن طاهر أميراً على مرسية زهاء خمسة عشر عاماً، يتسم عهده بالسلم والرخاء. بيد أنه كان ثمة بعض العناصر الناقمة من خصوم ابن طاهر يسعون إلى نكبته وإسقاطه. وكانت حدود مملكة إشبيلية الكبرى قد امتدت يومئذ، بعد استيلاء أميرها المعتمد بن عباد على قرطبة وجيان، حتى نهر شقورة ومدينة لورقة القريبة من مرسية. وكان زعيم لورقة ابن شبيب قد اعترف بطاعة المعتمد، وأضحى سلطان المعتمد في هذه الأنحاء يهدد مملكة مرسية بطريق مباشر، فكتب الناقمون من أهل مرسية إلى ابن عباد يدعونه لافتتاحها (3)، ويؤكدون له ضعف وسائلها الدفاعية، وهذا إيضاح لمشروع المعتمد في فتح مرسية. وهناك إيضاح آخر خلاصته أن صاحب هذا المشروع هو أبو بكر ابن عمار وزير المعتمد، وأنه كان يضطرم برغبة خفية في الحصول على السلطان والإمارة، أو على حد قول ابن بسام: " كان يطلب سلطاناً ينثر في يديه سلكه، وملكاً يخلع على عطفيه ملكه ". ويؤيد ابن الأبار هذه الرواية ويقول لنا إن ابن عمار
_______
(1) ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " - المجلد الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس. وابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 118.
(2) الذخيرة، القسم الثالث - المخطوط - لوحة 95، والحلة السيراء ص 188 و 189، وأعمال الأعلام ص 201.
(3) أعمال الأعلام ص 160.(2/179)
قد أشار على المعتمد بفتح مرسية (1). وعلى أي حال فقد اعتزم المعتمد أن يسعى إلى فتح مرسية، وعهد إلى وزيره القوي الماكر ابن عمار، أن يقوم بتنفيذ المشروع. واتباعاً للخطة التي كانت سائدة يومئذ بين ملوك الطوائف في الاستعانة بالأمراء النصارى، على مشاريعهم الباغية، بعث المعتمد وزيره ابن عمار، إلى الكونت رامون برنجير أمير برشلونة، ومر الوزير الماكر في طريقه بمرسية، فأكرم ابن طاهر منزله. والظاهر أن ابن عمار كان يرمي من وراء هذه الزيارة إلى دراسة أحوال مرسية الدفاعية، وإلى الاتصال سراً ببعض الزعماء الناقمين خصوم ابن طاهر. ولما وصل ابن عمار إلى برشلونة عقد مع أميرها الكونت برنجير اتفاقاً على أن يؤدي له المعتمد عشرة آلاف مثقال من الذهب، لقاء معاونته على فتح مرسية، وأن يقدم كل من الطرفين إلى الآخر رهينة بالوفاء. وتنفيذاً لهذا الاتفاق قدم المعتمد ولده الرشيد، وقدم الكونت ابن أخيه، وبعث المعتمد بقسم من قواته صوب مرسية بقيادة ابن عمار، ولحقت بها قوة جهزها الكونت برنجير، وطوقت القوات المتحدة مدينة مرسية، ولكن ابن عباد لم يسعف برنجير بأداء المال المطلوب، فارتاب في الأمر، واعتقد أنه قد غرر به، وانسحب بقواته عن المدينة المحصورة، بعد أن قبض على ابن عمار، وعلى الرشيد ولد المعتمد.
وكان المعتمد بن عباد يسير عندئذ بقواته صوب مرسية، وكان قد وصل إلى مقربة من شقورة، حينما وفد إليه رسل ابن عمار مع بعض الهاربين من جنده من حملة مرسية، وأعلموه بما حدث، فارتد بقواته إلى جيان، ووضع ابن أخي الكونت برنجير، المودع لديه رهينة، في الأصفاد، ثم وقعت المفاوضات بين الفريقين، وانتهى المعتمد بأداء المال المطلوب للكونت، وأفرج عن ابن عمار والرشيد، وأفرج المعتمد من جانبه عن ابن أخي الكونت.
بيد أن إخفاق هذه الحملة الأولى على مرسية لم يثن ابن عمار عن عزمه، فما زال بالمعتمد يحثه على إعداد حملة ثانية، ويؤكد له أنه تلقى رسائل كثيرة من أهل مرسية يدعونه لافتتاحها، حتى نزل المعتمد أخيراً على رغبته، وجهز له حملة قوية، وعينه حاكماً لمرسية، وسائر البلاد التي يفتتحها.
وسار ابن عمار في قواته إلى مرسية، واصطحب معه حين مروره بقرطبة،
_______
(1) الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 140.(2/180)
سَرية من الفرسان، أمده بها حاكمها الفتح ولد المعتمد، ومر في طريقه بحصن بلج، فاحتفى به حاكمه عبد الرحمن بن رشيق، وصحبه في قواته إلى مرسية، فندبه ابن عمار للقيادة، وعاد إلى إشبيلية. وكان ابن رشيق رجلا وافر الدهاء، والمقدرة، وكانت له أطماع دفينة يخفيها تحت ثوب من الرياء والخديعة. وطوقت جند ابن عباد مرسية، وشددت الحصار عليها. واستطاع ابن رشيق أن يحقق نجاحه الأول، بالاستيلاء على بلدة مولة الواقعة في شمالها الغربي، والتي كانت تمدها بالأقوات والمؤن. وعندئذ انهار خط مرسية الدفاعي، واشتد بداخلها الضيق والحرمان، واستمر ابن رشيق في إرهاقه للمدينة المحصورة، وفي تحريض أهلها على الوثوب بابن طاهر، وأخيراً عاونه بعض الخونة من أوليائه على فتح بعض أبواب المدينة، وانتهى الأمر بسقوطها على هذا النحو في أيدي جند ابن عباد، وذلك في سنة 471 هـ (1078 م) (1).
ودخل ابن رشيق مرسية، وقبض على أبي عبد الرحمن بن طاهر وألقاه إلى السجن، وأعلن بيعة المعتمد، وكتب إلى بن عمار بالفتح. فسار ابن عمار من فوره إلى المدينة المفتوحة، التي عين حاكماً لها من قبل، وتقرب من أهلها بالهدايا ولين القول. بيد أنه جنح غير بعيد إلى تحقيق فكرة كانت تخالجه من قبل، وهو أن يستأثر بحكم هذه المدينة النائية، البعيدة عن متناول أميره، ويغدو كباقي الرؤساء أميراً مستقلا، وأخذ بالفعل في تنفيذ فكرته، فتجاهل رغبات ابن عباد وأوامره، وتصرف في سائر الأمور تصرف الحاكم المستقل، وبدا نداً لأميره السابق، أو على قول ابن بسام: " وقعد له مقعد الرؤساء، وخاطب سلطانه مخاطبة الأكفاء، مستظهراً بجر الأذيال، وإفساد قلوب الرجال، معتقداً أن الرياسة كأس يشربها، وفلاة ينتجعها ". وأخذ فضلا عن ذلك يدس لأمراء تلك النواحي، ويوقع بينهم، ويحرض أهل بلنسية بنوع خاص، على الوثوب
_______
(1) راجع في حوداث فتح مرسية: أعمال الأعلام ص 160 و 161، وعبد الواحد المراكشي في المعجب ص 65، ودوزي عن الشلبي في: Hist.Abbadidarum.V.II.p. 86 & 87
و Histdes Musulmans d'Espagne; V.III.p. 108-109
وكذلك: M.Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p. 109-110
و R.M.Pidal: La Espana del Cid; p. 259 & 281
و A.P.Ibars: Valencia Arabe, p. 189-191(2/181)
بالوزير أبى بكر بن عبد العزيز المتغلب عليها يومئذ. وكان قد شفع لدى المعتمد في أمر ابن طاهر حينما قبض عليه، فأذن بتسريحه، وسار إلى بلنسية، ملتجئاً إلى حمايته. وفي رواية أخرى أن ابن طاهر، نجح في الفرار من سجنه بمعاونة ابن عبد العزيز، وسار خفية إلى بلنسية. وقد كان لفوز ابن طاهر باسترداد حريته، وقع طيب في مختلف الدوائر الرفيعة، ولاسيما دوائر العلم والأدب. وفي ذلك يقول أبو جفر البتي من قصيدة:
أترضى عن الدنيا فقد تتشوف ... لعمر المعالي أنها بك تكلف
يقولون ليث الغاب فارق غيله ... فقلت لهم أنتم له الآن أخوف
ولن ترهبوا الصمصام إلا إذا ... غدا لكم بارزاً من غمده وهو مرهف
إذا غضبت أقلامه قالت القنى ... فديناك إنا بالمفاصل أعرف
فتكشف عن سر الكتيبة مثل ما ... رأيناك عن سر البلاغة تكشف
رويداً قليلا يا زمان فإنه يغصـ ... ـك منه بالذي أنت تعرف (1)
هذا، وقد أسرّ ابن عمار لأبى بكر بن عبد العزيز، هذا المسعى الجميل في العمل على تسريح ابن طاهر، وأخذ يكيد له ويحرض أهل بلنسية عليه، وقد وجه إليهم في ذلك قصيدة ملتهبة من نظمه يقول فيها:
بشر بلنسية وكانت جنة ... أن قد تدلت في سواء النار
جاروا بني عبد العزيز فإنهم ... جرّوا إليكم أسوأ الأقدار
ثوروا بهم متأولين وقلدوا ... ملكاً يقوم على العدو بثار
ِهذا محمد أو فهذا أحمد ... وكلاهما أهل لتلك الدار
جاء الوزير بها يكشف ذيلها ... عن سوأة سوءى وعار عار
نكث اليمين وحاد عن سنن العلا ... وقضى على الإقبال بالإدبار
آوى لينصر من نأى المثوى به ... ودهاه خذلان من الأنصار
ما كنتم إلا كأمة صالح ... فرميتم من طاهر بقدار
هذا وخصكم بأشأم طائر ..
. ورمى دياركم بالأم جار
_______
(1) أوردها ابن عبد الملك في ترجمة ابن طاهر في "الذيل والتكملة" - الجزء الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس. ووردت أيضاً في " قلائد العقيان " ص 61.(2/182)
بر اليمين ولم يعرض نفسه ... ونفوسكم لمصارع الفجار
لابد من مسح الجبين فإنما ... لطمته عذراً غير ذات سوار
ثم يقول في ختامها:
وأنا النصيح فإن قبلتم فاتركوا ... آثارها خبراً من الأخبار
قوموا إلى الدار الخبيثة فانهبوا ... تلك الذخائر من خبايا الدار
وتعوضوا من صفرة حبشية ... بأغر وضاح الجبين نضار (1)
ومضى ابن عمار في خطته من تحدي ابن عباد، والاستئثار بشئون مرسية، واستعمل عبيده على الحصون وأقطعهم الضياع، وانهمك في الشراب واللذات، وأعرض عن كل نصح (2). وكان ابن رشيق، وهو قائد الجند وفاتح المدينة الحقيقي، يرقب الموقف، ويتحين الفرص. وكان أبو بكر بن عبد العزيز، انتقاماً من ابن عمار، يحرضه على الوثوب به، وانتزاع حكم المدينة منه، وفضلا عن ذلك فقد استطاع أبو بكر أن يحصل بواسطة يهودي من عملائه في مرسية، على النسخة الأصلية من قصيدة هجاء مقذع، وضعها ابن عمار طعناً في ابن عباد وزوجه اعتماد الرُّميكية، وأن يرسلها إلى ابن عباد في إشبيلية. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه القصيدة في أخبار مملكة إشبيلية، وأوردنا بعض محتوياتها اللاذعة.
وهكذا كان الجو يظلم حول ابن عمار من كل ناحية، وزاد الموقف خطورة، حينما بدأ الجند بتحريض ابن رشيق في المطالبة بأجورهم المتأخرة، واشتطوا في ذلك، وابن عمار عاجز عن تهدئتهم. فعندئذ خشي ابن عمار البادرة على نفسه، وخرج من مرسية، بحجة تفقد الحصون الخارجية، فانتهز ابن رشيق الفرصة لفوره، واستولى على القصر وضبط المدينة وأغلق أبوابها. ولم ير ابن عمار أمامه سبيلا سوى الفرار.
وهكذا لقي ابن عمار جزاء غدره، من غادر مثله. ويصف لنا ابن بسام هذه الضربة الغادرة من ابن رشيق بقوله: " فقيض له (أي ابن عمار) من عبد الرحمن بن رشيق عدواً في ثياب صديق، من رجل قدرة خنتر، وجزيل خديعة ومكر، فلم يزل يطلع عليه من الثنايا والشعاب، حتى أخرجه من
_______
(1) نشرت القصيدة بأكملها في قلائد العقيان ص 61 و 62.
(2) ابن الأبار عن ابن بسام في الحلة السيراء ج 2 ص 142.(2/183)
مرسية كالشهاب ". وطوحت الخطوب عندئذ بابن عمار، فقصد إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وقضى حيناً في بلاطه، ثم قصد بعد ذلك إلى سرقسطة والتجأ إلى أميرها المقتدر بن هود. فأكرم وفادته، واستخدمه في بعض شئونه، ولكنه توفي بعد قليل في سنة 475 هـ (1081 م). فلبث في خدمة ولده المؤتمن فترة أخرى، ولم يهدأ له بال حتى أغراه على سجيته بافتتاح حصن شقورة الواقع شمال غربي مرسية، وهو من أعمال دانية، فبعث معه المؤتمن سرية من جنده، ولما وصل ابن عمار إلى شقورة، احتال عليه صاحبها ابن مبارك، وكان رجلا وافر الدهاء، واستقبله داخل حصنه بترحاب ومودة، ثم قبض عليه وزجه إلى السجن. وما كاد ابن عباد يقف على ذلك الخبر، حتى فاوض ابن مبارك في تسليم ابن عمار، وانتهى الأمر بحصوله في يده، ثم حمله المعتمد إلى إشبيلية، واعتقله بقصره، ومازال يمعن في تأنيبه وتقريعه حتى انتهى إلى قتله بيده، على النحو المؤسي الذي فصلناه من قبل في أخباره، وذلك في أواخر سنة 477 هـ (أوائل سنة 1085 م) (1).
وخلصت مرسية لابن رشيق، واستبد بحكمها وأعلن خلع طاعة المعتمد، واستمر يحكمها وأعمالها أعواماً بقوة وحزم، حتى كان عبور المرابطين إلى اسبانيا وانتصار الجيوش المرابطية والأندلسية المتحدة في موقعة الزلاّقة على الجيوش النصرانية المتحدة، وذلك في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر سنة 1086 م)، وكان شرقي الأندلس يومئذ مايزال بمعزل عن حوادث الغرب. ولما شعر ألفونسو السادس ملك قشتالة بانهيار قواه ومشاريعه العسكرية في غربي الأندلس، رأى أن يتحرك إلى شرقي الأندلس، حيث كان يسوده الاضطراب والتفرق والضعف. وكان المعتمد بن عباد يتوق إلى استرداد مرسية، وتوطيد سلطانه في هذا القطاع النائي من مملكته. وهناك فيما يتعلق بمصير مرسية روايتان الأولى: هي أن ابن عباد حرض صاحب لورقة القائد أبا الحسن بن اليسع، وكان قد اعترف ببيعته، والتجأ إلى حمايته، على مهاجة مرسية، وأنه نجح في انتزاعها من ابن رشيق،
_______
(1) راجع في محنة ابن عمار ومصرعه: أعمال الأعلام ص 160 و 161، والمراكشي في المعجب ص 66، وقلائد العقيان ص 83 و 90 و 91 و 97. وكذلك دوزي Hist.Abbadidarum V.II.p. 90, 91, 100 & 101.
وكذلك R.M Pidal: La Espana del Cid, p. 244(2/184)
وحكمها باسم المعتمد وموافقته، واستمر في حكمها حتى استولى عليها المرابطون (1) والثانية، هي أنه لما عبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1089 م)، استجابة لصريخ أمراء الطوائف، ولاسيما أصحاب القواعد الشرقية، لقمع غارات النصارى في شرقي الأندلس، والقضاء على مركز عدوانهم في حصن لييط (أليدو) الواقع بين مرسية ولورقة، وتعاونت القوات الأندلسية مع القوات المرابطية في محاصرة الحصن المذكور، كان ابن رشيق ضمن الأمراء الذين اشتركوا في الحصار بقواتهم. ولما انتهى هذا الحصار بالفشل، وهمت الجيوش الأندلسية بالعودة إلى بلادها، شكى المعتمد ابن رشيق إلى أمير المسلمين يوسف، واتهمه بالتحالف سراً مع النصارى، ومعاونتهم على الصمود في الحصن، هذا فضلا عن كونه كان مغتصباً لولاية مرسية منه، وطلب تسليمه إليه، لمعاقبته، واستشار يوسف الفقهاء في الأمر، فوافقوا على طلب ابن عباد، وأمر يوسف بتسليمه ابن رشيق مع اشتراط الإبقاء على حياته، وارتدت القوات المرسية غاضبة إلى بلدها. وحمل ابن عباد معه ابن رشيق إلى إشبيلية، واعتقله هناك، ولكنه فر غير بعيد من سجنه، وعاد إلى مرسية، وعاش بها حتى توفي. واستولى المرابطون على مرسية في شوال سنة 484 هـ (أكتوبر 1091 م). واستولوا في نفس العام على معظم أعمالها (2). وهنا يقدم لنا ابن الخطيب رواية أخرى، هي أن ابن رشيق نزل من تلقاء نفسه عن مرسية لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، حين جوازه الثاني إلى الأندلس وهو ما يدل بأن ابن رشيق كان عندئذ هو المتولي حكمها (3). وكان القائد ابن عائشة أول حاكم لمرسية من المرابطين. وكانت مرسية قاعدة لتحركات الجيوش المرابطية، التي حشدت لمقاومة عدوان السيد الكمبيادور، واسترداد بلنسية من قبضته، حسبما فصلنا ذلك في موضعه.
أما ابن طاهر صاحب مرسية السابق، فإنه كان قد استقر عقب فراره حيناً
_______
(1) راجع المغرب في حلى المغرب (القاهرة 1955) ج 2 ص 248 و 250.
(2) راجع روض القرطاس لابن أبي زرع (طبعة أوبسالة 1843) ص 101، وكذلك دوزي: Hist.; Vol.III.p. 132-133 و M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 136 & 140.
(3) أعمال الأعلام ص 160.(2/185)
ْببلنسية، في كنف الوزير أبى بكر بن عبد العزيز. ثم في كنف ولده أبى عمرو عثمان. ولما استولى القادر بن ذى النون على المدينة، تقرب إليه، واستمر على حاله من الكرامة والدعة. فلما ثار القاضي ابن جحاف، وقتل القادر، واستولى على الحكم، لم يكن ابن طاهر من أنصار هذا الانقلاب، وكان يأخذ بالأخص على ابن جحاف أنه سفك دم القادر، وله في ذلك أبيات يقول فيها:
أيها الأخيف مهلا ... فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى ... وتقمصت القميصا
رب يوم فيه تجزى ... لم تجد عنه محيصا
ومن ثم فقد كان ابن جحاف يتوجس منه، ويخشى مناوأته، ويتهمه بالاتصال بالسيد والقشتاليين، والتآمر معهم ضده. وقد كانت هذه التهمة باطلة.
ذلك أنه لما دخل السيد وجنده القشتاليون بلنسية في سنة 487 هـ (1094 م)، لم يستطع ابن طاهر أن يروض نفسه على البقاء فيها، فغادرها فيمن غادرها من الأكابر. وفي رواية أنه كان ضمن من قبض عليهم السيد من أكابر المدينة ثم أفرج عنه بعد ذلك فسار إلى شاطبة، واستقر بها حيناً، حتى تطورت الحوادث، ومات السيد، واستولى المرابطون على بلنسية، وعادت إليها سلطة الإسلام، فعندئذ عاد إليها ابن طاهر، وقد أثقلته السنون، وهدمه الإعياء والمرض، فعاش بها أعواماً أخرى في عزلة واعتكاف، ثم توفي في سنة 507 هـ (1013 م)، وقد أربى على التسعين (1).
ويلخص ابن بسام المرحلة الأخيرة من حياة ابن طاهر في الفقرة الآتية: " ومد لأبى عبد الرحمن بن طاهر في البقاء، حتى تجاوز مصارع الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يد الطاغية الكنبيطور قصمه الله، وجعل بذلك الثغر في قبضته سنة ثمانية وثمانين " (2).
_______
(1) راجع في ترجمة أبي عبد الرحمن بن طاهر: الحلة السيراء - ليدن - ص 186 - 189، و (القاهرة) ج 2 ص 116 - 128، وقلائد العقيان ص 56 وما بعدها. وقد أورد له كثيراً من الرسائل البليغة. وكذلك المغرب في حلى المغرب ص 247 و 248، وأعمال الأعلام ص 160.
(2) الذخيرة - القسم الثالث المخطوط لوحة 5 أ.(2/186)
الفصل الثالِث
مملكة دانية والجزائر
مدينة دانية وخواص موقعها. مجاهد العامري. أصله ونشأته. نزوحه إلى شرقي الأندلس. تغلبه على دانية والجزائر الشرقية. الفقيه أبو عبد الله المعيطي. مشروع مجاهد لغزو سردانية. استعداداته البحرية. أسطوله الغازي. سردانية وغزوات المسلمين. مسير مجاهد إلى سردانية واقتحامها. المعارك داخل الجزيرة وافتتاحها. حلف البابوية وجنوة وبيزة لطرد المسلمين. الحرب الصليبية. مقاومة مجاهد ومتاعبه. هزيمته وتحطيم أسطوله. أسر ولده وحريمه. غزوات مجاهد للشواطىء الإيطالية والفرنسية. الفقيه المعيطي وعزله ونفيه. مجاهد يفتدي زوجه وبناته. استطالة أسر ولده علي ثم افتداؤه. عجمته وعوده إلى الإسلام. تثقيفه وإعداده لولاية العهد. تأييد مجاهد للخليفة المرتضي. اشتراكه في محاربة البربر. اشتراكه في حكم بلنسية ثم انفراده به. اختيار عبد العزيز المنصور لإمارة بلنسية. غزو مجاهد لمرسية وأسره لابن طاهر. محاربته لعبد العزيز صاحب بلنسية. وفاة مجاهد. عبقريته ومآثره العلمية. التفاف العلماء حوله. قصته مع أبى غالب النحوي. تفوقه في الفروسية. براعته البحرية. ولده على إقبال الدولة يخلفه. الخلاف بينه وبين أخيه حسن. محاولته اغتيال بناته ومصاهراته. حكمه وصلاته. شئون الجزائر وحكامها. استجابة علي لنداء المستنصر الفاطمي ورسالته إليه. تسامحه نحو النصارى. ابن غرسية ورسالته ضد العرب. بعض الآراء والتعليقات حولها. أطماع المقتدر بن هود في دانية. خلافه مع صهره علي. مسيره لافتتاح دانية واستيلاؤه عليها. اعتقال علي ثم فراره إلى العدوة. ولده سراج الدولة. علي ومواهبه وخلاله. الجزائر الشرقية واستقلال حاكمها المرتضي. خلفه مبشر بن سليمان. حكمه الزاهر. غارات البحارة المسلمين في عهده. إغارة النرويج على الجزائر. بيزة ومشروعها لفتح الجزائر. أسطول الغزو النصراني يهاجمها. استعداد مبشر للدفاع. استغاثته بعلي بن تاشفين. وفاة مبشر وولاية أبى ربيع. خروجه من الجزيرة وأسره. دخول النصارى مدينة ميورقة وفتكهم بأهلها. مقدم الأسطول المرابطي. انسحاب النصارى واستيلاء المرابطين على الجزائر.
تقع مدينة دانية في شمال اللسان المثلث، الممتد من ولاية لقَنت في البحر الأبيض المتوسط، وتبدو برقعتها الصغيرة، وشوارعها القصيرة العريضة، التي تظللها أشجار التوت الوارفة، مدينة متواضعة هادئة، لا يتبادر إلى ذهنك، وأنت تجوب أحياءها القليلة الصامتة، أنها كانت ذات يوم عاصمة لدولة أندلسية بحرية كبيرة.
أجل قامت في دانية، أيام الطوائف، مملكة تمتاز بصفتها الخاصة، التي تميزها عن غيرها من ممالك الطوائف الأخرى. فقد كانت أولا تمتاز بموقعها المنعزل(2/187)
في شرقي الأندلس، وتمتد رياستها عبر البحر إلى الجزائر الشرقية، فكانت بذلك تغلب صفتها البحرية على صفتها البرية. ثم كانت بهذا الموقع المنعزل الحصين أبعد من أن تنزلق إلى معترك الحرب الأهلية، التي كانت تنحدر إليه ممالك الطوائف الأخرى، وأبعد عن عدوان مملكة قشتالة، الذي كان يهدد سائر الطوائف.
ومن ثم فإن تاريخ مملكة دانية يتخذ طابعاً آخر، غير ذلك الطابع الذي رأيناه يغلب على تاريخ ممالك الطوائف الأخرى.
وكانت دانية مثل معظم القواعد الأندلسية الشرقية، عند اضطرام الفتنة وانهيار الخلافة، من نصيب الفتيان العامريين. تغلب عليها منهم مجاهد العامري في أوائل عهد الفتنة. وقد كان مجاهد هذا من أكابر زعماء العامريين. وكان وفقاً لأرجح الروايات من فحول الموالي أو الفتيان العامريين. وقد كان معظم أولئك الفتيان من الصقالبة، من أصول إفرنجية كالألمان واللنبارد والإيطاليين والجلالقة وأهل البلقان وغيرهم، يؤتي بهم أطفالا ويربون في البلاط تربية عربية إسلامية. وكان منهم الفحول والخصيان. وكان مجاهد ينتمي إلى الفريق الأول أعني إلى الفتيان الفحول، وقد نشأ وربي في عهد المنصور بن أبي عامر. وفي رواية أخرى أن مجاهداً ينتمي إلى طائفة الموالي العامريين، وقد رباه المنصور وعلمه، وقيل أيضاً إنه كان مولى لعبد الرحمن المنصور، أو أن أباه يوسف كان معتوقاً لعبد الرحمن (1). وقيل من جهة أخرى إن مجاهداً كان "رومي" الأصل، أعني من الفتيان الصقالبة (2). ويعتقد العلامة المستشرق أماري بالاستناد إلى هذه الإشارة أن مجاهداً يرجع إلى أصل إسباني محلي (3). بيد أنه مما يؤيد الرواية الأولى، وهي نسبة مجاهد إلى الموالي، وليس إلى الفتيان الصقالبة، اسمه وكنيته، فهو أبو الجيوش مجاهد بن يوسف بن علي، ويزيدها أيضاً ما كانت تتمتع به شخصية مجاهد من عروبة قوية، ومن تضلع في علوم القرآن واللغة، حسبما نبين بعد (4).
_______
(1) جذوة المقتبس (مصر) ص 331.
(2) المراكشي في المعجب ص 41.
(3) M. Amari: Storia dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1868) V.III.p. 4
(4) ابن خلدون ج 3 ص 164، والبيان المغرب ج 3 ص 156. ويقدم إلينا ابن الأبار مجاهداً بأنه أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري (الحلة السيراء ج 2 ص 128).(2/188)
وعلى أي حال فقد كان مجاهد عند اضطرام الفتنة، إلى جانب واضح وخيران وزهير، وغيرهم من أكابر الفتيان أو الزعماء العامريين، اندمج في زمرتهم، واشترك معهم في بعض الأحداث التي أعقبت الفتنة، وشاطرهم خطتهم في النزوح إلى شرقي الأندلس. ويقول لنا ابن خلدون إن مجاهداً غادر قرطبة عند مقتل الخليفة محمد بن هشام المهدي في أواخر سنة 400 هـ (1010 م)، وإنه سار عندئذ إلى طرطوشة، فتملكها، ثم سار منها إلى دانية. وكان مجاهد كباقي الفتيان العامريين، من شيعة الخليفة المؤيد بالله، والخلافة الأموية بوجه عام، وقد حارب معهم إلى جانب الخليفة المرتضي بالله ضد البربر والقاسم بن حمود، في الموقعة التي هزم فيها المرتضي ولقي مصرعه، وذلك في سنة 409 هـ (1019 م) (1).
بيد أنه توجد رواية أخرى عن تغلب مجاهد على دانية خلاصتها، أنه كان عند انهيار الخلافة واضطرام الفتنة، والياً على الجزائر الشرقية، وكان يشغل هذا المنصب منذ أيام المنصور بن أبي عامر، فلما تمخضت الفتنة عن تمزق الأندلس، سار من الجزائر إلى دانية، وتملكها، وأقام بها دولته (2).
وتقول بعض الروايات أيضاً إن مجاهداً، كان وقت اضطرام الفتنة قائماً بشئون بلنسية، فثار به عبدان من العبيد أو الفتيان العامريين، هما مبارك ومظفر، واستطاعا أن ينتزعا منه السلطة، فخرج مجاهد من بلنسية إلى دانية وتغلب عليها.
والظاهر من مقارنة الروايات المختلفة أن مجاهداً نزل أولا في دانية، وغلب عليها، ثم وثب منها على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) وتملكها، وذلك في أواخر سنة 405 هـ (أوائل 1015 م). وتتكون الجزائر الشرقية من أربع جزائر هي مِنُورقة، وميورقة وهي أكبرها، وبها مدينة ميورقة وهي عاصمة الجزائر كلها، ويابسة، وفرمنتيرا، وهي أصغرها. وهنا وقبل أن نتتبع أخبار مجاهد، يجب أن نذكر واقعة تدعو إلى التأمل، وهو أن مجاهداً ندب إلى معاونته في الحكم فقيهاً ورعاً هو أبو عبد الله بن عبيد الله بن الوليد ويعرف بالمعيطي، وكان المعيطي هذا ينتمي إلى بني أمية، وهو من أشراف قرطبة وفقهائها البارزين، وكان ممن أزعجته الفتنة، فغادرها إلى شرقي الأندلس. والظاهر أن مجاهداً كان
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 164.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 155.(2/189)
يحيط هذا الفقيه بنوع من التقدير والإجلال. ذلك أنه نصبه "خليفة" بدانية والجزائر وسائر أعماله، وأخذ له البيعة على الناس، وسماه بأمير المؤمنين المستنصر بالله، ونقش اسمه في سكته وفي أعلامه، وذلك في جمادى الآخرة من سنة 405 هـ (1). ويقال إن مجاهداً صحب معه المعيطي في حملته إلى الجزائر الشرقية، وإنه كان ساعده الأيمن في الاستيلاء عليها. بل يقال إنه هو الذي أوعز إليه بغزو سردانية.
- 1 -
وبينما كانت دول الطوائف الأخرى، سواء في شرقي الأندلس، أو في غربها، تخوض غمار المنازعات والحروب المحلية الصغيرة، كان مجاهد العامري يفكر في مشروع ضخم، ربما كان أعظم مشروع فكر فيه أمير من أمراء الطوائف، ذلك هو غزو جزيرة سردانية وافتتاحها. وقد كان مجاهد، زعيماً قوي النفس، وكان فيما يبدو بحاراً مجرباً، وكان يرى أن مملكته الساحلية، وأملاكه البحرية، تقتضي أن يكون اعتمادها في القتال على الأساطيل قبل كل شىء، ومن ثم فقد اقتضت همته أن يجدد دار الصناعة القديمة (دار صناعة السفن) التي كانت بدانية، وأن يضاعف طاقتها لتمده بالسفن المقاتلة والناقلة من مختلف الأحجام، واستكثر من السفن والمعدات الحربية، واستطاع في فترة قصيرة إن ينشىء أسطولا كبيراً يرابط في مياه دانية والجزائر، وغدت دانية فيما بعد، في عصره، وعصر ولده علي، أعظم مركز للأساطيل الأندلسية. وكان مجاهد يتطلع بعيداً من جزائره الشرقية إلى ما وراء هذه المياه من الجزائر الكبيرة الغنية ولاسيما جزيرة سردانية العظيمة، التي عرفها البحارة المسلمون من قبل، في كثير من الغزوات المتعاقبة.
وضع مجاهد خطته لغزو هذه الجزيرة الكبيرة، فحشد أسطولا قوامه مائة وعشرين سفينة، وقوة من ألف فارس، وأقلعت السفن الغازية من دانية والجزائر في ربيع الأول سنة 406 هـ (أغسطس 1015 م)، وعلى الأسطول قائده أمير البحر أبو خروب. وكانت المسافة بين مياه دانية والجزائر وبين سردانية، يومئذ تستغرق ثمانية أيام. وكانت جزيرة سردانية موضع اهتمام
_______
(1) أعمال الأعلام ص 220.(2/190)
الغزاة العرب منذ فتح الأندلس، وقد غزاها العرب لأول مرة في سنة 711 م، أيام موسى بن نصير. ثم توالت غزوات البحارة المسلمين لسردانية، فغزوها في سنة 752 م، ثم في سني 813 و 816 و 817 و 838 م. بيد أن هذه كانت كلها من الغزوات العارضة، التي يقنع الغزاة فيها بالسبي والغنائم، وكانت المقاومة العنيفة التي يلقونها من أهل الجزيرة تحول دون احتلالها والاستقرار فيها.
وكانت سردانية في البداية تحت حكم الدولة البيزنطية، فلما ضعف سلطانها في تلك المياه، وقعت سردانية تحت حكم اللونبارد، ثم تحت حكم الفرنج. بيد أن هذه لم تكن سوى حماية اسمية. وكان يحكم الجزيرة منذ القرن الثامن قضاة أو أمراء محليون. وكانت طبيعتها الوعرة، وشجاعة أهلها الجبليين، واعتزازهم بحرياتهم، مما يعاون في دفع الغزاة، ورد الحملات الغازية العارضة.
بيد أن هذه الحملة، التي سيرها مجاهد العامري إلى الجزيرة، كانت تمتاز بضخامتها، وضخامة عُددها، وتمتاز بالأخص بما يقترن بها من عزم راسخ على الفتح والاستقرار. ومن ثم فإنه ما كادت السفن الغازية ترسو على شواطىء الجزيرة - والظاهر أنها رست في خليج كالياري في جنوب الجزيرة - حتى شق الغزاة طريقهم إلى الداخل بمنتهى العنف، ووقعت بينهم وبين أهل الجزيرة معارك دموية هائلة قتل فيها عدد جم، وكان قائدهم مالوتو في مقدمة القتلى، وأسر الغزاة جموعاً غفيرة، وسبوا كثيراً من النساء والأطفال. واستطاع الغزاة أن يحتلوا معظم أراضي الجزيرة، بالرغم من المقاومة العنيفة التي لقوها، وأن يسيطروا على معظم حصونها (1).
ْوهكذا فتحت سردانية على يد مجاهد العامري، وذلك في شهر أغسطس أو سبتمبر سنة 1015 م (ربيع الثاني سنة 406 هـ) (2). وكان أول فتح إسلامي لهذه الجزيرة الكبيرة. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن مجاهداً غلب على معظم أنحاء سردانية وافتتح معاقلها، ثم قرر البقاء في الجزيرة، حتى يوطد مركزه بها، واختط بها بالفعل مدينة واسعة شرع في بنائها، وانتقل إليها بأهله وولده، وأنه أحرز من الغنائم والسبي مالا يأخذه الحصر، حتى كسد السبي في زمانه،
_______
(1) Amari: ibid., V.III.p. 6 & 7
(2) وفي جذوة المقتبس أن الفتح وقع سنة 406 أو 407 هـ (ص 331).(2/191)
وانحطت أثمانه (1). ومن المحقق على أي حال أن مجاهداً لبث في سردانية حتى نهاية سنة 406 هـ، أعني نحو عشرة أشهر. وفي خلال ذلك كانت البابوية والدول الإيطالية القريبة، قد اهتزت لهذا الحادث الخطير، وزاد في روعها وسخطها ما عمد إليه مجاهد من الإغارة بسفنه على الشاطىء الممتد بين جنوة وبيزة واقتحام مدينة لوني ونهبها، وكانت جنوة وبيزة يومئذ هما أقوى الدول البحرية في هذه المياه, ولكلتاهما مصالح تجارية عظيمة تحرص على حمايتها. وفي الحال أعلن البابا، وهو يومئذ بندكتوس الثامن، الحرب الصليبية ضد المسلمين، وعقد تحالفاً مع جنوة وبيزة على محاربة المسلمين وطردهم من الجزيرة. ومما يروى بهذه المناسبة، أن مجاهداً العامري أرسل إلى البابا كيساً مملوءاً بحبات القسطل، معلناً أنه سوف يعود بعدها، وأن البابا رد بأن بعث إليه كيساً مملوءاً بالحشائش الرفيعة، قائلا إنه سوف يلقى بعددها ممن يرتدون الخوذات.
وهكذا عقدت الدول الإيطالية بزعامة البابا، العزم على تحطيم الغزاة المسلمين، ورد خطرهم عن هذه المياه.
وهنا يحيط الغموض بالفترة القصيرة، التي قضاها مجاهد العامري في سردانية. ففي بعض الروايات أن مجاهداً عاد بعد هذه الحملة الأولى إلى دانية وجهز حملة ثانية إلى سردانية، في صيف العام التالي أعني في سنة 407 هـ (1016 م) وذلك لكي يقضي على كل مقاومة في الجزيرة، وهذه رواية يصعب تصديقها، وليس في سير الحوادث ما يؤيدها. والحقيقة هي أن مجاهداً لبث بعد غزو الجزيرة، يبذل جهده في تحصينها، وفي الاستعداد للدفاع عنها، واستمر طوال الوقت في كفاح دائم مع أهل الجزيرة. ولما قدمت السفن الجنوية والبيزية والسفن النصرانية الأخرى من مختلف الأمم، ودخلت مياه كالياري، استعد مجاهد للمعركة الحاسمة، ولكن مقاومة أهل الجزيرة من الداخل، وتمرد الجند المرتزقة النصارى في أسطوله، وتوالي العواصف القاصفة، كانت كلها عوامل فتت في عضده، وحطمت خطط دفاعه، فلم يقو طويلا على المقاومة، وأصابته السفن النصرانية بهزيمة فادحة. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن أمير البحر أبا خروب حذر مجاهداً من دخول مياه كالياري بسفنه، ولكنه لم يأخذ بهذا
_______
(1) أعمال الأعلام ص 219. وجذوة المقتبس ص 331.(2/192)
النصح، وكانت الريح تقذف بمراكبه تباعاً، والروم لا عمل لهم سوى قتل المسلمين وأسرهم، ومجاهد خلال ذلك يبكي (1) وهكذا تحطمت معظم سفنه وأسرت أو أغرقت، وقتل معظم أصحابه، واستولى العدو على سائر غنائمه وسبيه، وعلى أهله وحريمه وولده وفيهن نساؤه وبناته، وعليّ ولده، وجود أمه النصرانية، ولم ينج من أسطوله الضخم سوى بضع سفن، شقت به عرض البحر مسرعة. ووقعت هذه الهزيمة الساحقة على مجاهد العامري في شهر يونيه أو يوليه سنة 1016 م.
ويقدم إلينا العلامة المستشرق أماري رواية أخرى خلاصتها أن مجاهداً لبث في سردانية عاماً آخر حتى مايو سنة 1017 م، وأنه حينما سمع بأمر الأساطيل الضخمة التي جهزت لقتاله، أنشأ بالجزيرة قلعة يستعين بها على الدفاع. ولكن جنده كانوا خلال ذلك، قد سئموا المقام بالجزيرة لقلة الغنائم ورداءة الطقس، وساد بينهم التذمر. وفي شهر مايو سنة 1017 م، أقبل أسطول البيزيين. والجنويين الضخم، وعول مجاهد على الانسحاب. ولكنه حينما خرج بأسطوله وذلك في شهر يونيه، اصطدم بالأساطيل الإيطالية، وفاجأته في نفس الوقت عاصفة شديدة، أغرقت كثيراً من سفنه، واصطدم الكثير منها بالشاطىء، فسار في فلول أسطوله صوب دانية تاركاً في الأسر ولده وأخاه وزوجه (2).
وهكذا تحطم هذا المشروع الضخم، ولم يتح للمسلمين أن يستقروا في سردانية كما أتيح لهم من قبل أن يستقروا في صقلية. ولو نجح مجاهد العامري في مشروعه، واستقر المسلمون في سردانية، لكان مرجحاً أن تزدهر بها حضارة إسلامية، كتلك التي ازدهرت في صقلية، بل وكان مرجحاً أن يطول عهد الإسلام في صقلية، وأن يتأخر سقوطها في أيدي النورمان عصوراً أخرى. ولكن المشروع ْكان في الواقع أضخم من مقدرة أمير من أمراء الطوائف، وكانت الدول النصرانية كلها تتحفز لحماية هذه الجزائر، كي تمنع انسياب الأساطيل الإسلامية إلى المياه الإيطالية، وكان في تفوق الجمهوريات الإيطالية البحري، في هذه العصور، ما يكفل تحقيق هذه الغاية (3).
_______
(1) راجع جذوة المقتبس ص 331.
(2) Amari: ibid.; V.III.p.9
(3) راجع أعمال الأعلام ص 219 و 220، وابن الأثير ج 9 ص 100، وابن خلدون =(2/193)
على أن غزو مجاهد الجرىء لسردانية، وغاراته المتكررة بعد ذلك على الشواطىء الإيطالية وشواطىء بروفانس، جعلت منه شخصية خيالية مروعة، وتفيض الروايات النصرانية المعاصرة، من إيطالية ولاتينية، في غزوات مجاهد وغاراته البحرية، وتعرفه باسم موجيتوس Mogetus أو موسيتو Museto وتحيطه بهالة من البطولة والروع.
وفي بعض الروايات أن المسلمين غزوا سردانية بعد ذلك مرتين أخريين، في سنة 1019 م، ثم في سنة 1049 م، وذلك بقيادة مجاهد العامري أيضاً، وأن مجاهداً سقط أخيراً في أيدي النصارى، وهي رواية لا سند لها. ثم إنه يروى أيضاً أن البحارة المغامرين أو القراصنة حسبما يسمونهم، من دانية والجزائر، لبثت تتكرر غاراتهم على الشواطىء الغربية للبحر المتوسط مدة طويلة، يظللها دائماً اسم "موجيتو" أى مجاهد، على أنه ملك إفريقية. وإذا كان لنا أن نستخلص من ذلك شيئاً، فهو الروع الذي كان يبثه اسم هذا البحار الجرىء - مجاهد العامري - في ثغور البحر المتوسط الغربية، في ذلك العصر.
ومن الأسف أن الرواية الإسلامية تنقصها الإحاطة في هذا الجانب الشائق من حياة مجاهد، وهي حياته كبحار من أعظم بحاري العصر، فهي لا تقدم لنا عنه سوى نبذة يسيرة متناقضة، وهي أكثر اهتماماً بنواحيه العلمية والأدبية. وعاد مجاهد العامري من غزوته المنكوبة لسردانية، ليلقى الأمور في دانية قد اضطربت وتعقدت. ذلك أن الفقيه أبا عبد الله المعيطي، لم يحفظ العهد، ولم يرع الأمانة، فاستبد بالحكم، واغتصب السلطة لنفسه، ومحا اسم مجاهد ورسومه، وكثرت مظالمه وعيثه، وابتزازه للأموال، ومجاهرته بالمعاصي.
وما كاد مجاهد يقف على ذلك، حتى بادر بالقبض على المعيطي، ونزعه كل سلطة وصفة، واشتد في تأنيبه وتعنيفه، ثم أرسله مخفوراً إلى العدوة في سفينة أنزلته في بجاية، وهنالك لجأ إلى البربر، وعاش مغموراً حتى توفي (1).
_______
= ج 4 ص 164، والمقدمة ص 212. وراجع بحثاً بالإسبانية عن مجاهد العامري وعلي ابنه: Roque Chabas: Mochahid ijo de Yusuf y Ali ijo de Mochahid en (Estudios de Erudicion Oriental) Homenaje a Fr.Codera. وراجع أيضاً: Amari: ibid ; V.III.p. 4-14
(1) أعمال الأعلام ص 220.(2/194)
وعمد مجاهد إلى تنظيم شئون مملكته، والعمل على النهوض من عثرته.
وكانت أعوص محنة يومئذ أسر ولده وأهله في سردانية، وقد استطاع أن يفتدي زوجته وبناته وإخوته في مدة قريبة. ورفضت أمه وكانت نصرانية العود إليه، وكذلك أختها، وآثرتا العيش في أرض نصرانية، فأعرض عنهما. وبقيت مشكلة ولده علي. وكان وقت أسره في سردانية طفلا في السابعة من عمره، وكان وحيده يومئذ، وكانت أمه نصرانية كذلك. وقد رفض السرادنة كل عرض لافتدائه، وأخفق كل مجهود بذله مجاهد لرده. ومضت الأعوام والغلام يعيش في الأسر بين النصارى، يربى على دين النصرانية، ويتحدث لغة القوم. وأخيراً وفق مجاهد إلى إقناع السرادنة بقبول افتدائه وإطلاق سراحه، وذلك بعد عشرة أعوام من أسره. وكانت وجهة نظر السرادنة في احتجاز الغلام على هذا النحو، هي استبقاؤه رهينة ثمينة، لمنع مجاهد من القيام بأية مغامرة أخرى، ولم يرتضوا إطلاق سراحه، إلا بعد أن دفع لهم مجاهد فدية هائلة، وقطع على نفسه أوثق العهود بأن يتركهم في سلام، وألا يعود إلى إزعاجهم بأية صورة. وخرج علي من الأسر، وهو فتى يتكلم بلسان "الروم" الذي ربي بينهم، ويتزيا بزيهم، ويعتنق دينهم. فلما وصل إلى دانية عرض عليه أبوه الإسلام، فقبله، وحسن إسلامه، وعني مجاهد بتأديبه وتثقيفه. وكان قبل افتدائه من الأسر، قد اختار لولاية عهده ولده الأصغر حسناً الملقب بسعد الدولة، ولكنه عدل عن هذا الاختيار لما آنسه في ولده الأكبر علي من مخايل الشجاعة والذكاء والعزم، فقدمه على أخيه الأصغر، وعينه لولاية عهده، وعهد إليه بقيادة الجيش. وكان لذلك فيما بعد أثره في توتر العلائق بين الأخوين (1).
- 2 -
كانت غزوة سردانية أعظم أعمال مجاهد العامري، وهي ألمع صفحة في تاريخه. بيد أنه مذ عاد إلى دانية، قدر له أن يخوض سلسلة من الحوادث والأعمال الأخرى.
_______
(1) أعمال الأعلام ص 221، والبيان المغرب ج 3 ص 157. وبحث الأستاذ Chabas السالف الذكر. ويقول لنا ابن بسام إن الذي افتدى علياً من الأسر، هو أحد آل حماد أمراء بني مناد بالمغرب الأوسط، وأنه أسدى بذلك إلى والده يداً بيضاء (راجع الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206).(2/195)
ففي سنة 408 هـ، اجتمع رأي الفتيان العامريين، وعلى رأسهم زعيمهم خيران صاحب ألمرية، على معارضة خلافة علي بن حمود الناصر في قرطبة، والدعوة لخلافة مرشح أموي جديد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن الناصر، وكان قد فر خفية من قرطبة إلى جيان، فأعلن خيران بيعته، وأيده في بيعته المنذر التجيبي صاحب سرقسطة، وولاة بلنسية ودانية وطرطوشة وألبونت وغيرها، وكان ذلك في مؤتمر عقد في بلنسية، وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضي، وأعلن الخلاف على الناصر، وسار على رأس جيش متحد من حلفائه ومؤيديه، ومنهم مجاهد العامري. والتقى جيش الفتيان وحلفائهم في ظاهر غرناطة بجيش البربر، بقيادة زاوي بن زيري الصنهاجي، فهزم جند الأندلس هزيمة فادحة، وقتل المرتضي خلال فراره (409 هـ)، وانهارت بذلك حركة الفتيان لمعارضة خلافة البربر، وعاد مجاهد إلى دانية.
وفي خلال ذلك تطورت الحوادث في بلنسية، وكانت تحت حكم الفتيين العامريين مظفر ومبارك، فتوفي مظفر أولا ثم تبعه مبارك في حادث قتل فيه، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 408 هـ حسبما فصلنا من قبل في موضعه. فعندئد خلفه في حكم بلنسية الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة، ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري، وكانت الخطبة تصدر باسميهما، ثم وقع الخلاف بينهما، وسخط أهل بلنسية على لبيب، لوقوعه تحت نفوذ صاحب برشلونة النصراني، ففر لبيب إلى طرطوشة، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية، إلى جانب مملكته في دانية، واستمر على ذلك زهاء عامين، حتى اجتمع الفتيان العامريون مرة أخرى، وعقدوا البيعة لحفيد مولاهم عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور، وندبوه أميراً لبلنسية، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م)، وعندئذ تخلى مجاهد عن حكمها.
ْولسنا نجد بعد ذلك تفصيلا شافياً لأعمال مجاهد في الأعوام التالية، بيد أنه هنالك واقعتين واضحتين، الأولى أن مجاهداً غزا مرسية، والثانية أنه خاض حرباً مع عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية. فأما عن الواقعة الأولى، فإنه يبدو من إشارة لابن الأبار، أن مجاهداً سار إلى غزو مرسية، وقت أن كان عليها أبو بكر بن طاهر نائباً عن زهير العامري صاحب ألمرية. ولا توضح لنا الرواية أسباب هذا الغزو، ولا تاريخه بالضبط، ولكن الظاهر أنه وقع حوالي سنة(2/196)
420 هـ (1029 م) في أوائل ولاية زهير لألمرية ومرسية عقب وفاة خيران العامري. وقد كان النزاع قائماً داخل مرسية حول حكمها بين بني طاهر، وبني خطاب، وكان مجاهد فيما يبدو من مؤيدي بني خطاب، فلما غلب بنو طاهر على المدينة سار مجاهد لغزوها، وأسر أبا بكر بن طاهر، وحمله معه إلى دانية، ولم يطلقه إلا لقاء فدية طائلة، بيد أنه ليس هناك ما يدل على أن مجاهداً حكم مرسية أو استقر بها طويلا. وعندئذ ندب زهير أبا بكر بن طاهر لحكم المدينة واصطحب معه خصمه ومنافسه أبا عمرو بن خطاب إلى ألمرية حسماً للنزاع، وضماناً للسكينة والسلام في مرسية (1).
ولما توفي زهير العامري في سنة 429 هـ، قتيلا في حربه مع باديس صاحب غرناطة، واستولى عبد العزيز المنصور من بعده على ألمرية وأعمالها، وعلى مرسية وأوريولة، شعر مجاهد بأن تضخم مملكة بلنسية على هذا النحو سوف يغدو خطراً على مملكته، فساءت بينهما العلائق بسرعة وانتهت إلى الحرب. وسار مجاهد في قواته من دانية، واخترق أراضي مملكة بلنسية الوسطى من شاطبة إلى لورقة. وكان عبد العزيز المنصور يومئذ في ألمرية، فغادرها في قواته، وكانت شاطبة ولورقة وشوذر (2) من أعمال مملكته، قد خرجت كلها عليه وانضمت إلى مجاهد. ووقعت الحرب بين الفريقين (433 هـ - 1041 م) وانتصر عبد العزيز في النهاية على خصومه، واستعان في محاربته لمجاهد ببعض سريات من المرتزقة النصارى أمده بها ملك قشتالة، وعاد مجاهد إلى دانية، دون أن يفوز بشىء.
وولّى مجاهد حكم ميورقة (الجزائر الشرقية) ابن أخ له يدعى عبد الله. وكانت الجزائر الشرقية من أهم أعمال مجاهد، وبها كانت مرافيء معظم أساطيله، لأن مياه دانية لا تصلح لرسو السفن الكبيرة. واستمر عبد الله على ميورقة خمسة عشر عاماً حتى عزل في سنة 428 هـ، وندب مجاهد لحكمها مولاه الأغلب فاستمر في منصبه بقية عهد مجاهد، وقسما من عهد ولده علي (3).
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 187، وطبعة القاهرة ج 2 ص 116 و 117.
وكذلك الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 182.
(2) وهي بالإسبانية Jodar
(3) ابن خلدون ج 4 ص 167.(2/197)
وتوفي مجاهد العامري سنة 436 هـ (1044 م) بعد أن حكم مملكة دانية والجزائر زهاء ثلاثين عاماً، ساد فيها النظام والأمن والرخاء.
وقد أشادت التواريخ المعاصرة واللاحقة، بخلال مجاهد العامري، وعبقريته الحربية والسياسية، ومآثره العلمية والأدبية، وكان أكبرهم تنويهاً بشأنه، معاصره المؤرخ الكبير أبو مروان ابن حيان، وإليك نبذة مما قاله في ذلك، نقلها إلينا ابن بسام في الذخيرة، قال: " كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره، لمشاركته في علم اللسان، ونفوذه في علم القرآن، عنى بذلك من صباه، وابتداء حاله إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن التزيد، عظيم ما مر به في الحروب براً وبحراً، حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، وكانت دولته أكثر الدول خاصة، وأسراها صحابة، لانتحالهم الفهم والعلم، فأمه جلة العلماء وأنسوا بمكانه، وخيموا في ظل سلطانه، واجتمع عنده من طبقات علماء أهل قرطبة وغيرها، جملة وافرة، وجلة ظاهرة، إلا أنه كان مع أدبه من أزهد الناس في الشعراء، وأحرمهم لأهله، وأنكرهم على منشده فأقصر الشعراء عن مدحه، وخلا الشعر من ذكره " (1).
وذكر لنا في نبذة أخرى نقلها إلينا ابن الخطيب، أنه كان بين أعلام العصر الذين يلتفون حول مجاهد، أبو عمرو بن سعيد الداني صاحب القراءات، وأبو عمر ابن عبد البر، وابن معمر اللغوي، وابن سيده صاحب كتاب المحكم وغيرهم (2).
وكان منهم أيضاً الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن رشيق، وكان يحتل في دولة مجاهد أرفع منزلة، وقد ولاه ميورقة فحكمها بالسياسة والعدل، واشتغل هناك بالحديث والفقه (3)، وكان بعض هؤلاء العلماء منقطعاً إليه، متفرغاً للعمل في كنفه، مثل ابن سيده الذي ألف معظم كتبه تحت رعايته، ولازمه حتى توفي، ثم غادر دانية بعد وفاته خوفاً من سطوة ولده علي (4). " فشاع العلم في حضرته
_______
(1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 5 أ. ونقلها صاحب البيان المغرب ج 3 ص 156.
(2) توفي أبو عمرو الداني سنة 444 هـ، وابن عبد البر سنة 463 هـ، وابن سيده سنة 458 هـ.
(3) هذا قول ابن الأبار (الحلة السيراء ج 2 ص 128) ولا نعرف متى كانت هذه التولية.
ولعلها كانت في أوائل عهد مجاهد. وقد توفي ابن رشيق بعد سنة 440 هـ.
(4) المقري عن المطمح في نفح الطيب ج 2 ص 357.(2/198)
حتى فشا في جواريه وغلمانه، فكان له من المصنفين عدة، يقومون على قراءة القرآن، ويشاركون في فنون من العلم، يجملونه بها ويشرفون دولته".
ومما يذكر عن علائق مجاهد بعلماء عصره، قصته مع إمام اللغة والنحو في عصره، أبي غالب بن غالب المعروف بابن التياني المرسى. فإن مجاهداً أثناء تغلبه على مرسية، وأبو غالب إذ ذاك بها، أرسل إليه ألف دينار، على أن يزيد في ترجمة كتابه " الموعب " أنه ألفه لأبى الجيش مجاهد. فرد عليه المال، وأنف من ذلك قائلا، " والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه لك خاصة، وإنما جمعته لكل طالب علم " (1).
ولم تقف إشادة المؤرخ المعاصر بخلال مجاهد عند مآثره العلمية، ولكنه ينوه في نفس الوقت بخلاله كفارس من أعظم فرسان عصره. ويقول لنا ابن حيان إنه " كان بهمة، وأكثر الناس علماً بالثقافة، فلا يضم من الفرسان إلا الأبطال الشجعان، وإنه لم يكن في ملوك الزمان فارس يعدله شكلا ولباقة ورواء وهيبة، وحسن عمل في السلاح، وتقليباً له، إلى حذق بأبواب الثقافة والرماية، وتدقيق لمعانيها " (2).
كذلك فإنه يبدو أن مجاهداً كان من أذكى ملوك الطوائف وأحذقهم بالشئون المالية والتجارية. وكان نشاطه التجاري الواسع، المترتب على نشاط سفنه التجارية الكثيرة في مياه غربي البحر المتوسط، يحقق له ثروات طائلة، وكانت مملكة دانية في الواقع من أغنى ممالك الطوائف، وأكثرها تمتعاً بالرخاء.
وقد رأينا مما ذكرناه في غزوة ميورقة، وغارات مجاهد البحرية على الشواطىء الفرنسية والإيطالية، أن مجاهداً كان كذلك بحاراً من أعظم بحارة عصره، وكان من أكثرهم تمرساً بالحروب والغارات البحرية. ويصفه دوزي، بأنه كان أعظم " القراصنة " في عصره، وبأنه قد اشتهر بغزواته لسردانية وشواطىء إيطاليا وكذلك بحمايته للأدباء (3).
ُومع كل ما تقدم فإن ابن حيان لم يفر مجاهداً من نقده اللاذع، إذ يبدو أنه
_______
(1) راجع الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 182، ونفح الطيب ج 2 ص 132.
(2) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 5 أ. وأعمال الأعلام ص 218.
(3) Dozy: Hist.des Musulmans d'Espagne, V.III.p.3(2/199)
جنح في أواخر عهده إلى نوع من التناقض والاستهتار، فتارة يبدو ناسكاً، معتكفاً متبرئاً من كل باطل، وطوراً يعود خليعاً فاتكاً لا يساتر بلهو ولا لذة، ولا يستفيق من شراب وبطالة، شأنه في ذلك شأن سائر ملوك الطوائف (1).
وكان مجاهد العامري يكنى حسبما قدمنا بأبى الجيوش، وفي بعض الروايات بأبى الحسن (2)، ويلقب من الألقاب الملوكية بالموفق.
- 3 -
وخلف مجاهد العامري في مملكة دانية والجزائر، ولده علي الملقب بإقبال الدولة. وقد سبق أن أشرنا إلى قصة أسره، وهو صبي، في غزوة سردانية، وعوده من الأسر بعد أعوام طويلة، فتى تغلب عليه صفات الروم ولسانهم، وكيف عنى أبوه مجاهد برده إلى حظيرة الإسلام، وبتثقيفه وإعداده ليخلفه في الملك.
وكان مجاهد، قبل عود ولده علي، قد رشح أخاه الأصغر حسناً الملقب بسعد الدولة لولاية عهده، فلما صار الأمر بعد ذلك إلى أخيه علي، تحطمت آماله، وشعر نحو أخيه الأكبر، بعاطفة بغض قوي، ورغبة جامحة في إزالته.
وهناك في الواقع بعض الغموض فيما يتعلق بمركز حسين من مسألة الحكم وولاية العهد، ذلك أنه توجد قطع من النقود التي ضربت في دانية سنة 432 هـ، وعليها اسم حسن سعد الدولة، كما توجد نقود ضربت في دانية وميورقة في سنتي 435، و 436 هـ، تحمل اسمه واسم أخيه علي وأبيهما مجاهد. وفي ذلك ما يدل على أن حسناً، ربما ولي الحكم بالفعل خلال حياة أبيه نائباً عنه، أو أنه كان مشاركاً ْلأخيه علي في ولاية العهد، أو نحو ذلك (3). وعلى أي حال فقد سار حسن مغضباً إلى صهره، وزوج أخته العتضد بن عباد في إشبيلية، وأفضى إليه بمشروعه في الوثوب على أخيه، واسترداد حقه في الملك، فشجعه المعتضد، وهو من عرفنا من الجرأة والإقدام على الكبائر، ولعله كان يرى في معاونته على تنفيذ مشروعه، سبيلا إلى بسط حمايته فيما بعد على مملكة دانية. وبعث معه إلى دانية غلاماً فتاكاً من غلمانه، ووضع حسن والغلام العبادي خطتهما لاغتيال علي،
_______
(1) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 5 أ.
(2) ابن الأثير ج 9 ص 10، وراجع معجم ياقوت الجغرافي تحت كلمة " دانية ".
(3) P.y Vives: Los Reyes de Taifas ; p. 36(2/200)
واتفقا على أن يكون ذلك يوم جمعة عقب خروج علي من الصلاة. وكان من عادة علي، عقب الخروج من الصلاة، أن يتنزه قليلا على شاطىء البحر، وكان إذا ركب، كان أخوه حسن وراءه في الموكب، فلما انتهى علي في ذلك اليوم من نزهته، وسار عائداً إلى قصره، انتهز حسن والغلام العبادي فرصة مروره في زقاق ضيق، وانقض حسن عليه بخنجره، فأصابه في يده، ثم حاول أن يثني الطعنة فلم يوفق ورده علي, وعندئذ حاول الغلام العبادي أن يطعن علياً بالرمح الذي يحمله، فنشب الرمح في الحائط لضيق الزقاق، وانقض رجال عليّ على الغلام العبادي فقتلوه، وفر حسن ناجياً بنفسه، وسار مسرعاً إلى بلنسية، حيث لجأ إلى صهره، وزوج أخته الآخر. عبد الملك بن عبد العزيز، وهناك عاش في كنف أخته مغموراً حتى توفي (1).
وهكذا فشلت هذه المحاولة الغادرة في اغتيال علي بن مجاهد، وبرىء علي من جراحه واستقر في ملكه، واتفق الجميع على طاعته وتأييده. وحذا علي حذو أبيه في اتباع سياسة الحيدة والمودة مع جيرانه، وحاول مثل أبيه أن يوثق علائقه مع ملوك عصره بالمصاهرة، وكانت له بنات حسان يصفهن صاحب الذخيرة بأنهن كن " أحسن من الشموس، وأفتن من الطواويس " ويقول لنا إن ملوك الطوائف تنافسوا في الزواج منهن، وجعلهن والدهن علي عيوناً على أزواجهن، معتمداً على ما تحققه له المصاهرة وصلة الرحم، من الرعاية والحماية (2)، فزوج إحداهن للمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وأخرى إلى المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، وتزوج هو من ابنة أحمد بن هود المقتدر بالله، بيد أنه كان من غرائب القدر أن هذه السياسة ذاتها، وهي سياسة المصاهرة، كانت أيضاً هي السبب في سقوط علي وضياع ملكه.
ولم نعثر على أية تفاصيل شافية عن الأحداث التي مرت بمملكة دانية أيام علي ابن مجاهد، ولا عن أعمال علي ذاته، وكل ما نستخلصه من الإشارات القليلة المتعلقة بحكمه، أنه جرى على نفس سياسة أبيه في مخاصمة بني طاهر أصحاب مرسية، وأنه كان متحالفاً مع أصحاب بلنسية ومربيطر وشنتمرية الشرق. وأما عن
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 157 و 158.
(2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206.(2/201)
علائقه مع الملوك النصارى، فإنه كان على علائق المودة والصداقة مع ملك قشتالة، أسوة بالمأمون صاحب طليطلة، ولكن على مبدأ الاستقلال لا الخضوع، إذ كانت مملكة دانية، حسبما بينا من قبل، بموقعها النائي الحصين، بعيدة عن متناول عدوان قشتالة. وكذا كان يرتبط بمثل هذه العلائق الودية مع كونتات برشلونة، وهم أمراء آل برنجير.
وكان علي يولي شئون الجزائر منتهى عنايته، وكان يشعر دائماً أنها أهم أقسام مملكته. وكان حاكمها وقت ولاية علي، هو الأغلب مولى أبيه مجاهد، وكان قد ولي حكمها منذ سنة 428 هـ. وكان جندياً وبحاراً مجرباً، وكان دائب الإغارة بسفنه على الشواطىء النصرانية في قطلونية وبروفانس (1). ولما توفي مجاهد، استأذن الأغلب علياً بعد ولايته بقليل، أن يسير إلى الحج، فأذن له، وندب لحكم الجزائر صهره سليمان بن مشكيان، فاستمر في حكمها خمسة أعوام أخرى حتى وفاته في سنة 442 هـ (1050 م)، فولى علي مكانه عبد الله المرتضي فحكمها مدة طويلة. ولما سقطت دانية في يد ابن هود، وانقضت دولة علي، حسبما يجىء، أعلن المرتضي استقلاله بحكم الجزائر، واستمر في حكمها أميراً مستقلا حتى وفاته في سنة 486 هـ (1092 م)، فخلفه في حكمها مبشر بن سليمان الملقب بناصر الدولة حسبما نذكره في موضعه (2).
وكان من أبرز أعمال علي بن مجاهد، استجابته لنداء المستنصر بالله خليفة مصر الفاطمي، أيام الشدة العظمى، التي نكبت فيها مصر بالوباء والمجاعة الغامرة، حيث دعاه إلى المساهمة في إغاثة أهل مصر بالغلال والمؤن، فبادر علي إلى الاستجابة، وبعث إلى الإسكندرية مركباً كبيراً مشحوناً بالمؤن والأطعمة، (447 هـ - 1055 م)، فردها إليه المستنصر مشحونة بالتحف والذخائر، وتبالغ بعض الروايات فتقول إنه أرسلها إليه مشحونة " بالأموال والذخائر، أو بالياقوت والجواهر والذهب " (3).
وبعث علي إلى المستنصر رسالة شكر تفيض بلاغة وإجلالا، مكتوبة بقلم
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 165.
(2) راجع: A.P. Ibars: Valencia Arabe, p. 171 &172
(3) راجع البيان المغرب ج 3 ص 228، وأعمال الأعلام ص 221 و 222.(2/202)
وزيره أبى الأصبغ بن أرقم، يشيد فيها بمقام الخلافة الفاطمية وجلالها، ومقام المستنصر بالله. وقد نقل إلينا ابن بسام نص الرسالة المذكورة، ومما جاء فيها على لسان علي:
" فالآن استمد المريد، واستقر الضمير، فتبسم مولى الحضره رياضاً عطراً، وراد روضها زهراً، وشام برقها ممطراً، واستوضح هلالها مبدراً، وارتشف ماءها حضراً، فما الشكر وإن جزل، يوف ثنايا ذلك الإفضال والإنعام, ولا اللسان وإن جفل يتعاطى ذلك الشأو، ولا الأقلام، ولا الطوق يقوم بأعبائها حق القيام. وأي وسع يباري البحر وهو طام، وأي طوق يطيق ركنى شمام. ولو كانت للمولى بالقدر يدان وساعده إمكان، وساعفه زمان، لأم بشخصه كعبة الآمال، واستقبل بقصده قبلة السعة والإقبال، واستلم بيده ركن الإنعام والإفضال .. " (1).
وكان علي يتبع سياسة المودة والتسامح المطلق نحو النصارى، ونحو أمانيهم الدينية، وربما كان ذلك راجعاً من بعض الوجوه إلى ظروف حياته، وإلى نشأته خلال أسره الطويل، بين نصارى سردانية، واعتناق دينهم قبل أن يعود إلى الإسلام. ولدينا في ذلك وثيقتان صادرتان منه، الأولى بوضع سائر الكنائس والبيع التي بمملكة دانية والجزائر تحت رعاية أسقف برشلونة، وأن يتولى هو تعيين سائر رجال الدين الذين يعملون بهذه الكنائس، والثانية بأن يسمح للنصارى المعاهدين في أعمال مملكته، بأن يذكروا اسم أسقفهم في خطبهم ومواعظهم. ولدينا بالأخص النص العربي للوثيقة الثانية، وقد جاء فيه: " أشهده إقبال الدولة، أيده الله، على أنه أجاب غلبرت الأسقف ببرشلونة. إلى أن يكون مذكوراً في خطاب النصارى في بيعهم بجميع أعماله، وهو مما انعقد بالخط الأعلى، وذلك في شوال سنة تسع وأربعين وأربعمائة "، ثم يلي ذلك أسماء الشهود (2).
_______
(1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط، لوحة 65 ب وما بعدها، وهي طويلة.
(2) تحفظ هذه الوثيقة بمحفوظات مكتبة الفاتيكان برومة. وراجع نصها الكامل في بحث الأستاذ شاباس السالف الذكر عن مجاهد وابنه علي في كتاب: Estudios de Erudicion Oriental, Homenaje a Fr. Codera
وراجع أيضاً في هذا الموضوع A.P.Ibars: Valencia Arabe, p. 175-176.(2/203)
وكان من أثر هذه الحرية الدينية المطلقة، أن تحققت في نفس الوقت حرية فكرية شاملة، وانطلقت الأقلام بما شاءت. وفي هذا الجو المشبع بالتسامح والحرية، كتب أبو عامر أحمد بن غرسية، وهو مولد من كتاب شرقي الأندلس، يرجع إلى أصل نصراني بشكنسي، سبي من ماردة صغيراً، ونشأ في بلاط دانية، في كنف مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر (400 - 436 هـ)، وولده على اقبال الدولة (436 - 468 هـ) (1): كتب رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب، وهي رسالة قوية عجيبة، تفيض تحاملا ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته، وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله، وانغماسه في شهوات الجنس، وتشيد بالعكس بصفات العجم (والمقصود بها مختلف أجناس الفرنج)، وترفعهم عن الشهوات الدنية، وفروستهم، ونجدتهم، وتبحرهم في العلوم، وغير ذلك. وقد وجه ابن غرسية هذه الرسالة إلى صديقه الكاتب الشاعر أبي عبد الله بن الحداد، يعاتبه فيها، لأنه يخص ابن صمادح دون مجاهد وولده علي بمدائحه، وصاغها في أسلوب عنيف مقذع، ينبىء بما كان يضمره هذا الكاتب المولد للجنس العربي من المقت والحقد والكراهية. ولا تحمل هذه الرسالة تاريخاً ما. ولكنا نعرف مما تقدم أن ابن الحداد، الذي وجهت إليه، كان شاعراً في بلاط المعتصم بن صمادح أمير ألمرية، الذي حكم من سنة 433 - 484 هـ (2). والمرجح أنها وجهت إليه حوالي سنة 450 إلى سنة 460 هـ، وابن غرسية يقيم بدانية في كنف على إقبال الدولة، وإليك بعض ما جاء في هذه الرسالة في التنويه بفضائل العجم، ونقائص العرب:
_______
(1) المغرب في حلى المغرب لابن سعيد (القاهرة 1955) ج 2 ص 406 و 407، وأبو الحجاج البلوي في كتاب الف با (القاهرة 1287 هـ) ج 1 ص 353. وابن الأبار في المعجم رقم 282 في ترجمة أبي العباس الجزيري حيث يقول عنه "وكان بها (أي بدانية) يؤدب أبا جعفر أحمد بن غرسية الكاتب".
(2) ان اسم ابن الحداد الذي وجه إليه ابن غرسية رساله، هو الذي ورد في مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري الآتي ذكره. ولكن ورد في الذخيرة لابن بسام (الجزء الثالث مخطوط أكاديمية التاريخ بمدريد) وكذلك في كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (مخطوط باريس السالف الذكر) أن الذي وجهت إليه الرسالة هو أبو جعفر الجزار، وهو باسمه الكامل أحمد بن محمد بن سهل السرقسطي، وأنه كان عن شعراء بني هود، وكان عالماً أديباً شاعراً، وكان قد هبط من سرقسطة يريد ألمرية ليلحق بالمعتصم بن صمادح وقد عدل عن الورود إلى دانية، والالتجاء إلى أميرها علي بن مجاهد. بيد أننا نؤثر الأخذ بما ورد في مخطوط الإسكوريال.(2/204)
" أأحسبك أزريت، وبهذا الجيل البجيل ازدريت، وما دريت أنهم الصهب الشهب، ليسوا بعرب ذوي أينق جرب، أساورة أكاسرة، مُجد، نُجد، بُهم، لا رعاة شويهات، ولا تهم، شغلوا بالماذي والمرّان عن رعي البعران، وبجلب العز عن حلب المعز، جبابرة، قياصرة، ذوو المغافر والدروع، للتنفيس عن روع المروع، حماة السروح، نماة الصروح، صقورة، غلبت عليهم شقورة، وشقورة الخرصان، لكنهم خَطَبة بالخرصان، شعر.
ما ضرهم أن شهدوا مجادا ... أو كافحوا يوم الوغى الأندادا
أن لا يكون لونهم سوادا
" شرهوا برنات السيوف، لا بربات الشنوف، وبركوب السروج عن الكلب والفرُّوج، وبالنفير عن النقير، وبالجنائب عن الحبائب، وبالخب عن الحب، وبالشليل عن السليل، وبالأمر والذمر، عن معاقرة الخمر والزمر، وباللقيان عن العقيان، وعن قنيان القيان، طِياتهم خطياتهم، وغلاتهم آلاتهم, وحصونهم حصنهم، أقيال آباؤهم من بين الأنام أقتال.
أولئك قومي إن بنوا شيّدوا البناء ... وإن حاربوا جدّوا وان عقدوا شدّوا
حُلُم عُلُم ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية كحملة الاسترلوميقي, والموسيقي والعَلَمة بالارتماطيقي، والجومطريقي، والقومة بالألوطيقي والبوطيقي، ما شئت من تدقيق، وتحقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم البدنية والدينية لا على وصف الناقة الفدنيّة، فعلمهم ليس بالسفساف كفعل نائله وأساف، أصغر بشأنكم، إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غبشانكم، وإذ أبور غالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستيصالكم.
أزيدك أم كفاك وذاك أني ... رأيتك في انتحالك كنتَ أحمق
فلا فخر معشر العربان الغربان، بالقديم المفرِّي للأديم، ولكن الفخر يابن عمنا، الذي بالبركة عمّنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب الذي انتشلنا الله تعالى به وإياكم من العماية والغواية، أما نحن فمن أهل التثليث وعبادة الصلبان، وأنتم من أهل الدين المليث وعبادة الأوثان، ولاغرو أن كان منكم حبره وسبره، ففي الرغام يلقى تبره، والمسك بعض دم الغزال، والنطاف العذاب مستودعات بمسك العزال:(2/205)
لله مما قد برا صفوة ... وصفوة الخلق بنو هاشم
وصفوة الصفوة من بينهم ... محمد النور أبو القاسم
بهذا النبي الأمي أفاخر من تفخّر، وأكابر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين، الملتقي بالرسالة، والمنتقي للأداء والدلاّلة، أصلي عليه عدد الرمل، ومدد النمل، وكذلك أصلي على واصلي جناحه، سيوفه ورماحه، أصحابه الكرام، عليهم من الله أفضل السلام ".
وقد أثارت رسالة ابن غرسية مرارة في الأوساط الأدبية المعاصرة، ورد عليه من العلماء القريبين من عصره في رسائل شديدة، انتهى إلينا بعضها. ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن الدودين البلنسي، وقد عاش في النصف الثاني من القرن الخامس، وكان معاصراً لابن بسام، وأورد لنا ابن بسام رده على ابن غرسية في الذخيرة. ومنهم أبو الطيب عبد المنعم بن عبد الله القروي المتوفى سنة 493 هـ، وقد ورد رده في الذخيرة أيضاً، وفي مخطوط الإسكوريال، في رسالة عنوانها: "حديقة البلاغة، ودوحة البراعة، بذكر المآثر العربية ونشر المفاخر الإسلامية".
ومنهم الوزير الكاتب أبو عبد الله بن أبي الخصال المتوفى سنة 540 هـ، وقد رد على ابن غرسية في رسالة يوردها لنا صاحب الذخيرة، وعنوانها: " خطف البارق، وقذف المارق في الرد على ابن غرسية الفاسق ". ومنهم الفقيه أبو يحيى ابن مسعدة من فقهاء الموحدين، وقد عاش فيما يبدو في النصف الثاني من القرن السادس، في رسالة طويلة وردت في مخطوط الإسكوريال، ومنهم أخيراً أبو مروان عبد الملك بن محمد الأوسي في رسالة "الاستدلال بالحق في تفضيل العرب على جميع الخلق" (1).
_______
(1) توجد رسالة ابن غرسية ضمن مجموعة مخطوطة بمكتبة الإسكوريال لا عنوان لها، وتحمل رقم 538 الغزيري، وتحتوي على عدة رسائل تاريخية منوعة، وتشغل بها اللوحات 26 - 29 وتليها رسالة أبى يحيى بن مسعدة في الرد عليها وتشغل اللوحات من 29 - 41، ثم يليها رسالة ثانية في الرد على ابن غرسيه، ثم رد أبى جعفر أحمد بن الدودين البلنسي ويشمل اللوحات 53 - 54.
وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة (القسم الثالث المخطوط المحفوظ بأكاديمية التاريخ بمدريد) رسالة ابن غرسية ثم رد أبى جعفر أحمد بن الدودين، ورد ابن عبد الله القروي. وقد نشر العلامة المستشرق جولد سيهر رسالة ابن غرسيه ما عدا الفقرة الأخيرة منها ضمن بحث له بالألمانية عنوانه: "الشعوبية عند مسلمي اسبانيا" Die Su'ubijja unter den Mohammedanern in Spanien =(2/206)
وقد استمر صدى السخط على رسالة ابن غرسية عصوراً حتى أننا نجد كاتباً أندلسياً عاش بعد ذلك بقرنين هو أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي، يتناول هذه القضية، في كتابه " ألف با "، ويعقد فصلا خاصاً عن " فضل العرب "، يردد فيه ما قيل في ذلك، وما ينسب للعرب من الفروسية، والشجاعة، وحب الحرية، والإباء والجود، وفصاحة اللسان والشاعرية، وغير ذلك من الخلال المأثورة ثم يعطف على رسالة أبى عامر بن غرسية " البشكنسي الأصل "، ويقول إنه قد " فسق في رسالته وبدع، وسب بسببها وجدع "، ويعدد لنا من تصدوا للرد عليه، ممن سبق ذكرهم وذكر رسائلهم، ثم يبدي دهشته من تسامح أهل العصر، وتركهم لابن غرسية وأمثاله دون عقاب ويقول: " والعجب من أهل ذلك الزمن، كيف استقروا على هذه الفتن، وأقروا هذا المجتري على هذا الاجتراء، وما جاء به من الافتراء، أم كيف أبلغوه ريقه، وأوسعوا له طريقه ولم يهلكوه وفريقه " (1).
وقد عنى البحث الحديث بدراسة رسالة ابن غرسية والتعليق عليها، وتناولها العلامة جولدسيهر في بحثه " الشعوبية عند مسلمي اسبانيا " الذي سبقت الإشارة إليه. ويلاحظ جولدسيهر، أنه يوجد بين عظماء الأمة الأندلسية كثيرون ممن يرجعون إلى أصول غير عربية وبخاصة المولدين، ومن هؤلاء أئمة من المفكرين مثل بقي بن مخلد، والعلامة ابن حزم، وإمام اللغة، أبو مروان عبد الملك ابن السراج، وغيرهم، وكذلك كان الشأن في عنصر الصقالبة، الذي ازدهر، في ظل أمراء بني أمية، وشغل منه الكثيرون أرفع المناصب من قيادة ووزارة وغيرهما. بيد أن عنصر المولدين، كان أهم العناصر غير العربية في الأمة الأندلسية وكانت النزعة الشعوبية أكثر تمكناً لديهم من أي عنصر آخر. وتعتبر رسالة ابن غرسية من أبرز نماذج الشعوبية الأندلسية، فقد كان مؤلفها مولداً يرجع إلى أصل نصراني، وهو يردد في رسالته ما تضمنه أدب الشعوبية في الشرق الإسلامي من الأسباب والمبادىء. بيد أن رسالة ابن غرسية تمتاز بأنها في تفضيل
_______
= نشر بمجلة جمعية المستشرقين الألمانية ( Z. der D.Morg.Gesell.) سنة 1899 ص 601 - 620
ونشرها الأستاذ مختار العبادي ضمن بحث له عن "الصقالبة في اسبانيا" (مدريد 1953) ونشرها أخيراً،
ونشر معها الردود التي سبقت الإشارة إليها الأستاذ عبد السلام هارون في مجموعة نوادر المخطوطات،
(المجموعة الثالثة) (القاهرة 1373 هـ). وقد نشرناها نحن في نهاية الكتاب.
(1) أبو الحجاج البلوي في كتابه " ألف با " ص 347 - 353.(2/207)
العجم على العرب، تعني قبل كل شىء بالإشادة بفضائل الروم أو بني الأصفر أي النصارى، في حين أن معظم رسائل الشعوبية المشرقية تعني بالمفاضلة بين العرب والعجم (أي الفرس).
ْأما ما كتبه ابن غرسية في نهاية رسالته عن تمجيد النبي العربي، والإشادة بمآثره، ورسالته الروحية، فيصفه جولدسيهر بأنه حجاب للتمويه، وفي رأي ابن غرسية أن العروبة ليست مفخرة للنبي، " ففي الرغام يلقي تبره، والمسك بعض دم الغزال " (1).
واستمر علي إقبال الدولة في حكم مملكته زهاء ثلاثين عاماً، ثم ساءت العلائق بينه وبين صهره، حميه أحمد بن سليمان بن هود المقتدر صاحب سرقسطة. وكان المقتدر أميراً صارماً وافر الأطماع، فحارب أخوته واستولى على بعض أعمالهم، وانتزع طرطوشة من صاحبها الفتى العامري مقاتل، وحاول أن ينتزع لاردة من أخيه المظفر. ثم اتجهت أبصاره إلى مملكة دانية، وأخذ يكيد لعلي ويشتد في مضايقته. وكانت أهم الأسباب التي انتحلها لخصومته، هو أنه أي علي قد استقبل بدانية بعض الأسر القوية، التي فرت من لاردة بلد المظفر أخى المقتدر وخصيمه، ولجأت إلى حمايته. وذكر لنا ابن بسام سبباً آخر لذلك، وهو أن المقتدر طالب علياً ببعض القلاع الشمالية الواقعة في مملكته، والتي كان يريد أن يلحقها بثغر طرطوشة، وأن علياً، خشية من صولته، سلم إليه تلك القلاع، بيد أنه ضبط فيما بعد كتباً أرسلها علي إلى أصحاب تلك القلاع يحثهم فيها على التحصن والمقاومة (2). وأخيراً سار المقتدر في قواته إلى دانية، وحاصرها، وشعر علي أنه عاجز عن مقاومته، فعرض عليه أن يسلمه المدينة والقصر بما فيه، على أن يؤمنه في نفسه وأهله، فوافق المقتدر، ودخل دانية واستولى عليها، وذلك في شعبان سنة 468 هـ (إبريل 1076 م). وانتهت بذلك الدولة المجاهدية.
وجلس المقتدر بالقصر، وبايعه الناس خاصتهم وعامتهم، وأقام بدانية وقتاً ينظم فيه شئونها، ثم غادرها. وأخذ المقتدر معه صهره علياً وأهله، إلى سرقسطة. وأنزله في كنفه، فعاش هنالك محجوراً عليه حتى توفي، وذلك في
_______
(1) I.Goldziher: Die Su'ubijja unter den Mohammedanern in Spanien (Z.. der.Morg.Gesell.) B. 53 (1899) p. 607-615
(2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 207.(2/208)
سنة 474 هـ (1081 م). وفي رواية أخرى، أنه استطاع الفرار من اعتقال المقتدر، ولحق بالعدوة، والتجأ إلى بني حماد أصحاب بجاية وهنالك توفي (1).
وحاول ابنه سراج الدولة، وكان وقت سقوط دانية، حاكماً لحصن شقورة، أن يسعى إلى استرداد ملك أبيه، فسار إلى برشلونة، واستغاث بصاحبها الكونت برنجير، فاستجاب إليه بشروط وأمده ببعض قواته، واستطاع بالفعل أن يسترد بعض الحصون، ولكن المقتدر كان له بالمرصاد. ويقال إن المقتدر استطاع أن يدس عليه من اغتاله بالسم، فتوفي في سنة 469 هـ، لنحو عام من خلع أبيه (2).
وكان علي بن مجاهد أميراً فاضلا، رفيع الخلال والمواهب، وكان مثل أبيه من حماة العلوم والآداب، وكان لطول إقامته بسردانية يتحدث ويكتب بالفرنسية والقشتالية، وينظم الشعر بهما (3). وكان ميالا إلى السلم والدعة، بعيداً عن أحداث السياسة وتقلباتها، مؤثراً لجمع المال، والاشتغال بالمشاريع التجارية (4) وفي عهده ساد السلام والرخاء في مملكة دانية، وازدهرت أحوالها وتجارتها. وقد أشاد بذكره عبد الواحد المراكشي في تلك العبارة المؤثرة: " ثم ملكها (أي دانية) بعده ابنه علي بن مجاهد وتلقب بالموفق، لا أعلم في المتغلبين على جهات الأندلس أصون منه نفساً، ولا أطهر عرضاً، ولا أنقى ساحة، كان لا يشرب الخمر، ولا يقرب من يشربها، وكان مؤثراً للعلوم الشرعية، مكرماً لأهلها " (5).
- 4 -
ويجدر بنا قبل أن نختم الكلام على مملكة دانية، أن نتبع مصاير ولاية ميورقة أو الجزائر الشرقية، التي كانت تؤلف أهم وحدة فيها.
وقد رأينا أنه كان علي حكمها وقت أن سقطت دانية في يد المقتدر بن هود في سنة 468 هـ، عبد الله المرتضي الذي ندب لحكمها منذ سنة 442 هـ. وعندئذ أعلن المرتضي استقلاله، واستبد بحكم الجزائر، وبعث إلى دانية ليستقدم
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 165.
(2) ابن خلدون ج 4 ص 165.
(3) A.P.Ibars: Valencia Arabe, p. 170, Note 3
(4) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206.
(5) المعجب ص 41. وذكره أن علياً تلقب بالموفق من باب السهو، إذ هو لقب والده مجاهد.(2/209)
أسرة سيده المخلوع علي، فأرسلت إليه، وعاشت في كنفه معززه مكرمة (1).
واستمر المرتضي بعد ذلك في حكم الجزائر أعواماً طويلة أخرى، حتى توفي سنة 486 هـ (1093 م).
فخلفه في الإمارة مساعده مبشر بن سليمان. ويقول لنا ابن خلدون إن مبشراً هذا، قد ولي على الجزائر في أوائل عهد علي إقبال الدولة في سنة 442 هـ، وإنه كان من شرقي الأندلس، وأسره النصارى صغيراً وجبوه، وإن مجاهداً وقع عليه بين أسرى سردانية، فأعجب بمواهبه، وقربه واصطفاه، وترقى في خدمته (2). وفي هذه الرواية غموض وتحريف. والحقيقة في أمر مبشر أنه كان من أهل قلعة حمير من أعمال لاردة، وأسره النصارى في صباه وجبوه، وعاش في برشلونة، حتى تعرف عليه ذات يوم سفير المرتضي حاكم الجزائر، وكان قد وفد مبعوثاً إلى الأمير برنجير في بعض الشئون، فأعجب بمواهب مبشر، وافتداه من الأسر، وأخذه إلى ميورقة وقدمه إلى المرتضي، فسر بخلاله ومواهبه، وأولاه ثقته، واستعان به في تصريف شئون الحكم، واستمر على ذلك حتى توفي المرتضي، فخلفه في الإمارة حسبما تقدم.
وضبط مبشر شئون ميورقة (الجزائر) بحزم وكفايه، واتخذ لقب ناصر الدولة. وفي تلك الأثناء كان المرابطون، بعد أن أحرزوا نصرهم في الزلاقة، قد استولوا على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية، ثم زحفت جيوشهم نحو شرقي الأندلس، واستولت على مرسية ثم بلنسية وذلك في سنة 495 هـ (1102 م)، كل ذلك ومبشر ماض في حكمه للجزائر، يرقب سير الحوادث حذراً متأهباً.
والظاهر أن الجزائر تمتعت في عهده بفترة من الأمن والرخاء، واشتهر أمر مبشر، وقصده الأدباء والشعراء، ووفد إليه بميورقة أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني شاعر المعتمد بن عباد ووزيره من قبل، وامتدحه بقصيدة هذا مطلعها:
ملك يروعك في حلى ريعانه ... راقت برونقه صفات زمانه
وكانت حملات البحارة المجاهدين في عهده، وهم الذين تنعتهم التواريخ
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 165، وهو ينسب هذا التصرف إلى مبشر خلف المرتضي.
(2) ابن خلدون ج 4 ص 165.(2/210)
الفرنجية بالقراصنة، تخرج من ثغور الجزائر المختلفة، وتغير من آن لآخر على شواطىء قطلونية، وبروفانس وليجوريا، وكانت سفن النورمان والبيزيين والقطلان من جانبها تغير على شواطىء الجزائر وتعيث فيها. وكان من الحوادث الشهيرة في هذا العهد أن طائفة من السفن النرويجية جاءت بقيادة الملك سيجورد ملك النرويج، وعاثت في شواطىء اسبانيا الغربية، ثم عبرت مضيق جبل طارق، وسارت إلى الجزائر الشرقية، وهاجمت جزيرة فورمنتيرا الصغيرة المنيعة الواقعة جنوبي جزيرة يابسة، وكانت قد أودعت بها أموال وذخائر كثيرة للمسلمين، تقوم على حراستها حامية صغيرة، فاقتحم سيجورد الجزيرة، وأضرم فيها النار، واستولى على ما فيها من الأموال، ومات سائر المسلمين المدافعين عنها (1).
وكانت جمهورية بيزة الإيطالية أشد البلاد اهتماماً بالاستيلاء على الجزائر الشرقية، ووضع حد لغارتها المتكررة على الشواطىء الإيطالية، وكان البابا يشجع هذا المشروع ويباركه. وعقدت بيزة من أجل ذلك حلفاً مع أمير برشلونة رامون برنجير الثالث. وفي صيف سنة 1114 م (أوائل 508 هـ) خرج من مياه بيزة أسطول الغزو وقوامه نحو ثلاثمائة سفينة، ومعه وحدات بحرية أخرى من برشلونة ومن فرنسا، وعرج الأسطول أولا على مياه الجزائر، ونزلت بعض وحداته في إحدى الجزر الصغيرة. ولما علم بذلك مبشر، بعث رسله يعرض الصلح على الغزاة، ويعرض تسليم الأسرى، وأن يؤدي تعويضاً عن نفقات الحملة، فرفض الغزاة، وسارت سفنهم فرست في مياه قطلونية حتى اقترب الربيع، ثم سارت بعد ذلك صوب جزيرة يابسة، وكانت سفن الغزاة، قد غدت يومئذ نحو خمسمائة سفينة، ومع ذلك فقد عقد مبشر عزمه على المقاومة، فحصن ميورقة، وبذل جهده في إعداد وسائل الدفاع. واستولى الغزاة على يابسة بسهولة، ثم اتجهوا نحو ميورقة كبرى الجزائر، ونزلوا فيها، وضربوا الحصار حول مدينة ميورقة عاصمتها.
واستعد مبشر لحصار طويل الأمد، وبعث في الحال صريخه إلى أمير المسلمين
_______
(1) راجع: Dozy: Recherches; V.II p. 232-236 وكذلك A. Campaner y Fuentes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamica en las Islas Baleares (Palma 1888) p. 44-96(2/211)
علي بن تاشفين، يطلب إليه الغوث قبل أن تسقط الجزائر في أيدي النصارى.
وكان المرابطون قد استولوا عندئذ على شرقي الأندلس كله، وأحرزوا انتصارهم الحاسم على القشتاليين في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م) ثم استولوا في العام التالي على سرقسطة (502 هـ)، وقضوا على ملك بني هود، وأضحوا يهددون منها مملكة برشلونة النصرانية. وقدر أمير المسلمين أهمية ميورقة، وأمر بتجهيز الأساطيل لإنجادها، ورأى المرابطون أن يضغطوا في نفس الوقت على مملكة برشلونة التي كان أميرها برنجير الثالث يشترك بأسطوله في حصار ميورقة، فسارت قواتهم شمالا، وإخترقت أراضي قطلونية وعاثت فيها. ولكن الكونت برنجير، اضطر إزاء ضغط حلفائه، أن يبقى معهم حتى النهاية في مياه ميورقة.
واشتد الحصار على ميورقة، وطوقها النصارى بنطاق محكم من الآلات الضخمة وقطعوا عنها كل معونة ونجدة، وقاسى المسلمون أهوالا من الجوع والحرمان، ولكنهم صمموا أن يموتوا دفاعاً عن أرضهم، وتوفي خلال ذلك الأمير مبشر ابن سليمان، فخلفه في الحكم أبو الربيع سليمان، وصمم أن يمضي في المقاومة، وحاول أن يغادر الجزيرة مع بعض صحبه في مركب صغيرة، ليسعى إلى طلب النجدة، فأسره النصارى. واستطاع النصارى أن يقتحموا السور الأول في فبراير سنة 1116 م (أواخر سنة 508 هـ) ثم اقتحموا بقية الأسوار تباعاً. وفي أواخر مارس دخل النصارى مدينة ميورقة، واحتلو قصر المُدَينة قصر الحكم، وعاثوا فيها تخريباً ونهباً وسبياً، ثم أضرموا فيها النار، ولم يكن بها عندئذ سوى الشيوخ والنساء والأطفال بعد أن هلك معظم المدافعين عنها في الحصار، فقتل النصارى منهم جملة كبيرة، وكان الكونت برنجير صاحب برشلونة، قد اضطر قبيل سقوط المدينة، أن يعود إلى مملكته حين علم باشتداد ضغط المرابطين عليها، وحصارهم لبرشلونة عاصمتها.
وفي أثناء ذلك كان أمير المسلمين علي بن تاشفين، قد تلقى صريخ مبشر على يد بحار جرىء هو عبد الله بن ميمون، وكان قد استطاع أن يخترق الحصار بسفينته تحت جنح الظلام، وأن يعبر البحر إلى المغرب. وبادر أمير المسلمين فجهز أسطولا ضخماً من خمسمائة سفينة، وأقلعت السفن المرابطية بسرعة صوب الجزائر بقيادة أمير البحر ابن تفرتاش. وعلم البيزيون وحلفاؤهم بذلك، فأدركوا(2/212)
أنه لا محل لأن يخوضوا مع هذه القوات البحرية الضخمة، معركة غير مأمونة العواقب، فأقلعوا مثقلين بالسبي والغنائم، بعد أن استصفوا ثروات الجزيرة، وغادروها قاعاً صفصفاً. ودخل المرابطون على أثرهم ميورقة، وذلك في أواخر سنة 1116م (509 هـ)، وفي الحال شرعوا في تعميرها، وعاد إليها الفارون من سكانها، وكانت قد لجأت منهم إلى الجبال جموع غفيرة، وعين أمير المسلمين حاكماً على الجزائر يدعى وانور بن أبي بكر اللمتوني، ومن ذلك التاريخ تدخل الجزائر الشرقية أو ميورقة في حظيرة الإمبراطورية المرابطية الكبرى، وهي التي كانت قد اشتملت يومئذ على سائر ممالك الطوائف الأندلسية (1).
_______
(1) تراجع أخبار غزو النصارى لميورقة واستردادها على يد المرابطين، في ابن خلدون ج 4 ص 165، وروض القرطاس ص 105، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 188 وكذلك، A.Campaner y Fuentes: ibid ; p. 105-135 و P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p. 41(2/213)
الكتاب الرابع
دول الطوائف في منطقة بلنسية(2/215)
الفصْل الأوّل مملكة بلنسية
1 - عهد الصقالبة وبني عامر وبني ذى النون
الصقابة وشرقي الأندلس. العبدان مظفر ومبارك. تغلبهما على بلنسية. اشتراكهما وامتزاجهما. تغلب مبارك على شاطبة. أحوال بلنسية في عهدهما. وفود الصقالبة والموالي إليها. الحرب بين مبارك والمنذر التجيبي. وفاة مظفر. مصرع مبارك. بلاطهما ووزراؤهما. مديح الشعر لهما. لبيب العامري ومجاهد يخلفان مبارك. اختلافهما وفرار لبيب إلى طرطوشة. مبايعة الفتيان العامريين لعبد العزيز المنصور بالزعامة. توليه إمارة بلنسية. خيران العامري يقدم للزعامة محمد بن عبد الملك المنصور. توليه إمارة مرسية وأوريولة. تنكر خيران له ومغادرته لمرسية. عبد العزيز المنصور ووزراؤه. وفاة خيران وخلافة زهير له في ألمرية. مصرع زهير. مبايعة أهل ألمرية لعبد العزيز. اتساع مملكة بلنسية وموقف مجاهد العامري. عبد العزيز يعهد بشئون ألمرية إلى ابن صمادح. غدره واستيلاؤه على ألمرية. الحرب بين عبد العزيز والفتيان العامريين. عبد العزيز وعلائقه بالملوك النصارى. وفاة عبد العزيز وقيام ولده عبد الملك. وزيره ابن رويش. موقف المأمون بن ذى النون. مشروعه للاستيلاء على بلنسية. استيلاؤه عليها واعتقاله لصهره عبد الملك. مختلف الروايات في ذلك. مهاجمة القشتاليين لبلنسية. موقعة بطرنة. مقدم المأمون بحجة إنجاد صهره. دخوله بلنسية واستيلاؤه عليها. وفاة ابن رويش وقيام ولده أبي بكر بن عبد العزيز. استبداده بحكم بلنسية. استيلاء المؤتمن بن هود على دانية. توجس ابن عبد العزيز والتجاؤه لألفونسو السادس. محاولة المؤتمن الاستيلاء على بلنسية وفشله. التفاهم بين أبي بكر والمؤتمن. وفاة أبي بكر وقيام ولده عثمان مكانه. تطور الحوادث. سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس. وعده لصاحبها القادر باسترداد بلنسية. مسير القادر إلى بلنسية مع الجند النصارى. موقف أهل بلنسية. إعلان الجماعة خلع عثمان ومبايعة القادر. دخول القادر بلنسية واستيلاؤه عليها. استبداده واضطراب الأحوال في عهده. مقدم المرابطين إلى الأندلس. رحيل القشتاليين عن بلنسية. أطماع المنذر بن هود في بلنسية. مسيره إليها ومحاصرتها بمعونة الجند القطلان. موقف القادر واستغاثته بألفونسو السادس والمستعين بن هود. المستعين بن هود ومشروعه في الاستيلاء على بلنسية.
كانت دول الطوائف التي قامت في شرقي الأندلس، تمتاز بغلبة العنصر الصقلبي، وتفوقه في سيادتها، وفي تكييف أحداثها، وكانت هذه العناصر الصقلبية التي ألفت في شرقي الأندلس، ميداناً لنشاطها وأطماعها، هي نفس العناصر التي ظهرت بادىء ذي بدء في ميدان الفتنة القرطبية، وساهمت في أحداثها(2/216)
بقسط بارز، ثم غادرت قرطبة، حينما غلبت هنالك على أمرها، وألفت ملاذها في ذلك الركن النائي من الأندلس، بعيداً عن موجة الطغيان البربرية التي اجتاحت قرطبة، وجنوبي الأندلس.
وكانت بلنسية، وهي أعظم القواعد الشرقية، مركز التجاذب في معركة السلطان التي اضطرم لظاها في تلك المنطقة، وكانت هذه المعركة في البداية متواضعة محدودة المدى، ثم لم تلبث أن انسابت إلى شرقي الأندلس كله، من طرّكونة شمالا حتى مرسية ولورقة جنوباً، بيد أنها فيما عدا بعض اتصالات محدودة بأحداث المنطقة الغربية، حافظت على سيرها المستقل، وطابعها الخاص.
وذلك أنه لما اضطرت الفتنة، وانهارت الدولة العامرية في أوائل سنة 399 هـ (1009 م)، واستطاع محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدي أن ينتزع الخلافة لنفسه من هشام المؤيد، كان على بلنسية - وفقاً لبعض الروايات - فتى من الفتيان العامريين هو مجاهد العامري، فثار به عبدان من العبيد العامريين أيضاً هما مبارك ومظفر، واستطاعا أن ينتزعا منه السلطة، فغادر مجاهد بلنسية إلى دانية، وتربع العبدان - ويسميهما ابن الخطيب بالأميرين - مكانه في حكم المدينة. ويقدم إلينا ابن حيان رواية أخرى عن تغلب مبارك ومظفر على بلنسية، خلاصتها أنهما كانا يتوليان وكالة الساقية بالمدينة، أيام ولاية عبد الرحمن ابن يسار عليها، ثم ضرب الدهر ضرباته، وشاء القدر أن ينتزع الإمارة مبارك.
ويصف ابن حيان الحادث بأنه " من غرائب الليالي والأيام، اللاعبة بالأنام ".
ثم يقول لنا إن العبدين مبارك ومظفر توليا هما حكم بلنسية، وامتزجا في ذلك امتزاج الإخوة وعشاق الأحبة، ونزلا في قصر الإمارة مختلطين " تجمعهما في أكثر الأوقات مائدة واحدة، ولا يتميز أحدهما عن الآخر في عظيم ما يستعملانه من كسوة وحلية وفرش ومركوب وآلة، لا ينفردان إلا في الحرم خاصة، على أن جماعة حرمهما كن مختلطات في منازل القصر، ومستويات في سائر الأمر ".
وكان لمبارك مع ذلك التقدم في المخاطبة ورسوم الإمارة لصرامته وشدته، ولدماثة مظفر وانصياعه لزميله في سائر الأمور.
وذكر في بعض الروايات أن مظفراً ومباركاً كانا يقتسمان فيما بينهما حكم الولاية، فكان مظفر يختص بحكم بلنسية، ومبارك بحكم شاطبة (1). وذكر لنا
_______
(1) A.P.Ibars: Valencia Arabe, V. I. p. 152(2/217)
ابن الخطيب من جهة أخرى، أن شاطبة كان يتولى حكمها منذ انقراض الدولة العامرية، الفتى خيرة الصقلبي، وتوطد بها أمره، وكان مبارك يتوق إلى إزالته عنها، ففي ذات يوم زار خيرة بلنسية، واستضافه مبارك ودس له السم في الطعام فهلك بعد أيام قلائل، وتولى نائبه عبد العزيز بن أفلح حكم شاطبة مكانه تحت رعاية مبارك، وتركه مبارك على حاله إلى أن استولى عليها مجاهد العامري (1).
وعلى أي حال، فإنه يبدو، أن مظفراً ومباركاً كانا وفقاً لرواية ابن حيان المتقدمة، يحكمان معاً مدينة بلنسية بصفة فعلية.
وبلغت جباية بلنسية في عهدهما مائة وعشرين ألف دينار في الشهر، سبعون منها من بلنسية ذاتها، وخمسون من شاطبة التابعة لعمالتها، وكانا يشتدان في تحصيل هذه الأموال، حتى أرهقت الرعية وأثقل كاهلها.
على أن هذين العبدين لم يقصرا في تحصين بلنسية وصيانتها، فابتنيا سورها وزود بأبواب حصينة، فارتفع طمع الطامعين عنها، ووفد إليها الناس بأموالهم، واستقروا، وابتنوا المنازل والقصور الفخمة، والرياض الزاهرة، وكان مبارك ومظفر قدوة في ذلك فأنشآ القصور الفخمة، واقتنيا نفيس المتاع والرياش والآلات. وكان موكبهما إلى المسجد الجامع ببلنسية، يذكر الناس بفخامته وأناقته، وفاخر ما يرتديانه من اللباس، بمواكب مولاهما عبد الملك المظفر ابن المنصور نفسه.
ووفد على بلنسية في ظل مبارك ومظفر، كثير من الموالي والصقالبة من الإفرنج والبشكنس وغيرهم، من طائفتهم وعشيرتهم، وكثير من العبيد الآبقين من مختلف نواحي الأندلس، وكان من هؤلاء الصقالبة، الوافدين المشردين، كثير من الفرسان الشجعان، وانتسب معظمهم إلى ولاء بني عامر، واكتسبوا بذلك نفوذاً، ووفد على المدينة أيضاً كثير من أرباب المهن والحرف، وكان لذلك كله أثره في تقدم العمران والرخاء بالمدينة (2).
وكان من أهم أعمال مبارك العسكرية محاربته لمنذر بن يحيى التجيبي صاحب
_______
(1) أعمال الأعلام ص 226.
(2) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - اللوحة 3 أوب و 4 أ. وراجع أيضاً البيان المغرب ج 3 ص 158 - 161.(2/218)
سرقسطة. وذلك أن الفتى لبيباً العامري كان يحكم طرطوشة من أعمال الثغر الأعلى، فثابت لمنذر رغبة في الاستيلاء عليها، وهاجمها، ففر عنها لبيب وسار إلى بلنسية واستغاث بمبارك، فخرج معه في خمسمائة من خيرة فرسانه، ولقيهم منذر فغلبوا عليه وهزموه هزيمة شنيعة. وعاد مبارك إلى بلنسية ظافراً، واستفحل أمره، ودانت له جماعة الموالي (1).
واستمر مبارك ومظفر في حكم بلنسية بضعة أعوام، ثم توفي مظفر، واستمر مبارك من بعده، فترة يسيرة. وفي ذات يوم خرج للنزهة فحدث حين عبوره فوق قنطرة النهر، أن عثرت به فرسه، فسقط منها، واصطدم ببعض أخشاب خرجت من القنطرة فشج وجهه وبطنه ومات لساعته، وكان مصرعه في شهر ذي الحجة سنة 408 هـ (1017م) (2).
ومن الغريب أن مباركاً ومظفراً بالرغم من جهلهما، وبعدهما عن ميدان التفكير والأدب، كانا يستخدمان في بلاطهما طائفة من كتاب العصر النابهين مثل ابن التاكرني، وابن مهلب، وابن طالوت، وكانا يرتبان هؤلاء الكتاب في دولتهم على نسق مشيخة الوزراء في قرطبة، ويرجعان إلى رأيهم ومشورتهم في معظم الأمور، وكانا يعملان في حكم بلنسية مستقلين تمام الاستقلال، لا يعترفان في ذلك برياسة قرطبة أو غيرها.
ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن مباركاً ومظفراً كان لهما نصيب من مديح الشعر المعاصر، وقد مدحهما شاعر العصر، أبو عمر بن درّاج القسطلي بقصيدة رائعة هذا مطلعها:
أنورك أم أوقدت بالليل ناركِ ... لِباغ قراك أم لباغ جوارك
ْورياك أم عرف المجامر أشعلت ... بعود الكباء والألوَّة ناركِ
ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق ... حداه دعائي أن يجود دياركِ
وطرة صبح أم جبينك سافراً ... أعرت الصباح نوره أم أعاركِ (3)
_______
(1) أعمال الأعلام ص 226.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 302. ويقول لنا ابن الخطيب إن مظفراً توفي بعد مبارك وإنه على أثر مصرع مبارك، ثار العامة ونهبوا القصر وقتلوا مظفراً (أعمال الأعلام ص 225).
(3) نقل ابن الخطيب في أعمال الأعلام أقوال ابن حيان التي نقلها صاحب البيان المغرب، ورجعنا إليها، وقد نشر جزءاً كبيراً من قصيدة ابن دراج القسطلي (راجع ص 222 - 225).
وردت القصيدة كلها بديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (دمشق 1961) ص 101 - 108، وهي من غرر قصائده.(2/219)
ولما توفي مبارك، خلفه في حكم بلنسية الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري، وكانت الخطبة تصدر باسميهما معاً، ثم وقع الخلاف بينهما، ففر لبيب إلى طرطوشة واستأنف رياسته بها، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية مع حكمه لدانية في نفس الوقت. بيد أنه لم يمض سوى قليل، حتى خرج عليه الفتيان العامريون، وعقدوا البيعة لسيدهم وحفيد مولاهم، عبد العزيز ابن عبد الرحمن المنصور، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م).
وقد سبق أن أشرنا إلى تعلق الفتيان الصقالبة بتراث الدولة العامرية، وولائهم لإمامة هشام المؤيد بالله، وإلى الدور الذي قام به زعماؤهم مثل واضح وخيران، في تطورات الخلافة القرطبية، وقد كانت بيعتهم لعبد العزيز المنصور أثراً من آثار هذا الولاء الراسخ لبني عامر. وكان عبد العزيز وقت مبايعته، فتى حدثاً في نحو الخامسة عشرة من عمره، إذ كان مولده سنة 397 هـ (1)، وكان حينما نزلت النكبة بأسرته قد حمل سراً إلى سرقسطة، وهنالك عاش في كنف صاحبها منذر بن يحيى التجيبي، فلما استدعاه الفتيان العامريون لبيعته لحق بشاطبة، وهنالك تمت بيعته أميراً لبلنسية، وزعيماً لبني عامر.
على أن هذه البيعة لم تلبث طويلا دون منازع. ذلك أن خيران العامري، وكبير الفتيان العامريين، وصاحب ألمرية ومرسية وأوريولة، لم يكن على وفاق مع عبد العزيز. والظاهر أنه خشي على سلطانه في مرسية، وأوريولة، من هذه الزعامة الجديدة، أو أنه لم يحصل على ما كان يرجوه في ظلها من نفوذ. ومن ثم ْفإنه قدم للزعامة في شرقي الأندلس، مرشحاً جديداً من بني عامر، هو محمد ابن عبد الملك المظفر بن المنصور، وهو ابن عم عبد العزيز، وكان يومئذ فتى في نحو العشرين من عمره، وكان قد فر من قرطبة في عهد القاسم بن حمود، ومعه أموال جليلة كانت لأمه، ولجأ إلى حماية خيران، فلما وقع الخلاف بين خيران وعبد العزيز، نادى خيران بزعامة محمد، ونزل له عن حكم مرسية وأوريولة، ولقبه بالمؤتمن ثم بالمعتصم. بيد أنه لم يمض طويل على ذلك حتى اضطربت الأمور في تلك المنطقة، فثارت شاطبة ضد عبد العزيز، واضطر أن يغادرها إلى بلنسية، وتنكر خيران في الوقت نفسه لمرشحه الجديد محمد المعتصم، وغادره
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 301.(2/220)
مغضباً إلى ألمرية، ثم عاد في قواته إلى مرسية، وضيق على المعتصم حتى اضطره إلى الخروج عنها، وذلك في ربيع الأول سنة 413 هـ (1022 م)، واستولى الفتيان على سائر أمواله، ولجأ المعتصم إلى أوريولة فطارده خيران، وألح عليه، ففر منها، ولحق بدانية، والتجأ حيناً إلى أميرها مجاهد العامري، ثم غادرها، وسار إلى غربي الأندلس، وهناك عاش بضعة أعوام أخرى حتى توفي في سنة 421 هـ (1030 م) (1).
- 1 -
واستقر عبد العزيز المنصور في حكم بلنسية دون منازع. وكانت له في بداية حكمه علائق مودة متبادلة مع القاسم بن حمود الخليفة بقرطبة، كذلك انضوى تحت لوائه مجاهد العامري حيناً، ثم اختلفا وناصبه العداء، وأخذ مجاهد يتربص الفرص لمهاجمته والإيقاع به. وعمل عبد العزيز على جمع المشردين من أهل بيته، فآواهم، وأولاهم صادق المحبة، وأغدق عليهم الأرزاق الوفيرة، حتى غدا في ذلك أجمل قدوة لأمراء عصره، واستخدم في ديوانه أربعة من أشهر كتاب عصره، كانوا يعرفون بالطبائع الأربع، وهم ابن طالوت، وابن عباس، وابن عبد العزيز، وابن التاكرني كاتب رسائله. ولما أعلن القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية في سنة 426 هـ (1035 م) ظهور هشام المؤيد ودعا لخلافته، كان عبد العزيز المنصور في مقدمة الأمراء الذين بايعوه، واعترفوا بخلافته (2).
وكانت تطورات الحوادث في مملكة ألمرية، أهم ميدان لجهود عبد العزيز السياسية والعسكرية. ونحن نعرف أن مملكة ألمرية، كانت وقت أن ظفر عبد العزيز برياسة بلنسية، تحت حكم الفتى خيران العامري، وهو في نفس الوقت صاحب مرسية وأوريولة، فلما توفي خيران في سنة 419 هـ، خلفه في رياسة مملكة ألمرية، نائبه وزميله الفتى زهير العامري، وقد كان مثل خيران من أكابر الفتيان العامريين، وأكثرهم إقداماً وعزماً. ونحن نعرف كيف
_______
(1) راجع في هذه الحوادث: ابن خلدون ج 4 ص 162، وأعمال الأعلام ص 193 و194. وكذلك: Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p. 97 & 98
(2) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 49 ب، وأعمال الأعلام ص 195، والبيان المغرب ج 3 ص 164 و 165.(2/221)
حدثت زهير نفسه بالسير إلى غرناطة لافتتاحها، وكيف لقى مصرعه في المعركة التي نشبت بينه وبين باديس بن حبوس صاحب غرناطة، وذلك في سنة 429 هـ (1038 م). وهنا لاحت لعبد العزيز المنصور، الفرصة السانحة لتوسيع مملكته, وكتب إليه أهل ألمرية يدعونه لرياستهم، وبعث وزيره وصهره زوج أخته معن بن صمادح إلى باديس يحثه على إعدام الأسرى من وزراء زهير وقواده وفي مقدمتهم كاتبه أحمد بن عباس، خشية أن يعود أحد منهم إلى مناوأته في حكم ألمرية، فكان له ما أراد، وخلصت له ألمرية أولا لمبايعة أهلها له، وثانياً لأنها باعتبارها من أملاك الفتيان العامريين موالي أبيه وجده، تعتبر له ميراثاً شرعياً.
وهكذا استولى عبد العزيز على ألمرية وأعمالها، ما عدا ولاية جيان التي انتزعها باديس لنفسه عقب مصرع زهير.
وغدت مملكة بلنسية بإضافة ألمرية إليها من أعظم ممالك الطوائف. وهنا شعر مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، بخطر هذه المملكة القوية الجديدة على سلطانه، فنهض لمهاجمتها ومحاربتها، وزحف عليها بقواته، واجتاح رقعتها الوسطى من شاطبة إلى لورقة، وثارت حصون شاطبة ولورقة وشوذر على عبد العزيز. وكان عبد العزيز عندئذ في ألمرية ينظم شئونها مع وزيره معن ابن صمادح، فبادر بمغادرة ألمرية للدفاع عن أرضه، وندب وزيره معناً ليسهر على شئون ألمرية، فكان أن خان ابن صمادح عهد أميره، وانتزع لنفسه رياسة ألمرية حسبما فصلناه في أخباره.
وخرج عبد العزيز من ألمرية في سنة 433 هـ (1041 م) لملاقاة خصومه، وزحف تواً على شاطبة، فخرج إليه العبيد العامريون، وهزموه في أول موقعة نشبت بينهما، ولكنه جمع فلوله وعاد فكرّ عليهم، وظفر بهم، وقتل منهم جملة كبيرة ودخل شاطبة (1). وكانت مدينة مرسية تابعة حسبما تقدم لمملكة بلنسية، وكان عليها من قبل زهير، نائبه أبو بكر أحمد بن إسحاق بن طاهر، وكان حسبما تقدم رجلا وافر العلم والوجاهة والسراوة، فضبط المدينة وحكمها بحزم وبراعة، دون أن يتخذ ألقاباً أو يبدو في ثوب الإمارة، فأقره عبد العزيز على ولايته.
وكان عبد العزيز على علائق طيبة مع ملوك اسبانيا النصرانية، ولاسيما
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 302، وراجع دوزي: Hist. V.III.p. 30(2/222)
فرناندو الأول ملك قشتالة، وقد استعان عبد العزيز في محاربة خصمه مجاهد العامري ببعض سريات من المرتزقة النصارى. ولم تصب أراضي بلنسية في عهده بشىء من الغزوات المخربة، التي كانت تجتاح ولايات الأندلس الغربية والوسطى. وربما كان ذلك راجعاً من بعض النواحي إلى أرومته وقرابته عن طريق جدته، إلى الملوك النصارى (1).
واستطالت إمارة عبد العزيز المنصور لبلنسية زهاء أربعين عاماً. ثم توفي في شهر ذي الحجة سنة 452 هـ (يناير 1061 م).
فخلفه ولده عبد الملك بإجماع أهل الدولة، وبويع في بلنسية وشاطبة، واستقر في بلنسية، ولقب بنظام الدولة، وبالمظفر. وكان حدثاً يافعاً، فتولى تدبير الدولة، وزير أبيه أبو عبد الله محمد بن مروان بن عبد العزيز القرطبي المشهور بابن رويش، وكان رجلا وافر العلم والحنكة، فأحسن تدبير الأمور، واستقر على يديه النظام والأمن، بالرغم مما كانت تعانيه بلنسية من نقص في المواد والرجال، وفساد في الأعمال. وكان يولى المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة القوي مكانة خاصة، إذ كان صهر عبد الملك وحماه، وكان يبدي نحوه عطفاً واهتماماً بمعاونته والدفاع عنه، وكان عقب وفاة عبد العزيز، قد سار في بعض قواته إلى قلعة قونقة القريبة من بلنسية، ليكون قريباً من صهره، ثم أوفد إلى بلنسية أحد قواده في جماعة قوية من الجند، وكاتبه ابن مثنى، ليكونوا إلى جانب عبد الملك، بحجة معاونته وشد أزره، والمحافظة على السكينة والنظام (2).
بيد أن المأمون كان يضمر نحو صهره ونحو بلنسية نيات أخرى، وكان يُسر له بالأخص أنه يسىء معاملة ابنته، ويبالغ في إهانتها وإيلامها، وكان عبد الملك حسبما يخبرنا ابن حيان " منهمكاً في الشراب، غارباً عن الخصال المحمودة مع رقة الديانة ونقص المروءة، وكثرة الاستمهال، والانحطاط في مهاوي اللذات " (3)
ثم كان يُسر له أيضاً أنه يأوي في بلنسية بعض خصومه من السياسيين الفارين من طليطلة، وأخيراً فقد طلب المأمون إلى صهره أن يعاونه بجنده في حملته ضد ابن عباد، فأبى عليه ذلك وفقاً لنصح وزيره، واعتذر بأنه يخشى عدوان أمير
_______
(1) أعمال الأعلام ص 195.
(2) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 49 ب، والبيان المغرب ج 3 ص 165 و 166.
(3) البيان المغرب ج 3 ص 303.(2/223)
دانية ومن يحالفه من الفتيان أصحاب المدن القريبة. كل ذلك حمل المأمون على أن يضع مشروعه للاستيلاء على بلنسية.
وقد سبق أن ذكرنا في أخبار مملكة طليطلة، خلاصة الروايتين المتعلقتين باستيلاء المأمون على بلنسية، وأولاهما أن المأمون سار إلى بلنسية في بعض قواته بحجة زيارة صهره، وأنه خلال إقامته بالقصر، دبر كميناً لصهره، وقبض عليه، وأرسله إلى شنتبرية، وسيطر بذلك على بلنسية. والثانية أنه زحف على بلنسية بمعاونة الجند القشتاليين، ودهم المدينة وهي في غفلة، فاقتحمها، وأسر صهره عبد الملك وآله، وهم بقتله لولا أن شفعت فيه زوجته ابنة المأمون. فبعث به إلى إحدى قلاعه في قونقة، أو إقليش، واعتقله هناك (1).
ونود أن نعرض الوقائع مفصلة وعلى ضوء الروايات القشتالية التي تقدمها إلينا بصورة أخرى.
ذلك أن فرناندو الأول ملك قشتالة خرج بقواته في أوائل سنة 1065 م، (457 هـ) متجهة صوب أراضي مملكة سرقسطة لمعاقبة أميرها المقتدر بن هود، لتخلفه عن دفع الجزية التي كان متعهداً بأدائها، ولأنه من جهة أخرى قد وقع الاعتداء على النصارى في سرقسطة وغيرها من بلاد مملكته، وقتلت منهم جموع غفيرة، وعاث فرناندو في أراضي مملكة سرقسطة الجنوبية، وخربها بشدة وأحرق المزارع والقرى، واجتاح على هذا النحو سائر الرقاع والوديان الواقعة خارج الحصون والقلاع المسورة، وأشرف في غزوته المخربة على ظاهر بلنسية في الربيع، وضرب القشتاليون الحصار حول المدينة، وروع البلنسيون، وروع ملكهم الضعيف عبد الملك داخل الأسوار، وتأهبوا للدفاع عن مدينتهم.
ولما رأى القشتاليون مناعة الأسوار، وأهبة أهل المدينة لجأوا إلى الحيلة، فتركوا الحصار، وتظاهروا بالارتداد نحو الشمال إلى بلدة تسمى "بطرنة"، واعتقد أهل بلنسية أن القشتاليين قد ارتدوا عن مدينتهم خائبين، فخرجوا وعلى رأسهم أميرهم عبد الملك، لمطاردة الفارين في ثياب فخمة وكأنهم في عيد، وعندئذ فاجأهم القشتاليون وهاجموهم بشدة، وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، فارتدوا إلى مدينتهم والقتل يعمل فيهم، واستطاع عبد الملك أن ينجو بحياته، وعاد القشتاليون إلى محاصرة المدينة.
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 226 و 267 و 303.(2/224)
وفي تلك الأثناء كان المأمون بن ذى النون قد هرع بقواته لإنجاد صهره والدفاع عن المدينة المحصورة، وذلك بالرغم من أنه كان مقراً بسيادة فرناندو، ويؤدي له الجزية، وكان فرناندو قد شعر وهو تحت أسوار المدينة بالمرض يدهمه، فآثر الارتداد بقواته إلى ليون. وهناك توفي بعد قليل في ديسمبر سنة 1065 م.
وهنا رأى المأمون بن ذى النون أن يحقق مشروعه القديم في الاستيلاء على بلنسية. وكان يدفعه إلى ذلك أسباب عديدة سبق أن أشرنا إليها، فدخلها فاتحاً لا منقذاً، وعزل صهره عبد الملك، ثم قبض عليه وعلى ولده، ونفاهما إلى قلعة إقليش أو قونقة. وفي رواية أنه أشفق عليه، وعينه والياً لقصبة شلبة الواقعة شمال غرب بلنسية، وضمت بلنسية وأعمالها بذلك إلى مملكة طليطلة، وكان ذلك في ْشهر ذي الحجة سنة 457 هـ (نوفمبر سنة 1065 م) (1).
وعهد المأمون بتدبير شئون بلنسية إلى أبي بكر محمد بن عبد العزيز (ابن رويش) وكان ابن عبد العزيز قد توفي قبل هذه الحوادث بقليل في أوائل سنة 456 هـ.
ويقول لنا عنه معاصره المؤرخ ابن حيان " إنه كان على خمول أهله في الجماعة من أرجح كبار الكتاب الطالعين في رمس هذه الفتنة المدلهمة، وذوي السداد من وزراء ملوكنا، ذا حنكة ومعرفة وارتياض وتجربة وهدى وقوام سيرة، إلى ثرى وصيانة ". وفي بعض الروايات أن هذا الوزير النابه توفي منتحراً لما توقعه من سوء العواقب. فخلفه في الوزارة ولده أبو بكر بن عبد العزيز، ولم يمكث في منصبه طويلا حتى سقطت بلنسية في يد المأمون، ويقال إنه غدر بأميره عبد الملك، وعاون المأمون في أخذها، فكافأه المأمون عن خيانته بأن عينه نائباً عنه في حكم ْالمدينة. وكان أبو بكر مثل أبيه عالماً حازماً. فضبط بلنسية، وسار في حكمها سيرة حسنة، واتبع الرفق والعدل، وأجزل العطاء للعمال والجند. وشغل عنه المأمون بمغامراته في سبيل فتح قرطبة، وانتزاعها من يد بني عباد المتغلبين عليها.
واستمر في محاولاته حتى انتهى أخيراً إلى تحقيق مشروعه في الاستيلاء على عاصمة
_______
(1) راجع في تفصيل هذه الحوادث Modesto Lafuente: Historia general de
Espana (Madrid, 1861) V.II.p. 390
و A.P.Ibars: Valencia Arabe, V.I.p. 178-180
و R.M.Pidal: La Espana del Cid V.I.p. 151
وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p. 41(2/225)
الخلافة القديمة، ودخلها ظافراً وذلك في سنة 467 هـ (1075 م). بيد أنه لم يلبث أن مرض وتوفي بعد ذلك بأشهر قلائل في أواخر ذي القعدة من نفس هذا العام. وانتهز أبو بكر بن عبد العزيز هذه الفرصة، فأعلن استقلاله بحكم بلنسية، وأصلح أسوارها، ودانت له المدينة بالطاعة، واستمر في حكمها دون منازع.
ولما غزا المقتدر بن هود صاحب سرقسطة والثغر الأعلى مدينة دانية، واستولى عليها من صاحبها على إقبال الدولة بن مجاهد العامري في سنة 468 هـ (1076 م)، توجس أبو بكر من سطوته وطمعه في بلنسية، فخاطب ألفونسو السادس وانضوى تحت حمايته، وتعهد له بأداء الجزية. وكان المؤتمن ولد المقتدر يتطلع بالفعل إلى امتلاك بلنسية، يدفعه إلى ذلك صحبه ومستشاروه، وذلك لأهمية موقعها ووفور غلاتها، فخاطب بدوره ملك قشتالة، ودفع إليه مائة ألف دينار ليعاونه على فتحها، وزحف فرناندو بالفعل على بلنسية، فخرج إليه أبو بكر بنفسه، وخاطبه برقة ولباقة، وأقنعه بعقم محاولته، فانصرف عنه، ووعده بحمايته وفشلت محاولة المؤتمن. وكان ملك قشتالة يقدر أبا بكر ويعجب بخلاله، وكان يقول في مختلف المناسبات، رجال الأندلس ثلاثة: أبو بكر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عمار، وششنانده (1).
وعندئذ رأى أبو بكر أن يلتمس حماية المؤتمن نفسه، ففاوضه، وقدم إليه ابنته عروساً لابنه أحمد المستعين. فوافقه المؤتمن، ورأى من جانبه أن هذه المصاهرة قد تكون سبيلا لضم المملكتين سرقسطة وبلنسية في مملكة قوية موحدة. واحتفل بعقد هذا الزواج بسرقسطة في حفلات شائقة كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء (رمضان 477 هـ - فبراير 1085 م). ولم يعش أبو بكر طويلا بعد ذلك، إذ توفي في السابع من صفر سنة 478 هـ (يونيه 1085 م) بعد أن حكم عشرة أعوام (2).
_______
(1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 9 أوب.
(2) راجع البيان المغرب ج 3 ص 303 و 304. وقد وهم ابن عذارى في حقيقة شخصية أبى بكر بن عبد العزيز، فذكر أنه أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن المنصور بن أبي عامر، ونسبه بذلك إلى بني عامر، وهو خطأ واضح. وراجع في هذه الحوادث: R.M.Pidal ; ibid ; V.I.p. 310 وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas p.57 و A.P.Ibars: Valencia Arabe; p. 187 & 188(2/226)
- 3 -
فخلفه في حكم بلنسية وأعمالها ولده أبو عمرو عثمان بن أبي بكر. وبويع في التاسع من صفر، لأيام قلائل فقط من سقوط مدينة طليطلة، في يد القشتاليين في فاتحة صفر 478 هـ. وكان هذا الحادث الجلل الذي هز الأندلس من أقصاها إلى أقصاها نذير تطورات خطيرة في شرقي الأندلس، وفي مصاير مملكة بلنسية بوجه خاص.
وقد كان ألفونسو السادس، حينما استولى على طليطلة من يد صاحبها القادر بن ذى النون، حفيد المأمون، قد تعهد له أو وعده، ضمن عهوده لقاء الاستيلاء على المدينة، أن يمكنه من استرداد بلنسية التي خرجت عن طاعته، بل قيل إنه وعده بمعاونته، على افتتاح دانية وشنتمرية الشرق، إذ كان يعلم أنه بتمكين القادر من الاستيلاء على هذه المدن، فإنها تغدو في الواقع تحت حمايته، ويغدو شرقي الأندلس كله، واقعاً تحت سيادته، عن طريق القادر. وخرج القادر في آله. وصحبه ومتاعه قاصداً إلى بلنسية، وصدته خلال الطريق سائر القلاع القديمة، التي كانت تحت حكمه وأغلقت أبوابها دونه، ما عدا قلعة قونقة (كونكة)، فقد لبثت على طاعته، ورحب به صاحبها ابن الفرج، وأكرم منزله. ورأى القادر أولا أن يسير غور الأحوال في بلنسية، فبعث إليها ابن الفرج ليداخل صاحبها عثمان ابن عبد العزيز، وحاول ابن الفرج أن يروج لقضية سيده، وهو حاكم المدينة الشرعي، فكثر الجدل وافترق الرأي، ورأى فريق من الشعب أن تنضوي بلنسية تحت حماية المستعين بن هود، وانحاز فريق آخر إلى القادر، وسرت الفوضى إلى المدينة. وفي خلال ذلك عاد ابن الفرج إلى قونقة، ودعا القادر إلى السير إلى بلنسية، لانتهاز الفرصة السانحة، فسار القادر إلى المدينة ومعه سرية قوية من الجند النصارى مده بها ألفونسو السادس، تحت إمرة قائده ألبار هانيس الذي تسميه الرواية الإسلامية ألبرهانس. ولما وصل القادر في ركبه إلى المدينة، بعث إلى أهلها رسوله برسالة، يتودد فيها إليهم، ويقدم إليهم أطيب الوعود، فاجتمع أهل المدينة، وتشاوروا في الأمر. ورأى " الجماعة " قبول مطالب القادر، باعتباره صاحب الولاية الشرعية من قبل، واستبعاد مطالب ابن هود، وإن كان ابن هود لم ينقطع عن المجاهرة بها، والترويج لها، وخشية من أن تتعرض المدينة لهجوم القشتاليين، أعلنت " الجماعة " خلع عثمان بن(2/227)
عبد العزيز، وكان قد قضى في منصبه تسعة أشهر فقط، وبعثت إلى القادر توافق على مقدمه وتسلمه المدينة. فسار القادر في موكبه إلى بلنسية، ودخلها في مظاهر حافلة، وتسلم القصر من القاضي ابن لبون، ونزل فرسانه في بيوت المدينة، ونزل ألبارهانيس وجنده القشتاليون في ضاحية الرُّصافة على مقربة منها، وكان ذلك في شوال سنة 478 هـ (فبراير 1086 م) (1).
وهكذا استولى يحيى القادر على بلنسية، وقامت دولة بني النون، مرة أخرى في شرقي الأندلس، بعد أن درست في طليطلة، وقامت على يد ملكها الشريد الخانع - القادر - في مثل الظروف التي كانت عليها في أواخر أيامها بطليطلة، دولة ضعيفة تابعة، تدين بوجودها لملك قشتالة، ولحراب الجند النصارى. وما لبث القادر أن أبدى صولة الضعيف إذا تحكم، ففرض على المدينة حكم طغيان شامل، وتولى القاضي ابن لبون حجابته، وغدا يده اليمنى، وتقرب إليه الأعيان والقضاة بالأموال والهدايا. وثقلت وطأة القشتاليين على المدينة في نفس الوقت، وأرهقوها بمؤنهم ومغارمهم، وفرضت لذلك ضريبة خاصة على سائر الناس، وعاث النصارى في المدينة وضواحيها، فاشتد السخط على القادر، وعلى شيعته القشتاليين، واضطرب حبل النظام والأمن. ومع ذلك فقد مضى القادر في عسفه وطغيانه، فمال على الأعيان والأكابر، يطاردهم بطلب المال سداداً لمطالب القشتاليين، وقبض على بعضهم من أجل ذلك، واعتقل ولدى ابن عبد العزيز وغيرهم، وحشد حوله كثيراً من أوباش الجند المرتزقة يعيثون في المدينة، ويعتدون على الأموال والأنفس، وغدت السيادة الحقيقية على المدينة لألبارهانيس وجنده، وغادر كثير من الأعيان والأكابر، بلنسية فراراً من هذا الطغيان المرهق (2).
وفي خلال ذلك كانت تجري في جنوب الجزيرة حوادث هامة، فقد عبر المرابطون بقيادة عاهلهم يوسف بن تاشفين إلى الأندلس في ربيع الآخر سنة 479 هـ ْ (أغسطس 1086 م) غياثاً لأمرائها، وللإسلام، وأخذ ملك قشتالة يجمع الجند من كل ناحية، لرد هذا السيل المنهمر، وغادر ألبارهانيس وجنده بلنسية
_______
(1) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 18 ب. وراجع R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 306 & 310-312. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p. 57
(2) R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 313-316(2/228)
ليخوضوا المعركة إلى جانبه، وكان أن كتب النصر الباهر لجيوش الإسلام على جيوش النصرانية في موقعة الزلاّقة وذلك في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر 1086 م).
وتنفس أهل بلنسية الصعداء لرحيل القشتاليين، وانتعشت نفوسهم لانتصار المسلمين، وتحطيم قوى ملك قشتالة، وبادر القادر من جانبه، فبعث إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، يلتمس صداقته ومحالفته، أسوة بباقي أمراء الأندلس. بيد أن هذه المحالفة النظرية، لم تفده بشىء لأن أمير المسلمين، كان ما يزال في شغل شاغل عن الالتفات إلى شئون شرقي الأندلس.
وسرى الاضطراب إلى بلنسية، وبدأ حكام الحصون المختلفة، في التحرك والعصيان، وشعر القادر أنه عاجز عن أن يملك زمام الموقف، وأن الأمور سوف تنتهي به إلى أسوأ العواقب، إذا تركت بلنسية إلى مصيرها، وقد كانت بلنسية في الواقع في هذه الحالة التي افتقدت فيها كل زعامة قوية، وكل إدارة حازمة، تضطرم حولها الأطماع من كل صوب.
ذلك أن المنذر بن هود صاحب لاردة وطرطوشة، كان يرقب فرص الاستيلاء على بلنسية، وخصوصاً منذ استطاع أبوه أن يتغلب على مملكة دانية، وأن يضمها إلى أراضيه وذلك في سنة 469 هـ (1076 م)، وبذلك امتدت مملكته من لاردة شمالا حتى دانية وأعمالها جنوباً، وكانت بلنسية بذلك تشطر مملكته إلى شطرين، وتحول دون وحدة أراضيها. فلما رأى المنذر اضطراب الأحوال في بلنسية، شعر أن الفرصة المنشودة قد سنحت، فسار في قواته صوب بلنسية، ومعه سرية من المرتزقة القطلان، وضرب الحصار حول المدينة (1088 م)، وكان يؤازره في داخلها كثير من الأنصار، كانوا يؤيدون قضيته، ويودون أن تسلم إليه.
وهنا استولى الاضطراب والذعر على القادر، وفكر بالفعل في تسليم المدينة، لولا أن نصحه ابن طاهر صاحب مرسية السابق، وكان قد لجأ إلى بلنسية مذ غلب عليه ابن عمار وزير المعتمد، بالتريث وشجعه على الصمود والدفاع.
وبعث القادر في نفس الوقت إلى ألفونسو ملك قشتالة يستغيث به، وبعث بنفس الصريخ إلى المستعين بن هود صاحب سرقسطة، وخصيم المنذر، وكان المستعين يتوق إلى افتتاح بلنسية، ويشعر دائماً بالأسف والألم لفشل محاولة(2/229)
أبيه المؤتمن في هذا السبيل، وضياع الأموال الطائلة التي دفعها من أجل ذلك لملك قشتالة، وكان له بسبب مصاهرته لأبى بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية السابق، داخل المدينة حزب يناصره، ويود أن تنضم بلنسية إلى مملكة سرقسطة، فلما تلقى صريخ القادر، بادر بالإستجابة، وهرع إلى بلنسية في بعض قواته، فتظاهر بالسير إلى إنجادها، وهو يبطن نية الاستيلاء عليها (1).
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 351(2/230)
الفصل الثانِي
مملكة بلنسية
2 - السيد إلكمبيادور وعهد السيادة القشتالية
السيد إلكمبيادور. أصله ونشأته. بدء حياته الحربية. رسول ألفونسو السادس إلى ابن عباد. تغير ألفونسو عليه وإبعاده عن قشتالة. ملوك الطوائف واستعانتهم بالجند النصارى. مسير السيد إلى شمال شرقي الأندلس. التحاقه بخدمة المقتدر بن هود. وفاة المقتدر. الحرب الأهلية بين ولديه المؤتمن والمنذر. انضمام السيد إلى المؤتمن ونفوذه لديه. وفاة المؤتمن وقيام ولده المستعين. التحاق السيد بخدمته. حملة ابن بسام على بني هود. مسير المستعين والسيد إلى بلنسية. يعقدان ميثاقاً بشأنها. مقدمهما في قواتهما إلى بلنسية. انسحاب المنذر بن هود عنها. موقف القادر بن ذى النون ومساعيه السرية. المستعين يكشف للسيد عن حقيقة مشروعه. موقف السيد ومطله. السيد يبدو على حقيقته. مخادعاته ومفاوضاته السرية. مسيره إلى قشتالة وتفاهمه مع ألفونسو. وقوف المستعين على غدر السيد ومقاطعته. تحالفه مع الكونت برنجير. عود السيد ونزوله بأراضي السهلة. يخضع ابن رزين لأداء الجزية. السيد يغدو قائد عصابة ناهبة. السيد والكونت برنجير. مسير السيد إلى بلنسية. إخضاعه لمربيطر ونزوله في الكدية. القادر يضع نفسه تحت حمايته ويمده بالأموال الوفيرة. قصة أموال القادر. خروج السيد إلى ألبونت وإرغامه صاحبها على أداء الجزية. فرضه الجزية على سائر النواحي المجاورة. صدى أعمال السيد في قشتالة. تغير ألفونسو عليه. تطور الأمور في الثغر الأعلى. توجس المستعين ابن هود من المرابطين. عوده إلى الاستعانة بالسيد. مقدم السيد إلى سرقسطة وتحالفه مع الملوك المجاورين. تعليق ابن بسام. مشروع ألفونسو السادس لغزو بلنسية وتحطيم نفوذ السيد. تحالفه مع جنوه وبيزه. مسيره إلى بلنسية. رسالة السيد إلى ألفونسو. حرج موقف ألفونسو وتركه لحصار بلنسية. عيث السيد في أراضي قشتالة. عود ألفونسو إلى مصانعته والعفو عنه. الاضطراب في بلنسية. القاضي ابن جحاف يتزعم الثورة ضد القادر والسيد. مفاوضة المرابطين. دخول قوة مرابطية بلنسية. ابن جحاف يقتحم القصر بجموعه. مقتل القادر واستيلاء ابن جحاف على ذخائره. اختيار ابن جحاف لحكم المدينة. استعداده للطوارىء. مسير السيد إلى بلنسية ومحاصرتها. المفاوضة بين ابن جحاف والسيد. شروط الإتفاق بينهما. نكث السيد وغدره. مطالبه المرهقة لابن جحاف والخلاف بينهما. ابن جحاف يغلق المدينة. استغاثته بالمرابطين وغيرهم. اشتداد السيد في محاصرة المدينة وعيثه في أحوازها. عصف الحصار بأهل بلنسية. المفاوضة بين أهل بلنسية والسيد. شروط الهدنة والتسليم. انتهاء الهدنة وتوقيع عهد التسليم. دخول السيد بلنسية. وعوده الخلابة. تسلمه أموال القادر من ابن جحاف. مطالبته له بباقيها واستحلافه عليها. حلف ابن جحاف بالنفي. اكتشاف السيد لمخبأ الأموال والحلي. قبضه على ابن جحاف وإحراقه. أقوال ابن بسام. إحراق بعض أعلام بلنسية. طغيان السيد وعسفه. شعر في محنة بلنسية. صدى سقوط بلنسية في الأندلس والمغرب. اعتزام(2/231)
أمير المسلمين العمل لاستردادها. إرساله حملة إلى الأندلس. مسير المرابطين إلى بلنسية. الذعر بين النصارى في بلنسية. حصار المرابطين لها. مفاجأة السيد للمحاصرين. استغاثة السيد بملك أراجون وألفونسو السادس. المعارك بين السيد وبين المرابطين. غزو المرابطين لأراضي طليطلة وقونقة. مرض السيد ووفاته. زوجه خمينا تتولى الدفاع عن المدينة. استغاثتها بألفونسو. قدوم ألفونسو في قواته إلى بلنسية. اجتماع القوات المرابطية بقيادة المزدلي. توجس ألفونسو واعتزامه الانسحاب. مغادرة خمينا للمدينة ومعها أموال القادر. انسحاب ألفونسو وجنده. إحراقه للمدينة. دخول المرابطين بلنسية وانتهاء مغامرات النصارى. السيد وشخصيته. اختلاف الآراء في تصويره وتقديره. مبالغة الرواية القشتالية في تصوير بطولته. الأساطير القشتالية حولها. السيد في الشعر وفي الأغاني. حقيقة السيد. السيد جندي قدير. أوصاف ابن بسام للسيد. السيد مغامر لا ذمام له ولا مبدأ. نزعته المكيافيللية. السيد ليس بطلا قومياً. السيد والتفكير الغربي. رأي دوزي ورينان. رأي مننديث بيدال. السيد في الرواية العربية. تاريخ بلنسية لابن علقمة.
لم يسر المستعين بن هود وحده إلى إنجاد بلنسية، بل كان معه جيش آخر، يسير أيضاً لإنجاد بلنسية في الظاهر، وكان على رأس هذا الجيش صديق المستعين وحليفه. وصديق أبيه المؤتمن، وجده المقتدر من قبل، الفارس القشتالي الأشهر، السيد إلكمبيادور.
إن قصة السيد الكمبيادور تملأ فراغاً كبيراً في الروايات والتواريخ القشتالية، ونجد كذلك صداها في التواريخ العربية. وقد اقترنت سيرة السيد بالأخص بمغامراته في بلنسية، وافتتاحه إياها، وسيطرته عليها بضعة أعوام، ثم وفاته، مدافعاً عنها ضد المرابطين. فهذه الأحداث هي ألمع صفحة في تاريخ السيد، وهي التي اتخذت منها التواريخ القشتالية عناصر بطولته، بل هي التي رفعته في نظر التواريخ والأساطير القشتالية إلى مرتبة بطل اسبانيا القومي، ومن ثم فإنه يجدر بنا قبل أن نمضي في تسطير هذه الأحداث، أن نقول كلمة موجزة في نشأة السيد وحياته الأولى.
إن السيد، هو فارس قشتالي، واسمه الأصلي رودريجو أو روي دياث دي بيبار، أما تلقبه " بالسيد" El Cid فهو تحريف لكلمة " السيد " العربية، وقد أطلقها عليه المسلمون الذين كان يخدم بينهم، ويحارب معهم، وأما وصفه بالكمبيادور، El Campeador، فمعناها المحارب الباسل، وقد أطلقت عليه لشجاعته وجرأته وشغفه بالقتال (1). وقد ولد " السيد " في مدينة
_______
(1) ويعرف السيد الكمبيادور في الرواية العربية "بالقنبيطور" (نفح الطيب ج 2 ص 577) ويسميه ابن بسام رذريق الكنبيطور، وهو أدق تعبير للاسم القشتالي، " رودريجو إلكمبيادور " =(2/232)
برغش على ما يرجح في سنة 1043 م، وكان أبوه لايان كالفو قاضي قشتالة في عهد الملك فرويلا الثاني. ولا يعرف التاريخ شيئاً عن حياته الأولى، بل كل ما فيها يرجع إلى الأسطورة والقصة. وكان بدء ظهوره في ميدان الحوادث، عقب وفاة فرناندو الأول ملك قشتالة وليون في أواخر سنة 1065 م، ونشوب الخلاف بين أولاده، فقد انضم " السيد " يومئذ إلى ولده سانشو (شانجه) وسار مع قوات حليفه أحمد بن سليمان بن هود صاحب سرقسطة، لمحاربة راميرو ملك أرجوان، وقد هزم في جرادوس سنة 1068 م. ثم كان إلى جانب أخيه سانشو سنة 1071 م، حينما نشبت الحرب، بينه وبين أخيه ألفونسو ملك ليون، قد هزم سانشو في البداية، ولكنه عاد وجمع فلوله تحت جنح الظلام، ودهم أخاه بإرشاد " السيد " وهزمه وأسره.
ولبث " السيد " يحارب إلى جانب سانشو ملك قشتالة، حتى قتل هذا الملك أمام أسوار سمورة في العام التالي (1072 م). فانتقل إلى خدمة أخيه ألفونسو.
الذي تولى عرش قشتالة أيضاً بعد مصرع أخيه. ولما اشتد بأس ألفونسو على ملوك الطوائف، وأخذ يرهقهم بمطالبه في الجزية، كان رسوله إلى ابن عباد صاحب إشبيلية في سنة 1079 م هو " السيد " نفسه، وقد اشترك " السيد " يومئذ مع قوات ابن عباد، في معركة وقعت بينه وبين الأمير عبد الله صاحب غرناطة، وقد كان يغير على أراضيه مع سرية من الفرسان النصارى، فهزم عبد الله، وسر المعتمد لذلك، وأدى الجزية المطلوبة مع طائفة كبيرة من التحف والهدايا برسم ملك قشتالة (1).
وقضى السيد في بلاط ملك قشتالة، عامين آخرين. ولكن الظاهر أن الدسائس كانت تعمل ضده حتى قيل إنه احتجز لنفسه الهدايا والتحف، التي تلقاها من المعتمد برسم مليكه. هذا إلى أن الملك ألفونسو لم ينس له قط وقوفه ضده إلى جانب أخيه سانشو، وانتصاره عليه، وقد كان يشعر من ذلك الحين
_______
= (الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 19 أ). وكذا يسميه ابن الأبار بالكنبيطور (الحلة السيراء، دوزي ص 189، والقاهرة ج 2 ص 125)، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 203.
ويقول لنا ابن عذارى إن كلمة "القنبيطور" معناها "صاحب الفحص" ج 3 ص 305.
(1) R.M.Pidal: ibid, p. 256 & 261(2/233)
بعاطفة من الحسد إزاء هذا الفارس المظفر، لازمته طول حياته (1)، ومن ثم فقد انتهى إلى إبعاد " السيد " عن بلاطه، وعن سائر أراضيه، وذلك في سنة 1081 م.
وهنا يبدأ الفصل الروائي حقاً في حياة السيد إلكمبيادور، فيبدو مغامراً يبحث وراء طالعه، ويخرج على كل اعتبار ديني أو قومي، فيؤجر نفسه وصحبه، تارة للأمراء المسلمين وتارة للأمراء النصارى، ويندس إلى كل ثورة تنشب أو حرب تضطرم هنا وهنالك، ويطلب الغنم والسلطان، حيثما استطاع، وبأي الوسائل. وكانت ظروف اسبانيا المسلمة، يومئذ مما يفسح المجال لأطماع، جندي مغامر كالسيد. فهناك الحروب الأهلية المستمرة، وهناك الرغبة المستمرة في الاستعانة بالجند النصارى، وإغداق الأموال عليهم، وقد رأينا في أخبار دول الطوائف، وأخبار ملوكهم، ما يؤيد هذه الحقيقة المؤلمة كل التأييد. وكانت هذه الحروب الإنتحارية تجري يومئذ في سائر أنحاء الأندلس، وكانت في الوقت الذي خرج فيه السيد بعصابته من قشتالة تضطرم بنوع خاص في الإمارات الشمالية، التي استقر فيها بنو هود، فيما بين سرقسطة، وثغور الشاطىء، وفيما بينها وبين بلنسية. فإلى هذا الميدان المضطرم، هبط السيد وجنوده المرتزقة، والتحق أولا بخدمة المقتدر بن هود أمير سرقسطة، وكان المقتدر قد استعان على محاربة أخيه المظفر صاحب لاردة، بجنود من البشكنس والقطلان حتى هزمه أخيراً وأسره، فكان المظفر أسيراً وقت أن حل السيد ببلاط المقتدر. ثم توفي المقتدر بعد قليل سنة 474 هـ (1081 م) بعد أن قسم مملكته بين ولديه، فخص ولده المؤتمن بسرقسطة وأعمالها، وأخاه المنذر بدانية وطرطوشة ولاردة.
ثم وقعت الحرب الأهلية بين الأخوين، فاستعان المنذر بسانشو راميرز ملك أراجون وكونت برشلونة، وحارب السيد إلى جانب المؤتمن، ولد حاميه والمحسن إليه، وانتهى الأمر بهزيمة المنذر، وعاد السيد إلى سرقسطة ظافراً، فاحتفى به أهلها أيما احتفاء، وبالغ المؤتمن في إكرامه وإثابته. وكان المؤتمن يعتز بصداقة السيد ومحالفته، ويعلي من شأنه ويأخذ بنصحه في معظم الأمور، ولا يرى في ذلك غضاضة وانحرافاً، وكان المنذر من جهة أخرى يبغض السيد أشد البغض، ويستعين في محاربته بالأمراء القطلان أصحاب برشلونة. ولما توفي
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 261,580 & 590(2/234)
المؤتمن في سنة 478 هـ (1085 م)، خلفه في سرقسطة وأعمالها ولده المستعين، والتحق السيد بخدمته أيضاً، واستمر على نفوذه ومكانته في المملكة. ويحمل ابن بسام على حماية بني هود للسيد، واستخدامهم إياه، وإعلائهم لشأنه في قوله: " وكان بنو هود قديماً هم الذين أخرجوه (أعني السيد) من الخمول، مستظهرين به على بغيهم الطويل، وسلطوه على أقطار الجزيرة، يضع قدمه على صفحات أنجادها، ويركز علمه في أفلاذ أكبادها، حتى غلظ أمره، وعم أقاصيها ودانيها شره " (1).
ولسنا نعرف شيئاً عن أعمال السيد في خدمة المستعين في بضعة الأعوام التالية.
بيد أننا نرى السيد والمستعين في سنة 1088 م، كلاهما يسير في قواته صوب بلنسية.
وهناك رواية خلاصتها أن المستعين والسيد، حينما ورد صريخ القادر، عقدا ميثاقاً سرياً على غزو بلنسية وافتتاحها، نص فيه على أن تكون الأسلاب كلها من نصيب السيد ورجاله، وأن تكون المدينة ذاتها من نصيب المستعين (2).
وهناك رواية أخرى، هي أن المستعين دعا السيد إلى مرافقته في جيشه لإغاثة بلنسية، دون أن يفضي إليه بنيته في الاستيلاء على المدينة، وقدم إليه أموالا جليلة لكي يحشد بها القوات اللازمة، وكان السيد في هذا الوقت بالذات يدعو الجند إلى رايته، للمحاربة مع المسلمين، وقد اجتمع له منهم، حسبما يخبرنا ابن علقمة مؤرخ مأساة بلنسية عدد كبير، وكانت قوة المستعين لا تعدو أربعمائة فارس، أما جيش السيد فكان يضم ثلاثة آلاف فارس، وهي قوة ضخمة وفقاً لمقاييس العصر.
وهكذا أشرف المستعين والسيد في قواتهما على بلنسية، إجابة لصريخ مليكها وإنجاداً له في الظاهر، وكلاهما يضطرم في الواقع بنيات ومشاريع أخرى. وكان المنذر صاحب لاردة وطرطوشة، ما يزال مرابطاً بقواته حول المدينة، فلما علم بمقدم السيد، وابن أخيه المستعين، أدرك أنه لا طائل من الانتظار وعول على الانسحاب (3)، وبعث إلى القادر يعرض عليه صداقته ومحالفته، واستعداده
_______
(1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 18 ب.
(2) وردت هذه الرواية في كتاب "الاستكفاء" لابن الكردبوس. ونقله دوزي في: Recherches ; V.Il. App.II.
(3) رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر.(2/235)
لمعاونته ضد ملك سرقسطة، فأجابه القادر إلى عقد الحلف المنشود، ولكنه لما رأى المنذر بعد ذلك يبتعد بقواته عن بلنسية في طريق العودة إلى بلاده، أدرك أنه لا مفر من الالتجاء إلى القشتاليين، وأنهم هم وحدهم الذين يستطيعون إنجاده وإنقاذه.
ودارت عندئذ سلسلة من المفاوضات والمواثيق السرية، بين أولئك الزعماء المخادعين المخاتلين، فبعث القادر إلى السيد خفية عندما اقترب من بلنسية، يرجوه عقد المودة والتحالف بينهما سراً، ودون علم المستعين، وبعث إليه في الوقت نفسه طائفة من الأموال والتحف الجليلة. ولما وصل السيد والمستعين إلى بلنسية، أفضى إليه المستعين بحقيقة نياته، وأنه إنما قدم إلى بلنسية لا لإنجادها ولكن لافتتاحها، وطلب إليه النصح والعون، ولكن السيد ماطل في مهاجمة المدينة بحجة أن القادر مستظل بحماية ألفونسو، وأن المدينة في الواقع هي من أملاك ألفونسو وقد أعطاها للقادر، فأية محاولة لافتتاحها تعتبر اعتداء على حقوق الملك ألفونسو نفسه، وأنه لابد قبل إجراء مثل هذه المحاولة، أن يأذن الملك ألفونسو نفسه بذلك، وأخيراً أنه لا يستطيع أن يقوم بعمل ضد مليكه وسيده الطبيعي، أعني ملك قشتالة.
وهنا يبدو السيد على حقيقته، ويكشف عن خلاله الأصيلة، خلال مغامر لا ذمام له يبيع العدو والصديق معاً، وينتهز الفرصة بأي ثمن، فهو ينصح القادر سراً بألا يسلم المدينة لأحد، وهو يعد القادر والمستعين كل بمعزل عن الآخر أنه سوف يعاونه على تحقيق بغيته في الوقت الملائم، ويؤكد للمستعين أنه على أهبة لأن يساعده على أخذ بلنسية، إذا حصل على موافقة الملك ألفونسو، ثم يعتزم السيد أن يقطع علائقه القديمة مع صديقه وحاميه المستعين، ويبعث سراً إلى عمه وخصيمه المنذر بن هود، يعقد معه اتفاقاً بالصداقة والتحالف، وأخيراً يبعث السيد إلى ألفونسو ملك قشتالة، يؤكد له أنه فيما يعمله ويغنمه، إنما هو تابع له، وأن أولئك الفرسان الذين يقودهم في أراضي المسلمين، دون أية نفقة من الملك - إنما هم تحت تصرف الملك، ينزلون ضرباتهم " بالكفرة "، وفي وسعهم أن يحصلوا على شرقي الأندلس بسهولة. وقد وافق ألفونسو على(2/236)
رسالة السيد، وأذن له أن يجول بفرسانه حيث شاء في أراضي المسلمين (1).
ولم يكتف السيد بذلك، بل رأى بعد أن قام بعدة غارات ناهبة في الأنحاء القريبة، ودرس طبيعتها وأحوالها، أن يذهب بنفسه إلى الملك ألفونسو، ليعقد معه الإتفاق اللازم لإخضاع هذه المناطق، فسار إلى قشتالة، واستطاع أن يحصل من الملك ألفونسو على وثيقة الموافقة، وفيها يصرح للسيد ويؤكد، بأن كل الأراضي والحصون التي يستطيع السيد أن ينتزعها من المسلمين، تغدو ملكاً خاصاً له، ثم لأولاده وبناته وسائر عقبه من بعده، ميراثاً شرعياً.
وأدرك المستعين خلال ذلك، مدى نفاق السيد وغدره، وانحرافه إلى العمل لصالحه وصالح قشتالة، فقطع علائقه معه، واتجه إلى محالفة برنجير كونت برشلونة، وكان من ألد أعداء السيد، وعقدت بينهما، أواصر التحالف، وقدم المستعين إلى الكونت أموالا جزيلة، وبعثه إلى محاصرة بلنسية. ولكن القادر اعتزم أن يصمد لهذا الحصار الجديد، حتى يعود السيد من قشتالة.
وأخيراً عاد السيد من قشتالة ومعه سبعة آلاف مقاتل، ونزل بجيشه في أراضي السهلة، التابعة لابن رزين صاحب شنتمرية الشرق (مايو 1089 م) فخرج إليه ابن رزين، وتعهد من جديد بأداء الجزية لملك قشتالة، وكان يؤديها قبل موقعة الزلاّقة، واتفق على أن تكون الجزية عشرة آلاف دينار في العام، فقبل السيد عهده، وغادر أراضي السهلة وسار بجيشه صوب بلنسية.
وغدا السيد عندئذ قائد جيش خطير من المرتزقة، أو بالحري رئيس عصابة ناهبة، تجوب أنحاء الولايات الشرقية طلباً للغنيمة والسلب، وهابه سائر الأمراء والحكام في تلك النواحي، وأخذوا جميعاً يرقبون الفرص لمقاومته وسحقه. وكان أشدهم نشاطاً في ذلك خصمه القديم الكونت برنجير أمير برشلونة، وكان الكونت يحاصر بلنسية بقواته منذ حين، والظاهر أنه حين اقترب السيد بقواته من بلنسية، وقعت بينه وبين الكونت معركة هزم فيها الكونت، وأسر مع نفر من بطانته، ولم يطلقهم السيد إلا لقاء فدية كبيرة، ثم انتهى الأمر بينهما إلى التفاهم، ورفع الكونت الحصار عن بلنسية، وعاد بجيشه شمالا إلى برشلونة.
_______
(1) R.M.Pidal: ibid, p. 352-354. وقد نقل الأستاذ بيدال هذه الفقرة الأخيرة المتعلقة برسالة السيد إلى الملك ألفونسو، من أقوال ابن علقمة صاحب تاريخ بلنسية المفقود، الذي نقلت منه شذور كثيرة في التواريخ القشتالية.(2/237)
وكان السيد قد عسكر بقواته أولا تجاه مربيطر شمالي بلنسية، ثم سار بعد ذلك جنوباً إلى بلنسية، وأخضع في طريقه مربيطر، وأرغم صاحبها - ابن لبُّون - على أن يؤدي له جزية سنوية قدرها ثمانية آلاف دينار. ونزل أخيراً بجنده في " الكُدية " ضاحية بلنسية الشمالية التي يفصلها عن المدينة نهر " طوريا "، ففي الحال بعث إليه القادر بالأموال والتحف، وأبلغه أنه يضع نفسه تحت حمايته، ويؤدي له الجزية، واتفق على أن يدفع له في كل أسبوع ألف دينار، على أن يقوم بحمايته من سائر أعدائه. وقيل إن الجزية التي ارتضى القادر أن يؤديها للسيد مقابل حمايته بلغت مائة ألف دينار في العام، وهو مبلغ طائل في هذا العصر (1).
وهنا يسوغ لنا أن نتساءل عن مصدر هذه الأموال الوفيرة التي كان يغدقها القادر في كل مناسبة على السيد وغيره، ممن كان يستصرخهم لحمايته. والجواب عن ذلك أن القادر ورث عن جده المأمون صاحب طليطلة أموالا طائلة، وطائفة عظيمة من الحلي والجواهر والتحف. وكان ألفونسو ملك قشتالة حينما عاونه القادر على استرداد عرشه في طليطلة، عندما أقصته الثورة عنه، يرهق القادر بمطالبه المالية المتوالية، لما كان يعلمه من غناه الطائل، وكانت سياسة ألفونسو ترمي إلى استصفاء أموال ملوك الطوائف بطريقة إرغامهم على دفع الجزية، وغيرها من أنواع الإبتزاز السياسي والعسكري، وقد رأيناهم جميعاً يسارعون إلى الأداء، ويجمع ملك قشتالة منهم الأموال الوفيرة. وكان القادر من أكثرهم ثراء واقتداراً. وكان يخفي أموالا طائلة حملها معه حينما سار منفياً إلى بلنسية، بعد أن فقد ملكه في طليطلة، وهناك أخفاها بمنتهى الحيطة والحذر، وقد أثارت هذه الأموال الدفينة فيما بعد شره السيد، واستطاع أن يحصل عليها عقب دخوله بلنسية حسبما نفصل بعد.
وخرج السيد من مقره في " الكدية " إلى جبال ألبونت القريبة، حيث كان يحكم عبد الله بن قاسم، وعاث في أراضيه، وأرغمه على أن يدفع له جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دينار، ثم عاد جنوباً وعسكر في بلدة "ركّانة" الواقعة غربي بلنسية. وهكذا أخضع السيد لصولته سائر إمارات هذه المنطقة:
_______
(1) هذا ما ذكره ابن الكردبوس في روايته السالفة الذكر: Recherches; V.II.App, II.(2/238)
بلنسية ومربيطر، وألبونت وشنتمرية الشرق، وفرض عليها جميعاً الإتاوات الفادحة، واستقر بقواته على مقربة منها تتردد بعوثه في أراضيها، وتشعرها بصفة مستمرة أنها رهينة سلطانه ورحمته.
في ذلك الحين تطورت الأمور في قشتالة، وكان لهذا النجاح الضخم الذي أحرزه السيد على هذا النحو في شرقي الأندلس صداه السيىء في نفس الملك " الإمبراطور " ألفونسو السادس (1)، وكان السيد قد تخلف عن معاونة ألفونسو في معركة حصن لييط " أليدو " التي نشبت بينه وبين المرابطين سنة 481 هـ (1088 م)، وانتهز خصوم السيد في البلاط هذه الفرصة، فأثاروا نفس الملك عليه، وصوروا له تصرفه بالعقوق والخيانة، وأوعزوا إليه بمعاقبته. وفعلا أمر الملك بإخلاء سائر الحصون والدور الخاصة بالسيد، وبالقبض على زوجه وأولاده الصغار، وذلك لأن القانون القديم كان ينص على تضامن الأسرة في الأمور الجنائية، ولا يسمح بذرة من التهاون أو الرأفة في تهمة الخيانة (2).
وتطورت الأمور أيضاً في الثغر الأعلى، وشعر المستعين بن هود ملك سرقسطة بأن المرابطين بعد استيلائهم على مرسية وحصن لييط، أضحوا على مقربة منه، وأضحوا يهددون سلامته وملكه، فعندئذ استغاث بالسيد مرة أخرى، وعقد معه صلحاً وحلفاً جديداً. وسار السيد في جيشه إلى سرقسطة، وعسكر على مقربة منها على ضفة النهر الأخرى، وهنالك عقد محالفة مع ملك أراجون وأخرى مع ملك نافار، وكان الغرض من هذه الأحلاف جميعاً هو التعاون على دفع خطر المرابطين الداهم، وإنقاذ شرقي الأندلس من سلطانهم. ولبث السيد حيناً في سرقسطة ينظم شئونها وخططها الدفاعية. وهذا ما يشير إليه ابن بسام في الذخيرة بقوله المسجع: " ولما أحس أحمد بن يوسف بن هود المنتزي إلى وقتنا هذا على ثغر سرقسطة، بعساكر أمير المسلمين تنسل من كل حدب، وتطلع على أطرافه من كل مرقب، آسد كلباً من أكلب الجلالقة، يسمى بلذريق ويدعى بالكنبيطور، وكان عقالا، وداء عضالا له في الجزيرة وقائع، وعلى طوائفها بضروب المكاره إطلاعات ومطالع " (3).
_______
(1) R.M.Pidal: ibid, p. 360
(2) R.M.Pidal: ibid, p. 367 & 368
(3) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط، لوحة 8 ب و 9 أ. وراجع: R.M.Pidal: ibid ; p. 415 & 416(2/239)
ولم يجد ألفونسو ملك قشتالة لمعاقبة السيد، على مطله وغدره وخيانته، وتحطيم نفوذه البالغ، الذي أخذ يزعجه ويثير حفيظته، خيراً من أن يفتتح بلنسية، التي كان السيد في الواقع سيدها الحقيقي، وكانت أمنع معقل لسيادته ونفوذه، وأخصب مصدر لموارده، فعقد حلفاً مع جمهوريتي جنوه وبيزه، لكي يعاونانه بأساطيلهما من البحر على أخذها، ثم سار في قواته إلى بلنسية، وعسكر في جُبالة أو "كبولا" من ضواحيها، وطلب من أصحاب القواعد والحصون المجاورة أن يؤدوا إليه الجزية التي كانوا يدفعونها للسيد، وبعث إلى القادر بأن يحجز الجزية وسائر الإيرادات التي كان يتلقاها السيد. فلما علم السيد بذلك وهو في ظاهر سرقسطة، وبأن ملك قشتالة جاء لينزعه نفس المنطقة التي أعطاه إياها، اعتزم أن يقابل القوة بالقوة، وبعث إلى ألفونسو يعرب له عن دهشته واستنكاره وعن ثقته بالله، وينذره بأنه لن يصبر على تلك الإهانة بل سينتقم لها، وبأنه سوف يرى كيف أسىء نصحه وتوجيهه (1).
والواقع أنه لم يمض قليل على ذلك حتى شعر ألفونسو بحرج موقفه. وذلك ْأن السفن الجنوية والبيزية لم تأت حسبما تقرر، وقد قلت المؤن في معسكره، وأخذ يعاني الصعاب، فعندئذ أمر برفع الحصار، وغادر بلنسية لدهشة قواده وصحبه، وارتد راجعاً إلى قشتالة. وما كاد يبتعد عنها حتى أشرفت السفن الحليفة وكانت نحو أربعمائة. بيد أنها لم تستطع أن تعمل شيئاً. فغادرت بلنسية وسارت إلى طرطوشة، ولكنها استطاعت أن تصمد لها. وفضلا عن ذلك فقد أراد السيد أن ينتقم من الملك ومستشاريه، فسار نحو قلهرّة ولوجرنيو، وضرب الأراضي التابعة لرجال البلاط من خصومه، وعاث في أحواز قشتالة، واجتاح منها منطقة شاسعة، وأمعن فيها قتلا وتخريباً (2). فعندئذ رأى ألفونسو أن يعود إلى سياسة اللين، وأصدر عفوه عن السيد، وكتب إليه بذلك، وبأنه قد رفع الحظر عن أملاكه، وسمح له بأن يعود إلى قشتالة متى شاء، فكتب إليه السيد يشكره ويرجوه ألا يصغى لنصحاء السوء. وكان ذلك في أوائل سنة 1092 م (485 هـ).
* * *
_______
(1) R.M.Pidal: ibid, p. 418
(2) رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر في: Recherches; V.II.App.II(2/240)
ْوفي ذلك الحين اشتد الاضطراب في بلنسية، واعتزم البلنسيون أن يحطموا ذلك النير المرهق الذي فرضه السيد على المدينة. وكان قاضي المدينة أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جحّاف المعافري، يتزعم أقوى الأحزاب في المدينة، وهو الحزب المناوىء للسيد والقشتاليين بوجه عام، ويناهض الحزب " الإسباني " أو الحزب الذي يلتف حول القادر، وكان يثير في الجموع روح الثورة، ويتطلع إلى انتزاع السلطة، وكان المرابطون قد اقتربوا في ذلك الوقت من بلنسية، باستيلائهم على مرسية ودانية، ففاوض ابن جحاف قائد المرابطين ابن عائشة، ووعده بتسليم بلنسية إذا ساعده على محاربة القادر والسيد، فاستجاب ابن عائشة لدعوته، وبعث إليه سرية من الجند المرابطين بقيادة أبي ناصر المرابطي، فما كادت تدخل بلنسية حتى اشتد فيها الهرج والاضطراب، وقاد ابن جحاف جموع الثائرين، وقبض على ابن الفرج مندوب " السيد " في المدينة، واقتحم القصر، وبحث عن القادر حتى عثر به، وكان قد اختفى في بعض حمامات القصر، ومعه صندوق من الحلي والجواهر الخاصة بزوجه السلطانة زبيدة. فقتل في الحال، وحملت رأسه على رمح وطيف بها في شوارع بلنسية، وذلك في اليوم الثالث والعشرين من رمضان سنة 485 هـ (28 أكتوبر سنة 1092 م). واحتوى ابن جحاف على طائفة عظيمة من الأموال والذخائر والتحف التي كان يحتفظ بها القادر. وآلت السلطة بذلك إلى " الجماعة ". وفي اليوم التالي، الرابع والعشرين من رمضان، اختير ابن جحاف رئيساً للجماعة، فتولى زمام الأمور، وأخذ يحشد الجند، ويحصن أطراف المدينة، ويستعد للطوارىء (1).
ولما علم السيد بهذه التطورات المزعجة، سار في الحال في قواته صوب بلنسية، وفرض المغارم والأقوات على سائر الحصون الواقعة في طريقه، ونزل في " جُبالة " (كبولا)، وهنالك اجتمع إليه أنصار الملك المقتول (أواخر سنة 1092 م). وفي الحال ضرب الحصار حول المدينة، بعد أن أحرق ما حولها من الضياع والمروج، واستولى على معظم الأنحاء القريبة، واقتحم " الكُدية " ضاحية المدينة الشمالية، وفرض عليها سلطانه. وأنشأ ابن جحاف داخل المدينة فرقة من ثلاثمائة فارس من المرابطين وغيرهم، لتقاوم الحملات المخربة التي كان
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 305 و R.M.Pidal: ibid ; p. 434(2/241)
يشنها السيد على أحوار المدينة. وكثر الجدل في الداخل بين مختلف الاحزاب والطوائف. وبعث السيد سراً إلى ابن جحاف يطلب إليه طرد المرابطين، ويتعهد له بأن يتركه ملك بلنسية الوحيد، وأن يمده بالعون والحماية، فجنح ابن جحاف إلى التفاهم، وأخذ يدبر الأمر، وآثر البلنسيون كذلك التفاهم والصلح، وانتهت المفاوضات بين السيد وأهل بلنسية على ما يأتي: أن يغادر المرابطون المدينة آمنين، وأن يعطى ابن جحاف إلى السيد ثمن ما كان مودعاً بمخازنه من المؤن وقت مقتل القادر، وأن تؤدى له الجزية السابق تقريرها، ومقدارها ألف دينار في الأسبوع مع متأخراتها، من وقت أن بدأت الحرب، وأن تبقى ضاحية الكُدية بيد السيد، وأن يرتد الجيش القشتالي إلى " جُبالة " ويبقى هنالك ومعه السيد. وهكذا عقدت شروط التسليم، وعادت بلنسية بمقتضاها، كما كانت بلداً خاضعاً يؤدي الجزية كما كان أيام القادر (1).
ولم يمانع المرابطون في عقد الصلح على هذا النحو، لما تولاهم من السأم في بلد لا تهدأ له ثائرة، وغادروا المدينة بسلام. وعاد السيد فرابط بقواته في " جبالة ". ولكن سرعان ما نقض عهوده، شيمته التي تلازمه في كل عمل وكل موطن، وأخذ يتردد في جنده على ضواحي المدينة ويعيث فيها، ويرهق ابن جحاف بمطالبه المالية، التي لا يرتوي منها شرهه قط، وابن جحاف يعاني في نفس الوقت من الاضطراب الداخلي، ومن مناوأة الزعماء المحليين، ولاسيما بني طاهر أصحاب مرسية السابقين النازلين ببلنسية، وكان هؤلاء يتصلون سراً بالسيد، ويتآمرون معه على ابن جحاف. ثم طلب السيد من ابن جحاف أن يأذن له بالنزول مع بعض صحبه في قصر وحدائق " بله نوبه " وهي ضاحية بلنسية في الشمال الشرقي، وينزل باقي جنده في " ريوسا " في جنوبها الغربي تجاه الرُّصافة، فوافق ابن جحاف مرغماً، وكان السيد يرمي بذلك إلى إحكام تطويق المدينة، لاسيما وهو يحتكم من قبل على ضاحية الكُدية. وعاد السيد بعد ذلك فاشتط في مطالبه، وطلب إلى ابن جحاف أن يسلم كل موارد المدينة، وأن يقدم إليه ابنه رهينة بولائه. فعندئذ رفض ابن جحاف، وأغلق أبواب المدينة، وكتب الى ابن عائشة قائد المرابطين يستغيث به، وبعث بنفس الصريخ إلى المستعين ملك
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 449(2/242)
سرقسطة، فأرسل إليه يعده خيراً، وكتب كذلك إلى ألفونسو السادس، فبعث إليه يعده بالعون. واعتزم ابن جحاف مقاومة السيد إلى آخر لحظة، واستؤنفت الأعمال العدوانية بين الفريقين، وضرب السيد حول المدينة حصاراً صارماً، وعاث في الأنحاء المجاورة، ولم يدخر وسعاً في قطع الأقوات عن المدينة المحصورة خوفاً من أن تصمد له حتى يدهمه المرابطون، واستمر الحصار على هذا النحو عشرين شهراً، حتى بلغ الضيق بالبلنسيين المنتهى، وفتك بهم الجوع أيما فتك، " وأكلوا الفيران والكلاب والجيف " وغدوا كالأشباح هزالا (1). وقد وصف المؤرخ البلنسي المعاصر، محمد بن علقمة في تاريخه الذي سوف نشير إليه فيما بعد، بعض ما قاساه البلنسيون من المحن في تلك الآونة العصيبة، فذكرا " أن رطل القمح بلغ ثمنه مثقال ونصف، وأوقية الجبن ثلاثة دراهم، ورطل البقل بخمسة دراهم، وبيضة الدجاجة بثلاثة دراهم، ورطل اللحم بستة دنانير. وفي ربيع الأول (486 هـ) عظم البلاء، وتضاعف الغلاء، واستوى في عدم القوت الفقراء والأغنياء، فأمر ابن جحاف اقتحام الدور بحثاً عن القوت. وأعاد استصراخ ابن هود، ورغبه في المال والبلد مع الأجر في استنقاذ المسلمين من القتل والأسر.
وترمق ساير الناس بالجلود والأصماغ وعروق السوس، ومن دون هؤلاء بالفيرة والقطط وجيف بني آدم. وهجم على نصراني وقع في الحفير فأخذ باليد، ووزّع لحمه. وجد الطاغية في حرق من خرج من المدينة إلى المحلة ليلا يخرج الضعفاء، ويتوفر القوت على الأغنياء. وبان على الناس الإحراق بالنار، فعيث فيهم بالقتل، وعلقت جثثهم على صوامع الأرباض وبواسق الأشجار. ودخل جمادى الأولى وعدمت الأقوات بالجملة، وهلك الناس، ولم يبق من ذلك الجم إلا النزر اليسير، وتوالى اليبس واستحكم الوباء. ولما بلغ الأمر إلى هذا القدر، وابن هود يخاطب بالتسويف والمطل، اجتمع الناس إلى الفقيه أبي الوليد الوقشي في التكلم لابن جحاف (2) وعندئذ اجتمع أعيان المدينة، وأرغموا ابن جحاف على مفاوضة السيد في التسليم وعقد الصلح، فأذعن وترك لهم المفاوضة، فذهب وفد منهم لمفاوضة السيد، وتم الاتفاق على أن يبعث البلنسيون رسلهم إلى ملك سرقسطة،
_______
(1) الذخيرة لابن بسام، القسم الثالث، المخطوط لوحة 19 ب، والبيان المغرب ج 3 الملحق ص 305.
(2) من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثر بها المؤلف بخزانة جامع القرويين بفاس.(2/243)
وإلى ابن عائشة قائد المرابطين في مرسية، في طلب الغوث والإنجاد، وذلك في مدة خمسة عشر يوماً، وأن يقوم ابن عديس خلال ذلك بالإشراف على المدينة، وأن تسلم الأبواب ليحتلها الروم المحليون، فإذا لم يحضر أحد للنجدة في خلال المدة الممنوحة سلمت بلنسية بالشروط الآتية:
" أن يبقى ابن جحاف قاضياً للمدينة وحاكماً لها، وأن يؤمن في نفسه وماله وأهله، وأن يؤمن السكان في أنفسهم وأموالهم، وأن يتولى مندوب السيد الإشراف على تحصيل الضرائب، وأن تحتل المدينة حامية من النصارى المعاهدين (المستعربين) الذين يعيشون بين المسلمين، وأن يرابط السيد بجيشه في "جُبالة" (كبولا) وألا يغير شيئاً من شرائع المدينة وأحكامها ".
عقدت الهدنة على هذه الشروط، وسافر الرسل في طلب النجدة، ولكن مضت الخمسة عشر يوماً دون أن يعود أحد منهم. ففي صباح اليوم التالي، وهو يوم الخميس 15 يونيه سنة 1094 م (28 جمادى الأولى سنة 487 هـ) (1)، خرج ابن جحاف ومعه عدد من أعيان المسلمين والنصارى، ووقعوا عهداً بتسليم المدينة، على أن يؤمن سكانها في أنفسهم وأموالهم، وأن يسلم ابن جحاف إلى السيد سائر أموال القادر. وفي الظهر فتحت بلنسية أبوابها للسيد إلكمبيادور وجنده، واحتشد البلنسيون، وهم كالأشباح هزالا، أو كأنهم كالموتى خرجوا يوم الحشر من القبور ليمثلوا أمام الخالق (2)، ليشهدوا دخول القشتاليين الظافرين بلدهم.
ودخل السيد وجنده بلنسية، وفي الحال احتلوا أبراجها خلافاً لشروط المعاهدة، ونزل السيد بالقصر، ثم جمع أشراف المدينة وألقى فيهم خطاباً وعد
_______
(1) تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ دخول السيد بلنسية. فيقول ابن بسام وهو معاصر للحادث أنه وقع في سنة 488 هـ (1095 م) - الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 19 ب.
ويوافقه صاحب الذيل في البيان المغرب ج 3 ص 306. ولكن ابن الأبار يقول لنا إن دخول السيد بلنسية كان في سنة 487 - 1094 م (الحلة السيراء دوزي ص 189 والقاهرة ج 2 ص 125).
وهذه أيضاً رواية ابن الكردبوس في " كتاب الاكتفاء " Recherches, V.II.App.II. وهذا التاريخ هو المرجح، وهو يوافق الرواية القشتالية، وبه يأخذ الأستاذ مننديث بيدال مؤرخ السيد، فيقول إن دخول السيد بلنسية كان في 15 يونيه سنة 1094 م. ( Pidal: ibid ; p. 485)
(2) وهو تصوير ابن علقمة مؤرخ مأساة بلنسية، وقد نقلت روايته المفقودة في التواريخ القشتالية ( Pidal: ibid ; p 484) .(2/244)
فيه أن يسير شئون المدينة بالعدل، وأن يستمع لظلامات أهلها، وأن يحميهم، وأن يرد إلى كل ذي حق حقه، إلى غير ذلك من الوعود الخلابة. ومع ذلك فقد احتل النصارى معظم دور المدينة وضياعها، ولم يستمع أحد إلى تذمر أو ظلامة، وتسلم السيد من ابن جحاف أموال القادر وذخائره، وأبقاه في منصبه قاضياً للمدينة، ولكنه شدد عليه في السؤال عما إذا كان قد بقي لديه شىء منها، وطلب إليه الحلف أمام أعيان الشهود من الملتين، فحلف ابن جحاف بأنه لم يخف شيئاً وليس لديه شىء منها. وأنذره السيد بأنه إن وجد لديه شيئاً مما تقدم، فإنه سوف يستبيح دمه، ووافق على هذا العهد أعيان الملتين، المسلمون والنصارى. وشاءت الأقدار أن يقع السيد بعد ذلك بقليل على مخبأ الحلي والذخائر التي انتزعها ابن جحاف من القادر حين مقتله، فكان ذلك نذيراً بنكبته المروعة، التي ترك لنا عنها المؤرخ البلنسي المعاصر، وشاهد العيان السابق ذكره أبو العباس بن علمقة، صوراً مؤسية مبكية.
ذلك أن السيد أمر في الحال بالقبض على ابن جحاف وأفراد أسرته، وعذبه عذاباً شديداً، ثم أمر بإعدامه حرقاً، فأقيمت له وقدة كبيرة في ساحة المدينة وأحرق فيها بصورة مروعة، ولقي هذا القاضي المجاهد مصيره بشجاعة مؤثرة.
قال ابن علقمة، وكان من شهود المأساة " إن القنبيطور أمر بتعذيبه أي ابن جحاف فعذب عذاباً شديداً، ثم أمر به فجمع له حطب كثير، وحفرت له حفرة وأقيم فيها، وأصير الحطب حوله، وأوقدت فيه النار فكان يضم النار إليه بيديه ليكون ذلك أسرع لخروج روحه " (1). وقال ابن بسام، بعد أن ذكر واقعة إحراق ابن جحاف: " أخبرني من رآه في ذلك المقام، وقد حفر له إلى مرفقيه، وأضرمت النار حوله، وهو يضم ما بعد من الحطب بيديه، ليكون أسرع إلى ذهابه، وأقصر لمدة عذابه، كتبها الله له في صحيفة حسناته، ومحا به سالف سيئاته، وهم الطاغية يومئذ بتحريق زوجه وبناته، فكلمه فيهن بعض طغاته، فبعد لأي ما لفته عن رأيه، وتخلصهن من يدي نكرائه. وأضرم هذا المصاب الجليل أقطار الجزيرة يومئذ ناراً، وجلل سائر طبقاتها حزناً وعاراً " (2).
________
(1) أورده البيان المغرب في الذيل ج 3 ص 306.
(2) الذخيرة - القسم الثالث المخطوط لوحة 19 ب.(2/245)
وأمر السيد كذلك بإحراق جماعة من أعلام بلنسية، ومنهم أبو جعفر البتي الشاعر المشهور (1)، وبدا السيد عندئذ في ثوبه الحقيقي، ثوب الفاتح المتجبر والطاغية المنتقم، فمال على البلنسيين، وأذلهم، واشتط في إرهاقهم بصنوف المظالم والمغارم. وكان من الظواهر المؤلمة يومئذ، أن التف حول السيد رهط من الخونة المسلمين، ومعظمهم من الأشرار والسفلة، انضووا تحت لوائه، وأخذوا يعيثون في المدينة فساداً، ويعتدون على إخوانهم، يقتلون الرجال، ويسبون النساء والأطفال، وقد ارتد عن الإسلام جماعة منهم، وكان يطلق يومئذ على تلك العصابات المجرمة اسم " الدوائر " (2)، وغادر بلنسية كثير من أهلها المسلمين، واحتل النصارى دورهم وأحياءهم، وغدا السيد، وهو يزاول سلطانه بالقصر، كأنه ملك متوج، وسيد مملكة عظيمة، وغدا باستيلائه على بلنسية سيد شرقي الأندلس كله.
وفي محنة بلنسية يومئذ يقول الشاعر المعاصر أبو إسحاق بن خفاجه:
عاثت بساحتك العدا يا دار ... ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها ... وتمحصت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها ... لا أنت أنت ولا الديار ديار
وروعت الأندلس لسقوط بلنسية في أيدي النصارى، كما روعت من قبل بسقوط طليطلة، وتوالى على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صريخ الأندلس، ورسائل أعيانها، تصف ما أصاب بلنسية وشرقي الأندلس من الدمار، وتقطيع الأوصال، والذل على يد النصارى. قال ابن بسام: " وتجرد أمير المسلمين عندما بلغه هذا النبأ الفظيع، واتصل به هذا الرزء الشنيع، فكانت قذى أجفانه وجماع شأنه، وشغل يده ولسانه ". واعتزم أمير المسلمين أن يسترد المدينة الأندلسية العظيمة، فسار إلى سبتة وحشد الجند، وندب ابن أخيه محمداً بن تاشفين ليقود الحملة، وكتب إلى حاكم غرناطة المرابطي، وإلى أمراء شرقي
_______
(1) وهو أحمد بن عبد المولى البتي نسبة إلى بتة من قرى بلنسية. وكان من أكابر الأدباء وعلماء اللغة.
(2) راجع رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر: Recherches; V.II.App.II(2/246)
الأندلس، أصحاب شنتمرية الشرق، وألبونت، ولاردة، وطرطوشة، أن يجمعوا الجند للسير إلى استنقاذ بلنسية. وعبرت الجند المرابطية إلى الجزيرة في سبتمبر سنة 1094 م، أعني لثلاثة أشهر فقط من سقوط بلنسية، واجتمعت الحشود الأندلسية، وسارت القوات المتحدة صوب بلنسية، فوصلت إلى " كوارت " ثم إلى " مسلاته "، الواقعتين غربي بلنسية جنوبي النهر، في شهر أكتوبر (رمضان 488 هـ)، وصلوا صلاة الفطر في مسلاته، ثم بدأ الهجوم على بلنسية.
وكانت الأنباء قد وصلت إلى بلنسية بمقدم الجيش المرابطي. فشاع الذعر بين النصارى، وأمر السيد بأن يجمع من أهل بلنسية، سائر السلاح والقطع الحديدية، وأخرج من المدينة سائر المسلمين الذين يشك في ولائهم. وتكررت هجمات المرابطين على المدينة بشدة، ولما رأى محمد بن تاشفين مناعة المدينة وصمودها الراسخ، ضرب حولها الحصار المطبق. ولم تمض أيام قلائل، حتى خرج السيد في قواته بالليل، وفاجأ المعسكر الإسلامي، وهاجمه بشدة، فأوقع فيه الاضطراب والذعر، واستولى على غنائم عظيمة من الخيل والسلاح والعتاد والمؤن، وقتل من المسلمين عدد جم، ثم عاد فامتنع داخل المدينة.
واستمر الحصار طويلا. وبعث السيد إلى بيدرو الأول ملك أراجون يستصرخه للغوث، وعقدت بينهما محالفة ضد المسلمين، وكتب أيضاً إلى ألفونسو السادس. وتجددت المعارك بين المرابطين والقشتاليين في أحواز بلنسية، واستولى السيد خلالها على مربيطر، وعلى عدد آخر من الحصون. وفي يناير سنة 1097 م وقعت بين قوات السيد وحليفه بيدرو ملك أراجون، وبين المسلمين، معركة شديدة عند جبل " مندير "، هزم فيها المسلمون، وعاد بيدرو إلى بلاده، وعاد السيد إلى بلنسية.
وفي تلك الأثناء كان جيش مرابطي قد سار من الجنوب نحو أراضي طليطلة وعاث فيها، وهزم قوات ألفونسو السادس عند " كونسويجرا "، وفي تلك الموقعة قتل دون ديجو ابن السيد الوحيد. وفي نفس الوقت سار ابن عائشة حاكم مرسية في جيش ضخم إلى أحواز قونقة، وهزم القشتاليين بقيادة ألبارهانيس ثم اخترق أراضي مملكة بلنسية حتى " الجزيرة "، وهنالك التقى بفرقة من جنود السيد، فأبادها تقريباً ولم ينج منها إلا عدد يسير فروا عائدين إلى بلنسية.(2/247)
وكان السيد قد اشتد عليه المرض يومئذ، وهدمه الإعياء، وأدمى قلبه مصرع ولده الوحيد، فتوفي غماً وألماً، وذلك في يوليه سنة 1099. فتولت مكانه زوجه خمينا الدفاع عن المدينة، واستطاعت أن تصمد أمام هجمات المرابطين، زهاء عامين آخرين. وأخيراً بعثت إلى ألفونسو السادس تستصرخ به، وتعرض تسليم المدينة إليه، فهرع ألفونسو إلى بلنسية في بعض قواته، ودخل بلنسية في مارس سنة 1102 م. وكانت القوات المرابطية قد اجتمعت قبل ذلك ببضعة أشهر، تحت إمرة قائدها الأمير أبى محمد المزدلي، تستعد للوثبة الحاسمة، فلما قدم ألفونسو بقواته، اجتنبت لقاءه، وعسكرت في كولييرا الواقعة على البحر بين بلنسية وشاطبة. وقضى ألفونسو شهراً في بلنسية، ثم خرج إلى أحواز كولييرا، وانتسف زروعها، وهالته ضخامة الجيش المرابطي، فارتد إلى المدينة وهو عازم على إخلائها، ولم يشأ أن يغامر بجيشه مع العدو القوي في مواقع نائية. وغادر بلنسية سكانها النصارى، يحملون أمتعتهم وأموالهم، وخرجت خمينا زوجة السيد، ومعها ذخائر القادر بن ذى النون، والأموال العظيمة التي انتهبها السيد خلال غزواته ومغامراته، وقد استولى ألفونسو فيما بعد على معظمها، ثم خرج ألفونسو وجنده، وخرج معه فرسان السيد يحملون رفات زعيمهم لتدفن في أراضي قشتالة (4 مايو سنة 1102 م). بيد أنه أمر قبل خروجه بإحراق المدينة، ولم يغادرها إلا بعد أن غدا معظمها أطلالا دارسة.
وفي اليوم التالي، الخامس من شهر مايو سنة 1102 م، الموافق شعبان سنة 495 هـ (1)، دخل المرابطون بلنسية وعاد الثغر العظيم بذلك إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وعاد السلم يخيم على تلك الربوع، وانهار باختفاء السيد، أكبر عامل في بث الروع، والاضطراب إلى شرقي الأندلس، ووقفت مغامرات النصارى في تلك الأنحاء مدى حين (2).
* * *
_______
(1) يقول صاحب الذخيرة إن استرداد المرابطين لبلنسية كان في رمضان سنة 495 هـ، ولكنا باحتساب التوافق بين التاريخين الميلادي والهجري، نجد أن شهر مايو سنة 1102 م يوافق شعبان سنة 495 هـ. ويأخذ ابن خلدون بنفس التاريخ، فيضع استرداد بلنسية في سنة 495 هـ (ج 4 ص 162).
(2) يراجع فيما تقدم، الذخيرة لابن بسام - القسم الثالث المخطوط - لوحة 26 أوب وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 508, 533, 539 & 581(2/248)
والآن وقد انتهينا من تتبع حوادث مملكة بلنسية منذ قيامها في ظل الطوائف وفصلنا بهذه المناسبة أخبار السيد إلكمبيادور، مذ ظهر في كنف بني هود أصحاب سرقسطة، حتى غلب على شرقي الأندلس، ثم افتتح بلنسية، وحكمها حتى وفاته بضعة أعوام، نود أن نقول الآن كلمة عن شخصية السيد، وعن خلاله.
لقد اختلفت الآراء في تصوير السيد وتقدير بطولته. فالآداب النصرانية، والآداب القشتالية، بوجه خاص، تحاول أن تجعل منه مثلا أعلى للبطولة القومية، وتحيط تاريخه بطائفة من الأساطير المغرقة، وتذهب في بعض الأحيان إلى اعتباره، فضلا عن كونه بطلا قومياً لإسبانيا النصرانية، قديساً يحيط الجلال بسيرته، وتروي لنا أن الناس كانوا على هذا الاعتبار، يحجون إلى مزاره، ويلتمسون البركة من رفاته. وكان قد دفن أولا في دير سان بيدرو دي كاردينا على مقربة من برغش، ثم نقلت رفاته بعد ذلك إلى بناء بلدية برغش. ومما يروى في ذلك أن تابوت السيد فتح في أيام الإمبراطور شارلكان، في سنة 1541، فانتشرت منه رائحة ذكية، ووجدت الجثة ملفوفة في رداء عربي، ومعها سيف ورمح، وكان الشرق عظيماً في تلك الآونة، فما فتح التابوت حتى هطل مطر غزير، روى جميع أرجاء قشتالة. وأشد ما تبدو هذه الأساطير في الشعر، وفي الملاحم والأغاني القشتالية، التي وضع معظمها بعد وفاة السيد بنحو قرن. ففيها يصور السيد، بأنه الفارس الكامل، الشهم، الذي لا يقهر في الحرب، وبأنه مثل الوطنية الحقة، وزهرة الخلال والفضائل النصرانية. ومن أشهر الملاحم التي وضعت عن السيد، وأقربها إلى عهده، قصيدة أو ملحمة، Mio Cid ( سيدي) الشهيرة، التي كتبت بأراضي مدينة سالم بعد وفاة السيد بنحو أربعين عاماً فقط، وهي فضلا عما تحتويه من مختلف صور العصر وحوادثه وعاداته، تقدم لنا صورة كاملة لخلال السيد، وتشيد بوطنيته وإخلاصه، بالرغم من جور مليكه، كما تصف رفقه ولينه، وهو الظافر، نحو المسلمين المغلوبين، وما ينطوي عليه قلبه، وهو الفارس الأمثل، من الحب العائلي، حتى انه كان خلال المعارك، يتصور أعين زوجته خمينا وبناته، متطلعات إليه، إلى غير ذلك من الصور والنعوت (1).
_______
(1) راجع كتاب الأستاذ بيدال، R.M.Pidal: ibid ; p. 8(2/249)
بيد أننا إذا جردنا السيد من إغراق الأسطورة، ومن أضواء الملاحم والأغاني، وإذا أردنا أن نحكم على شخصيته من حوادث حياته، فإن الرأي المنزه المجرد من المؤثرات القومية والدينية، يحملنا في الحال على الحكم عليه، وعلى خلاله بأقسى النعوت الأخلاقية والأدبية. لقد كان السيد جندياً عظيماً، وقائداً بارعاً، ما في ذلك من ريب، ولقد أشادت الرواية الإسلامية المعاصرة ذاتها بخلاله كفارس وقائد مظفر، فيقول لنا ابن بسام مثلا في وصفه ما يأتي: " وكان هذا البائقة وقته، في درب شهامته، واجتماع حزامته، وتناهي صرامته، آية من آيات ربه ... وكان - لعنه الله - منصور العلم، مظفراً على طرائق العجم، لقي زعماءهم، ففل حد جنودهم، وقتل بعدده اليسير، كثير عديدهم، وكانت تدرس بين يديه الكتب، وتقرأ عليه سير العرب، فإذا انتهى إلى أخبار المهلب استخفه الطرب، وطفق يعجب منها ويعجب ". ويزيد ابن بسام على ذلك أنه بلغه أن السيد كان يقول، وقد طما طمعه ولح به جشعه: " على لذريق فتحت الأندلس، ولذريق يستنقذها " (1). ولكن من الحق أيضاً أن نذكر أن السيد، كان إلى جانب هذه الجرأة، والبراعة العسكرية والمغامرات المظفرة، يتصف بكثير من الرذائل والصفات الذميمة التي تأباها خلال الفروسة، فهو حسبما رأينا من وقائع حياته التي استقيناها من أوثق المصادر، ولاسيما من أعظم مؤرخيه المعاصرين الأستاذ مننديث بيدال، يبدو مغامراً لا مبدأ له ولا ذمام، يسعى إلى الكسب أينما كان، وهو يبدأ حياته في خدمة الملوك المسلمين أعداء أمته ودينه ثم يخرج عليهم، ويتنكر لهم، وهو يقطع مختلف العهود، ثم ينقضها، متى رآها عقبة في سبيل أهوائه، وهو يبيع العدو والصديق لكسب المال، ويبدو في معظم حملاته العسكرية، قاطع طريق، ورئيس عصابة ناهبة، أكثر منه قائد جيش مجاهد منظم، وهو جشع لاقتناء المال، لا يخبو له في سبيل ذلك ظمأ، وهو يناوىء مليكه وأمته، ويخرج عليه غير مرة، ويعيث في أراضي بلاده، وينتهك حرماتها، تحقيقاً لمآربه الشخصية، وأغراضه المادية. وعلى العموم، فهو يبدو مغامراً، يجمع في شخصه كل رذائل عصره، وهو بذلك أبعد من أن يبدو بطلا قومياً مثالياً، وأشد بعداً من أن يبدو قديساً خارقاً.
_______
(1) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 19 أوب.(2/250)
والتفكير الغربي نفسه يختلف في تقدير السيد ومنزلته من البطولة، فالعلامة المستشرق دوزي مثلا يخصص لحوادث حياته كتاباً (1)، وينتهي فيه إلى أن السيد ليس إلا جندياً مغامراً يبحث وراء طالعه، ويجمع في شخصه من رذائل عصره أكثر مما يجمع من فضائله. ويجاريه في هذا الرأي العلامة الفرنسي رينان، ويقول " إنه لم يفقد بطل بخروجه من حيز الأسطورة إلى حيز التاريخ قدر ما فقد إلسيد ". ولكن العلامة مننديث بيدال، مؤرخ السيد، يخالف كل هذه الآراء، ويبالغ في تقدير السيد، ويخصص لتقدير بطولته شذوراً طويلة، ويقول " إن الشعر والتاريخ يتفقان في شأنه، وأنه بالعكس لا يوجد بطل ملاحم أكثر لمعاناً في ظل التاريخ " (2).
ويخصص ابن بسام، وهو معاصر لمعظم الأحداث التي خاضها السيد، لشخصية السيد وأعماله، شذوراً كثيرة. بيد أنه قد كتبت عن السيد، وعن مأساة بلنسية بالأخص وثيقة عربية مؤثرة، كتبها مؤرخ بلنسي، وشاهد عيان للحوادث، هو أبو عبد الله محمد بن خلف الصدفي المعروف بابن علقمة، وقد ولد ابن علقمة ببلنسية في سنة 428 هـ (1037 م)، وتوفي بها سنة 509 هـ (1115 م) وكان أديباً شاعراً. وقد هزته الحوادث والخطوب المفجعة التي مرت بوطنه بلنسية، والتي شهدها عن كثب، فألف تاريخاً لحوادث عصره، ولاسيما تغلب السيد على بلنسية، وما اقترن به من المآسي، أو كما يقول ابن الأبار، إنه " ألف تاريخاً في تغلب الروم على بلنسية، سماه "البيان الواضح في الملم الفادح"، وذلك قبل سنة 500 هـ " (3). وقد نوه بتاريخ بلنسية هذا، الذي ضاع ولم يصلنا، فضلا عن ابن الأبار، وهو بلنسي أيضاً، كثير من المؤرخين اللاحقين، ومنهم صاحب رواية الطوائف الواردة بذيل البيان المغرب، حيث يقول: " وقد
_______
(1) كتاب دوزي المشار إليه هو: Le Cid d'aprés de nouveaux documents (Leyde 1860)
وقد نشر بتمامه في الطبعة الثالثة من كتاب دوزي: Recherches ; V.II.p. 1-133
(2) R.M.Pidal: La Espana del Cid ; V.II.p 593-604
(3) راجع " التكملة " لابن الأبار ج 1 رقم 514، والبيان المغرب ج 3 ص 305 و 306، وابن الخطيب في " الإحاطة " (القاهرة 1956) ج 1 ص 91. وراجع أيضاً: Pons Boigues Ensayo Bio - Bibliografico sobre los Historiadores y Geograficos Arabigo - Espanoles ; (Madrid 1898) p. 175(2/251)
ألف ابن علقمة كتاباً في أمرها وحصارها (أي بلنسية) يبكي القارىء ويذهل العاقل "، ثم ينقل عنه قصة القاضي ابن جحاف (1). وكذلك ابن الخطيب فإنه يذكره في مقدمة " الإحاطة "، ضمن تواريخ المدن الخاصة (2). هذا وقد أثبت البحث الحديث أن التواريخ القشتالية المعاصرة واللاحقة، قد نقلت كثيراً مما ورد في تاريخ ابن علقمة، ولاسيما تاريخ ألفونسو العالم Cronica General عن السيد وعن حوادث بلنسية (3).
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 305 و 306.
(2) كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة ج 1 ص 91.
(3) يراجع في تاريخ السيد وحوادث بلنسية: البيان المغرب ج 3 ص 305 و 306، ونفح الطيب ج 2 ص 577، وأعمال الأعلام ص 203 و 204. والذخيرة، القسم الثالث، المخطوط، اللوحات 19 أإلى 26 ب. وكذلك: دوزي في كتابه المشار إليه: " Le Cid" و Recherches sur l'Histoire et Littérature d'Espagne au moyen Age. (V.II.App.I - XVIII) . وكتاب الأستاذ بيدال السابق ذكره، وهو مؤلف فخم في نحو ألف صفحة.
وأخيراً يراجع كتاب A.P.Ibars: Valencia Arabe ; Vol.I.p. 227-332(2/252)
الفصل الثالِث
إمارة شنتمرية الشرق
بنو رزين. نزولهم بأرض السهلة. كبيرهم هذيل بن عبد الملك. قيامه بشنتمرية وتلقبه بالحاجب عز الدولة. الخصومة بين هذيل ومنذر التجيبي. هذيل واتباعه لسياسة الحياد. صفاته وبذخه. جواريه وجلساته الفنية. وفاته وقيام ولده أبي عبد الملك مروان مكانه. تلقبه بالحاجب جبر الدولة. حكمه الطويل وصموده للحوادث. صفاته بين الذم والمديح. تأديته الجزية لألفونسو السادس. نكوله عقب موقعة الزلاقة. السيد يغير على أراضيه ويعيث فيها. اتفاقه مع السيد وعوده إلى دفع الجزية. ابن لبون صاحب مربيطر يلتجىء إلى حماية عبد الملك ويسلمه حصنه. شروط هذا التسليم ونكث عبد الملك بعهوده. مشاريع عبد الملك نحو بلنسية. إغارة السيد على أراضيه. خضوعه وعوده إلى دفع الجزية. صهره يحاول اغتياله. نجاته ثم وفاته. عبد الملك والشعر. يحيى بن عبد الملك الملقب بحسام الدولة. مصانعته لملك قشتالة وهديته إليه. استيلاء المرابطين على بلنسية. زحفهم نحو الثغر الأعلى. استيلاؤهم على شنتمرية الشرق وخلعهم لأميرها يحيى. انتهاء دولة بني رزين.
كانت هذه الإمارة الصغيرة - إمارة شنتمرية أوشنتمرية ابن رزين (1) - تقع في بسيط سهل خصيب من الأرض، يقع في جنوبي الثغر الأعلى، وفي شمال شرقي الثغر الأوسط، عند منابع نهر خالون فرع إبرة، وتحدها من الشرق سلسلة من الجبال تسمى بنفس الاسم، أى جبال بني رزين، وقد عرف بنو رَزين هؤلاء أصحاب شنتمرية الشرق، باسم جدهم الأعلى رزين البرنسي، أحد أكابر رجال البربر الداخلين إلى الأندلس في جيش طارق بن زياد، وهو ينتمي إلى هوارة إحدى بطون قبيلة البرانس البربرية الكبرى، وكان منزل بني رزين بقرطبة، ولجدهم رزين بها آثار كثيرة (2)، ثم نزحوا إلى الثغر، ونزلو بأراضي السهلة، وهي التي تتوسطها شنتمرية، واستقروا هنالك سادة وحكاماً.
ولما انتثر عقد الأندلس الكبرى إبان اضطرام الفتنة، تطلع كبيرهم يومئذ أبو محمد هذيل بن عبد الملك بن خلف بن لب بن رَزين المعروف بابن الأصلع
_______
(1) سميت شنتمرية الشرق تمييزاً لها من شنتمرية الغرب، وهي الواقعة في جنوب غربي ولاية الغرب الأندلسية على المحيط الأطلنطي، وتشغل مكانها اليوم مدينة فارو البرتغالية، وتعرف شنتمرية الشرق الإسبانية بمدينة Albarracin وهو تحريف لاسم بني رزين أمرائها أيام الطوائف.
(2) تاريخ ابن حيان - مخطوط مكتبة القرويين - لوحة 245 ب.(2/253)
إلى الاستقلال بما في يده من الأراضي، أسوة بما فعله جاره اسماعيل بن ذى النون، فأعلن استقلاله عن حكومة قرطبة، واستبد بحكم شنتمرية وأعمالها، وذلك في سنة 403 هـ (1012 م)، وتلقب بالحاجب عز الدولة. واعترف في نفس الوقت بطاعة الخليفة سليمان المستعين الاسمية، وقنع منه سليمان بذلك، وأقره على ما بيده من الأعمال، وحاول الحاجب منذر بن يحيى التجيبي صاحب الثغر الأعلى، أن يخضعه لصولته، أسوة بما تم له نحو بعض أصاغر أمراء الثغر، فأبى هذيل ووقف في سبيل أطماعه. واضطرمت بينهما الخصومة، وامتنع هذيل بعاصمته المنيعة، وتحالف مع الموالي العامريين أعداء منذر، واعترف معهم بدعوة هشام المخلوع، وقطع دعوة سليمان واستطاع بيقظته، وموقع بلده البعيد عن متناول العدوان، أن يجتنب عوامل الشر، وأن يسير في حكم إمارته آمناً مطمئناً.
وكان له في خصب أراضيه، وانتظام عمارتها، موارد طيبة للجباية، فكثرت أمواله، وغدا ينافس في ذلك جاره إسماعيل بن ذى النون، وكان مثله في طغيانه وصرامته، وشدة بخله، وكان يتبع سياسة الحيدة المطلقة، ولا يتدخل في أي نزاع أو حلف، مما ينساق إليه زملاؤه أمراء الطوائف، وقد استطاع بهذه الوسيلة أن يحافظ على سلام مملكته، واستطاع بالأخص أن ينجو من ضغط قشتالة ومطالبها في اقتضاء الجزية.
وكما أن الرواية تشيد بطغيان هذيل، وجبروته، وجهله وفظاظته، حتى زعموا أنه قتل والدته بيده، فهي كذلك تقدمه إلينا في صورة أخرى أكثر بهجة وإشراقاً، فتقول لنا إنه كان فتى بارع الجمال، حسن الخلق، جميل العشرة، ظاهر المروءة، لم ير في الأمراء أبهى منه منظراً، ثم تشيد بطلاقة لسانه، وحسن ْتوصله بالكلام إلى حاجته دون معرفة. وقد اشتهر هذيل بالأخص بحياته المترفة الناعمة، ورفيع ذوقه في الفنون، وشغفه باقتناء أجمل وأروع الجواري والقينات في عصره، حتى لقد ذكروا أنه اشترى جارية الطيب أبى عبد الله الكناني بعد أن أحجمت عنها الملوك لغلاء ثمنها، ودفع فيها ثلاثة آلاف دينار، وكانت وحيدة عصرها. وقد وصف لنا ابن حيان في تاريخه تلك القينة الشهيرة فقال: " لم ير في زمانها، أخف منها روحاً، ولا أسرع حركة، ولا ألين عطافاً،(2/254)
ولا أطيب صوتاً، ولا أحسن غناء، ولا أجود كتابة، ولا أبدع أدباً، ولا أحضر شاهداً، مع السلامة من اللحن في كتبها وغنائها، لمعرفتها بالنحو واللغة والعروض، إلى المعرفة بالطب وعلم الطبائع والتشريح وغير ذلك، مما يقصر عنه علماء الزمان، وكانت محسنة في صناعة الثقاف، والمجادلة بالتراس، واللعب بالرماح والسيوف أو الخناجر المرهفة، لم يسمع لها في ذلك بنظير " (1)، وكان هذيل يقتني أروع مجموعة في عصره من الجواري والقينات البارعات في الحسن، وفي الغناء والموسيقى، وكانت " ستارته " أعني جلساته الفنية أشهر ستائر ملوك الأندلس. وقيل عنه اجتمعت لديه منهن مائة وخمسون، وكان لديه من الوصفاء الصقالبة ستون وصيفاً، لم تجتمع عند أحد من نظائره. وكان إلى جانب ذلك، وافر الجود والكرم، فسيح الجناب للقصاد، وعلى الجملة فقد كان هذيل من أحب أمراء عصره إلى شعبه، وقد استمر في حكم إمارته الصغيرة ثلاثة وثلاثين عاماً، مرت كلها في أمن وسلام ورخاء، وتوفي بالسهلة في سنة 436 هـ (1045 م) (2).
فخلفه في الإمارة ولده أبو مروان عبد الملك بن هذيل بن رَزين، وكان في حياة أبيه يسمى حسام الدولة، وتلقب عند ولايته بذي الرياستين الحاجب جبر الدولة. وقد حكم أبو مروان مملكة شنتمرية الشرق زهاء ستين عاماً، وشهد طائفة كبيرة من الأحداث تجتاح هذه المنطقة، ولاسيما في الثغر الأعلى وفي مملكة بلنسية، وشاء حسن الطالع أن يصمد للأحداث، وأن يبقى في رياسته، بل أن يوسع نطاقها. وقد اختلف الرأي في تصوير أبي مروان وخلاله، فنرى معاصره ابن حيان، يحمل عليه بشدة، وفي عبارات لاذعة، ويقول لنا إنه " كان سيئة الدهر، وعار العصر، جاهلا لامتجاهلا، وخاملا لامتخاملا، قليل النباهة، شديد الإعجاب بنفسه، بعيد الذهبة بأمره، زارياً على أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعدها وسعيدها، أو الشعراء
_______
(1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 21 أوب و 22 أوب. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 181 - 184.
(2) راجع في أخبار هذيل بن رزين: الحلة السيراء (دوزي) ص 179 - 182، والبيان المغرب ج 3 ص 181 - 183، والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 88، وأعمال الأعلام ص 205 و206. وكلها مشتقة من أقوال ابن حيان على اختلاف في النقل والتلخيص.(2/255)
فجريرها وأسيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتاب فيه فبديع همذان، أو الخطابة فقس سحبان، أو النقد فقدامة العلم، أو العلم فليس منه ولا كرامة، خلي من المعارف، وشعره أهتف من كل هاتف " (1). هذا بينما يقدم لنا عنه ابن الأبار صورة أفضل، مما سمعه من الرواة، فيقول لنا " إن أبا مروان هذا كانت له نجدة وصرامة وإقدام، قرب جنده من نفسه، وتحبب إليهم، واختلط بهم، حتى كان لا يمتاز عنهم في مركب ولا ملبس، ووقائعه في الثغر مشهورة " (2).
ويغرق الفتح بن خاقان كعادته في مديحه ومديح دولته، ويقول لنا إنه كان منتهى فخار قومه، وقطب مدارهم، وإنه رجل " اتخذته البسالة قلباً، وضمت عليه شفافاً وخلباً، لا يعرف جبناً ولا خوراً، ولا يتلو غير سور الندى سوراً.
وكانت دولته موقف البيان، ومقذف الأعيان، ترتضع فيه المكارم أخلاف، وتدار بها للأماني سلاف ". إلى غير ذلك من العبارات الرنانة (3). ويشاطره ابن بسام بعض هذا المديح فيقول لنا إن أبا مروان " كان له طبع يدعوه فيجيب، ويرمي بغرة الصواب عن قوسه فيصيب، على ازدراء كان منه بالأمة، وقلة استجداء لمن عنى بالأخذ عنه من الأئمة ". ويزيد ابن بسام على ذلك أنه كان شاعراً مجيداً " (4).
ولم نعثر في مختلف المصادر، على كثير من التفاصيل، المتعلقة بأخبار عبد الملك بن هذيل وأعماله، خلال حكمه الطويل، وكل ما وقفنا عليه من ذلك يتلخص في أنه استمر في حكم مملكته، بعيداً عن الأحداث والعواصف التي هزت ممالك الطوائف الأخرى. بيد أنه اضطر عقب سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس في سنة 478 هـ، أن يؤدي له الجزية أسوة بسائر ممالك الطوائف فلما وقعت الهزيمة الساحقة على ألفونسو في الزلاّقة، في العام التالي، وهيض جناحه نوعاً، نكل عبد الملك عن دفع الجزية. وفي تلك الأثناء كانت أعمال السيد إلكمبيادور ومغامراته في منطقة بلنسية، تزعج سائر الإمارات الإسلامية
_______
(1) نقله ذيل البيان المغرب ج 3 ص 309.
(2) الحلة السيراء ص 185.
(3) قلائد العقيان ص 51.
(4) الذخيرة، ونقله البيان المغرب ج 3 ص 184.(2/256)
المجاورة. ونحن نعرف أن السيد سار إلى قشتالة ليسوي شئونه مع الملك ألفونسو السادس، وليحصل منه على حق فتح بلنسية، وأنه خرج من قشتالة في ربيع سنة 1089 م (482 هـ)، عائداً إلى شرقي الأندلس، ومعه سبعة آلاف مقاتل واخترق في طريقه أراضي السهلة (شنتمرية)، وعسكر في " كالاموشا " في شمالها الشرقي، ولبث حيناً في تلك الوديان النضرة، يجمع محاصيلها، وأقواتها.
ولما شعر أبو مروان بما يهدد مملكته من الخراب والإمحال، قصد بنفسه إلى معسكر السيد، واتفق معه على أن يتركه في سلام، على أن يؤدي الجزية للملك ألفونسو كما كان الشأن قبل موقعة الزلاّقة، وأن يدفع في الحال إلى السيد بصفته نائباً عن الملك مبلغ عشرة آلاف دينار. وعندئذ رفع السيد معسكره، وغادر أراضي السهلة إلى بلنسية (1).
ولما اشتدت وطأة السيد على بلنسية والأنحاء المجاورة لها، شعر القائد أبو عيسى بن لبّون صاحب مربيطر (ساجنتو)، أنه لا يستطيع الصمود لهذا الإرهاق، وأنف من مفاوضة السيد، وآثر أن ينتمي إلى حماية أبي مروان عبد الملك، وأن يسلمه حصنه، فقبل عبد الملك هذا العرض، وتعهد لابن لبون، بحمايته ورعايته وأن يجري عليه رزقاً كافياً، وتسلم منه حصن مربيطر في نوفمبر سنة 1092 م (أواخر 486 هـ)، ثم سار إلى السيد، وفاوضه في عقد المودة والإبقاء على الحصن، على أن تكون سائر الحصون الواقعة في أراضيه مفتوحة للبيع والشراء، وأن تقدم إلى جنود السيد ما يحتاجونه من المؤن، وسار ابن لبون بعد ذلك في أهله وأمواله صحبة عبد الملك إلى عاصمته ونزل في كنفه. بيد أنه لم يمض سوى قليل حتى تنكر له عبد الملك، وأخذ في مضايقته والتقتير عليه، وقاسى ابن لبون من ذلك حتى كره البقاء، ومما نظمه يومئذ في محنته:
نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عني فما في الحق أغتبن
من كسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار موتمن
أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن
وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا
ولما استولى عبد الملك على مربيطر، ورأى اضطراب الأحوال في بلنسية،
_______
(1) R.M.Pidal: La Espana del Cid ; P. 357-359(2/257)
ثابت له فكرة في محاولة الاستيلاء عليها، فنكل عن أداء الجزية المتفق عليها إلى السيد، وفاوض بيدرو (بطره) ملك أراجون في معاونته على تحقيق مشروعه، وعرض عليه مبلغاً كبيراً من المال، فلما وقف السيد على هذه التطورات انقض بقواته على أرض السهلة، وعاث فيها، وانتسف الزروع واستاق الماشية، وسبى جموعاً كبيرة، وبعث الجميع إلى " جُبالة " على مقربة من بلنسية حيث كان معسكره الرئيسي، وعندئذ اضطر عبد الملك مرة أخرى إلى الخضوع اجتناباً لهذا السيل المدمر، وصوناً لأراضيه ورعيته (1093 م - 486 هـ) (1).
وفي أواخر حكمه، وقد شاخ يومئذ، وقع عليه حادث اغتيال كاد يودي بحياته. وذلك أن صهره، زوج أخته، عبيد الله حاكم إذكون الواقعة شمال شرقي العاصمة، كان يضمر له الشر، ويود إزالته ليحكم مكانه، فدعاه ذات يوم إلى حفل عقده بحصنه، فحضر ومعه جماعة منهم ابن لبون، فلما تمكن الشراب من عبد الملك، وثب به عبيد الله وصحبه فطعنوه بسيوفهم، واتفق أن كانت أخته حاضرة، وهي زوج عبيد الله القاتل، فصعدت إلى شرفة عالية، وصاحت واقتيلاه، فهرع الناس إلى مكان الجريمة، وألفوا عبد الملك وقد أثخن جراحاً، وبه رمق، فأرادوا الفتك بقاتله، فأمرهم بالقبض فقط على عبيد الله وابنه، ثم برىء عبد الملك من جراحه، وخرج دميماً مشوهاً، فأمر بصهره فقطعت يداه ورجلاه، وسملت عيناه، ثم صلب، وقطعت رجل ابنه.
وتوفي عبد الملك بعد ذلك بقليل في سنة 496 هـ (1103 م) بعد أن حكم نحو ستين عاماً (2).
وكان عبد الملك بن رَزين ينظم الشعر، وكان حسبما يصفه ابن بسام شاعراً مجيداً، وهو وصف يأباه عليه ابن حيان، إذ يصف شعره بأنه " أهتف من كل هاتف ". ويقول لنا ابن الأبار " إن ضعيف منظومه أكثر من قويه ".
وكان على الرغم من أدبه وشعره، متعسفاً مع الشعراء مقصراً في إجازتهم. ومن نظمه في الفخر وهو ما يصفه ابن حيان بالسخف:
أنا ملك تجمع فيّ خمس ... هي للأنام محييٍ مميت
هي ذهن وحكمة ومضاء ... وكلام في وقته وسكوت
________
(1) R.M.Pidal ; ibid ; p. 453-455
(2) الحلة السيراء (دوزي) ص 185 و 186. والقاهرة ج 2 ص 114 و 115.(2/258)
وقوله:
يا رب ليل أطال الهجر مدته ... فأيأس القلب عن إدراك منتصفه
ليل تطاول حتى قد تبين لي ... عند التأمل أن الدهر من سدفه
وقوله في الغزل:
أترى الزمان يسرنا بتلاقي ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق
وتعض تفاح الخدود شفاهنا ... ونرى منى الإحداق بالأحداق
وتعود أنفسنا إلى أجسامها ... فلطالما شردت على الآفاق (1)
وخلف عبد الملك بن رزين ولده يحيى الملقب بحسام الدولة، وكان أميراً عاجزاً ضعيف العقل، مدمناً للشراب، وكان يسعى إلى مصانعة ملك قشتالة ألفونسو السادس، والتماس مودته، واجتناب سطوته، فبعث إليه بهدية حافلة من الحلي والخيل والبغال، ومختلف التحف النادرة، فكافأه عنها ألفونسو بأن بعث إليه قرداً هدية منه إليه. فكان يحيى لسخفه وسقم عقله، يفخر باقتناء هذا القرد، ويفخر بأن هاداه ملك قشتالة (2). والواقع أن مُلك بني رزين كان يدنو عندئذ من نهايته بسرعة. ذلك أن المرابطين كانوا قد اجتاحوا يومئذ شرقي الأندلس كله، وتوجوا سلطانهم في تلك المنطقة بالاستيلاء على بلنسية في شعبان سنة 495 هـ (1102 م)، وأخذوا يضعون خططهم للاستيلاء على قواعد الثغر الأعلى. وكان عبد الملك بن رزين. قد أعلن قبيل وفاته طاعته لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين (3)، ولكن هذا الاعتراف لم يكن كافياً لتحقيق خطة المرابطين في القضاء على سائر دول الطوائف. ومن ثم فقد تابع المرابطون زحفهم نحو الشمال، وفي اليوم الثامن من رجب سنة 497 هـ (إبريل 1104 م) دخل المرابطون مدينة شنتمرية، وخلعوا أميرها يحيى بن عبد الملك بن رزين، وانتهت بذلك دولة بني رزين الصغيرة بعد أن عاشت زهاء تسعين عاماً، ولم يبق من بعدها من دول الطوائف العديدة سوى مملكة سرقسطة، وقد كانت هي الأخرى تدنو سراعاً من الخاتمة المحتومة.
_______
(1) راجع الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 21 أوب، والحلة السيراء ص 182 و183، والبيان المغرب ج 3 ص 184 و 309 و 310، وقلائد العقيان ص 53 - 56، وقد ورد بها الكثير من شعر ابن رزين.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 311. وينسب دوزي هذه الواقعة إلى عبد الملك بن هذيل، ويقول لنا إنه حمل هديته بنفسه إلى ألفونسو وهو مشرف على أخذ طليطلة: Hist.V.III.p. 121
(3) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 182. والقاهرة ج 2 ص 110.(2/259)
الفصل الرابع
إمارة ألبونت
ألبونت وموقعها. قيام عبد الله بن قاسم بها. انضواؤه تحت لواء الخلافة الأموية. إيواؤه للمرتضي وأخيه المعتد بالله قبل توليهما للخلافة. وفاة عبد الله وقيام ولده محمد مكانه. تلقبه بيمن الدولة. ولده أحمد بن محمد الملقب بعز الدولة. وفاته وولاية ولده الطفل. خلع الأمير الطفل وولاية عمه عبد الله بن محمد. حكمه الطويل. زحف السيد على ألبونت. خضوع عبد الله واعترافه بطاعة ملك قشتالة وأداؤه الجزية. استيلاء المرابطين على ألبونت. عبد الله بن محمد ومواهبه الأدبية والشعرية.
على مقربة من شنتمرية الشرق، وإلى الجنوب الشرقي منها، كانت تقع إمارة صغيرة أخرى من إمارات الطوائف، هي إمارة ألبونت أو ألبنت.
وتقع مدينة ألبونت (1) هذه، في وسط الطريق بين قسطلونة وقونقة، على مقربة من نهر طورية في حمى الجبال. وقد قام بها منذ بداية الفتنة عبد الله بن قاسم الفهري، وهو من زعماء البيوت العربية في تلك المنطقة، فحكمها واستقل بها وبما حولها من الأراضي. وقد كان بنو قاسم هؤلاء من نسل عبد الملك بن قطن الفهري، الذي ولى إمارة الأندلس عقب موقعة بلاط الشهداء، ومقتل أمير الأندلس عبد الرحمن الغافقي، وذلك في أواخر سنة 114 هـ (732 م) (2).
ولم يشترك عبد الله في شىء من الحوادث، التي كانت تجري يومئذ، في شرقي الأندلس أو جنوبه، نظراً لبعد إمارته عن مصرح الحوادث. بيد أنه كان من أنصار الخلافة الأموية، يعترف بطاعتها ويدعو لها، مع طائفة الفتيان العامريين.
وكانت بلدة ألبونت منزل عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الناصر، وأخيه هشام، يعيشان في كنفه، وتحت رعايته، ومن ألبونت خرج عبد الرحمن حينما رشحه خيران وزملاؤه الفتيان العامريون للخلافة، باسم المرتضي. ولما قتل المرتضي في المعركة التي نشبت بين أنصاره، وبين البربر أمام غرناطة، في سنة 409 هـ، لجأ أخوه هشام إلى حماية عبد الله بن قاسم، ولبث في ألبونت
_______
(1) وهي بالإسبانية Alpuente
(2) المقري نقلا عن الحجاري في نفح الطيب ج 2 ص 58.(2/260)
حتى اختاره أهل قرطبة للخلافة، وذلك في ربيع الآخر سنة 418 هـ، وعندئذ تلقب بالمعتد بالله، ولبث مقيماً في ألبونت مدة عامين وسبعة أشهر، وهو يخطب له في قرطبة. ثم سار بعدئذ إلى قرطبة، ودخلها في ذي الحجة سنة 420 هـ، حيث جددت له البيعة، واستمر في كرسي الخلافة عامين آخرين (1).
واستمر عبد الله بن قاسم في حكم إمارته الصغيرة، حتى توفي سنة 421 هـ (1030 م)، فخلفه ولده محمد بن عبد الله الملقب بيمن الدولة، وحكم ألبونت زهاء اثنتى عشرة عاماً. ولم تدون لنا الرواية أية حوادث وقعت في عهده.
ولما توفي في سنة 434 هـ (1042 م)، خلفه في الحكم ولده أحمد بن محمد بن عبد الله الملقب بعز الدولة، وحكم حتى وفاته في سنة 440 هـ (1048 م)، فأقام بعض أصحابه للحكم مكانه ولده الطفل محمداً، وكان في نحو السابعة من عمره، وقام بالوصاية عليه جده لأمه المدعو قاسم، وهو الذي دبر ولاية الأمير الطفل. ولكن هذا العمل لم يرق في نظر عبد الله بن محمد عم الأمير الطفل، وأخى والده أحمد، وكان يرى نفسه أحق بالولاية، وتؤازره في ذلك جماعة قوية من الأنصار، فدبروا أمرهم ووثبوا بالوصي قاسم واعتقلوه، وصرف الأمير الصبي إلى حجر أمه، ولما يمض على حكمه بضعة أشهر، وتسلم عبد الله مقاليد الحكم وتلقب بجناح الدولة، أو نظام الدولة وفقاً لرواية أخرى، وتزوج من والدة الصبي أرملة أخيه اتقاء لأطماعها ودسائسها، وسار في حكم الإمارة دون منازع.
واستمر عبد الله بن محمد في حكم إمارة البونت أكثر من أربعين عاماً، ولم تقع في عهده الطويل حوادث ذات شأن، إلا حينما غدت هذه المنطقة كلها فريسة لعدوان السيد إلكمبيادور ومغامراته، حسبما فصلنا ذلك من قبل في تاريخ مملكة بلنسية. ففي سنة 482 هـ (1089 م) زحف السيد بقواته على إمارة ألبونت وعاث فيها وخرب أراضيها، واضطر صاحبها عبد الله بن محمد إلى الاعتراف بطاعة ملك قشتالة، وإلى أن يؤدي جزية قدرها عشرة آلاف دينار، وذلك أسوة بما فرض على جاره أبي مروان بن زرين صاحب شنتمرية الشرق.
ولما استولى المرابطون على بلنسية في سنة 495 هـ (1102 م)، استولوا
_______
(1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 127 و 145.(2/261)
بسرعة على معظم القواعد والحصون الواقعة في تلك المنطقة، ومنها ألبونت. وفي رواية أخرى أن آل قاسم أصحاب ألبونت استمروا في حكمها حتى سنة 500 هـ (1106 م) (1). ولكن الرواية الأولى أرجح فيما يبدو، لأن المرابطين استولوا على شنتمرية الشرق في سنة 497 هـ، وأغلب الظن أنهم استولوا قبل ذلك على ألبونت الواقعة في جنوبها، وذلك في سنة 496 هـ (1103 م) (2).
وكان الأمير عبد الله بن محمد قاسم أديباً شاعراً جيد النثر والنظم، وقد أورد له الحجاري صاحب " المسهب " هذه الأبيات:
خلعت عن الملك لكنني ... عن الصبر والمجد لا أخلع
رماني الزمان بأرزائه ... وغيري من خطبه يجزع
فليس فؤادي بالملتظى ... ولا مقلتي حسرة تدمع
ولي أمل ليته لم يكن ... فكم ذا يغر وكم يخدع
ومن قوله من قصيدة:
أما لكل نبيه في العلا حيل ... تفضي الحقوق بها والمرء منقبض
كن كيف شئت فمن دأبي محافظة ... على الذمام وعهد ليس ينتقض
وهمة لم تضق ذرعاً بحادثة ... إن الكريم على العلات ينتهض
والحر حر وصنع الله منتظر ... والذكر يبقى وعمر المرء ينقرض (3)
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 215.
(2) راجع في أخبار إمارة ألبونت: البيان المغرب ج 3 ص 127 و 145 و 215، وأعمال الأعلام ص 208. وكذلك: R.M.Pidal ; ibid.p. 360 & 448
(3) راجع في رسائل عبد الله وقصائده: قلائد العقيان ص 127 - 132؛ والمغرب في حلي المغرب ج 2 ص 396 - 398.(2/262)
الكتاب الخامِس
دول الطوائف في الثغر الأعلى(2/263)
الفصْل الأوّل
مملكة سرقسطة حتى نهاية عصر المقتدر بن هود
1 - عهد بني تجيب
مملكة سرقسطة أو الثغر الأعلى. بنو تجيب وتغلبهم عليه. مؤامرة عبد الرحمن التجيبي ضد المنصور وفشلها. ولده يحيى. المنذر بن يحيى وإمارته للثغر. تأييده للخلافة الأموية. محاربته مع الفتيان العامريين. تدخله في حوادث بلنسية. مسالمته للملوك النصارى. بذخه وأبهته، مديح ابن دراج له. ولده يحيى. منذر بن يحيى الحاجب. مصرعه على يد سليمان بن حكيم. الفتنة في سرقسطة. سليمان بن هود. استيلاؤه على سرقسطة وبداية عهد بني هود. تلقبه بالمستعين. حروبه مع المأمون بن ذى النون. استغاثته بملك قشتالة. استعانة المأمون بملك نافار. تفاقم العدوان بين الفريقين. وفاة المستعين. تقسيمه لمملكته بين أولاده. الحرب الأهلية بينهم. أحمد بن هود المقتدر. الصراع بينه وبين أخيه المظفر. كمينه لقوات أخيه وفتكه بها. إستيلاء المقتدر على طرطوشة. طرطوشة تحت حكم الفتيان العامريين. غزوة النورمانيين لبربشتر. أصل هذه الحملة وظروفها. صفتها الصليبية. حصار النورمانيين لبربشتر واقتحامهم لها. فظائع النورمانيين وفتكهم بأهلها. رواية ابن حيان. فداحة الغنائم والسبايا. تأملات ابن حيان عن الحادث. نظراته وتكهناته البعيدة. صدى النكبة في الأندلس. نهوض المقتدر لاسترداد بربشتر وتقاطر المجاهدين إليها. استيلاء المقتدر على المدينة. الفتك بالنصارى وإبادتهم. إعتداء فرناندو ملك قشتالة على أعمال سرقسطة. خضوع المقتدر لأداء الجزية. المقتدر وعلاقته بالملوك النصارى. استعانته بهم. مشاريعه العسكرية. المقتدر وأخوه يوسف المظفر. السيد إلكمبيادور في خدمة المقتدر. استيلاء المقتدر على مملكة دانية. وفاة المقتدر. تقسيمه للمملكة بين ولديه. صفات المقتدر بن هود وخلاله. شغفه بالعلوم الرياضية. فخامة بلاطه. إنشاؤه لقصر الجعفرية ومجلس الذهب.
كانت مملكة سرقسطة أو الثغر الأعلى أعظم ممالك الطوائف وأهمها، ليس فقط بضخامة رقعتها، ولكن كذلك بموقعها الدقيق الخطر، بين الدول الإسبانية النصرانية، بين قطلونية من الشرق، ونافارا أو نبرّه من الشمال الغربي، وقشتالة من الجنوب والغرب، وكانت في الوقت نفسه أقدم الدول الأندلسية المستقلة، وأرسخها جذوراً في الاستقلال. ذلك أنها كانت بموقعها المنعزل النائي في شمال شرقي الجزيرة، وابتعادها بذلك عن مجموعة الدول الأندلسية(2/264)
الأخرى، تضطر دائماً إلى مضاعفة الجهود للذود عن حياتها، والدفاع عن استقلالها ضد مختلف الأطماع المضطرمة من حولها.
وكانت مملكة سرقسطة، قبل اضطرام الفتنة وانهيار الخلافة، وقبل أن تنتظم في سلك ممالك الطوائف، تعرف بولاية الثغر الأعلى، وهو يشمل في الجغرافية الأندلسية، مدينة سرقسطة وأعمالها، تطيلة، ووشقة، وبربشتر، ولاردة، وأفراغة، وطرّكونة، وطرطوشة، ويشغل المنطقة الواسعة الخصبة التي يخترقها نهر إيبرو (إبرُه) من مصبه عند مدينة طرطوشة، حتى مدخله عند مدينة قلهرّة في ولاية نافار، ويخترقها فرعه الشمالي الكبير نهر سجري والأفرع الصغيرة الممتدة منه نحو بربشتر ووشقة، وفرعه الجنوبي خالون حتى قلعة أيوب ودَروقة: ففي هذه المنطقة الشاسعة التي تكثر فيها الوديان اليانعة والمواقع الاستراتيجية، كانت تقوم مملكة سرقسطة مكان ولاية الثغر الأعلى القديمة، مشتملة على سائر نواحيها.
وقد لبثت ولاية الثغر الأعلى خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) مسرحاً لمغامرات بني قسيّ زعماء الثغر المولدين، حسبما فصلنا ذلك في مواضعه من العصر الأول (1).
وفي أواخر هذا القرن، في عهد الأمير عبد الله بن محمد، استطاع بنو تجيب أصحاب دروقة وقلعة أيوب من أعمال الثغر الجنوبية، الاستيلاء على مدينة سرقسطة، وذلك على يد زعيمهم أبي يحيى محمد بن عبد الرحمن التجيبي المعروف بالأنقر. وأقره الأمير عبد الله على حكم سرقسطة وأعمالها اكتساباً لولائه، وكان بنو تجيب هؤلاء من زعماء البيوتات العربية العريقة في الثغر، واستمر بنو تجيب في سرقسطة، والمنتزون من زعماء المولدين في باقي قواعد الثغر مثل تطيلة ووشقة، أحياناً على ولائهم لحكومة قرطبة، وأحياناً يخرجون على طاعتها، حتى استطاع الناصر أن يقضي على ثوراتهم، وأن يرغمهم على الخضوع والطاعة، بيد أنه عفا عن بني تجيب، ورد زعيمهم محمد ابن هشام التجيبي إلى منصبه حاكماً لسرقسطة، لما كان يتمتع به من مقدرة إدارية، ولما كان لبني تجيب في الشمال من العصبة والأنصار.
_______
(1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " (العصر الأول).(2/265)
وفي أيام المنصور بن أبي عامر، شعر بنو تجيب بما يهدد سيادتهم في الثغر من اتجاه المنصور إلى القضاء على سلطان الأسر العربية، وزعامتها المحلية، فحاول زعيمهم يومئذ وهو عبد الرحمن بن مطرِّف التجيبي، صاحب سرقسطة أن يسعى إلى إزالة المنصور بالتآمر مع ولده عبد الله. وقد فصلنا أخبار هذه المؤامرة فيما تقدم من أخبار الدولة العامرية (1)، وبينا كيف استطاع المنصور أن يقبض على عبد الرحمن التجيبي، وعلى عبد الله، ثم قضى بإعدامهما، بيد أنه مع ذلك ندب لحكم سرقسطة، يحيى بن عبد الرحمن التجيبي استبقاء لولاء الأسرة جرياً على سياسة أسلافه، وذلك في سنة 379 هـ (989 م).
واستمر يحيى التجيبي في حكم سرقسطة وأعمالها حتى وفاته في سنة 408 هـ (1017 م)، وشهد قبل وفاته اضطرام الفتنة، وانهيار الخلافة، وتمزق الأندلس، وكان جل عنايته في تلك الآونة العصيبة أن يحافظ على بلاده من عدوان النصارى، وأن يوطد سلطانه في مملكته النائية المنعزلة عن مسرح الحوادث. ولما توفي، خلفه ولده المنذر بن يحيى التجيبي.
ويمكننا أن نعتبر المنذر بن يحيى التجيبي أول أمير للثغر في عهد الطوائف.
حكم سرقسطة وأعمالها، وتسمى بالحاجب ذي الرياستين، وتلقب من الألقاب السلطانية بالمنصور، ولما تطورت الحوادث في قرطبة ودخلها علي بن حمود بحجة إنقاذ الخليفة هشام المؤيد، ودعا لنفسه بالخلافة، كان المنذر بن يحيى إلى جانب خيران وزملائه الفتيان العامريين في معارضته ومقاومته. ولما رشح هؤلاء للخلافة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الناصر، وتلقب بالمرتضي، وساروا معه هم وأنصارهم في قواتهم لمقاتلة البربر، وخلع علي بن حمود، سار معهم المنذر بن يحيى في بعض قواته، ومعه فرقة من المرتزقة النصارى بقيادة حليفه الكونت رامون أمير برشلونة، وكان من ضباطه في تلك الحملة رجل كان له فيما بعد أكبر شأن في تطور الحوادث في الثغر الأعلى هو سليمان بن هود.
ونحن نعرف ما أسفرت عنه المعركة التي اضطرمت يومئذ في ظاهر غرناطة بين القوات الأندلسية، وجيش البربر بقيادة زاوي بن زيري الصنهاجي، وكيف
_______
(1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " (العصر الأول).(2/266)
انتهت بهزيمة أهل الأندلس، ومقتل مرشحهم الخليفة المرتضي (409 هـ - 1018 م) (1).
وعاد المنذر وحلفاؤه النصارى إلى الشمال، وقد أيقن أنه يؤازر قضية خاسرة، وكانت حوادث بلنسية تؤذن يومئذ بأن تفتح ميداناً جديداً لنشاط المنذر.
ذلك أنه لما توفي أميرها الفتى مبارك في أواخر سنة 408 هـ، وخلفه في حكمها الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة بدعوة من أهلها، ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري صاحب دانية حسبما فصلنا ذلك في موضعه، عاد أهل بلنسية فسخطوا على لبيب، لوقوعه تحت نفوذ صاحب برشلونة الكونت رامون برنجير، وإفساحه له مجال التدخل في شئونها بصورة ظاهرة، وثاروا عليه، ففر لبيب إلى طرطوشة، واستمر مجاهد في حكم المدينة بالإضافة لحكم دانية.
ولكن أهل بلنسية لم يقنعوا بذلك، واستدعوا لحكم المدينة المنذر بن يحيى، فسار في بعض قواته صوب بلنسية، واستعد مجاهد للقائه، ووقعت بينهما بعض معارك خشى الناس عواقبها، ولم ينقذ ذلك الموقف إلا ما عمد إليه الفتيان العامريون من الاجتماع، وعقد البيعة لحفيد مولاهم عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن المنصور، وتعيينه أميراً لبلنسية، وذلك في سنة 411 هـ (1021م) وعندئذ انسحب مجاهد إلى دانية، وعاد المنذر إلى سرقسطة (2).
واستمر المنذر في حكم مملكة سرقسطة ثلاثة أعوام أخر حتى توفي في سنة 414 هـ (1023 م). وكانت تربط المنذر بجيرانه الأمراء النصارى، ولاسيما رامون بوريل أمير برشلونة علائق مودة وثيقة، وكذلك كانت تربطه مثل هذه العلائق بسانشو الكبير (شانجه) ملك نافار وولده فرناندو الأول ملك قشتالة، وألفونسو الخامس ملك ليون. وقد بالغ المنذر فيما يبدو في صداقته لأولئك الملوك النصارى، حتى أنه نظم في قصره بسرقسطة، حفلا لعقد المصاهرة بين أميرين من أولئك الأمراء، هما سانشو ملك نافار ورامون بوريل أمير برشلونة، حضره الفقهاء والقساوسة وأعيان الملتين، فسخط عليه الناس من أجل ذلك، ورموه بألسنة حداد، بيد أنه قد حقق بهذه السياسة لنفسه مسالمة
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 126 و 127. وراجع Dozy: Hist.V.II.p 315-318
(2) البيان المغرب ج 3 ص 163 و 164.(2/267)
أولئك الملوك النصارى، وكف عاديتهم عن بلاده، بل لقد استطاع أن يحملهم على اتباع سياسة الموادعة والسلم مع جيرانهم من الملوك المسلمين. ومن ثم فقد تمتعت سرقسطة في عهده القصير بفترة من الدعة والرخاء، وغدت باتساع عمرانها وتقدم أحوالها، شبيهة بحضرة قرطبة الكبرى أيام الجماعة، وأدرك الناس بعد وفاته، بعد نظره وحسن تقديره للعواقب (1).
وكان المنذر فوق ذلك يعشق الأبهة والبذخ، فملأ قصره الفخم بالجواري والغلمان والحشم، ونفيس الذخائر والتحف، وكان يتحف أصدقاءه ملوك النصارى بالهدايا الفاخرة، ويؤكد بذلك مودتهم ورضاهم وكان بين وزرائه بعض أكابر كتاب العصر، مثل أبى العباس بن مروس من تدمير، وأبى عامر ابن أزرق، وابن واجب وغيرهم.
وأنشأ شاعر العصر أبو عمر بن درّاج القسطلي في مديح المنذر حينما وفد عليه قصيدته المشهورة التي مطلعها:
ْبشراك من طول الترحل والسُّرى ... صبح بروح السَّفر لاح فأسفرا
من حاجب الشمس الذي حجب الدجى ... فجرا بأنهار الندى متفجرا
ومنها:
فلئن تركت الليل فوقي داجياً ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
وحللت أرضاً بُدلت حصباؤها ... ذهباً يرف لناظريّ وجوهرا
ضربوا قِداحهم عليّ ففاز بي ... من كان بالقِدْح المعلّى أجدرا (2)
ولما توفي المنذر، خلفه ولده يحيى، وتلقب بالمظفر، وحكم سرقسطة وأعمالها بضعة أعوام أخرى، وتوفي سنة 420 هـ (1029 م). والظاهر أنه لم يحكم سياسة الصداقة التي كان يتبعها أبوه مع جيرانه أمراء برشلونة، حيث أغار صاحبها الكونت رامون بوريل على بعض أطراف مملكته، واضطر أن ينزل له عن بعض القلاع والحصون.
وخلفه في الملك ولده المنذر بن يحيى، وتلقب بالحاجب معز الدولة.
ولسنا نعرف شيئاً عن أعمال هذا الأمير في المدة التي حكمها، وهي نحو عشرة
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 176 و 177، وابن خلدون ج 4 ص 163. وراجع دوزي Recherches, V.I.App.XIV & XVII
(2) وهي قصيدة طويلة رائعة. وقد وردت في ديوان ابن دراج الذي سبقت الإشارة إليه ص 124 - 130. وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة منها مقتطفات طويلة (الذخيرة - القسم الأول المجلد الأول - ص 56 - 58).(2/268)
أعوام. بيد أن لدينا تفاصيل مقتله، وذهاب ملك بني تجيب على يده. وكان ذلك في غرة ذي الحجة سنة 430 هـ (أغسطس 1039 م) حينما نفذ إلى قصره في ذلك اليوم رجل من بني عمومته وقواده يدعى عبد الله بن حكيم، جاء بزعم السلام عليه، وكان يضمر له السوء منذ بعيد. وكان المنذر يجلس بين نفر قليل من خدمه الصقالبة، وليس عليه إلا غلالة، وهو يقرأ في كتاب في يده، فانقض عليه وطعنه في عنقه بسكين كان قد أعده، فقطع أوداجه، وفر الخدم في الحال ولم يبق منهم إلا خادم واحد شهم حاول الدفاع عن سيده، فصرعه عبد الله بخنجره ثم أجهز على منذر، واحتز رأسه، وأبرزها من غرفة في القصر مرفوعة على عصا، وهو يصيح هذا جزاء من عصى أمير المؤمنين هشاماً، يريد بذلك الدّعي الذي نصبه القاضي ابن عباد في إشبيلية، وزعم أنه الخليفة هشاماً المؤيد، وذلك في سنة 426 هـ (1035 م)، واعترف بخلافته عدد من أمراء الطوائف، ورفض يحيى التجيبي يومئذ الاعتراف به، وتابعه في ذلك ولده المنذر. ولما شهد الناس رأس منذر بهتوا وعقد الذعر ألسنتهم، وأرسل القاتل في الحال إلى القاضي والأعيان، فحضروا إلى القصر والقاتل جالس على فراش قتيله، وجثة منذر مضرجة بدمائها ملقاة إلى جانبه، فأعلن لهم أنه فعل ما فعل في سبيل الإصلاح العام، ودعا بالحكم لسليمان بن هود، وقيل بل دعا لنفسه واختاره بنو عمه للولاية فانصرف الناس، وقد بيتوا القضاء عليه.
وفي تلك الأثناء كان نبأ مصرع المنذر بن يحيى التجيبي قد ذاع في كل مكان، وهرع خاله إسماعيل بن ذى النون صاحب طليطلة إلى سرقسطة لتدارك الأمر، واشتد الهرج في سرقسطة، وكادت تعصف بها الفتنة، وهجم الناس على القصر لانتزاع القاتل ومعاقبته، فتحصن بالقصبة، وصمم على الدفاع عن نفسه، بيد أنه لما أيقن أنه سوف يقع في أيدي مهاجميه لا محالة، جمع ما استطاع من ذخائر القصر وتحفه، وخرج هارباً من باب خلفي في القصر، ولحق بقلعة روطة أحد معاقل سرقسطة المنيعة، وكان قد أعدها لذلك بمعاونة نفر من صحبه، وحمل معه في نفس الوقت أخوين للمنذر، وبعض أعيان منهم وزيره أبو المغيرة بن حزم، في الأصفاد ليكونوا رهائن لديه، واقتحم العامة قصر سرقسطة ونهبوه وخربوه، وعم الهرج والفوضى.(2/269)
وفي تلك الآونة ظهر في الميدان رجل، كانت تدخره الأقدار ليقمع الفتنة، وينتزع مقاليد الحكم. ذلك الرجل هو أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجذامي، وهو كبني تجيب ينتمي إلى بيت عربي عريق، وجدهم الأعلى هو هود وهو الداخل إلى الأندلس وينتسب إلى الأزد. وكان سليمان وقت وقوع الفتنة من كبار الجند بالثغر الأعلى، فغلب على مدينة لاردة، وقتل صاحبها يومئذ، وهو أبو المطرِّف التجيبي، ثم غلب على تُطيلة من أطراف الثغر، وكان بها في جمع من صحبه وقت مقتل المنذر التجيبي، فلما وقف على ما حدث بسرقسطة، هرع إليها في صحبه، وقيل بل كان وقت وقوع الحادث بمدينة لاردة، وأن أهل سرقسطة هم الذين استدعوه للحضور. ويقدم لنا ابن خلدون رواية أخرى خلاصتها أن سليمان بن هود هو الذي ارتكب جريمة سرقسطة، وأن الملك القتيل لم يكن هو المنذر معز الدولة، وإنما كان أبوه يحيى المظفر، وهو الذي كان يحكم يومئذ، ويضع تاريخ هذا الحادث في سنة 431 هـ (1).
ولم يذكر ابن الخطيب واقعة القتل، ويقول لنا إن أهل سرقسطة هم الذين ثاروا بيحيى بن المنذر بن يحيى، وصرفوا طاعتها إلى سليمان بن هود (2). بيد أن هاتين الروايتين تنقضهما رواية ابن حيان المعاصرة، وهي التي اتبعناها فيما تقدم، وهي رواية يؤيدها صاحب البيان المغرب (3).
وعلى أي حال فقد هرع سليمان بن هود في صحبه إلى سرقسطة، واستولى عليها في غرة المحرم سنة 431 هـ (23 سبتمبر سنة 1039 م) وسواء أكان استيلاؤه عليها نتيجة لدعوة أهلها، واختيارهم إياه لولايتها، أم كان عملا من أعمال القوة وهو الأرجح، فإن الواقع أنه استولى على مقاليد الحكم دون منازع، وبذلك انتهت رياسة التجيبيين للثغر الأعلى، بعد أن لبثت زهاء قرن ونصف، وبدأت في سرقسطة والثغر الأعلى رياسة أسرة جديدة هي أسرة بني هود، التي يخصها ابن الأبار دون غيرها من أسر الطوائف، بغلبة الشجاعة والشهامة عليها (4).
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 163.
(2) أعمال الأعلام ص 170.
(3) راجع رواية ابن حيان مفصلة في البيان المغرب ج 3 ص 178 - 181، وقد عاد صاحب البيان فأورد رواية مماثلة: ج 3 ص 221 و 222.
(4) الحلة السيراء (دوزي) ص 224. والقاهرة ج 2 ص 246.(2/270)
والتي لعبت في عصر الطوائف، ولاسيما في حوادث الثغر الأعلى وشرقي الأندلس، أعظم دور.
2 - عهد بني هود
جلس سليمان بن محمد بن هود على عرش سرقسطة في غرة المحرم سنة 431 هـ وحكم الثغر الأعلى ما عدا طرطوشة، التي كانت بيد بعض الفتيان العامريين، واتخذ من الألقاب السلطانية لقب المستعين بالله، وظهر منذ البداية بقوة عزمه وشدة بأسه، فاشتهر أمره، وتوطد ملكه بسرعة، واستمر في حكم مملكته الجديدة ثمانية أعوام. وكان أهم ما وقع فيها حروبه مع المأمون بن ذى النون.
وكانت المنطقة الواقعة بين المملكتين، من ناحية الجنوب الغربي من مملكة سرقسطة وناحية الشمال الشرقي من مملكة طليطلة، موضع الاحتكاك بين الفريقين. وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن بني ذى النون كانوا خؤولة للمنذر بن يحيى آخر أمراء سرقسطة من بني تجيب، وهو الذي احتل سليمان بن هود عرشه، فكان ذلك عاملا آخر في اشتداد هذه الخصومة. ووقعت المعارك بين الطرفين أولا حول مدينة وادي الحجارة، وقد كانت من أعمال طليطلة، فبعث إليها سليمان بن هود ولده أحمد في جيش قوي فنازلها واحتلها، وذلك في سنة 436 هـ (1044 م)، وهرع إليها المأمون بن ذى النون في قواته، ونشبت بين الجيشين معارك هزم فيها ابن ذى النون، فارتد في قواته إلى طلبيرة، وابن هود يطارده، ويشدد الضغط عليه، ولم ينج المأمون من هذا المأزق إلا حينما أمر سليمان ولده أحمد بتركه وشأنه.
وقد فصلنا فيما تقدم من أخبار مملكة طليطلة حوادث هذا النزاع، وبينا كيف لجأ المأمون على أثر هزيمته إلى فرناندو الأول ملك قشتالة، فاستغاث به واعترف بطاعته، وكيف أمده فرناندو بجنده، فعاثت في أراضي مملكة سرقسطة وخربتها، وعندئذ التجأ ابن هود بدوره إلى الاستعانة بملك قشتالة، وبذل له أموالا وتحفاً جليلة، فبعث فرناندو جنوده فعاثت في أراضي طليطلة حتى وادي الحجارة وقلعة النهر (قلعة هنارس). ورد المأمون على ذلك بأن التجأ إلى غرسية ملك نافار واستماله بالأموال الجليلة، فأغار على أراضي مملكة سرقسطة المجاورة له ورد ملك قشتالة على ذلك بالإغارة على أراضي طليطلة مرة أخرى. وهكذا تفاقمت هذه الحرب الأهلية المدمرة بين ابن هود والمأمون " الأميرين المشئومين(2/271)
على المسلمين " وفقاً لقول ابن حيان، وضج لها سائر أهل الأندلس. واستمر ملكا قشتالة، ونافار، يعملان بكل ما وسعا على إذكاء هذه الفتنة، فيغير الأول على أراضي طليطلة لحساب ابن هود، ويغير الثاني على أراضي سرقسطة لحساب ابن ذى النون.، ولم تخمد هذه المعركة الانتحارية بين الأميرين المسلمين إلا بوفاة ابن هود وذلك في سنة 438 هـ (1046 م)، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل (1).
وقسم سليمان بن هود قبيل وفاته أعمال مملكته بين أولاده الخمسة، فاختص أحمد بولاية سرقسطة عاصمة المملكة، ويوسف بولاية لاردة، ولب بولاية وشقة، والمنذر بولاية تُطيلة، ومحمد بولاية قلعة أيوب (2)، واستقل كل بحكم مدينته وأعمالها. بيد أن تقسيم المملكة على هذا النحو لم يكن عملا سليماً، وكان بالعكس نذيراً بالخلاف والحرب الأهلية. وكان أحمد صاحب سرقسطة وهو الملقب بالمقتدر من بين إخوته الخمسة أشدهم أطماعاً، وأنشطهم سعياً إلى انتزاع ما في أيديهم. وقد استطاع بالفعل أن يحتال على ثلاثة من أخوته بالوعيد والختل، وهم ْلب صاحب وشقة، والمنذر صاحب تُطيلة، ومحمد صاحب قلعة أيوب، وأن يستولي على مدنهم، ثم سجنهم، وبلغت به القسوة أن سمل أعينهم. بيد أن أخاه يوسف صاحب لاردة، وهو الملقب بحسام الدولة وبالمظفر، كان له نداً، وكان بطلا شهماً، وهو الذي استطاع وحده أن يقف في سبيل أطماعه، وأن يحبط محاولاته ودسائسه.
وهنا وقعت الحرب الأهلية بين الأخوين، وكان أهل الثغر حينما رأوا ما صنعه أحمد بأخوته، وما لجأ إليه من الوسائل الغاشمة في اغتصاب ولاياتهم، قد سخطوا عليه ونادوا بخلعه، وخرجت معظم القواعد عن طاعته، وانضمت إلى أخيه، ولم يتبق له سوى سرقسطة. فأخذ يرقب فرصة للتنكيل بأخيه، وسنحت هذه الفرصة غير بعيد. ذلك أن مدينة تطيلة، وهي من القواعد التي انضمت إلى يوسف المظفر، دهمتها المجاعة والغلاء، فاستغاث به أهلها، فدعا أهل الثغور إلى جمع الأطعمة والمؤن، فاجتمع منها قدر عظيم، ورأى يوسف
_______
(1) راجع في أدوار تلك المعركة البيان المغرب ج 3 ص 277 - 283، وأعمال الأعلام ص 178. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. 74 & 75
(2) تسمى وشقة بالإسبانية Huesca، وتطيلة Tudela، وقلعة أيوب Calatayud(2/272)
أنه لا يستطيع إرسال هذه الأمداد إلى تطيلة عن طريق سرقسطة خوفاً من غدر أخيه، ففاوض غرسية ملك نافار، وبعث إليه مالا لكي يسمح بمرور هذه المؤن عبر أراضيه إلى تطيلة، فأجابه إلى طلبه. وعلم أحمد بذلك فبعث سراً إلى غرسية، يبذل له ضعف الأموال التي بعثها إليه أخوه، على أن يمكنه من الفتك بقافلة المؤن حين مرورها داخل أرضه، فاستجاب الملك النصراني إلى ذلك الإغراء الدنىء، وتم ما دبره أحمد. ذلك أن قافلة المؤن، وكانت تتكون من بضع آلاف من الجند، وعدد كبير من الخيل والدواب، ما كادت تجوز أراضي نافار، شمالي شرقي تطيلة، حتى دهمتها قوات أحمد المقتدر التي رتبها بممالأة غرسية، وفتكت بها، وأبيد معظم رجالها قتلا وأسراً، واستولى النصارى على أسلابهم، وما كان معهم من المؤن، ولم ينج منهم سوى القليل، وكانت واقعة شنيعة تنبىء عما كانت تنطوي عليه طبيعة أحمد المقتدر من صفات الغدر والاستهتار. وكان من أثرها، أن ضعف أمر يوسف، وتوطد سلطان أحمد، واشتد بأسه، وهابه الناس، واسترد القواعد التي كانت تحت يده (1).
وكانت ضربة المقتدر التالية، استيلاؤه على ثغر طرطوشة. وكان هذا الثغر الذي يعتبر مخرج سرقسطة إلى البحر، اذا استثنينا ثغر طرّكونة الواقع على حدود إمارة برشلونة، والذي كان من أعمال لاردة، كان منذ عهد الفتنة بيد بعض الفتيان العامريين. وكان أول من استولى عليها منهم وحكمها لبيب العامري، وكان حازماً قوي البأس، وحاول المنذر بن يحيى التجيبي أن ينتزعها منه فاستغاث بمبارك صاحب بلنسية فأمده بجنده، ورد عنها المنذر، ولما توفي مبارك في سنة 408 هـ، خلفه لبيب في حكم بلنسية بدعوة من أهلها، ولما اختلف على ذلك مع زميله مجاهد العامري، عاد إلى طرطوشة واستمر في حكمها حتى توفي في 433 هـ (1041 م)، فخلفه في الحكم فتى آخر من الصقالبة العامريين يدعى مقاتل، وتلقب بسيف الملك، واستمر في حكمها حتى وفاته في سنة 445 هـ (1053 م). فخلفه الفتى يعلي من موالي العامريين أيضاً، ثم حكمها من بعده الفتى نبيل. وكان المقتدر بن هود أثناء ذلك ينظر إلى سيطرة أولئك الفتيان الصقالبة على طرطوشة بعين السخط، ويتحين الفرص لانتزاع هذا الثغر
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 223 و 224.(2/273)
الهام من أعمال مملكته. وأخيراً سنحت هذه الفرصة، حينما اضطرمت طرطوشة ضد الفتى نبيل بالثورة وزحف عليها المقتدر في قواته فسلمها إليه نبيل في الحال وخرج عنها، وانتهت بذلك دولة الفتيان الصقالبة بها (452 هـ - 1060 م) (1).
* * *
على أن أعظم حادث أو بعبارة أخرى أعظم محنة نزلت بالمسلمين في عهد المقتدر بن هود، هو غزو النورمانيين لمدينة بربشتر (2)، وفتكهم بأهلها أشنع وأفظع ما سجلت صحف التاريخ. وقد دون لنا ابن حيان، وكان يعيش في قرطبة وقت وقوع هذه المحنة، تفاصيلها بإسهاب، وبعبارات مؤثرة مبكية. ذلك أن حملة كبيرة من النورمانيين (أو الأردمانيين في الرواية العربية) تقدرها الرواية بعشرة آلاف فارس، بقيادة جيوم دي مونري، نزلت بشاطىء قطلونية وسارت نحو الشرق مخترقة أراضي مملكة سرقسطة الشمالية. وقد اختلفت الرواية في تكييف ظروف هذه الحملة وفي مصدر قدومها، وفيمن نظمها وقادها. بيد أنه يستخلص من مختلف الروايات الخاصة بها، أنها حشدت في ولاية نورمانديا الفرنسية، حيث كان النورمان قد استقروا بها قبل ذلك العصر بموافقة ملك فرنسا، وأن أولئك النورمان خرجوا عندئذ في طلب المغامرة والكسب ومعهم جموع كبيرة من الفرسان الفرنسيين. أما قائد الحملة فهو الفارس جيوم دي مونري. وكان جيوم دي مونري هذا من أكابر فرسان عصره، وقد وفد قبل ذلك على إيطاليا في أواسط القرن الحادي عشر، وخدم الكرسي الرسولي حتى أصبح قائد الجيوش الرومانية والبابوية. أما بواعث قيادته لهذه الحملة، ولماذا قصدت إلى شاطىء قطلونية، فمما يحيط به الغموض. على أنه يبدو من جميع الظروف أنها كانت من الحملات الناهبة التي تستتر بالصفة الصليبية، والتي تقصد العيث والنكاية، والغنم والسبي في أراضي المسلمين أينما كانت. ويؤيد البحث الحديث هذه الصفة الصليبية للحملة، ويقول لنا إن الذي دفع إلى إعدادها هو البابا اسكندر الثاني (3). والرواية الإسلامية صريحة واضحة في أن هذه الحملة قد قدمت
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 250 و 302، وابن خلدون ج 4 ص 163. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas ; p. 38 & 39
(2) هي بالإسبانية: Berbastro
(3) I.de las Cagigas: Los Mozarabes p. 453(2/274)
من فرنسا. فهي تقول لنا " إن الفرنج خرجوا من الأرض الكبيرة (أي فرنسا) إلى الأندلس في جموع كبيرة ليس لها حد، ولا يحصى لها عدد إلا الله، وانتشروا على ثغور سرقسطة " (1) ثم إنه ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت هذه الحملة قد عبرت إلى اسبانيا من طريق جبال البرنيه، أن جازت إلى قطلونية بطريق البحر. وعلى أي حال فقد نزل أولئك النورمان في قطلونية واجتازوا إلى أراضي مملكة سرقسطة، إذ كانت تحمي مؤخرتها أرض نصرانية هي مملكة برشلونة. وقصدوا أولا إلى مدينة وشقة إحدى قواعد سرقسطة الرئيسية، فنازلوها أياماً، ولما لم ينالوا منها مأرباً غادروها وساروا شرقاً حتى مدينة بربشتر، وهي لا تقل عن وشقة أهمية وحصانة.
وتقع مدينة بربشتر على فرع صغير من أفرع نهر إبره بين مدينتي لاردة ووشقة، في الشمال الشرقي لسرقسطة، وكانت يومئذ من أمتع القواعد الإسلامية الشمالية. فنزل عليها النورمان، وضربوا حولها الحصار، وذلك في أوائل سنة 456 هـ (ربيع سنة 1064 م). ولم يبادر المقتدر لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف نفسه إنجادها، فتركها لمصيرها. واستمر الحصار أربعين يوماً، والمسلمون صامدون داخل مدينتهم الحصينة، وكانت حاميتها تخرج من آن لآخر، وتخوض مع الأعداء معارك شديدة، ثم ترتد إلى الداخل. ولما اشتد الضيق بالمدينة المحصورة، وعزت الأقوات، وقع الهرج والتنازع بين أهلها، وعلم النورمان بذلك، فشددوا قبضتهم وضاعفوا جهودهم، واستطاعوا بعد قتال عنيف أن يقتحموا المدينة الخارجية، واحتلها منهم نحو خمسة آلاف دارع، ودافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع، وقتلوا من المهاجمين نحو خمسمائة، ثم تحصنوا بالقصبة والمدينة الداخلية معولين على الدفاع عن أنفسهم لآخر لحظة، لولا أن حدث حادث عجل بوقوع الكارثة. ذلك أن القصبة كان يمدها بالماء سرب داخلي تحت الأرض متصل بالنهر، فوقف النورمان على سره من أحد الخونة فهدموه وألقوا فيه صخرة عظيمة، وانقطع
_______
(1) الحلل الموشية ص 54. وراجع أيضاً الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 40 حيث يقول لنا في كلامه عن بربشتر: " وقد غزاها على غرة وقلة عدد من أهلها وعدة، أهل غاليش والروذمانون ". وغاليش هي فرنسا، والروذمانون هم النورمان.(2/275)
الماء عن المحصورين، واشتد بهم الظمأ وبدا لهم شبح الموت جاثماً، فبعثوا إلى النورمان يعرضون التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم وأولادهم، وأن يخرجوا من المدينة دون مال، فوافق النورمان على ذلك. وفي رواية أخرى أن النورمان أبوا ذلك، واضطر المسلمون إلى مدافعتهم، حتى اقتحموا عليهم المدينة. وعلى أي حال فقد دخل النورمان المدينة دخول الوحوش المفترسة، وأمعنوا في أهلها قتلا وسبياً، ولم يطلقوا منها غير قائدها ابن الطويل، وقاضيها ابن عيسى، ونفر قليل من الأعيان.
وهنا تبسط الرواية الإسلامية القول فيما ارتكبه النورمان من الفظائع، وتقدر عدد القتلى والأسرى من أهل المدينة بأربعين ألفاً (1) أو بخمسين ألفاً، بل بمائة ألف في رواية أخرى، وهلك عدد كبير من النساء، حينما تطارحن على الماء لإرواء ظمئهن، فكبسهم العدو للأذقان موتاً. ولما خرجت الجموع من المدينة في ظل الأمان المقطوع، ورأى قائد النصارى كثرتهم، هاله ذلك، وخشي أن تأخذ الجموع الحمية، فيهبوا لاستنقاذ أنفسهم، فأمر ببذل السيف فيهم ليخف من أعدادهم، فقتل منهم عندئذ ما يزيد على ستة آلاف. ومات خلال الزحام كثير من الشيوخ والأطفال، وتدلي كثير من الأسوار اتقاء الزحمة، وامتنع نحو سبعمائة رجل بالقصبة، فمات معظمهم عطشاً. على أن ذلك لم يكن أشنع ما نزل بالمسلمين بل كانت تنتظرهم فظائع أخرى لا يخلق ارتكابها إلا بأخس المحاربين وأنذلهم، ونحن نترك القول هنا لابن حيان، يصف لنا بقلمه البليغ طرفاً من تلك المناظر البشعة المؤسية:
" ولما برز جميع من خرج عن المدينة بفناء بابها بعد من خفف منهم بالقتل، وهلك في الزحمة، ظلوا قياماً ذاهلين، منتظرين نزول القضاء فيهم، نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره ووطنه بأهله، وأزعجوا لذلك، فنالهم من الازدحام، قريباً مما نالهم في الخروج عنها. ولما استقروا بالدور مع عيالهم وذرياتهم، اقتسمهم المشركون، فأمر سلطانهم، فكل من صارت في حصته دار حازها، وحاز ما فيها من أهل وولد ومال. فيحكم كل علج منهم فيمن سلط عليه من أرباب الدور بحسب ما يبتليه الله به منهم، يأخذ كل ما أظهره إليه،
_______
(1) الحلل الموشية ص 54.(2/276)
ويقرره عليه فيما أخفى، ويعذبه أشد العذاب، وربما زهقت نفس المسلم من دون ذلك فاستراح، وربما أنذره أجله إلى أسوأ من مقامه بذلك. فإن عداة الله يومئذ، كانوا يتولعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم، وعلى أعينهم إبلاغاً في نكايتهم، يغشون الثيب، ويفتضون البكر، وزوج تلك، وأبو هذه، موثق بقيد أسره، ناظر إلى سخنة عينيه، فعينه تدمع، ونفسه يتقطع. ومن لم يرض ذلك منهم أن يفعله، أعطى من خوله وغلمانه يعبثون فيهم عبثته، فبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، والحول والقوة لله العظيم ".
واستولى النصارى على مقادير هائلة من السبي والغنائم، ولاسيما النساء والأطفال. يقول ابن حيان " زعموا أنه صار لأكبرهم قائد خيل رومة في حصته نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل " ثم يقول بعد ذلك " ولما عزم ملك الروم (يريد قائد النورمان) على القفول يومئذ من بربشتر إلى بلده، تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الأيفاع، والخود الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه ". ويقول لنا صاحب الروض المعطار، إنه قد أهدى من أبكار الجواري المسلمين وأهل الحسن منهن إلى صاحب قسطنطينية خمسة آلاف، ويقدرهن ياقوت بسبعة آلاف " بكر منتخبة " (1).
وربما كان في تلك الأرقام - أرقام القتلى والأسرى والسبايا - مبالغة. ولكنها تدل على أي حال، مع ما اقترن بها من الأعمال الوحشية المروعة التي وصفها لنا المؤرخ المعاصر، على فداحة الخطب الذي نزل بأهل بربشتر، وعلى مبلغ تجرد أولئك الغزاة النورمان من أبسط الصفات الإنسانية، وهو خطب كان حسبما يصفه ابن حيان " أعظم من أن يوصف أو يتقصى ". ولما وصلت أنباؤه إلى قرطبة في أوائل رمضان (456 هـ)، حيث كان يقيم المؤرخ، وذاعت في مختلف الأنحاء اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وسادها الاشمئزاز والروع لتلك الفظائع والشناعات التي لم يسمع بمثلها.
وقد كانت هذه المحنة مادة خصبة لتأملات ابن حيان، ونظراته النقدية الصائبة، وإليك من أقواله تلك الفقرة التي تدلي بالنذير والنبوءة الصادقة، وتفيض
_______
(1) راجع الروض المعطار ص 40. وراجع معجم البلدان لياقوت تحت كلمة بربشتر.(2/277)
بالتوجع لأحوال عصره. قال: " قد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولا شك عند أولى الألباب، ما أخفيناه مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه، على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا - لا قدس - بهيم الشبه، ما إن يباهي بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالي الغي بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقري بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم، ما إن يسمع عندنا بمسجد من مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا، أو كأن فتقهم ليس بمفض إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا بالقناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور وإليه المصير " (1).
ولما غادر الغزاة النورمان بربشتر بعد اقتحامها، والفتك بأهلها، والاحتواء على أموالها، تركوا لحمايتها ألفاً وخمسمائة من الفرسان وألفين من الرجالة، وقيل بل تركوا ألف فارس وأربعة آلاف راجل، واستقدموا إليها كثيراً من أهلهم وأقاربهم ومواطنيهم، وساروا عائدين إلى بلادهم، وفي ركبهم ألوف من سبي المسلمين نساء ورجالا، ومقادير هائلة من الأموال والغنائم المختلفة.
بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى وقعت المعجزة. وكان صدى النكبة قد نفذ
_______
(1) نقلنا هذه الفقرة وما قبلها من أقوال ابن حيان وتفاصيل نكبة بربشتر، عن الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحات 34 ب إلى 36 ب. وراجع في ذلك أيضاً البيان المغرب ومعظمه أيضاً من أقوال ابن حيان السالفة الذكر ج 3 ص 225 و 226، وأعمال الأعلام ص 171. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. 78 & 79 -Recherches ; 3eme Ed.V.II.p.335-353 وهو يترجم أيضاً رواية ابن حيان المشار إليها.(2/278)
إلى الأعماق، واهتز لها أمراء الأندلس قاطبة، وفي مقدمتهم المقتدر بن هود،
وهو الذي شهدها عن كثب، ولحقه من جرائها أكبر وزر، واتجه إليه أشد
اللوم لتقصيره في إنجاد المدينة المنكوبة والدفاع عنها، وهي من أخص قواعد ثغره. واستنفر الناس للجهاد، واجتمع من مختلف بلاد الأندلس عدد جم من المتطوعة والرماة، ساروا إلى الثغر جهاداً في سبيل الله، وبعث المعتضد بن عباد نجدة من خمسمائة فارس، وسار المقتدر بن هود في قواته، وقوات الأمداد المختلفة إلى بربشتر، وذلك في جمادى الأولى سنة 457 هـ (ربيع سنة 1065 م) وضربوا حولها الحصار، وامتنع النصارى داخل المدينة، لما رأوه من كثرة جموع المسلمين، وعالج المسلمون نقب أسوارها المنيعة العالية تحت حماية الرماة، ونجحوا في إحداث ثغرة كبيرة فيها، ثم اقتحموا المدينة بشدة، فغادرها النصارى من الناحية الأخرى، وحملوا على محلة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة مزق فيها النصارى وهلك معظمهم، وأسر من كان بالمدينة من أهلهم وأبنائهم، وتقدر الرواية من قتل منهم بنحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل، في حين أنه لم يقتل من المسلمين وفقاً لتقديرها سوى خمسين رجلا وهي مبالغة واضحة، بيد أنه لم يكن ثمة شك على ضوء الظروف المتقدمة في أن خسائر النصارى كانت فادحة، وأن خسائر المسلمين كانت يسيرة، وقيل فوق ذلك إنه حمل من سبايا النصارى إلى سرقسطة نحو خمسة آلاف، كما حمل إليها ألف فرس وعدة وسلاح وأموال كثيرة. وكان استرداد بربشتر في الثامن من جمادى الأولى سنة 457 هـ، بعد أن احتلها النصارى تسعة أشهر (1). وبذلك جبر الصدع، ورفعت المعرة، وأثلجت صدور المسلمين. وعلى أثر هذا الفتح الجليل اتخذ بطله ابن هود لقبه المقتدر بالله (2).
* * *
وشغل المقتدر بن هود في الوقت نفسه بسلسلة من الوقائع التي اضطرمت بينه وبين جيرانه النصارى. وكانت مملكة سرقسطة لوقوعها بين الممالك الإسبانية النصرانية الثلاث، أراجون ونافار وقشتالة، هدفاً مستمراً لأطماع الملوك
_______
(1) راجع الروض المعطار ص 41.
(2) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 36 ب و 37 أ. والبيان المغرب ج 3 ص 227 و 228.(2/279)
النصارى، يبتزون منها الأموال طوراً باسم الجزية، وطوراً يقتطعون بعض أطرافها. وفي خلال ذلك، يعمل بنو هود على الاستعانة من آن لآخر بالجند النصارى، وفقاً لمختلف الظروف والأحوال. وكان فرناندو الأول ملك قشتالة في سنة 1060 م (452 هـ) قد زحف على حدود مملكة سرقسطة الجنوبية الغربية، واقتطع منها حصن غرماج، وبعض حصون أخرى، فاضطر المقتدر أن يذعن لدفع الجزية. ولما توفي فرناندو في سنة 1065، وخلفه ولده سانشو في ملك قشتالة، وفي حقوق الجزية على سرقسطة، حاول أن يتدخل في شئون سرقسطة وبعث إليها بقواته في سنة 1067 فحاصرتها، اقتضاء للجزية المطلوبة، وكان يقود الجيش القشتالي يومئذ الفارس ردريجو دياث أو السيد إلكمبيادور، الذي احتل فيما بعد مكانة بارزة في حوادث شرقي الأندلس، فاضطر المقتدر أن يبعث إليه مقادير كبيرة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والأقمشة الفاخرة، أداء للجزية المطلوبة، وأن يبعث برهائنه في الوقت نفسه، وبذا رفع الحصار عن سرقسطة (1).
وكان المقتدر في الوقت الذي تصفو فيه علائقه مع جيرانه النصارى، يستمد العون منهم في مشاريعه العسكرية، وقد يستمد عون أحدهما على الآخر، كما حدث في سنة 1063 م حينما غزا راميرو الأول ملك أراجون أراضي مملكة سرقسطة، فاستغاث المقتدر بفرناندو ملك قشتالة، فبعث إليه ولده سانشو في بعض قواته، ووقعت بين الفريقين تحت أسوار جرادوس موقعة هزم فيها راميرو وقتل، وكان ردريجو دياث - السيد فيما بعد - يومئذ من ضباط الجيش القشتالي.
ولما خلص عرش قشتالة لألفونسو السادس بعد مقتل أخيه سانشو، عاد يطالب سرقسطة بالجزية التي كانت لأخيه، وكان يطالب بها في نفس الوقت سانشو راميرز ملك أراجون ونافار، بعد أن ورث عرش نافار، وكان المقتدر يؤدى الجزية من قبل إلى سانشو ملك نافار. وكان يستعين في محاربة أخيه يوسف المظفر صاحب لاردة بجنود من البشكنس (النافاريين) والقطلان، واستمرت بينهما المعارك حتى انتهت أخيراً بهزيمة يوسف وأسره.
وقد وقفنا على نص رسالة مخطوطة، كتب بها المقتدر إلى صديقه المعتمد
_______
(1) البيان المغرب ج 3 ص 229، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 159 & 160(2/280)
ابن عباد - وقد كانت بينهما فيما يبدو من لهجة الرسالة صلات ودية وثيقة - يخبره فيها بقصته مع أخيه المظفر، ويرميه فيها بالظلم والحسد، ومجانبة العدل والإنصاف، ويقول إنه حاول أن يسلك معه سبيل المودة والتفاهم، فأبى, واضطر إلى مقاتلته حتى ظفر به واستولى على قاعدته لاردة وألزمه البقاء في قصبة منتشون. ثم يقول معتذراً عن مسلكه: " وللنفس يعلم الله مما حملني عليه ارتماض وإشفاق، ولما يؤثره الرحم من ذلك إزعاج وإقلاق، إلا أنه لم يوجد إلى غير ذلك سبيلا، ولا جعلني إلى سواه محيلا، وكان فيما يأتيه أعق، وبما جره القدر إليه بحكم اعتقاده أحق " (1) والظاهر أن الحوادث التي يشير إليها المقتدر في رسالته قد وقعت في سنة 472 هـ (1079 م). وفي بعض الروايات القشتالية، أن المقتدر بعد أن استولى على أملاك أخيه أعتقله بقلعة روطة، وهنالك استمر في اعتقاله حتى توفي بعد ذلك بثلاثة أعوام (475 هـ)، بيد أنه من الواضح أن الصحيح هو ما يرويه المقتدر نفسه في رسالته.
ولما أعيت المقتدر الحيل في إرضاء أولئك الملوك المطالبين بالجزية، انتهى رأيه إلى الاستعانة بخدمات ذلك الفارس القشتالي، الذي عرفه من قبل بين ضباط قشتالة محارباً بارعاً، وهو ردريجو دياث دى بيبار، وكان يومئذ قد ساءت علائقه مع مليكه ألفونسو السادس وأقصاه عن بلاطه، فخرج يبحث عن طالعه، وهكذا عقدت العلافة بين " السيد " وبين المقتدر، وكان المقتدر أول من أولاه رعايته واستخدمه من الملوك المسلمين، وكان ذلك في سنة 1080 م قبيل وفاة المقتدر بقليل (2).
ويجب أن نذكر هنا أيضاً بين أعمال المقتدر العظيمة، استيلاءه على مملكة دانية من صهره، زوج ابنته على إقبال الدولة في سنة 468 هـ (1076 م) حسبما فصلنا ذلك من قبل في أخبار مملكة دانية. وقد غدت مملكة سرقسطة بهذا الفتح الكبير تمتد إلى شرقي الأندلس، وغدت من أعظم ممالك الطوائف رقعة، بل ربما أعظمها جميعاً. وقد مهد لها هذا الامتداد إلى شرقي الأندلس، سبيل التطلع إلى مملكة بلنسية
_______
(1) وردت هذه الرسالة في المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال (لوحة 118 و 119).
(2) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 18 ب. وكذلك: R. M Pidal: ibid;p. 282 & 283(2/281)
والتدخل في شئونها، حسبما سبق شرحه في موضعه في أخبار مملكة بلنسية، وتوفي أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله في سنة 474 هـ (1081 م) من كَلَب شديد أصابه من عضة كلب، بعد أن حكم مملكة سرقسطة خمسة وثلاثين عاماً، وكان قبيل وفاته قد ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه أبوه بتقسيم مملكته بين ولديه، فخص ولده الأكبر وهو يوسف المؤتمن بسرقسطة وأعمالها، وخص ولده الأصغر المنذر بلاردة ومنتشون وطرطوشة ودانية.
ومما هو جدير بالذكر أن مملكة سرقسطة كانت في ظل بني هود، لظروفها المترتبة على وقوعها بين الممالك النصرانية، واضطرارها إلى مهادنتها ومصانعتها، تؤثر سياسة التسامح الديني، وكان النصارى يعيشون في ظل بني هود، في ظروف حسنة، ويتمتعون بسائر الحريات الفكرية والدينية، وقد شجع هذا التسامح الذي أثر عن بني هود نحو رعاياهم النصارى، راهباً فرنسياً، على أن يكتب إلى المقتدر بن هود رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق النصرانية، وبعث رسالته المذكورة مع راهبين من زملائه ليشرحا للمقتدر تعاليم الدين المسيحي ومزاياه (1)، فاستقبل المقتدر الرسولين برفق وكياسة، ولم يثر لما تضمنته رسالة الراهب من جرأة وتهجم صارخ، بل عهد إلى العلامة الفقيه أبى الوليد الباجي، وكان يومئذ يعيش في سرقسطة في كنفه وتحت رعايته، بأن يكتب عن لسانه إلى الراهب رداً، يفند فيه دعاوى الراهب في رسالته، ويبين ما تنطوي عليه هذه الدعاوى من بطلان وتناقض. فكتب الباجي رده المشهور على هذه الرسالة، وهو رد مسهب، يفيض منطقاً وبلاغة، وفيه يفند الباجي مزاعم الدين المسيحي، وألوهية المسيح وغيرها، بقوة، ويشرح تعاليم الإسلام بوضوح، ويدعو الراهب بالعكس إلى اعتناق الإسلام، وينوه بمعجزة القرآن وروعته، ويدلل ببراعة على بطلان التعاليم المسيحية وتناقضها.
وكان المقتدر بن هود من أعظم ملوك الطوائف. ويصفه الحجاري في المسهب بأنه " عميد بني هود وعظيمهم، ورئيسهم وكريمهم ". وكان فضلا عن
_______
(1) وردت رسالة الراهب الفرنسي في مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري، عقب رسالة ابن غريسة والرد عليها، ودونت من بعدها رسالة أبي الوليد الباجي في الرد على الراهب المذكور، وهو رد طويل يملأ خمس عشرة صفحة، وقد نشر الأستاذ دنلوب D.M.Dunlop نص الرسالتين في مجلة الأندلس Al - Andalus Vol.XVII, 1952، وقرنهما بترجمة انجليزية.(2/282)
مقدرته السياسية والعسكرية التي رأيناها تبدو في كثير من أعماله ومشاريعه، وبالرغم مما كانت تنطوي عليه هذه المشاريع والأعمال أحياناً من صفات سيئة، يتمتع بكثير من الخلال البديعة، فقد كان أميراً عظيماً يحيط نفسه بجو من المهابة والروعة، وكان بلاطه من أعظم قصور الطوائف وأفخمها، وكان يحيط نفسه بطائفة من أشهر العلماء والكتاب في عصره، ومن هؤلاء العلامة الفقيه أبو الوليد الباجي، ووزيره أبو المطرف بن الدباغ، ووزيره الكاتب اليهودي المسلم أبو الفضل ابن حسداي السرقسطي، وكان كلاهما من أعلام عصره في البلاغة والأدب.
بل كان المقتدر نفسه من علماء عصره، وكان يشغف بدراسة الفلسفة والرياضة والفلك، وقد كتب كتباً في الفلسفة والرياضة (1). وكان قصر المقتدر وهو المسمى بقصر " الجعفرية "، نسبة إلى كنيته، وهي " أبو جعفر "، من أعظم وأفخر القصور الملكية في ذلك العصور، وقد اشتهر في تاريخ الفن الإسلامي باسم " دار السرور "، وكان أروع ما فيه بهوه الرائع الذي زينت جدرانه بالنقوش والتحف الذهبية البديعة، والذي كان يسمى لذلك بالبهو الذهبي، أو مجلس الذهب.
وفيه يقول منشؤه المقتدر:
قصر السرور ومجلس الذهب ... بكما بلغت نهاية الطرب
لو لم يحز ملكي خلافكما ... لكان لدي كفاية الأرب
ولما سقطت سرقسطة في يد الإسبان شوهت معالم هذا القصر البديع، وأدخلت فيه تعديلات وتغييرات عديدة قضت على محاسنه وزخارفه العربية. وما زالت بقاياه الدارسة تقوم حتى اليوم في قلب مدينة سرقسطة باسم قصر الجعفرية Palacio Aljaferia، وقد شهدناه خلال زيارتنا لسرقسطة، ولم يبق من بنائه الإسلامي سوى بقية مشوهة من مسجده السابق.
وكان المقتدر فوق شغفه بالعلوم، أديباً ينظم الشعر، وقد نسب إليه الحجاري صاحب المسهب قوله:
لست لدى خالقي وجيهاً ... هذا مدى دهري واعتقادي
لو كنت وَجْهاً لما براني ... في عالم الكون والفساد (2)
_______
(1) Dozy: Histoire ; Vol.III.p. 163 - R. M. Pidal: ibid, p. 282
(2) راجع المغرب في حلي المغرب (القاهرة) ج 1 ص 437.(2/283)
الفصل الثاني
مملكة سرقسطة منذ عصر المؤتمن حتى سقوطها في أيدي المرابطين
الصراع بين المؤتمن والمنذر. معركة قلعة المنار. حاكم روطة وكمينه للنصارى. موقف السيد الكمبيادور. تحالف المنذر وسانشو راميرز. السيد ونفوذه لدى المؤتمن. حملة ابن بسام على بني هود. وفاة المؤتمن. صفاته العلمية. ولده أحمد المستعين. مسير ألفونسو السادس إلى سرقسطة ومحاصرته إياها. يرفع الحصار عند مقدم المرابطين. حروب المستعين. تطلعه إلى امتلاك بلنسية وفشل مشروعه. الخطر على مملكة سرقسطة. استيلاء ملك أراجون على منتشون. تهديده لوشقة. اتجاه المستعين إلى الاستنجاد بالمرابطين. سفارته لأمير المسلمين. استعانته بملك قشتالة. محاصرة سانشو راميرز لوشقة. وفاته ومتابعة ولده بيدرو للحصار. مسير المستعين وحلفاؤه لإنجادها. موقعة الكرازة. هزيمة المستعين وسقوط وشقة. إستيلاء المرابطين على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية. استيلاؤهم على شرقي الأندلس. استنصار المستعين بالسيد. انشغال السيد في بلنسية. إتجاه المستعين إلى المرابطين. سفارته الثانية لأمير المسلمين. وفاة بيدرو ملك أراجون وقيام أخيه ألفونسو مكانه. مسيره إلى تطيلة. مسير المستعين لإنجادها. سقوط تطيلة ومقتل المستعين. ولده عبد الملك عماد الدولة. دعوة أهل سرقسطة أمير المسلمين لخلع بني هود. استصراخ عماد الدولة لأمير المسلمين. زحف المرابطين على سرقسطة واستيلاؤهم عليها. انتهاء حكم بني هود. التجاء عماد الدولة إلى حصن روطة. خضوعه لحماية ملك أراجون. ولده سيف الدولة. نزوله عن روطة لألفونسو ريمونديز. سرقسطة أيام بني هود. اشتهارها بالدراسات الرياضية والفلسفية. ابن باجة وحياته العلمية. أبو بكر الطرطوشي وكتابه سراج الملوك. نظريته في عصبية الدولة ورد ابن خلدون عليها. سرقسطة ومساهمتها في الحركة الأدبية. دورها في التبادل الحضاري والثقافي. دورها في التبادل التجاري.
عادت الحرب الأهلية القديمة التي اضطرمت من قبل بين المقتدر وإخوته الأربعة من جراء تقسيم المملكة، تضطرم من جديد بين يوسف المؤتمن صاحب سرقسطة، وأخيه الحاجب المنذر صاحب لاردة.
وقد استعان كلا الأخوين في تلك الحرب الانتحارية بالنصارى، فكان المؤتمن يستعين بصديق أبيه وحليفه من قبل " السيد "، وجيشه من المرتزقة القشتاليين وكان المنذر وهو منذ البداية من ألد أعداء السيد، يستعين بسانشو راميرز ملك أراجون، ورامون برنجير أمير برشلونة.(2/284)
ووقعت أول معركة بين قوات الأخوين عند قلعة المنار على مقربة من لاردة، وكان المؤتمن قد حصن هذه القلعة، وشحنها بالمقاتلة، ولما شعر أخوه المنذر بخطرها على أملاكه سار في قوة مشتركة من حلفائه، أمير برشلونة وبعض صغار الأمراء الإفرنج في شمال قطلونية، وحاصر هذه القلعة، فسار المؤتمن والسيد في قواتهما لإنجادها، ووقعت بين الفريقين معركة هزم فيها المنذر، وأسر أمير برشلونة رامون برنجير (1082 م).
ووقع في ذلك الحين حادث كاد يقطع السيد من جرائه علائقه ببلاط سرقسطة، ذلك أن حاكم قلعة روطة التي كان معتقلا بها المظفر، اعتزم الخروج والثورة بالتفاهم مع سجينه، وأرسل إلى ألفونسو ملك قشتالة يطلب عونه ويعده بتسليم القلعة، فسار ألفونسو إلى روطة في بعض قواته، وكان المظفر قد توفي عندئذ فجأة، فعدل الحاكم عن مشروعه واعتزم أمراً آخر، وبعث ألفونسو بعض أكابر ضباطه، وعلى رأسهم الإنفانت راميرو أمير نافار لتسلم القلعة، وما كادوا يجوزون إلى الداخل، حتى انهال عليهم وابل من الصخور، فقتلوا جميعاً (1082 م) وعاد ألفونسو، وهو يضطرم أسى وتحرقاً إلى الانتقام.
وكان السيد عندئذ في تطيلة، فلما وقف على هذا الحادث المحزن، هرع في صحبه إلى ألفونسو يقدم عزاءه، ويلتمس العفو، والإذن بالعود، فعفا عنه الملك وصحبه معه إلى قشتالة. ولكن مقامه بها لم يطل. ذلك أن ألفونسو عادت إليه هواجسه القديمة نحو السيد، وشعر السيد بتغيره عليه، فغادر قشتالة وعاد إلى سرقسطة، واستقبله المؤتمن بترحاب ومودة. ويحاول الأستاذ بيدال أن يستدل بتصرف السيد في هذا الحادث على أنه لم يكن في خدماته لبلاط سرقسطة جندياً أجيراً، وإنما كانت هذه الخدمات بالعكس نوعاً من السياسة والتدخل على الطريقة القشتالية (1).
وعاد السيد إلى مهمته القديمة في محاربة أعداء المؤتمن، وخرج مع المؤتمن في قواته، وعاثا في أراضي أراجون، ثم عادا إلى حصن مونتشون. ورد سانشو راميرز ملك أراجون على ذلك بالاستيلاء على جرادوس. وغيرها من حصون الحدود (ابريل 1083 م). ثم تحالف المنذر أخو المؤتمن مع سانشو راميرز،
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 290(2/285)
وسارا في قواتهما لمحاربة السيد، والتقى الفريقان في أحواز موريلا على مقربة من طرطوشة، فهزم المنذر وحليفه، واستولى السيد على معسكرهما، وعلى كثير من الأسرى. واستقبل السيد عند عوده المظفر إلى سرقسطة أجمل استقبال.
وعلا شأن السيد في بلاط سرقسطة، وتوطدت مكانته، واشتد نفوذه على المؤتمن. فكان لا يبرم أمراً من أعمال الحرب أو السياسة دون مشاورته، وغدا بجيشه الصغير قوة يحسب حسابها، بل غدا كأنه يفرض بحلفه ومعاونته على سرقسطة نوعاً من الحماية. وقد أشرنا فيما تقدم من أخبار مملكة بلنسية إلى هذه المكانة الممتازة التي أحرزها السيد في بلاط سرقسطة، وإلى الحملة اللاذعة التي شهرها ابن بسام من أجل ذلك على بني هود (1)، كما أشرنا إلى ما كان يجيش به المؤتمن من الأطماع نحو مملكة بلنسية، وما قدمه من المال إلى ملك قشتالة لأجل معاونته في هذا المشروع وكيف استطاع أبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية بلباقته أن يحبط هذا المشروع وأن يعقد صلات الود والمصاهرة مع المؤتمن بتزويج ابنته من ولد المؤتمن، أحمد المستعين.
ولم يدم حكم المؤتمن أكثر من أربعة أعوام، إذ توفي في سنة 478 هـ (1085 م). وكانت وفاته السريعة ضربة قاضية لمشاريعه، فخلفه في حكم سرقسطة وأعمالها، ولده أحمد، وتلقب بالمستعين، وبقى الشق الآخر من مملكة سرقسطة بيد عمه المنذر.
وقد اشتهر يوسف المؤتمن بصفاته العلمية، أكثر من اشتهاره بصفاته الملوكية ْفكان مثل أبيه المقتدر عالماً رياضياً، وفلكياً ممتازاً، وكتب في العلوم الرياضية، رسالته المسماة " الإستكمال " (2)، التي ترجمت إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، والتي توصف بأنها ترتفع من حيث قيمتها العلمية إلى مستوى إقليدس والمجسطي. بيد أن هذه الرسالة الملوكية لم تصل إلينا مع الأسف بأصلها العربي.
خلف المؤتمن ولده أحمد المستعين، ويعرف بالمستعين الأصغر. وما كاد يبدأ حكمه حتى ألفى نفسه أمام حدث خطير. ذلك أن ألفونسو السادس ما كاد ينتهي من الاستيلاء على طليطلة وتنظيم شئونها، وذلك في صفر سنة 478 هـ (مايو 1085 م)
_______
(1) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 18 ب.
(2) ابن خلدون ج 4 ص 163.(2/286)
حتى اعتزم العمل لانتزاع سرقسطة، فسار إليها في قواته، وضرب حولها الحصار، وأقسم أنه لن يبرحها حتى تؤول إليه أو يموت. وحاول المستعين أن يرده عن عزمه، وأن يقنعه برفع الحصار، فعرض عليه أموالا جليلة فرفض ألفونسو، وأصر على أخذ المدينة (1)، وأذاع عماله في سكان الأراضي المجاورة أنه سوف يطبق أحكام القرآن، ولن يقتضي منهم الضرائب إلا ما يجيزه الشرع، وأنهم سوف يكونون مثل إخوانهم مسلمي طليطلة موضع عنايته ورعايته.
واستمر ألفونسو على حصار سرقسطة حتى جاءته الأنباء في أواخر صيف 1086 م، (أوائل 479 هـ) بمقدم المرابطين، وأنهم عبروا إلى الأندلس، فحاول عندئذ خديعة المستعين، معتقداً أنه لم يعلم بالنبأ العظيم، وبعث إليه يقول إنه يقبل الجزية التي عرضها، فأجاب المستعين، وكان على علم به، أنه لن يدفع إليه درهماً واحداً (2).
وعندئذ اضطر ألفونسو أن يرفع الحصار، وأن يهرع في قواته إلى الجنوب، بعد أن بعث بصريخه إلى أمراء الثغر النصارى ليلحقوا به في قواتهم. ثم كانت واقعة الزلاّقة، وهزيمة ألفونسو الساحقة، أمام القوات المرابطية والأندلسية المتحدة في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر 1086)، فضعف أمر قشتالة والملوك النصارى، وانصرف المستعين حيناً إلى محاربة عمه المنذر صاحب لاردة ودانية طوراً، ومحاربة ملك أراجون طوراً آخر. بيد أنه لم يظفر من وراء هذه المعارك بطائل، وكانت الهزيمة نصيبه في معظم الأحيان.
وأخذ المستعين بعد ذلك يتطلع إلى الاستيلاء على بلنسية، منافساً في ذلك لعمه المنذر. وقد فصلنا فيما تقدم من أخبار بلنسية مشاريع المستعين ومحاولاته في هذا السبيل، ومغامرات حليفه " السيد "، وكيف تظاهر في البداية بمعاونته على تحقيق مشروعه، ثم أضناه بعد ذلك بمخادعاته وأساليب غدره، وكيف حاول بعد ذلك أن يستعين بمحالفة برنجير كونت برشلونة على محاصرة بلنسية وأخذها، وقد فشلت أيضاً هذه المحاولة، وانتهى الأمر بأن غدا السيد وحده هو المسيطر على هذا الميدان، وهو المستأثر بتتبع الحوادث في بلنسية، وترقب فرص الاستيلاء عليها، كل ذلك حسبما فصلناه من قبل تفصيلا شافياً.
_______
(1) روض القرطاس ص 93.
(2) R.M.Pidal: ibid ; p. 331(2/287)
وما كاد المستعين ينتهي من هذه المشاريع الفاشلة، حتى بدا الخطر على مملكة سرقسطة داهماً من ناحيتين: ناحية جيرانها النصارى من الشمال، وناحية المرابطين من الجنوب. فأما عن الشمال، فقد بدأ سانشو راميرز ملك أراجون بالاستيلاء على منتشون في سنة 481 هـ (1089 م)، واضطر المستعين عندئذ أن ينضوي تحت حماية ألفونسو ملك قشتالة، وأن يتعهد بأداء الجزية التي أباها من قبل.
ولم تمض بضعة أعوام على ذلك حتى بدت مشاريع ملك أراجون أكثر خطورة.
وذلك أنه قصد إلى مدينة وشقة، وهي ثاني مدينة في مملكة سرقسطة، وابتنى إزاءها حصناً، وكان من الواضح أنه يبغى الاستيلاء على هذه المدينة الهامة.
والظاهر أن المستعين قد أدرك عندئذ أن الاعتماد على معاونة النصارى لا يحقق له ما يطمح إليه من السلامة، ورأى أن الاتجاه إلى معاونة المرابطين وهم أبناء دينه قد يغدو أنجع، ولو أنه كان يتوجس من نياتهم ومشاريعهم نحو سرقسطة. ومن ثم فقد أرسل ولده عبد الملك إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بالمغرب ومعه هدية جليلة، وبعث إليه يطلب العون والإنجاد على مدافعة النصارى، وإنقاذ وشقة، وهي جناح سرقسطة الدفاعي، ودرعها من الشمال. والظاهر أن أمير المسلمين قد أدرك من جانبه أهمية الاستجابة لصريخ المستعين، ومنعه بذلك من الارتماء في أحضان النصارى ومحالفتهم في النهاية ضد المرابطين، وأدرك في نفس الوقت حكمة الإبقاء على سرقسطة وإنجادها لتبقى بذلك حاجزاً بين المرابطين وبين النصارى، فاستقبل عبد الملك بترحاب، وصرفه صرفاً جميلا، ورد على المستعين بخطاب رقيق، وبعث إلى ولاته في شرقي الأندلس بإرسال المدد المنشود، وكان يتألف من ألف فارس وستة آلاف راجل من المرابطين. ولم ير المستعين في نفس الوقت بأساً من الاستعانة بملك قشتالة، فأمده بفرقة من جنده بقيادة الكونت غرسية أردونس الذي تجاور ولايته مملكة سرقسطة.
وفي تلك الأثناء كان سانشو راميرز قد سار إلى مدينة وشقة وضرب حولها الحصار، مصمماً على ألا يبرحها حتى تسقط في يده. وكانت وشقة من أمنع ْقلاع الثغر الأعلى، فصمدت للحصار بعزم وشدة، ثم توفي سانشو راميرز فجأة، وذلك في شهر يونيه سنة 1094 م (جمادى الأولى سنة 487 هـ)، فاستمر في متابعة الحصار ولده بيدرو الأول. وتوالت الأشهر، ووشقة صامدة كالصخرة.(2/288)
وبعث أهل وشقة في نفس الوقت بصريخهم إلى ملكهم أحمد بن هود المستعين، فجهز حشوداً عظيمة، وأعد لها قوافل الميرة الضخمة، وأمده حليفه ملك قشتالة بفرقة من الجند النصارى فسار المستعين في قواته حتى اقترب من وشقة، وكان يظن أن العدو متى رأى حشوده، وآنس وفرتها وحسن استعدادها، يعمد إلى المهادنة ويترك المدينة المحصورة وشأنها، ولكن بيدرو عول بالعكس على خوض المعركة، فترك الحصار، وسار في قواته لملاقاة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، في " الكرازة " الواقعة على مقربة من وشقة، استمرت من طلوع الشمس إلى غروبها، واشتد فيها الطعان من الجانبين، وكثر القتل بين المسلمين وحلفائهم، وهزم المستعين في النهاية هزيمة شديدة. وقتل من المسلمين عدد جم تقدره الرواية باثنتي عشر ألفاً أو نحوها، وكان بين القتلى غرسية أردونس قائد جند قشتالة، وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه المعركة في يوم الأربعاء أواخر ذي القعدة سنة 489 هـ، وتضع الرواية النصرانية هذا التاريخ في 18 نوفمبر سنة 1096 م، وهو يوافق بالفعل شهر ذي القعدة، الذي تحدده الرواية الإسلامية. وتقول الرواية الإسلامية، إن أهل وشقة لما عاينوا هزيمة المسلمين، يئسوا من النصرة، والإنقاذ، لم تمض على ذلك ثلاثة أيام حتى حصلوا على الأمان. وسلمت وشقة للنصارى بعد حصار دام ثلاثين شهراً، ودخلها بيدرو في موكبه الظافر، وفي الحال صير مسجدها الجامع كنيسة، وجعلها عاصمة لمملكة أراجون (1).
هذا عن حوادث الشمال، وأما عن حوادث الجنوب، فقد عبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1088 م) وقام بالاشتراك مع قوات الأندلس بمحاصرة حصن لييط، وانتهى بالاستيلاء عليه. ثم عاد فعبر إلى الأندلس للمرة الثالثة في سنة 483 هـ (1090 م)، وفي تلك المرة استولى على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية، غرناطة، وإشبيلية، وألمرية، ثم
_______
(1) نقلنا أقوال الرواية الإسلامية عن معركة وشقة من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثرنا بها في خزانة القرويين بفاس. وراجع في حوادث سقوط وشقة وما تقدمها: أعمال الأعلام ص 173، والحلل الموشية ص 53 - 55، وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ وترجمة محمد عبد الله عنان (ص 104 و 105) وابن خلدون ج 4 ص 163. وراجع أيضاً: P.y Vives. Los Reyes de Taifas p. 49 و R.M.Pidal: ibid, p. 526 & 527(2/289)
بطليوس، واستولت الجنود المرابطية كذلك على مرسية، وأوريولة، كل ذلك فيما بين سنتي 484 و 488 هـ. وفي أثناء ذلك كان المنذر بن هود صاحب لاردة ودانية، قد توفي في سنة 483 هـ (1090 م)، وخلفه في الملك ولده الطفل سليمان الملقب بسعد الدولة، تحت وصاية بني بيطر وهي أسرة قوية ذات نفوذ. وفي سنة 485 هـ (1092 م) سار جيش مرابطي بقيادة الأمير ابن عائشة، واستولى على دانية، وشاطبة وشقورة. والظاهر أنه استولى أيضاً على طرطوشة ولاردة بعد ذلك بقليل.
وهنا شعر المستعين بخطر المرابطين الداهم على مملكته، فاتجه إلى حليفه القديم السيد إلكمبيادور، واستغاث به، وكان السيد قد غدا يومئذ قوة يحسب حسابها في شرقي الأندلس، وأضحى من جانبه يشعر بنفس الخطر. أي خطر المرابطين على مركزه في تلك المنطقة. فاستجاب إلى دعوة المستعين، وعقد بينهما حلف جديد، وسار السيد بقواته إلى سرقسطة، وعسكر على ضفة النهر الأخرى، وهنالك عقد حلفاً آخر مع ملكي أراجون ونافار. وكان الغرض من عقد هذه المحالفات كلها، التعاون لدفع خطر المرابطين عن هذا الركن من شبه الجزيرة.
ونحن نعرف أن السيد قد عاد بعد ذلك إلى الجنوب، واستمر في مغامراته في منطقة بلنسية، حتى تم له الاستيلاء عليها في جمادى الأولى سنة 487 هـ (يونيه 1094 م)، وأن الجيوش المرابطية لبثت تتحين الفرص لاسترداد هذا الثغر الإسلامي العظيم، حتى تم لها تحقيق مشروعها، ودخلت بلنسية بقيادة الأمير أبى محمد المزدلي في شعبان سنة 495 هـ (مايو سنة 1102 م).
وكانت حوادث الشمال قد تطورت في تلك الأثناء، وظهرت نيات سانشو راميرز ملك أراجون واضحة نحو القضاء على مملكة سرقسطة، وبدأ حصاره لمدينة وشقة، وكان المستعين من جهة أخرى قد أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على محالفة السيد وعونه، ولاسيما بعد استيلائه على بلنسية، وانشغاله بالمحافظة عليها، والدفاع عنها، فاتجه إلى المرابطين، وبعث ولده عبد الملك إلى المغرب يطلب العون من أمير المسلمين، حسبما فصلنا من قبل. وقد رأينا كيف هزم المستعين وسقطت وشقة بالرغم مما تلقاه المستعين من عون حلفائه.
يقول ابن عذارى، إنه على أثر سقوط مدينة وشقة " سما بصر العدو إلى منازلة سرقسطة، حضرة ابن هود، فخاطب الطاغية، أذفونش بن فرذلند(2/290)
(ألفونسو السادس) فواطأه على منازلتها، فنزل عليها في جموع لا ترام، وجعل صاحبها يصعد ويصوب في إعمال الحيلة، وتجنيب تلك الجماعة، ورام تخذيل الأذفونش، فأرغبه في المال فأبى وأقسم ألا يبرح عنها حتى يدخلها " (1). ولكنا لم نجد في الرواية النصرانية ما يؤيد أن ملك قشتالة قام في هذا التاريخ (سنة 1097 م - 490 هـ) بمهاجمة سرقسطة أو حصارها.
والواقع أن المستعين أخذ يشعر من ذلك الحين بأن مصير سرقسطة، قد أضحى رهناً بخطط المرابطين وغاياتهم، ولاسيما بعد أن أصبحوا على مقربة من أراضيه، ْومن ثم فقد رأى في النهاية أن يستبقي مودتهم، وأن يستمر في التقرب منهم، والتماس عونهم وحمايتهم. وفي سبيل هذه الغاية بعث ابنه عبد الملك إلى أمير المسلمين مرة أخرى (496 هـ)، ومعه هدية جليلة من جملتها أربعة عشر ربعاً من آنية الفضة. وكان أمير المسلمين يومئذ بقرطبة، يعد العدة لإعلان البيعة لولده على بولاية عهده. فقبل الهدية، وأمر بأن تضرب هذه الآنية الفضية قراريط مرابطية، فرقت في أطباق على رؤساء قومه ليلة عيد الأضحى، وحضر عبد الملك حفل البيعة، ثم عاد إلى سرقسطة (2).
وشعر المستعين بشىء من الطمأنينة، واعتزم أن يخصص جهوده لمقارعة ملك أراجون ومشاريعه العدوانية، وكان بيدرو ملك أراجون قد توفي يومئذ وخلفه في الملك أخوه ألفونسو الذي عرف فيما بعد بالمحارب. وهو الذي تسميه الرواية الإسلامية " بابن رذمير ". وكان أميراً مقداماً شديد البأس، ولم يكن قد بقي من قواعد مملكة سرقسطة الهامة بعد وشقة، سوى مدينة تطيلة، فسار إليها في قواته، وخف المستعين لإنجادها. ووقعت بين الفريقين معركة شديدة عند بلد تدعى بلتيرة (فالتيرا)، فهزم المسلمون، وقتل المستعين، وذلك في رجب سنة 503 هـ (يناير سنة 1110 م) (3).
_______
(1) هذا ما ورد في الأوراق المخطوطة من البيان المغرب التي سبقت الإشارة إليها.
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 225، والقاهرة ج 2 ص 249، وأعمال الأعلام ص 174.
(3) تاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ ص 140؛ وكذلك P.y Vives: Los Reyes. de Taifas p. 49. ويورد ابن الخطيب هذه الواقعة بصورة أخرى فيقول لنا إن المستعين خرج إلى الجهاد في سنة 501 هـ، وتوغل حتى تطيلة وأرنيط (أرنيدو) وافتتحها، ثم أدركه النصارى عند العودة وهاجموه بشدة، فهزم وقتل (أعمال الأعلام ص 174).(2/291)
فخلفه ولده عبد الملك وتلقب بعماد الدولة، وبايعه أهل سرقسطة على شرط أن يترك محالفة النصارى، وأم يخرجهم من جيشه، وتعهد لهم عبد الملك بتحقيق رغبتهم، ولكنه لم ينفذ وعده. وكانت الحوادث تسير عندئذ بسرعة، وحسن الطالع يؤاتي المرابطين تباعاً، ولاسيما مذ أحرزوا نصرهم الحاسم بقيادة الأمير تميم ابن يوسف بن تاشفين على جيوش قشتالة في موقعة إقليش في سنة 501 هـ (1108 م)، وهي الموقعة التي أبيدت فيها القوات القشتالية، وقتل الإنفانت الطفل سانشو ولد ألفونسو السادس من حظيته زائدة الأندلسية. ولما رأى أهل سرقسطة أن أميرهم عماد الدولة لا يستجيب إلى شروطهم بتسريح قواته من النصارى، كتبوا إلى أمير المسلمين علي بن تاشفين، وهو في مراكش، يناشدونه خلع بني هود، وتسلم سرقسطة، فاستفتى على فقهاءه، فأفتوه بوجوب تحقيق هذه الرغبة، وبعث إلى قائده محمد بن الحاج والى بلنسية، أن يسير إلى سرقسطة.
ولما علم عماد الدولة بذلك، أرسل إلى أمير المسلمين خطاباً مؤثراً يستصرخه فيه، ويذكره بما كان بين والديهما من أواصر المودة، وأنه لم يصدر منه في حقه أية إساءة، وأنه من الخير أن يترك سرقسطة على حالها حاجراً بينه وبين النصارى، فرق علي لملتمسه، وكتب إلى قائده أن يكف عنه (1). ولكن الأمر كان قد قضي عندئذ. ذلك أن عماد الدولة لما شعر بمقدم المرابطين، غادر سرقسطة في أهله وأمواله إلى حصن روطة المنيع، واستقر به ينتظر الحوادث (2). وفي رواية أخرى أن ابن الحاج حينما زحف على سرقسطة، تأهب عبد الملك لمقاومته، واستنصر بألفونسو ملك أراجون، وأنه وقع بين الفريقين قتال هزم فيه ابن الحاج وقتل، ثم إن أهل سرقسطة أخرجوا عبد الملك، واستدعوا عامل أمير المسلمين، فاستولى على سرقسطة وذلك في أواخر سنة 503 هـ (3). وفي روض القرطاس أن ابن الحاج سار من بلنسية إلى سرقسطة، ودخلها في سنة 502 هـ. وأخرج منها بني هود وملكها (4).
_______
(1) الحلل الموشية ص 72.
(2) راجع: Dozy: Histoire, Vol.III.p. 154
(3) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 175.
(4) روض القرطاس ص 104.(2/292)
وهكذا انتهى حكم بني هود في سرقسطة، بعد أن دانت لحكمهم أكثر من سبعين عاماً، منذ انتزع عميدهم ومؤسس دولتهم سليمان بن هود الحكم من آل تجيب في سنة 430 هـ. وقد عاشت ولاية سرقسطة أو الثغر الأعلى في الواقع، كوحدة سياسية وعسكرية مستقلة عن الحكومة المركزية أكثر من قرنين، إذا احتسبنا عهد بني تجيب بها. وهكذا كانت سرقسطة آخر دولة من دول الطوائف تسقط في أيدي المرابطين. وتاريخها في الأعوام القليلة القادمة حتى سقوطها في يد ألفونسو الأول ملك أراجون في سنة 512 هـ (1118 م) يرتبط بتاريخ المرابطين.
على أن سقوط سرقسطة، لم يكن آخر العهد ببني هود. ذلك أن عماد الدولة عبد الملك بن المستعين، استقر بقاعدة روطة الحصينة (1)، الواقعة على نهر خالون أحد أفرع إبرُه " الإيبرو " الجنوبية. وكان بنو هود قد أعدوا هذه القاعدة وحصنوها، وزودوها بالأبنية الفخمة، لتكون لهم عند الضرورة ملجأ ومثوى، كلما نزلت بهم نازلة. واستمر عماد الدولة مقيماً بروطة، وهو يشهد الصراع المضطرم بين المرابطين والنصارى حول امتلاك سرقسطة. فلما سقطت في يد النصارى وضع نفسه تحت حماية سيدها الجديد ألفونسو ملك أراجون (ابن رذمير) واستمر على حاله، حتى توفي بروطة في شعبان سنة 524 هـ (1130 م). فخلفه في الإمارة ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الملك وتلقب بسيف الدولة المستنصر بالله، وكذلك بالمستعين بالله، واستمر في حكمه لروطة، وما حولها من الحصون والأراضي، حتى حمله ألفونسو ريمونديز ملك قشتالة، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بأدفونش بن رمند وبالسليطين، على التنازل عنها، وعوضه عنها بقسم من مدينة طليطلة، نزل فيه بأهله وأمواله، أو ببعض أملاك بجوار طليطلة أقطعه إياها، وذلك في سنة 534 هـ (1139 م) (2)، وهي حوادث نستوفيها فيما بعد في تاريخ المرابطين في شبه الجزيرة.
* * *
_______
(1) هي بالإسبانية Rueda
(2) هذه هي رواية ابن الأبار في الحلة السيراء، ص 225. وراجع ابن خلدون ج 4 ص 163، وروايته مضطربة تنقصها الدقة سواء في الوقائع أو التواريخ. ويضع ابن الأثير تاريخ تسليم المستنصر بالله حصن روطة في سنة 529 هـ (1135 م) (ج 11 ص 13). راجع كذلك: P.y Vives: ibid ; p. 50(2/293)
وقد كانت سرقسطة في عهد بني هود، كما كانت إشبيلية في عهد بني عباد، مركزاً لحركة علمية وأدبية زاهرة، وكان بنو هود من حماة العلوم والآداب، وقد نبغ بعضهم في ميدان التفكير، ولاسيما أبو جعفر المقتدر، وولده يوسف المؤتمن، وقد كان كلاهما من أكابر علماء عصره، في الفلسفة والرياضة والفلك، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل. وقد اشتهرت سرقسطة في هذا العصر بنوع خاص، أعني في القرن الحادي عشر الميلادي بالدراسات الفلسفية والرياضية.
وكان من أعلام أبنائها في هذا العصر، فيلسوف من أعظم فلاسفة الإسلام وعلمائه، هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجة، والذي يعرف في الغرب باسمه اللاتيني Avempace. وقد نشأ ابن باجة في أواخر القرن الحادي عشر بسرقسطة ودرس بها، وعاش فيها حتى مطلع شبابه قبل أن تسقط في أيدي الإسبان ونبغ في الرياضة والفلك والطبيعة والفلسفة، هذا فضلا عن براعته في الشعر والأدب.
ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم اللمتوني حكم سرقسطة من قبل المرابطين، ندب ابن باجة لوزارته، واختص به، وأغدق عليه عطفه ورعايته، بالرغم مما كان يرمي به الفيلسوف من الميول والآراء الإلحادية. ولما سقطت سرقسطة في أيدي الإسبان (1118 م) غادرها ابن باجة إلى إشبيلية، ثم إلى شاطبة، ثم نزح من الأندلس إلى المغرب، وعاش هناك حتى توفي في سنة 1138 م. وقد كتب ابن باجة زهاء خمسة وعشرين كتاباً لم يصلنا منها سوى القليل، وترك لنا عدداً من القصائد الرصينة الجزلة التي تنم روعة خياله ورائق نظمه. وهو يعتبر على العموم من أعظم المفكرين والفلاسفة الأندلسين، وقد كان لآرائه ونظرياته تأثير كبير في تفكير الفيلسوف أبي الوليد بن رشد الحفيد (1).
ونبغ في سرقسطة أيام بني هود في عهد المستعين بن المؤتمن، المفكر والفيلسوف السياسي أبو بكر الطرطوشي، نسبة إلى طرطوشة ثغر سرقسطة، وهو صاحب كتاب " سراج الملوك " الذي يعتبر بموضوعه ونظرياته المبتكرة، من الكتب التي وضعت أسس السياسة الملوكية في التفكير الإسلامي. ويشير ابن خلدون إلى هذا الكتاب في مقدمته ويعتبره من الكتب التي سبقته في موضوعه (2). وقد وضع الطرطوشي كتابه أثناء إقامته بمصر أيام الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، وأهداه
_______
(1) راجع الإحاطة لابن الخطيب ج 1 ص 414 - 416.
(2) ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص 33.(2/294)
في مقدمته إلى خلفه المأمون البطائحي، وتأثر في كتابته بتفكير فيلسوف العصر، العلامة ابن حزم القرطبي، وتوفي الطرطوشي بالإسكندرية سنة 520 هـ (1126 م).
وقد أوحت ظروف مملكة سرقسطة وأحوالها السياسية والاجتماعية يومئذ، إلى الطرطوشي بكثير من نظرياته الاجتماعية، ومنها نظرية عصبية الدولة، فإن الطرطوشي يرى أن عصبية الدولة أو قوتها الحامية، إنما تقوم " على الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة " أي الجند المرتزقة الذين يتناولون أجورهم كل شهر.
ويعارض ابن خلدون هذه النظرية، ويقول إنها لا تنطبق على الدول في أولها، وإنما تنطبق على الدولة في نهاية عهدها، بعد التمهيد واستقرار الملك، وإستحكام الصبغة لأهله، وأن الطرطوشي قد أدرك الدولة الهودية عند هرمها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة، وأدرك دول الطوائف، وذلك عند اختلال الدولة الأموية، وانقراض عصبيتها من العرب، واستبداد كل أمير بقطره، وعاش في ظل المستعين بن هود بسرقسطة، ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شىء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلثمائة من السنين وهلاكهم، ولم ير إلا سلطاناً استبد بالملك عن عشائره، وقد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة، وبقية العصبية، فهو يستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة (1). والظاهر أن الطرطوشي قد تأثر تأثراً شديداً بما شهده من اعتماد بني هود في حماية ملكهم على معاونة الجند النصارى، ولاسيما أيام السيد إلكمبيادور، وسعيهم إلى شراء هذه المعونة بالمال أينما استطاعوا، منذ ابتداء دولتهم حتى نهايتها. وقد كان ذلك في نفس الوقت شأن كثير من ملوك الطوائف الآخرين، حسبما ذكرنا في أخبارهم.
وكانت سرقسطة إلى جانب كونها مركزاً للعلوم الرياضية والفلسفية في القرن الحادي عشر الميلادي، كباقي عواصم الطوائف الأخرى، مركزاً لحركة أدبية قوية، وقد نبغ بها في ذلك العصر كثير من الأدباء والشعراء مثل ابن الدباغ، وابن حسداي، وأبي عمر بن القلاس، وغيرهم، ممن ذكرهم صاحب الذخيرة، وأورد لنا الكثير من نظمهم ورسائلهم.
_______
(1) راجع سراج الملوك للطرطوشي (القاهرة 1935) ص 229 و 231، ومقدمة ابن خلدون (بولاق) ص 130 و 131. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 284 & 285(2/295)
ولعبت سرقسطة بالأخص دوراً كبيراً في التبادل الثقافي والحضاري بين الأندلس وبين الدول الإسبانية المجاورة، والدول الفرنجية الشمالية، وقد هيأ لها موقعها بين الممالك الإسبانية على مقربة من جبال البرنيه، أن تضطلع بهذا الدور الحضاري الخطير. ومما هو جدير بالذكر أنها كانت في ذلك العصر، مهبط الفرسان النصارى من كل جنس، يجدون في بني هود وفي بلاطها الباذخ، ساحة رحبة، وكانت مركزاً لأشعار الفروسية والشعر الغنائي، الذي كان ينتشر يومئذ في أرجاء قطلونية وأراجون ونافار، ومنها كانت تنقل المقطوعات الغنائية الأندلسية إلى المجتمعات النصرانية المجاورة، فتؤثر في الملاحم والأناشيد القومية.
وقد انتقلت هذه المؤثرات، فيما بعد بمضي الزمن عبر جبال البرنيه إلى جنوبي فرنسا، ثم إلى غيرها من المجتمعات النصرانية.
ويجب أخيراً ألا ننسى دور سرقسطة المسلمة، في ترويج التبادل التجاري والمهني بين الشرق والغرب، فقد كانت مملكة سرقسطة بسيطرتها على جزء كبير من البحر المتوسط، وثغريها الكبيرين طرّكونة، وطرطوشة، تستقبل شطراً كبيراً من تجارة المشرق وتجارة الأندلس والمغرب، وتعمل على تصريفها إلى الأمم الأوربية عن طريق ثغور فرنسا الجنوبية، وثغور إيطاليا. وكان بنو هود يجنون من وراء ذلك أرباحاً طائلة، سواء من المكوس أو الوساطة التجارية، وقد كانوا في الواقع من أغنى ملوك عصرهم، وكان بلاطهم من أفخم قصور الطوائف، وأكثرها روعة وبذخاً، وإن لم تكن لهم شهرة في الجود والبذل، وقد استطاعوا بهذا الغنى الطائل، أن يجتذبوا الفرسان والمرتزقة النصارى لخدمة سياستهم، واستطاعوا بدفع الإتارات الوفيرة للملوك النصارى، أن يتقوا عدوانهم أطول وقت ممكن، ومن ثم فقد لبثت سرقسطة عصراً طويلا بمنجاة من تلك الغزوات المخربة، التي كانت تنكب بها دول الطوائف الأخرى.(2/296)
الكتِاب السادس
موقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ(2/297)
الفصْل الأوّل
نشأة المرابطين وقيام الدولة المرابطية بالمغرب
أصل المرابطين. قبيلة لمتونة وحياتها في القفر. دخولها في الإسلام. أول ملوكها. افتراق كلمتها. الأمير ابن تيفاوت اللمتوني. مصرعه وقيام الأمير يحيى الجدالي مكانه. رحيله إلى المشرق. لقاؤه بالفقيه أبى عمران الفاسي. عبد الله بن ياسين. رحيله مع الأمير إلى الصحراء. بثه لتعاليم الإسلام بين أهلها. صرامته وانصرافهم عنه. مغادرته لهم مع أصحابه وانقطاعه للعبادة. وفود أعيان صنهاجة إليه. قيام جماعة المرابطين. أطماع عبد الله الدفينة. تكاثر تلاميذه. يدعوهم إلى الجهاد. دعوته إلى اتباع أحكام الدين. مقاتلته لقبائل صنهاجة وإخضاعها. سلطانه الروحى على القبائل. يحيى بن ابراهيم الكدالي يتولى السلطة الزمنية. وفاته وقيام يحيى بن عمر اللمتوني مكانه. ورعه وفتوحه في الصحراء. صدى حركة المرابطين في المغرب. أحوال المغرب في ذلك العهد. استدعاء فقهاء درعة وسجلماسة للمرابطين. مسير المرابطين إلى درعة والاستيلاء عليها. استيلاؤهم على سجلماسة. عبد الله بن ياسين يأمر بإزالة المنكرات. وفاة الأمير يحيى وقيام أخيه أبي بكر مكانه. مسير المرابطين إلى بلاد السوس. يوسف بن تاشفين يقود الجيش. افتتاحه لقواعد السوس. الطائفة البجلية وسحقها. مسير المرابطين إلى الأطلس. افتتاحهم لأغمات. استيلاؤهم على تادلا. قبائل برغواطة ومذهبها الوثني. مطاردتهم ومحاربتهم على يد بلكين بن زيري والفتى واضح. مسير المرابطين لقتالهم. إصابة عبد الله بن ياسين ووفاته. قيام أبي بكر اللمتوني مكانه. بدء الدولة المرابطية. متابعة حرب برغواطة. افتتاح مكناسة ولواتة. أنباء الخلاف في الصحراء. أبو بكر يندب يوسف بن تاشفين للرياسة ويسير إلى الصحراء. تقسيم القوات المرابطية بين الزعيمين. أبو بكر يصلح شئون الصحراء. يوسف بن تاشفين ينظم افتتاح باقي المغرب. نجاحه واشتداد بأسه. اختطاطه لمدينة مراكش حاضرة المغرب. تنظيم يوسف للجيش. افتتاحه لمدينة فاس. مسيره إلى بلاد غمارة. فقد فاس واستردادها. عود أبي بكر من الصحراء إلى المغرب. تأثره بعظمة شأن يوسف وضخامة ملكه. لقاء الرجلين. زينب زوجة يوسف ودورها في ذلك. انصراف أبي بكر إلى الصحراء. يوسف يتم فتح المغرب. افتتاحه لطنجة. افتتاحه للمغرب الأوسط. قيام الدولة المرابطية الكبرى. يوسف بن تاشفين. نشأته وخلاله. يحكم أعظم إمبراطورية إسلامية في الغرب. ألقابه وانضواؤه تحت لواء الخلافة العباسية. يوسف وشئون الأندلس. صريخ ملوك الطوائف إليه. ظروف هذا الصريخ واختلاف الرواية في شأنه. أصل الفكرة ومبعثها. الإعتراض عليها. سقوط طليطلة وأثره في إذكائها. سفارة الأندلس إلى يوسف. العهود المتبادلة. مطالبة يوسف بثغر الجزيرة. يوسف يلبي نداء الطوائف. مسير الجيوش المرابطية إلى سبتة. جوازها إلى شبه الجزيرة. دعاء يوسف خلال الجواز.(2/298)
يجدر بنا أن نقف الآن قليلا لنلقي بعض الضوء على أصل أولئك المرابطين، الذين شملت دولتهم الكبرى، في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، سائر أنحاء المغرب من لوبية إلى المحيط غرباً، وإلى السودان جنوباً، والذين استجابوا إلى صريخ ملوك الطوائف، وعبروا البحر إلى شبه الجزيرة الإسبانية نصرة للإسلام وبنيه.
إن المرابطين هم من قبيلة لمتونة، ولمتونة هذه بطن من بطون صنهاجة، أعظم القبائل البربرية، وهي بدورها فرع من فروع قبيلة البرانس الكبرى.
وينتمي إلى صنهاجة، عدا لمتونة، عدد كبير من القبائل البربرية مثل مسوفة، ومسراتة، ومداسة، وكدالة. ووتريكة، ولمطة وغيرها. وقد لعب الكثير منها في تاريخ المغرب أدواراً ملحوظة. وفي بعض الروايات أن صنهاجة، وهي الأم الكبرى لهذه القبائل ترجع نسبتها إلى العرب اليمانية، وأنها فخذ من ولد عبد شمس ابن وائل بن حمير، وهي كسائر الروايات المماثلة في أنساب البطون البربرية رواية ضعيفة، تقوم على القصص والأسطورة (1).
وكانت لمتونة تسكن منذ عصور بعيدة قبل الإسلام في قلب الصحراء، ما بين جنوبي المغرب والسودان. في تلك المنطقة التي كانت تسمى منذ أيام الرومان إقليم " موريتانيا ". وكانت تؤثر حياة القفر على أية حياة أخرى " انتباذاً عن العمران، واستئناساً بالانفراد، وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر "، وكانوا يعتمدون في قوتهم على لحم الإبل ولبنها، ولا يعرفون حرثاً ولا ثماراً، ولا يأكلون الخبز (2). وكان شعارهم " اللثام " ومن ثم فقد عرفوا " بالملثمين "، وقيل في سبب ذلك إنهم كانوا يتخذون في أعراسهم نوعاً خاصاً من الحجاب، أو لأنه حدث ذات مرة في بعض حروبهم أن نساءهم كن يقاتلن معهم محجبات، حتى يحسبن بذلك في عداد الرجال (3)، وقيل بل كانوا يقلدون في ذلك قبيلة حمير التي يدعون الانتساب إليها.
وذكر لنا أبو عبيد البكري، في معجمه " المسالك والممالك "، فيما يتعلق بأمر اللثام الذي يلتزمه المرابطون، أن جميع قبائل الصحراء يلتزمون، النقاب، وهو
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 75.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 181، وروض القرطاس ص 76.
(3) راجع الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي (1306 هـ) ج 1 ص 98 و 99.(2/299)
فوق اللثام، حتى لا يبدو منه إلا محاجر عينيه، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال، ولا يميز رجل من وليه ولا حميمه إلا إذا تنقب. وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل. ونزل قناعه لم يعلم من هو حتى يعاد عليه القناع، وصار ذلك لهم ألزم من جلودهم، وهم يسمون من خالف زيهم هذا من جميع الناس أفواه الذبان بلغتهم (1).
وكانت لمتونة، كسائر القبائل البربرية، تدين بالمجوسية، واستمروا على ذلك حتى ذاع بينهم الاسلام عقب فتح الأندلس، وبدأت رياستهم من ذلك الحين تتخذ نوعاً من الملك. وفي أيام عبد الرحمن الداخل، أعني في أواسط القرن الثاني الهجري، كان ملكهم يدعى تيولوثان بن تيكلان الصنهاجي اللمتوني، فبسط سلطانه على سائر نواحي الصحراء، وحارب القبائل الوثنية، ونشر الإسلام بين كثير منها، وفرض الجزية على سائر ملوك السودان المجاورين، وكانت مملكته بالصحراء مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها. ولما توفي في سنة 222 هـ، خلفه في الرياسة حفيده الآثر بن بطين بن تيولوثان (2)، واستطال حكمه زهاء خمسة وستين عاماً، حتى وفاته في سنة 287 هـ، فخلفه ولده تمييم، واستمر في الحكم إلى أن ثار عليه في سنة 306 هـ أشياخ قبيلة صنهاجة وقتلوه. وعندئذ افترقت كلمة الجماعة، وانقسموا شيعاً، واستمروا دون رياسة جامعة زهاء مائة وعشرين عاماً، إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفاوت اللمتوني المعروف بتارسنا، فالتفوا حوله، واجتمعوا على رياسته. وكان أميراً فاضلا ورعاً، شغوفاً بالجهاد، فلم يطل أمد حكمه سوى ثلاثة أعوام، إذ استشهد في غزوة من غزواته ضد بعض قبائل السودان الوثنية. فولى من بعده صهره الأمير يحيى بن ابراهيم الجدالي، زعيم قبيلة جدالة أوكدالة، وهي شقيقة لمتونة يجمعهما أب واحد، واستمر على رياسته لصنهاجة، وقيادتها في حروبها ضد أعدائها، حتى سنة 427 هـ (1035 م) (3)، ثم استخلف في الرياسة ولده إبراهيم
_______
(1) المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب المستخرج من كتاب " المسالك والممالك " لأبى عبيد البكري والمنشور بعناية المستشرق البارون دي سلان (الطبعة الثانية) ص 170.
(2) وردت هذه التسمية في روض القرطاس ص 76. ولكن ابن خلدون يسميه يلتان (ج 6 ص 182).
(3) هذه رواية ابن أبي زرع (ص 77)، ويوافقه صاحب الاستقصاء (ج 1 ص 99)، ولكن ابن خلدون يضع نهاية رياسته في سنة 440 هـ (ج 6 ص 182).(2/300)
ابن يحيى، ورحل إلى المشرق مع طائفة من زعماء قومه، ليقضي فريضة الحج.
والظاهر أيضاً أن يحيى الكدالي كانت تحدوه في تلك الرحلة مُثل أخرى، فهو قد رأى ما كان عليه قومه من التأخر والجهل بتعاليم الإسلام وأصوله، فرحل إلى المشرق يطلب العلم إلى جانب قضاء الفريضة. ولما عاد من المشرق، عرج في طريقه على مدينة القيروان، وهنالك التقي وصحبه بالفقيه أبى عمران الفاسي شيخ المذهب المالكي يومئذ، وتأثروا بوعظه وعلمه. وشكا إليه يحيى من جهل قومه، وطلب إليه أن يختار له فقيهاً من تلاميذه، يتولى تعليم قومه وتثقيفهم بتعاليم الإسلام الصحيحة، ولما لم يجد أبو عمران من تلاميذه بالقيروان من يقبل تلبية هذه الدعوة، بعث معه كتاباً إلى تلميذ من تلاميذه بالسوس الأقصى يدعى أبو محمد واجاج بن زلوا اللمطي، وكان فقيهاً ورعاً يدرس العلم لتلاميذه في رباط خاص أنشأه لذلك، فلما مثل لديه يحيى قرأ خطاب الشيخ أبى عمران على تلاميذه، فاستجاب للدعوة منهم رجل يدعى عبد الله بن ياسين الجزولي، وكان من أنبه تلاميذه وأكثرهم علماً وورعاً. وكان قد رحل إلى الأندلس، وأنفق فيها بضع سنين يدرس في ظل الطوائف، فزاد علماً وتجربة. فسار مع يحيى إلى الصحراء، فاغتبطت بمقدمه لمتونة وكدالة، واستقبلوه بمنتهى الحفاوة والتكريم (1).
- 1 -
وكان عبد الله بن ياسين فقيهاً شديد الورع، والغيرة على تعاليم الإسلام، وكان فوق ذلك خطيباً موهوباً قوي التأثير، فأخذ يبث تعاليم الدين بين أولئك البدو الصحريين، ويبصرهم بأحكام الإسلام، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. بيد أنه اشتد في مؤاخذتهم، ومطالبتهم بالإقلاع عن تقاليدهم المنافية للإسلام مثل الزواج بأكثر من أربع، وكان من الأمور الشائعة بينهم، وغير ذلك من التقاليد المغرقة، فأخذوا ينصرفون عنه، ويعرضون عن تعاليمه، لما رأوا من صرامته، وما تكبدهم تعاليمه من المشقة والضيق. وعندنذ عول عبد الله، وتلميذه وصديقه الوفي يحيى بن ابراهيم، على انتباذ أولئك البدو الجهلة، والانقطاع إلى العبادة والزهد، في أحد المواضع النائية، وانضم إليه في ذلك سبعة نفر من كدالة
_______
(1) روض القرطاس ص 77 و 78، والإستقصاء ج 1 ص 99 و 100، وابن خلدون ج 6 ص 192. وراجع الحلل الموشية ص 9.(2/301)
ويحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة. ويقول لنا ابن خلدون إن عبد الله ابن ياسين وأصحابه انقطعوا للعبادة في جزيرة يحيط بها بحر النيل من سائر جهاتها، وهو قول لا يمكن أن ينصرف إلى نهر النيل المعروف لنا، لبعد النيل عن صحراء المغرب الجنوبية بمسافات شاسعة، ولكن تفسير هذا الغموض يرجع إلى أن " نهر النيجر " كان يظن يومئذ أنه امتداد أو فرع لنهر النيل العظيم، يخترق الأقطار السودانية الغربية. ومن ثم فقد كان نهر النيجر يعرف يومئذ بنهر النيل أو النهر الأعظم، وبهذا الاسم يسميه الرحالة ابن بطوطة في أقواله عن رحلته في مملكة مالي السوداء (1).
وإذاً فإن الموضع الذي انقطع فيه عبد الله بن ياسين وأصحابه للعبادة كان فيما يرجح جزيرة تقع في منحنى نهر " النيجر " على مقربة من تنبكتو، وهذا ما يؤيده وصف صاحب روض القرطاس (2).
وعلى أي حال فقد انقطع عبد الله وصحبه للعبادة في هذا الموضع، وابتنوا به رابطة للصلاة والعبادة، وما لبث أن اشتهر أمره، ووفد عليه كثير من أشراف صنهاجة ممن آثروا الزهد والعبادة، فعكف عبد الله على تثقيفهم ووعظهم، وسماهم " بالمرابطين " للزومهم رابطته، وأخذ يعلمهم أحكام الكتاب والسنة والصلاة والزكاة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويشوقهم إلى الجنة، ويحذرهم عذاب النار، ويلهب حماستهم للجهاد في سبيل الله، ومقاتلة المخالفين لأحكام كتابه. وكان عبد الله بن ياسين، حسبما أسلفنا واعظاً موهوباً، وخطيباً ذلقاً مؤثراً، وكان هذا الفقيه الورع، يضطرم في أعماق نفسه بمشاريع وأطماع دفينة أخرى، غير تلقين أحكام الدين، وبث الورع والخشوع في نفوس أصحابه.
ْذلك أنه ما كاد يرى كثرة تلاميذه - فقد بلغوا الألف عندئذ - ويوقن بولائهم، وانقيادهم لأوامره، حتى دعاهم إلى الجهاد بصورة عملية، وبعثهم إلى أقوامهم، لينذروهم، ويطلبوا إليهم الكف عن البدع والضلالات، واتباع أحكام الدين الصحيح، ففعلوا ما أمروا به، ودعا كل قومه إلى الرشد والهدى، ومجانبة التقاليد المنافية للدين، فلم يصغ لهم أحد من أقوامهم، فخرج إليهم عبد الله ابن ياسين بنفسه، واستدعى أشياخ القبائل ووعظهم، وحذرهم عقاب الله،
_______
(1) راجع رحلة ابن بطوطة (القاهرة 1322 هـ) ج 2 ص 201 و 202 و 203.
(2) روض القرطاس ص 79.(2/302)
ونصحهم باتباع أحكامه، فلم يلق منهم سوى الإعراض والتحدي، فعندئذ قرر عبد الله وصحبه إعلان الحرب على أولئك المخالفين، وكان صحبه يزداد عديدهم كل يوم، حتى بلغوا بضعة آلاف.
وخرج عبد الله بن ياسين لقتال كدالة، فغزاهم في نحو ثلاثة آلاف، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأسلم الباقون من جديد إسلاماً صحيحاً (434 هـ - 1042 م).
ثم سار لقتال لمتونة، وضيق عليهم حتى أذعنوا للطاعة، وبايعوه على الكتاب والسنة.
وسار بعد ذلك لقتال مسوفة فحذوا في الطاعة والبيعة حذو لمتونة. وهكذا تعاقب خضوع قبائل صنهاجة واحدة بعد الأخرى، حتى خضعوا جميعاً. وكان من ْتعاليمه أن يضرب التائب مائة سوط حتى يطهر، ثم يلقن تعاليم القرآن وأحكام الشرع. وبسط عبد الله بن ياسين سلطانه الروحي على سائر قبائل تلك الصحارى، وجعل السلطة الزمنية ليحيى بن ابراهيم الكدالي، وإن كان هو المستأثر في الواقع بكل سلطة وإليه الأمر والنهي، وجبى عبد الله الأموال من الزكاة والعشور والفيء، واقتنى الخيل والسلاح، واشتد بأسه، واشتهر أمره في سائر جنبات الصحراء، وفي المغرب والسودان. ولما توفي الأمير يحيى بن إبراهيم، ندب عبد الله مكانه للرياسة الأمير يحيى بن عمر بن تلاكاكين اللمتوني ليتولى شئون الحرب والجهاد (1).
وكان يحيى بن عمر اللمتوني أميراً ورعاً زاهداً، وكان كثير الولاء والطاعة لعبد الله بن ياسين. ومما يروى في ذلك أن عبد الله ضربه ذات يوم عشرين سوطاً لأنه باشر القتال بنفسه مع جنده، ولأن الأمير يجب ألا يعرض نفسه للمخاطر، وأن يقتصر على حث جنده وتقوية نفوسهم، وحياة الأمير هي حياة عسكره وفي موته فناء جيوشه. وقاد الأمير يحيى عدة حملات، وافتتح جميع جهات ْالصحراء، وغزا بلاد السودان وافتتح كثيراً من أنحائها. وكانت حركة المرابطين وأعمال زعيمهم عبد الله بن ياسين قد أخذت تحدث صداها في قواعد المغرب.
وكان المغرب يومئذ، قد انقسم بعد انقضاء أمر الأدارسة، وبعد أن لبث منذ منتصف القرن الرابع مسرحاً لحروب الشيعة وخلفاء قرطبة الأمويين، إلى ممالك
_______
(1) روض القرطاس ص 80، والاستقصاء ج 1 ص 101.(2/303)
وإمارات عدة، تسودها مختلف القبائل البربرية، ولاسيما صنهاجة وزناته ومغراوة، وكانت أعظم ممالكهم مملكة زيري بن عطية الزناتيين وبنيه بعده، وقد استطالت منذ أيام المنصور بفاس، ومعظم أعمال المغرب الشمالي، حتى أوائل القرن الخامس، واستقر بنو يفرن بأعمال الشاطىء في سلا وما يليها، واستقر بنو خزرون المغراويون بدرعة وسجلماسة وأعمالها، وبأنحاء أخرى في أواسط المغرب. واستقرت برغواطة جنوباً بشاطىء المحيط. وهكذا كان المغرب يقدم يومئذ بظروفه وإماراته الصغيرة المتفرقة، فرصة طيبة للطامعين والمتوثبين. وكانت العناصر الناقمة في تلك الإمارات المستبدة، تتطلع إلى أولئك القوم الجدد، الذين يضطرمون بالحماسة الدينية وينادون بالإصلاح، والتزام أحكام القرآن والسنة. ففي سنة 444 هـ بعث فقهاء درعة وفقهاء سجلماسة بكتبهم إلى عبد الله ابن ياسين، وإلى الأمير يحيى اللمتوني وأشياخ المرابطين، يشكون ما يقع في بلادهم من ضروب الظلم والعسف، والخروج على أحكام الدين، ويدعونهم إلى إنقاذ المسلمين من هذا النير المرهق. وكانت درعة وسجلماسة يومئذ تحت حكم بنى وانودين من زعماء مغراوة، وأميرهم يومئذ هو مسعود بن وانودين، فجمع عبد الله بن ياسين أشياخ المرابطين وشاورهم في الأمر، فرأوا وجوب قبول الدعوة والسير إلى غوث أهل المدينتين. ففي سنة 445 هـ خرج المرابطون من الصحراء على خيولهم في حشد ضخم، وعلى رأسهم عبد الله بن ياسين ويحيى اللمتوني، وقصدوا أولا إلى مدينة درعة فأخرجوا عنها عاملها، واستولوا عليها واستولوا في أرباضها على خمسين ألف من الإبل من أموال أميرها مسعود، ونهض مسعود بن وانودين لرد الغزاة والدفاع عن أراضيه، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، قتل فيها مسعود، وأبيد معظم جنده، واستولى المرابطون على دوابهم وأسلابهم. ثم ساروا إلى سجلماسة، فاقتحموها، وقتل من كان بها من جند مغراوة. وأمر عبد الله بن ياسين بإزالة المنكرات ورفع المكوس الجائرة، وتفريق الأخماس على المرابطين وفقهاء البلدين، وتطبيق أحكام الدين، وندب لحكم سجلماسة عاملا من اللمتونيين، وكانت هذه بداية الفتح المرابطي للمغرب (1).
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 183. ويضع ابن أبي زرع تاريخ هذه الغزوة في سنة 447 هـ (روض القرطاس ص 81). وراجع السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 102.(2/304)
وهنا يذكر لنا أبو عبيد البكري، أن عبد الله بن ياسين بعد أن أتم فتح سجلماسة، سار جنوباً وغزا في سنة 446 هـ، مدينة أودفست، وهي من أعمال مملكة غانة السوداء، وبينها وبين سجلماسة مسيرة شهرين، وبينها وبين مدينة غانة مسيرة خمسة عشر يوماً. وكان يسكن هذه المدينة خليط من زناتة والعرب، فدخلها المرابطون واستباحوها، وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئاً (1).
وفي سنة 447 هـ توفي الأمير يحيى بن عمر اللمتوني، فعين عبد الله بن ياسين مكانه للقيادة أخاه أبا بكر بن عمر. وكانت الخطوة الثانية في افتتاح المغرب، هي غزو بلاد السوس، ففي ربيع الثاني سنة 448 هـ، سار المرابطون نحو جنوب غربي المغرب قاصدين بلاد السوس، وجعل الأمير أبو بكر على مقدمة جيشه ابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني، وهي أول مرة تقدم إلينا الرواية فيها، عاهل المرابطين العظيم فيما بعد. وبدأ بغزو بلاد جزولة ثم فتح ماسة، ثم سار إلى مدينة تارودنت قاعدة بلاد السوس فافتتحها. وكان بتارودنت طائفة من الرافضة تسمى البجلية نسبة إلى مؤسسها، على بن عبد الله البجلي الرافضي، وكان قد قدم إلى تلك الأنحاء أيام عبد الله الشيعي (أواخر القرن الثالث الهجري)، ونشر بها مذهبه، وهو يتضمن كثيراً من التعاليم المثيرة، فقتل المرابطون أولئك الروافض وارتد من بقي منهم إلى السنة، ودوخ المرابطون بلاد السوس، واستولوا على سائر نواحيها، وعين عبد الله بن ياسين لها عمالا من المرابطين، وأمرهم باتباع العدل والسنة، والاكتفاء بتحصيل الزكاة والأعشار، وإسقاط ما عدا ذلك من المغارم الجائرة.
وعبر المرابطون بعد ذلك جبال الأطلس، وقصدوا إلى بلاد المصامدة، وتوغلوا في جبال درن، وفتحوا وردة وشفشاوة ونفيس، وسائر بلاد منطقة جدميوه، وبايعتهم قبائل تلك الناحية. ثم ساروا إلى مدينة أغمات، وكانت يومئذ لمغراوة، وأميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوى، فضربوا حولها الحصار، ودافع لقوط عن مدينته أشد دفاع، ولكنه لما رأى عبث المقاومة، فر منها في أهله وحشمه تحت جنح الظلام، والتجأ إلى حماية بني يفرن أمراء تادلا. ودخل عبد الله بن ياسين وجنده المرابطون أغمات في سنة 449 هـ، وأقام
_______
(1) كتاب المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب المستخرج من كتاب " المسالك والممالك " والمنشور بعناية البارون دي سلان (الطبعة الثانية) ص 168.(2/305)
بها نحو شهرين حتى استراح جنده. ثم قصد إلى بلاد بني يفرن وهاجم قاعدتهم تادلا واقتحمها، وقتل من بها من بني يفرن، وظفر بلقوط المغراوي فقتله، وكانت زوجه زينب بنت إسحاق النفزاوية قد اشتهرت بحسنها ونبلها، فتزوجها الأمير أبو بكر اللمتوني. وبعد أن نظم عبد الله بن ياسين شئون هذه المنطقة سار إلى تامسنا لمقاتلة قبائل برغواطة.
وكانت هذه القبائل تدين بمذهب تنافي تعاليمه الإباحية أحكام الإسلام، أسسه رجل يهودي الأصل يدعى صالح بن طريف البرناطي نسبة إلى برناط، وهو حصن من أعمال شذونة بالأندلس، ووفد على منطقة تامسنا منذ أوائل القرن الثاني من الهجرة ونشر مذهبه بين أهلها، وهم قوم تسودهم البداوة والجهالة المطلقة، فادعى النبوة وأنه قد نزل عليه قرآن جديد، كان يتلو بعض سوره وزعم أنه المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، وجعل الصلوات خمساً في النهار وخمساً في الليل، والصوم في شهر رجب، وأباح لهم الزواج بأي عدد من النساء إلى غير ذلك. وكثر عدد أنصاره بمضي الزمن حتى أصبحوا أمة كبيرة يطلق عليها برغواطة. وفي بعض الروايات أن برغواطة تنتمي إلى قبيلة زناتة الشهيرة.
ويقول ابن خلدون إنهم من المصامدة من حيث الوطن والجوار، وهم قبائل شتى لا يجمعهم أصل واحد، وإنما هم أخلاط من البربر اجتمعوا إلى مذهب صالح بن طريف (1). وأقام هذا الدعي صالح بن طريف لنفسه رياسة وملكاً في تلك المنطقة، منطقة تامسنا، وشاطىء المحيط الممتد من شمالي أزمور جنوباً حتى آسفي، وتوارث أعقابه وقرابته الملك من بعده. واشتهر منهم في أواخر القرن الثالث أبو غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح، واشتدت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة. وحارب ملوك العدوتين المغرب والأندلس، من الأدارسة وبني أمية والشيعة، قبائل برغواطة، وحاربهم بلكين بن زيري زعيم صنهاجة، حينما غزا المغرب سنة 368 هـ، ولقيه أميرهم أبو منصور عيسى بن أبي الأنصاري في قومه، فهزم وقتل، وأمعن بلكين فيهم تقتيلا. ثم حاربهم المنصور بن أبي عامر، وبعث لقتالهم الفتى واضح،
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 209 و 210، والاستقصاء ج 1 ص 103.(2/306)
فأثخن فيهم. وحاربهم بنو يفرن. وهكذا استمرت قبائل برغواطة، هدفاً للعداء والنقمة، حتى كان ظهور المرابطين في أوائل القرن الخامس.
وكان من الطبيعي أن يتجه المرابطون إلى قتال هؤلاء الأقوام الكفرة الوثنيين.
ومن ثم فقد سار عبد الله بن ياسين، وقائده أبو بكر اللمتوني في جموع المرابطين إلى أرض برغواطه، وكان الأمير عليهم يومئذ أبو حفص بن عبد الله بن أبي غفير ابن محمد بن معاذ، المتقدم الذكر. ونشبت بين المرابطين وبين البرغواطيين وقائع شديدة، أصيب فيها عبد الله بن ياسين الجزولي إمام المرابطين، ومنشىء طائفتهم، بجراح بالغة توفي منها في نفس اليوم. وجمع قبيل وفاته أشياخ المرابطين وحثهم على الثبات في القتال، وحذرهم من عواقب التفرقة والتحاسد في طلب الرياسة. وكان مصرعه في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 451 هـ (1059 م) ودفن في مكان يعرف بكريفلة أوكريفلت على مقربة من تامسنا، وأقيم على قبره فيما بعد مسجد، وما يزال مزاره قائماً معروفاً حتى اليوم. وفي الحال اتفق رأي المرابطين على اختيار قائدهم أبي بكر بن عمر اللمتوني للرياسة مكان إمامهم المتوفى، وهو اختيار أوصى به عبد الله قبل أن يلفظ النفس الأخير (1)
وكان عبد الله بن ياسين فقيهاً شديد الورع والتقشف، شديد الحمية والتعصب لمذهبه، وقد ألفى في تلك القبائل الصحرية الساذجة، مادة طيبة لبث تعاليمه، واستطاع أن يذكي في نفوس أولئك المرابطين - أتباعه - تلك الحماسة الدينية البالغة، التي حملتهم من الصحراء إلى ربوع المغرب، وعاونتهم على انتزاعها تباعاً من أيدي القبائل الخصيمة. بيد أن عبد الله كان مع شديد ورعه، مشغوفاً بالنساء، يتزوج في كل شهر عدداً منهن ويطلقهن، ويسعى إلى خطبة الحسان أينما وجدن. وكان يأخذ ثلث الأموال المختلفة، وهو إجراء يصفه المؤرخ بالشذوذ (2).
وقد ذكر لنا أبو عبيد البكري في معجمه " المسالك والممالك " بعض الأحكام الشاذة التي كان يطبقها عبد الله بن ياسين على المرابطين المنضوين
_______
(1) روض القرطاس ص 84. ويضع ابن خلدون تاريخ وفاة عبد الله بن ياسين في سنة 450 هـ (ج 6 ص 209).
(2) روض القرطاس ص 84.(2/307)
تحت إمامته، وفي مقدمتها أخذه الثلث من مختلف الأموال بحجة أن ذلك يطيب باقيها، وهو مالا تسوغه الشريعة، من أي مذهب، ومنها أن الرجل إذا دخل في دعوتهم، وأبدى توبته على سالف ذنوبه، قيل له أنك ارتكبت في سالف شبابك ذنوباً كثيرة، ويجب أن يقام عليك حدودها، وتطهر من إثمها، فيضرب حد الزاني مائة سوط، وحد المفتري ثمانين سوطاً، وحد الشارب مثلها. وكذلك يفعل المرابطون بمن تغلبوا عليه، وأدخلوه قسراً في رباطهم، وإن علموا أنه قتل قتلوه، سواء أتاهم تايباً طائعاً، أو غلبوا عليه مجاهراً عاصياً. ومن تخلف عن شهود الصلاة مع الجماعة ضرب عشرين سوطاً، وغير ذلك من الأحكام القاسية التي لا تطبعها سماحة الإسلام الحقيقي (1).
- 2 -
ونستطيع أن نقول إنه بوفاة عبد الله بن ياسين، وقيام أبي بكر اللمتوني مكانه في الرياسة، تبدأ الدولة اللمتونية أو الدولة المرابطية. وهو أبو بكر بن عمر بن تلاكاكين بن واياقطين. وكان أول ما عنى به بعد دفن الإمام، هو متابعة حرب برغواطة، فحشد سائر قواته، وجد في قتالهم، وأثخن فيهم، حتى مزق طوائفهم، وقتل وسبى منهم جموعاً كبيرة، حتى أذعنوا إلى الطاعة وأسلموا إسلاماً جديداً، ونبذوا تقاليدهم الوثنية المثيرة. وجمع ما استولى عليه من الأموال والغنائم، وقسمها بين المرابطين، ثم عاد إلى مدينة أغمات، وأقام بها حتى شهر صفر سنة 452 هـ (1060 م). ثم غادرها في قوات ضخمة من صنهاجة وجزولة، والمصامدة، وافتتح بلاد فازاز ومكناسة، وسائر أراضي زناتة، ثم سار إلى مدينة لواتة، وكانت بيد بني يفرن فاقتحمها عنوة وخربها وقتل بها خلقاً كثيراً، وذلك في شهر ربيع الثاني سنة 452 هـ، وعاد بعدئذ إلى أغمات.
ولبث أبو بكر في أغمات بضعة أشهر أخرى، وعندئذ وفد إليه رسول من بلاد القبلة قاعدتهم بالصحراء، ونبأه باختلاف المرابطين هناك، ووقوع الخلاف
_______
(1) المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، المستخرج من كتاب المسالك والممالك، والمنشور بعناية البارون دي سلان ص 169.(2/308)
بين لمتونة ومسوفة، فخشى أبو بكر أن يتفاقم الأمر هناك بين القبائل الشقيقة، وقد كانت الصحراء منبع أمرهم، ومطلع سلطانهم، فقرر أن يعود إلى قومه، ليجبر الصدع ويوحد الكلمة. فوكل شئون المغرب لابن عمه يوسف بن تاشفين ونزل له عن زوجته الحسناء زينب بنت إسحاق النفزاوية، بعد أن طلقها، حتى لا تشاطره خشونة الحياة الصحرية، فتزوجها يوسف فيما بعد، وأمره بمتابعة قتال مغراوة وبني يفرن وزناتة، ووافق أشياخ المرابطين على هذا الاختيار، لما يعلمونه عن يوسف " من دينه وفضله وشجاعته وحزمه وشدته وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته " (1).
وقسمت القوات المرابطية عندئذ إلى جيشين، تولى يوسف إمرة أحدهما ليتم به إخضاع المغرب، وتولى أبو بكر إمرة الآخر. وخرج أبو بكر في جيشه في شهر ذي القعدة سنة 453 هـ (ديسمر 1061 م) واخترق بلاد تادلا وسجلماسة، ثم سار جنوباً إلى الصحراء، وهناك قام بإصلاح شئونها، والقضاء على أسباب الخلاف بين أقوامها، وتوحيد كلمتهم، ثم حشد قوات جديدة، وسار في جيشه الضخم إلى بلاد السودان، فغزا الكثير من نواحيه، وتوغل في أراضيه إلى مسيرة ثلاثة أشهر. وفي تلك الأثناء كان يوسف بن تاشفين، يؤدي مهمته العظيمة في افتتاح باقي أقطار المغرب، فبدأ بذلك بأن قسم الجيش المرابطي، وقد بلغ يومئذ أربعين ألف مقاتل، إلى أربعة أقسام، اختار لها أربعة من أقدر قواده، وهم سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن تميم الكدالي، وعمر بن سليمان المسوفي، ومدرك التلكاني، وعقد لكل منهم على خمسة آلاف، وجعلهم في مقدمة قواته، وبعث بهم إلى مختلف أنحاء المغرب، وتولى هو قيادة بقية الجيش يسير به في أثرهم. وأخذت تلك الجيوش المرابطية في محاربة القبائل الخصيمة، ولاسيما مغراوة وزناتة وبني يفرن، ودوختها وغلبت على سائر أراضيها، وهرعت القبائل يجنح بعضها إلى المقاومة حتى يهزم ويغلب، ويجنح البعض الآخر إلى الاستسلام والطاعة. ولم تمض بضعة أشهر حتى كان يوسف قد غلب على معظم نواحي المغرب الجنوبية والوسطى، فعاد من غزاته المظفرة إلى أغمات في أواخر سنة 454 هـ، وقد عظم أمره، واشتد بأسه، وذاع صيته في سائر أنحاء المغرب.
_______
(1) روض القرطاس ص 89، وابن خلدون ج 6 ص 184.(2/309)
وفكر يوسف عندئذ أن يختط لنفسه محلة، تكون قاعدة لجيوشه، ومستودعاً لذخائره، ووقع اختياره في ذلك على أرض تقع شمال غربي مدينة أغمات، وكانت لبعض المصامدة، فاشتراها يوسف واختط بها قصبة ومسجداً، وكان يعمل في بناء المسجد بنفسه مع الفعلة، فكان ذلك مولد مدينة مَرَّاكُش الشهيرة (سنة 454 هـ - 1062 م). وكان هذا الاسم يطلق على هذا المكان، ومعناه بلغة المصامدة، " إمش مسرعاً ". إذ كان مأوى اللصوص وقطاع الطريق. واختار يوسف أن تكون قاعدته في قلب بلاد المصامدة، إذ كانوا أشد قبائل المغرب قوة وأكثرهم جمعاً، وكانوا قوام جيوشه، ومن جهة أخرى فقد كانت القاعدة الجديدة تقع في حمى جبل درن من شعب الأطلس. ونزل يوسف في محلته بالخيام أولا ودون أن تبنى أسوارها، ثم أقيمت بها القصور والأبنية فيما بعد، واختط بها الناس وحفرت بها الآبار، على أن مراكش لم يكمل بناؤها وتتسع رقعتها، ويقام سورها العظيم، إلا في عهد على بن تاشفين ولد يوسف، وذلك في سنة 526 هـ. وقد كان القسم الذي أنشأه يوسف من مدينة مراكش العظيمة، يشمل القسم الذي يعرف بسور الحجر فيما بينه وبين جامع الكتبيين، وهو الذي يعرف اليوم بالسجينة. وقد غدت مراكش في فترة يسيرة من أعظم المدن المغربية وأجلها، وغدت من ذلك التاريخ، قاعدة الدول المغربية العظيمة، ما عدا دولة بني مرين، ولعبت في تاريخ المغرب أعظم دور. وما زالت تحتفظ حتى اليوم بكثير من روعتها وجلالها القديم (1).
وعمل يوسف في ذلك الحين على تقوية جيشه وحرسه، فاقتنى من العبيد نحو ألفين، وبعث إلى الأندلس فاشترى عدداً كبيراً من العلوج والأرقاء النصارى، وأنشأ منهم فرقة قوية من الفرسان برسم حرسه وحجابته، واشتهرت فيما بعد ببلائها في مواقع كثيرة، واستعان يوسف على نفقاته العسكرية بما فرضه يومئذ على اليهود من ضرائب فادحة اجتمع له منها مال كثير (2).
وما كاد يوسف ينتهي من إنشاء حاضرته، وتنظيم جيشه. حتى تأهب لفتح مدينة فاس عاصمة المغرب القديمة، وأعظم مدائنه يومئذ. وكانت الجيوش
_______
(1) راجع في إنشاء مراكش: روض القرطاس ص 89، وابن خلدون ج 6 ص 184، والاستقصاء ج 1 ص 107. وراجع ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة مراكش.
(2) الحلل الموشية ص 13.(2/310)
المرابطية، قد تضخمت في تلك الأثناء، وعنى يوسف بتنظيمها، وتجهيزها بالرماة والعدة، والبنود والطبول، ويقال إنها بلغت يومئذ أكثر من مائة ألف فارس من قبائل صنهاجة، وجزولة، وزناتة، والمصامدة. وفي أواخر سنة 454 هـ سار يوسف لافتتاح مدينة فاس، فتلقته قبائلها من زواغة ولماية ولواتة وصدينة ومغيلة ومديونة وغيرها، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، انهزمت فيها تلك القبائل، وامتنعت بصدينة، فاقتحمها يوسف، وقتل منها عدة آلاف.
ثم سار إلى فاس، ونازل أولا قلعة فازاز وهي من حصونها الأمامية، ثم زحف على فاس ذاتها، وبها صاحبها معنصر المغراوي، وافتتح حصونها تباعاً، ثم اقتحمها، وذلك في سنة 455 هـ، واستعمل عليها عاملا من لمتونة. وسار بعد ذلك إلى بلاد غمارة، وغلب على كثير من نواحيها، حتى أشرف على طنجة.
وفي خلال ذلك عاد بنو معنصر المغراوي إلى فاس، فاقتحموها وقتلوا عامل يوسف، واحتلوها، واضطر يوسف أن يعود لمنازلتها، فسار إليها في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار بشدة، ثم اقتحمها عنوة، وقتل بها كثيراً من مغراوة وبني يفرن، وذلك في أوائل سنة 462 هـ (1069 م).
- 3 -
ويجب قبل أن نتم الكلام عن فتوح يوسف، أن نعطف على واقعة كان لها أثرها الحاسم في حياة يوسف، وفي مصاير دولة المرابطين، وذلك أن الأمير أبا بكر اللمتوني بعد أن نظم شئون الصحراء، وقضى في غزواته بضعة أعوام، نمى إليه ما وفق إليه ابن عمه يوسف من الفتوح العظيمة، ومن ضخامة السلطان واستقراره، فقرر أن يعود إلى المغرب ليسبر غور الأمور، وربما جال بخاطره أن يعزل يوسف، وأن يسترد هو سلطانه، باعتباره أمير المرابطين الشرعي.
ويقول لنا صاحب الحلل الموشية إن مقدم أبي بكر من الصحراء إلى المغرب كان في سنة 465 هـ، وإنه نزل بمحلته خارج مدينة أغمات، فهرع صحبه إلى مراكش العاصمة الجديدة، لرؤيتها والسلام على يوسف، واستقبلهم يوسف بالترحاب، وأغدق عليهم الهدايا والصلات (1). وأدرك أبو بكر مبلغ ما انتهى إليه يوسف من الضخامة والتوطد، وما يتمتع به من المحبة والنفوذ بين طائفته، وأنه لم يبق
_______
(1) الحلل الموشية ص 13 و 14.(2/311)
له أمل في انتزاع شىء مما في يده. بيد أنه يبدو لنا على ضوء رواية ابن أبى زرع وابن خلدون أن مقدم أبى بكر إلى المغرب كان قبل ذلك بقليل. ذلك أن زينب النفزاوية زوجة يوسف، لعبت دوراً في لقاء الرجلين. وقد توفيت زينب في سنة 464 هـ. وخلاصة هذه الرواية أن يوسف شعر عند مقدم أبى بكر بدقة الموقف، وما يتهدد سلطانه، فاستشار زوجه زينب النفزاوية في الأمر، وكانت إلى جانب جمالها من أعقل نساء زمانها، وأبعدهن نظراً، وكان مذ تزوجها يرجع إليها في عظائم الأمور، ويعتمد على نصحها، وذكائها، وحسن سياستها فأشارت عليه بأن يستقبل أبا بكر بالجفاء والغلظة، ويشعره بقوة السلطان والاستبداد، ويلاطفه مع ذلك بالهدايا والطعام والخلع بما يصلح للصحراء. وسار يوسف للقاء أبي بكر، فالتقيا بموضع بين أغمات ومراكش. وشعر أبو بكر مما أبداه يوسف، ومن تعاليه في السلام عليه وهو راكب فرسه، أنه حريص على سلطانه، مستعد للدفاع عنه، وزهد في التنافس والقتال، وأوصى يوسف باتباع العدل والرفق، ثم ودعه وعاد إلى الصحراء، وقد زوده يوسف بطائفة عظيمة من الهدايا الجليلة، من المال والخيل والبغال والأسلحة المحلاة بالذهب، والجواري والثياب الفاخرة والمؤن والدواب، وهنالك استأنف الجهاد والغزو حتى قتل في بعض غزواته وذلك في سنة 480 هـ (1087 م) (1).
وقضى يوسف أعواماً أخرى في إتمام فتح المغرب، حتى سيطر على معظم نواحيه، ودوخ سائر قبائله. وفي سنة 470 هـ (1077 م) نراه وقد أشرف على طنجة، وانتزعها من يد صاحبها الحاجب سكوت (أوسواجات) البرغواطي وهو في نفس الوقت صاحب سبتة. وكان سكوت من موالي بني حمود، وقد ولى حكم سبتة في أواخر أيامهم، ثم استولى على طنجة، وقوي أمره في ذلك الركن المنعزل من المغرب، وأطاعته قبائل غمارة، واستمرت ولايته زهاء عشرين عاماً. فلما زحفت الجيوش المرابطية إلى تلك الناحية، اعتزم سكوت الدفاع عن ملكه، وكان شيخاً في التسعين من عمره، ولكنه كان فارساً مقداماً.
فالتقى بالمرابطين في وادي منى على مقربة من طنجة، وقاتل حتى قتل ومزق جيشه، وسقطت طنجة في أيدي المرابطين، واعتصم ولده يحيى بن سكوت
_______
(1) روض القرطاس ص 86، وابن خلدون ج 6 ص 184، والاستقصاء ج 1 ص 106.(2/312)
بسبتة. وفي سنة 474 هـ زحف يوسف على المغرب الأوسط، واستولى على مدينة وجدة، ثم استولى على تلمسان ووهران، واستمر في سيره المظفر حتى تونس فافتتحها، واستولى بذلك على سائر شواطىء المغرب وثغوره الشمالية، وقضى على سلطان سائر الأمراء المحليين الذين كانوا يقتسمون المدن والثغور يومئذ، وشمل سلطانه جميع الأقطار الغربية، حتى تونس شرقاً وحتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن البحر المتوسط شمالا حتى حدود السودان جنوباً (1).
وهكذا قامت الدولة المرابطية الكبرى، وأقامتها عبقرية رجل واحد، وهو يوسف بن تاشفين، بعد أن وضع أسسها الأولى فقيه متعصب هو عبد الله ابن ياسين، واستحالت بسرعة على يد أبي بكر اللمتوني ثم يوسف من بعده، من زعامة دينية محلية، إلى ملك سياسي ضخم. وقد ذكرت لنا الرواية عن هذا الزعيم الموهوب والجندي العظيم بعض معلومات خلاصتها، أنه أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن ابراهيم بن ترقوت بن وارتقطين بن منصور بن مصالة ابن أمية الحميري الصنهاجي اللمتوني، فهي بذلك تنسبه إلى حمير، وأمه حرة لمتونية اسمها فاطمة بنت سير بن يحيى. وقد ولد بالصحراء في سنة 400 هـ (1009 م). بيد أننا لا نعرف شيئاً عن حياته ونشأته الأولى، وتذكره لنا الرواية لأول مرة في سنة 448 هـ، حينما ندبه الأمير أبو بكر اللمتوني ليكون قائداً لجيش المرابطين الزاحف لغزو المغرب. وكان يوسف يومئذ في الثامنة والأربعين من عمره. ومن ذلك التاريخ فقط، تتبع الرواية أعمال يوسف وفتوحه العظيمة المتعاقبة. وهي التي فصلناها فيما تقدم. وتنوه الرواية بورع يوسف وزهده، وبساطته وتواضعه، فقد كان بالرغم مما أتاه الله من بسطة في الملك والنعم، آية في التقشف، يرتدي الصوف طول حياته، ولا يرتدي سواه قط، ولا يأكل سوى الشعير ولحوم الإبل وألبانها. وكان بطلا شجاعاً حازماً، مهيباً، دائب التفقد لبلاده وثغوره، وأحوال رعيته، مجاهداً لا يفتر عن متابعة الجهاد، منصوراً مظفراً في معظم الوقائع التي خاضها، جواداً كريماً عادلا رفيقاً، ينأى عن إرهاق رعيته بالمغارم المحرمة، ولا يفرض منها إلا ما يجيزه ْالشرع، من الزكاة والأخماس والأعشار، وجزية أهل الذمة. وأما عن شخصه،
_______
(1) روض القرطاس ص 93، والاستقصاء ج 1 ص 110.(2/313)
فقد كان معتدل القامة، أسمر اللون، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أكحل العينين، أقنى الأنف، جعد الشعر، رقيق الصوت (1).
وقد حكم يوسف بن تاشفين، أعظم امبراطورية إسلامية قامت في الغرب الإسلامي، فهو فضلا عن إنشاء الإمبراطورية المغربية الكبرى، ممتدة فيما بين تونس والمحيط، وما بين البحر وحدود السودان، قد انتهى بعد ظفره في موقعة الزلاّقة على جيوش اسبانيا النصرانية حسبما نفصل بعد، إلى افتتاح ممالك الطوائف الأندلسية، وبسط سيادة الدولة المرابطية المغربية على اسبانيا المسلمة، وبذا كانت تمتد امبراطوريته عبر البحر شمالا حتى سرقسطة في شمال شرقي اسبانيا، وحتى شنترين وأشبونة في قلب البرتغال.
وكان يوسف بن تاشفين في بداية أمره يلقب بالأمير، فلما فتح المغرب وترامت حدود مملكته، أراد بعض أشياخ المرابطين أن يحملوه على اتخاذ سمة الخلافة، فأبى واكتفى باتخاذ لقب أمير المسلمين، وناصر الدين، وأصدر مرسومه، بأن يدعى له بذلك اللقب، وذلك في سنة 466 هـ (2). وفي أواخر عهده، بعد أن ملك الأندلس، نصح له الفقهاء أن تكون ولايته من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله العباسي ببغداد، سفيراً ومعه هدية جليلة، وكتاب بما فتح الله عليه من الملك، وما أولاه من النصر، وطلب تقليده الولاية، فبعث إليه الخليفة بمرسوم الولاية، والخلع والتشاريف (3) ومما يؤكد لنا انضواء يوسف تحت لواء الخلافة العباسية، ذكره في سكته لاسم الخليفة العباسي (4).
- 4 -
ننتقل الآن إلى تلك المرحلة الأخرى من حياة يوسف، وهي مرحلة تدخله في حوادث شبه الجزيرة الإسبانية، وهي مرحلة تتخذ في البداية طابع الجهاد في سبيل الله، ثم تنقلب بعد ذلك، إلى موجة جديدة من الفتح المرابطي.
_______
(1) روض القرطاس ص 87 و 88، والحلل الموشية ص 12.
(2) الحلل الموشية ص 16 و 17، وقد أورد لنا نص المرسوم.
(3) ابن الأثير ج 10 ص 145.
(4) روض القرطاس ص 88، وابن خلدون ج 6 ص 188.(2/314)
وقد سبق أن ذكرنا في أخبار مملكتي إشبيلية وبطليوس، ما انتهى إليه أمراء الطوائف. عقب استيلاء ألفونسو السادس ملك قشتالة على طليطلة ومملكة بني ذى النون في سنة 478 هـ. وتهديده لهم جميعاً بالويل والفناء، من وجوب الاستنصار بإخوانهم في عدوة المغرب، وإرسالهم بصريخهم المتوالي إلى يوسف بن تاشفين، لينهض إلى نجدتهم وإغاثتهم. وقد اختلفت الرواية في تفصيل مقدمات هذا الصريخ وظروفه. والقول المشهور في ذلك، هو أن سقوط طليطلة، كان هو العامل الجوهري، الذي حمل ملوك الطوائف، على أن يتجهوا إلى الاستنصار بالمرابطين. بيد أن هناك ما يحمل على الاعتقاد بأن هذا الاتجاه يرجع إلى ما قبل سقوط طليطلة بعامين أو ثلاثة، فقد سقطت طليطلة في يد ملك قشتالة في صفر سنة 478 هـ (مايو 1085 م)، ولكنا نجد صريخ الأندلس يتوالى على بلاط مراكش منذ سنة 474 هـ، فقد وفد في ذلك العام على يوسف جماعة من أهل الأندلس، وشكوا إليه ماحل بهم من عدوان النصارى، وطلبوا إليه النجدة والعون، فوعدهم بتحقيق أمنيتهم (1). ثم توالى صريخهم بعد ذلك. ويحدثنا يوسف بن تاشفين نفسه عما تلقاه من صريخ الأندلس المتوالي في رسالته التي بعث بها عقب موقعة الزلاقة إلى المعز بن باديس أمير إفريقية، فيقول: " ولما بلغنا من استحواز النصارى، - دمرهم الله - على بلاد الأندلس ومعاقلها، والتزام الجزية لرؤسائها، واستيصال أقالمها، وإيطايهم البلاد داراً داراً، لا يتخوفون عسكراً يخرج إليهم، فيبدد جمعهم، ويفل حدهم، وهم مع ذلك كله يقتلون الشيب والشبان، ويأسرون النساء والصبيان، فخوطبنا عن الجواز إلى الأندلس من جميع الأحواز المرة بعد المرة، وألوتنا الأعذار إلى وقت الأقدار " (2). ويؤيد ابن خلدون هذه الرواية، ويوردها بصورة أخرى، فيقول لنا إن المعتمد بن عباد خاطب أمير المسلمين يوسف، ملتمساً إنجاز وعده في إنجاد الإسلام في الأندلس، وكاتبه أهل الأندلس كافة من العلماء والخاصة، فاهتز أمير المسلمين للجهاد، وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فنازلها براً، وطافت بها سفن ابن عباد بحراً، ثم اقتحموها عنوة في ربيع الآخر
_______
(1) الحلل الموشية ص 20.
(2) راجع رسالة يوسف عن موقعة الزلاقة، وقد نشرناها في باب الوثائق في نهاية الكتاب.(2/315)
سنة 476 هـ، وأسر صاحبها يحيى بن سكوت ثم قتل. وجاز ابن عباد بعد ذلك، وقصد إلى أمير المسلمين، ولقيه بفاس مستنفراً له في الجهاد، ونزل له عن ثغر الجزيرة ليكون رباطاً لجهاده (1). ويقول لنا ابن أبي زرع، إن أمير المسلمين لما عاد إلى مراكش في سنة 475 هـ عقب فتحه لوهران وتونس، ورد عليه كتاب المعتمد بن عباد، يعلمه بحال الأندلس، وما آل إليه أمرها من تغلب العدو على معظم ثغورها، ويسأله الإنجاد والعون، فأجابه يوسف بأنه إذا فتح الله عليه سبتة فإنه سوف يتصل بهم، ثم يحدثنا بعد ذلك عن الغزوة التي قام بها ألفونسو في نفس العام، في أراضي إشبيلية وكيف اخترقها بقواته حتى وصل إلى طريف، وخاض الماء بفرسه قائلا، هذا آخر الأندلس قد وطأته، وأنه لما استولى على طليطلة اتفق أمراء الأندلس وكبراؤها على الاستنصار بيوسف وكتبوا إليه جميعاً يلتمسون منه الغوث، وأنهم سوف يكونون معه يداً واحدة في جهاد العدو. فلما توالت كتب الأندلس على يوسف بعث ابنه المعز لافتتاح سبتة، فحاصرها وافتتحها في شهر ربيع الأول سنة 477 هـ، فسر بذلك أمير المسلمين، وسار في الحال بقواته نحو الشمال ليجوز منها إلى الأندلس (2). وفي أقوال ابن أبي زرع شىء من الغموض والتناقض في التواريخ. ولكنه مع ذلك يؤيد الواقعة الجوهرية، وهي أن اتجاه أمراء الطوائف إلى الاستنصار بأمير المسلمين، حدث قبل سقوط طليطلة ببضعة أعوام، وأن سقوط طليطلة لم يكن إلا عاملا جديداً في تقوية هذا الاتجاه وإذكائه.
وإنه ليلوح لنا أن فكرة استدعاء المرابطين لإنجاد الأندلس، قد خطرت لأول مرة للمعتمد بن عباد حينما اشتد ألفونسو في إرهاقه بطلب الجزية، وأرسل إليه ابن شاليب اليهودي في اقتضائها، وذلك في سنة 475 هـ ووقع عندئذ ما وقع من بطش ابن عباد برسل ألفونسو، وخروج ملك قشتالة في قواته للانتقام من ابن عباد، واجتياحه لمملكته، وتخريبه لمدنها ومروجها، من إشبيلية جنوباً حتى مدينة طريف، وذلك حسبما فصلناه في موضعه من أخبار مملكة إشبيلية.
والظاهر أن المعتمد قد أدرك عندئذ، وإن يكن متأخراً، فداحة الخطأ الذي
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 186. وقد وهم ابن خلدون في واقعة عبور المعتمد إلى المغرب وزيارته لأمير المسلمين. والواقع أن هذه الزيارة تمت بعد موقعة الزلاقة.
(2) روض القرطاس ص 92 و 93.(2/316)
ارتكبه، بخضوعه لملك قشتالة ومحالفته، وأدرك مدى ما تنطوي عليه سياسة هذا الملك القوي من الخديعة والغدر، واعتزم عندئذ أمره في استدعاء المرابطين.
وليس معنى ذلك أن ابن عباد كان ينفرد بهذا التفكير وهذا العزم، فلا شك أن معظم أمراء الطوائف قد جالت بخواطرهم تلك الفكرة، فقد كانوا جميعاً يشعرون بنفس الخطر، وكانوا جميعاً يعانون ضغط ملك قشتالة، وتخريبه لأراضيهم، وجشعه في استصفاء أموالهم باسم الجزية، بيد أن ابن عباد، قد كان كبير ملوك الطوائف، وكان يواجه في نفس الوقت أعظم الأخطار المباشرة من عدوان ملك قشتالة، وكان حرياً بأن يتقدمهم في اعتناق هذه الفكرة وتنفيذها.
على أن فكرة الاستنصار بالمرابطين لم تكن دون معارضة، فقد كان ثمة بين ملوك الطوائف من يخشى عواقبها ويحذر ابن عباد من مغبة سياسته، وقد أجابهم ابن عباد بكلمته المأثورة " رعي الجمال خير من رعي الخنازير"، يقصد بذلك أن خير له أن يغدو أسيراً لدى أمير المسلمين يرعي جماله، من أن يغدو أسيراً لملك قشتالة النصراني (1).
ثم كان سقوط طليطلة بعد ذلك بعامين، فكان نذيراً لا شك في خطورته.
وإذا كانت فكرة الاستنصار بالمرابطين، قد بدت من قبل لأمراء الطوائف أملا يداعبهم، فقد بدت عندئذ ضرورة ماسة، وبدت بالنسبة للأندلس مسألة حياة أو موت، ومن ثم فإن الصريخ الذي كان يتخذ من قبل صورة الكتب والدعوات الخاصة، يتخذ عندئذ صورته الرسمية، وتشاطر الأندلس كلها، أمراؤها وفقهاؤها وكافتها هذا الاتجاه، ويبعث ابن عباد وزميلاه المتوكل ابن الأفطس صاحب بطليوس، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، سفارتهم الرسمية إلى أمير المسلمين، على يد أبي بكر عبيد الله بن أدهم قاضي قرطبة، وأبى إسحق بن مُقانا قاضي بطليوس، وأبى جعفر القليعى قاضي غرناطة، وأبى بكر بن زيدون وزير المعتمد (2). وعبر سفراء الأندلس البحر إلى المغرب وقصدوا إلى أمير المسلمين في مراكش، وكانت وفود الأندلس تتوالى من قبل
_______
(1) راجع الروض المعطار ص 85.
(2) راجع الحلة السيراء ج 2 ص 99، والروض المعطار ص 86، ونفح الطيب ج 2 ص 526. وراجع دوزي: Histoire ; Vol.III p 124(2/317)
ذلك على يوسف مستعطفة باكية، ترجوه الغوث والإنجاد، فيستمع إلى قولهم، ويعدهم خيراً. والظاهر أن سفارة الأندلس الرسمية لم تأت لكي تلتمس العون، دون قيد ولا شرط. وقد وقعت بينها وبين أمير المسلمين مفاوضات أسفرت عن عهود متبادلة، خلاصتها أن يتعاون أمير المسلمين وأمراء الطوائف في محاربة النصارى، وأن يؤمن أمراء الطوائف في ممالكهم، وألا تحرض رعيتهم على شىء من الفساد، ومن جهة أخرى فقد طلب أمير المسلمين عملا بنصح وزيره الأندلسي عبد الرحمن بن أسبط أن يُسلم إليه ثغر الجزيرة، وقد كان يومئذ من أملاك ابن عباد، لكي يكون قاعدة أمينة لعبور جيشه، وقد نزل ابن عباد عند هذه الرغبة، وأمر حاكم الجزيرة ولده يزيد الراضي بإخالائها. لتكون رهن تصرف أمير المسلمين (1).
وقد سبق أن أشرنا إلى ما عمد إليه ملك قشتالة عقب استيلائه على طليطلة، من الكتابة إلى ابن عباد يطالبه بتسليم بلاده، وينذره بسوء المصير، وما كتب به كذلك إلى المتوكل بن الأفطس في هذا المعنى، وإلى ما رد به كل من الأميرين المسلمين، على الملك النصراني، وذلك في أخبار مملكتي إشبيلية وبطليوس.
* * *
وهكذا اعتزم أمير المسلمين أمره، بعد استشارة قومه وفقهائه، وقرر أن يلبي صريخ أهل الأندلس، وأن يبادر إلى غوثهم، ولم يك ثمة شك في أن يوسف وقومه المرابطون، كانت تحدوهم نزعة الجهاد في سبيل الله، بيد أن أولئك الجند الصحراويين الذين نشأوا في غمار القفر والبداوة، كانت تحدوهم في نفس الوقت رغبة في رؤية الأندلس، وما اشتهرت به من الخصب والنعماء، وأن يبلوا حرب النصارى (2). ومن الصعب علينا في هذا الموطن، أن نستشف نيات يوسف ْالتي كشف عنها فيما بعد، في افتتاح الأندلس وامتلاكها، بيد أنا نرجح أنه لم يكن يجيش بمثل هذه النية في البداية، وأنها خطرت له فيما بعد، بعد أن درس أحوال الأندلس، وأحوال أمرائها. واستنفر يوسف سائر قواته وحشوده للجهاد،
_______
(1) راجع كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 102 و 103، والحلل الموشية ص 32 و 33.
(2) الحلل الموشية ص 31.(2/318)
وكان قد تم له يومئذ فتح سبتة، فسار إليها، والجيوش تتلاحق في أثره من الصحراء، وبلاد الزاب، ومختلف نواحي المغرب، وأصلح مرافئها وحشد السفن لعبور قواته، وكان أول ما عبر منها قوة من الفرسان بقيادة داود بن عائشة، عبرت إلى ثغر الجزيرة الخضراء، واحتلته وفقاً لما تم الاتفاق عليه، ثم أخذت الجيوش المرابطية تعبر تباعاً، حتى تم عبورها جميعاً إلى شبه الجزيرة. وفي في يوم الخميس منتصف ربيع الأول سنة 479 هـ (30 يونيه 1086 م) عبر البطل الشيخ في بقية قواته. وما كادت السفن العابرة تمخر عباب المضيق، حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض الزعيم المرابطي حسبما يحدثنا بنفسه وسط سفينته، وبسط يديه بالدعاء نحو السماء قائلا: " اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرة للمسلمين، فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه ". ثم يقول لنا، إنه ما كاد يتم كلامه حتى " سهل الله المركب، وقرب المطلب ". وشاء ربك أن تعبر السفن المرابطية، في ريح طيبة وبحر هادىء، وأن تصل إلى ثغر الجزيرة في سلام (1).
_______
(1) روض القرطاس ص 93. وهذا ما ذكره يوسف بن تاشفين نفسه في خطابه بالفتح إلى المعز بن باديس. (ويراجع الخطاب المذكور في باب الوثائق في نهاية الكتاب).(2/319)
الفصل الثانِى
موقعة الزلاّقة
مسير يوسف بن تاشفين وجيشه إلى إشبيلية. المعتمد بن عباد يقدم الضيافات والمؤن. لقاء الملكين. زيارة يوسف لإشبيلية. كتبه إلى ملوك الطوائف للمشاركة في الجهاد. مقدم أميرى غرناطة ومالقة ومعز الدولة بن صمادح في قواتهم. مسير الجيوش المرابطية والأندلسية إلى بطليوس. مسيرها إلى سهل الزلاقة. ألفونسو السادس ومبادرته إلى التأهب للقاء المرابطين. استعانته بسائر ملوك النصارى. مسيره إلى الجنوب للقاء المسلمين. مواقع الفريقين. عدد قوات المسلمين والنصارى. الجيش الإسلامي وأقسامه. كتاب يوسف إلى ألفونسو. رد ألفونسو ورد يوسف عليه. بداية المعركة. عنف هجوم النصارى. ثبات المعتمد بن عباد وجند إشبيلية. مهاجمة ألفونسو للمرابطين. اندفاع المرابطين لإنجاد إخوانهم. تغير وجه المعركة. مهاجمة النصارى لمعسكر المرابطين. تطويق قوات لمتونة وصنهاجة للنصارى. المعركة الهائلة. تمزق صفوف القشتاليين. اشتداد هجوم المرابطين من الناحيتين. كثرة القتل بين النصارى. نزول حرس يوسف الأسود إلى المعركة. جرح ألفونسو وفراره. تقدير خسائر الفريقين. مسير ألفونسو في فلوله إلى طليطلة. مبالغة الرواية الإسلامية في تقدير خسائر النصارى. ذيوع أنباء النصر في الأندلس والمغرب. رسالة يوسف عن الفتح. لقب أمير المسلمين وهل اتخذه يوسف عقب الزلاقة. إحجام يوسف عن مطاردة النصارى وبواعثه. عود الجيوش الأندلسية إلى قواعدها. الثناء على المعتمد بن عباد وثباته. تنويه أمير المسلمين ببطولته. يوسف يتلقى نبأ وفاة ولده. إسراعه بالعود إلى المغرب. ما يقال في بواعث هذه الحركة. نصر الزلاقة وطابعه. المعنى الصليبي الذي ينطوي على لقاء المسلمين والنصارى. دعوة ألفونسو عقب هزيمته إلى إنشاء جبهة نصرانية. شعور المؤرخين المسلمين بخطورة الموقعة وصبغتها الصليبية. ما قيل حولها من الأساطير. أثر الزلاقة ونتائجها الحاسمة. انتعاش قوى الأندلس. تحرر ملوك الطوائف من نير قشتالة. ارتداد سيل الجيوش النصرانية عن الأندلس. الإسلام يغنم في اسبانيا حياة جديدة.
نزل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ثغر الجزيرة الخضراء، في يوم الخميس منتصف ربيع الأول سنة 479 هـ (30 يونيه 1086 م)، وجيوشه الجرارة تحيط بها من كل صوب. وما كاد يطأ بقدميه أرض الأندلس، حتى سجد لله شكراً، ثم أخذ في تحصين الجزيرة، وإصلاح أسوارها وأبراجها، ورتب لها حامية خاصة من جنده، ثم سار في قواته صوب إشبيلية.
وبعث المعتمد بن عباد ولده عبد الله لاستقبال يوسف بالجزيرة، ورتب تقديم المؤن والأطعمة والضيافات للجيش المرابطي، على طول الطريق إلى(2/320)
إشبيلية، واستعد لذلك استعداداً عظيماً سر به يوسف. ولما اقترب يوسف من إشبيلية خرج المعتمد إلى لقائه في وجوه أصحابه وفرسانه، وتعانق الملكان، وأبدى كل منهما لأخيه منتهى المودة والإخلاص، وتضرعا إلى الله أن يجعل جهادهما خالصاً لوجهه، وقدم ابن عباد إلى أمير المسلمين جليل الهدايا والتحف، وقدم المؤن والضيافات الكافية لسائر الجيش القادم، وقرت عينه بما رآه من ضخامته وروعة استعداده، وأيقن ببلوغ النصر المنشود. وفي اليوم التالي سار أمير المسلمين إلى إشبيلية، تلاحقه قواته، وأقام هناك ثلاثة أيام. وكان يوسف قد كتب في أثناء ذلك إلى سائر ملوك الطوائف، يدعوهم إلى اللحاق به، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، وكان أول من لبى دعوته منهم عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة وأخوه تميم صاحب مالقة، واعتذر المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية بضعفه وكبر سنه، وتوجسه من عدوان النصارى في حصن لييط (أليدو)، وبعث ابنه معز الدولة في فرقة من جنده. ثم سار أمير المسلمين في جيوشه الجرارة، ومعه ابن عباد في قوات إشبيلية، وقرطبة، وقصدوا إلى بطليوس، فلقيهم أميرها عمر المتوكل على مقربة منها، وقدم إليهم المؤن والضيافات الواسعة، وأنفق أمير المسلمين أياماً في بطليوس ينتظر وفود الرؤساء من سائر أقطار الأندلس، بعد أن علم وتأكد لديه أن كل واحد منهم مشغول بمدافعة النصارى (1). ولم يلحق به منهم سوى عبد الله وأخيه تميم ومعز الدولة. وانتظمت القوات الأندلسية إلى وحدة قائمة بذاتها يتولى قيادتها ابن عباد، واحتلت المقدمة، واحتلت الجيوش المرابطية المؤخرة، وانتهت الجيوش الإسلامية المتحدة في سيرها إلى سهل يقع شمالي بطليوس على مقربة من حدود البرتغال الحالية، ويمتد مصعداً نحو قورية، وتسميه الرواية العربية بالزلاقة (2).
وكانت أنباء عبور المرابطين إلى شبه الجزيرة، قد وصلت إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وهو محاصر لسرقسطة، وذلك في أواخر يوليه أو أوائل أغسطس 1086 م (جمادى الأولى سنة 479)، فترك الحصار على عجل،
_______
(1) راجع رسالة يوسف إلى المعز بن باديس السابقة الذكر.
(2) راجع الحلل الموشية ص 33 و 34، والروض المعطار ص 87 - 90، وسهل الزلاقة يعرف بالإسبانية Sagrajas، وهو يقع على قيد ثلاثة مراحل من شمال بطليوس إلى يسار نهر جريرو، أحد أفرع وادي يانة.(2/321)
وتنفس مخنق المستعين بن هود صاحب سرقسطة، وبعث ألفونسو إلى سانشو راميرز ملك أراجون يستدعيه لإنجاده، وكان يومئذ قائماً بحصار طرطوشة، وبعث كذلك إلى أمراء ما وراء البرنيه، وحشد كل ما استطاع حشده من قوات جليقية وأشتوريش وبسكونية (نافار)، واستدعى قائده ألبار هانيس بقواته من بلنسية، وتقاطر إليه سيل من الفرسان المتطوعة من جنوبي فرنسا وإيطاليا.
واعتزم ألفونسو أن يلقي الأعداء في أرضهم حتى لا تخرب بلاده إذا وقعت به الهزيمة، وسار على رأس القوات النصرانية المتحدة إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق من تفوق قواته في العدد والعدة، والكفاية الفنية، ولم تصله أنباء دقيقة عن حالة الجيش الإسلامي (1).
واستقرت الجيوش النصرانية، في مكان يبعد نحو ثلاثة أميال عن المعسكر الإسلامي، يفصل بينها وبين المسلمين فرع وادي يانة الممتد شمالا في اتجاه نهر " التاجُه " والذي يسمى اليوم " جريرو ". وجعل ألفونسو على مقدمة جيشه، قائده ألبار هانيس، وكانت تتألف في معظمها من جنود أراجون، والمتطوعة. وقد اختلفت الرواية في تقدير قوات المسلمين والنصارى. وتقدر بعض الروايات العربية جيش النصارى بثمانين ألف مقاتل، ويقدرها البعض الآخر بخمسين ألفاً أو أربعين ألفاً. وأما الجيش الإسلامي، فيقدره البعض بثمانية وأربعين ألفاً، والبعض الآخر بعشرين ألفاً، على أنه يبدو من الروايات المختلفة أن النصارى كانوا يفوقون المسلمين في العدد (2). وكان الجيش الإسلامي، ينقسم حسبما قدمنا إلى وحدتين كبيرتين: قوات الأندلس، وتحتل المقدمة ويقودها المعتمد بن عباد، ويقود منها المتوكل بن الأفطس قوات الميمنة، ويشغل أهل شرقي الأندلس الميسرة، وأما القوات المرابطية، فكانت تحتل المؤخرة، وتنقسم إلى قسمين، يضم الأول فرسان البربر من سائر القبائل، ويتولى قيادته داود بن عائشة أبرع قواد البربر، ويتولى يوسف قيادة الجيش الإحتياطي المؤلف من نخبة أنجاده المرابطين من لمتونة وصنهاجة وغيرهما من القبائل البربرية.
ولبث الجيشان الخصيمان، كل منهما تجاه الآخر لا يفصلهما سوى النهر،
_______
(1) R.M.Pidal: La Espana del Cid, p. 331 & 332
(2) راجع الحلل الموشية ص 38، وابن الأثير ج 10 ص 52، ونفح الطيب ج 2 ص 528، والمعجب للمراكشي ص 71.(2/322)
مدى أيام ثلاثة، والرسل تتجاوب بينهما. وكتب يوسف قبيل المعركة إلى ملك قشتالة، عملا بأحكام السنة كتاباً يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام، أو الجزية أو الحرب (1)، ومما جاء فيه: " بلغنا يا أدفونش، أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ".
فاستشاط ألفونسو لذلك الخطاب غضباً، ورد على أمير المسلمين بكتاب غليظ يفيض بالوعيد، فاكتفى يوسف بأن رد إليه كتابه ممهورا بتلك العبارة، " الذي يكون ستراه " (2).
وحاول ألفونسو خديعة المسلمين في تحديد يوم الموقعة، فكتب إلى المعتمد ابن عباد، يوم الخميس، يقول له إن غدا يوم الجمعة، وهو عيدكم، وبعده السبت يوم اليهود، وهم كثير في محلتنا، وبعده الأحد وهو عيدنا، فيكون اللقاء بيننا يوم الاثنين، فأدرك ابن عباد ويوسف خديعته، وجاءت طلائع المعتمد في الليل تنبىء أن معسكر النصارى في حركة وضوضاء وجلبة أسلحة، مما يدل على استعداد القوم لبدء القتال. ومن ثم فقد لبث المسلمون على أهبتهم حذرين متحفزين (3).
وقد حدث في الواقع ما توقعه المسلمون، فإنه ما كاد يتنفس صبح اليوم التالي، وهو يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ (23 أكتوبر سنة 1086 م) (4)،
_______
(1) راجع رسالة يوسف إلى المعز بن باديس السابقة الذكر.
(2) الحلل الموشية ص 35 و 38، ونفح الطيب ج 2 ص 527، وابن الأثير ج 10 ص 52
(3) الحلل الموشية ص 39، والروض المعطار ص 92. وهذا ما يقرره يوسف نفسه في خطابه عن الموقعة إلى المغرب (راجع روض القرطاس ص 97).
(4) تختلف الرواية الإسلامية في تحديد تاريخ المعركة، فيقول ابن خلكان (نقلا عن البياسي) إنها كانت يوم الجمعة 15 رجب سنة 479 هـ (ج 2 ص 484) ويتفق ابن الأثير معه في السنة، ولكنه يقول إنها كانت في أوائل رمضان (ج 10 ص 53). ويقول المراكشي إنها كانت في رمضان سنة 480 هـ (ص 72). ولكن ورد في روض القرطاس (ص 96)، وفي الحلل الموشية (ص 40 و 41) أنها كانت يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ. وهذا هو التاريخ الصحيح، وهو الذي يذكره يوسف بن تاشفين في خطابه بالفتح إلى عدوة المغرب، حيث يقول في ختامه " وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة الثاني عشر لرجب سنة تسع وسبعين وربعمائة =(2/323)
حتى زحف النصارى وابتدأ القتال، واشتبك الجيشان في معركة عامة، فهجمت مقدمة القشتاليين والأرجونيين التي يقودها ألبارهانيس، على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الأندلسية، والتي يقودها ابن عباد. وكان هجوماً عنيفاً ردها عن مواقعها، واختل نظامها فارتد معظمها نحو بطليوس. ولم يثبت في وجه المهاجمين سوى المعتمد وفرسان إشبيلية، فقاتلوا النصارى بشدة، وأثخن أميرهم الباسل جراحاً، وتفرق معظمهم من حوله، وكثر القتل في جند الأندلس، وكادت تدور عليهم الدائرة، دون أن يتقدم لإنجادهم أحد. وفي الوقت نفسه كان ألفونسو قد هاجم مقدمة المرابطين، التي يقودها داود بن عائشة، وردها أيضاً عن مواقعها. ففي تلك الآونة العصيبة، دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده، وهو سير بن أبي بكر اللمتوني لإنجاد الأندلسيين والمرابطين معاً، ونفذ بقواته إلى قلب النصارى بشدة، وسرعان ما تغير وجه المعركة، واسترد الأندلسيون والمرابطون ثباتهم، وعاد الفارون إلى صفوفهم. واضطرمت المعركة في هذا الجناح رائعة، ترجح بها كفة المسلمين، وكان ألفونسو، في ذلك الوقت قد تقدم في هجومه، حتى صار أمام خيام المرابطين، واقتحم الخندق الذي يحميها، ولكن حدث في نفس الوقت، أن لجأ يوسف إلى خطة مبتكرة، إذ تقدم في قواته الاحتياطية من لمتونة وصنهاجة، وتجاوز النصارى المهاجمين، وقصد إلى المعسكر النصراني ذاته، وهاجمه بشدة، وكانت تحرسه قوة ضعيفة، ففتك بها، ووثب إلى مؤخرة القشتاليين، وأثخن فيهم من الوراء، وطبوله تضرب حول جيشه فيشق دويها الفضاء، ثم أضرم النار في محلة القشتاليين، فارتفعت ألسنتها في الهواء، فلما علم ألفونسو بما حل بمعسكره، ارتد من فوره لينقذ محلته من الهلاك، فاصطدم بمؤخرة المرابطين، ووقعت بين قوات العاهلين معركة هائلة، مزقت فيها صفوف القشتاليين ولم يستطع الملك النصراني أن يصل إلى محلته إلا بعد خسائر فادحة، وهنالك استؤنفت المعركة، ويوسف فوق فرسه يصول ويجول، ويحث جنده على
_______
= موافق الثالث والعشرين لشهر أكتوبر العجمي (روض القرطاس ص 98). وهذا التاريخ نفسه أعني 23 أكتوبر سنة 1086، هو الذي تضعه الرواية النصراية للموقعة. والظاهر أن أصحاب التواريخ المخالفة لم يطلعوا على كتاب يوسف بالفتح.
وراجع أيضاً: Dozy: Histoire, V.III.p. 129 & notes(2/324)
الثبات، ويرغبهم في الاستشهاد، ودوي الطبول من حوله يصم الآذان. وينوه الأستاذ بيدال بتأثير وقع الطبول وضجيجها في اضطراب القشتاليين، ويقول إنه لم يسبق من قبل أن عرفت الجيوش الإسبانية، مثل هذا الضجيج الذي تهتز له الأرض، ومن جهة أخرى، فقد عمد المرابطون إلى القتال في صفوف متراصة متناسقة ثابتة، وهي أيضاً خطة جديدة لهم في القتال، ولم يكن للفرسان النصارى عهد بمثلها، إذ كانوا معتادين على القتال الفردي. ومن ثم فقد ألفوا أنفسهم بالرغم من تفوقهم في السلاح، عاجزين عن مناهضة هذه الصفوف المتراصة التي تفوقهم بكثافتها وعديدها (1).
واشتد هجوم المرابطين في نفس الوقت بقيادة سير بن أبي بكر على مقدمة القشتاليين التي يقودها ألبارهانيس، واستردت جيوش الأندلس كل إقدامها وشجاعتها، وكثر القتل من الجانبين في صفوف القشتاليين. وكانت الضربة الأخيرة أن دفع يوسف بحرسه الأسود، وقوامه أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة. وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب، وأدرك ألفونسو وقادته وفرسانه أنهم يواجهون الموت، إذا استمروا في موقفهم، وعندئذ بادر ألفونسو في فل من صحبه وأشرافه إلى التراجع، والاعتصام بتل قريب حتى دخل الليل، فسار وصحبه تحت جنح الظلام، وتقدر الرواية من أفلت مع ملك قشتالة بنحو أربعمائة أو خمسمائة فارس، معظمهم جرحى. وكانت صفوف النصارى قد مزقت عندئذ في كل ناحية شر تمزيق، وتعالت أكوام الأشلاء والجرحى، وطورد الفارون في كل مكان، وهلك كثيرون منهم أثناء المطاردة، ولم ينقذ البقية الباقية من النصارى سوى دخول الظلام، وأمر يوسف بوقف المطاردة.
وأمضى المسلمون الليل في ميدان الحرب، يرقبون حركات النصارى، وفي صباح اليوم التالي أخذت فرسانهم في مطاردة المتخلفين، وعمدت قوة أخرى إلى جمع الأسلاب وكانت عظيمة وافرة. ويشير يوسف في رسالته بالفتح إلى المعز بن باديس، إلى وفرة الغنائم من الخيل والبغال والحمير والثياب والأوبار
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 95، والحلل الموشية ص 42، وراجع أيضاً: R.M.Pidal: ibid ; p. 335 & 339(2/325)
ويقول لنا إن الفارس الواحد كان يربط معه خمسة أفراس أو أزيد.
وتقول الرواية الإسلامية، إنه لم ينج من الجيش النصراني سوى خمسمائة فارس أو أقل، هم الذين فروا مع ملك قشتالة. وتابع ملك قشتالة فراره مع فلوله ولم يتوقف إلا عند قورية، على بعد عشرين مرحلة من ميدان الموقعة.
وتضيف الرواية إلى ذلك أن معظم أولئك الفرسان الفارين كانوا مثخنين بالجراح، فمات معظمهم في الطريق، ولم يصل منهم إلى طليطلة مع مليكهم سوى مائة (1).
وهذا هو نفس ما يقرره يوسف في خطاب الفتح الرسمي الذي بعث به إلى المغرب حيث يقول: " وتسلل ألفنش تحت الظلام فاراً لا يهدى ولا ينام، ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طليطلة إلا في مائة فارس " (2). بيد أنه في رسالته التي بعث بها إلى المعز بن باديس، والتي يصف لنا فيها معركة الزلاقة تفصيلا ولاسيما الدور الذي قام به مع جنده، يقول لنا، إنه علم أن الذي انقطع به ألفونسو من عسكره يبلغون نحو ألفي رجل، قد أثخن معظمها جراحة، وأنهم انتظروا حتى دخول الليل، ثم لجأوا إلى الفرار. ثم تقول الرواية الإسلامية أيضاً إن المسلمين لم يخسروا في المعركة سوى نحو ثلاثة آلاف (3)، ويقول لنا يوسف في رسالته إنه قُتل من أكابره نحو العشرين، هذا في حين أن النصارى قد هلك معظمهم. وتذهب في تقدير خسائر النصارى إلى حد قولها إنهم بلغوا نحو ثلاثمائة ألف (4). بيد أن هناك أقوالا أكثر اعتدالا، فيروى مثلا أن أمير المسلمين أمر بقطع رؤوس القتلى من النصارى فقطعت وجمعت، فاجتمع منها تل عظيم، أذن من فوقه للصلاة، واجتمع منها بين يدي المعتمد بن عباد أربعة وعشرين ألفاً، وأن رؤوس القتلى التي وزعت على قواعد الأندلس بلغت أربعين ألفاً، وأنه أرسل إلى المغرب أربعين ألفاً أخرى، لتوزع على قواعده. ويقول لنا صاحب روض القرطاس إن الروم (القشتاليين) وكانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل، فقتلوا أجمعين ولم ينج منهم إلا ألفنش في مائة فارس، ومن الغريب أن هذه الأرقام نفسها هي التي وردت
_______
(1) روض القرطاس ص 96.
(2) روض القرطاس ص 98.
(3) روض القرطاس ص 96.
(4) الحلل الموشية ص 43.(2/326)
خريطة: موقعة الزلاّقة.(2/327)
في خطاب الفتح الرسمي الذي بعث به يوسف إلى المغرب (1). وهذه كلها أقوال تحمل طابع المبالغة بلا ريب، وإن كانت الرواية النصرانية تجمع على أن الموقعة كانت هائلة، وأن خسائر النصارى كانت فيها ذريعة فادحة. ولا ريب أيضاً أن خسائر المسلمين كانت عظيمة، وإن كانت أقل بكثير من خسائر النصارى، وليس من المعقول أن تقتصر على ثلاثة آلاف في مثل هذه الحشود الضخمة. ذلك أنه في معركة، يطبعها من الشدة والتفاني والحماسة الدينية، ما طبعت به موقعة الزلاّقة، لابد أن تكون الخسائر فيها فادحة من الجانبين، الظافر والمغلوب.
وذاعت أنباء النصر في الحال في سائر جنبات الأندلس، وطيرت إلى سائر القواعد الأندلسية. واستبشر المسلمون في شبه الجزيرة بما آتاهم الله من عزيز نصره. وكتب يوسف بأنباء الواقعة أو بالفتح حسبما يوسم خطابه إلى بلاد العدوة، وكتب رسالته المسهبة عن الموقعة وأوصافها إلى المعز بن باديس صاحب إفريقية، وهي التي أشرنا إليها فيما تقدم غير مرة. وتجاوبت أصداء النصر في سائر مدن المغرب وإفريقية، وعم الفرح والبشر سائر الناس، فأخرجوا الصدقات، وأعتقوا الرقاب. وقيل إن يوسف اتخذ لقبه " أمير المسلمين " عقب نصر الزلاّقة (2) وأن أمراء الأندلس، حينما هنأوه بالنصر أسبغوا عليه هذا اللقب، ولكنا رأينا فيما تقدم، أنه اتخذ هذا اللقب بالمغرب قبل ذلك بأعوام عديدة. بيد أنه مما يلفت النظر أن أمير المسلمين وحلفاءه الأندلسيين، لم يحاولوا استغلال نصرهم بمطاردة العدو داخل بلاده، والزحف إلى أراضي قشتالة، بل ولم يحاولوا السير إلى طليطلة لاستردادها، وهي كانت معقد المحنة التي دفعت ملوك الطوائف إلى الاستغاثة بالمرابطين. ولو بذل المرابطون هذه المحاولة في الوقت الذي حطم فيه جيش قشتالة وفتحت حدودها، لكللت بالنجاح بلا ريب.
وقد قيل لنا في ذلك إن ابن عباد نصح لأمير المسلمين بمطاردة ملك قشتالة والقضاء على فلوله، فاعتذر يوسف عن ذلك بحجة أنه يجب انتظار ورود
_______
(1) روض القرطاس ص 96 و 97. وراجع أيضاً أقوال الروايات الإسلامية الأخرى عن خسائر النصارى في الموقعة، في ابن خلكان ج 2 ص 484، ونفح الطيب ج 2 ص 531، وابن الأثير ج 10 ص 53.
(2) روض القرطاس ص 96.(2/328)
الفارين من المسلمين أولا، حتى لا يهلكهم النصارى. ونسبت في ذلك إلى كلا الرجلين نيات مريبة (1).
وعلى أي حال فقد وقف نصر المسلمين عند هذا الحد، وتفرق الجيش الإسلامي، فارتد أمراء الأندلس كل إلى بلاده. ونلاحظ فيما يتعلق بأمراء الأندلس، وموقف كل منهم خلال المعركة، أن الرواية الإسلامية تخص المعتمد ابن عباد بتقديرها وثنائها. فقد انكشفت سائر القوات الأندلسية الأخرى في بداية المعركة: قوات بطليوس وغرناطة وألمرية، وارتدت منهزمة صوب بطليوس، ولم تعد إلى الميدان إلا حينما لاحت طوالع النصر. ولكن المعتمد ثبت أمام القشتاليين حسبما أسلفنا، وأبلى وجنده الإشبيليون خير البلاء، واثخن جراحاً ولم يغادر ميدان المعركة، حتى تداركته النجدات المرابطية (2). وينوه أمير المسلمين بثبات المعتمد وبطولته في ذلك اليوم في خطابه بالفتح إلى المغرب إذ يقول: " ولم يثبت فيهم (أي رؤساء الأندلس) غير زعيم الرؤساء والقواد أبو القاسم المعتمد بن عباد، فأتى إلى أمير المسلمين وهو مهيض الجناح، مريض عنة وجراح، فهنأه بالفتح الجليل والصنع الجميل " (3). وينوه بذلك أيضاً في رسالته إلى المعز بن باديس ويذكر المعتمد فيها بعطف وإجلال، ويثنى عليه الثناء الجم. بيد أنه مما كدر صفو هذا النصر، أن تلقى أمير المسلمين في نفس هذا اليوم ذاته، نبأ وفاة ولده وولي العهد الأمير أبي بكر، وكان قد استخلفه في مراكش وتركه مريضاً بسبتة، فقرر العودة فوراً إلى المغرب، ويؤكد لنا صاحب روض القرطاس أنه لولا ذلك المصاب ما عاد يوسف بمثل هذه السرعة (4). بيد أنه قيل في ذلك إن إسراع يوسف بالعود، لم يكن راجعاً إلى وفاة ولده، بل كان يرجع بالأخص إلى استيائه وتبرمه بما شهده من أحوال أمراء الأندلس، وخلافاتهم فيما بين أنفسهم وفيما بينهم وبين شعوبهم (5). ومن ثم فقد عاد أمير المسلمين في قواته إلى إشبيلية فاستراح بظاهرها أياماً، ثم قفل راجعاً إلى المغرب، تاريكاً من جنده ثلاثة آلاف رهن تصرف المعتمد.
_______
(1) راجع الروض المعطار ص 93.
(2) روض القرطاس ص 95، والحلل الموشية ص 42، والروض المعطار ص 92.
(3) روض القرطاس ص 97.
(4) روض القرطاس ص 98.
(5) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 107.(2/329)
ويعلق العلامة المستشرق الأستاذ كوديرا على ذلك بقوله: " إنه كان من حسن الطالع بالنسبة للنصارى أن يوسف الظافر في الزلاقة، قد تلقى عقب نصره نبأ وفاة ولده الأمير أبي بكر سير، واضطر أن يعود إلى مراكش تاركاً فكرة مطاردة الجيش المنهزم، واجتناء الثمرة التي يمكن أن تجني من مثل هذا النصر العظيم، وهي الاستيلاء على طليطلة. وهي فكرة كانت تبدو طبيعية ولكنها لم تكن قد استقرت في ذهنه بصورة عملية، وذلك بالرغم مما يقوله لنا المؤرخون العرب من أنه لولا موت ابنه لما غادر الأندلس بهذه السرعة. وبالرغم من أن المؤرخين يؤكدون أن هزيمة ألفونسو السادس كانت مروعة. وأنه استطاع الفرار بمنتهى المشقة، مع نفر قليل من صحبه، فإن قواته لم تتضعضع، كما يتصور، بدليل أنه لم يمض سوى قليل، حتى غدا في ظروف تسمح له بالهجوم، ولكن الحظ كان ضده دائماً " (1).
* * *
وقد كان يوم الزلاّقة من أيام الإسلام المشهودة في انتصاره على النصرانية.
ومن الواضح أن لقاء الإسلام والنصرانية في سهول الزلاقة، إنما هو صفحة من سيرة الحروب الصليبية التي كانت اسبانيا أول مهاد لها. والتي اضطرمت بعد ذلك بقليل في المشرق، في الوقت الذي كانت تضطرم فيه في اسبانيا. فموقعة الزلاقة تعني في الواقع أكثر من هزيمة لملك قشتالة، وأكثر من ظفر للمرابطين وحلفائهم الطوائف. ذلك أن فورة المرابطين الدينية، التي اجتاحت بوادي المغرب ومدنه في فترة قصيرة، ثم عبرت البحر إلى اسبانيا لنصرة الدول الإسلامية بادىء ذي بدء، وانتزعتها من الطوائف بعد ذلك، كانت عنيفة رائعة، توجست النصرانية منها، واستشفت في اضطرامها ذلك الخطر الداهم الذي كان غير مرة ينذر بمناهضة النصرانية فيما وراء اسبانيا. وقد جاشت اسبانيا المسلمة بمثل هذه الفورة بعد موقعة بلاط الشهداء وخلاص النصرانية على يد كارل مارتل (سنة 732 م) مرتين: الأولى في عهد الناصر لدين الله، والثانية في عهد الحاجب المنصور، وفي كلتا المرتين، رُدت اسبانيا النصرانية إلى ما وراء الجبال الشمالية ونفذ الإسلام إلى قاصية اسبانيا.
_______
(1) F.Codera: Decadencia y Desparicion de los Almoravides en Espana (Zaragoza 1899) p. 243(2/330)
وإن تصرف ألفونسو ملك قشتالة عقب الموقعة، ليؤكد هذا المعنى الصليبي، الذي ينطوي عليه لقاء الزلاقة. فهو قد شعر بأن ذلك التحالف بين الإسلام في إفريقية والأندلس، يوشك أن يقضى على اسبانيا النصرانية، وأنه لابد أن يقابله حلف بين قوى النصرانية، ومن ثم فقد بعث برسله وكتبه إلى الملوك والأمراء النصارى فيما وراء البرنيه، يهيب بهم ويحذرهم من الخطر الداهم، وينذرهم بأنهم إذا لم يتداركوه بالعون، فإنه سوف يضطر إلى الصلح مع المسلمين، وسوف يتركهم أحراراً في عبور البرنيه. وقد ألفت صيحة ألفونسو صداها في فرنسا، وفي مختلف الإمارات الفرنجية التي حولها، وبادر أمير برجونية الدوق أودو، وهو صهر ألفونسو، إذ كانت عمته الملكة كونستانس، بحشد الأمداد، وشاركه في ذلك الكونت دي سان جيل أمير تولوشة. وهرع إلى التطوع فرسان من نورماندي وبواتو، ومن سائر أنحاء فرنسا. وسارت بالفعل قوى الأمداد صوب اسبانيا. ولكن ألفونسو حين علم بأن يوسف بن تاشفين قد عبر البحر في معظم قواته عائداً إلى المغرب، بعث إلى الأمراء الفرنج يشكرهم، وينبئهم برحيل المرابطين، وأنه لم تعد ثمة ضرورة لمقدمهم (1).
واقتصرت الحرب الصليبية عندئذ على منطقة الثغر الأعلى، حيث كان بنو هود أمراء سرقسطة، يواجهون عدوان سانشو راميرز ملك أرجوان، ومحاولاته المتوالية للاستيلاء على تُطيلة، ووشقة، وطرطوشة، وكانت طوائف المتطوعة من الفرنج تهرع إلى تلك الحملات الغازية، لتشترك فيها.
ويشعر المؤرخون المسلمون أنفسهم بخطورة موقعة الزلاّقة، وصبغتها الصليبية، فيحيطون حوادثها بطائفة من الأساطير الدينية. من ذلك ما قصه علينا يوسف نفسه في رسالته لمناسبة عبوره البحر، من المغرب إلى الأندلس، وما دعا به ربه حينما ثارت العواصف في وجه سفنه، وما تلا ذلك من هدوء العواصف والموج، وذلك حسبما فصلناه فيما تقدم (2). ومن ذلك أن ملك قشتالة حينما كان يتأهب لمحاربة المسلمين، توالت عليه الأحلام المرعبة، فرأى ذات يوم أنه يركب فيلا، قد تدلى بجانبه طبل يحدث صوتاً مرعباً كلما قرعه، وأن فقيهاً مسلماً من أهل طليطلة، فسر له ذلك الحلم بأنه نذير بهزيمته الساحقة،
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 310
(2) روض القرطاس ص 92.(2/331)
مشبهاً ذلك بما حدث عام الفيل من سحق أبرهة وقد كان يركب الفيل أيضاً (1).
ومنه مبالغات الرواية الإسلامية في فداحة خسائر النصارى، ومبالغتها في نفس الوقت في قلة خسائر المسلمين مما تقدم ذكره، إلى غير ذلك.
على أن هذه الأساطير والمبالغات لا يمكن أن تثير ذرة من الريب حول أهمية هذه الموقعة الشهيرة، ولا تنتقص من شأن نتائجها الحاسمة. فقد كان من النتائج العملية المباشرة لنصر الزلاقة، أن عادت إلى اسبانيا المسلمة روح الثقة والأمل، وأخذت قواها المتخاذلة في الانتعاش والنهوض من عثارها، وأن عادت إلى الشعب الأندلسي روح الحماسة الدينية، التي كاد يقضي عليها أمراء الطوائف بتصرفاتهم المشينة، وتراميهم على أعتاب الملوك النصارى، وتحرر أمراء الطوائف من ذلك الخزي الذي لحقهم عصراً بالخضوع لملك قشتالة، ونكلوا عن دفع المغارم التي كان يقتضيها منهم برسم الجزية. بيد أن هذه النتائج المحلية الخاصة، لا تعد شيئاً إذا قيست بالنتائج الهامة البعيدة المدى، التي ترتبت على هذا النصر الباهر. ففي سهول الزلاقة ارتد سيل النصرانية الجارف عن الأندلس المسلمة، بعد أن كان ينذرها بالمحو والفناء العاجل، وغنم الإسلام حياة جديدة في اسبانيا، امتدت إلى أربعة قرون أخرى، ومهدت السبل لسيطرة المرابطين على اسبانيا المسلمة، ومن بعدهم لخلفائهم الموحدين، وجعلت الأندلس، ولاية مغربية زهاء مائة وخمسين عاماً. وبالرغم من أن حياة اسبانيا المسلمة، لم تكن من ذلك الحين سوى صراع دائم بينها وبين اسبانيا النصرانية، فإنها قد استطاعت أن تتابع نشاطها المنتج، وتقدمها الحضاري الباهر. (2)
_______
(1) الحلل الموشية ص 35 و 36.
(2) راجع في تفاصيل موقعة الزلاقة: روض القرطاس ص 93 - 98، والحلل الموشية ص 33 - 46، والمعجب للمراكشي ص 70 - 73. والروض المعطار ص 76 - 94، ونفح الطيب ج 2 ص 527 - 531، وابن خلكان ج 2 ص 481 وما بعدها، وابن الأثير ج 10 ص 52 - 53. وراجع أيضاً Dozy: Histoire, V.III.p. 129-130، وكذلك R.M.Pidal.ibid ; p. 331-340(2/332)
الفصل الثالِث
الفتح المرابطي القسم اللأول
صريخ أهل شرقي الأندلس إلى يوسف. النصارى يتخذون حصن لييط قاعدة للعدوان. مسير المعتمد إلى مرسية وفشله في استردادها. عبور ابن عباد إلى العدوة واستنصاره بيوسف. عبور يوسف إلى الأندلس للمرة الثانية. كتبه إلى الرؤساء ومسيره إلى شرقي الأندلس. محاصرة القوات المرابطية والأندلسية لحصن لييط. صمود النصارى وعجز المحاصرين عن اقتحامه. الخلاف بين أمراء الطوائف وشكاويهم المتبادلة. القبض على ابن رشيق وتسليمه لابن عباد. غضب جند مرسية وأثره في المعسكر المحاصر. مقدم ملك قشتالة لإنجاد الحصن. إنسحاب المسلمين وعودة يوسف إلى المغرب. مقدم يوسف إلى الأندلس للمرة الثالثة. مشروعه في الاستيلاء على الأندلس. بواعث هذا المشروع. موقف ملوك الطوائف. محالفة بعضهم لملك قشتالة. فتاوى الفقهاء في شأنهم. طمع المرابطين في خصب الأندلس. العامل الدفاعي وأثره. مسير يوسف إلى طليطلة وارتداده عنها. مسيره إلى غرناطة. عبد الله بن بلقين ومحالفته السرية مع ملك قشتالة. محاصرة المرابطين لغرناطة. سوء الأحوال داخل المدينة. خروج عبد الله وتسليمه لأمير المسلمين. دخول المرابطين غرناطة. استيلاؤهم على مالقة. القبض على عبد الله وأخيه تميم وإرسالهما إلى العدوة. مقدم ابن عباد وابن الأفطس وجفاء يوسف نحوهما. الوحشة بينهما وبين يوسف. تأهب الجيوش المرابطية لافتتاح قواعد الأندلس. خطة يوسف لافتتاح إشبيلية. فتاوي الفقهاء ضد المعتمد. المعتمد وملك قشتالة. أهباته الدفاعية. استيلاء سير ابن أبي بكر على طريف. زحف الجيوش المرابطية على رندة وجيان وقرطبة. سقوط جيان. مهاجمة قرطبة واقتحامها. مقتل حاكمها الفتح بن عباد. قصة زائدة الأندلسية. الأسطورة النصرانية حولها. الزعم بكونها ابنة المعتمد وزواجها من ألفرنسو السادس. التفسير الحقيقي للأسطورة. حقيقة شخصية زائدة. نصوص تاريخية قاطعة.
عاد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى المغرب عقب موقعة الزلاقة في شعبان سنة 479 هـ، حسبما أسلفنا، ولبث في حضرته مراكش حتى أوائل العام التالي، ثم خرج منها ليطوف بالعمالات، ويتفقد أحوال البلاد، وكانت شئون الأندلس خلاك ذلك ما زالت تلاحقه، وكان أهل الأندلس، قد أيقنوا عقب موقعة الزلاقة، أنه لا سبيل لنجاتهم، وخلاصهم من إرهاق النصارى، سوى الالتجاء إلى عاهل المغرب وأنجاده المرابطين، ومن ثم فقد عادت كتب(2/333)
أهل الأندلس ووفودهم تترى على يوسف، وتستجير به من عدوان النصارى.
وكان الصريخ هذه المرة آتياً بالأخص من أهل بلنسية ومرسية ولورقة، وكانت شئون شرقي الأندلس يومئذ قد سادها الاضطراب، من جراء تدخل القشتاليين في شئون بلنسية، وسيطرتهم عليها عن طريق صنيعتهم القادر بن ذى النون، وما تلا ذلك من مغامرات السيد إلكمبيادور في تلك المنطقة. بيد أنه كان ثمة مصدر آخر للعدوان المباشر في منطقة مرسية ولورقة وبسطة، هو حصن أليدو Aledo ( وتسميه الرواية العربية حصن لييط)، وكان ألفونسو السادس قد بعث في ربيع سنة 1085 م، على أثر استيلائه على طليطلة، قواته بقيادة غرسيه خمينس إلى الأندلس الشرقية. لتغير عليها، وتعيث في أراضيها، فاجتاحت المنطقة الواقعة بين مرسية ولورقة. ثم عمد القشتاليون، لكي يبسطوا قبضتهم على تلك المنطقة، إلى إنشاء حصن ضخم، وافر المناعة، في مكان يسمى أليدو (لييط) يقع بين مرسية ولورقة، وهو أقرب إلى لورقة، وشحنوه بالسلاح والمقاتلة، واتخذوه قاعدة للإغارة على أراضي مرسية وألمرية، وبثوا فيها الرعب والروع، وعجزت القوات الأندلسية المحلية عن رد عدوانهم، حتى ضج أهل هذه الأنحاء مما ينزل بهم من صنوف الضر والأذى، وكثر صريخهم واستغاثاتهم، وتوالت كتبهم ورسلهم على أمير المسلمين في طلب الإنجاد والغوث (1).
وكان المعتمد بن عباد، وهو صاحب السيادة الشرعية على مرسية ولورقة، أشد الناس اهتماماً بإنقاذ تلك المنطقة من عدوان القشتاليين. وكان ألفونسو عقب هزيمة الزلاقة قد عزز حامية لييط وضاعفها، وأوعز إلى قائده غرسية خمينس بأن يشدد الضغط والتنكيل بأراضي لورقة ومرسية انتقاماً من المعتمد، لكونه قد خرج عليه، وعمل على استدعاء المرابطين (2)، وبلغت حامية هذا الحصن الضخم يومئذ ثلاثة عشر ألف مقاتل منهم ألف فارس، وكان يشاطر المعتمد هذا الاهتمام، المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، لما كان ينزل بأراضيه من عيث نصارى أليدو (لييط)، وكان المعتمد يتوق في نفس الوقت إلى استرداد سلطانه الحقيقي في مرسية, وهي يومئذ تحت حكم ابن رشيق الفعلي، فحشد حملة من جنده، ومن المرابطين الذين تركهم يوسف، وسار أولا إلى لورقة، فامتنعت
_______
(1) الحلل الموشية ص 47 و 48، وراجع: R.M.Pidal: ibid ; p. 319
(2) روض القرطاس ص 98، وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 361(2/334)
عليه، فغادرها إلى مرسية. وضرب حولها الحصار، ولكن ابن رشيق استطاع أن يكسب المرابطين، وأن يقنعهم بأن يتركوه في سلام، وهكذا فشلت الحملة وعاد ابن عباد إلى إشبيلية دون أن يحقق أي نجاح (1).
فاعتزم المعتمد أمره في استدعاء يوسف، للمعاونة في قمع شر حامية أليدو النصرانية، وعبر البحر بنفسه إلى المغرب مع بعض خاصته، فلقي أمير المسلمين بوادي سبو، وأفضى إليه بملتمسه، وشرح له ما يلقاه المسلمون في منطقة مرسية ولورقة وغيرهما، من عسف النصارى وغاراتهم، وشنيع عيثهم، فوعده يوسف بإجابة ملتمسه، وكان قد تلقى قبل زيارة ابن عباد كثيراً من الكتب، من فقهاء الأندلس وأعيانها، يلحفون في رجاء الإنجاد والغوث، لقمع بغي القشتاليين، والاستيلاء على أليدو مركز بغيهم، وعاد ابن عباد إلى إشبيلية بعد أن اطمأن لوعد يوسف وتأكيداته، وأخذ في إعداد السلاح وآلات الحصار (2).
- 1 -
وأوفى يوسف بوعده، وعبر البحر إلى الأندلس في قواته في شهر ربيع الأول سنة 481 هـ (يوليه سنة 1088 م). فتلقاه ابن عباد في الجزيرة الخضراء بالمؤن الوفيرة، وبعث أمير المسلمين بكتبه إلى ملوك الطوائف ورؤسائهم يستدعيهم جميعاً للجهاد، وأن يوافوه بقواتهم عند حصن لييط. وكان يوسف يبغي بعد الاستيلاء على حصن أليدو، أن يعمل للقضاء على سلطان " السيد " في منطقة بلنسية، ومن ثم فقد اتجه يوسف عن طريق مالقة صوب شرقي الأندلس، ومعه المعتمد في قواته، وانضم إليه في الطريق تميم بن بلقين صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، كل في قواته. ولما وصل إلى ظاهر حصن أليدو، وافاه هناك ابن رشيق صاحب مرسية في قواته، وعدة من رؤساء الأندلس من شقورة وبسطة وجيان وغيرها.
وضرب المسلمون الحصار حول الحصن، وكاد فضلا عن حاميته الضخمة، التي تضم ثلاثة عشر ألف مقاتل، يضم جماعات كبيرة من نصارى هذه المنطقة الذين التجأوا إليه. وسلط المسلمون آلات الحصار الضخمة على الحصن،
_______
(1) Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 134
(2) روض القرطاس ص 98، والحلل الموشية ص 48.(2/335)
وضربوه بشدة، ولكن الحصن كان في منتهى المناعة، فلم تنجح الآلات الضخمة في هدمه أو ثلم أسواره، ورد المدافعون كل محاولة للمحاصرين بمنتهى العنف والشدة، وامتنعوا داخل حصنهم. وطال الحصار زهاء أربعة أشهر، والقوات المحاصرة تحاول اقتحامه، كل جماعة بدورها، والنصارى صامدون، يتساقطون داخل حصنهم من الجوع والإعياء. وشعر أمير المسلمين من جراء ذلك بخيبة أمل مرة، بيد أنه شعر كذلك باستياء بالغ لما شهده من أحوال أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، فقد كان الخلاف والوقيعة على أشدهما بين أولئك الأمراء الطامعين المتنابذين، فكان تميم صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، يشكو كل منهما الآخر، ويتهمه باغتصاب حقوقه في الميراث والسيادة، وكان ابن عباد والمعتصم بن صمادح يوقع كل منهما في حق صاحبه لدى أمير المسلمين، ويتهمه بمختلف التهم. وبرز من بين هذه الخصومات بالأخص خلاف المعتمد وابن رشيق، فقد شكا ابن عباد ابن رشيق لأمير المسلمين، واتهمه باغتصاب الولاية منه على مرسية، واتهمه بما هو شر من ذلك، وهو أنه متفاهم مع ملك قشتالة سراً، وقد دفع إليه جباية مرسية، وأنه يعاون حامية الحصن في الخفاء، واهتم أمير المسلمين لتلك التهم، ومال إلى تصديقها، واستفتى الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر بتسليمه لابن عباد على شرط أن يبقى على حياته. وكان لهذا الحادث أسوأ الأثر في المعسكر المحاصر، فإن قادة مرسية ومعظمهم من أقارب ابن رشيق ورجاله، غادروا المعسكر في جندهم غاضبين، وقطعوا المؤن التي كانت ترسل إلى المحاصرين من مرسية وأحوازها، فاختل أمر المعسكر، ولحق به الضيق والغلاء، وعلم أمير المسلمين من جهة أخرى أن ملك قشتالة يسير في قوة كبيرة لإنجاد الحصن، فآثر الانسحاب وعدم الاشتباك مع القشتاليين في معركة غير مجدية. وقدم ألفونسو إلى الحصن، فلم يجد بداخله من المدافعين سوى مائه فارس وألف راجل، ولما رأى أنه لا فائدة من الاحتفاظ به، وأنه يقتضي لذلك حامية كبيرة، قرر إخلاءه وتقويض أسواره وأبراجه، وعاد أدراجه، وذلك في سنة 1089 م (482 هـ). واحتل ابن عباد أطلال الحصن بعد أن غادره النصارى.
ولم ير يوسف بعد هذا الإخفاق مجالا لمحاولات أخرى، فاتجه نحو لورقة،(2/336)
بعد أن ترك جيشاً مرابطياً من أربعة آلاف فارس تحت إمرة داود بن عائشة ليعمل في منطقة مرسية وبلنسية، وتحرك أمراء الأندلس كل إلى بلده، وسار يوسف إلى ألمرية فالجزيرة، ثم عبر البحر عائداً إلى المغرب، وقد تغيرت نفسه على أمراء الأندلس (1).
- 2 -
ولم يمض عام آخر، حتى أعد يوسف بن تاشفين عدته، للجواز إلى شبه الجزيرة للمرة الثالثة، وكان ذلك في أوائل سنة 483 هـ (1090 م). ولم يكن جوازه في تلك المرة تلبية لدعوة أو استغاثة من أحد، من أمراء الأندلس، كما حدث في المرتين السابقتين، ولكنه عبر عندئذ إلى شبه الجزيرة، وقد انتهى إلى قرار بالغ الخطورة، هو الاستيلاء على الأندلس.
وقد اختلفت الروايات في تصوير البواعث، التي حملت يوسف على اتخاذ هذا القرار. بيد أنه يبدو على ضوء مختلف الروايات، أن يوسف قد تأثر منذ البداية بما شهده من اختلال أحوال أمراء الطوائف، وضعف عقيدتهم الدينية، وانهماكهم في مجالي الترف والعيش الناعم، وما يقتضيه ذلك من إرهاق لشعوبهم بالمغارم الجائرة، وأدرك أن هذه الحياة الناعمة، التي انغمس فيها رؤساء الأندلس وشعوبهم اقتداء بهم، هي التي قوضت منعتهم، وفتت في رجولتهم وعزائمهم، وأضعفت هممهم عن متابعة الجهاد، ومدافعة العدو المتربص بهم، وأن الشقاق الذي استحكم بينهم، ولم ينقطع بعد الزلاقة، سوف يقضي عليهم جميعاً، إذا تركت الأمور في مجراها، وسوف يمهد لاستيلاء النصارى على جميع أنحاء شبه الجزيرة في أقرب وقت. ومن ثم فقد اعتزم أمير المسلمين أمره نحو الأندلس ونحو أمرائها العابثين المترفين (2).
ذلك هو التصوير العام، للبواعث التي حملت يوسف بن تاشفين، على افتتاح ممالك الطوائف الأندلسية، بيد أنه توجد إلى جانب ذلك بواعث معينة أخرى، منها أن ملوك الطوائف لما شعروا بتغير يوسف عليهم، توافقوا على
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 98 و 99، والحلل الموشية ص 47 - 50. وراجع: Dozy: Histoire, V.III.p. 139 & 140، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 364 & 365.
(2) راجع المراكشي في المعجب ص 89.(2/337)
قطع المدد والمؤن عن عساكره ومحلاته التي تركها بالأندلس، فساءه ذلك (1)، ومنها ما وقف عليه يوسف، من رجوع بعض رؤساء الطوائف إلى مصادقة ألفونسو ملك قشتالة وممالأته، بل واستعدائه على محاربة يوسف نفسه، وإمداده لذلك بالأموال والهدايا، وكان هذا بالذات موقف عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة (2)، ثم كان فيما بعد موقف المعتمد بن عباد، وقد عمد كلاهما في الواقع إلى تحصين بلاده والاستعداد للدفاع عنها (3).
والظاهر أيضاً أن أمير المسلمين لم يتخذ قراره الخطير بافتتاح الأندلس فجأة، ولكنه عمد إلى دراسته ومشاورة الزعماء والفقهاء في أمره، وقد تلقى في ذلك فتاوي الفقهاء من المغرب والأندلس، بوجوب خلع ملوك الطوائف، وانتزاع الأمر من أيديهم، بل لقد تلقى مثل هذا الرأي من أكابر فقهاء المشرق، وفي مقدمتهم أعلام كالإمام الغزالي، وأبى بكر الطرطوشي نزيل مصر يومئذ وغيرهما (4).
وإذاً فقد التمس أمير المسلمين لتنفيذ مشروعه، سند أحكام الشرع، وتأييد أهل الرأي، قبل الإقدام عليه.
ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم، ذلك الباعث الطبيعي، الذي يضطرم به كل زعيم قوى وكل متغلب، ونعني شهوة الفتح والتوسع، فلا ريب أن يوسف بن تاشفين وصحبه، وهم أولئك البدو الصحراويون، قد راقهم ما شهدوه من خصب الأندلس ونعمائها، وطيب هوائها. ومن ثم فإن الرواية تحدثنا بصراحة عن " طمع يوسف في الجزيرة وتشوفه إلى مملكتها "، وتذكر لنا أنه قال يوماً لبعض ثقاته؛ " كنت أظن أني قد ملكت شيئاً، فلما رأيت تلك البلاد (الأندلس) صغرت في عينى مملكتي " (5).
اجتمعت هذه البواعث كلها، لتحمل يوسف على فتح الأندلس، وهي بواعث فوق وضوحها، تسجلها لنا الرواية جميعاً. بيد أننا نستطيع أن نستشف
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 187.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 187.
(3) روض القرطاس ص 99، وابن خلكان ج 2 ص 490. وراجع: R.M.Pidal ibid ; p. 394
(4) ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188؛ وأعمال الأعلام ص 247.
(5) المعجب ص 74. وراجع ابن خلكان ج 2 ص 40، وأعمال الأعلام ص 163، ونفح الطيب ج 2 ص 533.(2/338)
من قرار يوسف باعثاً آخر، لم تفطن إليه الرواية الإسلامية، ولعله من البواعث الهامة، في مشروع عاهل المرابطين، وهو العامل الدفاعي والاستراتيجي.
ذلك أن يوسف أدرك لأول وهلة، أن دول الطوائف الضعيفة المتخاذلة، لا تستطيع في ظل أمرائها المترفين الخانعين دفاعاً عن نفسها، وأنه إن تخلى عنها، فسوف تسقط حتماً في يد ملك قشتالة القوي. ولم تغب عن يوسف، وهو ذلك الجندي العظيم، أهمية الصلة الدفاعية والاستراتيجية الوثيقة، التي تربط بين ضفتي العدوة والأندلس، المتقابلتين على طرفي المضيق، ولم يفته أن يدرك أن سقوط الأندلس، في أيدي النصارى، معناه سقوط جناح المغرب الدفاعي من الشمال، ومعناه تهديد اسبانيا النصرانية لسلامة المغرب، متى اجتمعت قواها، وتوفرت لديها وسائل العدوان، ومن ثم فقد قرر أن يبادر إلى احتلال رقعة الوطن الأندلسي، لينقذ الأندلس من هذا الخطر الداهم، وليدعمها ويضاعف أهباتها الدفاعية، ويمكنها من تأدية مهمتها الاستراتيجية في رد عادية العدوان، لا عن نفسها فقط، ولكن عن المغرب أيضاً، ولم ينس أمير المسلمين في ذلك، أن ملك قشتالة استطاع عقب استيلائه على طليطلة، أن يجتاج أراضي الأندلس الوسطى كلها، منذ نهر التاجه جنوباً حتى أرض الفرنتيرة، وأن يصل إلى ثغر طريف قبالة العدوة. دون أن يقف في سبيله أحد من ملوك الطوائف، وكان في ذلك من بوادر الخطر على أرض العدوة القريبة ما فيه.
- 3 -
عبر أمير المسلمين إلى شبه الجزيرة للمرة الثالثة في أوائل سنة 483 هـ، حسبما قدمنا. وكان أبلغ ما أهمه عندئذ ما تواتر إليه من أخبار عن الاتفاقات السرية التي يعقدها المعتمد بن عباد، والمتوكل بن الأفطس، وعبد الله ابن بلقين، مع ألفونسو السادس ملك قشتالة للتعاون في رد المرابطين. واتسمت حملة يوسف في البداية بطابع الجهاد، حيث سار تواً إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة. ولم يتقدم أحد من أمراء الطوائف يومئذ لمعاونته أو السير معه. وربما كان يوسف يرجو أن يسترد طليطلة، فيشفى بذلك جرح الأندلس الدامي، ويكتسب عطف أهل الأندلس جميعاً. وعاث المرابطون في أحواز طليطلة وخربوا ضياعها، وانتسفوا زروعها، ثم ضربوا الحصار حول العاصمة القوطية القديمة(2/339)
وعاصمة قشتالة يومئذ، وكان بداخلها ألفونسو السادس وحليفه سانشو راميرز يقومان بالدفاع عنها، بيد أن المرابطين أيقنوا بعد أن شهدوا أسوارها العالية، وحصانتها الفائقة، بعبث المحاولة، فتركوا الحصار، وارتد يوسف بقواته إلى الجنوب (1).
وعرج يوسف بجيشه على فحص غرناطة، وكان قد قرر أمره نحو غرناطة وصاحبها عبد الله بن بلقين، بل ونحو أمراء الطوائف جميعاً. وكان عبد الله في الواقع مذ عاد من حصار أليدو، ولما شعر به من تغير يوسف، قد عاد إلى استئناف صلاته بألفونسو السادس، عن طريق قائده ومبعوثه في تلك المنطقة ألبار هانيس، وعقد معه فيما يبدو محالفة سرية لمقاومة المرابطين. ويعترف الأمير عبد الله في مذكراته بهذه الصلات، ولكنه يقول لنا إنها لم تكن سوى التزام منه بدفع الجزية لألفونسو، وتعهد من ألفونسو بألا يعترض له بلداً ولا يغدر به (2). ويقول لنا ابن عذارى من جهة أخرى إن عبد الله بن بلقين كان أول من شهر الخلاف على يوسف بن تاشفين، فنظر في اختيار الآلات وألحق الرماة والرجال، وأعلا الأبراج، وبنا الأسوار، ونصب الرعادات، وملأ بيوت السلاح، وجد في ضرب السهام، ونقل المال والذخيرة، وخرج المتاع والآنية إلى قصبة المنكب لكونها في غاية المنعة، وعلى ضفة البحر، وعمد إلى مال كثير، وثياب نفيسة، وتحف جليلة، وأعلاق دقيقه، فوجه بها إلى أذفونش، وكتب إليه متطارحاً عليه، مستجيراً به، وأعلمه ان البلد بلده وأن فيه قايده، فاهتز لذلك الأذفونش، وقبل المال والهدايا، وأقسم بجميع أيمانه، أن يشد اليد عليه في ملكه، ولا يتركه لضيم ولا خصيمة، وأن ينهض إليه بنفسه، ويبذل جهده في نصره، فقويت نفس حفيد باديس بذلك. وفي ذلك يقول صفيه وأثيره السمسري:
صانع أذفونش والنصارى ... فانظر إلى رأيه الوبير
وشاد بنيانه خلافاً ... لطاعة الله والأمير
يبني على نفسه سفاهاً ... كأنه دودة الحرير
_______
(1) روض القرطاس ص 99. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 349 & 395
(2) كتاب التبيان ص 125. وراجع ابن خلدون ج 6 ص 187.(2/340)
دعوه يبني فسوف يدري ... إذا أتت قدرة القدير (1)
على أن ما استقر في ذهن يوسف، وما نهضت عليه الأدلة، وأكده رسله يومئذ، هو أن المعتمد بن عباد، وعبد الله بن بلقين وغيرهما من أمراء الطوائف، قد عقدوا مع ملك قشتالة اتفاقات سرية، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين بالمال والمؤن، وبالانضواء تحت لواء ألفونسو وحمايته. وكان بعض حشم عبد الله ولاسيما مؤمل مولى جدّه باديس، قد اتصلوا بأمير المسلمين، وأكدوا له مداخلة عبد الله لملك قشتالة، واهتمامه بتجديد الأسوار وتحصين المدينة. ومن جهة أخرى فقد أصدر فقهاء غرناطة فتوى بخلع عبد الله وأخيه تميم صاحب مالقة، لما يرتكبانه من المظالم والخروج على أحكام الدين، وأهابوا بيوسف أن يرغم أمراء الطوائف على اتباع أحكام الشرع وإلغاء المكوس، والمغارم الجائرة، التي يفرضونها على رعيتهم تعسفاً وظلماً.
وفرض أمير المسلمين على غرناطة شبه حصار، وقام عسكره بحراسة حصونها الخارجية، حتى لا يأتيها مدد من النصارى، وطلب المؤن والعلوفات، فبادر عبد الله بتقديمها. وكانت الأحوال في غرناطة قد ساءت، وشاع الخلاف والتمرد بين سائر الطوائف، وأدرك عبد الله أنه لا سبيل إلى المقاومة، وأرسل إلى أمير المسلمين رسله ومعهم بعض المال، فعادوا إليه بأمان يوسف " في النفس والأهل دون المال "، كما عرض عليه يوسف أن يختار بلداً آخر لإقامته غير غرناطة. فتمهل عبد الله وقتاً. والظاهر أنه كان ينتظر عوناً من القشتاليين لم يتحقق. وفي خلال ذلك كانت أمه وخاصته يلحون عليه في الخروج إلى أمير المسلمين، والانقياد لأمره، كأفضل حل للموقف. ولما اقترب أمير المسلمين بمحلته من المدينة، واشتد بها الهياج، رأى عبد الله أنه لا مناص من اتباع هذا النصح، فسار إلى محلة يوسف، وقدم إليه نفسه، فأصدر له أماناً في نفسه وأهله، وأمر باعتقاله، حتى يتم ضبط أمواله، وكانت لدى عبد الله وأمه أموال طائلة، مكدسة منذ أيام جده باديس، وعلى أثر ذلك أقبل الفقهاء والأعيان إلى محلة يوسف وبايعوه بالطاعة. ودخل يوسف مع قادته وجنده مدينة غرناطة ونزل بقصرها، واستولى على ما فيه من الأموال والتحف الجليلة، وأذاع في
_______
(1) نقلت من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثر بها المؤلف في خزانة القرويين بفاس.(2/341)
الناس، أنه سوف يحكم بالعدل والرفق وفقاً لأحكام الشرع، ويعمل على إقامة الخير بينهم، والذب عن حوزتهم، وأنه سوف يرفع عنهم سائر المغارم الجائرة، ولا يفرض عليهم من التكاليف والالتزامات إلا ما يجيزه الشرع. وكان خلع عبد الله بن بلقين بن باديس في اليوم العاشر من شهر رجب سنة 483 هـ (سبتمبر سنة 1090) (1).
وبعث أمير المسلمين في الوقت نفسه سرية من جنده إلى مالقة، فقبض على صاحبها تميم بن بلقين أخى عبد الله، وحمل مكبلا إلى العدوة، ثم أرسل إلى السوس. وكان الفقهاء قد اتهموه بطائفة من المظالم الشنيعة وطالبوا بخلعه (2).
وأخذ عبد الله وأهله أولا إلى الجزيرة الخضراء، ثم نقلوا إلى سبتة، فمكناسة وأخذوا أخيراً إلى مدينة أغمات، حيث تقرر إقامتهم، وأنزلوا هنالك داراً حسنة، وعوملوا برفق ورعاية، وعاش عبد الله بأغمات حتى توفي. وكتب فيها مذكراته الموسومة بكتاب " التبيان "، وهي التي رجعنا إليها في غير موضع. وعفا أمير المسلمين فيما بعد عن أخيه تميم، فسكن مراكش حتى توفي بها في سنة 488 هـ (3).
وهكذا سقطت أول دولة من دول الطوائف في أيدي المرابطين، وكان سقوطها نذيراً باضطرام العاصفة، التي قدر لها أن تجتاح الطوائف جميعاً. وشعر المعتمد بن عباد بخطورة هذا النذير، بيد أنه كان من جهة أخرى، ما يزال يعلل نفسه بمختلف الآمال الغامضة، وكان قد استقبل يوسف عند مقدمه بالجزيرة الخضراء، وقدم إليه المؤن والضيافات المعتادة، ويقال إن يوسف وعده عندئذ بغرناطة متى استولى عليها (4). فلما ظفر يوسف بامتلاكها، سار المعتمد ومعه زميله المتوكل بن الأفطس إلى غرناطة، فقدما التهنئة لأمير المسلمين بهذا الفتح.
وظن المعتمد عندئذ أن يوسف سوف ينجز وعده بالنزول له عن غرناطة، مقابل
_______
(1) يراجع في حوادث سقوط غرناطة في أيدي المرابطين: كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 147 - 160، وروض القرطاس ص 99 و 100، وأعمال الأعلام ص 235 و 236، وابن خلدون ج 6 ص 187. وراجع أيضاً: Dozy: Hist.V.III.p. 141-144، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 394-396
(2) كتاب التبيان ص 162 و 163، وأعمال الأعلام ص 236.
(3) كتاب التبيان ص 171، وأعمال الأعلام ص 236.
(4) كتاب التبيان ص 164.(2/342)
استيلائه على ثغر الجزيرة، ولكن يوسف استقبلهما بجفاء، فانصرفا عنه، وقد أدركا الحقيقة المروعة، وشعرا بأن النهاية المحتومة، قد أضحت على وشك الوقوع. وعاد المعتمد إلى إشبيلية، وهو يعتزم الدفاع عن مملكته جهد الاستطاعة وأخذ في التأهب، وإقامة التحصينات والأسوار، وساءت العلائق بينه وبين أمير المسلمين بسرعة، وكثرت بينهما الوقيعة والسعايات، ودعا أمير المسلمين المعتمد إلى لقائه فرفض، وطلب إليه أن يتبع أحكام الشرع، وأن يلغي المكوس الجائرة، وأن يلتزم الرباط ومدافعة النصارى، فلم يجبه إلى شىء (1).
وغادر أمير المسلمين غرناطة، وجاز إلى العدوة في شهر رمضان سنة 483 هـ، وفوض إلى قائده الأكبر سير بن أبي بكر اللمتوني شئون الأندلس. وهنا تختلف الرواية، فيقال إنه لم يأمر قائده في أمر ابن عباد بشىء، وقيل من جهة أخرى، إنه أمره بمحاصرة ابن عباد في إشبيلية، وأنه متى انتهى من أمر إشبيلية، فليتقدم إلى بلاد ابن الأفطس (2). وقدم أمير المسلمين قائده ابن الحاج على جيش آخر، وعهد إليه بمنازلة قرطبة، وعليها ولد المعتمد الفتح الملقب بالمأمون، وقدم أبا زكريا بن واسنو على جيش ثالث، وعهد إليه بمحاصرة المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، وقدم جروراً الحبشي على عسكر رابع وعهد إليه بمنازلة يزيد الراضي ولد المعتمد برندة. وأقام أمير المسلمين بسبتة يجهز الجيوش والأمداد، ويترقب نتائج أعمال جيوشه في شبه الجزيرة.
- 4 -
كان من الواضح، على ضوء هذه الأهبات الضخمة، التي اتخذت لمهاجمة ْقواعد مملكة إشبيلية في وقت واحد، أن يوسف بن تاشفين، كان يرى في مملكة إشبيلية واسطة عقد الأندلس، وفي أميرها المعتمد بن عباد، عميد الطوائف، فإذا سقطت في يده إشبيلية، كان له ملك الأندلس.
ولم يكن أمير المسلمين تعوزه المبررات في قتال ابن عباد، فقد كان لديه المبررات المادية والشرعية الكافية. ذلك أنه احتاط للأمر، واستصدر الفتاوي
الشرعية اللازمة، من فقهاء المغرب والأندلس، بأن مسلك المعتمد في مصانعة
_______
(1) الحلل الموشية ص 51 و 52، وروض القرطاس ص 100، وكتاب التبيان ص 169.
(2) روض القرطاس ص 100، والحلل الموشية ص 52.(2/343)
النصارى، وتسليم البلاد، والاحتماء بهم، ومسلكه إزاء شعبه في اقتضاء المكوس الجائرة، وغير ذلك مما يخالف أحكام الشرع، ومجاهرته بالمعاصي، كل ذلك مما يفقده أهليته لحكم المسلمين، ويوجب محاربته وخلعه (1). أما عن المبررات المادية، فقد وقعت في يد يوسف بعض المراسلات السرية الموجهة من ابن عباد إلى ملك قشتالة، يستغيث به ويطلب معونته (2)، وكان المعتمد بعد أن رأى جنود قشتالة تجتاح بلاده، وتمعن في تخريبها، دون أن يستطيع دفعاً لهم، وشعر من جهة أخرى بما يضمره المرابطون نحوه من النيات الخطرة، قد أيقن أنه لا معدي له عن الالتجاء إلى ملك قشتالة، والتفاهم معه على دفع المرابطين عن الأندلس.
وبينما كان المعتمد منهمكاً في أهباته الدفاعية بإشبيلية، كان قائد المرابطين سير بن أبي بكر، يضع خططه النهائية للانقضاض على قواعد مملكة إشبيلية، وقد بدأ في ذلك بالاستيلاء على طريف أقصى ثغورها الجنوبية، وذلك في شوال سنة 483 هـ (ديسمبر 1090 م) ونادى فيها بدعوة أمير المسلمين (3)، ثم اتجه نحو الشمال قاصداً إشبيلية، بينما زحفت الجيوش المرابطية الفرعية على رندة وجيان وقرطبة. فأما رندة فقد حاصرها القائد جرور المرابطي بقواته، وكان يضطلع بالدفاع عنها يزيد الراضي ولد المعتمد. وكانت رندة من أمنع القواعد الجنوبية، فصمد بها الراضي، واضطر جرور أن يقنع بالحصار منتظراً سير الحوادث. وأما جيان، فقد زحف عليها جيش مرابطي بقيادة بطى بن اسماعيل وضرب حولها الحصار. وهنا يقول لنا ابن الخطيب إن جيشاً من القشتاليين قدم لإنجاد جيان، تنفيذاً للحلف المعقود بين ابن عباد وملك قشتالة، وإنه نشبت بين المرابطين والنصارى موقعة أبيد فيها المرابطون (4). بيد أن ابن أبي زرع يقول لنا بالعكس أن بطى حاصر جيان حتى دخلها صلحاً، وكتب سير بالفتح إلى أمير المسلمين، وأمر بطى بالسير بقواته إلى قرطبة (5). وقد ذكرنا من
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188.
(2) كتاب التبيان ص 169.
(3) المعجب ص 75. وكذلك: R.M.Pidal: ibid, p. 398
(4) أعمال الأعلام ص 163.
(5) روض القرطاس ص 100.(2/344)
قبل وفقاً لرواية صاحب الحلل الموشية، أن القوات المرابطية التي سارت لمنازلة قرطبة كانت بقيادة ابن الحاج. وعلى أي حال فقد زحف المرابطون على قرطبة، وبها حاكمها ولد المعتمد، الفتح الملقب بالمأمون، وكان قد اتخذ كل الأهبات الدفاعية الممكنة، وأرسل زوجه وأولاده وأمواله تحوطاً إلى حصن المدور (1)، الواقع جنوب غربي قرطبة على ضفة نهر الوادي الكبير، لكي تبقى بمنجاة من الخطر، وحتى تستطيع أن تلوذ عند الضرورة بحماية ملك قشتالة، وقد كان هذا الإجراء فيما يبدو بإشارة المعتمد أو بموافقته. والواقع أن قرطبة لم تصمد طويلا، فقد اقتحمها المرابطون بعنف، وقتل الفتح بن عباد خلال الهجوم مدافعاً عنها، ورفع المرابطون رأسه على رمح. وكان افتتاح المرابطين لقرطبة في اليوم الثالث من صفر سنة 484 هـ (26 مارس سنة 1091 م) (2).
* * *
وهنا يجب أن نقف قليلا، لنتناول مسألة تاريخية هامة، غمرتها الأسطورة مدى عصور، ثم ألقى عليها البحث الحديث ضوءه المقنع، تلك هي قصة زائدة الأندلسية.
لقد ذكرت الروايات الإسبانية النصرانية، المعاصرة واللاحقة، أن ألفونسو السادس قد تزوج من ابنة للمعتمد بن عباد تسمى " زائدة " أو أنه قد اتخذها خليلة، وأنجب منها ولده الوحيد سانشو. وتزيد على ذلك أن المعتمد نفسه، حينما شعر بخطر المرابطين الداهم على مملكته، واستغاث بألفونسو لمعاونته على دفعه، هو الذي قدم ابنته المذكورة للملك النصراني، وأنه نزل له عن مواضع معينة من أراضي مملكة طليطلة، كان قد افتتحها، لتكون مهراً لابنته المذكورة، وترجع بعض الروايات المتأخرة هذا التصرف من جانب ابن عباد إلى فرصة سابقة على مقدم المرابطين، وتقول إنه كان ضمن مغريات الحلف الذي عقده المعتمد مع ألفونسو عن طريق وزيره ابن عمار، وأخيراً أن هذا التصرف قد أثار فضيحة كبيرة في الأندلس، واتهم ابن عباد بالتفريط في عرضه ودينه (3).
_______
(1) وهي بالإسبانية Almodavar del Rio
(2) روض القرطاس ص 100، وراجع: R.M.Pidal: ibid.p. 405
(3) وردت هذه القصة ضمن رواية Pelayo de Oviedo المعاصرة، وقد نشرت ضمن =(2/345)
وقد استمرت التواريخ النصرانية تتناقل هذه الأسطورة عصوراً كأنها حقيقة لا ريب فيها، وتتحدث دائماً عن " زائدة الأندلسية " Zeida la Mora أو Ceida وعن ذريتها النصرانية. ونقول نحن إنه لا توجد بين هذه التفاصيل المغرقة، سوى حقيقة واحدة هي شخصية زائدة المذكورة، وأنها كانت حقيقة زوجة أو خليلة لألفونسو السادس، وقد أنجب منها ولده سانشو الذي قتل طفلا في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م). ولكنها لم تكن ابنة للمعتمد بن عباد، ولم يقدمها المعتمد لألفونسو ثمناً لحلفه، وهذا هو لب الأسطورة كلها. وهذا هو وجه الإغراق والتحريف. ذلك أنه مما لا يسيغه العقل أن يرضى أمير عظيم مسلم كالمعتمد بن عباد، أن يزوج ابنته من أمير نصراني أو أن يقدمها له جارية وحظية، ومهما كان من استهتار المعتمد وتسامحه الديني، وإذا فرضنا أنه لم يكن يقيم في مثل هذا التصرف الشائن، وزناً للاعتبارات الدينية والشرعية، وهو في ذاته مما لا يقبله العقل، فمن المستحيل عليه ألا يحسب أعظم حساب لنتائجه السياسية، وخصوصاً في مثل هذه الظروف الدقيقة التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، وأقلها أن يضطرم شعبه المسلم بالثورة عليه، وأن يسحقه ويسحق أسرته، ومن جهة أخرى فإن المعتمد كان يرمي من جانب خصومه في الداخل وفي الخارج بألسنة حداد من أجل استهتاره وتهاونه الديني، ولم يكن من المعقول أن يقدّم بمثل هذا التصرف إلى خصومه سلاحاً جديداً يضعه في صف المارقين والخوارج على الدين.
أما التفسير الحقيقي لهذه القصة، وهو ما كشفت عنه البحوث والنصوص الوثيقة، فهو أن زائدة هذه كانت حسبما تقدم زوجة للفتح بن المعتمد الملقب بالمأمون حاكم قرطبة، وأن المأمون حينما هاجم المرابطون المدينة، أرسل زوجته وولده وأمواله إلى حصن المدور، أو أنه حينما اقتحم المرابطون المدينة وقتل الفتح، استطاعت زائدة أن تلوذ مع أولادها بالفرار، وأن تلجأ إلى حصن المدور،
_______
= مجموعة Espana Sagrada للأب Flores ( الجزء الرابع عشر). وذكرها رودريك الطليطلي في روايته التي وردت في: De Rabis Hispaniea، وكذلك لوقا التطيلي في روايته Cronicon Mundi على اختلاف في بعض التفاصيل، وذكرها الأب فلوريس في تاريخه Flores: Reynas Catolicas ومن المؤرخين المحدثين Modesto Lafuente في تاريخه: Historia general de Espana وراجع ايضاً R.M.Pidal: ibid ; p. 760-764 حيث يلخص سائر الروايات المتقدمة.(2/346)
ثم التجأت إلى حماية ملك قشتالة، حينما اشتد خطر المرابطين على سائر تلك الأنحاء وربما كان ذلك بموافقة المعتمد. ولما كانت زائدة على جانب كبير من الجمال، وكان الملك النصراني من جهة أخرى مزواجاً، كلفاً بالنساء، فقد انتهز فرصة التجائها إليه، واتخذها خليلة ثم تزوجها. وتقول الروايات القشتالية في هذا الموطن، إن زائدة كانت تحب الملك النصراني " بالسماع "، وتتوق إلى الزواج منه، وأن المعتمد (بزعم أن زائدة كانت ابنته) قد نزل لملك قشتالة في هذه المناسبة عن قونقة، ووبذة وإقليش وأوكانيا وكونسويجرا وغيرها من الأماكن، وهي التي كان قد افتتحها من مملكة طليطلة أيام بني ذى النون، وذلك كمهر لزائدة. وقد يكون المعتمد قد نزل حقاً عن هذه الأماكن وغيرها لملك قشتالة، ولكن ذلك لم يكن سوى بعض ما تعهد به لملك قشتالة كثمن لحلفه وعونه. ومتى تقرر أن زائدة، لم تكن ابنته، فإنه لا محل أن يقرن هذا التنازل من جانب المعتمد بقصة زواج زائدة من الملك النصراني. ونقول تتمة لقصة زائدة إنها غدت خليلة أو زوجة لملك قشتالة، على الأرجح عقب سقوط قرطبة بقليل، في أوائل سنة 1092 م، وأنها بهذه المناسبة اعتنقت النصرانية وتسمت باسم " إيسابيل "، وفي رواية باسم ماريا، ونصّر أولادها من الفتح، ومن كان معها من الحشم، ورزق منها ألفونسو بولده الوحيد سانشو، وتوفيت زائدة عند مولد ولدها سانشو، ودفنت بدير ساهاجون وذلك في سنة 1097، أو 1098 م. ولما اجتاح المرابطون أراضي قشتالة، في أوائل عهد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، وسار القشتاليون لمحاربتهم تحت أسوار قلعة إقليش، بعث ألفونسو بولده الصبي سانشو على رأس الجيش لكي يثير حماسة الجند، فقتل في الموقعة التي نشبت بين الفريقين، وقتل معه معظم أكابر الجيش وقادته، وذلك في سنة 501 هـ (1108 م). وتوفي ألفونسو على أثر ذلك غماً وحزناً (1).
ولم تذكر لنا الرواية الإسلامية اسم زائدة، ولا شيئاً من قصتها بطريق مباشر، ولكنها مع ذلك تقدم إلينا الدليل القاطع على حقيقة شخصيتها وصفتها، ولدينا في ذلك نصان كلاهما حاسم في تقرير هذه الحقيقة.
أولهما ما ورد في تاريخ ابن عذارى " البيان المغرب " في أخبار سنة 501 هـ
_______
(1) راجع R.M.Pidal: ibid ; p. 495, 496 & 760-764(2/347)
وهي الموافقة لسنة (1108 م) عن الحملة التي أرسلها ألفونسو السادس ضد المرابطين لإنجاد قلعة إقليش، وقد جاء فيه: " وفي خلال ذلك وصل إليه (إلى حصن إقليش) ولد أذفونش شانجه من زوج المأمون بن (عباد) التي كانت تنصرت بنحو سبعة ألاف فارس " (1).
والثاني نص أورده الونشريسي في كتابه: " المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب " وقد جاء فيه عن موضوع الخوف على الأبضاع والفروج ما يلي: " ومنها الخوف من الفتنة على الأبضاع والفروج، ومتى يأمن ذو زوجة أو ابنة أو قريبة وضيئة أن يعثر عليها وضىء من كلاب الأعداء وخنازير البعداء، فيغرها في نفسها ويغرها في دينها، ويستولي عليها وتطاوعه، ويحال بينها وبين وليها بالارتداد في الدين، كما عرض لِكُنّة المعتمد بن عباد ومن لها من الأولاد، أعاذنا الله من البلاء وشماتة الأعداء " (2).
تلك هي الحقيقة حول أسطورة زائدة " ابنة " المعتمد بن عباد، وتقديم أبيها المعتمد إياها زوجة لألفونسو السادس، اكتساباً لمحالفته وعونه ضد المرابطين، وهي أسطورة لبثت عصوراً تمثل في الروايات الإسبانية الكنسية وغيرها كأنها حقيقة لا ريب فيها. وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة. والظاهر أن المؤرخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها، باعتبارها حادثاً لا أهمية له من الناحية التاريخية.
_______
(1) وقع على هذا النص العلامة المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال في أوراق مخطوطة من البيان المغرب لم تنشر، عثر بها في مكتبة جامع القرويين بفاس، ونشر عنه مقالا عنوانه Zaida la Mora في مجلة Hispéris XVIII (1934) فكان ضوءاً جديداً قيماً على هذه الأسطورة.
(2) وردت هذه الفقرة ضمن فتاوي الونشريسي في كتابه السالف الذكر طبع فاس سنة 1314 هـ. ويوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الإسكوريال رقم 1146 الغزيري. وقد نشرت أيضاً بصحيفة معهد الدراسات الإسلامية المصري بمدريد (المجلد الخامس ص 189).(2/348)
الفصل الرّابع
الفتح المرابطي القسم الثاني
استيلاء المرابطين على أبدة وبياسة وقلعة رباح. استيلاؤهم على قرمونة. زحف سير بن أبى بكر على إشبيلية. يدعو المعتمد إلى الطاعة. محاصرته لإشبيلية. تأهب المعتمد للدفاع. استغاثته بملك قشتالة. مسير الجند القشتاليين لإنجاده. القتال بين المرابطين والقشتاليين. هزيمة النصارى وارتدادهم. استماتة المعتمد في الدفاع. خصوم المعتمد في الداخل وتفاهمهم مع المرابطين. نجاح المرابطين في ثلم السور. محاولتهم الدخول وردهم. حرق أسطول إشبيلية النهري. هجوم المرابطين على المدينة واقتحامها. المعارك داخل المدينة. بسالة المعتمد في الدفاع. استيلاء المرابطين على المدينة. أسر المعتمد ونهب قصوره. إرغامه على الكتابة إلى ولديه بتسليم رندة وميرتلة. تسليم رندة ومقتل حاكمها الراضي ولد المعتمد. رواية في تسليم إشبيلية بالأمان. ما ينقض هذه الرواية. أقوال ابن اللبانة والفتح بن خاقان. شعر المعتمد في ذلك. حياة المعتمد بعد سقوطه. محنة اعتقاله. مسيره إلى المنفي. نزوله بطنجة. مسيره إلى أغمات. حياته المؤلمة في المعتقل. قسوة أمير المسلمين في معاملته. وفاة اعتماد زوجة المعتمد. قول في صفاتها. شعر المعتمد في محنته. محنته تذكي الشعر بالأندلس. تصفيده بالأغلال. وفاته ودفنه بأغمات. ذكراه في المغرب والأندلس. قبره يغدو مزاراً. زيارة ابن الخطيب لقبره وشعره في ذلك. وصف لأطلال قبره. محنة المعتمد وصداها في الرواية الإسلامية. حملة ابن الأثير على أمير المسلمين. تعليقات دوزي. قسوة أمير المسلمين وما ينتحل لها من الأعذار. المعتمد وما له وما عليه. البواعث التي دفعت يوسف إلى فتح الأندلس. تأملات حول معاملته للأمراء المنزوعين. مسير المرابطين إلى ألمرية. الروايات المختلفة في شأن سقوطها. استيلاء المرابطين على بلنسية. استيلاؤهم على شنتمرية الشرق. استيلاؤهم على سرقسطة. حركاتهم في غرب الأندلس. إغاراتهم على أراضي بطليوس. ابن الأفطس واستغاثته بألفونسو السادس. مسير المرابطين إلى بطليوس وافتتاحها. مصرع المتوكل ابن الأفطس وولديه. انتهاء مملكة بطليوس. مرثية ابن عبدون لبني الأفطس. استيلاء المرابطين على أشبونة. جواز أمير المسلمين الرابع إلى الأندلس. غزو المرابطين لقشتالة وهزيمتهم للنصارى. يوسف يعقد ولاية العهد لولده علي في قرطبة. مرض يوسف ووفاته. وصيته لولده علي.
على أثر سقوط قرطبة، استولى المرابطون على أبدة وبياسة وشقورة، في شرقي قرطبة، وعلى حصن البلاط والمدور في غربها. وبعث فاتح قرطبة القائد بطى بن اسماعيل إلى قلعة رباح، وهي قاصية أراضي المسلمين، حملة من ألف فارس، فاحتلتها. وهكذا سيطر المرابطون على سائر أراضي الوادي الكبير،(2/349)
وعلى سائر قواعد مملكة إشبيلية، ما عدا رندة وقرمونة وإشبيلية. وفي أوائل شهر ربيع الأول سنة 484 هـ، نجد قائد المرابطين العام، سير بن أبى بكر أمام أبواب قرمونة. وكانت قرمونة أمنع قواعد مملكة إشبيلية الشمالية، وهي حصن إشبيلية من الشرق، فنازلها سير، ودخلها عنوة في السابع عشر من ربيع الأول (10 مايو سنة 1091 م). وأخذ يستعد لمنازلة إشبيلية.
ويقول لنا ابن أبي زرع في هذا الموطن، إن سير بن أبى بكر، حينما أشرف على إشبيلية، وقبل الزحف على قرطبة، كان يعتقد أن المعتمد، سوف يخرج إليه، ويتلقاه كعادته بالمعاونة والضيافات، ولكنه تحصن بالمدينة ولم يعن بشأنه، فكتب إليه سير يطلب إليه تسليم البلاد، والدخول في الطاعة، فرد المعتمد بالرفض، فضرب سير الحصار حول المدينة، وأخذ في منازلتها ومقاتلة ابن عباد، ويقدم إلينا ابن خلكان رواية مماثلة، إذ يقول إن يوسف أمر سيراً أن يعرض على ابن عباد أن يتحول إلى بر العدوة بأهله وماله، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فينازله، فلما عرض سير ذلك، لم يعطه ابن عباد جواباً، فنازله، وحاصره أشهراً (1).
حاصر المرابطون إشبيلية بقوات ضخمة، ولم يشك المعتمد منذ البداية أنه سوف يخوض مع المرابطين معركة الحياة والموت، فتأهب للدفاع عن ملكه وحاضرته بكل ما وسع، واستغاث بحليفه ألفونسو السادس ملك قشتالة. وكان ألفونسو قد اهتز لاجتياح المرابطين لمملكة إشبيلية على هذا النحو الصاعق، وأدرك من جانبه أن المسألة لم تعد تتعلق فقط بمملكة إشبيلية، ولا ملوك الطوائف وحدهم، وإنما أضحت مشكلة شبه الجزيرة الإسبانية كلها، ومسألة خطر اجتياح المرابطين لها واحتلالهم إياها. وكانت تجمعه في ذلك مع ابن عباد قضية واحدة، هي قضية دفع خطر المرابطين عن الوطن المشترك، ومن ثم فقد بادر من فوره بإرساله حملة قوية بقيادة ألبار هانيس أكبر قواده وأبرعهم، لإنجاد ابن عباد.
وتقول الرواية الإسلامية إن هذه الحملة كانت تتألف من عشرين ألف فارس وأربعين ألف راجل (2)، وتقول الرواية النصرانية إنها كانت تتألف فقط من
_______
(1) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 487.
(2) روض القرطاس ص 100.(2/350)
ألفي وخمسمائة فارس. وبعث سير بن أبى بكر لقتال القشتاليين حملة من عشرة آلاف فارس، بقيادة ابراهيم بن إسحاق اللمتوني، وهي حملة تقدرها الرواية النصرانية بخمسة عشر ألفاً. والتقى القشتاليون والمرابطون على مقربة من حصن المدور، وفي رواية أخرى أن اللقاء كان في بلمة من أحواز إشبيلية (1)، ونشبت بينهما معركة عنيفة، قتلت فيها جموع كبيرة من الفريقين، وانتهت بنصر المرابطين وارتداد القشتاليين، وقد أثخن قائدهم ألبار هانيس جراحاً (2)، وانهار بذلك آخر أمل كان يعلقه ابن عباد على معاونة حلفائه القشتاليين.
واستمر حصار المرابطين لإشبيلية زهاء أربعة أشهر، ودافع المعتمد وجنده عن حاضرتهم أشد دفاع، وصمدت المدينة لهجمات المرابطين ومحاولاتهم، حتى أنه ينسب لقائدهم سير بن أبى بكر أنه قال " لو أني أقصد مدينة الشرك لم تمتنع هذا الامتناع " (3).
وفي خلال ذلك حاول جماعة من أهل المدينة من خصوم بني عباد، أن يضرموا الثورة داخل المدينة، حتى يضطرب أمر الدفاع، ويمهد السبيل لدخول المرابطين، ووقف المعتمد على أمرهم، ولكنه أبى أن يقوم بإعدامهم وفقاً لنصح قادته، واكتفى بمراقبتهم والتحوط لسعيهم. وأخيراً استطاع المرابطون بمداخلة بعض أولئك الخونة، أن يحدثوا ثلمة في السور، عند باب الفرج على مقربة من النهر (يوم 5 رجب). ووقف المعتمد على الخبر فبادر لتوه في ثلة من فرسانه، لرد الداخلين من جند العدو، وهو دون درع أو عدة، وليس عليه سوى قميص يشف عن بدنه، وتلقى المعتمد خلال المعركة التي نشبت طعنة تحت إبطه من فارس مرابطي، فوثب المعتمد يطاعنه فشقه بسيفه، ومزقت تلك الثلة من المرابطين، وأصلحت الثلمة على الأثر. بيد أنه حدث في عصر ذلك اليوم ذاته، أن تمكن بعض المرابطين من الوصول إلى أسطول إشبيلية الراسي في الوادي الكبير، وأضرموا النار فيه، فهلكت معظم سفنه، وأدرك الناس عندئذ أن خطط الدفاع عن المدينة، أخذت في الانهيار، وسرى بينهم الرعب، وبادر كثيرون إلى الفرار، بعضهم عن طريق النهر، والبعض الآخر بالترامي
_______
(1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 163.
(2) راجع روض القرطاس ص 100 و 101. وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 407 & 408
(3) كتاب التبيان ص 170.(2/351)
من شرفات الأسوار، أو الالتجاء إلى القنوات والمغائر، وسيطرت الفوضى على المدينة، وبدت طوالع النهاية منذرة مروعة.
وفي خلال ذلك كان سير بن أبي بكر، يحشد قواته وينظم الضربة الأخيرة.
ووقعت الضربة الحاسمة في يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب سنة 484 هـ (7 سبتمبر سنة 1091 م) (1)، حيث هاجم المرابطون إشبيلية بشدة. واقتحموها من ناحية الوادي الكبير، وانقضوا عليها كالسيل الجارف، يمعنون فيها سفكاً وتخريباً. ونشبت بينهم وبين المدافعين عن المدينة معارك محلية عنيفة، وهجمت فرقة من المرابطين على القصر الملكي، فاستقبلهم المعتمد على باب قصره في ثلة من فرسانه وخاصته، يدافع عن نفسه وملكه حتى اللحظة الأخيرة، أشد دفاع وأروعه، ولكن هذه البسالة النادرة لم تغن شيئاً، وانتهى المرابطون بالاستيلاء على المدينة، وعلى القصور الملكية، وأسروا المعتمد وآله، وقتلوا ابنه مالكاً الملقب بفخر الدولة بين يديه، ونهبوا قصوره - على قول المؤرخ " نهباً قبيحاً " - واحتووا على سائر ذخائره وأمواله، وساد القتل والعيث والنهب في المدينة الغنية التالدة. وكانت محنة مروعة.
وأصدر سير بن أبى بكر أماناً للمعتمد " في النفس والأهل والولد " (2)
ولكنه أرغمه على مخاطبة ولديه يزيد الراضي وأبى بكر المعتد، ينصحهما بالخضوع والتسليم، وكان الأول حسبما تقدم ممتنعاً برندة، والثاني ممتنعاً بميرتلة (أو مارتلة) في جنوبي البرتغال. وكانت رندة بالأخص ما تزال صعبة المنال، نظراً لحصانتها الفائقة، وقد يطول صمودها. وانضمت " السيدة الكبرى " أعني اعتماد الرميكية أم الأميرين إلى زوجها المعتمد، في حثهما على التسليم واستعطافهما رحمة بوالديهما. فأذعن الأميران للرجاء. فأما يزيد الراضي المدافع عن رندة، فقد قبل التسليم بعد أن قطع له جرور القائد المرابطي عهده
_______
(1) راجع كتاب التبيان ص 170، وهي رواية معاصرة حيث يضع هذا التاريخ لسقوط إشبيلية. ويوافقه في ذلك ابن أبي زرع (روض القرطاس ص 101). ولكن عبد الواحد المراكشي يضع لذلك يوم الأحد 21 رجب 484 هـ (المعجب ص 76). ويقول ابن الخطيب إن سقوط إشبيلية كان في يوم الأحد 20 رجب سنة 484 هـ (أعمال الأعلام ص 164). ومن المحقق أن الرواية الأولى هي الراجحة؛ وتوافقها التواريخ النصرانية، وهي تضع لذلك يوم 7 سبتمبر الموافق للتاريخ الهجري.
(2) روض القرطاس ص 101.(2/352)
بالأمان، بيد أنه ما كادت تفتح أبواب المدينة، ويدخلها المرابطون، حتى أمر جرور بالقبض على الراضي وإعدامه، وانتهاب أمواله، ناكثاً بذلك بعهده أشنع نكث، وأمر بقتل كل من ظفر به من الأحرار والجند المدافعين (رمضان سنة 484 هـ). وأما ميرتلة، فقد أبقى المرابطون على حياة المعتد، وقنعوا بنهب أمواله (1). وتم للمرابطين بذلك الاستيلاء على سائر قواعد مملكة إشبيلية.
وكان يزيد الراضي، ويكنى أبا خالد، أنبه أبناء المعتمد في ميدان الشعر والأدب، وكان شاعر بني عباد بعد أبيه، وقرينه في نظم القريض الفائق. وكان فوق ذلك عالماً أديباً، حافظاً للشريعة، خبيراً بأنساب العرب ولغاتها. ومن شعره قوله:
يحل زمان المرء ما هو عاقد ... ويسهر في إهلاكه وهو راقد
ويغرَى بأهل الفضل حتى كأنهم ... جناةُ ذنوبٍ وهو للكل حاقد
سينهدُّ مبنيٌ ويقفر عامرٌ ... ويصفر مملوء، ويخمد واقد
ويفترق الألاّف من بعد صحبة ... وكم شهدت مما ذكرت الفراقد (2)
* * *
وهكذا سقطت مملكة بني عباد في أشهر قلائل، وخبا نجمها الذي سطع حيناً في سماء الأندلس وضاء عالياً، ولكنها سقطت أبية كريمة، في مناظر من الفروسية الرائعة تخلق بالألى شادوها. ولم تسقط قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد عميدها الباسل. وقد يبدو من رواية " روض القرطاس " أن المعتمد سلم عاصمته للمرابطين بالأمان مختاراً (3). والحقيقة التي تجمع عليها سائر الروايات، هي أن المرابطين اقتحموا إشبيلية، كما تقدم، وأخذوها عنوة في مناظر رائعة من السفك والتخريب، وأن المعتمد بن عباد لم يدخر وسيلة في الدفاع عن نفسه وعاصمته، وأنه ظل يدافع حتى اللحظة الأخيرة، وحتى
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 77، وكتاب التبيان ص 171. ونحن نذكر أن اثنين من أبناء المعتمد هما عباد بن محمد والفتح الملقب بالمأمون قد قتلا بالتعاقب في حوادث قرطبة، وكان هؤلاء جميعاً ابناؤه من حظيته اعتماد الرميكية. وكان له منها أبناء آخرون، منهم أبو الحسين الملقب بالرشيد الذي عبر معه إلى العدوة (راجع الحلة السيراء ج 2 ص 62).
(2) الحلة السيراء ج 2 ص 71 و 74.
(3) روض القرطاس ص 101.(2/353)
اقتحم الأعداء قصره وأسروه. وقد انتهت إلينا في ذلك رواية شاهد عيان، هو أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة، فهو يصف لنا في كتابه " نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العبادية "، مناظر سقوط إشبيلية حسبما شهدها بنفسه في قوله: " إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب، فعظم الخطب في الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيها على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى " (1).
ويصف لنا الفتح بن خاقان مؤرخ الطوائف، ومعاصرهم تقريباً، منظر الصراع الأخير بين المعتمد ومهاجميه في عبارته المسجعة فيما يلي: " ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد، خرج (أي المعتمد) والموت يتسعر في ألحاظه، ويتصور من ألفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم في رحبة القصر وقد ضاق به فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقاً، وملأتهم فرقاً، وما زال يوالي عليهم الكر المعاد، حتى أوردهم النهر، وما بهم من جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك يومه وليلته، مانعاً لخوذته، دافعاً للذل عن عزته ... " (2).
وأخيراً يقول لنا ابن الخطيب: " وكان دخول إشبيلية على المعتمد دخول القهر والغلبة يوم الأحد لعشر بقين من رجب. وشملت الغارة، واقتحمت الدور، وخرج ابن عباد وابنه مالك للدفاع، فقتل مالك الملقب بفخر الدولة، وأرهقت ابن عباد الخيل، فدخل القصر ملقياً بيده " (3).
_______
(1) نقله نفح الطيب ج 2 ص 453.
(2) قلائد العقيان ص 22 في ترجمة المعتمد بن عباد. وقد كتب الفتح كتابه بعد سقوط إشبيلية بنحو ثلاثين عاماً.
(3) ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1319 هـ) ج 2 ص 82.(2/354)
وهذا ما يؤيده شعر المعتمد نفسه في وصف صراعه مع أعدائه في ذلك اليوم المشهود:
إن يسلب القوم العدا ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تُسلم القلب الضلوع
قد رُمْت يوم نزالهم ... ألاّ تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القميص ... عن الحشا شىء دفوع
وبذلت نفسي كي تسـ ... ـيل إذا يسيل بها النجيع
أجلي تأخر لم يكن ... بهواي ذلي والخضوع
ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع
شيم الألي أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
ثم يقول لنا الفتح، إن المعتمد لما التجأ إلى قصره، بعد سقوط حاضرته، وتفرق جيشه، وفقد كل أمل في النجاة، فكر في أن يقضي على نفسه بيده، ولكن منعه من ذلك إيمانه المتين، فاستسلم إلى هوان الأسر، وقبض عليه المرابطون وعلى سائر آله وولده ونسائه (1).
- 2 -
ويجدر بنا قبل أن نتم الكلام على فتوح المرابطين لممالك الطوائف، أن نتتبع مصير المعتمد بن عباد حتى نهايته.
إن هذه المرحلة الأخيرة من حياة المعتمد، وهي مرحلة مؤسية تنفطر لها القلوب الكريمة، تنتمي إلى الأدب أكثر من انتمائها إلى التاريخ، بما تحفل به من الآثار الشعرية الرائعة، التي نظمها المعتمد عن محنته وآلامه في المنفى. وقد شغلت هذه المرحلة على قصرها، من صحف التاريخ والأدب، فراغاً كبيراً لم تشغل مثله حياة المعتمد الملوكية كلها.
_______
(1) راجع في سقوط إشبيلية: روض القرطاس ص 100 و 101، وقلائد العقيان ص 21 و22، وكتاب التبيان ص 170 و 171، والمعجب ص 76 و 77، وابن خلدون ج 6 ص 186 وأعمال الأعلام ص 163 و 164، والمقري ج 2 ص 453، وابن خلكان ج 2 ص 40 و 41، وابن الأثير ج 10 ص 65. وراجع أيضاً: R.M.Pidal: ibid ; p. 407 & 408، وكذلك Dozy: Hist.V.III.p. 144(2/355)
وإنه لما يثير الدهشة حقاً ما انتهى إليه أمير المسلمين من التحول من تقدير المعتمد بن عباد، وإكباره والثناء البالغ على شجاعته ونجدته ومروءته، في كتبه الرسمية بالفتح، إلى المبالغة في خصومته، والعمل على سحقه، ومعاملته بأقصى ما يعامل به عدو. ويقال في ذلك، إنه فضلا عن البواعث السياسية والعسكرية، فقد لعبت السعاية والوشاية في علائق الرجلين دوراً لا يحمد، وأثارت في قلب يوسف أمرّ ضروب السخط والبغض ضد المعتمد.
لم يكن سقوط إشبيلية، وسقوط المعتمد وآله أسرى في أيدي الظافرين خاتمة المحنة، بل كان بداية محنة أفظع وأبلغ إيلاماً للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل والمنفى المروع. وكان أمير المسلمين قد قرر مصير بني عباد، كما قرر مصير عبد الله وأخيه تميم صاحبي غرناطة ومالقة، وقد قتل المرابطون من أبناء المعتمد أربعة، هم الفتح المأمون، ويزيد الراضي، والمعتد بالله، ومالك، ولكنهم أبقوا على حياة المعتمد، وذلك فيما يبدو بإشارة أمير المسلمين ذاته، وربما كانت لدى الظافر في الإبقاء على حياته بواعث غير الرأفة به، فما كان المعتمد بن عباد من أولئك الذين يتهيبون الموت أو يخشونه، بل لقد كان يطلبه ويسعى إليه، حسبما رأينا. وربما أراد عاهل المرابطين بذلك، أن يتجرع المعتمد كأس الذلة إلى نهايتها، وأن يمرغ في التراب، ذلك الذي كان يعتبره قطب الفتنة في الأندلس، وحليف النصارى الخانع، المذنب في حق دينه ووطنه. وأن يذيقه من العذاب المعنوي أروع ألوانه.
وهكذا انتزع المعتمد بن عباد وآله من قصر إشبيلية المنيف، وأخذوا جميعاً إلى السفن التي أعدت لنقلهم إلى المنفى، وسارت السفن من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى العُدوة، في مناظر تذيب القلب حزناً وأسى، وضجت جموع الشعب الغفيرة التي احتشدت على ضفتي النهر لوداع المعتمد بالبكاء والنواح حينما شهدت سيدها وراعيها بالأمس تحيق به وجميع آله، أغلال الاعتقال والذلة، ويغادر موطن سلطانه وعزه إلى مصيره المجهول. وفي ذلك يقول شاعر المعتمد أبو بكر بن اللبانة، وقد كان من شهود ذلك اليوم من قصيدة طويلة:
نسيت إلاّ غداة النهر كونهم ... في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد(2/356)
حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فادى
سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من قطعات أكباد (1)
وأنزل المعتمد وآله بطنجة، واعتقلوا فيها أياماً. وهنالك زاره الحصري الضرير الشاعر، وألحف في طلب الصلة، ورفع إليه أبياتاً مدحه فيها ولم يراع في ذلك حرج الموقف. وأبت على المعتمد أريحيته الملوكية أن يرده، فبعث إليه بستة وثلاثين مثقالا، وشعراً يعتذر فيه عن ضآلة الهبة، فكانت آخر صلاته الملوكية. ثم أخذوا بعد ذلك إلى مكناسة حيث التقوا بعبد الله بن بلقين وأخيه تميم، وكانا ينتظران أمر السفر إلى مقرهما الأخير (2)، وهنالك قضيا بضعة أشهر، قبل أن يرسلوا إلى مقرهم النهائي.
وأخيراً صدر الأمر بتسييرهم جميعاً إلى أغمات، وهي مدينة صغيرة حصينة تقع على قيد نحو أربعين كيلومتراً من جنوب شرقي مراكش، على مقربة من جبال الأطلس، التي تظلل آكامها الثلوج. وقد كانت حسبما نذكر عاصمة المرابطيين الأولى. وحل المعتمد وآله في أغمات في أواخر منة 484 هـ أو أوائل سنة 485 هـ. وبينما أنزل عبد الله بن بلقين وأسرته داراً حسنة وعوملوا برفق ورعاية، إذ زج المعتمد وآله إلى قلعة أغمات المنيعة. وهنالك قضى المعتمد بضعة أعوام في أغلال الأسر، يتجرع غصص المهانة والذلة، ويلقى عذاب الشهيد المُعَنى. ولم يكن مقام المعتمد بأغمات معتقلا عادياً، بل كان سجناً شنيعاً بكل معاني الكلمة، ضيق فيه على المعتمد وآله أشد التضييق، ولم يكن يطلق لهم ما يكفيهم من النفقة، فكان المعتمد، وزوجه اعتماد الرميكية التي كانت تسطع في الأندلس بجمالها وخلالها البارعة، وأبناؤه الأمراء وبناته الأقمار، يرتدون الثياب الخشنة (3). وكان بنات المعتمد يشتغلن بالغزل ليعلن والدهن وأسرتهن.
_______
(1) راجع هذه القصيدة في قلائد العقيان ص 23، ونفح الطيب ج 2 ص 452 و 453، والمعجب ص 79 و 80.
(2) كتاب التبيان ص 171.
(3) كان للمعتمد بن عباد عدد كبير من الولد بنين وبنات. ومن أولاده الذين تذكرهم الرواية: الرشيد والمأمون والراضي والمعتد وعبد الله ومالك وأبو هاشم وعبد الجبار وغيرهم ممن لم تصلنا أسماؤهم. أما بناته فلم تذكر لنا الرواية شيئاً عن عددهن وأسمائهن سوى بثينة، فقد ذكرها لنا المقري بين شاعرات الأندلس (نفح الطيب ج 2 ص 489).(2/357)
وهنالك في شعر المعتمد ما يدل على أنه كان مصفداً في قدميه بالأغلال، على الأقل في أواخر أيام أسره. ولم تكن هذه المعاملة الشنيعة لأعظم ملوك الطوائف عفواً، بل كانت مقصودة، بلا ريب، وكانت قسوة لا مبرر لها من الظافر، ولم تكن تتفق في شىء مع ما أثر عن يوسف بن تاشفين، من الفروسية والخلال الحسنة. وسنرى فيما بعد كيف يفسر هذا الموقف من جانب أمير المسلمين وكيف تلتمس له الأعذار.
واشتدت وطأة الأسر على اعتماد زوجة المعتمد، ولم تقو طويلا على مغالبة المحنة، فذوت نضارتها بسرعة ثم توفيت، فدفنت في ظاهر أغمات على مقربة من معتقل زوجها وأولادها، فحزن المعتمد لوفاتها أيما حزن، واشتد به الضنى والأسى.
وقد سبق أن أشرنا إلى ما كانت تتمتع به اعتماد الرميكية أيام مجدها وعزها في بلاط إشبيلية من منزلة عالية، وأشرنا إلى صفاتها اللامعة من الجمال والسحر والشاعرية، والمشاطرة في مجالس الشعر والأدب. على أن هذه الصفات الممتازة التي كانت تتمتع بها الرميكية، وهذه الحياة السافرة اللامعة في أعظم بلاط لملوك الطوائف، كانت من جهة أخرى مدعاة للطعن في تصرفها وأخلاقها.
فمثلا ينقل إلينا التيجاني الأندلسي عن الحجاري في حق الرميكية ما يأتي: " وهي التي ورطت المعتمد فيما ورطته من الخلاعة والاستهتار والمجاهرة، حتى كتب أهل إشبيلية عليه بذلك، وبتعطيل صلوات الجمع، عقوداً، ورفعوها إلى أمير المسلمين، فكان من أمره معه ما كان، وسجن المعتمد بأغمات، وسجنت الرميكية معه، فماتت هنالك قبله " (1).
_______
(1) نقلنا هذه الفقرة عن المخطرط رقم 562 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال والمسمى " تحفة العروس " لأبى عبد الله التيجاني الأندلسي المالكي (لوحة 200). ويقدم إلينا التيجاني بهذه المناسبة ملخصاً لقصة بثينة ابنة المعتمد والرميكية، فيقول لنا إن بثينة هذه كانت مثل أمها في الجمال والذكاء ونظم الشعر. ولما سقطت إشبيلية، ونهبت قصور المعتمد، كانت ابنته ضمن السبايا، ولم يعثر لها على خبر، إلى أن كتبت إليهما بأغمات شعراً تقص فيه ما حدث لها، وهو أنها وقعت في يد تاجر اشتراها على أنها سرية، فامتنعت عليه، وعرفته بحقيقة أمرها، وطلبت إليه أن يتزوجها زواجاً شرعياً، وكتبت إلى والديها بأغمات الشعر المشهور المتداول، ترجو فيه منهما الموافقة على زواجها منه. فسر المعتمد والرميكية بوجودها على قيد الحياة، وكتبا إليها، بالموافقة على رغبتها. (المخطوط السالف الذكر لوحة 201). وراجع نفح الطيب ج 2 ص 489 و 490.(2/358)
وأذكت المحنة شاعرية المعتمد، وكان القريض عندئذ عزاءه وغذاءه الروحي، فصدرت عنه في معتقله طائفة كبيرة من القصائد المؤسية، وكلها تلهف على سابق مجده، وبكاء على ماضيه، ورثاء لمحنته، فمن ذلك قوله:
أنباء أسرك قد طبقن آفاقا ... بل قد عممن جهات الأرض إطلاقا
سارت من الغرب لا تطوى لها قدم ... حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا
فأحرق الفجع أكباداً وأفئدة ... وأغرق الدمع آماقاً وأحداقا
قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها ... وقيل إن عليك القيد قد ضاقا
وقوله:
غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا ... وينهل دمع بينهن غزير
مضى زمن والملك مستأنس به ... وأصبح منه اليوم وهو نفور
برأي من الدهر المضلل فاسد ... متى صلحت للمصلحين دهور
أذل بني ماء السماء زمانهم ... وذل بني ماء السماء كبير
فياليت شعري هل أبيتن ليلة ... أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنيته الزيتون مورثة العلا ... يغني حمام أو تدن طيور
بزاهرها (1) السامي الذري جاده الحيـ ... ـا تشير الثريا نحونا ونشير
ويلحظنا الزاهي (1) وسعد سعوده ... غفورين والصب المحب غيور
تراه عسيراً أو يسيراً مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير
وقوله في أول عيد له بأغمات، وقد أبكاه منظر أولاده وبناته:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءته ... فكان فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك أن تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
_______
(1) الزاهر والزاهي من قصور بني عباد بإشبيلية.(2/359)
وقوله وقد رأى سرباً من القطا يمر بمعتقله:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن به ... سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم تك والله المعيد حسادة ... ولكن حنيناً إن شكلي لها شكل
فأسرع فلا شمل صديع ولا الحشى ... وجيع ولا عينان يبكيهما ثكل
وقوله في لوم أمير المسلمين على ظلمه:
أبى الدهر أن يقني الحياء ويندما ... وأن يمحو الذنب الذي كان قدّما
وأن يتلقى وجه عتبى وجهه ... بعذر يغشى صفحتيه التذمما
ستعلم بعدي من تكون سيوفه ... إلى كل صعب من مراقيك سلما
سترجع إن حاولت دوني فتكة ... بأخجل من خد المبارز أحجما
وأذكت مأساة بني عباد في الوقت نفسه دولة الشعر في الأندلس، ونظم أكابر شعراء العصر في رثاء دولتهم، والتوجع على أيامهم، طائفة من القصائد المؤثرة، التي ما زالت تحتفظ حتى اليوم بكل روعتها وحياتها. وكان أغزرهم في ذلك مادة، أبو بكر بن اللبانة، شاعر المعتمد المتقدم ذكره، فقد بقي على صلاته ووفائه للمعتمد، وزاره في سجنه بأغمات، ونظم في دولته وأيامه، وفي محنته وأسره، عدة من قصائده الرنانة، يضمها كتاب وضعه في تاريخ بني عباد، وأسماه: " كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك " (1).
واستطال أسر المعتمد وسجنه حتى سنة 488 هـ، بيد أنه استطاع في غمر المحنة والبؤس الطاحن، أن يحتفظ بكثير من جلاله السابق، فكان هذا الجلال يشع في ظلمات سجنه، كما يشع ضوء الشمس إذا أحدق به الغمام (2). وفي أواخر أيامه صدرت أوامر أمير المسلمين بالتضييق عليه وتصفيده بالأغلال، بسبب ثورة محلية قام بها ولده عبد الجبار في بعض حصون إشبيلية، وكان ممن أفلت عند سقوطها وذلك حسبما نذكر بعد. وفي اليوم الحادي عشر من شوال سنة 488 هـ (أواخر أكتوبر 1095 م)، توفي المعتمد في سجنه بقلعة أغمات بعد
_______
(1) يراجع بعض هذه القصائد في قلائد العقيان ص 29 و 30، وابن خلكان ج 2 ص 41 وما بعدها، وفي نفح الطيب ج 2 ص 457 و 458. وكذلك في الحلة السيراء ج 2 ص 59 - 67.
هذا وقد كتب ابن قاسم الشلبي مجموعاً في أخبار المعتمد ابن عباد أشار إليه ابن الأبار (الحلة ج 2 ص 136).
(2) تاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ (الطبعة الثانية) ص 97.(2/360)
اعتقال دام زهاء أربعة أعوام (1)، وكان سنه عند وفاته سبعاً وخمسين سنة وبضعة أشهر. ودفن بظاهر أغمات إلى جانب زوجه اعتماد الرميكية. ومما قاله في رثاء نفسه قبل وفاته، وأوصى بأن يكتب على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت ... بالخصيب إن أجدبوا بالري للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا ... بالموت أحمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم ... بالبدر في ظلم بالصدر في النادي
نعم هو الحق حاباني به قدر ... من السماء فوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ..
. إن الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم ... رواك كل قطوب البرق رعاد
ويقدم إلينا صاحب البيان المغرب بعض تفاصيل عن ثورة عبد الجبار بن المعتمد وهي الثورة التي اتخذت ذريعة للتنكيل بأبيه وتصفيده في سجنه بأغمات، وذلك أن عبد الجبار امتنع بحصن أركش، الواقعة جنوبي إشبيلية وشرقي شريش، في جمع كبير من أصحابه. وبعث إلى ألفونسو السادس يطلب عونه، وعلم الأمير سير اللمتوني فاتح إشبيلية بذلك، فسار إلى أركش، وبعث إلى أمير المسلمين يخطره بالأمر، فبعث إليه مدداً من الخيل والرجالة، فضخمت الحملة، وأحدقت بالحصن وضيقت على من فيه، واتصلت الحرب بين الفريقين، وابن عباد يخرج في قواته من آن لآخر ويشتبك بالمرابطين في معارك دامية، وأصحابه يتساقطون من حوله تباعاً. وفي ذات يوم أصاب ابن عباد سهم رماه به أحد الرماة المرابطين، فاحتمله أصحابه جريحاً، وتوفي لأيام قلائل، فكتم أصحابه موته. وكان قد مضى على هذه المعارك نحو ستة أشهر، وفنى كثير من حامية الحصن، واشتد بها الضيق، وعندئذ حاول القادة الأندلسيون الحصول على الأمان، فرفض الأمير سير، واقتحم الحصن أخيراً، وقتل معظم حاميته، واستخرج جثة عبد الجبار من قبرها، واحتز رأسه ورؤوس أصحابه، وحملت
_______
(1) ويقول لنا صاحب البيان المغرب إن وفاة المعتمد كانت في شهر ذي الحجة سنة 488 هـ (الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها). ويقول ابن الأبار إنها كانت في ربيع الأول سنة 488 هـ (الحلة السيراء ج 2 ص 55).(2/361)
إلى مدينة إشبيلية، وعلقت على أسوارها، ووقعت حوادث هذه الحملة في سنة 490 هـ (1097 م) (1).
وهكذا اختتم المعتمد بن عباد حياته الباهرة، في غمر المحنة وظلمات العدم، وتفرق من بعده ولده وآله في مختلف الأنحاء. ولكن ذكراه لبثت طويلا حية في المغرب والأندلس، ولبثت محنته وخاتمته مضرب الأمثال في تقلب الجدود وعبر الدهر. وبعد وفاته بقليل وفد على أغمات أبو بحر بن عبد الصمد، وقد كان من شعراء دولته وخاصة المتصلين به، وذهب يوم العيد إلى قبره فخر أمامه، وغمره بقبلاته وبلله بدموعه، وأنشد بين الجماهير التي احتشدت من حوله، مرثيته الغراء في المعتمد، ومطلعها هذه الأبيات:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد
لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... واتخذت قبرك موضع الإنشاد
قد كنت أحسب أن تبرد أدمعي ... نيران حزن أضرمت بفؤادي
فإذا بدمعي كلما أجريته ... زادت على حرارة الأكباد
فبكى الناس لسماعه أحر بكاء، وهم يطوفون بالقبر طواف الحجيج، وكان منظراً يفتت الأكباد (2).
* * *
وقد أسبغت هذه البقعة التي يرقد فيها ملك إشبيلية، وأمير الشعر في عصره، رقدته الأبدية، شهرة مؤثرة على مدينة أغمات. ولما ذهبت دولة المرابطين بعد ذلك بنحو خمسين عاماً، غدا قبر المعتمد بن عباد وزوجه الرميكية في أغمات مزاراً يحج إليه الوافدون من أنحاء المغرب والأندلس، واستمر كذلك عصوراً. وفي سنة 761 هـ (1360 م) زاره الكاتب والشاعر الكبير الوزير لسان الدين ابن الخطيب عند زيارته لمدينة أغمات. وهو يصفه لنا في كتابه " نفاضة الجراب " في قوله: " وزرت بخارجها قبر المعتمد علي الله أبى القاسم محمد بن عباد أمير حمص
_______
(1) البيان المغرب من أوراق مخطوطة، عثرنا بها في خزانة القرويين بفاس، وسبقت الإشارة إليها.
(2) راجع قلائد العقيان ص 30 و 31، وأعمال الأعلام ص 165 - 170 حيث يورد القصيدة كلها.(2/362)
وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي رحمه الله. وهو بالمقبرة القبلية على يسار الخارج من البلد، قد توقل نشزا غير سام، وإلى جانبه، قبر الحرة حظيته، وسكن نفسه، اعتماد، إشراكاً لاسمها في حروف لقبه المنسوب إلى رميك، المتولعة بشأنه معها أخبار القصاص، وحكايات الأسمار، إلى أجداث من ولديهما فترحمنا عليه، وأنشدته " (1). ويعود ابن الخطيب بعد ذلك في كتابه " أعمال الأعلام ". فيصف لنا زيارته للقبر في تلك العبارات المؤثرة: " وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته، مولاة رميك، وعليها وحشة التغرب ومعاناة الخمول بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها "، وقد أنشد على القبر أبياتاً يقول فيها:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات
ولم لا أزورك يا أندى الملوك يداً ... ويا ضياء الليالي المدلهمات
أناف قبرك في هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات
كرمت حياً وميتاً واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأموات
ما رِىء مثلك في ماض ومعتقدي ..
. أن لا يرى الدهر في حال ولا آت (2)
وزاره المقري مؤرخ الأندلس في سنة 1010 هـ (1602 م) ورآه كما ذكر ابن الخطيب فوق ربوة في مكان يغمره النسيان، فوقف أمامه خاشعاً متأثراً (3).
وقد انتهزت فرصة وجودي بمدينة مراكش في خريف سنة 1956، فزرت أغمات. وقد غدت مدينة أغمات هذه، التي اشتهرت في التاريخ وفي الأدب لاحتوائها على قبر المعتمد بن عباد، اليوم قرية متواضعة، تقع على مقربة من مراكش، ومن آكام جبال الأطلس الثلجية، وتحيط بها غراس الزيتون والتين البري، ولا يعدو سكانها ثلاثة آلاف نسمة. وأما قبر المعتمد، فيقع في ظاهرها في طلل خرب يحيط به سور قصير، وفي داخله حظيرتان، في إحداهما قبر المعتمد، وقد خرب تماماً ونمت به الأشواك البرية، وعليه كومة من الأحجار الصغيرة. وأما الحظيرة الأخرى فالمفهوم أنها تحتوي على قبر زوجه اعتماد الرميكية. وقد ذكرت وأنا أتأمل هذا الطلل الموحش المؤثر، ما ذكره
________
(1) نفاضة الجراب في علالة الاغتراب. مخطوط الإسكوريال رقم 1755 الغزيري.
(2) أعمال الأعلام ص 164 و 165.
(3) راجع نفع الطيب ج 2 ص 458 و 459.(2/363)
ابن الخطيب والمقري من قبل، من غلبة الخمول والعفاء عليه، وشعرت بمثل ما شعر به كل منهما من الألم والخشوع.
* * *
كانت مأساة المعتمد بن عباد مأساة من أروع المآسي الملوكية، وما زالت محنة هذا الأمير، تحتفظ إلى يومنا، بالرغم من كر العصور، بألوانها المشجية، وقد أثارت عطف الرواية الإسلامية وتأثرها البالغ، ويبدو هذا العطف بنوع خاص في روايات مؤرخي الأندلس والمشرق، وفي كثير منها يُصور المعتمد شهيد القسوة والعسف، ومنها ما يشدد الحملة على يوسف بن تاشفين، ويصمه بأقسى الصفات. فمثلا يقول لنا ابن الأثير في التعليق على أسر بني عباد ومعاملتهم: " وفعل أمير المسلمين بهم فعالا لم يسلكها أحد من قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده، إلا من رضى لنفسه بهذه الرذيلة ... وأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفسه ولؤم قدره " (1).
ويقول العلامة دوزي معلقاً على ذلك: " ومهما كانت فضائل يوسف، فإن الشهامة إزاء المغلوبين لم تكن منها، فقد كان تصرفه مع الأمراء الأندلسيين الذين أسرهم قاسياً وبغيضاً ". ثم يقول، إن المعتمد لم يكن بلا ريب ملكاً عظيماً، ييد أنه ينوه بدقة حساسيته وفيض شاعريته، التي تنعكس عليها أقل الحوادث في حياته، بل إنا لنستطيع أن نسجل حياة المعتمد وخلجات نفسه، من قصائده، ثم يقول: " ثم إنه، أي المعتمد كان لحسن طالعه آخر ملك أندلسي، يمثل بجدارة وروعة، قومية وحضارة عقلية سقطتا تحت نير البربر الذين فتحوا البلاد.
ولقد لزمه نوع من الإيثار باعتباره آخر فرع لتلك الأسرة العديدة من الأمراء الشعراء، الذين حكموا الأندلس. وإنا لنأسوا له أكثر مما نأسوا لأي شخص آخر، بل ودون أي شخص آخر، كما تثير آخر زهرة في الموسم, وآخر أيام الخريف الحلوة، وآخر أشعة الشمس الغاربة، في نفوسنا أيما أسى " (2).
وقد أسبغت قسوة يوسف نحو أمراء الأندلس، ونحو المعتمد بنوع خاص.
على سيرته وعلى خلاله سحباً لم تمحها جميع الأعذار التي انتحلت لتبرير عمله.
_______
(1) ابن الأثير ج 10 ص 65.
(2) Dozy: Hist.V.III.p. 178-176(2/364)
وتتلخص هذه الأعذار في أن المعتمد كان بسياسته وتصرفه نحو شئون الأندلس، ومحالفته للنصارى على اخوته في الدين، وتعريضه مستقبل الإسلام للخطر، تحقيقاً لمطامعه الشخصية، يستحق أعظم اللوم، وأنه عوقب بما تقتضيه فداحة ذنبه. وقد أدرك المعتمد، عقب سقوط طليطلة، فداحة أخطائه، وأبدى صريح ندمه لما أثم (1). على أنه إذا كان حقاً أن المعتمد يحمل بسياسته الأندلسية أمام التاريخ تبعات جسام، فإنه من الحق أيضاً أنه حينما استفحل الخطب، وظهر شبح الخطر على الأندلس المسلمة، كان أول الداعين إلى الوحدة، وإلى طلب الغوث من المرابطين، وأنه لم يبخل في ذلك السبيل بتضحية حصونه التي طلبها يوسف قبل عبوره إلى الأندلس, وأنه أبلى في موقعة الزلاّقة أعظم البلاء، وعاون في نيل النصر أعظم معاونة. كذلك لا ريب أن البواعث التي دفعت يوسف إلى افتتاح الأندلس وامتلاكها، لم تكن دينية فقط، ولم تكن بعد الزلاقة وحصار أليدو، مجرد جهاد في سبيل الله، بل كانت دنيوية قبل كل شىء، ولم يك ثمة شك في أن الأندلس قد أغرت المرابطين وأميرهم بخصبها وغنائها ونعمائها. وإنه ليحق لنا بعد ذلك كله أن نتساءل، أي ضرورة بل أي ْحكمة اقتضت أن يبطش المرابطون بأمراء الأندلس، وأن يمعنوا فيهم قتلا وتعذيباً، على النحو الذي اتبعوه، بعد أن استولوا على أملاكهم وأراضيهم (2) وأي ضرورة اقتضت أن يعامل سيد المرابطين، المعتمد بن عباد وآله بهذه القسوة المروعة، بعد أن غدوا في يده أسرى لا حول لهم ولا قوة؟ وكيف سمح أمير المسلمين القوي القادر لنفسه، أن تمتد هذه القسوة إلى الولد الضعاف والنساء والبنات؟ لقد كان المعتمد مثقلا بتبعات أعماله وأخطائه كأمير، وملك من ملوك الطوائف، أفلم يكن يكفيه فقد ملكه وسلطانه، وأسره واعتقاله، للتكفير عما أثم بسابق تصرفه؟ وماذا كان يضير الظافر لو عامله بشىء مما يقتضيه سابق مكانته من الرفق والرعاية؟
_______
(1) راجع ما ورد في رسالة ابن عباد لألفونسو السادس (ص 76 من هذا الكتاب).
(2) قتل المرابطون ثلاثة من أبناء المعتمد بن عباد، هم المأمون والراضي ومالك، وقتلوا المتوكل بن الأفطس وولديه الفضل والعباس، وقتلوا كثيراً غيرهم من الوزراء والكبراء، في مناظر من القسوة المثيرة.(2/365)
هذه تأملات تثيرها في النفس محنة المعتمد بن عباد. ولا ريب أن هذه الخاتمة المؤسية التي قدر للمعتمد أن يعاني آلامها المروعة المادية والمعنوية، لحرية بأن تسبغ عليه ثوب شهيد، يستحق عطف التاريخ، وصفح الأجيال.
- 3 -
ذكرنا فيا تقدم أن أمير المسلمين حينما نظم جيوشه لافتتاح إمارات الطوائف، بعث إلى ألمرية جيشاً بقيادة أبى زكريا بن واسنو (وقيل بل محمد بن عائشة) لمحاصرتها وافتتاحها. وهنا تختلف الرواية، فيقال إن المرابطين أشرفوا على ألمرية، وحاصروها، وأميرها المعتصم بن صمادح عليل يعاني مرض موته، وأنه ألقى بهذه المناسبة كلمته المأثورة " نغص علينا كل شىء حتى الموت "، ثم توفي أثناء الحصار في شهر ربيع الآخر سنة 484 هـ (1091 م) (1). وفي رواية أخرى أن المعتصم توفي قبل مقدم المرابطين، وأنه كان قد أوصى ولده معز الدولة قبيل وفاته، بأن يترقب مصير إشبيلية، فمتى سقطت في أيدي المرابطين، وخلع أميرها المعتمد بن عباد، فعليه أن يغادر ألمرية فوراً، ويعبر البحر في أهله وأمواله، إلى العدوة، ويلتجىء إلى حماية بني حماد أمراء القلعة. وقد نفذ معز الدولة وصية أبيه، واستطاع أن ينجو بأهله وأمواله، وأن يغادر ألمرية في آخر لحظة، قبل أن يطوقها المرابطون، وأن يعبر البحر إلى العدوة (رمضان سنة 484 هـ)، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة ألمرية (2). ودخل المرابطون ألمرية على الأثر واحتلوها، فكانت ألمرية بعد غرناطة وإشبيلية، ثالثة مملكة من ممالك الطوئف. تسقط في أيدي المرابطين.
وقد ذكرنا فيما تقدم كيف احتل المرابطون مدينة مرسية بقيادة ابن عائشة وذلك في شوال سنة 484 هـ (أكتوبر سنة 1091 م)، ثم استولوا في العام التالي (485 هـ) على شاطبة وشقورة ودانية.
ونحن نعرف مما تقدم من أخبار مملكة بلنسية، أن المرابطين بدأوا يتدخلون في حوادث بلنسية، ويبذلون جهودهم لتحطيم مغامرات " السيد " في هذه المنطقة، وذلك منذ سنة 485 هـ (1092 م). وقد قام الجيش الذي يقوده
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 172. والطبعة الجديدة ج 2 ص 84.
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 174، وروض القرطاس ص 101.(2/366)
خريطة: الدولة المرابطية الكبرى عقب افتتاح الأندلس.(2/367)
ابن عائشة بدوره في ذلك. ثم قدم إلى شرقي الأندلس جيش مرابطي آخر، أوفر عدة وعدداً، بقيادة محمد بن تاشفين ابن أخي يوسف، وحاصر بلنسية، وفي داخلها السيد، وذلك في أواخر سنة 488 هـ. ولكن مقاومة السيد، ومن بعد وفاته مقاومة القشتاليين، استطالت بضعة أعوام، ولم يتمكن المرابطون من دخول بلنسية إلا في شهر شعبان سنة 495 هـ (مايو سنة 1102 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل تفصيلا شافياً في أخبار مملكة بلنسية.
واستمرت الجيوش المرابطية في تقدمها شمالي بلنسية، نحو أراضي الثغر الأعلى، واستولت على إمارة شنتمرية الشرق في رجب سنة 497 هـ (إبريل 1104 م)، وكانت قد استولت قبل ذلك على إمارة ألبونت الصغيرة. وفي سنة 502 هـ (1109 م)، وعقب انتصار المرابطين في موقعة إقليش، سار جيش مرابطي بقيادة أبي عبد الله بن الحاج والي بلنسية، شمالا صوب سرقسطة، فدخلها، وأخرج منها بني هود، وبذلك تم للمرابطين فتح شرقي الأندلس والثغر الأعلى، وانتهت إمارات الطوائف كلها في تلك الأنحاء.
وأما في غربي الأندلس، فإن المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، شعر عقب استيلاء المرابطين على إشبيلية، أن الدائرة سوف تدور عليه، وكان قبل ذلك قد تقرب من عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، وبعث إليه برسالته المؤثرة التي أوردناها من قبل، يدعوه فيها لنصرة الأندلس. ولما استولى المرابطون على غرناطة ذهب مع المعتمد بن عباد لتهنئة أمير المسلمين، فاستقبلهما بجفاء، وانصرفا من لديه وقد شعر كلاهما بالخطر الداهم على مملكته. على أنه يبدو أن ابن الأفطس استطاع بعد ذلك أن يعمل على توثيق أواصر المودة مع المرابطين وكبيرهم الأمير سير بن أبى بكر فاتح إشبيلية وحاكمها. واستمرت هذه العلائق الودية قائمة نحو ثلاثة أعوام. ثم بدأ المرابطون الإغارة على أراضي مملكة بطليوس، وشعر المتوكل بتغير المرابطين نحوه واتجاههم إلى إزالته، ولم يجد أمامه إزاء هذا الخطر الداهم، طريقاً يسلكه سوى نفس الطريق الذي سلكه ابن عباد من قبل، وهو الاستغاثة بألفونسو السادس ملك قشتالة. وبذل ابن الأفطس لملك قشتالة ثمناً لحلفه ومعاونته، ثلاث مدن هامة من أملاكه، هي أشبونة، وشنترة، وشنترين. وقد كان لهذا التصرف وقع سىء، إذ انحرف(2/368)
أهل بطليوس عن المتوكل، وكتب أعيانهم إلى المرابطين يستدعونهم. وفي أوائل سنة 488 هـ (أوائل 1095 م)، بعث حاكم إشبيلية الأمير سير بن أبي بكر جيشاً إلى بطليوس لافتتاحها، فاخترق أراضي بطليوس بسرعة، ولم يتمكن ملك قشتالة من تقديم أية معاونة لحليفه المسلم، واضطر ابن الأفطس أن يمتنع بقصبة بطليوس المنيعة الضخمة. ولكن المرابطين اقتحموها بعنف، وقبضوا على المتوكل وولديه الفضل والعباس، واستولوا على أمواله المدفونة بالقصبة، بعد أن عذبوه لكشف مخابئها. واحتل المرابطون بطليوس، وأخذوا المتوكل وولديه بحجة تسييرهم إلى إشبيلية، ثم أعدموهم في الطريق (1). وكان للمتوكل ولد آخر هو المنصور، وكان قد بعثه ومعه معظم ذخائره إلى حصن منتانجش على مقربة من حدود قشتالة، ليمتنع فيه، فلما علم بما وقع لأبيه وإخوته، سار في أهله وأمواله إلى ملك قشتالة، والتجأ إلى حمايته، وأقام بأرضه، واعتنق النصرانية وفقاً لبعض الروايات (2). وهكذا انتهت مملكة بطليوس بعد أن عاشت في ظل بني الأفطس خمسة وسبعين عاماً، وتم للمرابطين فتح غربي الأندلس كله، كما تم لهم من الناحية الأخرى فتح شرقي الأندلس.
وقد أذكت محنة بني الأفطس، كما أذكت محنة بني عباد من قبل، فجيعة الشعر الأندلسي، ونظم في رثائهم ورثاء دولتهم وأيامهم، وزيرهم الكاتب والشاعر المبدع، أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، مرثيته الشهيرة، التي تعتبر من أجل المراثي الأندلسية وأروعها، وهذا مطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة ... عن نومة بين ناب الليث والظفر
ومنها:
فلا تغرنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد العبر
في كل حين لها في كل جارحة ... منا جراح وإن زاغت عن النظر
_______
(1) المعجب ص 42، وأعمال الأعلام ص 186، وراجع: Dozy: Hist.V.III.p. 152 وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 504
(2) هذه رواية ابن عذارى في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها بخزانة القرويين. وراجع أيضاً أعمال الأعلام ص 186.(2/369)
تسر بالشىء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك من خبر
ومنها في رثاء بني الأفطس:
بني المظفر والأيام لا نزلت ... مراحل والورى منها على سفر
سحقاً ليومكم يوماً ولا حملت ... بمثله ليلة في غابر العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو ... من للأسنة يهديها إلى الثغر
من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضرر
ومنها:
أين الجلال الذي غضت مهابته ..
. قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذين أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه ... فلم يرد أحد منها على كدر
كانوا رواسي أرض الله منذ مضوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
كانوا مصابيحها فمذ خبوا عثرت ... هذه الخليقة يا ألله في سدر (1)
هذا وقد أجمل لنا مأساة الطوائف شاعر معاصر هو أبو الحسن جعفر بن ابراهيم المعروف بابن الحاج اللورقي في تلك الأبيات الثلاثة:
كم بالمغارب من أشلاء مخترم ... وعاثر الجد مصبور على الوهن
أبناء معن، وعباد، ومسلمة ... والحميريين باديس وذى النون
راحوا لهم في هضاب العز أبنية ... وأصبحوا بين مقهور ومسجون (2)
وعلى أثر الاستيلاء على بطليوس، سارت حملة مرابطية إلى ثغر أشبونة، وكانت تحتله مذ نزل عنه المتوكل، حامية قشتالية بقيادة الكونت ريمون البرجوني صهر ألفونسو السادس، وهاجم المرابطون أشبونة بشدة واقتحموها، وقتلوا وأسروا معظم حاميتها النصرانية. وأعيد بذلك هذا الثغر الهام إلى حظيرة المملكة الإسلامية (نوفمبر سنة 1094 م) (3).
_______
(1) تراجع القصيدة بأكملها في المعجب ص 42 - 46، ونشرت ناقصة في أعمال الأعلام ص 186 - 189.
(2) الحلة السيراء ج 2 ص 101 و 102.
(3) راجع الحلل الموشية ص 55 وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 502(2/370)
ورد ملك قشتالة على ذلك بالقيام بغزوة جديدة لأراضي الأندلس. ففي سنة 489 هـ (1096 م) حشد ألفونسو السادس حملة ضخمة، وسار نحو قرطبة، فلما علم أن المرابطين هناك على أهبة شديدة لمدافعته، تحول عنها وسار إلى قرمونة وهي حصن إشبيلية الشرقي، فهاجمها واقتحم بسائطها فيما بينها وبين إستجة، واستولى على غنائم وفيرة وسبى جموعاً عظيمة، ثم اتجه صوب إشبيلية، وعاث في بسائطها، فامتنع أهل إشبيلية بمدينتهم ولم يخرجوا إلى قتاله حسبما كان يتوقع، فلما يئس من الاشتباك مع المسلمين، سارا في قواته وغنائمه صوب بطليوس ثم جاز إلى أراضي قشتالة عائداً إلى قواعده (1).
- 4 -
لبث أمير المسلمين يوسف بن تاشفين حيناً في سبتة، يعني بإمداد جيوشه الغازية في شبه الجزيرة، ويتلقى أنباء الفتوح المتوالية لقواعد الأندلس، ثم غادرها إلى مراكش، بعد أن اطمأن إلى نتائج أعمال البعوث والحملات المختلفة، وعهد بشئون الأندلس، إلى كبير قادته الأمير سير بن أبى بكر اللمتوني.
ولم يعد يوسف إلى شبه الجزيرة إلا بعد ذلك بعدة أعوام في سنة 496 هـ (1102 م) حيث جاز إليها جوازه الرابع. وفي رواية أخرى أن هذا الجواز الرابع وقع في سنة 1097 م (491 هـ) (2) وفي رواية ثالثة، وهي رواية ابن عذارى أنه وقع في سنة 490 هـ (1096 م). وكانت ممالك الطوائف كلها قد سقطت يومئذ في أيدي المرابطين، ما عدا سرقسطة، التي استولى عليها المرابطون بعد ذلك بأعوام قلائل، وآلت اسبانيا المسلمة كلها بذلك إلى سلطان البربر وغدت ولاية مغربية، وانهار سلطان العصبيات والأسر الأندلسية إلى حين، وتوارت العناصر والزعامات المتغلبة، لكي تظهر فيما بعد، وتضطلع ضد المرابطين بمختلف الحركات والثورات القومية الأندلسية.
واتخذ جواز أمير المسلمين هذه المرة طابع الجهاد من جديد، فجهز جيشاً قوياً من المرابطين والأندلسيين بقيادة محمد بن الحاج. وسار هذا الجيش صوب
_______
(1) البيان المغرب من الأوراق المخطوطة التي سبقت الإشارة إليها.
(2) R.M.Pidal: ibid ; p. 535(2/371)
طليطلة مخترقاً أراضي قشتالة، والتقى بالقشتاليين بقيادة ملكهم ألفونسو على مقربة من كونسويجرا، فهزم النصارى هزيمة فادحة، وفر ألفونسو في فلوله نحوكونسويجرا والتجأ إليها، فحاصره المرابطون بها بضعة أيام ثم انصرفوا (أغسطس سنة 1097 م).
وقصد يوسف إلى قرطبة، لينجز المهمة التي قدم في الواقع من أجلها إلى الأندلس، وهي أخذ البيعة لولده أبي الحسن علي. وكان قد استقدمه معه هو وأخوه الأكبر أبو الطاهر تميم (1)، وكان يوسف قد آثر ولده علياً بولاية عهده، لما آنسه فيه من الورع والنباهة والحزم، وأصدر له عهده بذلك في سنة 495 هـ. وفي شهر ذي الحجة من سنة 496 هـ جمع يوسف بقرطبة أمراء لمتونة وأشياخ المرابطين والفقهاء، وأخذ البيعة عليهم جميعاً لولده علي، وكان من شروط تقديم علي لولاية العهد، أن ينشىء بالأندلس جيشاً مرابطياً ثابتاً قوامه سبعة عشر ألف فارس، موزعة على قواعد الأندلس، منها سبعة آلاف بإشبيلية، وألف بكل من قرطبة وغرناطة، وأربعة آلاف في شرقي الأندلس، ويوزع الباقي على الثغور (2). وكان من الواضح أن اختيار يوسف قرطبة لأخذ البيعة بها لولده، يمت بصلة وثيقة إلى صفة عاصمة الخلافة القديمة، وزعامتها الأدبية السالفة لقواعد الأندلس.
وفي أواخر سنة 498 هـ، مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بقصره بحضره مراكش، واستمر عليلا زهاء عام وشهرين، حتى توفي في مستهل شهر محرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر 1106 م) (3). وقيل بل توفي في ربيع الآخر سنة خمسمائة.
وكانت وفاته بقصره بمراكش، ومن حوله ولداه أبو الحسن علي وأبو الطاهر تميم، وأكابر لمتونة، ودفن بالقصر، وأوصى ولده علياً قبيل وفاته بثلاثة أمور، الأول ألا يفعل شيئاً لإثارة أهل جبل درن ومن وراءه من المصامدة وأهل القبلة، والثاني أن يهادن بني هود أمراء سرقسطة وأن يتركهم حائلا بينه وبين النصارى، والثالث أن يعطف على من أحسن من أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم (4).
_______
(1) الحلل الموشية ص 55. ويقول ابن أبي زرع إن علياً كان عندئذ بسبتة حيث نشأ (روض القرطاس ص 101).
(2) الحلل الموشية ص 58.
(3) روض القرطاس ص 101 ويقول ابن خلكان إنه توفي في الثالث من المحرم سنة 500 هـ (ج 2 ص 448).
(4) الحلل الموشية 60.(2/372)
وهكذا اختتمت حياة البطل المغربي العظيم، بعد أن عاش زهاء مائة عام، وقضى في الزعامة والكفاح زهاء نصف قرن، مذ ندبه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني لقيادة الجيش المرابطي، وقضى في حكم الدولة المرابطية الكبرى بالمغرب مذ دخل مدينة فاس في سنة 462 هـ، نحو أربعين عاماً، وحكم الإمبراطورية المغربية الأندلسية الكبرى نحو خمسة عشر عاماً، واضطلع في المغرب بحروب ومعارك لا حصر لها، وقاد الجيوش المرابطية بالأندلس مراراً من أجل الجهاد في سبيل الله، وأحرز أعظم انتصاراته في معركة الزلاّقة الحاسمة، وهي بلا ريب ألمع صفحات جهاده وأنصعها.
وقد تناولنا خلال يوسف وصفاته فيما تقدم من سيرته، ونزيد هنا أنه لم يصم حياة يوسف المديدة، ولم يثر سحباً حول خلاله العظيمة، سوى ما جنح إليه من قسوة بالغة في معاملة أمراء الأندلس، وهو ما سبق أن عرضنا إليه.(2/373)
الكِتابُ السابع
الممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ(2/375)
الفصل الأوّل
المملكة الإسبانية الكبرى في عهد سانشو الكبير وولده فرناندو الأول
الممالك الإسبانية في أواخر القرن العاشر. نافار وليون وقشتالة. سانشو الكبير يحتل قشتالة. ولده فرناندو أول ملوكها. ألفونسو الخامس ملك ليون. ولده برمودو الثالث. استيلاء سانشو الكبير على ليون. مصرع برمودو الثالث. استيلاء فرناندو على ليون. تقسيم المملكة النصرانية بعد وفاة سانشو. الحرب بين راميرو ملك أراجون وأخيه غرسية ملك نافار. غرسية يحاول اغتيال فرناندو ملك قشتالة. إنتقام فرناندو. الحرب بين الأخوين. هزيمة غرسية ومقتله. تعيين ولده سانشو مكانه. إنهيار الأندلس الكبرى وقيام الطوائف. تحول ميزان القوى في شبه الجزيرة. ضعف دول الطوائف. تنافسها في استعداء الملوك النصارى. تفوق اسبانيا النصرانية ونهوض سياسة الإسترداد. غزو فرناندو الأول لولاية البرتغال. حصار بازو وسقوطها. سقوط لاميجو. تهديد شنترين. غزو فرناندو لمنطقة وادي الحجارة. المأمون بن ذى النون يسترضيه بالمال والخضوع. غزو فرناندو لمملكة إشبيلية. خضوع ابن عباد وتعهده بالجزية. موافقته على نقل رفات القديسين النصارى. مسير فرناندو لغزو قلمرية. حصارها وسقوطها. الكونت سسنندو يتولى حكمها. مسير فرناندو إلى بلنسية وموقعة بطرنة. مرض فرناندو ووفاته. تلقبه بالإمبراطور. أعماله الإنشائية. مجلس جويانسا. قوانينه الكنسية والدستورية. تنويه الرواية النصرانية بخلال فرناندو وعظمته.
مضينا فيما تقدم، في تاريخ المالك الإسبانية النصرانية، حتى نهاية القرن العاشر الميلادي، أعني حتى نهاية عهد المنصور بن أبي عامر، ونحاول الآن أن نتتبع تاريخ هذه الممالك خلال القرن الحادي عشر الميلادي، أعني خلال الحقبة التي شهدت سقوط الخلافة الأندلسية، وانهيار الأندلس الكبرى، وانتثارها إلى دول الطوائف. ثم سيرة الطوائف منذ قيامها حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، وانهيار هذه الدول الإسلامية الصغيرة.
كانت الممالك الإسبانية النصرانية في أواخر القرن العاشر الميلادي ثلاثاً، وهي نافار (نبرّة)، ويحكمها غرسية سانشيز، ولد سانشو غرسية الثاني.
وكانت نافار يومئذ أكبر الممالك النصرانية رقعة، إذ كانت تشمل فضلا عن الوطن الأصلي نافار، ولايات كنتبريا، وسوبرابي، ورباجورسا. ولما توفي(2/376)
غرسية سانشيز، في سنة 1000 م، بعد حكم دام خمسة أعوام، خلفه في الحكم ولده سانشو الثالث الملقب بالكبير.
ومملكة ليون، وكان يحكمها برمودو الثاني منذ سنة 982 م، واستمر في حكمها بالرغم من مناوأة أخيه راميرو, ومحاربته له، حتى توفي في سنة 999 م، وخلفه في الحكم ولده ألفونسو طفلا، وتولى الوصاية عليه الكونت مننديث كونثالث، أحد أشراف المملكة.
ومملكة قشتالة. وكانت ما تزال في مرتبة " الكونتية " أو الإمارة، وكان على حكمها غرسية فرناندز ولد بطلها ومحررها فرنان كونثالث (1). ولما توفي في سنة 995 م، خلفه ولده سانشو غرسية فحكم حتى سنة 1021 م، ثم خلفه ولده غرسية. حدث أن قصد غرسية إلى ليون ليتم عقد زواجه بأخت ملكها برمودو الثالث، فقتل غيلة خلال وجوده بالكنيسة أثناء مراسيم الزواج (1028 م) وقتله أبناء الكونت فيلا، وهو أحد أشراف قشتالة الذي نزعهم غرسية أملاكهم.
وبمصرع غرسية انقطع نسل أسرته، وترتب على ذلك تغييرات عظيمة في مصاير الممالك الإسبانية.
ذلك أن سانشو الكبير ملك نافار كان متزوجاً من إلبيرة أخت غرسية، ابنة سانشو غرسية أمير (أو كونت) قشتالة، فلما لقى الكونت غرسية مصرعه في ليون، بادر سانشو إلى قشتالة، فاحتلها بصفته وارثاً لعرشها عن طريق زوجته، وندب لحكمها ولده فرناندو. وأسبغ عليه لقب الملك، فكان أول ملوك قشتالة. وتلقب هو بملك اسبانيا، وانتقم من آل فيلا قتلة غرسية، فأحرقهم أحياء، بالرغم من كونه جنى ثمار جريمتهم بامتلاك قشتالة.
وحكم ألفونسو الخامس مملكة ليون حتى وفاته في سنة 1027 م، وغزا أراضي المسلمين المجاورة في شمالي البرتغال، وافتتح بعض نواحيها، وحاصر مدينة بازو، وأصيب خلال ذلك بسهم مسموم قذفه به أحد الرماة المسلمين، فتوفي متأثراً بجراحه. وكان أشهر أعماله عقد المجلس الدستوري في سنة 1025 م، وفيه وضعت قوانين المملكة التأسيسية، وأصبح العرش وراثياً. ولما توفي خلفه ولده برمودو الثالث. وكان فرناندو ملك قشتالة، قد تزوج من ابنة ألفونسو
_______
(1) ويسميه ابن الخطيب في الفصل الذي يخصصه لتاريخ ملوك اسبانيا النصرانية، دون شانجه قمز قشتالة (أعمال الأعلام ص 329).(2/377)
أخت برمودو، بيد أن هذه المصاهرة لم تفعل شيئاً لتوثيق علائق المملكتين، وبالعكس فإن سانشو الكبير وولده فرناندو، كانا يريان في تلك المصاهرة وسيلة لانتزاع عرش ليون. على أن سانشو لم ينتظر سير الحوادث لتحقيق هذا الاحتمال، بل سار في قواته إلى ليون وافتتحها، وأعلن نفسه ملكاً عليها، وفر برمودو ليرقب الفرص لاسترداد عرشه.
ولما توفي سانشو الكبير ملك نافار، أوملك اسبانيا، في سنة 1035 م, استطاع برمودو أن يسترد جزءاً من أملاكه وأن يقيم بلاطه، وثارت بينه وبين صهره فرناندو ملك قشتالة الحرب، واستمرت مدى عامين، ثم كان اللقاء الحاسم بينهما في موقعة تامارون في سنة 1037 م وفيها لقى برمودو مصرعه.
ونظراً لوفاته دون عقب، فقد استولى فرناندو على مملكة ليون بحكم المصاهرة والوراثة، وغدا ملكاً على مملكة قشتالة وليون الموحدة. وانتهى بمقتل برمودو الثالث نسل ملوك اسبانيا النصرانية، منذ أيام القوط، ومذ قامت مملكة أشتوريش وجلِّيقية وليون في أواخر القرن الثامن الميلادي، كما انتهى من قبل نسل أمراء قشتالة.
- 1 -
وكان سانشو الكبير، قد قسم المملكة قبيل وفاته، بين أبنائه الأربعة، فخص فرناندو كما هو بملك قشتالة وليون وجليقية، وغرسية أكبر أولاده بالوطن الأصلي نافار، ممتداً من غرب البرنيه إلى منابع الإيبرو، وخص ولده غير الشرعي، راميرو، برقعة ضيقة تمتد بحذاء نافار من باب شيزروا جنوباً. وتسمى بمملكة أراجون، وولده كونزالو، بمنطقة صغيرة أخرى في أواسط البرنيه، وهي ولاية سوبرابي ورباجرسا. وهكذا غدت الممالك الإسبانية النصرانية، بهذا التقسيم أربعاً، وهذا عدا إمارة برشلونة الفرنجية الواقعة في شمال شرقي إسبانيا، وقد كان يحكها رامون برنجير الأول عميد آل برنجير.
وكان من جراء هذا التقسيم أن بدأت سلسلة جديدة من الحروب الأهلية بين الملوك الإخوة، وبدأت الحوادث باختفاء مملكة سوبرابي الصغيرة.
ذلك أن أميرها كونزالو قتل غيلة أثناء عوده من الصيد (1038 م)، فاختار(2/378)
أهل سوبرابي أخاه راميرو أمير أراجون، ليخلفه في حكم الولاية، وبذا اتحدت الإمارتان في مملكة واحدة، ولم يعارض راميرو أحد من إخوته، إذ كان فرناندو ملك قشتالة مشغولا بتنظيم مملكته الكبيرة وتقويتها، وكان غرسية ملك نافار، غائباً يحج إلى رومة، وفضلا عن ذلك فقد كان شعب سوبرابي هو الذي اختار راميرو وآثره.
يقول المؤرخ لافونتي: " وكأنما كان روح الطمع والحسد والمنافسة، متأصلا في أسرنا الملوكية، ولم يفعل سانشو الكبير بتقسيم المملكة سوى أن زاد جراثيم الشقاق والموت " (1).
ذلك أن راميرو لم يقنع بالاستيلاء على ولاية سوبرابي، بل أخذ يطمح إلى الاستيلاء على مملكة نافار نفسها. ولما كانت موارده وأهباته قاصرة عن تحقيق مشروعه الكبير، فقد عقد مع جاره المسلم ابن هود أمير سرقسطة، حلفاً أمده بمقتضاه ببعض قواته، ثم زحف راميرو في قواته المتحدة من النصارى والمسلمين إلى نافار، واقتحم حدودها فجأة، ولكن قلعة تافالا اعترضت سيره المظفر. ولم يكن غرسية يتوقع من أخيه مثل هذا الاجتراء، فحشد قواته على عجل، خلال الوقت الذي استغرقه حصار القلعة، وسار إلى تافالا، فانقض بقواته على الجيش المغير تحت جنح الظلام، وكانت مفاجأة أخذ بها الأرجونيون، فساد بينهم الاضطراب، ومزقت صفوفهم قبل أن يستعدوا للقتال ولم يتمكن راميرو من الخلاص إلا بصعوبة ففر ناجياً بنفسه مع نفر من صحبه، وأبيد معظم جيشه قتلا وأسراً، وقتل كذلك معظم حلفائه المسلمين، ووقعت هذه الموقعة الحاسمة فيما يبدو سنة 1042 م.
ولجأ راميرو إلى شعب الجبال الوعرة في سوبرابي خشية المطاردة، بيد أن غرسية قنع فيما يبدو بنصره والقضا على جيش أخيه، ولم يحاول مطاردته داخل بلاده، وأنفق راميرو بضعة أعوام في تنظيم شئونه، والنهوض من عثرته، وأنشأ جيشاً جديداً، وسوف نراه فيما بعد يخوض معترك الحوادث مرة أخرى.
ثم اتخذت الحوادث وجهة أخرى، وانتقل ميدان الصراع إلى الجانب الآخر من اسبانيا النصرانية بين نافار وقشتالة. وكان غرسية ملك نافار، وهو أكبر
_______
(1) Modesto Lafuente: Historia general de Espana (Madrid 1861) V.II.p. 433(2/379)
إخوته، ينظر بعين الغيرة والحسد إلى فوز أخيه الأصغر فرناندو بحكم هذه المملكة العظيمة الشاسعة، مملكة قشتالة وليون، ويرى أنه أحق بملكها وأجدر، وكان يعول في تحقيق أمنيته على وسائل الغدر والغيلة، ولم يكن فرناندو في البداية يشك في ولاء أخيه أو صدق نياته، لاسيما وقد حارب إلى جانبه في معركة تامارون ضد برمودو ملك ليون، ومن ثم فقد وضع غرسية، مشروعه لاغتيال أخيه، وذلك بأن تظاهر بالمرض، وبعث إلى أخيه يبلغه أنه مريض على فراش الموت. وأنه يرجو رؤيته للمرة الأخيرة، فبادر فرناندو إلى تلبية هذه الرغبة، بيد أنه قد نمى إليه خلال سيره، حقيقة الكمين الذي دبر لاغتياله، فارتد مسرعاً إلى برغش، وقد أضمر لأخيه الغادر أسوأ النيات. ولم يفطن غرسية إلى أن أخاه قد وقف على حقيقة أمره. ثم جاء دور فرناندو في تدبير الانتقام من أخيه، فدعاه إلى زيارته في برغش بعد ذلك بأعوام قلائل، فسار إليه غرسية دون أية ريبة، ولكنه ما كاد يصل إلى أراضي قشتالة، حتى قبض عليه وزج إلى إحدى القلاع، بيد أنه لم يفقد شجاعته، ولم يلبث أن استطاع الفرار من معتقله، فعاد إلى نافار، معولا على الانتقام.
وهنا لم يكن مناص من وقوع الحرب بين الأخوين، وقد بدأ غرسية بالفعل بالإغارة على أراضي قشتالة ولم يلتفت إلى تحذير أخيه. ثم اعتزم أن يحاول الضربة الحاسمة. فعقد حلفاً مع أخيه وعدوه القديم راميرو وحشد كل ما استطاع من الجند والعدة، وأمده حليفه المقتدر بن هود صاحب سرقسطة بفرقة من جنده.
ونفذ بجيشه القوي إلى أراضي قشتالة، واثقاً في شجاعة جيشه. وكان أخوه فرناندو في تلك الأثناء يحشد من جانبه سائر قواته من قشتالة وليون. واستمر غرسية في سيره حتى وصل إلى سهل أتابوركا، الواقع على مقربة من شرقي برعْش، وحاول فرناندو مرة أخرى أن يجتنب الحرب مع أخيه، فبعث إليه اثنين من كبار الأحبار، يحاولان إقناعه بعقد الصلح وحقن الدماء، فصرفهما غرسية بخشونة. وفي فجر اليوم الأول من سبتمبر سنة 1054 م، اشتبك الجيشان في معركة عنيفة، وقاتل غرسية بشجاعة فائقة، بيد أن الخلل ما لبث أن دب إلى جيشه، إذ غادرته عدة كبيرة من الفرسان الناقمين إلى المعسكر الآخر، وشن فرسان ليون في نفس الوقت على النافاريين هجوماً عنيفاً، وأصابت غرسية،(2/380)
وهو يقاتل في قلب المعمعة طعنة قاتلة، فسقط من جواده وأسلم الروح في الحال، بين يدي كاهنه، فانتثر شمل النافاريين، وركنوا إلى الفرار، وأغضى فرناندو عن مطاردتهم، وقصر أمر المطاردة على حلفائهم المسلمين، فمزقوا قتلا وأسراً.
وأمر فرناندو بأن يحمل جثمان أخيه بمنتهى التكريم، وأن يدفن في ناجرة في الكنيسة التي أنشأها هناك، وأعلن في الحال اختيار ولده الصبي سانشو مكانه ملكاً على نافار، وأعلن الملك الجديد من جانبه طاعته لعمه الظافر، الذي شاء أن يبقى له على تراث أبيه، ولم يقتطع فرناندو شيئاً من أراضي نافار سوى بعض النواحي الواقعة على ضفة الإيبرو اليمنى (1).
- 2 -
في الوقت الذي كانت فيه الممالك الإسبانية النصرانية تضطرم على هذا النحو بنار الحرب الأهلية، ويسقط ملوكها الأصهار والإخوة صرعى خلافهم وأطماعهم، كانت اسبانيا المسلمة من جانبها قد استحالت إلى أشلاء ممزقة، وقامت بها أكثر من عشرين دولة من دول الطوائف. وبينما كانت الخلافة تحتضر في قرطبة وتتردد أنفاسها الأخيرة بين الشريدين من بني أمية، وبين المتوثبين من بني حمود، كان أمراء الطوائف ومعظمهم حديث عهد بالرياسة والسلطان، يضطرمون بأطماعهم الوضيعة، ويجعلون بمنازعاتهم وحروبهم الأهلية الصغيرة، من الأندلس مسرحاً لفتنة غامرة لا يخبو أوارها ولا يستقر قرارها، والواقع أن المصير الذي تردت فيه الأندلس الكبرى على يد الطوائف وحروبهم الانتحارية، كان أتعس بكثير مما انحدرت إليه اسبانيا النصرانية من حروب أهلية محدودة النطاق والمدى، ولم تلبث أن أسفرت عن تماسك المملكة النصرانية، ووحدتها ونهوضها. ولقد كان من رحمة القدر فقط. أن أتيح لهذه الدويلات الإسلامية الصغيرة أن تحتفظ بحياتها، وأن شغلت عدوتها الخالدة اسبانيا النصرانية عن مطاردتها والقضاء عليها، بخلافاتها وحروبها الداخلية في تلك الفترة، أعني في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.
منذ بدإية هذا القرن، حدث في شبه الجزيرة انقلاب حاسم في ميزان
_______
(1) راجع في تفاصيل هذه الحوادث: M.Lafuente: ibid; V.II.p. 382-383 وكذلك R.M.Pidal: La Espana del Cid; p. 122-123(2/381)
القوى السياسية والعسكرية، فبعد أن كانت اسبانيا المسلمة، منذ أيام الناصر حتى نهاية عهد المنصور، تحتفظ بتفوقها العظيم على اسبانيا النصرانية، وتكاد تخضعها لصولتها، ويترامى ملوكها على أعتاب الخلافة القرطبية، ويؤدون لها الجزية في معظم الأحيان، إذا بها بعد انهيار الخلافة، وقيام دول الطوائف الهزيلة المتنابذة، تفقد كل منعة وكل مقدرة حقيقية على الدفاع، ويتسابق ملوكها إلى خطب ود الملوك النصارى، والالتجاء إليهم، واستعدائهم على محاربة بعضهم البعض. وقد كان الملوك النصارى، يبادرون إلى انتهاز هذه الفرص، حتى في فترات ضعفهم وتفرقهم، ويتخذونها وسيلة للتفوق العسكرى، والغنم المادي. وقد بدأت سياسة الاستعداء هذه للملوك النصارى منذ بداية الفتنة ذاتها، حيث نرى الأحزاب المتنافسة على اجتناء سلطان الخلافة، تستمد عون النصارى، على نحو ما فعل الفتى واضح ومحمد بن هشام المهدي في الاستنصار بأمير برشلونة، وسليمان بن الحكم والبربر، في استدعاء سانشو غرسية أمير قشتالة. على أن هذا التنافس في استعداء الملوك النصارى، والاستعانة بهم، يتسع نطاقه تباعاً، ويغدو على يد ملوك الطوائف، حسبما رأينا في أخبارهم، ضرورة سياسية وعسكرية يلجأون إليها بطريقة مستمرة منتظمة. وقد استغل الملوك النصارى هذه الظاهرة أعظم استغلال، حتى غدا ملوك الطوائف، في الواقع آلات مسخرة في آيديهم، ووصل هذا الإذلال إلى ذروته، حسبما رأينا، على يد ألفونسو السادس ملك قشتالة.
على أن ذلك لم يكن دون تمهيد من جانب القوة المادية، فقد استطاعت إسبانيا النصرانية، أن تمهد لتفوقها السياسي والعسكري في شبه الجزيرة، منذ أواسط القرن الحادي عشر، بسلسلة من الغزوات والفتوحات العظيمة، التي تبلورت على أثرها سياسة الاسترداد الإسبانية La Reconquista، وغدت ظاهرة قوية وعاملا حاسماً، في ميدان الصراع بين اسبانيا المسلمة وبين اسبانيا النصرانية.
وقد بدأت هذه السياسة على يد فرناندو الأول ملك قشتالة وليون، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بفرذلند، فإنه ما كاد ينتهي من الصراع الداخلي ْالذي نشب بينه وبين إخوته، حتى تأهب لغزو أراضي المسلمين. وفي سنة 1057 م، عبر في قواته نهري دويرة وتورمس، ونفذ إلى ولاية لوزيتانيا(2/382)
(شمالي البرتغال)، وهي قاصية أراضي المسلمين من الشمال الغربي، وكانت هذه المنطقة المنعزلة النائية تابعة لمملكة بطليوس، بيد أنها كانت لبعدها تكاد تكون مستقلة بشئونها، وتعتمد في الدفاع على نفسها، فاجتاحها فرناندو وعاث فيها، واستولى على بعض الحصون، ثم قصد إلى مدينة بازو Vizeu، وضرب حولها الحصار. فدافع عنها أهلها المسلمون أشد دفاع وأعنفه، وأبدى الرماة المسلمون، كما أبدوا من قبل أيام أن حاصرها ألفونسو الخامس، براعة عظيمة في إصابة العدو، حتى اضطر النصارى إلى ارتداء دروع مثلثة، واضطر فرناندو إلى إنشاء فرقة من حملة المقالع، وانتهى القشتاليون بأن اقتحموا المدينة بمنتهى العنف، وأمعنوا في أهلها قتلا وأسراً. وكان من بين الأسرى، ذلك الرامي الماهر، الذي أصاب بسهمه المسموم ألفونسو الخامس من قبل ذلك بثلاثين عاماً، فأمر فرناندو به فسملت عيناه وقطعت يداه ورجلاه، وعذب حتى أسلم الروح. ثم سار فرناندو بعد ذلك إلى لاميجو (لميقة) الواقعة شمال بازو، وكانت حصينة عالية الأسوار، فاقتحمها واستولى عليها بعد ذلك ببضعة أشهر، وقتل معظم أهلها وأسرهم، واسترق الأسرى من أهل المدينتين، وأسكن بهما النصارى. ولم يتحرك ابن الأفطس صاحب بطليوس، وهو صاحب السيادة على تلك الأنحاء، ليقينه باستحالة الدفاع عنها، وذلك حسبما أشرنا إليه من قبل في أخبار مملكة بطليوس.
وقد سبق أن أشرنا كذلك فيما تقدم إلى الحملة التي بعث بها فرناندو ضد مدينة شنترين الواقعة في شمالي أشبونة على نهر التاجه، وكيف اضطر ابن الأفطس عندئذ إلى أن يتعهد بأن يدفع إلى قشتالة جزية قدرها خمسة آلاف دينار.
وكان فرناندو يطمح إلى أن يخضع ملوك الطوائف جميعاً، ولاسيما ابن عباد وابن ذى النون، وهما يومئذ أقوى أولئك الملوك وأعظمهم شأناً. ومن ثم فقد خرج في جيشه في سنة 1062 م، إلى انحاء مملكة طليطلة الشمالية الشرقية، وأغار على مدينة سالم، وأوسيدا، وطلمنكة، ووادي الحجارة، وقلعة النهر (ألكالا دي هنارس) وعاث في بسائطها تخريباً وسبياً. فاستغاث أهل هذه الأنحاء بالمأمون ابن ذى النون صاحب طليطلة، وجمع المأمون مقادير كبيرة من الذهب والفضة والأقمشة الفاخرة، وسار بنفسه إلى معسكر الملك النصراني، وقدم إليه الهدايا،(2/383)
وأعلن اعترافه بطاعته، وتعهده بأداء الجزية، فقبل فرناندو المال والعهد، وعاد مثقلا بالغنائم والتحف.
وفي العام التالي، خرج فرناندو فأغار على أراضي مملكة إشبيلية، وخرب بسائطها، واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون، وأن يقصد إلى فرناندو ومعه هدية جليلة من الأموال والتحف، يناشده المودة والسلم، على أن يؤدي له الجزية، فأجابه فرناندو إلى رغبته، وطلب إليه أن يمكنه من نقل رفات القديسة خوستا، وكانت هذه القديسة قد استشهدت أيام الإمبراطور دقلديانوس ودفنت في إشبيلية، فوعد ابن عباد بتحقيق رغبته، وأرسل فرناندو إلى إشبيلية بعثة من أكابر رجال الدين للقيام بهذه المهمة، ولكنها لم تستطع الاهتداء إلى قبر هذه القديسة، وعندئذ زعم أحد أعضائها، وهو الأسقف ألفيتو، أنه قد ظهر له القديس إسيدورو، وقد كان من أساقفة إشبيلية أيام القوط، وقال له إن رفات القديسة خوستا يجب أن تبقى في مكانها لحماية إشبيلية، وعرض أن تحمل رفاته هو، وكشف عن مكان وجودها، ووجدت بالفعل رفات هذا القديس في المكان المحدد، فحملت إلى ليون ودفنت هنالك باحتفال فخم، في الكنيسة التي سميت من ذلك التاريخ باسمه، أعني بكنيسة سان إسيدورو، وكان ذلك في أوائل ديسمبر سنة 1065 م (1).
وكان فرناندو على أثر إخضاعه لملوك بطليوس وطليطلة وإشبيلية لصولته، وأرغامهم على دفع الجزية، قد وضع خطته للاستيلاء على مدينة قُلُمرية، وهي أعظم القواعد الإسلامية، في شمال غربي البرتغال، بيد أنه رأى قبل مسيره أن يستمد العون والبركة، من القديس ياقب، فقصد إلى مزاره بشنت ياقب، وقضى به ثلاثة أيام في صلوات ودعوات وخشوع، ثم سار إلى قلمرية في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار (يناير سنة 1064 م). وقد سبق أن عرضنا إلى حصار قلمرية، وأشرنا إلى ما تقصه الرواية الإسلامية، من أن راندة، قائد الحامية الإسلامية، غادر المدينة سراً مع أهله بتفاهم مع فرناندو، وأن ابن الأفطس قضى فيما بعد بإعدامه جزاء له على خيانته، وترك ابن الأفطس قلمرية إلى مصيرها كما فعل بالنسبة لبازو. بيد أن أهل قلمرية دافعوا عن أنفسهم
_______
(1) راجع: M.Lafuente: ibid ; V.II.p. 388 & 389.
وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 135(2/384)
أشد دفاع. واستمر الحصار حولها زهاء ستة أشهر، حتى نضبت أقوات الجيش المحاصر نفسه، وكاد يرفع الحصار. ولكن رهبان دير لورفان القريب، أمدوه بمؤنهم المخزونة في الجبال. وأخيراً نجح القشتاليون في إحداث عدة ثغرات في أسوار المدينة، واضطر قائد المدينة إلى طلب الأمان، واتفق على أن يسمح لأهلها بأن يخرجوا مع نسائهم وأولادهم، تاركين أموالهم للفاتح، ولكن الجند المدافعين رفضوا هذا الاتفاق، واستمروا في الدفاع حتى نفدت سائر الأقوات، وعندئذ اقتحم القشتاليون المدينة، وأسروا من المدافعين، ومن أهل المدينة، أكثر من خمسة آلاف، ودخل فرناندو قلمرية في اليوم الحادي عشر من يوليه، ومعه الملكة دونيا سانشا، ورهط من الأساقفة ورجال الدين (1). وعهد بحكم المدينة إلى رجل كان له فيما بعد شأن في صوغ السياسة القشتالية نحو الطوائف، هو الكونت المستعرب سسنندو دافيدس، الذي تعرفه الرواية الإسلامية بششنند.
وكان حسبما أسلفنا في أخبار مملكة إشبيلية من أهل هذه المنطقة، وأسر في حداثته في غارة قام بها القاضي ابن عباد ضد ابن الأفطس، وربى في البلاط العبادي وأعجب المعتضد فيما بعد بمواهبه، وقربه واستخدمه في السفارة بينه وبين فرناندو، ثم غادر إشبيلية بعد ذلك، والتحق بخدمة البلاط القشتالي (2)، وقربه فرناندو وأولاه رعايته لما كان عليه من معرفة تامة باللغة العربية، والدين الإسلامي، وأحوال المسلمين وعاداتهم. فحكم سسنندو قلمرية بكفاية، ونال احترام النصارى، والمسلمين على السواء، وكان يلقب عندئذ " بالوزير " على النمط الإسلامي، وفي عهده نمت قلمرية، وأنشئت بها عدة صروح فخمة. وفي بعض الروايات أن سسنندو لم يكن حاكماً لطليطلة على أثر افتتاحها، حسبما تقدم ذكره في موضعه، وأنه بالعكس استمر حاكماً لإقليم قلمرية حتى توفي سنة 1091 م (3).
وتضع الرواية الإسلامية تاريخ سقوط قلمرية في سنة 456 هـ (1064 م) متفقة في ذلك مع الرواية النصرانية، بيد أنها تختلف معها في بعض التفاصيل.
وقد سبق أن عرضنا فيما تقدم من أخبار مملكة بطليوس، إلى أقوال الرواية
_______
(1) راجع في حوادث فتح قلمرية M.Lafuente: ibid ; V.II.p. 384 & 385 وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 145 & 149
(2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129.
(3) I.de las Cagigas: Los Mozarabes, p. 461(2/385)
الإسلامية (1) وأشرنا إلى ما عمد إليه فرناندو من إجلاء سائر المسلمين عن الأراضي الواقعة في شمال البرتغال بين نهري منهو ودويرة.
ونحن نعرف مما تقدم في أخبار مملكة بلنسية، أن فرناندو، خرج في قواته في أوائل سنة 1065 م، أعني بعد استيلائه على قلمرية ببضعة أشهر، قاصداً إلى بلنسية، يبغى افتتاحها، وأنه اخترق في طريقه أراضي مملكة سرقسطة الجنوبية، وعاث فيها معاقبة لأميرها المقتدر بن هود لتخلفه عن دفع الجزية، ثم ضرب الحصار حول بلنسية. ولكنه لما رأى صعوبة الاستيلاء عليها نظراً لمناعة أسوارها، وأهبة أهلها، تظاهر بمغادرتها، وانسحب بقواته إلى مكان قريب منها. وعندئذ خرج البلنسيون دون تحوط، وفاجأهم القشتاليون في بطرنة وهزموهم هزيمة شنيعة حسبما فصلنا ذلك في موضعه.
وكان فرناندو قد شعر حينئذ بالمرض، فآثر العودة إلى ليون، وهنالك احتفل بدفن رفات القديس إسيدورو في أوانل ديسمبر. وكان في الواقع مرض موته، ذلك أنه لم تمض أيام قلائل على ذلك، حتى توفي في السابع والعشرين من ديسمبر سنة 1065، ودفن في نفس الكنيسة التي دفن فيها القديس، والتي غدت من ذلك الحين مدفناً لملوك قشتالة.
وكان فرناندو الأول من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية، وفي عهده أحرزت اسبانيا النصرانية تفوقها الواضح على اسبانيا المسلمة، ومهد حكمه الملىء بالوقائع المظفرة لمجد الملوك اللاحقين، وقد أسبغت عليه الرواية لقب الكبير El Magno، وكان يسمى نفسه بالإمبراطور، ويدعي لنفسه مركز التفوق والسيادة على ملكي نافار وأراجون. وفي عهده اتسعت رقعة مملكة قشتالة اتساعاً عظيماً، ودفعت حدودها إلى الجنوب والشرق والغرب على حساب المملكة الإسلامية، واقتطعت منها كثيراً من البلاد والحصون. وقد كانت غزواته، بالرغم مما ينسب إليه من التقى والورع، تتسم بنزعة دموية مروعة، تبدو واضحة في قسوته وفظاعته في معاملته المدنيين من أهل البلاد الإسلامية المفتوحة، وسفك دمائهم دون تمييز ولا حرج، واسترقاقهم جملة. وقد اشتهر فضلا عن غزواته وفتوحه المظفرة، بأعماله الإنشائية والدستورية، فقد جدد مدينتي ليون وسمورة،
_______
(1) راجع سقوط قلمرية في البيان المغرب ج 3 ص 238 و 239، وأعمال الأعلام ص 184.(2/386)
وكانتا قد خربتا منذ غزوات المنصور بن أبي عامر. وأنشأ في ليون عدة صروح وكنائس فخمة، ما زالت تزدان بها حتى اليوم. وفي سنة 1050 م، دعا إلى عقد اجتماع كنسي تأسيسي في " جويانسا " اعتبر في نفس الوقت مجلساً نيابياً "كورتيس "، وشهدته الملكة والأشراف والأساقفة، وصدرت عنه عدة أصول كنسية ودستورية، كان لها أكبر الأثر في صوغ النظم التأسيسية لمملكة قشتالة ْفيما بعد. ومنها أن يُعمل في جميع الكنائس والأديار بدعوة القديس بندكت، وأن يحرم على رجال الدين حمل السلاح والزواج، أو شهود مآدب الزواج. وحصلت الكنيسة على امتيازات كثيرة، منها أنه لا يمكن الاستيلاء على أملاكها بالتقادم، وأن المتهم بجريمة ما، إذا صار على قيد ثلاثين خطوة من عتبة الكنيسة، أضحى تحت حماية القضاء الكنسي، وهو أثر من آثار التشريعات القوطية القديمة، وأن القوامس (الكونتات) يجب عليهم هم ونوابهم في القضاء الجنائي، أن يحرصوا على تحري العدالة والحق، وفقاً لأحكام الشرائع القوطية، وأن تطبق في مملكة ليون قوانين ألفونسو الخامس المسماة Buenos Fueros ( القوانين الطيبة) وفي مملكة قشتالة لوائح سانشو المسماة Benefactorias وأن يقضي على المجرمين والعصاة بفقد الشرف والمناصب وبالنفي من الكنسية، وصدرت كذلك عدة لوائح للتمييز بين النصارى والمسلمين واليهود الذين يقيمون في المملكة (1).
وتنوه التواريخ الإسبانية بخلال فرناندو، وعظمة عهده، ومقدرته كسياسي ومحارب، وتنوه بالأخص بتقواه وورعه. وفائق رعايته للكنيسة، وشغفه بإنشاء الكنائس والأديار وتجميلها، والإغداق عليها، واهتمامه بنقل رفات القديسين من أراضي المسلمين إلى الأراضي النصرانية، وهي ترى على العموم أن مملكة قشتالة وليون المتحدة، قد وصلت في عهده إلى درجة من الاستقرار والأهمية والتفوق، لم تصل إليها من قبل قط (2).
_______
(1) راجع تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (ترجمة محمد عبد الله عنان) الطبعة الثانية ص 13 و 14.
(2) M.Lafuente: ibid, Vol.II.p. 485-488(2/387)
الفصل الثانِي
إسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول ألفونسو السادس وبداية عهد الإسترداد
تقسيم فرناندو للمملكة بين أولاده. غزو سانشو ملك قشتالة لنافار وهزيمته. غزوه لمملكة ليون. الحرب بينه وبين أخيه ألفونسو. هزيمة ألفونسو وأسره. فراره والتجاؤه إلى المأمون ملك طليطلة. المأمون يرحب به ويكرم وفادته. أقوال الرواية النصرانية في ذلك. ألفونسو يدرس خطط الاستيلاء على المدينة. تطور الحوادث. غرسية ملك جليقية واضطراب مملكته. استيلاء سانشو على جليقية والتجاء غرسية إلى ملك إشبيلية. استيلاء سانشو على تورو مدينة أخته إلبيرة. محاولته انتزاع سمورة من أخته أوراكا. مصرعه تحت أسوارها. استدعاء الأشراف لأخيه ألفونسو. مغادرة ألفونسو لطليطلة. عهده للمأمون بمسالمته وولده. تنويه الرواية النصرانية بكرم المأمون ونبله نحو مضيفه. مسير ألفونسو إلى برغش. حلفه ببراءته من مقتل أخيه. يغدو ملك قشتالة وليون وجليقية. يدبر كميناً لأخيه غرسية. مساعدة ألفونسو للمأمون ضد ابن عباد. وفاة ألمأمون وولاية حفيده القادر. ألفونسو يتحلل من عهوده ويضع الخطة للاستيلاء على طليطلة. إغارته على أراضيها وتخريبها. القادر يلتجىء لحماية ألفونسو ويؤدي له الجزية. قيام الثورة في طليطلة. فرار القادر. وعوده بمعاونة ألفونسو. المعتمد بن عباد وتحالفه مع ألفونسو. مضي ألفونسو في إرهاق طليطلة وافتتاحها الطابع الصليبي لهذا الفتح. طليطلة حاضرة اسبانيا النصرانية. الأسقف برنار عميد الكنيسة الإسبانية. مؤامرته لإزالة المسجد الجامع. تحويل الجامع إلى كنيسة جامعة. سقوط طليطلة وأثره في ميزان القوى. أثره في تحول ملوك الطوائف. موقعة الزلاقة وما بعدها. عود الطوائف إلى تفرق الكلمة. عدوان السيد والقشتاليين. عبور أمير المسلمين للمرة الثانية. حصار حصن لييط وما اقترن به من حوادث. إنسحاب المرابطين. محاولة ألفونسو الاستيلاء على بلنسية وفشله. انتصارات المرابطين في منطقة بلنسية. وفاة السيد واستيلاء المرابطين على بلنسية. إستيلاء ألفونسو على شنترين. موقعة إقليش. هزيمة القشتاليين ومقتل سانشو ولد ألفونسو. البابوية وتدخلها في اسبانيا. سعيها إلى فرض سيادتها الروحية. الأسقف برنار ودوره في ذلك. إسبانيا والحروب الصليبية. صفة الملك الوراثية. نظام الإقطاع وخواصه. تنظيم ألفونسو لأسس التشريع. ألفونسو ووراثة عرشه. مجلس ليون وقراراته في ذلك. مملكة أراجون. مملكة نافار. سانشو ملك نافار ومصرعه. سانشو راميرز ملك أراجون. استيلاؤه على منتشون وحصاره لوشقة. وفاته وقيام ولده بيدرو مكانه. سقوط وشقة. بيدرو الأول وصفاته. وفاته وقيام أخيه ألفونسو مكانه. إمارة برشلونة. الكونتات الفرنج. آل بوريل أمراء برشلونة. خلفاؤهم آل برنجير. رامون برنجير الكبير وأعماله. الصلات بين بني هود وآل برنجير. المستعين بن هود والكونت برنجير. رامون برنجير الثالث.(2/388)
- 1 -
عمد فرناندو قبيل وفاته إلى تقسيم مملكته الكبيرة بين أولاده الثلاثة، فاستدعى لذلك الغرض مجلساً من الأساقفة والأشراف (1064 م) وانتهى فيه إلى تقسيم المملكة على النحو الآتي غير معتبر في ذلك بما حدث من قبل حينما قسمت المملكة على يد أبيه سانشو الكبير.
فخص سانشو ولده الكبير بقشتالة، وحقوق الجزية على مملكة سرقسطة، وخص ألفونسو بليون وأشتوريش، وحقوق الجزية على مملكة طليطلة، وخص أصغرهم غرسية، بجليقية والبرتغال، وقد ضما إلى مملكة واحدة، وحق الجزية على مملكتي إشبيلية، وبطليوس، وأعطى حق الإشراف على الأديار في سائر المملكة لابنتيه دونيا أورّاكا، ودونيا إلبيرة، وخصت أوراكا بمدينة سمورة الحصينة، وخصت إلبيرة بمدينة تورو وأماكن أخرى على نهر دويرة.
ومن المحقق أن تقسيم المملكة الإسبانية على هذا النحو، بعد اتحادها في عهد فرناندو، كان عملا خاطئاً، وكان نذيراً بعود الحرب الأهلية. وقد استمر الوئام المكبوت بين الإخوة في ظل الملكة سانشا عامين آخرين، فلما توفيت في سنة 1067 م، بدت نذر الصراع الجديد واضحة في الأفق.
وكان سانشو، قبل أن تضطرم المعركة بينه وبين إخوته، قد وجه اهتمامه إلى ميدان آخر. وكان يحكم نافار يومئذ سانشو ابن عمه غرسية، ويحكم أراجون سانشو ابن عمه راميرو، ففكر سانشو ملك قشتالة أن يحاول الاستيلاء على مملكة نافار، أو ينتزع على الأقل أعمالها الواقعة على ضفة الإيبرو العليا. ولكن ملكا نافار وأراجون شعوراً منهما بنياته العدوانية، عقدا خلفاً لمقاومته. فلما سار لمحاربتهما، رداه بنجاح وهزماه في موقعة فيانا (سنة 1067 م). وكان من جراء ذلك أن فقد سانشو أراضي نافار التي كان قد أحرزها أبوه في موقعة أتابوركا. وفي العام التالي عقب وفاة الملكة سانشا، سار سانشو في قواته وهاجم أراضي مملكة ليون، فسار أخوه ألفونسو لرده، والتقى الاثنان في بلادنتادا على نهر بسيرجا (يوليه سنة 1068 م) فهزم ألفونسو، وارتد مسرعاً إلى ليون، واضطر أن ينزل لسانشو عن بعض الأراضي المجاورة لقشتالة.
ثم عاد سانشو فغزا مملكة ليون واخترقها حتى الغرب، ووقع اللقاء بين الأخوين هذه المرة في جولنجار أو جلبياريس، الواقعة على نهر كريون، فهزم(2/389)
القشتاليون. وفروا تاركين خيامهم، وأغضى ألفونسو عن مطاردتهم حقناً للدماء. وكاد سانشو يرتد أدراجه، لولا أن تقدم منه أحد فرسانه. ونصح له بأن يجمع جنده، ويعيد الكرة، في الفجر تحت جنح الظلام، بعد أن اطمأن الليونيون إلى نصرهم، وخبت همتهم، وكان صاحب هذا النصح هو الفارس ردريجو دياث. الذي عرف فيما بعد بالسيد، وهي أول مناسبة يردد التاريخ فيها اسمه. واستجاب سانشو لهذا النصح، فاستجمع جنده، وهجم في الفجر على الليونيين وهم نيام، فدب إليهم الاضطراب والذعر، وقتل الكثير منهم أثناء النوم، وفر ألفونسو، والتجأ إلى كنيسة بلدة كريون، فقبض عليه وزج إلى حصن برغش، ودخل سانشو بجيشه ظافراً إلى مدينة ليون (يوليه سنة 1071 م) وهنا تدخلت دونيا أوراكا، وكانت تحب أخاها ألفونسو، وسعت إلى إنقاذه من الأسر. فاستجاب سانشو إلى رجائها، وقبل الإفراج عن ألفونسو، بشرط أن يرتدي حلة الرهبان، وأن يقيم في دير ساهاجون، فاضطر ألفونسو إلى القبول، ولجأ إلى الدير، وهنا دبرت أخته أوراكا فراره من الدير، فسار إلى طليطلة والتجأ إلى ملكها، المأمون بن ذى النون (1). فاستقبله المأمون بمنتهى الترحاب والإكرام، وعامله كأخيه حسبما تقول الرواية النصرانية، وأنزله داراً بجوار قصره، وأعد كل ما يلزم لراحته، وخصص له داراً أخرى خارج المدينة ذات رياض وحدائق للتنزه فيها، والاجتماع بصحبه النصارى، ولاسيما مستشاره فرناندو أنسوريز، وكان يعيش معهم في أحسن الظروف وأكرمها (2).
وإليك كيف يصف الأستاذ بيدال استقبال المأمون لضيفه: " استقبل المأمون الملك المغلوب بإكرام، بعد أن قطع له العهود اللازمة لسلامته. وأنزله داراً ملحقة بالقصر الملكي ذاته، تشرف على تحصينات المدينة تجاه قنطرة " القنطرة ".
وهكذا كان الملك المنفي يعيش بعيداً عن ضجيج المدينة المسلمة، وكان بوسعه أن يتريض في حدائق الملك الشاسعة الواقعة في الناحية الأخرى من القنطرة داخل المنحنى الكبير الذي يحتضنه نهر التاجُه ".
_______
(1) لم يفت الرواية الإسلامية الإشارة إلى هذه الحوادث، وهي تسمى دير ساهاجون، " بسفقند ". راجع أعمال الأعلام ص 330.
(2) M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p, 396(2/390)
ويشير الأستاذ بيدال بعد ذلك إلى أقوال الرواية العربية عن فخامة قصر المأمون، وزخارفه البديعة وحدائقه الغناء، وروعة الحفلات التي تقام به، ومجالس العلماء الأعلام التي كانت تعقد به، وتجعل من طليطلة يومئذ مركزاً من أهم مراكز الثقافة الإسلامية. ثم يقول: " إن النفي الذي كان يعانيه ألفونسو بين هذه الفخامات كان كأنه مقصود من العناية، حسبما يقول لنا مؤلف " تاريخ سيلوس ".
كان ملك ليون المخلوع يختلط بالسكان المسلمين، ويتريض في جنبات المدينة الحصينة، ويفكر من أي الأماكن، وبأى نوع من أدوات الحرب يمكن اقتحامها " (1).
حرصنا على إيراد هذه الأقوال، لنستطيع أن نتأمل على ضوئها فيما بعد، تصرف ألفونسو السادس، نحو ولد حاميه والمحسن إليه، ونحو مملكة طليطلة.
ومما له مغزى عميق، ما يقصه علينا صاحب رواية دير سيلوس السالفة الذكر من أن ألفونسو، استمع ذات يوم، وهو متظاهر بالنوم، إلى حديث المأمون مع وزرائه في كيفية الدفاع عن طليطلة، واحتمال مهاجمة النصارى لها واستيلائهم عليها، وكيف يمكن ذلك وبأية وسيلة. وقد أجاب بعضهم أن النصارى لا يستطيعون الاستيلاء على مدينة بمثل هذه الحصانة، إلا إذا أنفقوا سبعة أعوام على الأقل، في تخريب أحوازها وانتساف مؤنها، ويضيف صاحب هذه الرواية، أن ألفونسو انتفع بوقته في دراسة خطط المدينة والاحتمالات التي تمكنه من تنفيذ مشروعه العظيم في الاستيلاء عليها (2).
وقضى ألفونسو في منفاه، ببلاط الملك المسلم، تسعة أشهر من يناير حتى أكتوبر سنة 1072، وهو مغمور بكرم مضيفه ورعايته، إلى أن شاءت الأقدار أن تتطور الحوادث في قشتالة، وأن يتألق نجمه مرة أخرى.
ذلك أن سانشو لم يقنع بما تم له من الاستيلاء على مملكة ليون، بل أراد ْأن ينزع أخاه الصغير غرسية مُلْك جليقية، وكان سير الحوادث في جليقية، مما يعاون على تحقيق غايته. ذلك أن غرسية أساء السيرة، وبالغ في إرهاق الشعب بالضرائب، وانصاع في ذلك لتوجيه وزيره وصفيه برتولا، وفوض إليه كل شىء في الدولة. فسخط الأشراف لذلك، ودبروا مقتل الوزير الطاغية بحضرة مليكه ذاته، فاستشاط غرسية غضباً، واشتد عسفه وكثرت
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 176 & 177
(2) M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 397(2/391)
مظالمه حتى ضاق به الشعب ذرعاً، فلما سار سانشو في قواته إلى جليقية، ألفى غرسية نفسه في مأزق حرج، ولم يستطع أن يحشد سوى قوة صغيرة، وأبى جيرانه المسلمون معاونته. والتقى بجيشه الصغير مع أخيه قرب شنترين، فهزم هزيمة شديدة، وقتل معظم أصحابه، ووقع أسيراً في يد أخيه، ولم يفرج عنه إلا بعد أن أقسم بالخضوع والطاعة، وعندئذ سار في نفر من صحبه إلى إشبيلية، والتجأ إلى أميرها (أواخر سنة 1071 م).
ولم يبق بعد ذلك خارجاً عن سلطان سانشو، سوى مدينتي سمورة، وتورو اللتين تحكمهما أختاه أوراكا وإلبيرة. وكان سانشو يحقد على أختيه لعطفهما على أخيه ألفونسو، ويخشى دسائسهما ومساعيهما الخفية، فعول على الاستيلاء على المدينتين، وحاول في البداية أن يحقق غرضه بالمفاوضة، فعرض على أختيه أن يعوضهما عن المدينتين بأملاك أخرى، فرفضتا ولم تحفلا بوعيده.
وعندئذ سار في قواته، واستولى أولا على قلعة تورو، ولم تبد صاحبتها إلبيرة كبير مقاومة، ولكن أوراكا صممت على الدفاع عن سمورة، معتمدة في ذلك على مناعة المدينة، وعلى معاونة طائفة قليلة من الجند المخلصين، وعلى رأسهم الفارس الباسل آرياس كونثالث. وحاول سانشو أن يقتحم المدينة أولا، ولكنها امتنعت عليه، فضرب حولها الحصار، واستمر حيناً، وهو يهاجمها من آن لآخر. وفي ذات يوم نفد إلى معسكره فارس، وطلب مقابلته لينبئه عن أحوال المدينة المحصورة. وما كاد الفارس يراه حتى طعنه بحربته وأرداه مضرجاً بدمائه، وفر إلى المدينة هارباً. ولم تكن هذه الجريمة بعيدة عن تدبير أخته الجريئة أوراكا، وكان ذلك في 6 أكتوبر سنة 1072 م.
وفي الحال سرى الذعر إلى المعسكر القشتالي، وانفض عنه الجند الليونيون والجلالقة، إذ كانوا يقاتلون رغماً عنهم، وحمل القشتاليون جثمان مليكهم القتيل، ودفنوه في دير " أونيا "، وهكذا سقط سانشو صريع أطماعه وبغيه، بعد أن حكم ثمانية أعوام فقط، وقد سمي بالقوي El Fuerte لجرأته وشجاعته.
واجتمع الأشراف في برغش، وأجمعوا على استدعاء ألفونسو ليتولى الحكم مكان أخيه، بشرط واحد هو أن يقسم بأنه لم يشترك بأي حال في تدبير مقتل أخيه سانشو، وبعثوا إليه رسلهم في طليطلة. وبعثت إليه كذلك أخته(2/392)
أوراكا، رسلها على عجل، بالخبر سراً، قبل أن يقف عليه المأمون بن ذى النون.
وهنا تختلف الرواية، فيقال إن ألفونسو حينما وقف على النبأ أخفاه عن المأمون، وحاول أن يغادر طليطلة خلسة، خشية أن يرغمه المأمون على أن يقطع عهوداً ضارة، ففطن المأمون إلى محاولته وأراد اعتقاله، ولكنه نجح في الفرار، وهذه رواية ضعيفة. والحقيقة، وهي ما تؤيده الروايات الوثيقة، هو أن ألفونسو أبلغ النبأ في الحال إلى المأمون، فأعرب له المأمون عن سروره وغبطته، وأبدى له استعداده لإمداده بكل ما يرغب من مال وخيل أو غيرها، ولم يطلب إليه سوى صداقته، وأن يقطع له عهداً بأن يحترم مملكته، وأن يعاونه ضد خصومه المسلمين، وأن يسرى هذا العهد بعد وفاته بالنسبة لولده الأكبر، فقطع له ألفونسو ما شاء من عهود، وقدم المأمون إليه طائفة من الهدايا الجليلة، وصحبه مع أكابر مملكته في موكب فخم حتى وصل إلى حدود بلاده (1).
يقول المؤرخ لافونتي: " وكان للمأمون ولد آخر أصغر من أخيه لم يشمله هذا العهد، لسبب لا نعرفه ". ثم يعلق فيما بعد على تصرف المأمون نحو ضيفه بقوله: " إن ما أغدقه المأمون على ألفونسو من ضروب الرعاية والإكرام وقت محنته، يباين كل التباين تصرف أخيه سانشو نحوه، فهذا يسجن أخاه في حصن أو دير. وهذا الأمير المسلم، يتلقاه في قصره، ويعامله كولده، ويخصص بستانه لرياضته. ولما خلا عرش قشتالة بممالكه الثلاث، عاون ألفونسو بكل سخاء وإكرام، ليسير إلى تلقى العروش التي كانت في انتظاره، ولم يطلب منه لقاء ذلك شيئاً سوى صداقته. إن تصرف المأمون على هذا النحو يكشف لنا عن العواطف الكريمة التي يجيش بها هذا الجنس العربي " (2).
- 2 -
سار ألفونسو إلى سمورة حيث اجتمع بأخته أوراكا، وبمن وافاه هنالك من الأساقفة والأشراف من ليون وجليقية، وبحث الوسائل التي تكفل له اعتلاء عرش قشتالة دون صعوبة. ذلك أن معظم الأشراف وأغلبية الشعب، كانت تنسب مقتل سانشو جهاراً إلى أوراكا، ناصحة ألفونسو، وملهمته، ومن ثم فإنه
_______
(1) راجع: M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p 398-400.
و R.M.Pidal: ibid ; p. 189 & 190
(2) M0Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 438(2/393)
لما وصل ألفونسو إلى برغش، واجتمع بأشراف المملكة وكبرائها، طلبوا إليه أن يقسم بأنه لم يشترك بأية صورة في تدبير مقتل أخيه سانشو. فنزل ألفونسو عند رغبتهم. بيد أنه لما انتظم الجمع في الكنيسة التي تقرر أداء القسم فيها، لم يجرأ أحد من الأشراف أن يتولى تحليف الملك، وعندئذ تقدم منه الفارس ردريجو دياث (السيد فيما بعد)، قائد أخيه سانشو ومستشاره، وتولى تحليفه اليمين بنفسه، فلما أداها، عقب ردريجو بقوله، إنه يطلب إلى الله، إن كان ألفونسو كاذباً، أن يسلط عليه خائناً يقتله كذلك الذي اغتال أخيه سانشو. وقد خلفت جرأة " السيد " هذه في نفس ألفونسو أثراً لا يمحى، ولم يصف قلبه لهذا الفارس فيما بعد قط، حسبما بينا من قبل في حياة السيد، وعلائقه مع مليكه ألفونسو (1).
وهكذا غدا ألفونسو ملك قشتالة، كما غدا من قبل ملك ليون وجليقية (ديسمبر سنة 1072 م)، وعادت المملكة الإسبانية الكبرى إلى تماسكها ووحدتها كما كانت في عهد أبيه فرناندو. ولم يمض قليل على ذلك، حتى عاد أخوه غرسية ملك جليقية السابق من منفاه في إشبيلية معللا النفس، بعوده إلى العرش، فدعاه ألفونسو بإشارة أختهما الماكرة أوراكا، إلى مقابلته للتفاهم، ولكنه ما كاد يصل إلى مكان اللقاء حتى قبض عليه، وزج إلى حصن " لونا " (فبراير سنة 1073 م) وهناك أنفق بقية حياته، سبعة عشر عاماً، حتى توفي سنة 1090 م.
وتحدثنا الرواية النصرانية، بأن ألفونسو ما كاد يعتلى العرش، حتى أراد أن يعرب عن عرفانه للمأمون بن ذى النون، وذلك بأن أعانه في حربه ضد ابن عباد، وأمده ببعض قواته، وسار معه إلى قرطبة وعاث في أحوازها، واستطاع المأمون بذلك أن يستولى على قرطبة. وربما كان ألفونسو قد أعان المأمون ببعض قواته في غاراته على قرطبة، ولكن المأمون استولى على قرطبة بطريقة أخرى دبرها مبعوثه حكم بن عكاشة (1075 م) حسبما فصلنا ذلك في موضعه، ولم يشترك القشتاليون في شىء من تلك الحوادث.
ولم تمض بضعة أشهر على ذلك حتى مرض المأمون وتوفي، فخلفه في حكم طليطلة، حسبما تقول الرواية النصرانية، ولده هشام القادر، والظاهر أن هشاماً هذا لم يحكم سوى بضعة أشهر ثم توفي، أو أنه خلع لشدة ولائه للنصارى، بيد أن
_______
(1) R M.Pidal: ibid ; p. 139 & 198. و M.Lafuente: ibid ; Vol. II.p. 404(2/394)
الرواية العربية، وهي أرجح في نظرنا، تقول إن الذي خلف المأمون، هو حفيده الملقب بالقادر (1)، وهو ما يدل على أن هشاماً توفي قبيل وفاة أبيه المأمون, وعلى أي حال فإن الرواية النصرانية، تحاول أن تلتمس من ذلك عذراً يقيل ألفونسو من العهد الذي قطعه لحاميه والمحسن إليه، بأن يصون مملكته وألا يعتدى عليها، لأن هذا العهد كان قاصراً على المأمون وابنه الأكبر. أما القادر فهو حفيده، وهو لم يدخل ذلك العهد (2).
والواقع أن ألفونسو السادس، لم يعد له شغل شاغل، مذ توفي المأمون، سوى غزو طليطلة، والاستيلاء عليها، بل إن هذا المشروع، يرجع حسبما تؤكده لنا ذلك رواية رهبان سيلوس، التي سبق ذكرها، إلى وقت إقامته بطليطلة، وانتهازه تلك الفرصة لدراسة خطط المدينة، ومواقع الضعف في تحصيناتها، وطرق مهاجمتها، وهي إقامة تقول لنا الرواية المذكورة كأنما اختارتها العناية.
ومن ثم فإن ألفونسو لم يتورع عن تنفيذ خطته، في غزو مملكة طليطلة وإرهاقها، فنراه منذ سنة 1078 م يحشد العدة والمؤن، ويغير على أراضي طليطلة ويعيث فيها سفكاً وتخريباً، وينتسف خضراءها وزروعها، وقد استمر على هذه الغزوات المخربة في الأعوام التالية، واستولى خلال ذلك على مدينة طلبيرة، ثم استولى على سائر المنطقة الواقعة بين طلبيرة ومجريط.
وفي خلال ذلك كان القادر يعاني في حكم مملكته صعاباً، ويسود الاضطراب في مدينة طليطلة، وتتوالى فيها الأحداث المزعجة على نحو ما فصلنا من قبل في أخبار مملكة طليطلة. ولما شعر القادر بأنه عاجز عن أن يواجه سيل هذه الغزوات المخربة، اضطر أن يلوذ بحماية ألفونسو، وأن يؤدي له الجزية، وأن يسلمه عدداً من الحصون القريبة من الحدود. كل ذلك وملك قشتالة مستمر في إرهاقه بطلب المال والأراضي، والقادر يواجه داخل طليطلة سخط شعبه وتبرمه.
وأخيراً اضطرمت طليطلة بالثورة، واضطر القادر أن يلوذ بالفرار، وأن يلتمس غوث ألفونسو وعونه على رده إلى عرشه، فأجابه ألفونسو إلى ما طاب تمكيناً
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 161، وأعمال الأعلام ص 179.
(2) M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 404(2/395)
لقبضته منه، وأمده بقوة من جنده، وأخضعت المدينة الثائرة، وجلس القادر على عرضها مرة أخرى، تحت ظلال الحراب النصرانية، وذلك في سنة 474 هـ (1081 م).
وهنا نضجت خطة ألفونسو في الاستيلاء على طليطلة، وأخذ يعد معداته الأخيرة. وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لما رأى اشتداد ساعد ألفونسو وغزواته الكاسحة نحو الجنوب، وخشى أن يتحول نحوه هذا التيار المخرب، وأن ينزعه ألفونسو، ما استولى عليه من أراضي طليطلة الجنوبية، قد عقد معه حلفه المشهور الذي يتعهد فيه بأداء الجزية، وبأن يترك ألفونسو حراً في مشروعه ضد طليطلة، ويتعهد ألفونسو من جانبه بأن يساعده على سائر أعدائه المسلمين، وهو الحلف الذي زعمت التواريخ النصرانية، بأن المعتمد قد رأى أن يدعمه بتقديم ابنته " زائدة "، زوجاً لألفونسو. وهي قصة أثبتنا بطلانها وسخفها فيما تقدم من أخبار المعتمد.
وشعر ألفونسو بحق أن طليطلة قد أضحت تحت رحمته، ولم يبق عليه إلا أن يتم خطته التمهيدية من تخريب أراضيها وإعدام أقواتها، وقد استمر على تنفيذ هذه الخطة المدمرة زهاء أربعة أعوام، مذ عاد القادر إلى عرشه في سنة 1081 م، كل ذلك وملوك الطوائف جميعاً إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم، يشهدون اقتراب النكبة جامدين، إما بدافع الأثرة والخوف أو عدم الاهتمام والتخاذل، حتى حم القضاء، وسقطت المدينة الأندلسية التالدة في يد ألفونسو السادس في فاتحة شهر صفر سنة 478 هـ (25 مايو 1085 م). وقد سبق أن تناولنا حوادث سقوط طليطلة وما تلاه، مفصلة في أخبار مملكة بني ذى النون، فلا حاجة بنا إلى التكرار، وإنما نود فقط أن ننوه هنا بالطابع الصليبي لحصار طليطلة وافتتاحها، فقد اشترك فيه إلى جانب جنود قشتالة وليون، جند من أراجون، ومتطوعون ومغامرون من فرنسا وغيرها، قدموا للاشتراك في مشروع يهم النصرانية كلها.
وقد عادت طليطلة منذ افتتاحها عاصمة لإسبانيا النصرانية، كما كانت أيام القوط، وردت إليها صفتها القديمة كمركز رئيسي للكنيسة الإسبانية، وهي ما تزال تحتفظ حتى يومنا بهذه الصفة، وعين لرياستها الأسقف برنار الفرنسي، عميد دير(2/396)
ساهاجون، وذلك بنفوذ الملكة كونستانس، وهي فرنسية برجونية الأصل.
وكان لتعيين هذا الراهب لرياسة الكنيسة الإسبانية، تأثير شديد في تطور طقوسها وتقاليدها.
وكان من أول الأعمال التي دلت على بغيه وتعصبه، اعتداؤه على مسجد طليطلة الجامع. وكان من عهود التسليم التي قطعها ألفونسو على نفسه، أن يحتفظ المسلمون بمسجدهم الجامع لأداء شعائرهم إلى الأبد. بيد أنه ما كاد يمضي شهران على التسليم، حتى دبر هذا القس بتحريض الملكة كونستانس المتعصبة مؤامرته لإزالة الجامع.
وكان رجال الدين من النصارى يغصون بالأخص بعظمة الجامع وروعته، هذا بينما كانت كنائس المدينة كلها صغيرة متواضعة. وعبثاً حاول الكونت ششنندو حاكم المدينة أن يثني القس عن غيه، وأن يبين له سوء العاقبة في مخالفة العهود المقطوعة على هذا النحو. وانتهز برنار فرصة غياب الملك في ليون، واقتحم الجامع في جمع من الفرسان وحطم المحراب، وأمر بإقامة الهياكل. وفي اليوم التالي عقد بالجامع قداساً حافلا، فهاج المسلمون وماجوا، ولولا وجود حامية قشتالية كبيرة بالمدينة لاستحال هياجهم إلى ثورة مدمرة. وعلم الملك بذلك الحادث، فارتد من ليون على عجل، وهو يضطرم غيظاً وسخطاً، إذ كان من سياسته أن يحترم العهود المقطوعة ولو إلى حين، تفادياً من سخط المسلمين، واضطرام القلاقل. وتظاهر الملك بأنه سوف يعاقب القس والملكة بالحرق، وعندئذ تدخل المسلمون والتمسوا إليه العفو عنهما، ولعلهم كانوا يأملون بذلك أن ويستردوا جامعهم. ولكن هذا الأمل الخلاب لم يتحقق، واستمر العمل في تحويل الجامع إلى كنيسة جامعة. وفي يوم الأحد 18 ديسمبر سنة 1085 (15 شعبان سنة 478 هـ) دشنت الكنيسة الجديدة في حفل ضخم شهده الملك والأشراف ورجال الدين، وانتخب فيه برنار مطراناً (1).
_______
(1) ورد تاريخ تحويل جامع طليطلة إلى كنيسة في أوراق مخطوطة لم تنشر من كتاب البيان المغرب لابن عذارى، عثر بها الأستاذ ليفي بروفنسال ونقله العلامة الأستاذ بيدال في كتابه La Espana del Cid ( ص 307 و 308). وقد تناول ابن بسام حادث تحويل الجامع إلى كنيسة في عبارته المسجعة (الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 131 و 132، ولكنه وهم في تاريخ الحادث فجعله في ربيع الأول سنة 498 - 1104 م، وربما كان ذلك راجعاً إلى تحريف في المخطوط إذ وضعت عبارة سنة " ثمان وتسعين وأربعمائة "، وهي في الحقيقة " ثمان وسبعين ".(2/397)
- 3 -
كان الاستيلاء على طليطلة بلا مراء أعظم أعمال ألفونسو السادس، بل كان أعظم عمل قام به ملك نصراني، مذ قامت المملكة الإسبانية النصرانية في شبه الجزيرة في أواخر القرن الثامن الميلادي.
وقد كان لسقوط طليطلة أعمق الآثار في ميزان القوى في شبه الجزيرة، وبه توج تفوق اسبانيا النصرانية السياسي والعسكري، واتخذ ملك قشتالة على أثره لقب الإمبراطور، ودخلت سياسة الإسترداد Reconquista في طور جديد يبدأ من الناحية الأخرى من نهر التاجُه. بيد أنه كان من آثاره أيضاً أن استيقظت اسبانيا المسلمة من سباتها، وأدرك ملوك الطوائف، حقيقة موقفهم، وعاقبة بغيهم واستهتارهم، وخطورة تنابذهم وتفرقهم، وشعروا بخطر الفناء يهدد مصايرهم جميعاً، وجنحوا عندئذ إلى الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر، وكان أن استجاب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى صريخهم، وعبر إلى شبه الجزيرة في جيوشه المرابطية. وفي ذلك الوقت بالذات كان ألفونسو، عقب استيلائه على طليطلة، قد سار إلى سرقسطة وحاصرها، ليرغم أميرها المستعين بن هود على دفع الجزية، فلما سمع بمقدم المرابطين، غادرها مسرعاً إلى الأندلس ليلقى أعداءه الجدد. ثم كانت موقعة الزلاقة (رجب 479 هـ - أكتوبر سنة 1086 م) وإحراز الجيوش الإسلامية المتحدة لنصرها الباهر على الجيوش النصرانية المتحدة، وسحق قوات ألفونسو السادس، وانسحابه في فلوله القليلة مهيضاً مغلوباً، وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه بإفاضة.
بيد أن يوسف اضطر عقب الموقعة أن يغادر الأندلس إلى المغرب لوفاة ولده وخلفه الأمير سير. وتنفس ألفونسو الصعداء حيناً، وأخذ يجمع أشتات جيشه من جديد، ووفد عليه عندئذ سيل من المتطوعة النصارى النورمان والفرنسيين وغيرهم، شعوراً منهم بطابع المعركة الصليبي، ولم يمض سوى قليل، حتى استرد ألفونسو ثقته بنفسه، وشعر أنه يستطيع لقاء أعدائه في الميدان من جديد، وكان ابن عباد وغيره من أمراء الطوائف قد انتعشوا عقب نصر الزلاقة، وأغار المعتمد بقواته على أراضي طليطلة، وانتزع منها عدة أماكن.
بيد أن أمراء الطوائف لبثوا مع ذلك على تنابذهم وتفرقهم، يتربص كل بأخيه،(2/398)
ولم يستطيعوا أن يؤلفوا من أنفسهم جبهة متحدة ضد النصارى. ومن ثم فقد استمر السيد إلكمبيادور في عيثه ومغامراته في منطقة بلنسية، واستمر القشتاليون من قاعدتهم المنيعة في حصن لييط (أليدو) الواقع بين مرسية ولورقة، وهو الذي ابتنوه قبل ذلك ببضعة أعوام، يرهقون هذه المنطقة بغاراتهم المتوالية. وعلى ذلك فقد استصرخ أمراء الطوائف، أمير المسلمين للعبور إليهم وإنجادهم مرة أخرى.
وعبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1089 م)، وانضم إليه ابن عباد صاحب إشبيلية، والمعتصم صاحب ألمرية، وتميم بن بلقين، صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، وابن رشيق صاحب مرسية، كل في قواته، وهم الذين تقع أملاكهم جميعاً في شرق الأندلس (1) وتعرض لعدوان القشتاليين في تلك المنطقة. وضرب المسلمون الحصار حول حصن لييط، وكان يدافع عنه ألف فارس واثنا عشر ألف راجل من النصارى، ولكن الحصن كان في منتهى المناعة، فلم تنجح آلات الحصار الضخمة في هدمه أو ثلم أسواره، وطال الحصار زهاء أربعة أشهر، والقوات المحاصرة تحاول اقتحامه، كل جماعة بدورها، والنصارى صامدون، يتساقطون داخل حصنهم من الجوع والإعياء. وفي أثناء ذلك كان الخلاف والوقيعة على أشدهما بين أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، ولاسيما بين ابن عباد وابن رشيق، فقد شكا ابن عباد، ابن رشيق لأمير المسلمين، واتهمه باغتصاب ولاية مرسية منه، وأنه تفاهم سراً مع ألفونسو، ودفع جبايتها إليه. واقتنع أمير المسلمين بوجاهة هذه الشكوى، واستفتى الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر بتسليمه لابن عباد على شرط أن يبقي على حياته. وكان لهذا الحادث أسوأ الأثر في المعسكر المحاصر، فإن قادة مرسية، ومعظمهم من قرابة. ابن رشيق وصحبه، غادروا المحلة في جندهم غاضبين، وقطعوا المؤن التي كانت ترسل إلى المحاصرين من مرسية وأحوازها، فاختل أمر المعسكر، وعمه الضيق والغلاء. وعلم أمير المسلمين من جهة أخرى أن ملك قشتالة، يسير في قوة كبيرة لإنجاد حصن لييط، فآثر الانسحاب وعدم التعرض للقشتاليين. وقدم ألفونسو إلى الحصن، فلم يجد به من المدافعين سوى مائة فارس وألف راجل قد برح بهم الجوع، ولما رأى
_______
(1) يلاحظ أن المعتمد ابن عباد كان يدعى حق السيادة على مدينة مرسية منذ افتتحها ابن عمار وابن رشيق باسمه وبمعاونة جنده.(2/399)
أنه لا فائدة من الاحتفاظ به، وأنه يقتضي لذلك حامية كبيرة، أخلاه وقوض أسواره وعاد أدراجه، وذلك في سنة 1089 م (482 هـ). وترك أمير المسلمين في شرق الأندلس قوة كبيرة، بقيادة ولده الأمير ابن عائشة، ليقوم بافتتاح مرسية وبلنسية، والقضاء على سلطان " السيد " في تلك المنطقة، وعاد إلى المغرب، وقد تغيرت نفسه على أمراء الأندلس، لما رآه من اختلال أحوالهم، وسوء تصرفاتهم، ووضيع أهوائهم وأطماعهم (1).
وخاض ألفونسو بعد ذلك ضد المسلمين عدة وقائع أخرى، ففكر في الاستيلاء على بلنسية لكي يحرم " السيد " من الاستيلاء عليها، وسار إليها بالفعل وحاصرها في سنة 1092 م (485 هـ)، معتمداً في ذلك على معاونة سفن جنوة وبيزة اللتين عقد معهما حلفاً لهذا الغرض، ولكنه فشل في مشروعه، وأرغم على ترك الحصار حينما عاث السيد في أراضي قشتالة. ثم استولى السيد بعد ذلك على بلنسية (1094 م)، ولم يمض سوى قليل حتى سار المرابطون لإنقاذها وضربوا حولها الحصار، وسار جيش مرابطي آخر إلى أحواز طليطلة وعاث فيها وهزم القشتاليين، وسار جيش ثالث إلى قونقة وهزم قوات ألفونسو التي يقودها ألبارهانيس. في خلال هذه الوقائع التي رجحت فيها كفة المرابطين على قوات ألفونسو السادس، توفي " السيد " خلال حصار بلنسية، واستغاثت زوجه خمينا بألفونسو، فسار إلى بلنسية ودخلها في مارس سنة 1102، ولم يعترض المرابطون سبيله استعداداً للموقعة الحاسمة. ولكنه لما رأى ضخامة الجيوش المرابطية، خشى العاقبة، وغادر بلنسية مع خمينا وسائر القوات النصرانية، ودخلها المرابطون في شهر مايو سنة 1102 م (495 هـ)، كل ذلك حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة بلنسية.
وسار ألفونسو في قواته إلى مدينة شنترين من أعمال ولاية الغرب واستولى عليها سنة 1093 م (486 هـ). وقد وقع ذلك فيما يبدو خلال غزو المرابطين لمملكة بطليوس، التي كانت شنترين من أعمالها، ونحن نعرف أن بطليوس سقطت في أيدي المرابطين في صفر سنة 487 هـ (مارس 1094 م).
_______
(1) راجع في حصار حصن لييط، الحلل الموشية ص 49 و 50، وروض القرطاس ص 99، وكتاب التبيان للأمير عبد الله ص 110 - 113، وأعمال الأعلام ص 247. وراجع أيضاً Dozy: Histoire ; V.III.p. 139 & 140 و R.M.Pidal: ibid ; p. 364, 365 & 409(2/400)
وكانت آخر معركة هامة خاضها ألفونسو السادس مع المسلمين هي موقعة إقليش، وكان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قد توفي يومئذ (سنة 500 هـ) وخلفه ولده على. وقد عبر عقب توليته إلى شبه الجزيرة الإسبانية في أوائل سنة 1108 م (501 هـ) معتزماً أن يستأنف الجهاد ضد النصارى، وعهد بالقيادة إلى أخيه الأكبر تميم أبي الطاهر، فسار الأمير تميم في جيش ضخم، واخترق أراضي قشتالة، ولكن حالت دون تقدمه قلعة إقليش Uclés المنيعة، فضرب حولها الحصار في الحال، فبعث ألفونسو، وقد عاقته الشيخوخة عن أن يقود جيشه بنفسه، قواته لإنجادها، وبعث معها ولده الوحيد سانشو وهو الذي رزق به من " زائدة " حظيته أو زوجه المسلمة المتنصرة، لكي يثير حماسة الجند، وكان صبياً في الحادية عشرة من عمره. ووقعت بين المرابطين وبين القشتاليين أمام حصن إقليش موقعة شديدة، حدث خلالها أن ازدلف الأمير الصبي إلى قلب المعمعة، وشاء القدر أن تصيبه طعنة قاتلة، وقتل معه مؤدبه الكونت غرسية دي قبره مدافعاً عنه، فدب الخلل إلى الجيش القشتالي وركن إلى الفرار، وقتل المرابطون منه مقتلة عظيمة، يقدر من زهق فيها بنحو عشرين ألفاً (29 مايو سنة 1109 م) (1). وكان نصراً عظيماً أعاد ذكريات الزلاّقة، وكان أشد ما فيها وقعاً في نفس الملك النصراني، فقده لولده الوحيد وولي عهده، وانقطاع نسله بذلك. والواقع أن ألفونسو لم يعش طويلا بعد هذه الصدمة المؤلمة، فتوفي في 29 يونيه سنة 1109 م، بعد أن حكم المملكة النصرانية المتحدة سبعة وثلاثين عاماً، وحوادث المرحلة الأخيرة من حياته أكثر ارتباطاً بتاريخ المرابطين، ولكننا حرصنا على استعراضها بإيجاز، استكمالا لسياق الحوادث.
ولابد لنا قبل أن نختتم الكلام على عهد ألفونسو السادس، أن نتحدث عن أعماله وإصلاحاته الداخلية، وقد شملت هذه الإصلاحات جوانب هامة في بناء المملكة النصرانية والمجتمع الإسباني، وذلك من الناحيتين الدينية والدنيوية. ففي أواخر القرن الحادي عشر، وفي عهد ألفونسو السادس بالذات، نوضع الأسس الأولى، لنفوذ البابوية وسلطانها على اسبانيا والملوكية الإسبانية، وهو سلطان تأثل بمضي الزمن، وما زال يحتفظ حتى اليوم بكثير من رسوخه
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 104. وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ ص 117 و 118.(2/401)
وقوته. وقد توالت بعثات الكرسي الرسولي إلى الملوك الاسبان في هذا العهد، تسعى إلى فرض سيادته الروحية، وإلى إلغاء الطقوس القوطية المنسوبة للقديس إسيدورو واستبدالها بالطقوس الرومانية. وبذل دير ساهاجون البندكتي، ورئيسه الراهب برنار الفرنسي عندئذ، أعظم الجهود لتحقيق أغراض البابوية.
وقد سبق أن أشرنا إلى الدور الذي قامت به الملكة كونستانس زوجة ألفونسو الأولى، وهي فرنسية من بيت برجونية، في تأييد الراهب برنار واختياره مطراناً للكنيسة الإسبانية، عقب افتتاح طليطلة. وحصل برنار بعد ذلك على مرسوم بابوي بتعيينه في ذلك المنصب الخطير، ووضع في معظم الأسقفيات رجالا من مواطنيه، وملأ دير ساهاجون بالرهبان الفرنسيين، وذلك رغم مناوأة الأحبار الإسبان وسخطهم. وهكذا استطاعت البابوية أن تفرض رياستها الروحية على اسبانيا، وبالرغم من أن ألفونسو كان يعارض كثيراً من الرغبات البابوية، فإنه كان يجل الكرسي الرسولي ويوليه أعظم مقام.
وفي عهد ألفونسو أيضاً وقعت حوادث الحرب الصليبية الأولى بالمشرق، ولكن البابا أوربان الثاني أصدر مرسوماً يحرم على الإسبان أن يشتركوا في هذه الحرب الصليبية، لأن أعداء النصرانية، أعني المسلمين، يهددونهم داخل أرضهم، ولأن لديهم في شبه الجزيرة وقوداً كافياً لإضرام نار الحرب المقدسة، وكانت ظروف الحرب المستمرة بين النصارى والمسلمين، قد حملت رجال الدين أنفسهم على أن ينزلوا هذا الميدان، فكان شأنهم شأن الأشراف والكونتات يسيرون في معظم الأحيان مع الملك، ويقاتلون في الصفوف، بل ويقودون الحملات أحياناً.
وقد كان الملك وراثياً في قشتالة فقط. أما في باقي الممالك النصرانية، فكان المفروض أن يختار الأشراف مليكهم، وكان الملك في سائر الممالك الإسبانية، يجمع بين سلطات الحرب والسلم، وقيادة الجيوش، ورياسة القضاء، يعاونه في ذلك رهط من رجال الخاص Palatini، وكانت أسماء المناصب معظمها مشتق من النظم القوطية.
وكان نظام الإقطاع ما يزال عندئذ متغلغلا في تكوين المجتمع الإسباني، ويقوم على مراتب متعددة، أرفعها مرتبة الدوق أو الوالي، وهو الذي يُقطع(2/402)
ولاية بأسرها مثل جليقية أو أشتورية. وتليها مرتبة الكونت أو القومس، وهو الذي يُقطع منطقة معينة، ثم أصحاب المنح الصغيرة، وهم البارونات أتباع القومس.
وكان هذا النظام عسكرياً، في جوهره، تقترن مراتبه المدنية بالرتب العسكرية، فالدوق يتولى قيادة جيش الولاية، ويقود القومس فرقته، وتتكون من البارونات فرق الفرسان، والفارس هو أدنى مراتب النبل، بيد أن الفرسان كانوا قوام الجيش، وعليهم تتوقف مصاير الحرب، وكان الجند المشاة يتكونون من أتباع البارونات، ومن حشم الدوقات والقوامس.
وكان العرش يخوض معارك دائمة مع أولئك النبلاء الإقطاعيين، وكان يضطر في أحيان كثيرة إلى مهادنتهم والإذعان لمطالبهم، فكانوا بذلك يفوزون بالولايات والرياسات رغم إرادة العرش.
وإلى جانب ذلك كان يقوم هيكل الإقطاع الزراعي على نفس الأسلوب المتدرج، فيقطع كبار الملاك المزارعين الأحرار، أجزاء من الأرض يزرعونها على أن يؤدوا للمالك نصف الدخل أو ثلثه على الأقل، ولم تكن هذه المنح الزراعية تحدد بوقت معين، بل كان الزارع يعتبر نفسه مالكاً للأرض، ثم تؤول من بعد وفاته إلى أولاده يزرعونها بنفس الطريقة، بيد أنه كان ملزماً بالإقامة فيها، فإذا غادرها إلى ناحية أخرى فقد الحق في استغلالها.
وكان عدد الأرقاء في ذلك العصر، الذي كثرت فيه الحروب، وكثر فيه السبي والأسر كثيراً، وكانت هذه الجماهير الغفيرة من المسلمين الذين يؤسرون في الغارات أو الحروب المختلفة التي تشنها الجيوش النصرانية على الممالك الأندلسية، يقضي عليهم دائماً بالرق، ويلزمون بأشق الأعمال الزراعية وغيرها، ولا يمنحون الحرية إلا باعتناق النصرانية.
وأما عن التشريع، فقد نظم ألفونسو السادس العدالة، وألغى حق " القوة " وهو العرف الذي كان يسمح للقوي بأن يقتضي بنفسه وبالعنف ما يزعم أنه حق له وفرض على الدوقات والقوامس، أن يعاقبوا مرتكبي الجرائم، فوضع بذلك حداً لجرائم الفرسان الناهبين، وعيث القتلة واللصوص في سائر أنحاء المملكة.
وكان يشترك في وضع القوانين عظماء المملكة وأكابر رجال الدين الأشراف، وتعقد اجتماعاتهم عندئذ في صفة هيئة تشريعية أو برلمان " كورتيس " Cortes،(2/403)
تحت رياسة الملك، وكان القانون العام المطبق في ذلك العصر هو القانون القوطي (قانون ألاريك) معدلا بما صدر من تشريعات جديدة كانت تعرف " بالقوانين الطيبة " Buenos Fueros. وكان من المقرر أن كل إنسان حر في أن يدافع عن نفسه أمام القضاء، وله أن يختار محامياً أو وكيلا للدفاع عنه. أما اليهود فلم يكن لهم حق الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وفقاً لقانون أصدره ألفونسو. وأخيراً فقد كان الميراث يجري أيضاً وفقاً للقانون القوطي، وهو يسوي في الحقوق بين البنين والبنات.
وكانت وراثة العرش أهم مشكلة واجهت ألفونسو قبل موته، فهو لم ينجب من زوجاته المتواليات من البنين سوى ولده سانشو، ولد زوجته أو حظيته زائدة المسلمة التي تنصرت باسم ماريا أو اليزابيث، والتي أتينا على قصتها فيما تقدم من أخبار بني عباد. وقد قتل هذا الإبن حسبما أسلفنا في موقعة إقليش، فعندئذ اعتزم ألفونسو أن يسند وراثة عرشه إلى ابنته أورّاكا، التي كان قد رزق بها من زوجته الملكة كونستانس الفرنسية، وزوجت بالكونت ريموند البرجوني عند مقدمه إلى اسبانيا. ثم توفي وترك لها ولداً، هو ألفونسو ريمونديس. ولكنه رأى أن يقوي جانب العرش، ووحدة المملكة، بتزويجها من ألفونسو الأول ملك أراجون ونافار، فاستدعى نواب المملكة (الكورتيس) إلى الاجتماع في ليون، ومثل فيه الأشراف والأساقفة وحكام الولايات ورجال الدين والفرسان، وأصدر قراراته بشأن وراثة العرش، وخلاصتها أن تكون أوراكا وارثة لعرش قشتالة وليون وأشتوريش، وأن يمنح ولدها ألفونسو ريمونديس مملكة جليقية، مع بقائها تحتت سلطان قشتالة، وأن يمنح الكونت هنري صهر ألفونسو إمارة البرتغال كتابع لعرش قشتالة، فإذا لم تعقب أوراكا من زواجها بألفونسو ملك أراجون، فإن المملكة كلها تؤول إلى ولدها ألفونسو ريمونديس أعني إلى حفيد ألفونسو السادس. وعهد بتربية الطفل الملكي إلى عمه أسقف فيين، والكونت ترافا، ومنح إمارة جليقية، تحت وصايتهما، على أن تكون له دون نقض أو رجوع. (1)
_______
(1) رجعنا في تلخيص أعمال ألفونسو وإصلاحاته الداخلية إلى " تاريخ المرابطين والموحدين " لأشباخ (ص 120 - 135).(2/404)
نافار وأراجون
رأينا في بداية هذا الفصل كيف هلك غرسية ملك نافار في موقعة أتابوركا التي نشبت بينه وبين أخيه فرناندو (سنة 1054 م)، وكيف اختار فرناندو مع ذلك سانشو ولد أخيه الملك القتيل ليخلفه على عرش نافار، على أن يكون تحت طاعته.
وكان يحكم أراجون في ذلك الوقت، الملك راميرو بن سانشو الكبير، وكان في بداية حكمه قد حاول غزو مملكة نافار وانتزاعها من يد أخيه غرسيه، ولكنه هزم كما رأينا، ومزق جيشه، واضطر أن يلجأ إلى السكينة حيناً ليعني بتنظيم شئونه والنهوض من عثاره. ولما قتل أخوه غرسية، وتولى ولده سانشو الحكم مكانه، لبث محافظاً على حياده وسكينته نحو جارته نافار، ولكنه وجه عدوانه نحو مملكة سرقسطة، وحاول غزوها، فاستنصر أميرها المقتدر بن هود، بفرناندو ملك قشتالة، فأمده ببعض قواته، ونشبت بين الفريقين في جرادوس معركة هزم فيها راميرو وقتل (1063 م).
فخلفه على عرش أراجون ولده سانشو، المعروف بسانشو راميرز. ولما توفي فرناندو ملك قشتالة حاول ولده سانشو أن يستولي على مملكة نافار، وكان شانشو ملك نافار، شعوراً منه بأطماع ملك قشتالة، قد عقد حلفاً مع جاره سانشو راميرز، فلما سار سانشو لمحاربتهما، استطاعا أن يقفا في وجهه، وأن يهزماه في موقعة فيانا (1067 م).
واستمر سانشو ملكاً على نافار اثنين وعشرين عاماً، وفي عهده توطد مركز نافار بين جيرانها، وأقر المقتدر بن هود صاحب سرقسطة لها بدفع الجزية في سنة 1069 م، وعقد مع سانشو حلفاً لمعاونته في حربه ضد خصومه سواء من المسلمين أو النصارى. وجدد هذا التحالف في سنة 1073 م. ولم يمض قليل على ذلك حتى قتل سانشو في كمين دبره أخوه ريموند وأخته أرمزندة، وذلك في سنة 1076 م، فسخط الشعب النافاري لتلك الجريمة أيما سخط، واستدعى سانشو راميرز ليعتلي عرش نافار. ولكن ريموند استغاث بألفونسو ملك قشتالة، فسار إلى نافار من ناحيتها الغربية، وسار إليها سانشو راميرز من ناحيتها الشرقية، وتفاهم الملكان على اقتسامها، بالرغم من وجود ولدى الملك القتيل القاصرين.(2/405)
فاستولى سانشو على الجزء الواقع في منطقة البرنيه، وفيه العاصمة بنبلونة، واستولى ألفونسو على القسم المحاذي لنهر إيبرو، وبذلك اختفت مملكة نافار المستقلة إلى حين، بعد أن استطاعت أن تذود عن استقلالها عصوراً بإصرار وبسالة، ونمت مملكة أراجون، واتسعت رقعتها اتساعاً كبيراً، وبدأت تلعب دورها العظيم في شمال شرقي الجزيرة الإسبانية.
واتجهت أطماع سانشو راميرز بالأخص إلى جارته الإسلامية الجنوبية، أعني مملكة سرقسطة، فقام بمحاصرة مونتشون وأخذها في سنة 1089 م، ثم سار لحصار وشقة أمنع قواعد مملكة سرقسطة الشمالية وحاصرها، ولكنه توفي بعد قليل تحت أسوارها، فتابع ولده وخلفه بيدرو الأول الحصار، واستغاث المستعين بملك قشتالة فأمده ببعض قواته، وسار لإنجاد المدينة المحصورة، ووقعت بينه وبين بيدرو معركة شديدة في الكرازة، فهزم المستعين وحلفاؤه القشتاليون هزيمة شديدة، وسقطت وشقة بعد ذلك بأيام قلائل في نوفمبر سنة 1096 م (489 هـ) حسبما فصلنا ذلك من قبل في موضعه من أخبار مملكة سرقسطة.
وفي العام التالي سار بيدرو في قواته لمعاونة حليفه السيد إلكمبيادور ضد المرابطين، ووقعت الهزيمة على المرابطين في " مندير " قرب بلنسية.
واستمر بيدرو الأول على عرش أرجون حتى وفاته سنة 1105 م، وكان ملكاً شجاعاً مقداماً، وهو الذي مهد بافتتاحه لوشقة وبربشتر إلى القضاء على مملكة سرقسطة، وسقوطها فيما بعد في يد أخيه وخلفه ألفونسو، وكان ورعاً متعصباً، لا يكاد يفتح مدينة إسلامية، حتى يحول في الحال مساجدها إلى كنائس، ويغدق الصلات الوفيرة على الكنائس والأديار. ولما كان ولده الوحيد قد توفي قبل وفاته، فقد خلفه على عرش أراجون أخوه ألفونسو الأول الأرجوني المعروف بالمحارب، وهو الذي قدر له، فيما بعد بزواجه من أورّاكا ابنة ألفونسو السادس ملك قشتالة، أن يحكم سائر الممالك الإسبانية، وأن يغدو من أعظم ملوك اسبانيا.
إمارة برشلونة
إلى جانب الممالك الإسبانية النصرانية، التي تقوم في النصف الشمالي من شبه الجزيرة الإسبانية، كانت تقوم في الركن الشمالي الشرقي مما يلي جبال البرنيه،(2/406)
إمارة نصرانية أخرى، هي إمارة أوكونتية برشلونة. ونحن نعرف أن برشلونة كانت أول ثغر عظيم يفقده المسلمون في شمالي شبه الجزيرة، وقد افتتحها شارلمان (كارل الأكبر) في سنة 185 هـ (801 م) أيام الحكم بن هشام، وجعلها قاعدة الثغر القوطي أو الثغر الإسباني، الذي أنشأه فيما وراء البرنيه، حماية لحدود فرنسا الجنوبية. وكان ملوك الفرنج يعينون حكام هذا الثغر في البداية من الأشراف أو الكونتات الذين ينتمون إلى أصل قوطي أو فرنجي. ولما ضعفت مملكة الفرنج وتخلت عن حماية الثغر وإمداده، وشعر أولئك الكونتات بقوتهم، ونأيهم عن الحكومة المركزية، أعلنوا استقلالهم، وانقسم الثغر إلى عدة إمارات أوكونتيات صغيرة كان أهمها إمارة برشلونة. وكان يحكمها في أواخر القرن العاشر آل بوريل، وفي عهدهم غزاها المنصور بن أبي عامر، واقتحمها وخربها، وذلك في سنة 375 هـ (985 م)، ولكنه لم يحاول الاحتفاظ بها. ولما سقطت الدولة العامرية واضطرمت الفتنة في قرطبة، سعي واضح الصقلبي في الاستعانة بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل، وزميله كونت أرقلة، فسار معه لمقاتلة البربر لقاء أموال جزيلة، واشترك إلى جانب المهدي محمد بن هشام في المعارك التي وقعت يومئذ (400 هـ - 1010 م). ومنذ أوائل القرن الحادي عشر نرى برشلونة تحت حكم آل برنجير، وقد حكمها مؤسس هذه الأسرة الكونت رامون برنجير الكبير من سنة 1035 إلى سنة 1076 م، وفي عهده اتسعت رقعة الإمارة، وضمت إليها أرقلة وشرطانية (1)، ثم ضم إليها ولاية قرقشونة الفرنجية، في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، وذلك بشرائها من ابنتى صاحبها الكونت روجر الثالث. وكان لضم هذا الجزء من أراضي لانجدوك إلى إمارة برشلونة نتيجة هامة، هي إعادة الصلة بين الثغر القوطي القديم، وجنوب فرنسا، والتمهيد بذلك لنزوح الفرسان الفرنج المغامرين، الذين تحدوهم روح صليبية، ويحدوهم البحث وراء طالعهم، والتحاق جموع كبيرة منهم بالجيوش النصرانية التي تقاتل المسلمين في شبه الجزيرة.
وكان من أهم أعمال الكونت برنجير الأول، هي إصلاحاته القضائية، فقد استدعى في سنة 1068 م جمعية من الكبراء في برشلونة، وأصدر هذا البرلمان قانوناً جديداً سمي " بعرف برشلونة " Usages de Barcelona ليطبق إلى جانب القانون القوطي القديم.
_______
(1) أرقلة هي بالإسبانية Urgel، وشرطانية هي: Cerdana(2/407)
ولما توفي رامون برنجير الأول خلفه ولداه برنجير ورامون في حكم الإماره معاً وفقاً لوصيته. ولكن الخلاف ما لبث أن نشب بينهما، وانتهى الأمر بالاتفاق على أن يتسمى كل منهما بكونت برشلونة، وأن يتناوبا الحكم كل ستة أشهر,
وفي سنة 1082 م، قتل رامون غيلة، واتجهت الشبهة في ذلك إلى أخيه. وقام برنجير بحكم الإمارة منفرداً بالأصالة عن نفسه، وبصفته وصياً على ولد أخيه القاصر رامون الثالث.
وكان بنو هود أمراء سرقسطة، وهم جيران إمارة برشلونة، يعتقدون في مقدرة الفرسان القطلان أبناء هذه الولاية، ويحصلون على معاونة آل برنجير من آن لآخر. وقد لعب أمراء برشلونة في ذلك الوقت الدور الذي لعبه معظم الملوك النصارى، في معاونة الأمراء المسلمين، سواء ضد أبناء دينهم المسلمين أو ضد النصارى أنفسهم. وقد أشرنا إلى ما وقع من ذلك في كثير من المواطن في أخبار مملكة سرقسطة ومملكة بلنسية. وكان أبرز دور قام به آل برنجير في ذلك هو استعانة المستعين بن هود بالكونت برنجير في مشروعه لافتتاح بلنسية. وكان الكونت يضطرم بغضاً نحو " السيد " ومشاريعه. فسار في قواته لمحاصرة بلنسية، ولبث على حصارها وقتاً، حتى اقترب " السيد " بقواته من المدينة، وتبادل السيد والكونت بعض رسائل التحدي المهينة، وأخيراً وقعت الحرب بينهما، فهزم الكونت وأسر، ولم يطلقه السيد إلا لقاء فدية كبيرة، ثم وقع التفاهم بينهما، وترك الكونت حصار المدينة وعاد بقواته (1090 م).
ومما هو جدير بالذكر أن الكونت برنجير، اشترك قبل ذلك بقليل مع قوات ألفونسو السادس، في موقعة الزلاّقة (1086 م) إلى جانب باقي الملوك النصارى، إيماناً منهم جميعاً، بأنهم يقاتلون في معركة صليبية عامة.
واستمر الكونت برنجير في حكم إمارة قطلونية حنى سنة 1092 م، ثم ترك الحكم لابن أخيه الفتى رامون برنجير الثالث، وسافر حاجاً إلى المشرق، فحكم رامون الإمارة بكفاية، وقاوم غزوات المرابطين فيما بعد بنجاح.(2/408)
الفصل الثالِث
النصارى المعاهدون
النصارى المعاهدون. مركزهم وأحوالهم في ظل الحكومة الإسلامية. أحوالهم في ظل الطوائف. مصانعة أمراء الطوائف لهم. تمتعهم بالتسامح في شرقي الأندلس. أحوالهم في مملكة سرقسطة. عدم ولائهم للحكومات المسلمة. مداخلتهم للملوك النصارى ومعاونتهم ضد المسلمين. صدى هذا الموقف في دول الطوائف. استدعاؤهم ألفونسو الأرجوني لغزو الأندلس. قيامه بالغزوة المنشودة. فتوى الفقهاء بخيانة المعاهدين ووجوب تغريبهم. ظهور مجتمع المدجنين في القواعد الإسلامية المفتوحة.
يجدر بنا بعد أن تحدثنا عن تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية، أن نعرض في شىء من التفصيل إلى موقف النصارى المعاهدين وأحوالهم في عصر الطوائف، وهو العصر الذي سرى فيه الانحلال السياسي والعسكري إلى اسبانيا المسلمة، ومزقتها الحروب الأهلية، وتطاولت عليها الممالك الإسبانية النصرانية. ونحن نعرف أن النصارى المعاهدين، كانوا منذ عهد الإمارة يكونون أقليات ذات شأن في القواعد الأندلسية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية وسرقسطة. وكانت هذه الأقليات النصرانية تعيش آمنة مطمئنة، في ظل الحكومة الإسلامية، تزاول نشاطها وشعائرها بمنتهى الحرية. ويتمتع النابهون من أبنائها بعطف الخلفاء وثقتهم وتقديرهم، ويشغل الكثير منهم مناصب هامة في الإدارة وفي القصر. وقد أشرنا فيما تقدم من أخبار الأمراء والخلفاء إلى كثير من أولئك النصارى البارزين. وكانوا إلى جانب اللغة العربية التي يتقنها الكثير منهم، يتكلمون لغتهم الرومانية الأصلية Romance، وهي اللغة التي كانت سائدة يومئذ في الممالك الإسبانية النصرانية، وكان يعرفها كثير من أكابر الصقالبة في البلاط الأندلسي، وبعض أكابر المسلمين من الوزراء والكتاب. وكانت هذه اللغة هي لغة النصارى المعاهدين المكتوبة، التي يستعملونها في مخاطباتهم ومعاملاتهم داخل المجتمع الإسلامي، الذي يعيشون فيه. وكان المسلمون يستعملون أحياناً بعض عبارات هذه اللغة الرومانية، وهي التي يسمونها " اللطينية " ولاسيما في بعض الرسائل العلمية (1).
_______
(1) R.M.Pidal: Origines del Espanol, p. 418 & 421(2/409)
فلما انهارت الخلافة، وانهارت معها الحكومة المركزية، وقامت دول الطوائف، طرأ تغير ملحوظ على أحوال النصارى المعاهدين. وبالرغم من أن هذا التغير لم يكن دائماً ضد مصالحهم أو حرياتهم، فإن مصايرهم وأحوالهم أضحت في كل دولة من دول الطوائف، تتوقف على ظروف تلك الدولة، وعلى سياسة حكومتها المحلية. ونستطيع أن نقول إن النصارى المعاهدين لقوا على وجه العموم في مختلف دول الطوائف نفس المعاملة الكريمة التي كانوا يلقونها في ظل حكومة الخلفاء، بل لقد كان في ظروف بعض هذه الدول، ما يحملها على اتباع سياسة خاصة، تتسم باللين والمصانعة نحو رعاياها النصارى، ولما عصفت ريح الحرب الأهلية بقرطبة، عقب انهيار الخلافة اضطربت أحوال المعاهدين بها، وقد كانوا يعطفون على الجهة العامرية، ويخشون من عسف البربر وطغيانهم، فلما بسط البربر سلطانهم على عاصمة الخلافة، أخذت جموع كبيرة منهم تغادر قرطبة في أثر الفتيان العامريين إلى شرقي الأندلس. ولما قامت دولة بني جهور في قرطبة، بذلت حكومة الجماعة جهدها لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وندب أبو الوليد ابن جهور وزيره الشاعر الكبير ابن زيدون، " للنظر في شئون أهل الذمة في بعض الأمور المعترضة " (1).
ولم تقتصر هذه العناية بشئون النصارى المعاهدين على حكومة قرطبة، بل لقد كانت معظم دول الطوائف الأخرى، تبذل جهوداً خاصة لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وكسب مودتهم. وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة، في الظروف التي كانت تجوزها دول الطوائف يومئذ. فقد كانت مملكة قشتالة ْالنصرانية تملك زمام التفوق العسكري، وكان ملك قشتالة ألفونسو السادس يرهق دول الطوائف بإغاراته المتوالية، ومطالبه المالية المغرقة، وكان ملوك الطوائف يتسابقون إلى خطب مودته، واتقاء شره، وكان منهم من يستعديه على جيرانه المسلمين. وكانت الأقليات النصرانية في القواعد الأندلسية، في مثل هذه الظروف تعتبر مكامن للخطر والدسائس، وكان ملوك الطوائف يحملون بذلك على مصانعتها ومداراتها. وكان بنو عباد في مقدمة أولئك الملوك الذين عملوا على حماية المعاهدين وكسب مودتهم، وقد كانوا أشد ملوك الطوائف سعياً
_______
(1) في " إعتاب الكتاب " لابن الأبار (مخطوط الإسكوريال) اللوحة - 6 أ.(2/410)
إلى محالفة ملك قشتالة، واتقاء عاديته، وكان للنصارى المعاهدين في بلاطهم مكانة وظهور. ومنهم شعراء مثل ابن المرجري الإشبيلي، وابن مرتين. وكان قائد ابن عباد في فتح قرطبة، وهو محمد بن مرتين، من أصل نصراني، وبنو عباد هم الذين احتضنوا الكونت سسنندو في حداثته، وساعدوه على الظهور ورفعوا مكانته في بلاطهم، وأولوه ثقتهم، واستخدموه في أخص مهامهم السياسية (1). وكان بنو مناد البربر ملوك غرناطة يصطنعون اليهود في البداية، فلما أشتدت وطأتهم على صنهاجة. وانتهت إلى البطش بهم (سنة 459 هـ - 1066 م). جنح أمير غرناطة عبد الله بن بلقين حفيد باديس، إلى اصطناع النصارى، واضطر بضغط الظروف إلى محالفة ملك قشتالة، أو بعبارة أخرى إلى الانضواء تحت حمايته وتأدية الجزية له. وتمتع المعاهدون في غرناطة بالحماية والرعاية، وازدهرت أحوالهم واشتد ساعدهم، واتخذ الأمر عبد الله في بطانته، عدة من أكابر النصارى القشتاليين. يعاونونه في شئون الحرب والإدارة ومنهم عدة من أكابر الفرسان (2).
وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتمتع به النصارى المعاهدون في شرقي الأندلس ولاسيما في مملكة دانية من ضروب الرعاية والتسامح. وقد كان الفتيان الصقالبة الذين سيطروا على شرقي الأندلس من أشد الرؤساء تسامحاً نحو المعاهدين. وكان مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر. ثم ولده على إقبال الدولة من بعده، كلاهما يبدي نحو رعاياه النصارى منتهى العطف والتسامح، وقد يرجع ذلك من بعض الوجوه إلى ما يقال عن " أصل مجاهد النصراني " وإلى أن زوجته كانت نصرانية، وكذلك ولده علي، فقد نشأ في حداثته بين نصارى ْسردانية، وتخلق بأخلاقهم واعتنق دينهم، قبل أن يعتنق الإسلام بعد عوده من الأسر، بيد أنه يجب أن نلاحظ إلى جانب ذلك، أن هذا التسامح نحو النصارى كان حسبما بينا في موضعه، سياسة متقررة لحكومة مجاهد وولده علي، وأنهما استطاعا بواسطة هذه السياسة المستنيرة، أن يجتنبا عدوان الملوك النصارى، وأن تتمتع مملكة دانية في ظلهما بفترات طويلة من السلام والرخاء.
وثمة مملكة أخرى من ممالك الطوائف، كانت ظروفها تدعو إلى مزيد من
_______
(1) Isidro de las Cagigas: Los Mozarabes (Madrid 1947) T.II.p. 427
(2) Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 493(2/411)
التسامح نحو رعاياها النصارى: تلك هي مملكة سرقسطة، فقد كانت بموقعها بين الممالك النصرانية الأربع، قشتالة ونافار، وأراجون وبرشلونة، وكونها تعتبر بهذا الوقع حاجزاً بين اسبانيا المسلمة، والممالك النصرانية من ناحية الشمال الشرقي، ثم بكونها تضم بين سكانها أقليات نصرانية كثيفة، كانت لذلك كله تجد نفسها مدفوعة بحكم الواقع والظروف إلى اتباع سياسة الاعتدال والتسامح نحو رعاياها النصارى، وقد كانت هذه المنطقة في الواقع وهي منطقة الثغر الأعلى منذ أيام بني قسيّ وبني الطويل وغيرهم من زعماء المولدين، ميداناً خصباً لالتقاء العناصر المسلمة والنصرانية وامتزاجها بقوة، وكانت بذلك مهداً لظهور المعاهدين، ومشاركتهم بقسط بارز في الحياة السياسية والاجتماعية. وكان بنو تجيب حكام الثغر الأعلى، ومن بعدهم بنو هود أصحاب مملكة سرقسطة يبسطون رعايتهم وحمايتهم على النصارى المعاهدين. وكان بنو هود بالأخص يشعرون بدقة مركزهم بين الممالك النصرانية، وتحفز هذه الممالك دائماً إلى التدخل في شئون مملكتهم وضغطها عليهم لاقتضاء الجزية، أو لاقتطاع بعض مدنهم وحصونهم، ويحاولون بسياسة التسامح المطلق نحو رعاياهم النصارى، أن يجتنبوا الدسائس والاضطرابات الداخلية، وأن يغنموا حياد الملوك النصارى وجنوحهم إلى المهادنة. وكان المقتدر بن هود. وهو أعظم ملوك سرقسطة من أشد أنصار هذا التسامح، وكان بين وزرائه المقربين وزير نصراني هو أبو عامر بن غند شلب Gundisalvo، وكان أديباً شاعراً. أجل وقعت في سرقسطة في سنة 1065 م في عهد المقتدر مذبحة للنصارى، وذلك على أثر عدوان النورمان الشنيع على مسلمي بربشتر، وكان فيه من الروع والإستثارة ما فيه. بيد أنه كان حادثاً مستقلا، ولم يلبث أن استدركت عواقبه. وقد رأينا من جهة أخرى كيف كان بنو هود، يعتمدون على محالفة جيرانهم من الملوك النصارى، ويحشدون المرتزقة النصارى في جيوشهم بصفة مستمرة، وكيف كانوا أول من استخدم السيد إلكمبيادور، واعتمدوا على محالفته زمناً (1).
بيد أن هناك حقيقة يجب التنويه بها، وهو أن النصارى المعاهدين، بالرغم من هذه الرعاية والحماية، وهذا التسامح، التي كان يتبعها نحوهم ملوك الطوائف،
_______
(1) Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 448, 451, 452, 454, 462 & 463(2/412)
سواء لبواعث كانت ترغمهم على اتباعها، أو لسياسة مستنيرة كانوا يؤثرونها، لم يشعروا قط بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومات المسلمة، التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم، بل لبثوا دائماً على ضغنهم وخصومتهم لها وتربصهم بها. ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة الملوك النصارى، ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها، وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها. ولدينا في تاريخ الطوائف من ذلك أمثلة لا حصر لها. ففي قلمرية وافتتاحها (456 هـ - 1064 م) لعب النصارى المعاهدون - وقد كانوا كثرة هذه المنطقة - دوراً بارزاً في معاونة الجيش القشتالي المحاصر، وعاونه رهبان دير لورفان القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة، وسهلوا له بذلك الصمود، حتى اضطرت المدينة المحصورة إلى التسليم (1). ودأب النصارى المعاهدون في طليطلة أيام القادر بن ذى النون على تدبير الدسائس، وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة، والاتصال المستمر بألفونسو السادس وأعوانه، ومؤازرة الناقمين من المسلمين ضد الحكومة القائمة، والعمل بذلك على تحطيم كل جبهة للمقاومة الحقيقية، وانتهى الأمر بتذليل السبيل لألفونسو السادس لمحاصرة المدينة المفتوحة. ولعب النصارى المعاهدون في بلنسية مثل هذا الدور داخل بلنسية، لمعاونة السيد في مغامراته المتوالية لمحاصرة المدينة والاستيلاء عليها. وهكذا كان النصارى المعاهدون، في كل موطن وكل فرصة، يعملون ما وسعوا لتحطيم تلك الممالك الأسلامية التي تقوم بحمايتهم ورعايتهم، والتمهيد بذلك للقضاء عليها وسقوطها في أيدي الملوك النصارى. وهذا ما يعبر عنه الأستاذ بيدال بقوله: " إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة، واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني (2).
ومن ثم فإنا نجد، عقب سقوط طليطلة، واشتداد روح العدوان من جانب إسبانيا النصرانية، شعور التقاطع والريب، ينمو ويشتد ضد جماعات النصارى المعاهدين في مختلف القواعد الأندلسية، وترتفع أصوات الفقهاء بالاشتداد في معاملتهم، وتجريدهم من كثير من ضروب الحرية والتسامح، التي كانوا يتمتعون بها من قبل. ومن ذلك مثلا ما دعا إليه ابن عبدون في رسالته عن الحسبة وهي
_______
(1) راجع: Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 455
(2) R.M.Pidal: Origenes del Espanol, p. 424(2/413)
التي وضعت في بداية العهد المرابطي، من أنه " يجب أن يقطع ببلاد الإسلام ضرب النواقيس " وأنه نظراً لفساد أخلاق القساوسة، يجب أن يؤمروا بالزواج كما في ديار المشرق، ويجب ألا يترك في دار القسيس امرأة ولا عجوز ولا غيرها، كما يجب أن تمتنع النساء الإفرنجيات من الدخول إلى الكنيسة إلا في يوم فضل أو عيد، ويجب ألا يباع من اليهود أو النصارى كتاب علم إلا ما كان من شريعتهم، لأنهم يترجمون كتب العلوم، وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم، وهي من تواليف المسلمين، كما يجب أن يمنع الأطباء اليهود أو النصارى من معالجة المسلمين (1).
فهذه الدعوات وأمثالها، إلى التشدد في معاملة المعاهدين، لم تكن إلاّ صدى لمواقفهم المتسمة بالعدوان والخيانة. وكانت تلقى في ظل الحكم المرابطي، المتسم بروح التزمت الديني قبولا. وقد بلغ اجتراء المعاهدين وخيانتهم ذروتها، حينما عملوا على استدعاء ألفونسو المحارب ملك أراجون، لغزو الأندلس، ووعدوه بأن ينضموا ألوفاً إلى جيشه متى اخترق الأندلس. وقام ألفونسو بالفعل بالغزوة المنشودة، فخرج من سرقسطة في سبتمبر سنة 1125 م (519 هـ)، في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف، واخترق الأندلس، من الجانب الشرقي ماراً بقرب بلنسية ودانية ومرسية، وهو يعيث في بسائطها، والمعاهدون يحشدون في جيشه من كل صوب، واستمر في سيره حتى وادي آش، ووصل إلى ظاهر غرناطة في شهر يناير من العام التالي (1126 م)، ولكنه أدرك أنه لايستطيع أن ينال منها مأرباً. وهنالك بعث إلى زعيم المعاهدين بغرناطة يلومه لتقصيرهم في معاونته، فردوا عليه بأنه هو الذي أضاع الوقت في زحفه الطويل سدى، ثم أخذت القوات المرابطية بقيادة الأمير أبي الطاهر تميم تلاحقه وترهقه باستمرار، وهو يتجول بقواته في شمال غرناطة، ووقعت بينه وبين المرابطين في مارس (1126 م) في فحص الرنيسول موقعة هزم فيها المرابطون. بيد أنه لم يستطع الاستفادة من نصره، فاستمر في زحفه جنوباً، واخترق هضاب البشرّات حتى شاطىء البحر المتوسط، ثم عاد إلى الشمال، وقد خسر كثيراً من جنده بسبب الإعياء والوباء.
وكان من أثر هذا العدوان الجسيم، أن قرر أمير المسلمين، وفقاً لفتاوي
_______
(1) رسالة ابن عبدون في الحسبة ص 55 و 57.(2/414)
الفقهاء، تغريب النصارى المعاهدين، لأنهم نقضوا العهد وخرجوا عن الذمة, وأبعدت منهم بناء على ذلك عن الأندلس ألوف عديدة، فرقت في مختلف أنحاء إفريقية (1).
وثمة ظاهرة أخرى برزت في أواخر عهد الطوائف، وترتبت على سقوط طليطلة وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة في يد القشتاليين، ثم سقوط سرقسطة وأعمالها بعد ذلك بقليل في يد ملك أراجون (512 هـ - 1118 م). فإلى ذلك الحين كانت المشكلة العنصرية والدينية. تنحصر في جانب واحد، وهو أقليات النصارى المعاهدين التي تعيش في القواعد الأندلسية تحت الحكم الإسلامي.
ولكن تبرز من ذلك الحين مشكلة عنصرية دينية مقابلة، هي مشكلة الأقليات المسلمة التي بقيت في القواعد الأندلسية المفتوحة تحت الحكم النصراني، وأولئك هم المدجّنون، (وبالإسبانية Mudéjares) الذين يبدأ ذكرهم في التواريخ الأندلسية، منذ أوائل القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، والذين تزداد جموعهم تباعاً كلما سقطت قاعدة أندلسية جديدة في أيدي النصارى (2).
_______
(1) راجع الحلل الموشية ص 70 و 71. وكذلك R.M.Pidal: Origenes del Espanol, p. 425 و F.Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides, p. 15 & 16
(2) تحدثنا عن أحوال المدجنين بإفاضة في كتابنا " نهاية الأندلس " وهو العصر الرابع من كتاب دولة الإسلام في الأندلس (الطبعة الثالثة) ص 55 - 67.(2/415)
خاتمة
خَواصّ عَصْر الطوائفْ االسياسية والاجتماعيّة والحضاريّة(2/417)
- 1 -
الخواص السياسية
الآن وقد انتهينا من أخبار ممالك الطوائف، واستعراض الأحداث التي مرت بها، منذ إنشائها حتى سقوطها، وتقديم زعمائها وملوكها، في صورهم السياسية والأدبية، ووصف قصورهم وخططهم، نرى لزاماً علينا أن نستعرض خواص هذه الحقبة من تاريخ اسبانيا المسلمة، وهي حقبة فياضة بالأحداث والمحن المثيرة، وأن نستعرض خواص مجتمع الطوائف، وأحواله المادية والأدبية والاجتماعية.
لقد شغل عصر الطوائف من حياة الأمة الأندلسية نحو ثمانين عاماً، وكان عصر تفكك وانحلال سياسي واجتماعي شامل، بالرغم مما كان يبدو في بعض نواحيه من جوانب براقة. والواقع أن هذه الدول الصغيرة، التي قامت على أنقاض الأندلس الكبرى، والتي كانت تتسم بسمة الملك، وتزعم لنفسها الاستقلال بشئونها، كانت تنقصها من الناحية النظامية، عناصر الدولة المستقرة، ولم تكن - إذا استثنينا القليل منها - سواء برقاعها الإقليمة، ومواردها المادية، تستطيع الحياة بمفردها، أو تستطيع الاستقلال بشئونها السياسية أو العسكرية، وإنما كانت دول الطوائف أقرب منها إلى وحدات الإقطاع، وإلى عصبة الأسرة القوية ذات العصبية، أو الجماعة القبلية في حالة الإمارات البربرية، ومن ثم فإنه لم تكن بها حكومات منظمة بالمعنى الصحيح، تكون مهمتها الأساسية، أن تعمل لخير الشعب ورخائه، وصون الأمن والنظام، وإنما كانت بها أسر أو زعامات، تعمل قبل كل شىء لمصلحتها الخاصة، ولرفعة شأنها، وتنمية ثرواتها، وتدعيم سلطانها وبذخها. وكان الشعب في ظل هذه الأسر أو الزعامات القوية، لا حساب له، وليس عليه إلا أن يخضع لما يفرض عليه من مختلف المغارم والفروض، التي يستخدمها الأمير لإقامة بلاطه الفخم أولا، ثم لحشد الجند الذين هم سياج ملكه(2/418)
وسلطانه، وأخيراً لتنفيذ مشاريعه السياسية والعسكرية، وهي لا تخرج غالباً عن مهاجمة زميله وجاره الأضعف منه، وانتزاع ما في يده، وقلما تتجه إلى القضية الكبرى، قضية الدفاع عن الأندلس ضد عدوها الخالد، الدائب لمقارعتها وتحطيمها، ونعني اسبانيا النصرانية.
ولقد كان ملوك الطوائف في ذلك أسوأ قدوة. كانوا ملوكاً ضعافاً في وطنيتهم، ضعافاً في دينهم، غلبت عليهم الأثرة والأهواء الشخصية إلى أبعد الحدود، ونسوا في غمارها وطنهم، ودينهم، بل نسوا حتى اعتبارات الكرامة الشخصية، واستساغوا لأنفسهم أن يتراموا على أعتاب الملوك النصارى، وأن يستعدوهم بعضهم على بعض، لا في سبيل قضية محترمة، ولكن لاقتطاع بلدة أو حصن من مملكة شقيقة، أو التنكيل بأحد الأمراء المجاورين وقد انتهى أمراء الطوائف في ذلك إلى درك، يستحق أن يوصف بأقسى النعوت، ويكفي أن نستعرض في ذلك, موقف ملوك الطوائف إزاء نكبة طليطلة، وتخاذلهم جميعاً عن انجادها وقت أن حاصرها ملك قشتالة وصمم على أخذها، وهم جميعاً - إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم - ينظرون إلى استشهاد المدينة المسلمة، جامدين لا يطمعون إلا في رضاء ملك قشتالة، وفي سلامة أنفسهم. وقد كان ملك قشتالة يعاملهم حسبما رأينا في غير موطن، معاملة الأتباع، ويبتز منهم الأموال الطائلة، باسم الجزية، ويعامل رسلهم وسفراءهم معاملة الخدم، ويكفي أن نتلو في ذلك ما سطره ابن بسام في الذخيرة، من وصف مثول سفراء ملوك الطوائف لدى ملك قشتالة، وقت نزوله أمام طليطلة، وهي على وشك التسليم إليه، وما كان يتسم به موقفهم من المذلة والخنوع، وفقد كل كرامة قومية (1).
ولم يكن ملوك الطوائف في سياستهم الداخلية، وإزاء شعوبهم، أفضل موقفاً، ولا أكرم تصرفاً. فقد كانوا طغاة قساة على رعيتهم، يسومونهم الخسف، ويثقلون كواهلهم بالفروض والمغارم لملء خزائنهم وتحقيق ترفهم وبذخهم. ولم يكن يردعهم في ذلك رادع، لا من الدين، ولا من الأخلاق.
وقد كانت سياستهم الداخلية هذه، مثل سياستهم الخارجية، موضع السخط من شعوبهم، والطعن المر من معاصريهم من الكتاب والمفكرين. وقد صدرت
_______
(1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129 و 130.(2/419)
للفيلسوف ابن حزم، وهو من أعظم مفكري عصر الطوائف، عن فتنة الطوائف، ودولها، وأمرائها المستهترين، ومجتمعها المنحل، وحكوماتها الباغية، طائفة من الأقوال والأحكام الصادقة، وردت في رسالته المعنونة " التلخيص لوجوه التخليص ". وهي عبارة عن ردود على بعض أسئلة في شئون دينية وفقهية، وجهت إليه من بعض أصدقائه، ومنها سؤال يتعلق بأمر الفتنة، وآخر عن وجه السلامة في المطعم والملبس والمكسب، وتتضمن هذه الأقوال من النظرات الثاقبة، والأحكام القاطعة، ما يدمغ مجتمع الطوائف بشدة وقسوة، وهي مع سلامة منطقها، وعدالتها، مما يبعث إلى النفس أشد ضروب الأسى والألم، فهو يصف لنا فتنة الطوائف وتصرفات ملوكها على النحو الآتي:
" وأما ما سألتم من أمر هذه الفتنة، وملابسة الناس بها، مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء، أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب.
وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شىء من أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساع في الأرض بفساد. والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغالطوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيفون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم " (1).
وقد كان الفقهاء في الواقع، في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية، أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم،
_______
(1) نشر الأستاذ ميجيل آسين بلاثيوس M. Asin Palacios بعض مقتطفات من هذه الرسالة في مجلة الأندلس. Al - Andalus (ano 1934) , p. 35-37 ثم نشرت الرسالة بعد ذلك كاملة ضمن مجموعة رسائل أخرى لابن حزم بعنوان " الرد على ابن النغريلة اليهودي ورسائل أخرى " (القاهرة سنة 1960)، ص 139 - 185.(2/420)
وتزكية تصرفاتهم، وابتزازهم لأموال الرعية، وقد كانوا يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمات كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال، ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور، وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل دول الطوائف مجال العمل والاستغلال والدس، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء. ولم يفت مؤرخ العصر أبو مروان ابن حيان، أن ينوه بهذا التآلف والتضامن بين الأمراء والفقهاء. في تأييد الظلم والفساد. والخروج على أحكام الدين، وإليك ما يقوله لنا في ذلك:
" ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين كالملح: فيهم الأمراء والفقهاء قل ما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له، ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون، قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم. وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذاً بالتقية في صدقهم " (1).
وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل طغيان الطوائف، كثيراً من ضروب الاضطهاد والظلم، ولم يكن ذلك قاصراً على متاعب الفوضى الاجتماعية الشاملة، التي كان يعيش في غمارها، وانقلاب الأوضاع في سائر مناحي الحياة، وتوالي الفتن والحروب الداخلية، ولكنه كان يقاسي في نفس الوقت من جشع أولئك الأمراء الطغاة، الذين كانوا يجعلون من ممالكهم ضياعاً خاصة، يستغلونها بأقسى الوسائل وأشنعها، ويجعلون من شعوبهم عبيداً يستصفون ثرواتهم، وثمار كدهم، إرضاء لشهواتهم في إنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والانهماك في حياة الترف الناعم، والإغداق على الصحب والمنافقين، هذا فضلا عن حشد الجند، لإقامة نيرهم، وتدعيم طغيانهم. وقد ترتب على ذلك أن انهارت المعايير الأخلاقية، واختلط الحق بالباطل، والحلال بالحرام، ولم يعد الناس يعتدون بالوسيلة، بل يذهبون إلى اقتضاء الغاية، وتحقيق الكسب بأي الوسائل. وقد شرح لنا الفيلسوف ابن حزم طرفاً من هذه الفوضى الاجتماعية
_______
(1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 34 ب. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 254.(2/421)
والأخلاقية، ووصف لنا إلى أي حد كان يذهب أمراء الطوائف، في إرهاق شعوبهم بالمغارم الفادحة، وإليك ما يقوله في ذلك:
" وأما الباب الثاني. فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زماننا هذا باب جديد لا يؤثم صاحبه، ولا يؤجر، وليس على الناس أن يبحثوا عن أصول ما يحتاجون إليه في أقواتهم ومكاسبهم، إذ كان الأغلب هو الحلال، وكان الحرام مغموراً. وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه. فإنما هو باب أغلق عينيك، واضرب بيديك، ولك ما تخرجه إما ثمرة وإما جمرة. وإنما فرقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله، لأن الغارات في أيام الهدنة لم تكن غالبة ظاهرة كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين، فإنما كانت على الأرضين خاصة، فكانت تقرب مما فرض عُمر على الأرض. وأما اليوم فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين، يسمونها بالقطيعة، ويؤدونها مشاهرة، وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شىء ما، وقبالات ما يؤدي على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد، هذا كله ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار، ونقض شرائع الإسلام، وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل ".
ويحمل ابن حزم بعنف، على استهتار أمراء الطوائف بأحكام الدين، وما اتسموا به من ضعف الإيمان والعقيدة، ويؤكد لنا أنهم لو وجدوا في اعتناق النصرانية، وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم، لما ترددوا في اعتناقها، ونحن نقتبس هنا عباراته اللاذعة المؤسية معاً:
" والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم، لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى، فيمكنونهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحشرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً، فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفاً من سيوفه " (1).
_______
(1) راجع أقوال ابن حزم التي نشرت بعناية الأستاذ بلاثيوس في مجلة "الأندلس": Al - Andalus, (ano 1934) p. 37 وفي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها ص 173 - 177.(2/422)
ونحن لا نستطيع أن نتهم ابن حزم، وهو فيلسوف عصره المتزن، البعيد النظر، النافذ الملاحظة، بالمبالغة والتحامل، وهو قد شهد بنفسه أحداث العصر، وفضائح ملوك الطوائف، وأصدر عليها تلك الأحكام القاسية، التي نراها ماثلة في غير موضع من تعليقاته على حوادث عصره (1). وقد توفي ابن حزم في سنة 456 هـ (1064 م). وممالك الطوائف في إبان قوتها وعنفوانها، وقبل أن تنحدر إلى ما انحدرت إليه فيما بعد من الإنحلال المعنوي الشامل، وقبل أن يتهالك أمراؤها في الترامي على أعتاب ملك قشتالة، وينحدرون على يديه إلى أسفل درك من الذلة والمهانة. ولو شهد الفيلسوف هذه المرحلة الأخيرة من انحلال ممالك الطوائف، لكان بلا ريب في تعليقاته وأحكامه أشد قسوة وعنفاً.
- 2 -
الخواص العلمية والأدبية
على أنه لمما يلفت النظر حقاً، أن ممالك الطوائف، كانت خلال هذا الانحلال الشامل، تبدو في أثواب لامعة زاهية. وإذا لم يكن يسودها النظام والاستقرار دائماً، فقد كانت في الفترات القليلة التي تجانب فيها الحرب الأهلية، تتمتع بقسط لا بأس به من الرخاء، وتغمرها الحركة والنشاط. وكان ملوك الطوائف. بالرغم من طغيانهم المطبق, ومن الصفات المثيرة التي كان يتصف بها الكثير منهم، من حماة العلوم والآداب. وإنها لظاهرة من أبرز ظواهر عصر الطوائف، أن يكون معظم الملوك والرؤساء من أكابر الأدباء والشعراء والعلماء، وأن تكون قصورهم منتديات زاهرة. ومجامع حقة للعلوم والآداب والفنون، وأن يحفل هذا العصر بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الممتازين, ومنهم بعض قادة الفكر الأندلسي، والفكر الإسلامي بصفة عامة.
ولنبدأ الحديث في ذلك عن قصور عصر الطوائف وأمرائه. فلقد كانت هذه القصور المنتثرة في رقعة الوطن الأندلسي الكبرى، وكل منها يدعي السيادة على مدن ورقاع محدودة، تسطع ليس فقط بفخامتها وروعتها وبذخها، ولكن كذلك بأمرائها ووزرائها وكتابها. الأدباء والشعراء. وقد ازدهر الشعر الأندلسي
_______
(1) تراجع تعليقات ابن حزم على بعض فضائح عصره في " نقط العروس " ص 83 و 84 و 89.(2/423)
بالأخص في عصر الطوائف، وبلغ في ذلك مدى لم يبلغه في أي عصر آخر.
ويعلل الأستاذ نِكِل ذلك بأنه يرجع بالأخص إلى ما كان يتسم به هذا العصر من حريات، ترتب عليها الإغضاء عن كثير من القيود الدينية، ولاسيما ما تعلق منها بتحريم الخمر، وحجب المرأة، وإلى ذيوع العلاقات الغرامية بين الجنسين (1) كان ملوك الطوائف حسبما تقدم، يتسمون بضعف الإيمان والعقيدة، والاستهتار بأحكام الدين، وكان الكثير منهم يجاهرون بالمعاصي، وارتكاب الأمور المحرمة، وهو ما يسجله عليهم الفيلسوف ابن حزم فيما تقدم من أقواله. وقد كانت قصورهم المترفة الأنيقة، كما تزدان بمجالس الشعر والأدب، تحفل في الوقت نفسه بمجالس الأنس والطرب، والنساء والغلمان والخمر، وهي أمور تشغل حيزاً كبيراً في آداب العصر وشعره. وكانت مجتمعات الطوائف المرْهقة المنحلة، تتأثر بهذه الروح الإباحية، وتجنح إلى اجتناء المتعة المادية والملاذ الحسية بمختلف ضروبها، وكان هذا الانحلال الشامل يجتاح يومئذ سائر طبقات المجتمع الأندلسي.
على أن النهضة الأدبية والفكرية التي امتاز بها عصر الطوائف، ترتفع مع ذلك فوق مستوى هذا الانحلال وتبرز قوية وضاءة. ولقد كانت هذه القصور المترفة المرحة نفسها، أكبر مبعث لهذه النهضة، وكان أولئك الملوك المستهترون أنفسهم دعاتها وحماتها، وكانت قصور الطوائف تتنافس في هذا الميدان وتتسابق، شعوراً منها بما تجتنيه من وراء ذلك من فخار ومجد، وما تسجله روائع المنظوم والمنثور من ذخر وذكر. وكان من بين هذه القصور ثلاثة امتازت بنوع خاص، بمشاركتها في النهضة الأدبية والشعرية، هي بلاط بني عباد بإشبيلية، وبلاط بني الأفطس ببطليوس، وبلاط بني صمادح بألمرية.
كان بنو عباد، وهم كما رأينا، أعظم ملوك الطوائف قوة وجاهاً وملكاً، من أعظم رواد هذه النهضة الأدبية والفكرية التي سادت هذا العصر، وقد سبق أن أشرنا إلى ما امتازت به هذه الأسرة النابهة من نبوغ في ميدان الشعر والأدب، وقد برز منهم بالأخص المعتضد بن عباد، وولده المعتمد، وترك لنا كلاهما طائفة كبيرة من روائع نظمه. ويمتاز شعر المعتضد بنزعة إلى الفخر والمجد وشهرة
_______
(1) الشعر الأندلسي: A.R.Nykl: Hispano - Arabic Poetry: (Baltimore 1946, p. 72(2/424)
الجود. أما المعتمد بن عباد فقد كان بلا ريب من أعظم شعراء عصر الطوائف، إن لم يكن أعظمهم جميعاً. ويرى الأستاذ نكل أنه " أبرز ممثل للشعراء الأندلسيين العرب في النصف الثاني للقرن الحادي عشر " وأنه " يتزعم هذا العصر بشخصيته المتسمة بالفروسية، ويعتبر أسطع نجم في باقة النجوم الكبرى لملوك الطوائف الآخرين " (1). وقد ترك لنا المعتمد بنوع خاص طائفة من أروع القصائد التي نظمها أيام مجده، ثم بعد ذلك خلال محنته. في التلهف على ماضيه والبكاء على مصيره، وقد أوردنا فيما تقدم مقتطفات من شعره، في مختلف المناسبات والأحداث.
وكان بنو عباد فضلا عن مواهبهم الأدبية والشعرية الرفيعة، يجمعون في بلاطهم، وهو أزهى قصور الطوائف في هذا المضمار. جمهرة من أكابر شعراء العصر وكتابه، سواء برسم الوزارة أو الكتابة أو الانتظام بين صحب الأمير ومستشاريه، أو لمجرد الرعاية والحماية. وكان من هؤلاء حسبما أسلفنا شعراء عظام مثل أبى بكر بن عمار الشاعر الذكي المبدع، وقد أتينا على أحداث حياته فيما تقدم، وأبى الوليد بن زيدون الذي يصفه الأستاذ نكل بأنه " شاعر عظيم للحب "، ويعتبره مثلا " لأبدع نموذج للأسلوب العربي الكلاسيكي. وفي وسعنا أن نقارنه بالمتنبي والبحتري ".
وقد قارن العلامة دوزي، ابن زيدون في حياته الغرامية بالشاعر اللاتيني تيبولوس في حبه " لدِلْيا "، ولكن الأستاذ نكل لا يقر هذه المقارنة إلا من حيث الناحية الغرامية، وعنده أن المظاهر الشعرية تختلف بين الشاعرين الأندلسي واللاتيني، " كما تختلف الأزهار لوناً وعطراً " (2). والواقع أن حب ابن زيدون لولادة بنت الخليفة المستكفي (3)، كان أعظم حدث في حياته، وكان أعظم وحي لروائع شعره. وكانت ولادة ابنة جارية نصرانية، وكانت ناصعة المحيا، زرقاء العينين، حمراء الشعر، رائعة الحسن. ويصفها ابن بسام بقوله: " وكانت في
_______
(1) A.R.Nykl: ibid ; p. 72 & 130
(2) A.R.Nykl: ibid ; p. 109
(3) وهو محمد بن عبد الله بن الناصر لدين الله. تولى الخلافة في ذي القعدة سنة 414 هـ باسم المستكفي بالله، ثم خلع وفر من قرطبة في ربيع الأول سنة 416 هـ (1025 م) واغتاله في الطريق بعض أصحابه.(2/425)
نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وطهارة أثواب. على أنها، سمح الله لها وتغمد زللها، طرحت التحصيل، وأوجدت للقول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها " (1). وهام ابن زيدون في شبابه بولادة أيام خدمته لبني جهور، وتوثقت علائقه بها مدة من الزمن، ونظم في حبها طائفة من أروع قصائده، ثم ساءت العلائق بينهما، وهجرته ولادة وهو يستعطفها بقصائد مؤثرة. وكان ينافسه في ودها رجل من سراة قرطبة يدعى أبو عامر بن عبدوس تزوجته ولادة فيما بعد، وانتهى الأمر بأن زج ابن زيدون إلى السجن إما لريبة علقت بولائه لابن جهور، أو نتيجة لمكيدة دبرها له خصمه ومنافسه ابن عبدوس. وقد وجه ابن زيدون إلى منافسه وخصمه ابن عبدوس هذا، رسالة لوم وتقريع، تفيض بألوان مؤلمة من التهكم والتشبيهات، والمقارنات، وينعته في أولها " بالمصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره ". ثم يفيض في وصفه وتشبيهه بأسلوب ساخر مقذع، وقد اشتهرت رسالة ابن زيدون هذه، واعتبرت من الطرائف الأدبية وعملت لها شروح عديدة (2). ثم فر ابن زيدون من سجنه، وغادر قرطبة إلى إشبيلية وذلك في سنة 441 هـ (1049 م) والتحق ببلاط المعتضد بن عباد، وخدمه وعلت مكانته لديه. ولما توفي المعتضد استمر في خدمة ولده المعتمد، وتوفي في سنة 463 هـ (1071 م). وقد ترك لنا ابن زيدون ثروة كبيرة منوعة من نظمه الرائق، ومنها قصائد تعتبر من أروع ما يحتويه الشعر الأندلسي (3)، وفيها يبلغ النسيب ذروة الإبداع الروحي والحسي،
_______
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 376.
(2) ومنها شرح مخطوط لابن نباته المصري عنوانه " سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون " يحفظ بالمتحف البريطاني برقم Or. 8578 وقد طبع هذا الشرح بمصر غير مرة.
(3) راجع في حياة ابن زيدون وشعره: الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 289 - 376، وقلائد العقيان ص 70 - 83.(2/426)
وكان لحبه لولادة بلا ريب أعمق تأثير في نفسه وروحه، وهو تأثير يشيد به النقد الحديث. يقول الأستاذ نكل " وبغير هذا التأثير كان شعر ابن زيدون يبقى ناقصاً بعضاً من أثمن جواهره " (1).
وإلى جانب هذين الشاعرين العظيمين، ابن عمار وابن زيدون، كان بلاط إشبيلية يضم طائفة أخرى من أكابر شعراء العصر، منهم أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانه وأصله من دانية، كما يدل على ذلك اسمه، وبرع في الشعر منذ صباه، واتخذه وسيلة للتكسب والعيش، وتجول بين قصور الطوائف يمتدح ملوكهم. ثم اتصل ببلاط إشبيلية، وغدا شاعر المعتمد الأثير لديه، وقد نظم في مديحه كثيراً من قصائده. ولما ذهبت دولة المعتمد، ونفي أسيراً إلى المغرب، زاره أبو بكر بأغمات، وله في دولة المعتمد وأيامه، وفي محنته وأسره، قصائد كثيرة، وله كتاب في تاريخ بني عباد سبقت الإشارة إليه.
ولحق في أواخر أيامه بجزيرة ميورقة، ومدح صاحبها مبشر العامري وحظى لديه.
ومنهم عبد الجليل بن وهبون، وهو صديق ابن عمار ومرثيه، وأبو الحسن الحصرى، وأصله من القيروان. وقد خدم المعتضد ثم المعتمد، وتوفي بطنجة سنة 488 هـ. ومنهم شاعر فذ من الوافدين على الأندلس، هو عبد الجبار ابن أبى بكر بن محمد الأزدي الصقلي المعروف بابن حمديس، وقد ولد بسرقوسة سنة 447 هـ (1055 م)، ولما غزا النورمان صقلية في سنة 471. (1078 م) سار إلى تونس ثم إلى إشبيلية والتحق ببلاط المعتمد، ونظم في مديحه كثيراً من القصائد، وظهر بروعة افتنانه ولاسيما في شعره الوصفي. ولما أسر المعتمد زاره في أغمات وأقام لديه مدة، ثم سار ابن حمديس بعد ذلك إلى المهدية وخدم ملكها وتوفي سنة 527 هـ (1132 م).
وأما عن الكتاب الذين خدموا في بلاط إشبيلية، وازدهروا في ظل بني عباد، فقد أشرنا إلى الكثير منهم، خلال حديثنا عن أخبار مملكة إشبيلية، وإنما أردنا أن نخص الشعراء بالذكر هنا لما كان لبني عباد في هذا الميدان من رياسة ومواهب عالية، ولما كان لدولة الشعر في ظلهم من رعاية خاصة، وقد كان بنو عباد
_______
(1) A.R.Nykl: ibid ; p. 119(2/427)
أوفر أمراء الطوائف عناية بالحركة الأدبية وإمدادها بالبذل الوفير (1). ولم يكن يجاريهم في ذلك أي بلاط آخر من قصور الطوائف.
وكان بنو الأفطس، ملوك بطليوس، كذلك من حماة الشعر والأدب،
وكان بلاطهم ولاسيما في عهد عميدهم المظفر، وولده عمر المتوكل، ملاذاً لطائفة من أعظم شعراء العصر، وفي مقدمتهم وزيرهم الشاعر والكاتب الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، وبنو القبطرنة الثلاثة أبو بكر وأبو محمد وأبو الحسن أبناء عبد العزيز البطليوسي، وقد كانوا أيضاً من وزراء بني الأفطس، ومن شعرائهم المجيدين. وقد ذكرهم ابن بسام في الذخيرة ووصفهم بأنهم من " أسرة أصالة، وبيت جلالة، أخذوا العلم أولا عن آخر، وورثوه كابراً عن كابر، ثلاثة كهقعة الجوزاء، وان أربوا عن الشهر في السنا والسناء " ووصفهم ابن الخطيب بأنهم " كانوا عيوناً من عيون الأدب بالأندلس، ممن اشتهروا بالظرف والشرف والجلالة ". وقد برع ثلاثتهم في النظم والكتابة، وكتبوا بعد بني الأفطس لعاهل لمتونة، يوسف بن تاشفين. ومن نظم أبي محمد قوله:
هلم إلى روضنا يا زهـ ... ـير ولح في سماء المنى يا قمر
وفوِّق إلى الأنس سهم الأخا ... ء فقد عطلت قوسه والوتر
إذا لم تكن عندنا حاضرا ... فما يغصون الأماني ثمر
وقعتَ من القلب وقع المنى ... وحُزت من العين حسن الحَوَر
ومن شعر أبى بكر قوله:
ْيا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا
في رياض تعانق الزهر فيها ... مثل ما عانق الخليل خليلا
لا تنم واغتنم مسرة يوم ... إن تحت التراب نوماً طويلا (2)
وأما ابن عبدون فقد اشتهر بالأخص بمرثيته الشهيرة لبني الأفطس عقب ذهاب دولتهم، وهي قصيدته المعروفة " بالعبدونية "، وقد أتينا على ذكرها فيما تقدم. ويصفها الأستاذ نكل بأنها " مزيج مدهش من الشعور العميق، والمتانة
_______
(1) نفح الطيب (عن رسالة الشقندي) ج 2 ص 140.
(2) راجع كتاب " الإحاطة في أخبار غرناطة " (القاهرة 1956) ص 527 - 530.(2/428)
التاريخية ". وكان المظفر بن الأفطس نفسه من أكبر أدباء عصره وأغزرهم مادة، وقد اشتهر بكتابه أو مصنفه الأدبي والتاريخي الكبير المسمى " بالمظفري " والذي قيل إنه كان يحتوي على مائة مجلد مليئة بالأخبار والفنون الأدبية (1). وكذا كان ولده عمر المتوكل عالماً وشاعراً كبيراً.
وكان يجتمع في بلاط ألمرية حول بني صمادح، جمهرة من أقطاب الشعر والأدب، في مقدمتهم أبو عبد الله محمد بن عباد المعروف بابن القزاز، وأبو الفضل جعفر بن شرف، وابن الحداد الوادي آشي وغيرهم، ممن سبق أن ذكرناهم في أخبار مملكة ألمرية. وقد كان ابن القزاز من أهل مالقة وكان أبرع الوشاحين في عصر الطوائف. ووصفه ابن بسام " بأنه من مشاهير الأدباء والشعراء، وأكثر ما ذكر اسمه وحفظ نظمه في أوزان الموشحات ". وقيل في حقه " كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز ". ومن أشهر موشحاته:
بدر تم ... شمس ضحا ... غصن نقا ... مسك شم
ما أتم ... ما أوضحا ... ما أورقا ... ما أتم
لا جرم ... من لمحا ... قد عشقا ... قد حرم (2)
وأما ابن شرف، فهو جعفر بن محمد بن سعيد بن شرف الجذامي القيرواني، أصله من القيروان وبها ولد سنة 444 هـ. ولما اضطرمت فتنة العرب في إفريقية غادرها إلى الأندلس واستوطن برجة. وكان من أعظم شعراء عصر الطوائف، وكان فوق ذلك أديباً موهوباً وله مؤلفات في الأمثال والأخبار والآداب. وتوفي سنة 534 هـ (3). وأما ابن الحداد، فهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحداد القيسي. وكان من أكابر الشعراء، وقد قضى معظم حياته في بلاط ألمرية حسبما تقدم ذكره. وهو الذي وجه إليه ابن غرسية رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب. وكان بنو صمادح، كبني عباد أسرة شاعرة موهوبة، وكان المعتصم من أكبر شعراء عصره، وكذلك كان ولداه يحيى الملقب برفيع الدولة، وأبو جعفر الملقب برشيد الدولة، وإبنته أم الكرام، من الشعراء الموهوبين. واشتهر منهم
_______
(1) نفح الطيب ج 2 ص 136 و 141.
(2) ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص 519، والذخيرة القسم الثاني من المجلد الأول ص 299.
(3) ترجمته في الصلة رقم 298.(2/429)
بالأخص رفيع الدولة، وكان أشعرهم جميعاً (1). ويجب ألا ننسى أن العلامة اللغوي والجغرافي الكبير، أبو عبيد البكري قد عاش حيناً في ألمرية، تحت كنف المعتصم ورعايته، ووضع في ظل هذه الرعاية موسوعته الجغرافية الشهيرة وبعض كتبه الأخرى. وهو أبو عبيد عبد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد ابن أيوب بن عمرو البكري. وهو سليل أسرة من الأمراء حكمت ولبة، وجزيرة شلطيش حيناً، واستمرت رياسة أبيه بها حتى سنة 443 هـ، حينما أجلاه عنها المعتضد بن عباد. ودرس أبو عبيد على ابن حيان، والحافظ ابن عبد البر، وأبى العباس العذري وغيرهم من أقطاب العصر. وله عدة مؤلفات قيمة في مقدمتها موسوعته الجغرافية المسماة المسالك والممالك، وكتاب معجم ما استعجم، وهو قاموس لغوي جغرافي، وكتاب اللآلىء في شرح أمالي القالي، وكتاب أعلام نبوة نبينا محمد. وكان البكري من أقطاب الأدب في عصره، وكان آية في التبحر واللغة ومن أساتذة الأنساب والأخبار، وأهل الضبط. وتوفي البحري في سنة 487 هـ (2) وقال ابن الأبار: " وكان أبو عبيد البكري من مفاخر الأندلس، وهو أحد الرؤساء الأعلام، وتواليفه قلائد في أجياد الأيام " (3).
بيد أنه مما تجب ملاحظته أن هذه الرعاية لدولة الشعر والأدب، لم تبلغ في القصور البربرية مبلغاً كبيراً، فلم تزدهر النهضة الأدبية في ظل بني ذى النون بطليطلة ولم تجتمع في بلاطهم سوى قلة من الأدباء والشعراء، وإن كان قد نبغ في ظلهم بعض العلماء البارزين في الفلك والزراعة. وكذلك لم تشهد غرناطة في ظل بني مناد البربر أية نهضة أدبية ذات شأن.
أما قصور الطوائف في شرقي الأندلس، وفي سرقسطة، فكان لها شأن خاص في رعاية الحركة الأدبية والشعرية بوجه عام. وكان بلاط سرقسطة، شأنه شأن بقية قصور الطوائف يسبغ رعايته على عدد من أكابر الشعراء والكتاب، وكان في مقدمة هؤلاء، أبو عمر أحمد بن محمد درّاج القسطلي، وهو من أبرز شعراء عهد انهيار الخلافة وبداية عهد الطوائف. ولد بقسطلة الغرب سنة 347 هـ من أصل بربري وتوفي سنة 421 هـ، وكان في شبابه من كتاب المنصور بن أبي عامر
_______
(1) الحلة السيراء (دوزي) ص 176. والقاهرة ج 2 ص 92.
(2) ترجمته في الصلة رقم 632.
(3) الحلة السيراء ج 2 ص 185.(2/430)
وشعرائه، وذاع اسمه بين ألمع شعراء الطوائف، ومدح عدداً من أمرائهم، ولاسيما الفتيان العامريين أمثال مجاهد ومظفر ومبارك وخيران، ثم التحق ببلاط سرقسطة، ومدح المنذر بن هود ثم ابنه يحيى. وقد وصفه الثعالبي في يتيمة الدهر، بأنه كان بين شعراء الأندلس، كالمتنبي بين شعراء المشرق، وقد ترك لنا ابن درّاج ديوان شعر ضخم يضم عدداً كبيراً من أروع القصائد في مختلف الأغراض (1). وقد اشتهر ابن دراج كذلك ببلاغته في الترسل، وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة طائفة من رسائله إلى جانب ما أورده من منظومه. وقد أوردنا نحن فيما تقدم شيئاً من نظمه. وكان من بين أمراء سرقسطة في الوقت نفسه، بعض الأدباء والعلماء البارزين، وهؤلاء سوف نذكرهم خلال حديثنا فيما يلي عن النهضة الفكرية العامة في عصر الطوائف.
- 3 -
إلى جانب هذه النهضة الأدبية والشعرية الزاهرة، يمتاز عصر الطوائف بنبوغ جماعة من العلماء الأفذاذ الذين يرتفعون إلى الذروة، في تفكيرهم ومستواهم العلمي الرفيع، وفي مقدمة هؤلاء العلامة الفيلسوف أبو محمد على بن حزم، وقد كان آية عصره في نضوج الذهن ودقة البحث، وعمق التفكير. ولد بقرطبة في سنة 384 هـ (994 م) في أواخر عهد المنصور، وكان أبوه أحمد بن حزم من وزراء ْالمنصور المقربين، ثم وزر من بعده لابنه عبد الملك. وقضى ابن حزم حداثته أيام الفتنة بقرطبة، ثم تجول حيناً في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين، وكان مثلهم يؤيد قضية الخلافة الأموية، ولما هدأت الأحوال نوعاً عاد إلى قرطبة، وتابع دراسته في المسجد الجامع. وبرع ابن حزم بالأخص في الفقه والعلوم الدينية والشرعية، وأصول المذاهب والنحل، وفي المنطق والفلسفة واللغة، والمعرفة بالسير والأخبار. وتولى الوزارة في شبابه للخليفة المستظهر الأموي، ثم نزح إلى شاطبة، وهنالك كتب كتابه " طوق الحمامة "، وهو دراسة نفسية تحليلية بديعة للحب وبواعثه وأشكاله، ومنه نعرف فضلا عن ذلك، الكثير عن حياة الفيلسوف،
_______
(1) نشر هذا الديوان بدمشق سنة 1961 بتحقيق الدكتور محمود علي مكي. وتراجع ترجمة ابن دراج في ابن خلكان ج 1 ص 51، وفي بغية الملتمس. الترجمة رقم 342. وأورد له الدكتور مكي في صدر الديوان ترجمة طويلة (ص 21 - 80).(2/431)
وعن منازل أسرته وعن خطط قرطبة المعاصرة. وكتب بعد ذلك عشرات من الكتب والرسائل في مختلف الموضوعات الفقهية والفلسفية والتاريخية. منها كتاب " الإحكام لأصول الأحكام "، وكتاب في الإجماع ومسائله على أبواب الفقه، وكتاب في مراتب العلوم، وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، ومنها كتاب " جوامع السيرة "، وهو عرض لسيرة الرسول وغزواته وذكر أصحابه، ومن روى عنه، وذكر نبذ من فتوح الإسلام بعد الرسول، و " جمهرة أنساب العرب " وهو وثيقة جامعة لأصول القبائل العربية وأنسابها، ومن نزل منها بالأندلس، و " نقط العروس " وهو يتضمن سلسلة من النوادر والحوادث، والمقارنات والنظائر التاريخية الفريدة. وإذا كان ابن حزم يصف لنا التاريخ بأنه " علم الأخبار "، ويعتبر علم النسب جزءاً من علم الخبر، فإنه يحق لنا بعد الذي تقدم من ذكر كتبه، أن نعتبره مؤرخاً بكل معاني الكلمة. على أن ابن حزم لم يكن مع ذلك مؤرخاً عادياً، بل كان بالعكس مؤرخاً من طراز خاص، بل ومن طراز نادر، من طراز أولئك المؤرخين الذين تعتبر كلماتهم، عن حوادث عصرهم وشخصياته، أحكاماً لا تقبل الجدل. وقد عاش ابن حزم في عصر فياض بالاضطرابات والأحداث المثيرة، هو عصر انحلال الخلافة الأندلسية، وقيام دول الطوائف، وشهد الكثير من أحوال هذا العصر وتقلباته، ومن تصرفات أمراء الطوائف، ومثالبهم، وبغيهم، واستهتارهم، وهزت هذه الأحداث مشاعره إلى الأعماق، ومن ثم كانت أقواله وأحكامه الصادقة التي أصدرها في حق الطوائف، والتي نقلناها فيما تقدم. بيد أن ابن حزم يشتهر بنوع خاص سواء في الشرق أو في الغرب، بكتابه الجامع " الفصل في الملل والأهواء والنحل ".
ويشيد البحث الحديث بابن حزم، وروعة علمه وتفكيره، ويخصص له العلامة الإسباني آسين بلاثيوس كتاباً يتناول فيه حياته وكتابه " الفصل " ويعتبره " مفكراً وعالماً لاهوتياً، ومؤرخاً ناقداً للأديان والمدارس الفلسفية الدينية " (1).
ويعتبره الأستاذ نكل " أديباً وشاعراً وفقيهاً، ومؤرخاً سياسياً وعالماً أخلاقياً " (2).
_______
(1) A.Asin Palacios: Abenhàzm de Cordoba y su Historia de las Ideas religiosas.
(2) A.R.Nykl: ibid ; p. 73(2/432)
وكان ابن حزم بالأخص داعية من أشد دعاة المذهب الظاهري، وقد غلبت هذه النزعة على سائر بحوثه الفقهية والكلامية، واعتبر حجة هذا المذهب وإمامه في عصره. وكان يتشدد كل التشدد في تطبيقه على العقائد، والأحكام، وهو لا يأخذ في تفسير الأحكام إلا بالكلمة المكتوبة، والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين، في صوغ الأحكام. وقد اشتهر باعتناقه لهذا المذهب حتى أن أنصاره سموا فيما بعد " بالحزمية " نسبة إليه. وقضى ابن حزم حياة فكرية عميقة خصبة.
وأثار في الوقت نفسه، بآرائه ونظرياته الأصولية والدينية من حوله خصومات كثيرة، واتهمه البعض بالمروق والزندقة، وأحرقت كتبه في إشبيلية بأمر المعتضد ابن عباد (1). ونزح في أواخر حياته إلى دار أسرته بقرية منت ليشم من أعمال لبلة، وهنالك توفي في شعبان سنة 456 هـ (1064 م) (2).
وكان من أقران ابن حزم الذين طرقوا مثل ميدانه في التفكير الديني والشرعي، العلامة أبو الوليد الباجي، وهو سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب التجيبي الباجي الحافظ. ولد بمدينة بطليوس غربي الأندلس سنة 403 هـ ودرس في قرطبة، ثم سافر إلى المشرق ودرس حيناً بمكة ثم في بغداد، ولما عاد إلى الأندلس عاش حيناً في بلاط ميورقة، وحيناً آخر في كنف المقتدر بن هود، واشتهر بردوده على ابن حزم، وكان قرينه في غزارة العلم وسعة المعرفة. وقد وصف بأنه من أئمة المسلمين. وتوفي في سنة 474 هـ (1081 م). ومن شعره:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة (3)
ونبغ إلى جانب ابن حزم عالم ومفكر جبار آخر، هو العلامة اللغوي الأعمى أبو الحسن على بن سيده، المتوفى في سنة 458 هـ (1066 م). وكان آية في الحفظ
_______
(1) ترجمته في جذوة المقتبس ص 290 - 293، وفي وفيات الأعيان ج 1 ص 428 - 431.
(2) في شهر مايو (من 12 - 18 منه سنة 1963) نظم بمدينة قرطبة مهرجان رسمي فخم للاحتفال بذكرى مرور تسعمائة عام على وفاة العلامة ابن حزم " القرطبي " وأقامت له بلدية قرطبة تمثالا بالحجم الطبيعي أمام باب إشبيلية على مقربة من الجامع. وأقيمت كذلك لوحة تذكارية لابن حزم بالإسبانية، أمام مدخل كنيسة سان لورنتسو التي أقيمت مكان الجامع الذي كان يتوسط بلاط مغيث وهو الحي الذي عاش فيه ابن حزم. ونظمت بهذه المناسبة عدة ندوات دراسية، وطائفة من الحفلات الفخمة. وقد كان مؤلف هذا الكتاب من شهود هذا المهرجان التاريخي العظيم.
(3) ترجمته في الصلة رقم 453.(2/433)
وقوة الذاكرة، وقد عاش بدانية في كنف أميرها العالم مجاهد العامري، وانقطع إليه، ولما توفي مجاهد، توجس من ولده على إقبال الدولة، فغادر دانية إلى بعض الأنحاء المجاورة. واشتهر ابن سيده بكتابه " المحكم " وهو قاموس لغوي ضخم، وكتاب " السمار ".
وكان من كتاب الموسوعات أيضاً العلامة اللغوي الجغرافي أبو عبيد البكري الذي سبق ذكره. وقد اشتهر بمعجمه اللغوي الجغرافي المسمى " معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع "، وهو مؤلف انتفع به الملك ألفونسو العالم في تاريخه العام له Cronica General
ويخص العلامة الأستاذ مننديث بيدال كتابي " الفصل " لابن حزم و " المحكم " لابن سيده بالذكر، وينوه بنفاستهما، ويقول: " إن النضوج العقلي اللازم لإخراج كتاب في تاريخ الأديان، أو قاموس للفكر المتشابهة، على مثل النمط الذي كتبت به هذه المصنفات الإسبانية الإسلامية، لم تصل إليه أوربا حتى القرن التاسع عشر " (1).
ومن أولئك العلماء الممتازين أيضاً العلامة ابن عبد البر، وهو أبو عمر يوسف ابن عبد الله النميري القرطبي، ولد سنة 368 هـ (978 م)، وقضى شطراً من حياته في دانية وبلنسية وشاطبة، ثم لحق أخيراً ببلاط بني الأفطس ببطليوس وعينه المظفر بن الأفطس قاضياً لأشبونة، ثم شنترين، وتوفي في سنة 463 هـ (1071 م). وكان من أوفر كتاب عصره علماً ومعرفة، وأشهر مؤلفاته كتاب " بهجة المجالس وأنس المُجالس " ويمتاز شعره بالرصانة والأنفة. وقد خدم ولده أبو محمد عبد الله بن عبد البر في بلاط بني عباد، حسبما تقدم ذكره في موضعه (2).
ويمكننا أن نذكر ضمن هذا الثبت من العلماء الأعلام، أميرين من أمراء الطوائف، هما مجاهد العامري صاحب دانية، وأبو عبد الرحمن محمد بن أحمد ابن طاهر صاحب مرسية. وكان مجاهد من أكابر علماء عصره في اللغة وعلوم القرآن، وكان بلاطه مجمعاً لطائفة من أشهر علماء العصر، وفي مقدمتهم ابن عبد البر، وابن سيده وذلك حسبما تقدم ذكره. وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر،
_______
(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 81
(2) نفح الطيب (عن رسالة ابن حزم في ذكر علماء الأندلس) ج 2 ص 131.(2/434)
كذلك من أعظم علماء الأندلس وكتابها أيام الطوائف، ويشيد معاصره ابن بسام حسبما تقدم بذكره وذكر أدبه في الذخيرة، وينوه بجمال رسائله وروعتها. وقد وقفنا على نص صك من إنشائه بتقديم صاحب أحكام على بعض جهات مرسية أيام رياسته لها يقول فيه: " قلدت فلاناً وفقه الله النظر في أحكام فلانة، وتخيرته لها بعد ما خبرته، واستخلفته واثقاً بدينه، راجياً لتحصنه، لأنه احتاط فعلم، وإن أضاع فأثم، فليقم الحق على أركانه، وليضع العدل، وليسر بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، فعف في الحكم عند اشتباهه، وبعده عند اتجاهه، ولا تقبل غير المرضي في شهادته، ولا تعرف سوى الاشتغال من علاته، ولتعلم أن الله مطلع على خفياته، وسلام يوم علاماته " (1).
هذا وقد كان عصر الطوائف، فضلا عن هذه النهضة الأدبية والفكرية الشاملة، يمتاز كذلك بازدهار الدراسات العلمية الممتازة. وقد نبغت فيه طائفة من أكابر الرياضيين والفلكيين، الذين كانت بحوثهم فيما بعد مستقى خصباً لاقتباس الغرب. وكان من هؤلاء أبو اسحق ابن ابراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي صاحب الجداول الفلكية الشهيرة أصله من طليطلة، ويعرف في الغرب باسم Azarquiel وقد ذاعت جداوله الفلكية، ذيوعاً عظيماً، وكانت في كثير من المواطن أصح من غيرها من الجداول القديمة، وتوفي الزرقالي سنة 480 هـ (1087 م). وأبو القاسم أصبغ بن السمح الغرناطي المتوفى سنة 438 هـ (1038 م)، وكان بارعاً في الهندسة والفلك، وله كتب قيمة في الهندسة وزيج فلكي. وأبو الوليد هشام الوقشي، وكان أبرع علماء عصره في الهندسة والفلسفة والنحو واللغة، وتلميذه أبو القاسم سعيد بن أحمد الطليطلي صاحب كتاب " طبقات الأمم " وهو تاريخ للعلوم. وقد كانت الجداول الفلكية التي وضعها أولئك العلماء المسلمون فيما بعد، أقيم مرجع لألفونسو ملك قشتالة في اقتباس جداوله. وقد اشتهر ألفونسو العالم بالأخص باعتماده على مصادر العلوم الأندلسية، ولاسيما في عصر الطوائف، واقتباسه تقاليد العلماء الأندلسيين في هذا العصر، الذي سبقه بنحو قرنين. وكانت سرقسطة، وطليطلة، وقرطبة، من أعظم مراكز
_______
(1) أورده ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " - الجزء الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس.(2/435)