بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين. ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلوة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين. وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد هذا لنموذج لطيف. وعنوان. شريف. ذكرت فيه وفيات من ظفرت بتاريخ وفاته. ممن مات في هذا القرن ز الذي أوله سنة إحدى وتسعمائة ختم بالحسنى. من سائر العلماء. والصلحاء. والقضاة. والأدباء. والملوك. والأعيان مصرياً كان أو شامياً. حجازياً كان أو يمنياً. رومياً. أو هندياً. مشرقياً أو مغربياً. وضممت إلى ذلك ذكر بعض الحوادث والماجريات والحكايات العجيبة. والملح الغريبة. ولا يعدم كل شخص من نادرة جرت له من الأخبار. وشعر نظمه من الأشعار. على وجه الاختصار وما يحصل من الاعتبار. ولله در من قال:
إذا عرف الإنسان أخبار من مضى ... تخيلته قد عاش حيناً من الدهر
فقد عاش كل الدهر من كان عالماً ... كريماً حليماً فاغتنم أطول العمر
هذا ولم استوعب كلما وقع في هذا القرن من الحوادث لعدم اطلاعي عليها. وإنما ذكرت ما انتهى إليه علمي منها. وربما أن الذي تركته. يكون أكثر مما ذكرته. ولكن إذا كانت الغايات لا تدرك. فاليسير منها لا يترك. وأرجو أن يكون هذا الكتاب كتاب حديث وفقه وتاريخ وأدب. وسميته:
النور السافر عن أخبار القرن العاشر
ولنذكر قبل الشروع في المقصود نبذة شريفة من أوصاف سيد المرسلين. وافضل الأولين والآخرين. تيمنا بذكره. واستشعاراً لعظيم قدره. عسى أن أسعد بشفاعته واحشر في زمرته. لحبي اياه. والتجائي الي شريف علياه. صلى الله عليه وسلم. وشرف. وكرم. ومجد. وعظم.
أعلم أن الله سبحانه لما أراد إيجاد خلقه ابرز الحقيقة المحمدية. من أنواره الصمدية . في حضرته الأحمدية . ثم سلخ منها العوالم كلها . علوها وسفلها. على ما اقتضاه كمال حكمته وسبق في علمه وارادته. ثم أعلمه تعالى بكماله ونبوته. وبشره بعموم دعوته . ورسالته . وبأنه نبى الأنبياء . وواسطة جميع الأصفياء . وأبوه آدم بين الروح والجسد . ثم انبجست منه عيون الأرواح . فظهر ممداً لها في عالمها المتقدم على عالم الأشباح . وكان هو الجنس العالي على جميع الأجناس. والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس . فهو وإن تأخر وجود جسمه . متميز على العوالم كلها برفعته وتقدمه. إذا هو خزانة السر الصمداني، ومحتد تفرد الأمداد الرحماني. وصح في مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم. قال: إن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. وكان عرشه على الماء. ومن جملة ما كتب في الذكر وهو أم الكتاب. إن محمداً خاتم النبيين وصح أيضاً أني عبد الله لخاتم النبيين. وأن آدم لمنجدل في طينته. أي لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه. وصح أيضاً: يا رسول الله متى كنت نبياً قال: وآدم بين الروح والجسد. ويروي: كتبت من الكتابة. وخبر كنت نبياً بين الماء والطين.
قال بعض الحفاظ لم نقف عليه بهذا اللفظ. وحسن الترمذي خبر: يا رسول الله حتى وجبت لك النبوة قال: وآدم بين الروح والجسد. ومعني وجوب النبوة وكتابتها. ثبوتها وظهورها في الخارج نحو. كتب الله لأغلبن. كتب عليكم الصيام. والمراد ظهورها للمليكة. وروحه صلى الله عليه وسلم في عالم الأرواح، أعلاماً بعظيم شوقه وتميزه على بقية الانبياء، وخص الاظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد . لانه اوان دخول الأرواح إلى عالم الاجساد والتمايز حينئذ أتم واظهر . فاختص صلى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه حينئذ ليتميز على غيره تميزاً اعظم وأتم . وأجاب الغزالي عن وصفه نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته وعن خبر: أنا أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، بان المراد بالخلق هنا التقدير لا الإيجاد. فانه قبل ان تحمل به أمه لم يكن مخلوقاً موجوداً. ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقديرلاحقة في الوجود . فقوله كنت نبياً، أي في التقدير قبل تمام خلقة آدم إذ لم ينشأ إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم . وتحقيقه ان للدار في ذهن المهندس وجوداً ذهنياً سبباً للوجود الخارجي، وسابقاً عليه، فالله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق تقدير بانيها انتهى ملخصاً.(1/1)
وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وابين وهو انه جاء ان الأرواح خلقت قبل الأجساد فالإشارة بكنت: نبياً إلى روحه الشريفة أو حقيقة من حقائقه لا يعلمها إلا الله ومن حباه الاطلاع عليها. ثم انه تعالى يؤتي كل حقيقة منها ما شاء في أي وقت شاء. فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم عليه السلام. أتاها الله ذلك الوصف بان خلقها متهيئة له، وافاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبياً وكتب اسمه على العرش ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده. فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وان تأخر جسده الشريف المتصف بها. فنحو ايتائه النبوة والحكمة وسائر أوصاف حقيقته وكمالاتها معجل لا تأخر فيه. وإنما المتأخر تكونه وتنقله في الأصلاب والأرحام الطاهرة إلى ان ظهر صلى الله عليه وسلم . ومن فسر ذلك بعلم الله بأنه سيصير نبياً لم يصل لهذا المعنى لان علمه تعالى محيط بجميع الأشياء. فالوصف بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي ان يفهم منه انه أمر ثابت له فيه. وإلا لم يختص بأنه نبي اذ الأنبياء كلهم كذلك بالنسبة لعلمه تعالى. واخرج ابن سعد عن الشعبي: متى استنبيئت يا رسول الله . قال: وآدم بين الروح والجسد حين اخذ مني الميثاق . وهو يدل على ان آدم عليه السلام لما صور طيناً استخرج منه صلى الله عليه وسلم . ونبي اخذ منه الميثاق ثم أعيد إلى ظهره ليخرج أوان وجوده. فهو أولهم خلقاً وخلق آدم السابق كان مواتاً لا روح فيه. وهو صلى الله عليه وسلم . كان حياً حين استخرج ونبي وأخذ منه الميثاق . ولا ينافي هذا ان استخراج ذرية آدم إنما كان بعد نفخ الروح فيه. لانه صلى الله عليه وسلم . خص من بين بني آدم بذلك الاستخراج الأول.
وفي تفسير العماد بن كثير عن علي وابن عباس رضي الله عنهم. في قوله تعالى. وإذ اخذ الله ميثاق النبيين الآية ان الله لم يبعث نبياً إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قوله. واخذ السبكي من الآية. انه على تقدير مجيئه في زمانهم مرسل إليهم فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلايق من آدم إلى يوم القيمة. وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته. فقوله وبعثت إلى الناس كافة. يتناول من قبل زمانه أيضاً. وبه يتبين معنى: كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد. وحكمه كون الأنبياء في الآخرة تحت لوائه وصلاته بهم ليلة الإسراء. وروى عبد الرزاق بسنده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ان الله خلق نور محمد قبل الأشياء من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم " الحديث بطوله " .
واختلفوا في أول المخلوقات بعد النور المحمدي. فقيل العرش. لما صح من قوله. صلى الله عليه وسلم: قدر الله مقادير الخلق قبل ان يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء. وصح أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب. قال: ربي وما اكتب قال. اكتب مقادير كل شيء. لكن صح في حديث مرفوع ان الماء خلق قبل العرش. فعلم ان أول الأشياء على الإطلاق النور المحمدي. ثم الماء، ثم العرش، ثم القلم، لما علمت من حديث: أول ما خلق الله القلم مع ما قبله الدالين على ان التقدير وقع بعد العرش، والتقدير وقع عند خلق القلم. فذكر الأولية فيه بالنسبة لما بعده.
وورد لما خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه فكان يلمع في جبينه. ولما توفي كان ولده شيث وصيه فوصى ولده بما وصاه به أبوه. ان لا يوضع هذا النور الا في المطهرات من النساء. ولم يزل العمل بهذه الوصية إلى ان وصل ذلك النور إلى عبد الله مطهراً من سفاح الجاهلية. كما اخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك في عدة أحاديث.(1/2)
وكانت ولادته عليه الصلاة والسلام. يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول بعد الفيل بسنتين وشهرين، وقيل ليلة الجمعة السابع عشر من ربيع الأول في زمن الملك انوشروان. وبعث إلى الأسود والأحمر والإنس والجن. وكان له أربعون سنة. وقيل ويوم. وكان بعد عشرين سنة من ملك ابرويز. وأقام بعد البعثة في مكة ثلاثة عشرة سنة على الاصح، وقيل خمسة عشر،وقيل عشرا. ثم هاجر إلى المدينة ودخلها ضحوة يوم الاثنين اثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، واقام بها بالاجماع عشر سنين. ففي السنة الأول من المحرم: بنى مسجده وسكنه، وآخا بين المهاجرين والأنصار. وشرع الأذان.
وفي السنة الثانية منها: في صلاة العصر من نصف شعبان. حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. فدار صلى الله عليه وسلم في ركوع الركعة الثانية، ودارت الصفوف خلفه إلى الكعبة في مسجد بني سلمة. فسمي مسجد القبلتين. وفي شعبان منها. فرض صوم رمضان. وفيها. فرضت صدقة الفطر وفي رمضان هذا كانت غزوة بدر. وفي شوال منها. بنى بعائشة رضي الله عنها: وفيها تزويج فاطمة رضي الله عنها.
وفي السنة الثالثة منها: غزوة أُحد يوم السبت السابع من شوال، ثم غزوة بدر الصغرى في هلال ذي القعدة. وفيها: غزوة بني النضير. وحرمت الخمر بعد غزوة أُحد.
وفي السنة الرابعة منها: غزوة الخندق. وتسمى الأحزاب. وحاصروا المدينة خمسة عشر يوماً. ثم هزمهم الله تعالى وحده. وفيها قصرت الصلاة ونزل التيمم.
وفي السنة الخامسة منها غزوة ذات الرقاع. أول المحرم، وفيها: صلى صلاة الخوف. وفيها: غزوة دومة الجندل. وغزوة بني قريظة.
وفي السنة السادسة منها: غزوة الحديبية، وبيعة الرضوان، وغزوة بني المصطلق.
وفي السنة السابعة منها: غزوة خيبر.
وفي السنة الثامنة منها: غزوة مؤتة، وذات السلاسل، وفتح مكة في رمضان، وغزوة حنين والطايف.
وفي السنة التاسعة منها: غزوة تبوك وتتابعت الوفود، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وفي السنة العاشرة منها: حجة الوداع، ووفاة إبراهيم، وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحوة يوم الإثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. ومدة مرضه الذي توفي منه اثنا عشر يوما، وقيل: أربعة عشر يوما.وكان عمره عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين سنة.(1/3)
ومن أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم، القرآن كلام الله ، المتلو آناء الليل والنهار. وقد اعجز الجن والأنس لا يقدرون على أن يأتوا بسورة مثله بل ولا بآية. وكل معجزات الأنبياء عليهم السلام انقطعت بموتهم إلا معجزته صلى الله عليه وسلم، وانشق القمر. كما نطق به القرآن. وصح من طرق، وكلمه الضب، كما رواه الحاكم في صحيحه، وأخبر أن خزاين كسرى تنفقها أمتي في سبيل الله ، وان ملك كسرى والروم يفتح، فكان كذلك وأن المسلمين يقاتلون قوما صغار الأعين عراض الوجوه، ذلف الأنوف أي فطسها وان الشام واليمن يفتحان، وأن أمته تفتح مصر: ارض يذكر فيها القيراط. وإن أويس القرني يقدم في إمداد اليمن. وكان به برص فبريء الأقدر درهم. وهاجت ريح شديدة فقال هذه الريح لموت منافق. قال جابر: فقدمنا المدينة فوجدنا عظيما ً من المنافقين قد مات. وأكل من شاة لقمة. ثم قال: هذه تخبرني بأنها أخذت بغير أذن أهلها. فإذا هو كما قال، وتحرك الجبل فقال اسكن فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيدان فسكن. وكان هو، أبو بكر، وعمر وعثمان عليه. وفي صحيح مسلم: أن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك امتى ما زوى لي منها. وفي البخاري: نبع الماء من بين أصابعه بالحديبية فتوضأوا وشربوا وهم خمس عشرة ماية، ومرة أخرى وهم ثلثمائة، ومرة. وهم ما بين السبعين إلى الثمانين. وحديث المزادتين. قال عمر: أن شربنا منهما ونحن نحو الأربعين فلم تنتقصا، وسبح في كفه الحصا. وكذلك الطعام كان يسمع تسبيحه وهو يؤكل. وسلم عليه الحجر. وشهد الذئب بنبوته. ومر في سفره ببعير يستقى عليه الماء فلما رآه جرجراي صوت فقال: انه شكى كثرة العمل وقلة العلف. ومر ببعير آخر في حايط فلما رآه حن وذرفت عيناه. فقال لصاحبه انك تجيعه، وشكى له بعيران عجز صاحبها عن شدتهما. وجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عنده وهو نائم فسلمت عليه. وأمر شجرتين فاجتمعتا حتى قضى حاجته خلفهما ثم أمرهما قتفرقتا. ودعا عذقاً فنزل من جزعه حتى سقط في الأرض فجعل. ينقز في الأرض حتى أتاه. ثم قال له: أرجع فرجع مكانه وأمر بنحر ست بدنات فجعلن يزدلفن إليه بايتهن يبدأ. وأصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد حتى وقعت على وجنته فردها صلى الله عليه وسلم بيده. فكانت اصح عينيه وأحدهما. فكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وتفل في عين علي رضي الله عنه يوم خيبر وكان ارمد فبرىء من ساعته، واتاه وهو شاك فدعا له فما اشتكى وجعه ذلك، وكسرت رجل عبد الله بن عتيك فمسحها صلى الله عليه وسلم بيده فبريت من من وقته. واخبر انه يقتل أمية بن خلف فكان كما قال، وأخبر بمصارع المشركين ببدر هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله فلم يعد واحد منهم مصرعه الذي سماه، وان طوايف من أمته يركبون البحر غزاة في سبيل الله كالملوك على الأسرة وأن أم حرام خالة أنس بن مالك منهم فكان كذلك، وأخبر أن عثمان رضي الله عنه تصيبه بلوى فقتل صابراً، وقال للحسن رضي الله عنه.(1/4)
أن بني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فسلم الأمر لمعاوية، وأخبر بقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة مقتله وبمن قتله وهو بصنعاء من اليمن فجاء كما قال، وأخبر بمثل هذا عن كسرى فكان كذلك، وقال لرجل يدعي الإسلام وهو في القتال معه: إنه من أهل النار فصدق الله تعالى قوله بأن نحر نفسه، وشكي إليه قحط المطر وهو على المنبر. فدعا الله وما في السماء فزعة أي قطعة سحاب فثار سحاب أمثال الجبال. فمطروا إلى الجمعة الأخرى، فشكي إليه كثرة المطر، فدعا الله فرفعه في الحال، وأطعم أهل الخندق وهم ألف من صاع شعير، واطعم جماعة من تمر يسير لم يملأ كفيه . واطعم في منزل أبي طلحة ثمانين رجلا من أقراص شعير جعلها انس تحت إبطه حتى شبعوا وبقي كما هو، وامر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان يزود أربعمائة راكب من تمر قليل فزودهم وبقي كأنه لم ينتقص، وأطعم الجيش من مزود أبي هريرة رضي الله عنه حتى شعبوا ثم رد ما بقي منه وكان وضعه في يده ودعا له فأكل منه مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. فلما قتل عثمان ذهب وحمل منه نحو ثمانين وسقا في سبيل الله ،وأطعم في بنائه بزينب بنت جحش رضي الله عنها من قصعة أهدتها له أم سليم خلقاً كثيراً، ثم رفعت وهي كما هي. صلى الله عليه وسلم. كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.
ولبعض فضلاء العصر قصيدة عظيمة. في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أحببت أن آتي بها هنا بكمالها لينقطع بها ما أردناه في المقدمة من الكلام، ولتكون لهذا التاريخ مسك الختام وهي:
إني أرى في النوم اني في الكرى ... واصلته يا رب حقق ما جرا
لم يسر لي إلا خيال خيالهم ... ماذا على طيف الأحبة لو سرا
ولقد جرى كالنهر سائل مدمعي ... أترى درى ذاك الرقيب بما جرا
أوقفت دمع العين يجري في الهوى ... أنا لا أسأل هل درى أو ما درى
يا صاح قم ودع التواني واصطبح ... من بنت قشر بالجواهر تشترى
هي قهوة بنية قشرية ... في طيبة تجلى وفي أم القرى
فاشرب شراب الصالحين ولا تقل ... ادر الزجاجة فالنسيم قد انبرا
فالصبح قد وافت طلايع جيشه ... والنجم قد صرف العنان عن السرا
لا عيش إلا والشبيبة غضة ... منها يكاد الماء أن يتقطرا
لله مجلسنا الأنيس وقد بدت ... فيه الغزال تصيد آساد الشرى
سفرت فكانت والبدور طوالع ... منها ومن شمس الظهيرة أنورا
خطرت فقام الغصن يلثم اثرها ... ورنت فظل الظبي منها أحورا
ولقد نظرت إلى الرياض ووجهها ... فرأيت طلعتها البهية أنضرا
أندى على الأكباد من قطر الندى ... إن قطرت ذاك اللمي لي قطرا
وعبابها أشهى إليّ من المنى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى
ولقد حمت عني سلافة ريقها ... ظناً بأني لا أحب المسكرا
من قال إن سلاف فيك محرم ... يا منيتي ما قال إلا منكرا
رامت تصيد حشاشتي قلت لها ... فالصيد كل الصيد في جوف الفرا
شهرت سيوف لحاظها تنعي الحشا ... فسعى إليها بالدماء مشهرا
صدت والوت عن محب صادق ... ما كان صدك لي حديثاً يفترى
ولقد سرت لي من حماها نسمة ... فنشقتها ودرى الفؤاد بما درى
ويلاه ما أذكى عبير ترابها ... قد فاق كل الطيب حتى العنبرا
يا دارها ما أنت إلا جنة ... ياريقها ما أنت إلا كوثرا
يا لفظها يا ثغرها يا نحرها ... ما أنت يا ذالعقد إلا جوهرا
ساومت مبسمها بدرا مدامعي ... ان يشتري دراً فهذا المشترى
لكن رأيت الدهر غير مساعد ... ورأيت منه ما لعقلي ابهرا
صبراً لهذا الدهر في تصريفه ... صبراً على ما في فؤادي اسعرا(1/5)
اني لأصبر والخطوب جليلة ... وعلى العظائم كلها لن يصبرا
وإذا عرتني في الأمور ملمة ... أو كربة مالي سوى خير الورى
طه أجل الأنبياء امامهم ... من فاق كل المسلمين بلا مرا
الحامد المحمود اكرم مرسل ... وهو المشفع إذ يروم المحشرا
وله الشفاعة في الخلائق كلهم ... فصل القضا واجل منه واكبرا
وله الوسيلة وهي أعلى رتبة ... وله اللوا اعظم بذلك مفخرا
كل الخلائق تحت ظل لوائه ... أكرم بعسكره المكرم عسكرا
للعرض باتوا والوجوه منيرة ... كلا تراه مهللا ومكبرا
ان مسهم ظماء فحوض المصطفى ... يردون منه في القيامة كوثرا
يا أمة المختار شرفتم به ... وعلوتم أمما وكنتم أخيرا
فالحمد لله الذي قد خصنا ... بنبيه وحبيبه خير الورى
هو أحمد ومحمد وله لوا ... الحمد محمود المقام وقد سرا
نحو السموات العلى ليلا على ... ظهر البراق فنال ما لم يحصرا
ولقد رأى رب العباد بعينه ... تالله ما هذا حديث يفترى
من حيث لا جهة ولا اين وقد ... جاء الحديث بصدق ذلك مخبرا
أوحى إليه الله ما أوحى وقد ... وافا لمضجعه وقد حمد السرى
الله أكبر يا لها من رتبة ... ما نالها أحد سواه إذا ترى
الله أكبر يا لها من مزة ... قد خصها المولى الحبيب الأكبرا
فليهنأ ما قد رأى من ربه ... وليهننا من فضله ما قد نرى
الله اكرمه بوحي منزل ... فاتاه جبريل الأمين على حرا
فدعا إلى سبل النجاة مبشراً ... وعن الغواية قد نهانا منذرا
ختمت شريعته الشرايع كلها ... اذ كان في أم الكتاب مصدرا
كم معجزات محكم آياتها ... كم بينات باهرات للورى
مزمل مدثر اسماؤه ... أكرم به مزملا مدثرا
اني إذا مارست مدح المصطفى ... فأنا الخطيب وقد علوت المنبرا
واذا نظمت قلائداً في مدحه ... تالله ما نظمت إلا جوهراً
او ما رأيت المسك وهو مضرج ... لما أتيت بما يفوق العنبرا
ها قد وجدت حلاوة في مطمعي ... ذوقوا فمي تجدوا حلاه سكرا
وكذاك في شمي وجدت طلاوة ... عرفاً تأرجه يفوق العبهرا
وكذاك في سمعي وجدت لذاذة ... لما سمعت حديثه مستبشرا
وكذاك في بصري رأيت بصيرة ... لما نقاب الحجب عني أسفرا
وكذاك في لمسي شهدت تفاوتاً ... مذ لامست كفاي هاتيك الثرى
هذي الظواهر والبواطن مثلها ... إن شاء ربي قط لا يستكثرا
في جنب مدحته وفضل جنابه ... ذا هين والله يعطي أكثرا
ولسوف يعطي في القيامة مثل ما ... أعطاه في الدنيا وما لم يحصرا
يا رب بالمختار طه جد لنا ... بالعفو منك وهب لنا خير القوى
فبه توسلنا إليك ومن يكن ... طه وسيلته فقد نال الكرا
يا سيد الشفعآء دينك ملتي ... وعليه أرجو أن أوسد في الثرى
وأجيب عنه بفضل ربي ثانياً ... وعليه أرجو أن أقوم وأحشرا
يا سيدي فاشفع لعبد مذنب ... ركب الذنوب مفرطاً ومقصرا
وأطال في ليل الجهالة ركضة ... حتى إذا صبح الحقيقة أسفرا
أضحى ولا عمل لديه ولا له ... امل يرجيه إذا خطب عرا
الا تمسكه بحبك سيدي ... فهو النجاة له إذا فصمت عرا(1/6)
فعليك صلى الله ما ودق هما ... وعليك صلى الله ما برق شرا
وعليك سلم كلما حج الورى ... أو أمك الزوار من أم الفرى
وكذاك آلك والصحابة كلهم ... ما أمك العافون أو ركب سرى
أو يمم السارون نحوك طلبا ... سهروا وقد وافوك يلتمسوا الكرى
وفدوا وقد حطوا بسوحك رحلهم ... فقبلت زورتهم وفازوا بالقرى
يا رب صل على الحبيب وآله ... والصحب ماصبح السعادة أسفرا
وكذا السلام عليه ثم عليهم ... كرره ما أحلى ثناه مكررا
لاسيما الصديق ثاني اثنين من ... بالصدق والتصديق قد بهر الورى
وكذلك الفاروق من أردى العدى ... والدين نال بعزه أوج الذرى
وكذاك ذو النورين عثمان الذي ... يتنور المحراب منه إذا قرا
وكذا أبو السبطين صنوا المصطفى ... بعل البتول ومن يسمى حيدرا
وكذاك كل الآل والأصحاب والأ ... زواج اكرم بالقرابة معشرا
وكذاك تابعهم وتابع تابع ... بالخير يقفو الأثر حتى المحشرا
يا رب واختم لي بخير انني ... متوسل بالمصطفى خير الورى
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من التاريخ فنول وبالله التوفيق.
ففي سنة إحدى وتسعمائة
سنة إحدى وتسعمائة(1/7)
توفي الشيخ عبد الرحمن بن علي بن صالح أبو زيد المكودي نسباً الفاسي المكي شارح الاجرومية . وفيها: عند غروب الشمس يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة. توفي سلطان الديار المصرية الملك قايتباي الجركسي المحمودي الاشرفي ثم الظاهري. وصلي عليه يوم الاثنين، وكان له مشهد عظيم، ولم يخلفه مثله في الجراكسة، بل قيل إنه لم يمكث أحد في المملكة قدر مدته، فكانت قريب ثلاثين سنة، وصلي عليه في المسجد الثلاثة، وختم له فيها بعدة ربعات أحد ملوك الديار المصرية، والحادي والأربعون من ملوك الترك البهية، بفية الملوك العظام، وخاتمة النظام، ولد تقريباً سنة بضع وعشرين وثمانمائة . وقدم مع تاجره محمود بن رستم في سنة تسع وثلاثين. فاشتراه الاشرف برسباي، ثم صار إلى الملك الظاهر فأعتقه ولم يزل عنده يترقى من مرتبة إلى أن صار الملك وذلك في سنة اثنتين وسبعين. وكان بعض أولياء الله تعالى قد اشار إلى ملكه قبل أن يفضى إليه الملك بزمان. فقال له في واقعة: قم أنت أيها الملك الأشرف قايتباي، وحكي مثل ذلك مثل آخر بل أرسل إليه مع بعض خاصته بالبشارة بذلك فخشي صاحب الترجمة أن يناله بسوء من المتولي إذ ذاك بسبب هذا الإبعاد واستبعد وقوع هذا الأمر غاية الاستبعاد. ورأي بعضهم كأن شجرة رمان ليس بها سوى حبة واحدة وأن صاحب الترجمة بادر قطعها فتأوله الرأي بأخذه للملك وأعلمه بذلك فأمره باخفاء هذا المنام لذلك أيضاً. ولما أستقر في المملكة. أخذ في الحل والعقد والعزل والعهد. ولم يكن في زمنه منازع ولا مدافع. وطالت أيام دولته السعيدة. وسار في الناس السيرة الحميدة. وأجتهد في بناء المشاعر العظام بحيث وقع له من ذلك ما لم يتفق لغيره من ملوك الإسلام. كعمارة مسجد الخيف بمنى. وحفر بنمره صهريجاً ذرعه عشرون ذراعاً. وعمر بركة خليص. وأجرى العين الطيبة إليها. بل أصلح المسجد الذي هناك بحيث عم الأنتفاع بكله للقاطن والسالك. وعمر عين عرفة بعد أنقطاعها ازيد من قرن. وعمر سقاية سيدنا العباس. وأصلح بئر زمزم والمقام، وجهز في سنة تسع وسبعين للمسجد منبراً عظيماً ونصبه في ذي القعدة. وكان يرسل للكعبة الشريفة بكسوة فائقة جداً في كل سنة. وأنشأ بجانب المسجد الحرام عند باب السلام مدرسة عظيمة. بها صوفية وتدريس، وفقرا، وخزانة للربعات وكتب العلم، وبجانبها رباط للفقراء والطلبة مع أجراء القوت لهم في كل يوم. وسبيل عظيم للخاص والعام. ومكتب للأيتام . وكذا أنشأ بالمدينة النبوية مدرسة بديعة بهية. بل بنى المسجد الشريف بعد الحريق. وجدد المنبر والحجرة والمصلى النبوي إلى غيرها من المحراب العثماني والمنارة الرئيسية بداء على عود بل رتب لأهل السنة من أهلها. والقادمين عليها. من كبير وصغير وغني وفقير ورضيع وفطيم. وخادم وخديم. ما يكفيه من البر. ومن الدشيشة والخبز ما تيسر . وعمل أيضاً ببيت المقدس مدرسة كبيرة . بها شيخ وصوفية ودرسة. وغير ذلك مما يطول ذكره. قال السخاوي وبالجملة فلم يجتمع لملك ممن أدركناه ما اجتمع له. ولا حوى من الحذق والذكاء والمحاسن مجمل ما أشتمل عليه ولا مفصله. وربما مدحه الشعراء ولا يلتفت إلى ذلك. ويقول لو أشتغل بالمديح النبوي كان أعظم من هذه المسالك. وترجمته تحتمل مجلدات. قال: وله تهجد. وتعبد. وأوراد وإذكار وتعفف. وبكاء من خشية الله تعالى. وميل لذوي الهيئات الحسنة. والصفات وتلاوة. ومطالعة في كتب العلم والدقائق وسير الخلفاء والملوك. بحيث يسأل القضاة وغيرهم الأسئلة الجيدة. وربما افادهم في بعض الأحيان والاعتراف من نفسه بالتقصير والاعتقاد فيمن يثبت عنده صلاحه من الصلحاء والعلماء. قال وتكرر وجهه لبيت المقدس. والخليل. وثغور دمياط. واسكندرية. ورشيد وأزال كثيراً من الظلامات الحادثات وزار من هناك من السادات. بل حج في طائفة قليلة. سنة أربع وثمانين. ووهب وتصدق وأظهر من تواضعه وخشوعه في طوافه وعبادته ماعد من حسناته. قال: وبلغني عن بعض الصالحين. أنه اخبر برؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام تلك الأيام. وأخبر بأنه من الفرقة الناجية. قال: وقد حج قبل ترقيه في زمن الظاهر وذلك في سنة سبع وأربعين وكذا انفق أموالا عظيمة في غزوة الكفار. ورباط الثغور. وحفظ الامصار. رحمه الله تعالى.(1/8)
وفيها: قدم إلى مدينة زبيد. بكتاب: فتح الباري شرح البخاري للحافظ شهاب الدين بن حجر من البلد الحرام. وهو أول دخول اليمن. وكان السلطان عامر أرسل لاشترائه فاشتراه بمال جزيل. ثم قدم به الرسول إلى مدينة زبيد.ثم توجه به إلى باب السلطان فواجهه به في مدينة " تعز " . وهذا الكتاب من آيات الله. الكبرى.
وفيها: حصل طوفان عظيم من ناحية بحر الهند غرق منه في بندر الديو عشرة مراكب. وفي الباحة أربعة مراكب. وتلف فيها من الاموال مالا ينحصر. وتغيرت أربعة مراكب. وأنكسرت أدقالهم. ورموا من حملهم أكثر من النصف. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي يوم الأحد. وقت العصر الثامن والعشرين من شهر شعبان.
سنة أثنين بعد التسعمائة(1/9)
توفي الشيخ العلامة الرحلة الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي الأصل. القاهري. الشافعي، بالمدينة الشريفة، حال مجاورته الأخيرة بها، وعمره إحدى وسبعون سنة وصلي عليه بعد صلاة الصبح يوم الاثنين ثاني تاريخه بالروضة الشريفة، ووقف بنعشه تجاه الحجرة الشريفة، ودفن بالبقيع بجوار مشهد الإمام مالك، وكان جنازته حافلة، ولم يخلفه بعد مثله في مجموع فنونه، وكانت ولادته في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، وحفظ القرآن العظيم، وهو صغير وجوده، ثم حفظ المنهاج الأصلي، والفية ابن مالك، والنخبة، والفية العراقي، وشرح النخبة، وغالب الشاطبية، ومقدمة الشاوي في العروض، وكلما أنتهى حفظه لكتاب، عرضه على شيوخ عصره. وبرع في الفقه والعربية والقراءة وغيرها، وشارك في الفرائض والحساب والميقات وأصول الفقه والتفسير وغيرها، وأما مقرواته ومسموعاته فكثيرة جداً لا تكاد تنحصر، واخذ عن جماعة لا يحصون حتى بلغت عدة من اخذ عنه زيادة على أربعمائة نفس. وأذن له غير واحد بالإفتاء والتدريس والإملاء وسمع الكثير من الحديث على شيخه إمام اللائمة الشهاب بن حجر، وأقبل عليه بكليته اقبالاً يزيد على الوصف حتى حمل عنه علماً جماً. وأختص به كثيراً بحيث كان من اكثر الآخذين عنه وأعانه علي ذلك قرب منزله منه وكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر. وقرأ عليه الاصطلاح بتمامه. وسمع عليه جل كتبه كالافية وشرحها مراراً. وعلوم الحديث إلا اليسير من أوائله لأبن الصلاح. واكثر تصانيفه في الرجال وغيرها كالتقريب. وثلاثة أرباع اصله، واللسان بتمامه. ومشتبه النسبة . وتخريج الزاهر. وتلخيص مسند الفردوس. والمقدمة. وأماليه الحلبية. والدمشقية. وغالب فتح البارى وتخريج المصابيح. وابن الحاجب الأصل. وتعليق التعليق. ومقدمة الإصابة. وجملة يطول تعدادها. وفي بعضه ما سمعه أكثر من مرة. ولم يفارقه إلى أن مات. وأذن هل في الإقراء والإفادة والتصنيف. وتدرب به في معرفة العالي. والنازل. والكشف عن التراجم والمتون. وساير الاصطلاح. وغير ذلك وجاب البلاد وجال. وجد في الرحلة. وأرتحل إلى حلب. ودمشق. وبيت المقدس. والخليل. ونابلس. والرملة. وحماه. وبعلبك. وحمص. بحيث أن الذي سمع عنهم يكونون قريب مائة نفر بل زاد عدد من أخذ عنه من الاعلى والدون والمساوي على ألف ومائتين. والأماكن التي تحمل فيها من البلاد والقرى على الثمانين . وأجتمع له من المرويات بالسماع والقراءة ما يفوق الوصف. وهي تتنوع انواعاً تنيف على العشر حسبما ذكره مستوفي في ترجمته من تاريخه. وأعلى ما عنده من المروي ما بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بالسند المتماسكة فيه عشرة انفس واكثر منه. وأصح ما بين شيوخه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فيه العدد المذكور، واتصلت له الكتب الستة، وكذا حديث كل من الشافعي، واحمد، والدرامي بثمانية وسائط، وفي بعض الكتب الستة كأبي داود من طريق آخر وأبواب في النسائي ما هو سبعة بتقديم " المهملةو أتصل له حديث مالك وأبي حنيفة بتسعة بتقديم، " المثناة " وحج بعد وفاة شيخه ابن حجر مع والديه ولقي جماعة من العلماء. فاخذ عنهم كأبي الفتح الأعز، والبرهان الزمزمي، والتقي بن فهد ، وأبي السعادات ابن ظهيرة، وخلائق. ثم زار المدينة الشريفة، ورجع إلى القاهرة ملازماً للسماع والقراءة والتخريج، والإستفادة من الشيوخ والأقران من غير فتور عن ذلك ولم يزل يجتهد في السماع ويرحل إلى الأقطار حتى وصل إلى ما وصل إليه. وخصه بعض شيوخه على عقد مجلس الإملاء ، فامتثل إشارته فاملا حتى اكمل تسعة وخمسين مجلساً ، ثم توجه إلى الحج في سنة سبعين فحج وجاور ، وحدث هناك بأشياء من تصانيفه وغيرها ، واقرأ ألفية الحديث تقسيماً ، وغالب شرحها لناظمها ، والنخبة وشرحها واملأ مجالس بالمسجد الحرام . ولما رجع إلى القاهرة شرع في املأ تكملة تخريج شيخه للاذكار ، ثم املا تخريج اربعي النووي ثم غيرها بحيث بلغت مجالس الاملاء ستماية مجلس فأكثر ، وكذا حج في سنة خمس وثمانين ، وجاور سنة ست ثم سنة سبع ، وأقام منها ثلاثة أشهر بالمدينة النبوية . ثم في سنة اثنين وتسعين ، وجاور سنة ثلاثة، ثم سنة اربع، ثم في سنة ست وتسعين ،وجاور إلى أثناء سنة ثمان فتوجه إلى المدينة النبوية(1/10)
فأقام بها شهراً وصام رمضان بها ، ثم عاد في شوالها إلى مكة ، ومكث بها ما شاء الله ثم رجع إلى المدينة وجاور بها إلى أن مات ، وحمل الناس من أهلهما والقادمين عليهما عنه الكثير جداً " رواية ودراية " وحصلوا من تصانيفه مع ملازمة الناس في منزله للقراءة " دراية ورواية " في تصانيفه وغيرها بحيث ختم عليه ما يفوق الوصف من ذلك . وأخذ عنه من الخلايق ما لا يحصى كثرة . وشرع في التصنيف والتخريج قبيل الخمسين . وهلم جرا . وتصانيفه إليها النهاية في الشهادة له لمزيد علوه وفخره . ومن تصانيفه فسح المغيث بشرح الفية الحديث0 ( وهو مع اختصاره في مجلد ضخم وسبك المتن فيه على وجه بديع لا يعلم في هذا الفن اجمع منه ولا أكثر تحقيقاً لمن تدبره . وتوضح له . حاذى به المتن بدون الإفصاح . والمقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة . وهو كتاب جليل لم يسبق إلى مثله مفيد في بابه جداً . والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع . وهو في غاية الحسن . والضوء اللامع لأهل القرن التاسع . يكون ست مجلدات . وعمدة المحتج في حكم الشطرنج. والمنهل العذب الروي . في ترجمة قطب الأولياء النووي . والجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر . في مجلد ضخم . وربما يكتب في مجلدين. والتاريخ المحيط وهو في نحو ثلثماية ورقة على حروف المعجم . لا يعلم من سبقه إليه . وتلخيص تاريخ اليمن . ومنتقى من تاريخ مكة للفاسي . والفوايد الجلية في الأسماء النبوية . والفخر العلوي في المولد النبوي . وارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف . والايناس بمناقب العباس . ورجحان الكفة في بيان أهل الصفة . والأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والانجيل والقول المتين في تحسين الظن بالمخلوقين . وغير ذلك ، وقرض أشياء من تصانيفه غير واحد من أئمة المذهب . كالحافظ ابن حجر . والجلال المحلي . والعلم البلفيني والشرف المناوي . والتقي الحصني .و العيني. والكافياجي . وتناقلها الناس إلى كثير من البلدان والقرى. وكتب الأكابر بعضها بخطوطهم . حتى قال بعضهم إن لم تكن التصانيف هكذا وإلا فلا.فأقام بها شهراً وصام رمضان بها ، ثم عاد في شوالها إلى مكة ، ومكث بها ما شاء الله ثم رجع إلى المدينة وجاور بها إلى أن مات ، وحمل الناس من أهلهما والقادمين عليهما عنه الكثير جداً " رواية ودراية " وحصلوا من تصانيفه مع ملازمة الناس في منزله للقراءة " دراية ورواية " في تصانيفه وغيرها بحيث ختم عليه ما يفوق الوصف من ذلك . وأخذ عنه من الخلايق ما لا يحصى كثرة . وشرع في التصنيف والتخريج قبيل الخمسين . وهلم جرا . وتصانيفه إليها النهاية في الشهادة له لمزيد علوه وفخره . ومن تصانيفه فسح المغيث بشرح الفية الحديث0 ( وهو مع اختصاره في مجلد ضخم وسبك المتن فيه على وجه بديع لا يعلم في هذا الفن اجمع منه ولا أكثر تحقيقاً لمن تدبره . وتوضح له . حاذى به المتن بدون الإفصاح . والمقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة . وهو كتاب جليل لم يسبق إلى مثله مفيد في بابه جداً . والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع . وهو في غاية الحسن . والضوء اللامع لأهل القرن التاسع . يكون ست مجلدات . وعمدة المحتج في حكم الشطرنج. والمنهل العذب الروي . في ترجمة قطب الأولياء النووي . والجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر . في مجلد ضخم . وربما يكتب في مجلدين. والتاريخ المحيط وهو في نحو ثلثماية ورقة على حروف المعجم . لا يعلم من سبقه إليه . وتلخيص تاريخ اليمن . ومنتقى من تاريخ مكة للفاسي . والفوايد الجلية في الأسماء النبوية . والفخر العلوي في المولد النبوي . وارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف . والايناس بمناقب العباس . ورجحان الكفة في بيان أهل الصفة . والأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والانجيل والقول المتين في تحسين الظن بالمخلوقين . وغير ذلك ، وقرض أشياء من تصانيفه غير واحد من أئمة المذهب . كالحافظ ابن حجر . والجلال المحلي . والعلم البلفيني والشرف المناوي . والتقي الحصني .و العيني. والكافياجي . وتناقلها الناس إلى كثير من البلدان والقرى. وكتب الأكابر بعضها بخطوطهم . حتى قال بعضهم إن لم تكن التصانيف هكذا وإلا فلا.(1/11)
فايدة - وكان شيخه شيخ الإسلام ابن حجر ابن حجر. يحبه ويثني عليه. وينوه بذكره. ويعترف بعلو فخره. ويرجحه على ساير جماعته المنسوبين إلى الحديث وصناعته. وكان من دعواته له. قوله: والله المسؤول أن يعينه على الوصول إلى الحصول حتى يتعجب السابق من اللاحق. ومما وصفه به بعض الحفاظ بعد كلام تقدم: وهو والله بقية من رأيت من المشايخ، وأنا وجميع طلبة الحديث بالبلاد الشامية والبلاد المصرية وساير بلاد الإسلام عيال عليه. والله أعلم في الوجود له نظيراً. وقال غيره. هو الآن من الافراد في علم الحديث الذي اشتهر فيه فضله وليس بعد شيخ الإسلام ابن حجر فيه مثله. وقال غيره: واسطة عقدها من العقد الإجماع على أنه أمسى كالجوهر الفرد. وأصبح في وجه الدهر كالغرة. حتى صارت الغرر مع جواهره كالذرة. بل جواد جوده شهد له جريانه بالسبق في ميدان الفرسان. وحكم له بأنه هو الفرع الذي فاق أصله. البديع بالمعاني فلا حاجة للبيان. أضاء هذا الشمس فاختفت منه كواكب الدراري، كيف لا وقد جاده الفيض بفتح الباري. نخبة العصر والدهر وعين القلادة، في طبقة الجود لأنه عين السخاء وزيادة، فبدايته إليها النهاية، ومنهاجه أوضح طرق إلى الغاية، وهو الخادم للسنة الشريفة، والحاوي لمحاسن الاصطلاح والنكت المنيفة، فبهجته زهت بروضها، وروضته زهت ببهجتها. وقال آخر: هو الذي انعقد على تفرده بالحديث النبوي الاجماع. وانه في كثرة اطلاعه وتحقيقه لفتوته بلغ ما لا يستطاع. ودونت تصانيفه واشتهرت. وثبتت سيادته في هذا الفن النفيس وتقررت. ولم يخالف أحد من العقلاء في جلالته، ووفور ثقته وديانته وأمانته، بل صرحوا بأجمعهم بأنه هو المرجوع إليه في التعديل والتجريح، والتحسين والتصحيح، بعد شيخه شيخ مشايخ الإسلام ابن حجر حامل راية العلوم والأثر، وقال آخر: لقد أجاد النقل من كلامي الله ورسوله الكريم القديم والحديث، وسارت بفضله الركبان وبالغت في السير الحثيث، ومدحه آخر بهذه الأبيات وهي:
يا سيداً أضحى فريد زمانه ... ودليل ما قد قلته الاجماع
عندي حديث مسند ومسلسل ... نرويه بالاتقان لا الوضاع
ما في الزمان سواك يلقى عالماً ... صحت بذاك اجازة وسماع
الخير فيك تواترت أخباره ... وهو الصحيح وليس فيه نزاع
يا من إذا ما قد أتاه ممرض ... يشكو زوال الضر والأوجاع
ورئي بعد موته على هيئة حسنة. فقيل له ما فعل الله بك. قال حاسبني وغفر لي وحشرني مع العلماء، وترجمته في تاريخه ثلاثة كراريس على القطع الكامل. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله عقب تلك الترجمة: إن شيخنا صاحب الترجمة حقيق بما ذكره لنفسه من الأوصاف الحسنة، ولقد والله أعلم العظيم لم أر في الحفاظ المتأخرين مثله، ويعلم ذلك كل من اطلع على مؤلفاته أو شاهده، وهو عارف فقيه منصف في تراجمه، ورحم الله جدي حيث قال في ترجمته: إنه انفرد بفنه فطار اسمه في الآفاق، وكثرت مصنفاته فيه وفي غيره، طار صيته شرقاً وغرباً شاماً ويمناً، ولا أعلم الآن من يعرف علوم الحديث مثله، ولا أكثر تصنيفاً ولا أحسن، ولذلك أخذها عنه علماء الآفاق من المشايخ والطلبة والرفاق، وله اليد الطولى في المعرفة بالعلل، وأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح، والتعديل، وإليه يشار في ذلك. ولهذا قال بعض العلماء: لم يأت بعد الحافظ الذهبي أحد سلك هذه المسالك، ولقد مات فن الحديث من بعده وأسف الناس على فقده ولم يخلق بعده مثله انتهى، وولي تدريس الحديث في مواضع متعددة وعرض عليه قضاء مصر، فلم يقبله رحمه اله تعالى.
وفيها: في شهر ذي القعدة، توفي الفقيه الصالح جمال الدين محمد المقبول ابن أبي بكر الزيامي. صاحب قرية اللحية. نفع الله به.
وفيها: أمر السلطان عامر بن عبد الوهاب. بتقييد رئيس الإسماعيلية سلميان ابن حسن بمدينة تعز. واودعه دار الأدب. وكان يتحدث بما لا يعنيه من المغيبات المستقبلات. وكان عالم الإسماعيلية. وأمر بإحضار كتبه واتلافها. فاتلفت والحمد لله.
وفي ربيع الأول
سنة ثلاث بعد تسعمائة(1/12)
توفي العالم العارف بالله الجليل الرباني محمد بن أحمد باجرفيل الدوعاني رحمه الله. بغيل أبي وزير من أعمال الشحن، " وجرفيل " بجيم ثم راء ثم فاء، وكان مولده في يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة عشرين بعد الثمانمائة. غلب عليه التصوف فخاض غماره وحقق أسراره وصار من كبار مشايخ الطريقة، واعلام رجال أئمة الحقيقة، يقتدى بآثاره، ويهتدى بأنواره. وحكي عنه أنه قال: لم أصحب مع كثرة من صحبته من العارفين بالله مثال الشيخ علي ابن أبي بكر فلازمته أربعة أشهر على أن يقول لي. أنت منا أهل البيت. كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم " لسلمان الفارسي " رضي الله عنه. فلم يجبني إلى ذلك. فلما ألححت عليه وتحقق صدق ودي ومحبتي لأهل البيت. فقال يا فقيه إن الدين النصيحة لا يجيبك إلى مقصودك هذا إلا الشيخ أبو بكر بن عبد الله. فإنه القطب الوارث للقطبية من صغره بعد موت أبيه الشيخ عبد الله بن أبي بكر. ونحن نكتب لك إليه أن يجيبك إلى مرادك. قال: والشيخ أبو بكر يومئذ باليمن. فكتب الشيخ علي إليه. وكتبت أنا أيضاً إليه. فأتانا منه بحمد الله الجواب بالقصد والمراد. قال العلامة بحرق ولقد كنت استشكل أشياء تصدر من سيدي الشيخ أبي بكر العيدروسي. قدس الله روحه. تقصر عنه عقول أمثالنا القاصرة. ولكني كنت بتوفيق الله أعرضها على أرباب البصائر فما منهم إلا ويأمرني بالتسليم. ويشهد عندي بعلو مقام سيدي وانه على هدى من ربه العليم. منها: أني عرضت على الفقيه محمد بن أحمد باجرفيل تصرفات مالية يباشر سيدي في قبضها وصرفها في ظاهر الأمر في غير مصارفها. فقال لي أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد، والتصرفات كلها، وأشهد أنه أفضل أهل الأرض ظاهراً وباطناً. فقلت له أما الباطن فبصائرنا عنه قاصرة. وأما الظاهر فما وجهه. فقال: وجهه أن أهل البيت أفضل من سائر الناس. وآل باعلوى اليوم أفضل من ساير أهل البيت باتباعهم السنة. ولما اشتهر لهم من العبادة والزهادة والكرم وحسن الأخلاق. والشيخ أبو بكر أفضل آل باعلوي بالاتفاق. فهو أفضل أهل زمانه.(1/13)
وفيها: في بوم السبت خامس عشر شوال. توفي الفقيه المنور المتفق على جلالة قدره علماً وعملاً وورعاً. جمال الدين محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الشهير بابن علي بافضل السعدي. نسبة إلى سعد العشيرة. الحضرمي. ثم العدني رحمه الله بعدن وحزن الناس عليه. وكثر تأسفهم إلى فقده. رحمه الله. وكان مولده في حضرموت بتريم. سنة أربعين وثمانمائة.. ثم ارتحل في طلب العلم إلى عدن وأخذ عن الامامين الفاضلين محمد بن مسعود باشكيل. ومحمد بن أحمد باحميش. وجد في الطلب ودأب حتى برع في العلوم وانتصب للتدريس والفتوى. وصار من أعلام الدين والتقوى. وكان إماماً كبيراً عالماً عاملاً محققاً ورعاً زاهداً. مجتهداً عابداً. مقبلاً على شانه تاركاً لما لا يعنيه. ذا مقامات وأحوال وكرامات. وكان حسن التعليم. لين الجانب. متواضعاً. صبوراً مثابراً على السنة. معظماً لأهل العلم. وكان هو وصاحبه العلامة عفيف الدين عبد الله بن أحمد بامحزمه عمدة الفتوى بعدن. وكان بينهما من التوادد والتناصف ما هو مشهور. حتى كأنهما روحان في جسد. وكان يعظم الشيخ أبا بكر العيدروسي. قال العلامة بحرق: كان سيدي الشيخ أبو بكر قدس الله روحه، إذا قدم من بعض أسفاره من الجبال إلى عدن قدم قبله قاصداً يعلم أكابر الناس بقدومه يوم كذا. ويأمرهم بالخروج لملاقاته، فقلت للفقيه محمد بن أحمد بافضل لأي شيء يفعل الشيخ هذا. قال ليوصل الناس إلى رحمة الله، ويوصل رحمة الله إليهم بالنظر إليه، والحضور بين يديه ولو لحظة واحدة، ثم يخرج يتلقاه مع الناس، وكان كثير السعي في حوايج المسلمين عند الملوك وغيرهم. وكان محبباً للناس معتقداً عند الخاص والعام معظماً عند الملوك والأمراء لا تكاد ترد له شفاعة. وكان الشيخ عامر بن عبد الوهاب كثير التعظيم له. وبالجملة فمناقبه وفضائله ومحاسنه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر وأفرد له ولده الفقيه عبد الله ترجمة. وهذه القصيدة المسماة بالوابل الصيب، والنرجس الطيب، نظم سيدنا ومولانا الشريف الولي الصالح سراج الدين عمر بن عبد الرحمن باعلوي المقبور بتعز في السيد الإمام شيخ الإسلام أوحد العلماء الأعلام جمال الدنيا والدين محمد بن أحمد أبي الفضل. رحمهما الله تعالى ونفع بهما وبعلومهما. وأعاد علينا من أسرارهما. ومعارفهما. آمين. آمين، وهي هذه القصيدة:
إلى الله أشكو حر نيران فرقة ... لها في فؤادي مثل طعن الذوابل
وأسأله جمعاً بوصل محجب ... عن الجاهلين الغافلين الأسافل
عسى بعد هذا البعد يجمع شملنا ... به ربنا معطي منا كل آمل
سقى الله أوقاتاً لنا في ربوعهم ... إذا أخطرت بالبال هاجت بلابلي
وزاد اشتياقي للحبيب وقربه ... وأنشد لا أخشى ملام العواذل
سلام على شخص به " عدن " زهت ... " أبا فضل " المشهور زين الشمائل
جمال لدين الله خادم شرعه ... دليل طريق الله بدر المحافل
نواوي هذا الوقت شمس زمانه ... بهي المحيا جامع للفضائل
حبيب محب للمساكين مونس ... ومقمعة للظالمين الاراذل
فعن منكر ناه وبالعرف آمر ... لكل ولا يخشى عناة القبائل
حليم سليم دائم البشر والرضا ... صبور وقور عند وقع النوازل
له منظر بالقلب يعلق فهمه ... ولو كان فدماً أبكماً غير عاقل
وتدريسه في كل فن مؤسس ... بتعليله يا صاحبي والدلائل
ويرفق بالقاري البليد كأنه ... له أم ثدي مشفقاً بالمسائل
فيهنا جرام الشوك مسكنه به ... وتدريسه يا ليت ثم منازلي
لأنظره في كل يوم وليلة ... وأسأله عن كل حق وباطل
فنظرته تسلي الهموم جميعها ... ولفظته غيث لمصغ بقائل
حبا الله ذاك الوجه نوراً وبهجة ... جمالاً وعقلاً ظاهراً غير خامل
كبحر خضم في العلوم قد امتلى ... وفاض على الجنبات فوق السواحل(1/14)
فإن شئت تفسيراً له اسال فإنه ... كمعدن تبر ماله من معادل
وإن شئت في علم الحديث لقيته ... ككنز له خاف عن السهو عاطل
وإن شئت في فقه الإمام بن شافعٍ ... تراه كليث في المعارك جايل
نعم أو كبستان حوى كل طيب ... وفيه بيوت عاليات المنازل
وإن شئت في علم التصوف والصفا ... تراه إماماً عارفاً غير جاهل
أديباً لبيباً قانعاً متواضعاً ... عن الذكر للرحمن ليس بغافل
وإن شئت في علم اللغات ونحوها ... وتصريفها أيضاً وكل الوسائل
كعلم المعاني والبيان وغيرها ... تراه لها أهلاً شفا كل سائل
فيا من يريد العلم فارحل ولا تقف ... إلى عالم بالعلم لله عامل
هو الشيخ والأستاذ والنور والهدى ... وخير مجيب عن جميع المسائل
إمامي وأستاذي وشيخي وسيدي ... ومحبوب قلبي صادقاً غير هازل
فيا لائمي خل الملام فانني ... حببت وحيداً ما له من مماثل
تفكر بقلب منصف هل ترى ... له شبيهاً فإن لم تلقه لا تجادل
غزير الحيا كل الحجا حاز والصفا ... مليح الحلا شيخ الشيوخ الأفاضل
إذا ما أتت منه إلينا رسائل ... فلله ربي درها من رسائل
تفرج أحزاناً وتكشف كربة ... وتجذب أحوالاً حوالي المناهل
إمام له خلق حميد وسيرة ... سمت فاق بالأوصاف كل الأماثل
زكي تقي مخلص صادق صفا ... من الغش والبغضا وكل الدغايل
وكم من محامد ليس تحصى قصيدتي ... له يا أخي زادت على قول قائلي
واستغفر الله العظيم من الخطا ... ومن جمح الاهوى وكل الرذائل
وتمت بحمد الله ربي وعونه ... وصلى آلهي في الضحى والأصايل
وسلم تسليماً كثيراً ودائماً ... على المصطفى للحسن كامل
وله تصانيف نافعة منها: مختصر الأنوار. المسمى نور الأبصار. وهو في غاية الحسن. وكأنما عناه المتنبي بقوله:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها واماقيا
وشرح تراجم البخاري، واختصر قواعد الزركشي وشرحه. وكتاب العدة والسلاح لمتولي عقود النكاح. وهو مشهور انتفع به الناس. وشرح المدخل وشرح. البرماوية. وغير ذلك من الكتب النافعة. في فنون متعددة ومن شعره.
إن العيادة يوماً بين يومين ... واجلس قليلا كلحظ العين بالعين
لا تبرمن مريضاً في مسائلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين(1/15)
وفيها: في ليلة الاثنين سلخ ذي القعدة الحرام. توفي الشريف الفقيه الصوفي الأديب الحافظ المحدث البارع في أشتات العلوم. بدر الدين الحسين بن الصديق بن الحسين بن عبد الرحمن الأهدل. قدس الله أرواحهم. ببندر عدن ودفن بها، وكان مولده في ربيع الثاني سنة خمس وثمانماية بأبيات حسين ونشأ بها بنواحيها، واشتغل بها في الفقه على الفقيهين أبي بكر بن قعيص وأبي القسم ابن عمر بن مطير وغيرهما. وفي النحو على أولهما وغيره ثم انتقل إلى بلاد المرواغة، واشتغل بها على الفقيه إبراهيم بن أبي القسم جعمان وغيره. ثم دخل زبيد في سنة ثمان وستين فاشتغل بها في الفقه على عمر الفتى وغيره. وفي الأدب على ابن الزين الشرجي. ثم حج سنة اثنتين وسبعين وجاور التي تليها، وحضر مجالس البرهان والمجيوى قاضيها، وأذن له البرهان وغيره. وزار النبي صلى الله عليه وسلم. وسمع بها من أبي الفرج المراغي. ثم عاد لبلاده، وأخذ عن يحيى العامري وبحث عليه المنهاج. ذكره السخاوي في ضوئه قال: ولازمني في المجاورة الثالثة بمكة فقرأ علي أشياء من تصانيفي بعد أن كتبها بخطه، وكذا سمع من لفظي، وعلي أشياء. قال: وهو فاضل بارع في فنون ناظم مفيد حسن القراءة والضبط لطيف العشرة متودد قانع عفيف اقرا الطلبة بناحيته، وقرأ الحديث على العامة سيما القول البديع ونحوه. مدحني بقصيدة انشدنيها بحضرة الجماعة وكتبت له إجازة حافلة. ورأيت النجم بن فهد كتب عنه من نظمه كثيراً وترجمة انتهى. وذكره العلامة بحرق في كتابه موهب القدوس في مناقب ابن العيدروس وقال اني قلت مرت له إن أحوال سيدي الشيخ أبي بكر اشكلت علينا. فقال: دعها تحت حجابها، مستورة بسحابها. فلو أشرقت شمسه لا حرقت الوجود كله. أما ترانا نقف على أبوابه. ونكتفي بتقبيل أعتابه. قال: وهكذا رحمه الله يقبل العتبة وينصرف. ورأيت كأنه ورد عليه مرة حال فأخذ بيدي وهو كالذاهل فقال لي: تريد أن أُريك القطب. فقلت: نعم. فمشى حتى أتينا إلى سيدي الشيخ أبي بكر فقال: هذا هو القطب وانصرف. ولم يلبث أن امتدح سيدي الشيخ بقصيدته التي أولها: من الحسان الخرد، قد صادني غرير، يرمي بقوس حاجب. وأنشده اياها فلما بلغ المنشد قوله: يا عيدروس الأولياء، يا حايز الكمال، القطب أنت الأكمل.
كان الشريف الحسين ينظر اليّ ثم يشير بيده إلى سيدي الشيخ، ويقول: القطب أنت الأكمل، القطب أنت الأكمل. يكررها ليحقق ما كان قاله لي في المنام في حالة ذهوله. ومن شعره:
يا سيدي يا الهي ... إن لم تكن لي فمن لي
أنت العليم بحالي ... فارحم بعزك ذلي
ومنه:
أما لهذا الهم من منتهى ... اما لهذا الحزن من آخر
أما لهذا الضيق من فارج ... اما لناب الخطب من كاشر
أما لهذا العسر من دافعٍ ... باليسر عن هذا الشجى العاثر
بلى بلى مهلاً فكن واثقاً ... بالواحد الفرد العلى القادر
ومنه هذه الوسيلة العظيمة وهي:
يا رسول الله عوناً مدد ... أنتم الوالد والعبد ولد
يا رسول الله في جاهك ما ... يبلغ القاصد أقصى ما قصد
يا رسول الله مالي عتد ... غير حبك ويا نعم العتد
يا رسول الله قوم أودى ... فلكم قومت بالدين أود
يا رسول الله هل من نظرة ... تصلح القلب سريعاً والجسد
يا رسول الله هل من جذبة ... تجذب العبد إلى النهج الجدد
يا رسول الله هل من عطفة ... تعطف العبد إلى طرق الرشد
يا رسول الله هل من نفحة ... منك تأتي ومن الفرد الصمد
يا رسول الله كن لي شافعاً ... أنت والله شفيع لا ترد
يا رسول الله هل تسمعني ... أي وربي تسمع القول وقد
أنا بالله وبالوجه الذي ... قال ذو العرش له أسجد فسجد
سيد الرسل ختام الأنبيا ... صاحب السجدة والقول الأسد
أصل مبدأ الكون بل غايته ... حجة الله على كل أحد(1/16)
رجمة الله التي عم بها ... كل مخلوق على مر الأبد
صفوة الله من الخلق معاً ... فهو الجوهر والخلق زبد
الذي قد خصه الله بما ... يعجز العد فلا يحصى عدد
كلما في الانبيا من شرف ... ضم فيه بعد أن كان بدد
ولقد زيد عليهم شرفاً ... واختصاصات بمعناها انفرد
من ليوم الجمع إلا أحمد ... يوم لا والد يغني عن ولد
ينقذ الناس بسجدات له ... من هموم وكروب وشدد
يا مجلي الكرب السوداغث ... مارآءك الكرب إلا وشرد
يا مليح الوجه يا خير الورى ... أنت بعد الله نعم المعتمد
يا عظيم الجاه والفضل ويا ... أكرم الخلق إليك المستند
مدحتي نحوك قد أهديتها ... فاجرني بقبول ومدد
واسأل الرحمن لي من فضله ... العفو والغفران والرزق الرغد
رب جنبنا بجاه المصطفى ... كل كد وبلاء ونكد
واقضي حاجاتي واصلح عملي ... واختم العمر بخير إن نفد
وكذاك الآل والأصحاب من ... قد دنا منهم إلينا وابتعد
وصلاة الله مع تسليمه ... لرسول الله من غير امد
وكذلك الآل والأصحاب من ... قام للدين بنصر واجتهد
ببقاء الله تبقى وعلى الآ ... ل والصحب فهم آل الرشد
ببقاء الله تبقى دائماً ... وعلى الآل فهم آل الرشد
قلت ولعله يشير بقوله:
يا رسول الله هل تسمعني ... أي وربي تسمع القول وقد
إلى أنه صلى الله عليه وسلم تبلغه صلاة المصلين عليه، ومدح المادحين لجنابه العلي. للأحاديث الصحيحة. كقوله صلى الله عليه وسلم. ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام. كقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله وكل بقبري ملكاً أعطاه اسماء الخلائق فلا يصلي على أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني باسمه واسم أبيه. هذا فلان بن فلان قد صلى عليك. وقد يتشرف بعض الأولياء فيسمع الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم. كما وقع للناظم رحمه الله. من أنه لما زار النبي صلى الله عليه وسلم. ووقف على القبر الشريف وأنشد قصيدة. يقول فيها:
إن قيل زرتم بما رجعتم ... يا سيد الرسل ما نقول
فسمع الجواب من الحجرة الشريفة:
قولوا رجعنا بكل فضل ... واجتمع الفرع والأصول(1/17)
وفيها: في يوم السبت حادي عشرين المحرم توفي الإمام العلامة مفتي مدينة عدن ومدرسها، وخاتمة العلماء بها صاحب الفتاوى المفيدة، والتصانيف العديدة. الفقيه عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم با محزمه الحميري الشيباني الهجراني الحضرمي العدني الشافعي بعدن، ودفن قريباً من قبر شيخه أبي شكيل داخل قبة الشيخ جوهر في القبر الذي دفن فيه شيخ مشايخ الإسلام مفتي اليمن القاضي جمال الدين محمد بن سعيد ابن الطبري. وكان مولده ليلة الأربعاء ثاني عشر رجب سنة ثلاثة وثلاثين وثمانمائة بالهجرين، وحفظ القرآن بها ثم ارتحل لطلب العلم إلى عدن، وتفقه بالإمامين محمد بن مسعود باشكيل ومحمد بن أحمد باحميش واجتهد في الطلب ودأب واكب على الاشتغال ليلاً ونهاراً. وكان فقيراً لا يملك شيئاً. وقاسى في أيام طلبه من الجوع والمكابدة ما هو مشهور عنه. وبرع في ساير العلوم. وحقق الفنون. وساد الاقران وسارت بفضله الركبان. ووقع على تقدمه الاجماع. وابتهجت بذكره النواظر والأسماع. وصار عمدة يرجع إلى قوله وفتواه. في زمان مشايخه. فلما رأى شيخه أبو شكيل ما آل إليه أمره اغتبط به واحبه. وخطبه لنكاح بنته وزوجه اياها. ورزق منها أولاداً فضلاء نجباء، سيأتي ذكر بعضهم، وكان عالماً بالفقه، والأصلين، والفرائض، والحساب، والتفسير، والحديث، والنحو، والتصريف واللغة، وعلم المعاني، والبيان، والهيئة، والفلك، وغيرها من العلوم المشهورة، والفنون المذكورة، وكان من العلوم بحيث يقضى له في كل فن بالجميع، وكان مهاباً حتى أن العلامة الصالح عفيف الدين عبد الله بن عبسين كان يقول: اني لا أخاف ولا أهاب أحداً من العلماء إلا الفقيه عبد الله با محزمه، فأني أكاد أرعد من هيبته، وكان الملوك في زمانه يخضعون له ويخافونه، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا يراعي أحداً في دين الله، ولا يخاف في الله لومة لائم وكان صاحبه الإمام الولي جمال الدين محمد بن أحمد بافضل كثير التعظيم له، وبلغني أن الفقيه رحمه الله سئل أي أعلم أم الفقيه محمد؟ فقال: أنا أعلم منه وهو أورع مني. أو قال ادين مني.وكان الشيخ علي بن طاهر أول ملوك اليمن من بني طاهر. كثير التعظيم له. والاغتباط به. والامتثال لأمره. والانقياد له. والتأدب معه .ولم يزل به حتى ولاه القضاء بعدن على كره منه. بعد أن شرط عليه شروطاً وفى له بها. فباشر الوظيفة بنزاهة تامة. وصدع بالحق وإقامة العدل. واجتهاد في إيصال الحقوق. واغلاظ للظلمة من الأمراء والوزراء وغيرهم. وقمعهم عن الظلم. وتحكيم الشرع فيهم. فمكث على ذلك نحو سنتين أو سنة ونصف. ثم هرب من البلد على حين غفلة من أهلها. وركب البحر إلى الشحر. ثم إلى بلده الهجرين فراراً من القضاء. وحذراً من فتنته. فعفاه السلطان منه وعول عليه في الرجوع مكرماً من غير قضاء. فرجع. ذكره السخاوي في تاريخه. قال: وكان برع في الفقه وأصوله. والعربية. والحديث. والتفسير. وكان من شيوخه في الفقه باحميش. وفي غيره باشكيل. محمد بن مسعود قاضي عدن. وغيرهم. كابي هرمز الحضرمي، وهو من أصلح شيوخه قلت: ولبس منه خرقة التصوف. قال: ودرس وأفتى وكلفه علي بن ظاهر قضاء عدن، فدام قريب أربعة أشهر، ثم ترك وتوجه لنفع الطلبة خاصة مع علوهمة وشرف نفس. وعمل على جامع المختصرات نكتاً في مجلدة. وكذا على الفية النحو في كراريس مفيدة. وشرح الملحة للحريري شرحاً حسناً. ولخص شرح ابن الهايم على هايميته إلى غير ذلك. مثل الرسائل في علم الهندسة. وغيرها. وفتاواه مجيدة وعبارته محكمة. انتهى. كلام السخاوي. وله كتاب الفتاوي. وهو كتاب جليل عظيم الفائدة. وممن تخرج به من الأئمة الأعيان. الفقيه العلامة الصالح عفيف الدين عبد الله ابن عبد الرحمن فضل المعروف بابن الحاج. والإمام العلامة جمال الدين محمد بن عمر باقضام. والفقيه العلامة عثمان بن محمد العمودي. والقاضي الإمام البارع محمد بن عمر بحرق. ورأيت بخط الفقيه عبد الله بن الحاج فضل رحمه الله في آخر جواب له على مسألة اختلف فيها فقهاء عصره ما لفظه: وقد افتى بذلك سيدنا وشيخنا الفقيه العلامة عبد الله بن أحمد محزمه رحمه الله وأخذه من مقتضى كلام الأصحاب وهو أحق من أن يقلد انتهى. وبالجملة فإنه كان بقية العلماء العاملين. وليس له نظير في زمانه. ولم يخلفه بعده مثله. رحمه(1/18)
الله تعالى وكان بعض الأولياء يقول في حقه. إنه من الأربعة الأوتاد. الذين يحفظ الله بهم البلاد والعباد. ويغيث بهم الحاضر والباد. وكان رجمه الله يقول عمري سبعون سنة. فكان كذلك. ومن أولاده الفقيه الصوفي عمر، وكان تصوف بعد أن برع في العلم. وكان شيخه في التصوف الشيخ عبد الرحمن باهر مز. وله معه حكاية طويلة. ومن شعره:ه تعالى وكان بعض الأولياء يقول في حقه. إنه من الأربعة الأوتاد. الذين يحفظ الله بهم البلاد والعباد. ويغيث بهم الحاضر والباد. وكان رجمه الله يقول عمري سبعون سنة. فكان كذلك. ومن أولاده الفقيه الصوفي عمر، وكان تصوف بعد أن برع في العلم. وكان شيخه في التصوف الشيخ عبد الرحمن باهر مز. وله معه حكاية طويلة. ومن شعره:
اعط المعية حقها ... واحفظ له حسن الأدب
واعلم بأنك عبده ... في كل حال وهو رب
ونظمه كثير جداً. فهو مشتمل على كثير من اشارات الصوفية واصطلاحاتهم. ومسائلهم الدقيقة. وعليه حلاوة. وفيه طلاوة. ولاجل هذا يحفظه أهل تلك الجهة كثيراً ويتمثلون به، ويستعملونه غالباً في مغانيهم. ويعتنون به أشد العناية. حتى العوام. وهو سلس الألفاظ، قريب المعاني. يفهمه كل أحد بحسب حاله في المحبة المجازية. ونحو ذلك. وهو مع ذلك مشتمل على ذكر كثير من الأمثال المتداولة بينهم ومنه هذه الوسيلة العظيمة التي اشتملت على ذكر كثير من اولياء الله. رضي الله عنهم. وهي:
يا رب بالشيخ الجنيد وخاله ... وشقيق والشبلي وشهرة حاله
وحبيب العجمي وداود فتى ... طي وبصري وطيب وصاله
وبتستري الدار سهل وما سرى ... بسراه في الاسرار من سلساله
وبزهد ابراهيم صفوة ادهم ... وفضيل الضافي على افضاله
وبشارة كرمان وبابن خفيفهم ... متحمل الأثقال من أثقاله
وببشر بشر طيب الاسم الذي ... بحفاه لم يحتج لخصف نعاله
والواسطي جمال أرباب الصفا ... جالي صفا أسرارهم بصقاله
وجليل جيلان الذي قد توجت ... تيجان فخر من عظيم جلاله
مولاي عبد القادر المنعوت في ... الملكوت بالبازي لبعد حلاله
والشاذلي المدعو أبو الحسن الذي ... خفقت قبول القرب من اقباله
وسفيره المرسي عيبة سره ... ومنيل من والاه خير نواله
وائمة الإسلام اعلام الهدى ... وحماة علم الشرع كاف كماله
سفيانها الثوري وابن عيينة ... وأبو حنيفة من جلا بجماله
ظلم الجهالة والمملك مالك ... والشافعي وحزبه ورجاله
وبأحمد المحمود صفوة حنبل ... إذا ذاك لم ينسج على منواله
وبفخر شيراز أبي اسحاقها ... وصلاحه المصيون عن اخلاله
وبسره المسرور في تنبيهه ... وبهاء مهذبه وزهو جماله
وبحجة الإسلام مرشد أهله ... سبل الصواب بصائبات مقاله
ببسيطه ووسيطه ووجيزه ... بما حكى الأحياء من أحواله
وضيا جواهره وما ابداه في ... منهاجه من عين عذب زلاله
يا الله يا رباه يا غوثاه يا ... من لا يصون السؤل عن سؤاله
فرج علي واجل عن قلبي الصدى ... اني مؤمل طلق عقد عقاله
وازح غيوم الغم عنه ونحه ... وارحه يا مولاي من اغلاله
وأذقه برد الإنس مما يختشى ... وانله ما يرجوه من آماله
واجعل صلاتك والسلام يحفها ... أبداً على خير الأنام وآله
سر الوجود محمد وأميره ... ومنيره بمقاله وفعاله
ومنه أيضاً هذه الوسيلة التي نظم بها أكثر مشايخ الرسالة نفع الله بهم. وهي.
يامن لقب بالصبابة ممتلي ... واضالع بلظى القطيعة تصطلي
من ذا لمابي كاشفاً الاك يا ... من قد مددت له أكف توسلي(1/19)
يا الله يامن لا إله نؤمه ... إلا هو انظرني بعين تفضل
يا حي يا قيوم ثبتني وكن ... باللطف والتدبير لي أبداً ولي
يا من هو الله العظيم ومن له ... العرش العظيم ومن عليه توكلي
أنعم علي فأنت اكرم منعم ... وأغفر ذنوبي واعف وأكف وجمل
وتوفني لك مسلماً ومسلما ... مع اولياك بحق حقك يا علي
وبآية الكرسي أعظم آية ... وبسرآيات الكتاب المنزل
وبحق خير العالمين محمد ... هادي الانام وغوث كل مؤمل
وبحق اسرافيل بل ورفيقه ... جبريل قيدوم الفريق الأول
وبحق ميكائيل خازن رزقنا ... وبقابض الارواح غير ممهل
وبحرمة الصديق والفاروق بل ... وبحق عثمان وسيدنا علي
وبحق فاطمة البتول وابنها ... حسن وبالثاني حسين الأفضل
وبجعفر الطيار بل وبحمزة ... وبجمع أصحاب النبي الكمل
والتابعين لهم باحسان ومن ... والاك من أهل المحل المعتلي
بيقين زين العابدين وباقر ... وبجعفر ذي الصدق والفخر الجلى
وبكظم موسى والملقب بالرضى ... زاكي الاصول على المتبتل
بالياس والخضر النقيب ومن مضى ... ممن تصوف في مدى الزمن الخلي
بالشيخ سهل التستري أمامنا ... وأخيه معروف أبلغني مأملي
بسرى بالشيخ الجنيد بحارث ... بشقيق البلخي بذي النون الولي
وبابن أدهم ثم بالطائي وبا ... لحافي الفقير الزاهد المتنصلي
بفضائل الشيخ الفضيل وبابنه ... وبحال طيفور الذي منه ملي
بأبي سليمان وابن مبارك ... وبحاتم والواسطي الفيصل
وبأحمد ابن أبي الحواري ثم ... منصور بن عمار الدليل الموصل
بابي تراب وابن مسروق وبا ... لشبلي وابن معاذ يحيى الأنبل
برويم وابن جنيتي والحداد و ... القصاب ثم نحير المتبذل
وبابن خضرويه وبالنوري و ... الدقاق والمكي عمر والاعدل
وبابن عاصم وأحمد وسعيد ... الحيزي وبابن الفضل كن يا رب لي
وبابن الأعرابي وابن نصيره ... والرقي إبراهيم المتبهل
بمحمد الرقي وشيخ زمانه ... استاذنا السيار والمتأول
بالرازي الأواب عبد الله و ... ابن نجيد والبوشيخي المتجمل
وبشيخنا ابن خفيف بل يعلي ... الخضري تجاوز وامح ذنبي واقبل
وبشيخ مضر أباد عالمها وبندار وشيخ في طمسنان ابتلى
بنزيل دينور أبي العباس و ... ابن عطا ومن روذباد المتجمل
وأمامنا الدقاق والسلمي و ... القصاب ثم الصير في الأمثل
بالعابد الخشاب ثم دريدي ... وبابن جهضم هضم كل معطل
بالأسود الثاوي بدينوره ... ومنصور الذي في العذب كان بمنزل
بابي سعيد أمام مالين ومن ... قد ساح منهم أو أقام بمحفل
وبزين الإسلام القشيري الذي ... قد ذاق في التوحيد أعذب منهل
يا من يغيث المستغيث بغوثه ... هذا التوسل بعد بذل تحيلى
فبحق من سميت في قولي أقل ... وانلني المأمول منك وعجل
وتولني وتول من واليته ... وأحلل بأعدائي انتقامك وأخذل
وأقمع ودمر من أراد بنا أذى ... وأعكس رجاه وخذه أخذ منكل
ومتى دعوتك يا ألهي راغباً ... أو راهباً من عاجل ومؤجل
قل هاك يا عبدي فها أنا واقف ... بفناء جودك سائلاً بتذلل
حاشاك أن تغني الملوك وفودها ... وتردني يا من عليه معولي(1/20)
أبداً وصل على النبي محمد ... زين الوجوه ونور كل مهلل
وعلى صحابته الكرام وآله ... أهل الفضائل والفخار الأكمل
وانما ذكرت هاتين القصيدتين ؛تيمناً بذكر من فيهما من أولياء الله تعالى الذين تنزل الرحمة عند ذكرهم، ولئلا يخلو هذا الكتاب عن شيء من نفس هذا السيد العظيم. والولي الكبير. عارف زمانه. ذي القدم الراسخة في التصوف. أعاد الله علينا من بركاته في الدارين. آمين. وما وقفت على تاريخ وفاته. فلهذا لم أترجم له بالاستقلال وإلا فهو جدير بذلك.
وفيها: توفي الفقيه الصالح العلامة جمال الدين محمد ابن إبراهيم المكدش بفتح الميم. وسكون الكاف. وكسر الدال المهملة. وآخره شين معجمة، فقيه اللامية ومفتيها ببلدة سامر. وكان له بها مشهد عظيم. رحمه الله. قلت وبنو المكدش هؤلاء اخيار صالحون شهر منهم جماعة بالولاية التامة. وظهور الكرامات. وقريتهم يقال لها الآنفة. وهي بفتح الهمزة بعد الألف واللام وفتح النون والفاء أيضاً وآخره هاء تأنيث بجهة وادي سهام. وهي مجللة مقصودة الزيارة والتبرك. ونسبهم في الغنميين، وهم قبيلة من قبائل عك بن عدنان. ومسكنهم فيما بين الوادى سهام والوادي سردد. ومن مشاهيرهم يوسف بن أبي بكر المكدش كان من كبار الأولياء. وله كرامات خارقة ذكره الشرجي في الطبقات، واثنى عليه، وذكر شيئاً من أحواله وتاريخ وفاته لم اطلع عليه. غير انه كان معاصراً لصاحبي عواجة الشيخ الحكمي، والفقيه البجلي. وهما كانا على رأس الستمائة. ومنهم محمد بن إسماعيل بن أبي بكر بن يوسف المكدش، وكان من كبار الصالحين. ذكره الشرجي أيضاً في طبقاته. وحكى بعض كراماته. وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين وسبعماية.
وفيها: في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر المحرم. توفى الشريف محمد بن بركات صاحب مكة بوادي الأبيار خارجا عن مكة. وحمل إليها ودفن بها يوم الأربعاء في حوشة رحمه الله.
وفيها: في ذي القعدة توفي الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن محمد باصهي بشبام وفيها: في سحر ليلة الأربعاء السادس عشر من جمادى الاولى، توفي الفقيه المفتي القاضي الشيخ العلامة جمال الدين مفتي المسلمين محمد بن حسين بن محمد بن حسين القماط الزبيدي بمدينة زبيد، ودفن ضحى يومها، وكان له مشهد عظيم، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله،و كان مولده ببلدة زبيد في شهر صفر ثمان وعشرين وثمانمائة، ونشأ بها وأشتغل فيها بالعلم ولازم القاضي العلامة الطيب الناشري صاحب الإيضاح، والعلامة عمرا الفتى، والفقيه كمال الدين موسى الضجاعي، وغيرهم من علماء عصره، وبرع في الفقه، ودرس، و أفتى، وكان لإيمل الأشغال، والاشتغال، وحصل بيده كتباً جمة، وولي قضاء عدن سنة ثلاث وثمانين، ولم يزل قاضياً بها إلى سنة تسعة وتسعين، فعزل بالقاضي العلامة شهاب الدين أحمد بن عمر المزجد، ورجع إلى وطنه زبيد، وأقام بها على التدريس والفتوى ونشر العلم، وتخرج به جماعة من الفضلاء وانتفع الناس بعلمه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي، وكان كثير الاستحضار للفروع جيد الأستنباط ولم يكن له يد في غير الفقه رحمه الله.
وفيها يوم الاثنين الثاني من شهر ربيع الآخر. توفي الفقيه الصالح المعمر جمال الدين محمد النور بن عمر الجبرتي. من بقية أصحاب الشيخ إسماعيل بن أبي بكر الجبرتي. عن خمس وثمانين سنة. ودفن ضحى يومها قريباً من ضريح شيخه رحمه الله.
وفيها: في عشية يوم الخميس الثالث من جمادى الأولى. توفي الفقيه العلامة المتقن المتفنن. رضي الدين بن الصديق بن محمد الحكمي. الشهير بالوزيفي بمدينة زبيد، ودفن ليلة الجمعة بعد صلاة المغرب بتربة القضاة الناشريين بعناية القاضي جمال الدين محمد بن عبد السلام الناشري رحمه الله.
وفيها:في يوم الأحد الثاني عشر من جمادى الآخرة توفي الشيخ شمس الدين علي بن عبد الله الزجاجي الصوفي بزبيد. ودفن بعد العصر رحمه الله.
وفي عشية يوم الأحد الرابع من شهر محرم.
؟؟؟سنة أربع بعد التسعمائة(1/21)
توفي العلامة الكبير المعمر شيخ الإسلام نجم الدين يوسف المقري بن يحيى الجبائي إلى رحمه الله تعالى بمدينة زبيد، ودفن بعد صلاة المغرب في ليلة الاثنين إلى جنب سيدي الشيخ أحمد الصياد ملاصقاً له داخل المشهد من جانب اليمن بوصية منه، وكان له مشهد عظيم لم تر العيون مثله، وصلي عليه بجامع زبيد رحمه الله ونفع به. وجباء ناحية مشهورة غربي مدينة تعز. كان إماماً عالماً محققاً مطلعاً قوي الإدراك جيد الفطنة حسن الأستنباط، وتفقه بعلماء قطره. ثم أرتحل إلى عدن، وأخذ عن إمامها القاضي العلامة محمد بن سعيد كبن، وبرع وتميز وساد الاقران وصار واحد الزمان، وولي قضاء الأقضية قطر اليمن، وأرتحل إليه الطلبة من كل جهة من جهات اليمن وأنتفعوا به كثيراً وسادوا وتميزوا. منهم الإمام العلامة موسى بن زين العابدين الرداد والقاضي العلامة شهاب الدين أحمد بن عمر المزجد وغيرهما، وكان له رحمه الله ثروة عظيمة وأتباع ورياسة تشبه رياسة الملوك، وكان عمدة وقته في الفتاوى ومن وقف على كلامه ورأى ما فيه من عظم البلاغة، وحسن استنباطه واقتداره على تحرير المواضع المشكلة وحلها وتقريرها على احسن الوجوه. علم جلالة الرجل وعلو مقامه، ولم يزل على الحال المرضي إلى أن توفي بزبيد رحمه الله تعالى.
وفيها: في منتصف ربيع الأول قتل سلطان الديار المصرية الملك الناصر ابن قايتباي رحمه الله.
وفي عشية يوم الأربعاء من شهر ربيع الأول توفيت السيدة الصالحة أسماء بنت الفقيه العلامة كمال الدين موسى الضجاعي بمدينة زبيد، وكانت صالحة عابدة، قارئة القرآن تقرأ التفسير وكتب الحديث، وتسمع النساء وتعظهن وتؤدبهن، وكان لقولها وقع في القلوب. وربما كتبت الشفاعات إلى السلطان والقاضي والأمير، فتقبل شفاعتها ولا ترد، وصلي عليها بعد صلاة الصبح بمسجد الاشاعر، ودفنت بجوار والدها صبح الخميس ثاني يوم موتها رحمها الله، ولم يخلف بعدها مثلها في الدين والصلاح في بنات جنسها.
وفيها: في ليلة السبت السادس والعشرين من الشهر المذكور توفي الفقيه العلامة الخطيب كمال الدين موسى بن عبد المنعم الضجاعي، إلى رحمة الله تعالى بعد طول مرضه، ودفن إلى جنب قبر جده الفقيه الصالح علي بن قاسم الحكمي رحمه الله تعالى.
وفيها: في ليلة الأربعاء سلخ الشهر المذكور توفي الفقيه العلامة كمال الدين موسى بن أحمد الداولي المعروف بالمكشكش، على قرب مدينة تعز، وقد خرج به منها مريضاً إلى مدينة زبيد فرد إلى مدينة تعز، وغسل وكفن وصلي عليه بها ثم دفن بمقبرتها الاجيناد قريباً من قبر الفقيه نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي رحم الله غربته واسكنه جنته.
وفيها: حصل برق عظيم أصاب رجلاً يحرث على ثورين له خارج مدينة زبيد قريباً من تربة الفقيه أبي بكر الحداد بمجنة باب القربت فاحرق الثورين بآلتهما وسلم الرجل بعد أن أصابه منه لفح كاد أن يهلكه فسبحان القادر على كل شيء.
سنة خمس بعد التسعمائة
وفي يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر صفر سنة خمس توفي القاضي عبد العزيز بن عبد الرحمن بن إسحاق ناظر مدينة عدن. وكان ثقة مأموناً لم تعلم له خيانة. تولي نظر الثغر المحروس في الدولة المجاهدية الطاهرية ثم المنصورية ثم الظاهرة ولم يتهم بخيانة رحمه الله.
وفيها ظهرت على الشمس هالة عظيمة من ضحوة النهار إلى ما بين الظهر والعصر ثم اضمحلت.
وفيها: في سحر ليلة السبت الثاني من شهر ربيع الآخرة توفي القاضي شرف الدين أبو القاسم ابن محمد الحداد مستوفي مدينة زبيد وناظرها، ونعم الرجل كان ديناً وأمانة وعفة وصيانة، وصلي عليه في جامع زبيد ودفن ضحى يومها بمشهد سيدي الشيخ أحمد الصياد مجاوراً له داخل المشهد، وحضر دفنه جميع أهل البلد ولم يتخلف منهم إلا من حبسه عذر.
وفيها: في يوم الإثنين الثاني عشر من جمادى الاولى توفي تعز الفقيه العلامة سراج الدين أبو بكر ابن علي بن عمران، وصلي عليه بجامع زبيد يوم الجمعة الثالث عشر منه.
وفيها: طلع من مشرق نجد نجم ذو ذوابة، وكان طلوعه من برج الحمل وذوابته في اليمن وسيره في الشام فسبحان القادر على ما يشاء.(1/22)
وفيها: اننقض كوكب عظيم من المشرق في المغرب وأضاءت له الدنيا ووقفت ساعة ثم أضاء السماء فأضاء المكان الذي أصابه منها اضاءة عظيمة، ثم سقط في جهة المغرب وبقي ساعة ظاهراً في الموضع الذي أصابه ساعة طويلة ثم اضمحل. ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفيها: دفع وادي زبيد سيل عظيم لم يعهد مثله وسال بخلق ودواب واخرب قرية مزارع وجاء بشيء من هدم البيوت لا يعلم من أين هو؟ فسبحان العليم والحكيم ولا حوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفيها: وقع مطر بمدينة زبيد وما حواليها وكان جمع من الرعاة في البادية خارج باب الشيارق. فلما وقع عليهم المطر لجأوا إلى المعقد الكبير الذي هو غربي دار الطويلع قبالة بستان حائط لبيق واكتنوا عندهم جماعة من الناس الذين كانوا بالحائط وغيرهم. فبيناهم كذلك إذ رأوا الغنم تجول بعضها في بعض وتتساقط ميتة حتى سقط منها نحو ستة رؤس، ثم سكنت بعد ذلك فنظروا فإذا ثعبان عظيم تحت ارجلها ميتاً وقد وطئت أحداهن بظلفها رأسه فقتلته ودفع الله شره. فسبحان القادر على ما يشاء.
وفيها: في ضحى يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر شوال توفي الشيخ الصالح شيخ الشيوخ جمال الدين محمد المعروف بابن إسماعيل الصوفي، وصلي عليه بعد صلاة العصر بمسجد الاشاعر، ودفن في قبر والده داخل قبة جده الشيخ الكبير إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي، وكان له مشهد عظيم لم تر العيون مثله وكثر الأسف عليه رحمه الله ونفع به.
سنة ست بعد التسعمائة
وفي: ليلة الاثنين الثامن والعشرين من المحرم. سنة ست توفي قاضي الشريعة بزبيد الإمام العلامة جمال الدين محمد بن عبد السلام الناشري رحمه الله تعالى، وصلي عليه بعد صلاة الصبح بجامع زبيد، وكان له مشهد عظيم لم تر العيون مثله، وكان المذكور من عباد الله الصالحين والعلماء العاملين وهو خاتمة القضاة الناشريين بزبيد رحمه الله ونفع به.
وفيها: في يوم الخميس خامس عشر جمادى الأولى توفي شيخ الإسلام كمال الدين محمد بن محمد ابن أبي بكر بن علي بن مسعود بن رضوان ابن أبي شريف المري بالمهملة القدسي الشافعي بالقدس، وكان مولده في يوم السبت خامس ذي الحجة سنة اثنين وعشرين وثمانمائة. أخذ العلم عن جماعة منهم: شيخ الإسلام أبن حجر والعلامة ابن الهايم ومن في طبقتهم. ومن محفوظاته الشاطبية والمنهاج الفرعي والفية الحديث ومختصر ابن الحاجب في النحو، وعرض هذه الكتب على الشيوخ فاجازوه، وجود القرآن العظيم بعد حفظه، وأخذ عن بعضهم علم الحديث والأصول والعروض والقافية والمنطق وغيرها، وتفقه بابن شرف وجماعة وأخذ عن بعضهم خرقة التصفوف سندها إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني، واذن له غير واحد في الإقراء وحج وجاوز في سنة ثلاث وخمسين. وسمع على الشرف أبي الفتح المراغي والتقي ابن فهد والبرهان والزمزمي وأبي البقاء ابن الضياء بمكة وعلي المطري وغيره بالمدينة. ترجم له البقاعي ووصفه بالذهن الثاقب والحافظة الضابطة والقريحة الوقادة والفكر القويم والنظر المستقيم وسرعة الفهم وكمال المرؤة مع عقل وافر وأدب ظاهر وخفة روح ومجد على سمته يلوح وانه شديد الإنقباض عن الناس غير أصحابه. قال السخاوي ودرس وافتى وحدث ونظم ونثر وذكر من تصانيفه حاشية على شرح جمع الجوامع للمحلي وأخرى على تفسير البيضاوي وشرحاً على الأرشاد لابن المقري وفصول ابن الهمام ومختصر الشفاء وغير ذلك.قال: وبالجملة فهو علامة متين التحقيق حسن الفكر والتأمل، وكتابه امتن من تقريره ورويته احسن من بديهته مع صيانة وديانة وقلة كلام وعدم ذكره للناس، ولكنه ينسب بمزيد باو وامساك مع الثروة وتجدد الربح من التجارة. والكمال لله، وعاشر صاحب الترجمة بعد السخاوي أربع سنين وذكره مؤرخ دمشق، وذكر بعض أوصافه الحسنة باختصار وقال: انه خلف دنيا طائلة رحمه الله تعالى.
وفيها حصل بمدينة زبيد مرض عظيم ومات بسببه خلائق لا يحصون وكثر الوباء، واستمر الدعاء لذلك في الصلاة والخطب، ودام ذلك إلى شهر ذي القعدة واشتد في آخر شعبان ورمضان فبلغ الموتى فيه بزبيد في كل يوم فوق ستين نفساً. وكان غالبه في النساء والأطفال، وانتقل إلى بوادي زبيد وحيس وموزع وغيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/23)
وفيها: قدم قاصد صاحب مصر السلطان حنبلاط بهدية عظيمة إلى السلطان عامر بن عبد الوهاب من جملتها فانوس بلور قدر قامة الإنسان. وصندوقان من بلور وسيوف عظيمة وأشياء نفيسة. ويقال انه رأى في منامه منامات صالحة للسلطان المذكور فكتب إليه بذلك.
وفيها: في سحر ليلة الثلاثاء من رمضان توفي الشيخ أبو بكر المزحاجي، ودفن ضحى يومها رحمه الله.
وفيها: يوم ضحى يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر شوال توفي الشيخ الصالح وجيه الدين ابن عبد الرحمن بن محي الدين الجبرتي، ودفن بعد عصر ذلك اليوم رحمه الله.
وفيها:في يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة توفي نجم الصعدي بقية فقراء الشيخ إسماعيل ابن أبي بكر الجبرتي.
سنة سبع بعد التسعمائة
وفي: سنة سبع توفي الفقيه العلامة الصالح محمد ابن الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن الحاج بافضل الحضرمي بالشحر.
وفيها لاربع خلت من شهر ربيع الثاني توفي الشيخ الإمام العلامة الولي الصالح الورع الزاهد بقية السلف وعمدة الخلف القاضي الفقيه عبد الله بن محمد ابن حسن بن محمد بن أحمد بن عسين الشافعي بالشحر،ودفن في تربة الشيخ فضل وحزن الناس بفقده وتأسفوا عليه كثيراً. نشأ من صغره في الطاعة والعبادة وظهرت عليه من حينئذ لوائح السعادة، وأشتغل بالعلم فبرع وسلك طريق التدقيق فلحق من قبله وفات من بعده وتصدر في الشحر للفتوى والتدريس. وتخرج به الطلبة وأنتفعوا به كثيراً. وكان سيداً شريفاً النفس كريماً سخياً مفضالا وصولا للطلبة كثير الإحسان إليهم، وكان يجتهد في جمعهم وترغيبهم للطلب، ويسعى لهم في الرزق بإذلا لهم نفسه. حسن التعليم لين الجانب في غاية التواضع وكان متقشفاً في ملبسه، طارحا للتكلف آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر ينكر على الملوك والأمراء فمن دونهم؛ ساعياً في قضاء حوائج المسلمين ولا يتأخر برد من رده، ولا يكون ذلك منفراً له عن العود إلى الشفاعة مرة أخرى. ومن فضائله المشهورة ومناقبه المذكورة سعيه في إخراج وقف الجامع الذي على المدرس والمدرسة وغيرهم من يد الدولة بعد أن أستولوا عليه مدة، وكان أن ينطمس ويندرس.ومن ذلك أنه كان السبب من وصول الفقيه العلامة عفيف الدين عبد الله ابن الحاج فضل إلى الشحر، وترتيبه مدرساً في الجامع، وأنتفاع الناس به. وبالجملة ففضائله ومناقبه أكثر من أن تحصر. وكان رحمه الله يعلم الصبيان القرآن، وحفظ القرآن عليه خلق كثير، وكان ينسخ المصاحف ويجتهد في ضبطها، وتصحيح رسمها وكتب نحو خمسين مصحفاً. وحكي أنه كان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان حسن الخط وأهل تلك الجهة يضربون بخطه المثل، وكان مع هذا كله متولياً القضاء بالشحر، وكان من قضاة العدل المشكورين، وأئمة الفضل المشهورين. وأشتهر ذكره وطار صيته، وضربت به الأمثال، ولم يكن يأخذ لنفسه من معلوم القضاء شيئاً، بل كان يخص بعض المحتاجين من الفقهاء والدرسة، ولم يزل في جميع مدة ولايته القضاء وغيرها مستمراً على جميع ما ذكرناه عنه من تعليم، ونسخ المصاحف، والسعي في حوائج المسلمين، والشفاعات لهم إلى الملوك فمن دونهم، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ، وعدم المداهنة، والمراعاة في الأحكام والأغلاظ للظلمة، وعدم الاحتفال بأهل الدنيا، وارباب الجاهات والمناصب، والتقشف في الملبس حتى أنه كان يعصر المداد بعمامته، وقد لا يكون له الأثوب واحد يتزر ببعضه ويجعل بعضه على عاتقه ويمشي كذلك في الأسواق وغيرها غير مكترث بأحد، ولا مستحي من أحد. وقضيته مع السلطان عبد الله بن جعفر الكثيري صاحب الشحر مشهورة. وذلك أن السلطان المذكور أشترى حصاناً من بعض الناس ثم بعد ذلك أراد رده، وأدعى فيه عيباً وأمتنع من تسليم الثمن للبائع فاشتكى عليه إلى القاضي المذكور فكتب إليه أن أحضر إلى الشرع الشريف، ولم يراع السلطان ولا تساهل لأجله ولا حاباه بكلمة واحدة. ولله دره ولقد أبقى فخراً وغنم أجراً، وأمتطى ذروة، ورقى فوق أوج الافلاك شعر.
هيهات أن يأتي الزمان مثله ... أن الزمان بمثله لا يسمح(1/24)
وكان آية في العلم والفقه يكفي في ذلك أنه أختلف هو والفقيه الإمام محمد بن عمر بحرق في مسئلة في الفقه، وطال النزاع بينهما حتى أشتهر بين الناس فجاء صاحب الترجمة إلى الفقيه بحرق ومعه كتاب الروضة للنووي فاوقفه على المسئلة فرجع إلى قوله. ثم ان الفقيه بحرق صعد المنبر وخطب وقال: إلا أن المسئلة التي أختلفت فيها أنا والقاضي ابن عبسين وجدت الحق فيها معه،. ولا يخفى ما في هذه الحكاية من المنقبة العظيمة له التي تشهد بغزارة علمه وكثرة اطلاعه، وفيها ما يدل على تواضع الفقيه بحرق وأنصافه من نفسه، وأعترافه بالحق ورجوعه إليه. وهذا عزيز الاعلى من وفقه الله تعالى وعصمه من الهوى ورزقه الاخلاص في العلم. ولله درهما وهكذا فلتكن العزائم وهذه والله هي المناقب ولمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.
وفيها: في أوائل شهر رجب توفي القاضي عفيف الدين عبد الله ابن أبي الفضل ظهيرة بمكة المشرفة رحمه الله تعالى.
وفي ليلة الاثنين توفي العلامة جمال الدين أبو المكارم ابن الرافعي بن ظهيرة بمكة المشرفة أيضاً رحمه الله.
وفي: ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين منه توفي الفقيه المقري الصالح المعمر جمال الدين محمد بن أبي بكر بن بدير عن تسعين سنة، ممتعاً بسمعه وبصره وعقله، وكانت إليه النهاية في علم القرآات السبع رحمه الله تعالى.
وفي: ليلة الأربعاء الثامن عشر من شهر شوال توفي الفقيه العلامة جمال الدين محمد بن علي الطيب أمام مقام الحنفية بجامع زبيد، وصلي عليه بالجامع المذكور بعد صلاة الصبح، ودفن إلىجنب أبيه وأخيه بمقبرة باب سهام رحمه الله تعالى.
وفي: آخر يوم الخميس التاسع عشر من الشهر المذكور. توفي الفقيه العلامة أبو بكربن عبد الله قعيس الشافعي، وصلي عليه بالجامع بزبيد بعد صلاة الصبح ودفن بتربة الشيخ أحمد المزجاجي رحمه الله ونفع به.
وفي: صبح يوم الجمعة الخامس من شهرذي الحجة الحرام توفي الفقيه النبيه الصالح المعمر عفيف الدين عبد العليم ابن أبي القاسم ابن عثمان أقبال القربتي الحنفي بمدينة زبيد، وصلي عليه بالجامع بعد صلاة الجمعة، ودفن بمجنة باب القرتب غربي مشهد الفقيه أبي بكر الحداد نفع الله بهما، وكان له مشهد عظيم. ومولده في سنة اثنين وعشرين وثمانمائة رحمه الله ونفع به.
وفي: الشهر المذكور كتب الشريف بركات إلى واليه بجزيرة القنفدة يأمره بتغريق القاضي أبي السعود وأن لا يراجعه في ذلك فأخرجه من الجزيرة في السنبوق وغرقه في البحر في يوم الاحد الثاني من شهر ذي الحجة الحرام واولاده وعياله ينظرون إليه رحمة الله عليه.
وفي: سحر ليلة الثلاثاء سلخ السنة المذكورة توفي الفقيه القاضي العلامة الصالح مفتي المسلمين أحمد ابن العلامة الولي المقرب جمال الدين محمد الطاهر ابن أحمد جغمان قاضي مدينة جبس إلى رحمة الله في بيته من مدينة زبيد، وغسل وكفن بها، وصلي عليه بجامعها، وحملت جنازته على اعناق الرجال الى حلدر العرق ظاهر مدينة زبيد، وحمل في محمل على جمل إلى بيت الفقيه ابن عجيل، ودفن بها آخر ذلك اليوم إلى قبر أبيه وجده " نفع الله بهم " بوصية منه رحمه الله تعالى، وكان له مشهد عظيم، ولم يحلف بعده مثله في بني جغمان في العلم والمعرفة رحمه الله تعالى.
سنة ثمان بعد التسعمائة(1/25)
وفي: ليلة الاثنين سنة ثمان: توفي الحافظ العلامة عثمان بن محمد بن عثمان بن ناصر الفخر أبو عمر الديمي بالمهملة المكسورة ثم تحتانية مفتوحة بعدها ميم ثم ياء نسبة إلى ديمه وهي بلد والده. القاهري الأزهري الشافعي. ولد في المحرم سنة إحدى وعشرين وثمانمائة فحفظ القرآن العظيم، ثم حفظ العمدة والفية الحديث والالفية في النحو ومنهاج الفقه والأصل، وجود القرآن على بعضهم وأخذ الفقه عن جماعة. وكذا في العربية عند بعضهم ولازم الشهاب الهيتمي وأكثر معه من مطالعة شرح مسلم للنووي فعلق بذهنه الكثير منه، وصار يستعير منه ما كان عنده إلا كمال. ولا بن ماكولا فيه بحث يأتي على الورقة منه سرداً، وقرأ نصف البخاري على الشمس محمد بن عمر الدمحبني الازهري خادم المؤيديه وقال: أنه أنتفع بصحبتهما، وذهب إلى النور الشلواني نزيل الاقمر فجلس معه يسيراً، وسمع منه. وأول ما سمع العشرة الأولى من عشريات الزين علي العز من أبي الثابت.ثم أكثر من القراءة في حدود سنة تسع وأربعين وما بعدها عدة من المسندين، ولازم الرشيدي والصالحي حتى كاد يستوفي مسموعهما، وزاد حتى قرأ على ثانيهما المسند لأحمد بتمامه وقرا أيضاً على آخرين، وكذا قرأ على الشيخ الإمام ابن حجر العسقلاني مسند الشهاب وغالب النسائي الصغير. وسمع عليه أشياء. وحج في سنة ثلاث وخمسين صحبت الركب الرحبي وقرأ في رحلته، أولا في المدينة وأخذ بها يسيراً من المحب الطبري، وأبي الفرج الكازروني وغيرهم وقرأ وهو هناك الصحيح بتمامه في الروضة الشريفة في أربعة أيام، وسمع الشفاء من لفظ البدر البغدادي قاضي الحنابلة. ثم أخذ عليه اليسير أيضاً عن أبي الفتح المراغي والزين الأسيوطي وكان أخذ عنه أيضاً بالقاهرة على التقي ابن فهد، والبرهان الزمزي ورجع إلى القاهرة، وأقام بها على عادته. وكان قد أشتهر بين الناس بحفظ الرجال، وعينه شيخه العبادي لا سماع الحديث بالمقام الأحمدي بطبندا فتوجه إليه مرة بعد أخرى فانتشر صيته بمعرفة الرجال فصار يجتمع عنده جماعة للقراءة عليه، وأكثر بعضهم التنويه بذكره فعرف به جماعة من الأمراء. وبالجملة فكان يستحضر بجملة من مشاهير الرجال، وكذا المتون مع كثير من الغريب والمبهم. وهو أحد التسعة الذين اوصى إليهم شيخ الإسلام بن حجر. وصفهم بكونهم أهل الحديث. هذا مخلص ما ذكره السخاوي في ترجمته. قال الشيخ جار الله بن فهد المكي أقول: وبعد المؤلف انفرد بالرواية وازدحم عليه الطلبة، وصار له ذكر عند الخاصة والعامة مع عدم معرفته بتخريج الاسناد لكن الناس انتفعوا بتقريره، واستمر كذلك إلى أن لقى الله عز وجل رحمه الله تعالى.(1/26)
وفيها: في ليلة الخميس ثامن عشر جمادى الثانية. توفي الشيخ الكبير والولي الشهير العارف بالله تعالى برهان الدين أبو الطيب إبراهيم بن محمود بن أحمد بن حسن الاقصراي الاصل القاهري الحنفي الشافعي المواهبي نسبة لتلمذة لأبي المواهب بن رعدان، ودفن في صباح يوم الجمعة قبل صلاة الظهر بزاويته بالقاهرة. قرأ طرفاً من العلم على شيوخ عصره كالسخاوي وغيره، وصحب الشيخ الكامل محمداً أبا الفتوح الشهير بابن المغربي، وأخذ عنه التصوف. ثم أخذ بإذنه من الولي الكبير محمد أبي المواهب التونسي فعادت عليه بركات عوارفه، وانهلت على أرض قلبه أمطار وارفة، وفتح الله له على يديه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ذكره السخاوي باختصار. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وقد جاور صاحب الترجمة بمكة سنة أربع وتسعمائة وأقام بها ثلاث سنين، وألف بها شرحا على الحكم لابن عطاء الله سماه أحكام الحكم لشرح الحكم، وشرح رسالته المسماة أصول مقدمات الأصول وشرح كلمات علي بن محمد وفا المعروف يا مولانا يا واحد يا أحد. سماه شرح التمويل في بيان مشاهد يا مولانا يا واحد يا أحد، وشرح الرسالة السنوسية في أصول الدين، وله ديوان نظم وعدة رسائل وسبعة أحزاب، ومؤلفات في الزيارة النبوية وغير ذلك. أخذ الناس عنه في التصوف، وحكي عنه أنه قال: أفادني أستاذي أبو المواهب: أن من ادل دليل على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم ما فضلكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره. أي فبذلك الشيء الذي وقر في صدره يستحق الخلافة. ثم أنتقل فانتقلت تلك الوراثة إلى عمر. ثم إلى عثمان. ثم إلى علي. ثم إلى الحسن. رضي الله عنهم أجمعين. وبذلك كمال خلافتهم ظاهراً وباطناً.
وفيها: أحترق من مدينة عدن جانب عظيم من نصف الليل إلى قرب الفجر وتلفت فيه بيوت كثيرة من بيوت التجار كأبي الليل، وأحمد بن عبد السلام، وأحمد الدهلوي والحوامحي، وإسماعيل بن عبد الأول الناشري، وجانب من السوق الكبير إلى بيت أبي شكيل، وجانب من حافة اليهود، وحافة الحبوش باسرها وأحدقت النار بالمدرسة السفيانية، وتلفت فيها أموال جليلة. ويقال: أنه بلغ عدد من البيوت المحترقة تسعمائة بيت. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفيها: حصل بمدينة زبيد ونواحيها زلازل وتواترت ليلاً ونهاراً وأشفق الناس منهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي: منتصف ليلة الأربعاء التاسع عشر من رجب منها توفي الفقيه العلامة الصالح سراج الدين عبد اللطيف بن محمد بن يحيى الجهمي صاحب قرية المصباح من أصحاب ببلده. وكان معتمد أهل أصاب، ومرجعهم وحاكمهم وعالمهم. قرأ على الفقيه أبي بكر البليما والفقيه محمد بن أحمد مفضل الواسطي، والقاضي جمال الدين محمد بن حسن القماط والفقيه موسى ابن زين العابدين الرداد؛ وأنتفع به كثيراً رحمه.
وفي: يوم الجمعة السابع والعشرين من شعبان توفي الإمام محمد بن ناصر صاحب صنعاء رحمه الله.
وفي: ليلة الأربعاء الثالث من شهر شوال توفي الفقيه رضي الدين أبو بكر ابن عمر البليما وكان عارفاً بعلم اللغة والعربية بزبيد، ودفن صبيحتها عند خواله بني الناشري رحمه الله.
وفيها: حصل بمدينة زبيد ونواحيها وبمدينة عدن والجبال مرض يعرف شمند له وهو ريح يأخذ المفاصل والأعضاء ويمنع من الحركة ثلاثة ايام، يكون معه حمى ثم تزول وهو سليم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سنة تسع بعد التسعمائة
وفي سنة تسع كان يترآءى للناس فيما بين حائط دار الشجرة ومسجد الحما رجل طويل يزيد طوله على منارة جامع الملاح أسود اللون ذو وفرة الخطوة الواحدة منها مقدار ثلاثين ذراعاً، وكان يراه بعض الناس دون بعض وربما رؤي بطريق النخل ما بين مسجد الزيد ودار الشجرة.
وفيها: يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر رمضان توفي الفقيه العلامة الصالح عفيف الدين عبد المجيد بن عبد العليم اقبال المعروف بالقرتبي بمدينة زبيد. وهو يومئذ رأس المفتيين بها على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ودفن صبح يوم الثلاثاء ثاني يوم موته بمجنة باب القرتب إلى جنب والده قريباً من مشهد الفقيه أبي بكر الحداد رحمهما الله تعالى.(1/27)
وفيها: استمر دعاء الخطيب على المنبر، وارتفع تضرعه في كشف ما حل بالناس من الحبوب المعروفة بالنار الفارسي. وكان قد كثر ببلاد اليمن وزاد، وذهب عن الناس، وعاد واستمر معهم من أوائل سنة ست وتسعمائة فما بعدها وحرجت منه الصدور، وضاقت النفوس.
سنة عشر بعد التسعمائة
وفي: يوم الأحد سلخ المحرم سنة عشر توفي السلطان العادل المشهور بأفعال الخير، واقامة الشرع عبد الله بن جعفر الكثيري بالشحر وكانت سيرته في رعيته سيرة حسنة محمودة رحمه الله.
وفيها: حصل بمدينة زبيد زلزلة عظيمة، وزلزلت تلك الليلة مدينة زيلع زلزالاً عظيماً شديداً أوقع بعض بيوتها وخرج أهل البيوت إلى الساحل، ولم يرجعوا إلى منازلهم إلا صباحاً. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفيها: انقض كوكب عظيم وقت العشاء من اليمن في الشام عرض مدينة زبيد وتشظا منه شظايا عظيمة. ثم حصلت بعده هزة عظيمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفيها: وجد كنز ذهب بقرية هقده ما بين مدينتي عدن وموزع. كان بها مسجد قد خرب فأراد رجل تجديد عمارته فوجد الحفارون في الأساس كنز ذهب شخوصاً مضروباً عليها بسكة لا تشبه سكة الإسلام الوزن لكل شخص منها ربع أوقية كل أربعة منه أوقية ذهب. وكان قبل ذلك وجد أيضاً بمدينة عدن كنز آخر في أساس مسجد لكنه دون هذا.
وفيها: كانت الواقعة المشهورة بين السلطان عامر بن عبد الوهاب، والأمير محمد بن الحسين البهال صاحب صعده على باب صنعا فانهزم فيها البهال، وعساكره هزيمة عظيمة ما سمع بمثلها قط، وأسر فيها إمام الزيدية محمد بن علي الوشلي إمام أهل البدعة ورئيسهم جمع عظيم، وقتل منهم جمع لا يحصى، ونهبهم الناس وكانوا يأتون بهم وبخيلهم واحداً واثنين، وأخذ السلطان عامر مدينة صنعا.
وفي: يوم الجمعة رابع عشر من شهر ذي القعدة الحرام توفي إمام الزيدية محمد بن علي الوشلي أسيراً بمدينة صنعا إلى رحمة الله تعالى، وصلي عليه بجامعها، ودفن. بها رحمه الله.
وفي ضحى يوم الخميس العشرين من الشهر المذكور توفي الفقيه الصالح تقي الدين عبد السلام القاضي محمد بن عبد السلام الناشري إلى رحمة الله بمدينة زبيد، وصلي عليه بعد صلاة العصر بمسجد الاشاعر، ودفن إلى جنب قبر والده رحمه الله تعالى.
سنة إحدى عشرة بعد التسعمائة(1/28)
وفي يوم الجمعة وقت العصر تاسع عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة توفي الشيخ العلامة الحافظ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبو بكر بن عثمان بن محمد بن خضر بن أيوب بن محمد ابن الشيخ الهمام الخضيري السيوطي المصري الشافعي، وصلي عليه بجامع الأفاريقي تحت القلعة، ودفن بشرقي باب القرافة، ومرض ثلاثة أيام. والخضيري نسبة إلى محلة الخضيرية ببغداد. ووجد بخطه رحمه الله أنه سمع ممن يثق به أنه سمع والده يذكر أن جده الأعلى كان أعجمياً أو من المشرق، فلا يبعد أن النسبة إلى المحلة المذكورة وأمه أم ولد تركية. وكان مولده بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة بالقاهرة، وكان يلقب بابن الكتب لأن أباه كان من أهل العلم واحتاج إلى مطالعة كتاب فأمر أمه أن تأتيه بالكتاب من بين كتبه فذهبت لتأتي به فجاءها المخاض وهي بين الكتب فوضعته. ثم وسماه والده بعد الأسبوع عبد الرحمن ولقبه جلال الدين وكناه شيخه قاضي القضاة عز الدين أحمد بن إبراهيم الكناني لما عرض عليه وقال له ما كنيتك فقال: لا كنيه لي فقال: أبو الفضل، وكتبه بخطه. وتوفي والده ليلة الاثنين خامس سنة صفر سنة خمس وستين وثمانمائة، وجعل الشيخ كمال الدين ابن الهمام وصياً عليه فلحظه بنظره ودعايته، وختم القرآن وسنه دون ثمان سنين. ثم حفظ عمدة الأحكام، ومنهاج النووي، والفية ابن مالك، ومنهاج البيضاوي وعرضها وهو دون البلوغ على مشايخ عصره، واحضره والده وعمره ثلاث سنين مجلس شيخ الإسلام ابن حجر مرة واحدة، وحضر وهو صغير مجلس الشيخ المحدث زين الدين رضوان العقبي، ودرس الشيخ سراج الدين عمر الوردي. ثم اشتغل بالعلم على عدة مشايخ، وحج سنة تسعٍ وستين وثمانمائة، وشرب من ماء زمزم لأمور منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر، ووصلت مصنفاته نحو الستمائة مصنفاً سوى ما رجع عنه وغسله. وولي المشيخة في مواضع متعددة من القاهرة. ثم أنه زهد في جميع ذلك، وانقطع إلى الله بالروضة وكانت له كرامات وعظم غالبها بعد وفاته. وحكى الشيخ العلامة زكريا ابن الشيخ العلامة محمد المحلي الشافعي انه عرض له مهم في بعض أوقاته قال فسألته أن يكتب إلى بعض تلامذته بالوصية علي فامتنع، وأطلعني على ورقة بخطه وفيها أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة مرات تزيد على سبعين مرة، وقال له كلاماً حاصله أن كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى مدد وأعانه من أحد. رحمه الله وحكي عنه أنه قال: رأيت في المنام كأني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. فذكرت له كتاباً شرعت في تأليفه في الحديث وهو جمع الجوامع. فقلت. فقلت له أقرأ عليكم شيئاً منه فقال لي: هات يا شيخ الحديث قال: هذه البشرى عندي أعظم من الدنيا بحذافيرها، ومن تصانيفه الدر المنثور في التفسير بالمأثور اثني عشر مجلداً، وتناسق الدر في تناسب السور، وحاشية علي البيضاوي إلى الإسراء، والازدهار الفائحة على الفاتحة، والمعاني الدقيقة في أدرك الحقيقة، واتمام النعمة في اختصاص الإسلام بهذه الأمة، والديباج على صحيح مسلم ابن الحجاج وكشف الغطا في شرح الموطا، وتنوير الحوالك على مرطا مالك، والبدور السافرة عن أمور الآخرة، ونتيجة الفكر في الجهر بالذكر، وتزيين الآرائك في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الملائك. ومسالك الحنفا في إسلام والدي المصطفى، ونشر العلمين المنيفين. في إحياء الأبوين الشريفين، وذم القضاء، وذم زيارة الأمراء، والتنفيس عن ترك الافتاء والتدريس، والأحاديث الحسان في فضل الطيلسان، وطي اللسان عن ذم الطيلسان، والتضلع في معنى المتقنع، وعين الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، والاحتفال بالأطفال، وما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين، والأوج في خبر عوج، والوديك في الديك، والطرثوث في فوائد البرغوث، وله مختصر نهاية ابن الأثير، والينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع ومختصر الخادم، ومختصر الأحكام السلطانية، وشرح الروض لابن المقري، وشرح التنبيه مختصر، والبهجة المرضية في شرح الألفية ممزوج، والمسائل الوفية في نكت الحاجبتين والألفية، على منوال التحرير للشيخ ولي الدين العراقي على الكتب الثلاثة في الفقه جامع لكل ما يرد على عبارتها، وما ناقضوه في غيرها من(1/29)
مصنفاتهم مع ما أمكن من الجواب. ومن تصانيفه. السيف الصقيل في نكت شرح الألفية لابن عقيل، والفتح القريب على مغنى اللبيب وجمع الجوامع في العربية وشرحه همع الهوامع، والمرقاة العلية في شرح الأسماء النبوية، وشرح الشاطبية ممزوج، ونظم جمع الجوامع في الأصول وشرحه، والطب النبوي، وطبقات الحفاظ وطبقات الشافعية. وطبقات النحاة. وانموذج اللبيب في خصائص الحبيب. والحجج المبينة في التفضيل بين مكة والمدينة. والإكليل في استنباط التنزيل، وفتح الآله في التفصيل بين الطواف والصلاة. والبارع في اقطاع الشارع. وكشف الصبابة في مسألة الاستنابة. وحسن المقصد في عمل المولد. وتشنيف الأركان في ليس في الامكان ابدع مما كان. وفجر الدياجي في الأحاجي، ونزهة الجلساء في أشعار النساء. وشرح الصدور بشرح أحوال القبور. وله تعليق لطيف على البخاري. وله غير ذلك كثيراً من مؤلفاته هذه المذكورة صغيرة. وبعضها في كراس وكراسين. ومن شعره مضمناً لمصراع من البردة وهو مما كتب به إلى الحافظ السخاوي متحاملاً عليه ومعرضاً به:هم مع ما أمكن من الجواب. ومن تصانيفه. السيف الصقيل في نكت شرح الألفية لابن عقيل، والفتح القريب على مغنى اللبيب وجمع الجوامع في العربية وشرحه همع الهوامع، والمرقاة العلية في شرح الأسماء النبوية، وشرح الشاطبية ممزوج، ونظم جمع الجوامع في الأصول وشرحه، والطب النبوي، وطبقات الحفاظ وطبقات الشافعية. وطبقات النحاة. وانموذج اللبيب في خصائص الحبيب. والحجج المبينة في التفضيل بين مكة والمدينة. والإكليل في استنباط التنزيل، وفتح الآله في التفصيل بين الطواف والصلاة. والبارع في اقطاع الشارع. وكشف الصبابة في مسألة الاستنابة. وحسن المقصد في عمل المولد. وتشنيف الأركان في ليس في الامكان ابدع مما كان. وفجر الدياجي في الأحاجي، ونزهة الجلساء في أشعار النساء. وشرح الصدور بشرح أحوال القبور. وله تعليق لطيف على البخاري. وله غير ذلك كثيراً من مؤلفاته هذه المذكورة صغيرة. وبعضها في كراس وكراسين. ومن شعره مضمناً لمصراع من البردة وهو مما كتب به إلى الحافظ السخاوي متحاملاً عليه ومعرضاً به:
قل للسخاوي أن تعروك مشكلة ... علمي كبحر من الأمواج ملتطم
والحافظ الديمي غيث الزمان فخذ ... " غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم "
قال بعض الفضلاء والحق إن كلا من الثلاثة كان فرداً في فنه مع المشاركة في غيره. فالسخاوي تفرد بمعرفة علل الحديث، والديمي بأسماء الرجال، والسيوطي بحفظ المتن والله أعلم. وكان بينه وبين الحافظ السخاوي منافرة كما يكون بين الأكابر. ذكر الجلال السيوطي في المقامة السندسية له عند الكلام على أحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وهل تستبعد على من انجى الله به الثقلين أن ينجي به الأبوين؟ فإن استبعد هو ذلك فليست الشدة عندي بأرجح من الرخاء وأن استكثر ذلك فانه لبخيل حيث شح لأجمل الأمرين وهو السخاء شعر:
شيخ السخاوي بالانجاء يذكره ... عن والدي سيد الأبناء والأمم
إن عز إن يبلغ البحر الخضم روى ... بالتيه يستقي من وابل الديم
وله أيضاً فيما يسن قبوله من الأشياء.
عن المصطفى سبع يسن قبولها ... إذا ما بها قد اتحف المرء خلان
فحلو ألبان ودهن وسادة ... ورزق لمحتاج طيب وريحان
وله أيضاً في من كان يفتي من الصحابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
وقد كان في عصر النبي جماعة ... يقومون بالافتاء قومة قانت
فأربعة أهل الخلافة منهم ... معاذ أبي وابن عوف ابن ثابت
واسيوط مدينة في غربي النيل من نواحي الصعيد في مستوى كثيرة الخيرات اعجوبة المنتزهات وعجائب عماراتها وسورها مما لا يذكر. ولما صورت الدنيا للرشيد لم يستحسن غير كورة اسيوط لكثرة ما بها من الخيرات والمنتزهات. ومن عجائبها أن بها يكش ألف فدان ينشر ماؤها في جميعها لاستواء سطح أرضها ويسير الماء في أقطارها قاله القزويني.(1/30)
وفيها: في يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة. توفي عالم المدينة إمام القدوة والمتفنن الحجة الشريف ذو التصانيف الشهيرة نور الدين أبو الحسن علي ابن القاضي عفيف الدين عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن علي ابن أبي الروح عيسى ابن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن عيسى بن جلال الدين أبي العليا ابن أبي الفضل جعفر بن علي بن أبي طاهر بن الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن اسحق بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن الأكبر ابن علي بن أبي طالب الحسني. ويعرف بالسمهودي نزيل المدينة الشريفة وعالمها ومفتيها ومدرسها ومؤرخها. ترجمة الحافظان المعز ابن فهد والشمس السخاوي. وساق أولهما نسبه كما ذكرته وقالا ما مختصره: انه ولد في صفر سنة أربع وأربعين وثمانمائة بسمهود، ونشأ بها وحفظ القرآن، والمنهاج الفرعي، وكتباً. ولازم والده حتى قرأ عليه المنهاج بجامع شرحه للجلال المخلي، وشرح البهجة نصفه سماعاً، وجمع الجوامع وغالب الفية ابن مالك، وسمع عليه بعض كتب الحديث، وقدم القاهرة معه وبمفرده غير مرة، أولها سنة ثلاث وخمسين. ولازم أولا الشمس الجوجري في الفقه وأصوله والعربية، قرأ على الجلال المحلي بعض شرحيه على المنهاج، وجمع الجوامع، وسماع دروسه من الروضة بالمؤيدية، وأكثر من ملازمة الشرف المناوي، وقسم عليه المنهاج مرتين، والتنبيه والحاوي، والبهجة وجانباً من شرحهما، وشرح الجوامع كلاهما لشيخه الولي العراقي وغيرهما من مؤلفاته، وجملة في فنون، وألبسه خرقة التصوف. وقرأ على النجم ابن قاضي عجلون تصحيحه للمنهاج، وعلى الشمس الباهي تقاسم المنهاج وغيره وعلى الشيخ زكريا في الفقه والفرائض، وعلى الشمس الشرواني في شرح عقائد النسفي، وغالب الطوالع للاصبهاني، وسمع عليه الآلهيات، وقطعة من الكشاف، ومن المختصر، والمطول، وللعضدي، وشرح المنهاج الأصلي للعزى، وغير ذلك. وحضر عند العلم البلقيني، وكذا الكمال إمام الكمالية وألبسه الخرقة. ولقنه الذكر. وقرأ عمدة الأحكام بحثاً على الديري. وأذن له في التدريس. والبامي والجوجري فيه، وفي الإفتاء الشهاب السارحي بعد امتحانه بمسائل، وفيه أيضاً زكريا والمحل والمناوي. وعظم اختصاصه بالاخيرين وتزايد مع المناوي وقرره في عدة وظائف. وعرض عليه النيابة فاباها مع قضاء بلده. وأمر نوابها. وكان يتوجه لزيارة أهله أحياناً. قال السخاوي: وسمع مني مصنفي الابتهاج وغيره. وكان على خير كثير. وقطن بالمدينة من سنة ثلاث وسبعين. ولازم فيها الشهاب الابشيطي. وحضر درسه في المنهاج وجانياً من تفسير البيضاوي. وشرح البهجة للعراقي. والتوشيح لابن هشام بل قرأ عليه تصانيفه. وأذن له في التدريس. وأكثر من السماع هناك على أبي الفرج المراغي، وقرأ على عبد الله بن صالح. وألبسه خرقة التصوف بلباسه من عمر العرابي. وكان سمع بمكة على كمالية بنت النجم المرجاني. وشقيقها الكمال أبي الفضل، والنجم عمر بن فهد في آخرين، وبالقاهرة على جماعة سوى من تقدم. وأجاز له جماعة والتمس من النجم عمر بن فهد تخريج مشيخة له ففعلها وعظمه في خطبتها. ومات قبل اكمالها فتممها ولده العز عبد العزيز وبيضها له وحدث بما فيها. وانتفع به جماعة من الطلبة في الحرمين. وألف عدة تآليف منها. جواهر العقدين في فضل الشريفين. واقتفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى احترق قبل اكماله. ومختصر خلاصة الوفا لما يجب لحضرة المصطفى في تنظيف الحجرة من الحريق. وغيرها في مسائل واقعة فيها. وحاشية على الايضاح في مناسك الحج للامام النووي وسماها الافصاح. وكذا على الروضة أيضاً سماها امنية المقتنين بروضة الطالبين. وصل فيها إلى باب الربا. وجمع فتاويه في مجلد وهي مفيدة جداً. وحصل كتباً نفيسة احترقت جميعها وهو بمكة في سنة ستة وثمانين. وسافر في موسمها بالقاهرة فلقي سلطانها الأشرف قايتباي فأحسن إليه بمرتب على الذخيرة وغيره. واوقف كتباً بالمدينة وجعله ناظرها. وزار بيت المقدس. وعاد للمدينة مستوطناً. وتزوج بها عدة زوجات ثم اقتصر على السراري. وملك الدور وعمرها. قال السخاوي: قل أن يكون أحد من أهلها لم يقرأ عليه. واستقر في النظر على الجمع لمدرسة الأشرف وما به من الكتب في مصارف المدرسة المزهرية مع الصرف من الصدقات كالقضاة. وتقرر في التدريس مع ما رتبه له ملك الروم. وانقاد له أمير داود بن(1/31)
عمر في صدقاته حين حج وبعدها. وكذا ابن خير وغيره لما تقرر عندهم من علمه وتدينه مع التكسب بالبيع والشراء والمعاملة. وبالجملة فهو فاضل متفنن متميز في الأصلين والفقه. مديم العلم والجمع والتأليف. متوجه للعبادة بالمباحثة والمناظرة قوي الجلادة. طلق العبارة مع قوة تفنن. وربما أداه البحث إلى محاسنة مع المبحوث معه. وعلى كل حال فهو فريد في مجموعه. ومن شعره: في صدقاته حين حج وبعدها. وكذا ابن خير وغيره لما تقرر عندهم من علمه وتدينه مع التكسب بالبيع والشراء والمعاملة. وبالجملة فهو فاضل متفنن متميز في الأصلين والفقه. مديم العلم والجمع والتأليف. متوجه للعبادة بالمباحثة والمناظرة قوي الجلادة. طلق العبارة مع قوة تفنن. وربما أداه البحث إلى محاسنة مع المبحوث معه. وعلى كل حال فهو فريد في مجموعه. ومن شعره:
تحكم الحب مني كيف أكتمه؟ ... أم كيف أخفي الهوى والدمع يظهره؟
أهوى لقاؤه ويهوى سيدي تلفي ... " ما كل ما يتمنى المرء يدركه "
وفيها: في عشية الجمعة عاشر جمادى الآخرة توفي الفقيه أحمد ابن العلامة الفقيه عبد الله بن أحمد بامحزمة وكانت ولادته بعدن وقت طلوع الفجر يوم الأربعاء أول يوم من صفر سنة ست وستين وثمانمائة. وأخذ عن والده وبرع في الفقه وغيره من العلوم ولا سيما في الفرائض والحساب. وأنه لم يكن له فيهما نظير حتى أن والده مع تمكنه في هذين الفنين كان يقول: هو أمهر مني فيهما.وكان يحفظ جامع المختصرات في الفقه. وممن أخذ عنه من الأئمة الأعيان الفقيه العلامة محمد بن عمر باقضام وانتفع به كثيراً.
وفيها: حصلت بمدينة زبيد وسائر جهاتها ريح شديدة واقتلعت أشجاراً كثيرة وكسرتها. وهدمت بعض البيوت بزبيد ولا حول ولا قوة إلا الله العلي العظيم.
وفي: سحر ليلة السبت الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر وتوفي الشيخ الصالح نجم الدين طلحة بن العباس الهتار بمدينة زبيد. ودفن بعد عصر ذلك اليوم بقبة جده الشيخ طلحة بن عيسى الهتار وكان له مشهد عظيم حضره الأمير والقاضي وغيرهم رحمه الله ونفع به.
وفي: يوم الثلاثاء من شهر رجب توفي الشيخ الصالح عفيف الدين عثمان ابن أبي القاسم ابن أبي الأفلح بقرية الزبيد. ودفن بها رحمة الله تعالى.
وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر ذي القعدة الحرام توفي الفقيه الصالح إبراهيم بن محمد بن علي حداد صاحب الدراع من بلاد صبهان ببلده. وكان رجلاً مباركاً مشهوراً باطعام الطعام وفعل الخير رحمه الله.
وفيها: دفع وادي زبيد بسيل عظيم لم يعهد مثله يقال: انه ارتفع في الهواء مقدار خمسة أبواع. وأخرج جملة من الأراضي التراكي. وسالت بيوت وزروع وطعام كثير، وبنى آدم وعسر الانتفاع به وأخرب المعقم الطاهري ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سنة اثنتي عشرة بعد التسعمائة
وفي : ليلة السبت الخامس من صفر سنة اثنتي عشرة توفي الشيخ الصديق بن محمد الزجاجي صاحب الظاهرة بمدينة زبيد ، وصلي عليه بعد صلاة الصبح بمسجد الاشاعر . ودفن إلى جنب والده بتربة بني المزجاجي . وكان له مشهد عظيم وحضر يوم ثالث موته للقراءة جمع عظيم رحمه الله.
وفي : يوم الثلاثاء مستهل شهر رجب منها توفي الفقيه إسماعيل بن علي العجل الحنفي رحمه الله بمدينة زبيد.
وفيها : في عشية الثلاثاء العشرين من شهر شوال توفي الفقيه العلامة مفتي مدينة تعز الشرف بن وهيب عن أربع وسبعين سنة رحمه الله.
سنة ثلاثة عشر بعد التسعمائة
وفي سنة ثلاثة عشرة توفي الفقيه الأجل نجم الدين طلحة بن محمد بن يحيى الجهمي صاحب المصباح ببلدة من أصاب، ودفن هنالك بجوار جده الفقيه الصالح يحيى ابن أحمد الجهمي وكثر عليه الأسف رحمه الله تعالى.
وفيها: غلب الافرنج على مدينة هرموز وأخذوها.
وفي: يوم الأربعاء العشرين من شهر ذي القعدة توفي السيد الشريف الإمام شهاب الدين أحمد بن الناصر بمدينة تعز، وصلي عليه بعد صلاة العصر بجامع ذي عدينة، ودفن بمقابر الاجتباد. وكان له مشهد عظيم رحمه الله.
سنة أربع عشر بعد التسعمائة(1/32)
وفي: ليلة الاثنين رابع عشر المحرم سنة أربع عشر: توفي الشيخ عبد الرحمن بن عمر باهرمز الشبامي بهين بلاد من أرض حضرموت وهرمز بضم الهاء والميم وسكون الراء وآخره زاي. وهو شيخ الفقيه الصوفي عمر بن عبد الله بامحزمة وكان كبير الشأن. وله أحوال غريبة وكرامات خارقة رحمه الله تعالى آمين. وحكي أنه " نفع الله به " كان عندما يرد عليه الحال يطلب النساء الحسان من ذوات الجمال فيغنين بين يديه ويرقصن فكان هذا دأبه في أكثر الأوقات. وكان الفقيه عمر بامحزمة على طريقة الفقهاء فسمع بذلك فقصد الانكار على الشيخ. ومنعه من ذلك فسافر من بلده إليه بهذه النية فلما وصل إلى أثناء الطريق بدا له أن يرجع فرجع إلى بلده. ثم سمع عنه أيضاً أمثال هذه الأشياء التي ظاهرها مخالفة الشرع فما أمكنه الصبر عن ذلك فسار إليه ثانياً ودخل عليه فلما وقع بصره على الشيخ كاشفه وقال له عمر عاد وقتك ما جاء فرجع كذلك إلى بلده وامتثل ولم يحصل منه انكار على الشيخ لما سبق له من الفتح على يديه. ثم سار إليه ثالثاً فلما دخل عليه أمر الشيخ نفع الله به بعض النساء الحسان ممن كانت ترقص عنده ان تعتنقه فما هو إلا أن فعل به ذلك خر مغشياً عليه فلما أفاق تلمذ للشيخ. وحكمه في ذلك الوقت. وفتح الله عليه ببركة الشيخ قال له: صل ركعتين إلى الشرق فامتثل فلما أحرم رأى الكعبة تجاه وجهه. وروي عن الفقيه عمر نفع الله به أنه قال: وقفت بين يدي سيدي وشيخي عبد الرحمن بن عمر باهرمز رضي الله عنه واسعفني بطلبتي وأجابني إلى مسألتي عشية يوم الاثنين ثاني شهر رجب سنة تسعمائة وثلاثة عشر. ووقفت بين يديه ليلة قبل ذلك وقلت له: يا سيدي حكمني وألبسني الخرقة فقال: أنت الحاكم المحكم قلت: فألبسني الخرقة على قاعدة الصوفية فقال: ما هي قاعدتي أو كلاما هذا معناه قلت: أنا أحب ذلك قال: أنا خرقتك وأنت نائب عني قلت: فلا تغفل عني في أموري فقال: والله اني معك في صائب وغير صائب. وإني لك مثل روحك. ونحن على ساق واحد ومرة قال لي: أنت أنا وقد أشار إلي ذلك الفقيه بقوله على لسان حال شيخه. وأنت أنا والطريقة واحدة والتمذهاب. ثم قال الفقيه قلت له: لقني شيئاً من الأذكار قال: قل في كل مساء سبحان الله وبحمده مائة مرة فإنه لا يكتب عليك ذنب. وقل في كل مساء يا لطيف مائة مرة ثم قل يا حفيظ مائة مرة. ثم قل يا كريم مائة مرة ثم قل يا كريم تكرم علينا بكرمك ثلاث مرات. ثم قل يا لطيف لاطفنا بلطفك ثلاث مرات ثم قل يا حفيظ احفظنا بحفظك ثلاث مرات قلت: إن لي ورداً من آية الكرسي أقرأها كل يوم ثلاثمائة وثلاثة عشر مرة قال هذا كثير قلت: هو سهل علي قال كثير قلت هو سهل علي قال: ابق عليه وقرأها وقال اقرأها هكذا. وإذا صمت وداع رمضان فاجعل قراءتها سراً بالقلب فقط قلت: لي ورد من الله لا اله إلا هو الحي القيوم فقط وهو ألف مرة قال: ابق عليه وازن زدت فهو خير لك وابشر فانهم معطوك اكثر مما توهم ما غير ما يجيك إلا في العرض من غير تأمل قلت: فلا تغفل عني فاني مخلط كثير التخليط قال: والله لو تلبس المعتب أن غير عليك عندنا شيء وأنا شيخك فعليك الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا شيخك فيهما وفي علوم تستفاد منهما. وقد أشار الفقيه إلى ذلك أيضاً حيث قال مشيرا إلى شيخه احملوني فتا يا هلي مخلط ولعاب. ثم قال على لسان حال شيخه: ان لو تلبس المعتب وتسها وتنساب لا ولا الرد يا يابا محزمة عنك ينجاب أنت منا ونحن منك فيما خطا أو صاب ثم قال له شيخه اجعل على نفسك ورداً من قراءة القرآن أما غيبا وأما نظرا في المصحف قلت له: ادخل أر بعينية قال: لا وإنما أر بعينتك ان تحفظ لسانك وعينك وأذنك من المحرمات أربعين يوماً. واما الأربعينية المعروفة فلا تدخلها انتهى.(1/33)
" تنبيه " قلت ربما انه يشكل ما صدر منهم في مثل ذلك على بعض الأغبياء ميل اكثر الناس بالطبع إلى الفسق والفجور وينظرون إلى هنات وقعت من بعض من ينسب إلى العلم، أو ما وقع لبعض أهل الله تعالى كأحمد الغزالي والشيخ العارف علي وفاء والشيخ العارف عبد الرحمن باهرمز وتلميذه الفقيه عمر بامحزمة والشيخ جبرائيل الهتار وغيرهم نفع الله بهم فيظنون أن الأمر سواء وليس كذلك، فما كان يقع من ذلك للناس فهو شقوة في حقهم وأكثرهم لا يكترث بما يصدر منه من العصيان ولا يندم على ذلك وما كان يقع ممن ينسب إلى العلم فهو دعوة لان المقام لا يعطى ذلك وهو أيضاً لا ترضي بهذه الحالة وإنما تكون وقعت منه هفوة كعقوق الوالدين أو التكبر على خلق الله تعالي والنظر إليهم بعين الاحتقار والعياذ بالله فعوقب بمثل ذلك وما كان نسب من ذلك إلى بعض أهل الله فهو إنما هو لصيانتهم أهل العصيان وذلك لكمال شفقتهم على خلق الله تعالي كما هو معلوم، وقد يكون لله مراد في حق شخص معين منهم من يريد الله أن ينقله من تلك الحالة ويرقيه ألي مراتب الأولياء، وربما غلب على ذلك الولي بعض الأحوال القوية فخشي على عقله أن يذهب أو جسمه أن يتلف فاراد تعديل لطافة الحال بكثافتهم والله اعلم. ولا بدما نذكر نبذة تتعلق بقطر حضرموت وحده ووجه تسميته وأقوال العلماء في ذلك وما اختص به من العجائب والفضائل خصوصاً بلدة تريم تيمنا بذكرها وتتميماً للفائدة إذ كثير ممن ذكر في هذا التاريخ مات بهذه البلدة المباركة وبعضهم مات بغيرها مثل شبام ودوعان من بلاد حضرموت(1/34)
فنقول: حضرموت بفتح الحاء والميم وسكون المعجمة بلد باليمن قيل: ان صالحا لما هلك قومه جاء بمن معه من المؤمنين فلما وصل إليه مات فقيل حضرموت، وذكر المبرد انه لقب عامر جد اليمانية كان لا يحضر حرباً الأكثر فيه القتلى فقال عنه من رآه حضرموت بتحريك الضاد ثم كثر ذلك فسكن. كذا ذكره الحافظ السيوطي في حاشيته على صحيح مسلم. وقال الإمام أبو بكر بن عبد الرحمن بن شراخيل الشبامي الحضرمي في كتابه مفتاح السنة: حضرموت بلاد مشهورة متسعة من بلاد اليمن تجمع اودية كثيرة وهو بضم ميمها. وقد اختص بهذا الاسم وادي ابن راشد طوله نحو مرحلتين أو ثلاث إلى قبر هود عليه السلام، ويطلق على بلاد كثيرة، وساحلها العين وبروم إلى الشخر ونواحيها، ونجدها من جردان ونواحيها إلى تريم إلى قبر هود عليه السلام. وما وراء ذلك بلاد مهرة، والأحقاف بلاد عاد جمع حقق هو كثيب الرمل ذكره الواحدي في البسيط في تفسير الأحقاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأحقاق وادي بين عمان ومهرة. وفي سيرة ابن هشام: بلاد عاد بين حضرموت وعمان وقيل: الأحقاق رملة الشحر وليس بشيء إلا أن يراد بالرملة وما وراء جبل الشحر الذي عند ظفار الحوضي فثم رملة متصلة بطرف عمان والله سبحانه وتعالى أعلم وانتهى. وقال القزويني في عجائب البلدان: حضرموت ناحية باليمن مشتملة على مدينتين يقال لإحداهما شبام، وللأخرى تريم وهي بقرب البحر وشرقي عدن وأنها بلاد قديمة. حكى رجل من أهل حضرموت قال: وجدنا بها فخاراً يبه سنبلة حنطة الطرف منها وزنها كانت مناً وكل حبة منها كبيض دجاجة، وكان في ذلك الوقت شيخ له خمس مائة سنة، وله ولد له أربعمائة سنة، وولد ولد له ثلثمائة سنة فذهبنا إلى ابن الأبن قلنا أنه اقرب إلى الفهم والعقل فوجدناه مبلداً لا يعرف الخير والشر فقلنا: إذا كان هذا حال ولد الولد فكيف حال الأب والجد؟ فذهبنا إلى صاحب أربعمائة سنة فوجدناه أقرب إلى الفهم من ولده، فذهبنا إلى صاحب خمسمائة سنة فوجدناه سليم العقل والفهم فسألناه عن حال ولد ولده فقال: انه كانت له زوجة سيئة الخلق لا توافقه في شيء أصلا فأثر فيه ضيق خلقها ودوام الغم بمقاساتها، وأما ولدي فكانت له زوجة توافقه مرة وتخالفه أخرى. وهذا هو أقرب إلى الفهم منه. وأما أنا فلي زوجة موافقة في جميع الأمور مساعدة، فلذلك سلم فهمي وعقلي فسألناه عن السنبلة فقال:هذا زرع قوم من الأمم الماضية كانت ملوكهم عادلة وعلماؤهم أمناء وأغنياؤهم أسخياء وعوامهم منصفة . وذكر القزويني أيضاً بها القصر المشيد الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز بناه رجل يقال له صد بن عاد. وذلك أنه لما رأى ما نزل بقوم عاد من الريح العقيم بنى قصراً لا يكون للريح عليه سلطان من شدة أحكامه، وأنتقل إليه هو وأهله. وكان له من القوة ما كان يأخذ الشجرة بيده فيقلعها بعروقها من الأرض ويأكل من الطعام مأكول عشرين رجلاً قومه، ذوكان مغرماً بالنساء تزوج أكثر من سبعمائة عذراء وولد له من كل واحدة ذكر وأنثى فلما كثر أولاده طغى وبغى، وكان يقعد في أعالي قصره مع نسائه لا يمر به أحداً إلا قتله كائناً من كان حتى كثر قتلاه فأهلكه الله تعالى مع قومه بصيحة من السماء وبقي القصر لا يجسر أحد على دخوله لأنه ظهر فيه شجاع عظيم وكان يسمع من داخله أنين كأنين المرضى. وقد أخبر الله تعالى عنهم وعن أمثالهم بقوله " وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد " والبئر المعطلة كانت بعدن ثم ذكر: أن بحضرموت قبر هود النبي عليه السلام قال كعب الأخبار: كنت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان رضي الله عنه فإذا رجل قد رمقه الناس لطوله فقال: أيكم أبن عم محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: أي أبن عمه؟ قال ذلك الذي آمن به صغيراً فاتوا إلى علي رضي الله عنه قال: علي ممن الرجل؟ قال: من اليمن من بلاد حضرموت فقال: أتعرف موضع الاراك والسدرة الحمراء التي يقطر من أوراقها ماء في حمرة الدم فقال الرجل: كأنك سألتني عن قبر هود عليه السلام فقال: علي عنه سألتك حدثني فقال: مضيت في أيام شبابي في عدة من شباب الحي. نريد قبره فسرنا الىجبل شامخ فيه كهوف ومعنا رجل عارف بقبره حتى دخلنا كهفاً فإذا نحن بحجرين عظيمين قد أطبق أحدهما الآخر، وبينهما فرجة يدخلها رجل نحيف وكنت(1/35)
أنا أنحفهم فدخلت بين الحجرين فسرت حتى وصلت إلى فضاء واسع فإذا أنا بسرير عليه ميت وعليه أكفان كأنها الهوى فمسست بدنه فكان صلباً، وإذا هو كبير العينين مقرون الحاجبين واسع الجبهة أسيل الخد طويل اللحية، وإذا عند رأسه حجر على شكل لوح مكتوباً عليه " لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالولدين إحسانا " أنا هود بن الجلود بن عاد رسول الله إلى بني عاد بن عوص بن سام بن نوح جئتهم بالرسالة وبقيت فيهم مدة عمري فكذبوني فأخذهم الله بالريح العقيم فلم يبق منهم أحد وسيجيء بعدي صالح بن كابوح فكذبه قومه فاخذتهم الصيحة " فقال له علي رضي الله عنه: صدقت هكذا قبر هود على نبينا وعليه افضل الصلاة والسلام. ثم ذكر القزويني أن بها أي بحضرموت بئر برهوت وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم أن فيها أرواح الكفار والمنافقين وهي بئر عادية قديمة عميقة في فلاة، وواد مظلم. وعن علي رضي الله عنه ابغض البقاع إلى الله تعالى وادي برهوت بحضرموت فيه بئر ماؤه أسود منتن تاوى إليه أرواح الكفار. وذكر الأصمعي عن رجل حضرمي قال: أنا نجد من ناحية برهوت رائحة منتنة فظيعة جداً فيأتينا الخبر أن عظيما من عظماء الكفار مات. وحكى رجل أنه بات ليلة بواد برهوت فقال: كنت أسمع طول الليل يا دومة. يا دومة فذكرت ذلك لبعض أهل العلم فقال: إن الملك الموكل بأرواح الكفار أسمه دومه انتهى. وقال ابن الوردي في كتابه خريدة العجائب: حضر موت وهي شرقي اليمن وبها بلاد أصحاب الرس، وكانت لهم مدينة تسمى الرس سميت بذلك باسم نهرها،ومن ارض حضر موت المشهورة سبأ التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم، وكانت مدينة مأرب هو اسم تلك البلاد. وبهذه المدينة كان السد الذي أرسل عليه سيل العرم انتهى. وقال القزويني: سبأ مدينة كانت بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام بناها سبأ بن يسحب بن يعرب بن قحطان، كانت مدينة حصينة كثيرة الأشجار لذيذة الثمار كثيرة أنواع الحيوان وهى التي ذكرها الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله " لقد كان لسبأ في مسكنهم أية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم وأشكروا له بلدة طيبة ورب غفور " ما كان يوجد لها ذباب ولا بعوض ولا شيء من الهوام كالحية والعقرب ونحوها، وقد أجتمعت في ذلك الموضع مياه كثيرة من السيول فتمشي بين جبلين فبنوا بين الجبلين سداً من الصخر والقار ونزل الماء العظيم خارج للسد، وجعلت في السد مشاعب اعلى واوسط واسفل ليأخذوا من الماء كلما أحتاجوا إليه، فحرث داخل السد ودام سقيها فعمرها الناس وبنوا وغرسوا وزرعوا فصارت أحسن بلاد الله وأكثرها خيراً كما قال الله تعالى " جنتان عن يمين وشمال " وكان أهلها أخوة وبني عم حمير وكهلان فبعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم فسلط الله تعالى الجرذ على بلدهم انتهى وقال في موضع آخر: مأرب كورة بين حضرموت وصنعاء لم يبق بها العامر إلا ثلاث قرى يسمونها الدروب كل قرية منسوبة إلى قبيلة من اليمن وهم يزرعونها على الماء الذي جاء من ناحية السد يسقون أرضهم سقية واحدة ويزرعون عليه ثلاث مرات في كل عام، ويكون بين زرع الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين. وكان بها سيل العرم الذي جرى ذكره في سبأ فغرقت البلاد حتى لم يبق إلا ما كان على رؤس الجبال، وذهبت الحدائق والجنان والضياع والدور وجاء السيل بالرمل فطمها وهي على ذلك إلى اليوم كما أخبر الله تعالى " فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق " والعرم المسناة بنتها ملوك اليمن بالصخر والقار حاجزاً بين السيول والضياع ففجرته فأرة فيكون أظهر في الأعجوبة. قال ابن الوردي: وكان من حديثه إن امرأة كانت رأت في منامها ان سحابة غشيت أرضهم فارعدت وابرقت ثم اصقعت فأحرقت كلما وقعت عليه فأخبرت زوجها بذلك. وكان يسمى عمرو بن عامر فذهب إلى سد مأرب فوجد الجرذ وهو الفار يقلب برجليه حجر لا يقلبه إلا خمسون رجلاً فراعه ما رأي وعلم أنه لابد من كائنة تنزل بتلك القرية فرجع فباع جميع ما كان له بمأرب وخرج هو وزوجته وولده منها وأرسل الله تعالى الجرذ على ذلك السد الذي يحول بينهم وبين الماء فأغرقهم وهو سيل العرم فهدم السد وخرج إلى تلك الأرض فاغرقها كلها وهو السد الذي بناه لقمان الأكبر ابن عاد بناه بالصخر والرصاص فرسخ ليحول بينهم وبين الماء وجعل فيه أبواباً ليأخذوا(1/36)
من مائه ما يحتاجون إليه انتهى. وذكر القزويني في عجائب البلدان ما يقرب من ذلك قال: إن سيادة اليمن كانت لولد حمير ولولد كهلان، وكان كبيرهم عمران بن عامر وكان جواداً عاقلاً، وكان له ولاقاربه من الحدائق ما لم يكن لأحد من ولد قحطان وكانت عندهم كاهنة اسمها طريفة قالت لعمران: والظلمة والضياء والأرض والسماء ليقبلن اليكم الماء كالبحر إذا طما فيدع أرضكم خلاء. يسفي عليها الصبا. فقالوا لها: أفجعتينا بأموالنا فبيني لنا مقالتك ؟ فقالت: انطلقوا إلى رأس الوادي لترون الجرذ العادي يجر كل صخرة صبخاء بأنياب حداد وأظفار شداد. فانطلق عمران في نفر من قومه حتى أشرفوا على السد فاذاهم بجرذ أحمر يقلع الحجر الذي لا يستقله رجال ويدفعه بمخاليب رجليه إلى مايلي البحر ليفتح السد. فلما رأى عمران ذلك علم ذلك علم صدق قول الكاهنة قال لأهله اكتموا هذا القول من بني عمكم حمير لعلنا نبيع حدايقنا منهم ونرحل عن هذه الأرض. ثم قال لابن أخيه حارثة: إذا كان الغد واجتمع الناس أقول لك قولاً خالفني، وإذا شتمتك ردها علي، وإذا ضربتك فاضربني مثله فقال: يا عم كيف ذلك فقال عمران: لا تخالف فإن مصلحتنا في هذا. فلما كان الغد واجتمع عند عمران أشراف قومه وعظماء حمير ووجوه رعيته أمر حارثة أمراً فعصاه فضربه بمخصرة كانت بيده، فوثب عليه حارثة فلطمه فاظهر عمران الغضب وأمر بقتل ابن أخيه فوقع في حقه الشفاعات فلما أمسك عن قتله حلف أن لايقيم في أرض امتهن بها، وقال وجوه قومه ولا نقيم بعدك يوماً فعرضوا ضياعهم على البيع فاشتراها بنو حمير بأغلى الأثمان فارتحل عن أرض اليمن فجاء السيل بعد رحيلهم بمدة يسيرة فخربت البلاد كما قال تعالى " فاعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلنا بجنتيهم جنيتين ذواتي أكل خمط واثل وشيء من سدر قليل " فتفرقوا في البلاد ويضرب بهم المثل يقال : تفرقوا ايادي سبا. وكانوا عشرة ابطن ستة تيامنوا وهم كندة والأشعريون والأزد ومدحج وانمار وحمير، وأربعة تشاموا وهم عامرة وجدام ولخم وغسان. وكانت هذه الواقعة بين مبعث عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم انتهى. وذكر صاحب كتاب المستبصر في الكلام على سد مأرب: إن أهل شداد وعاد سدت بين منفذ جبلين بالحجر والرصاص وصعدوا في ارتفاعه إلى أن حاذى الحائط ذروة الجبلين فصارت السيول تقلب فيه الماء ليستجمع إلى أن رجع مسدوداً، وكانوا يسقون منه أراضيهم وأنعامهم ويقال أنهم كانوا يسقون منه إلى قرب الشام بساتين ذات أعناب ونخيل وزرع وقرى متصلة بعضها ببعض، وبقي الإقليم إلى أن اخربه الله، وكان الموجب لذلك ما ذكره الداري قال: خرجت قافلة من الشام وإذاً بفأر قفز من الأرض وركب ظهر جمل من بعض الجمال التي في القافلة ولا زال ينتقل من جمل إلى جمل ويعبر منزلا بعد منزل إلى أن وصل مدينة مأرب فقفز الفأر من الجمل ودخل السد وصار يعمل فيه عمله. ويقال إن النعمان بن المنذر خرج يوماً في طلب الصيد فحصل في طرد الصيد فوجد الفار بأنياب حديد يحفر السد فلما رجع إلى أبيه المنذر قص عليه حكاية الفار وصفة أنيابه أنها من حديد يحفر بها السد. فقال المنذر: صح يا بني ما وجدناه في الكتب أن ما يخرب سد مأرب إلا فار أنيابه من حديد. وأريد منك اذا دخلنا يوم الأحد إلى الدير والكنائس والناس فيه مجمعون قم إلي وشاكلني في أمر من الأمور وطول، وها أنا اشاقك عليه فإذا رأيت الأمر قد طال قم الطمني براحة كفك على خدي قال النعمان: وكيف يمكن ذلك قال: يا بني افعل ما أمرتك به لأن لي فيه رأياً، ولك فيه مصلحة. ففعل الولد ما أمره به والده . فلما لطم الشيخ غضب من الحين وسمي المظلوم فقام الشيخ إلى الجميع وقال : يا وجوه العرب ما بقي لي معكم سكن قالوا له الجميع: ولم ؟ قال: وكيف أقيم وصبي كسر حشمتي بينكم وحرمتي. ومن ساعته نادى على السد فتألبت والتأمت قبائل العرب في شرائه قالوا: بكم؟ قال: تغمدوا سيفي هذا، وغرس ذباب سيفه على الأرض وصارت العرب تنقل الذهب والفضة والمصاغ إليه، ولا زالوا على حالهم يصبون الذهب إلى أن غمد سيفه بالذهب. فأخذ الشيخ المال وصعد الجبل وسكن مقابل السد. والجبل يسمى حفا. هو وأهله ينتظرون خراب السد. ولما تمكن الفار من السد وخرقه أخربه وخرج السيل. ثم قال حدثني سلامة بن محمد بن حجاج قال: لما وقع السد أخذ الماء في جملة ما أخذ ألف(1/37)
صبي أمرد على ألف حصان ابلق غير البيض والشقر والدهم والخضر وقال الشاعر:رد على ألف حصان ابلق غير البيض والشقر والدهم والخضر وقال الشاعر:
تهدم سد المأربين وقد مضى ... زمان وهو ينقاد حيث يقاد(1/38)
والى مأرب أربع فراسخ، وتسمى الحضين. ومن هذا البلد نقلت الجن عرش بلقيس إلى أرض فارس في زمن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل " أهكذا عرشك قالت كأنه هو " فلما اندق السد أخذه في جملة ما أخذ فلما زال شر الماء دارت الخلق على موضعين سليمين منه سوران يسمى أحدهما درب الأعلى. والثاني درب الأسفل. ثم قال: ويقال إن مدينة مأرب بناها سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان، ويقال عابر وهو هود عليه الصلاة والسلام ويقال: إنما سمي سد مأرب لأن قوم عاد لما سلط الله عليهم الريح العقيم، وكان يقف على السد كل يوم كذا وكذا من عجله ليردوا عن أصحابهم البلاء، وكانت الريح تضرب بعضهم على بعض كما قال عز وجل " ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " فبنوا السد ليرد عنهم قوة الماء. فلما غدت تلك الأمة اجتمع السيول فيه وكثرت المياه فبقى جرياً للماء فبني عليه قرى وعمارات وزراعات إلى حدود الشام، وكان يسقى منه جميع ذلك فقتل ولد لحصيص بن حصين في مأرب. وأمسى علمه في حضرموت مسيرة ثمانية أيام لأن كل ناطور زرع كان يخبر صاحبه الخبر حتى اتصل بحضرموت يعني في مقدار يوم في ذلك من عمارة البلاد وكثرة العباد انتهى. قال ابن الوردي في الخريدة: وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن مسيرة ستة أشهر متصلة العماير والبساتين، وكانوا يقبسون النار بعضهم من بعض، وإذا أرادت المرأة الثمار وضعت مكتلتها على رأسها وخرجت تمشي بين الأشجار وهي تغزل الصوف فلا ترجع إلا والمكتل ملآن من الثمار التي بخاطرها من غير أن تمس شيئاً بيدها البتة، وكانت أرضهم خالية من الهوام والحشرات وغيرها. فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث. وإذا دخل الغريب أرضهم وعليه في ثيابه شيء من القمل والبراغيت هلكوا في الوقت والحين، وذهب ما كان في ثيابه من ذلك بقدر قادر، واذهب الله جميع ما كان فيها ولم يبق من أرضهم إلا الخمط والأثل وهو الطرفاء والاراك وشيء من سدر قليل قال الله عز وجل " ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور: وسبأ الآن خراب وكان بها قصر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وقصر بلقيس زوجته وهي ملكة تلك الأرض التي تزوجها سليمان وقصتها مشهورة. وبأرضها جبل منيع صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا بالجهد العظيم، وفي أعلاه قرى عظيمة عامرة، وبساتين وفواكه ونخل مثمر وخصب كثير، وبهذا الجبل أحجار العقيق وأحجار الجثيب وأحجار الجزع. وهي مغشاة بأغشية ترابية لا يعرفها إلا طالبها، ولهم في معرفتها علامات فتصقل فيظهر حسنها انتهى والله أعلم. قال القزويني: إرم ذات العماد بين صنعا وحضرموت من بناء شداد بن عاد. روي أن شداد بن عاد كان جباراً من الجبابرة لما سمع بالجنة وما وعد الله فيها أولياءه من قصور الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار والغرف التي فوقها غرف قال: إني متخذ في الأرض مدينة على صفة الجنة فوكل بذلك مائة رجل من وكلائه تحت كل وكيل ألف من الأعوان ولغيرهم ان يطلبوا أفضل فلاة من الأرض من أرض اليمن ويختاروا أطيبها تربة، ومكنهم من الأموال ومثل لهم كيفية بنائها وكتب إلى عماله في سائر البلدان أن يجمعوا جميع ما في عددهم من الذهب والفضة والجواهر فجمعوا منها صبراً مثل الجبال فأمر باتخاذ اللبن من الذهب والفضة ن وبنى المدينة بها وأمر أن يفصص حيطانها بجواهر الدر والياقوت والزبرجد وجعل فيها غرفاً فوقها غرف أساطينها من الزبرجد والجزع والياقوت. ثم أجرى إليها نهراً ساقه إليها من أربعين فرسخاً تحت الأرض، وظهر في المدينة فأجرى من ذلك النهر السواقي في السكك والشوارع، وأمر بحافتي النهر والسواقي فطليت بالذهب الأحمر وجعل حصباه أنواع الجواهر الأحمر والأخضر والأصفر ن ونصب على حافتي السواقي والنهر أشجاراً من الذهب، وجعل ثمارها من اليواقيت والجواهر، وجعل طول المدينة اثني عشر فرسخاً وعرضها مثل ذلك، وصير سورها عالياً مشرفاً وبنى فيها ثلاثمائة قصر مفصصاً بواطنها وظواهرها بأصناف الجواهر. ثم بنى لنفسه على ذلك النهر قصراً منيفاً عالياً يشرف على تلك القصور كلها، وجعل مائها يشرع إلى دار رجب ونصب عليه مصراعين من ذهب مفصص بأنواع الجواهر واليواقيت، وجعل ارتفاع البيوت والسور ثلاثمائة ذراع، وجعل تراب المدينة من المسك(1/39)
والزعفران، وجعل خارج المدينة مائة ألف قنطرة أيضاً رصعت بالذهب والفضة لينزلها جنوده ومكث في بنائها خمس مائة عام. فبعث الله تعالى هوداً عليه الصلاة والسلام فدعاه إلى الله تعالى فتمادى في الكفر والطغيان وكان إذ ذاك تم على ملكه سبعمائة سنة فانذره هود بعذاب الله تعالى وخوفه بزوال ملكه فلم يرتدع عما كان عليه. وعند ذلك وافاه الموكلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها فعزم على الخروج إليها في جنوده وخرج في ثلثمائة ألف رجل من أهل بيته وخلف على ملكه مرثد بن شداد ابنه كان وكان مرثد فيما يقال مؤمناً بهود عليه الصلاة والسلام فلما انتهى شداد إلى قرب المدينة بمرحلة جاءت صيحة من السماء مات هووأصحابه، وجميع من كان في أمر المدينة من القهارمة والصناع والفعلة، وبقيت لا أنيس بها فأخفاها الله تعالى لم يدخلها بعد ذلك الارجل واحد أيام معاوية رضي الله عنه يقال له عبد الله بن قدامة فإنه ذكر في قصة طويلة تخليصها: أنه خرج من صنعاء في طلب ابل ضلت فأفضى به السير إلىمدينة صفتها ما ذكرناه فأخذ منها شيئاً من المسك والكافور وشيئاً من الياقوت، وقصد الشام وأخبر معاوية بالمدينة، وعرض عليها ما أخذه من الجواهر وكانت قد تغيرت بطول الزمان فاحضر معاوية كعب الأخبار وسأله من ذلك فقال: هذه ارم ذات العماد التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز بناها شداد بن عاد لا سبيل إلى دخولها ولا يدخلها إلا رجل واحد وصفته كذا وكذا، وكانت تلك الصفة صفة عبد الله بن قدامة. فقال له معاوية: أما أنت يا عبد الله فأحسنت النصح ولكن لا سبيل إليها، وأمر له بجائزة. وحكي أنهم عرفوا قبر شداد بن عاد بحضرموت وذلك أنهم وقعوا في حفيرة وهي بيت في جبل تنور مائة ذراع في أربعين ذارعاً، وفي صدره سرير عظيم من ذهب عليه رجل عظيم الجسم وعند رأسه لوح فيه مكتوب شعر:ن، وجعل خارج المدينة مائة ألف قنطرة أيضاً رصعت بالذهب والفضة لينزلها جنوده ومكث في بنائها خمس مائة عام. فبعث الله تعالى هوداً عليه الصلاة والسلام فدعاه إلى الله تعالى فتمادى في الكفر والطغيان وكان إذ ذاك تم على ملكه سبعمائة سنة فانذره هود بعذاب الله تعالى وخوفه بزوال ملكه فلم يرتدع عما كان عليه. وعند ذلك وافاه الموكلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها فعزم على الخروج إليها في جنوده وخرج في ثلثمائة ألف رجل من أهل بيته وخلف على ملكه مرثد بن شداد ابنه كان وكان مرثد فيما يقال مؤمناً بهود عليه الصلاة والسلام فلما انتهى شداد إلى قرب المدينة بمرحلة جاءت صيحة من السماء مات هووأصحابه، وجميع من كان في أمر المدينة من القهارمة والصناع والفعلة، وبقيت لا أنيس بها فأخفاها الله تعالى لم يدخلها بعد ذلك الارجل واحد أيام معاوية رضي الله عنه يقال له عبد الله بن قدامة فإنه ذكر في قصة طويلة تخليصها: أنه خرج من صنعاء في طلب ابل ضلت فأفضى به السير إلىمدينة صفتها ما ذكرناه فأخذ منها شيئاً من المسك والكافور وشيئاً من الياقوت، وقصد الشام وأخبر معاوية بالمدينة، وعرض عليها ما أخذه من الجواهر وكانت قد تغيرت بطول الزمان فاحضر معاوية كعب الأخبار وسأله من ذلك فقال: هذه ارم ذات العماد التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز بناها شداد بن عاد لا سبيل إلى دخولها ولا يدخلها إلا رجل واحد وصفته كذا وكذا، وكانت تلك الصفة صفة عبد الله بن قدامة. فقال له معاوية: أما أنت يا عبد الله فأحسنت النصح ولكن لا سبيل إليها، وأمر له بجائزة. وحكي أنهم عرفوا قبر شداد بن عاد بحضرموت وذلك أنهم وقعوا في حفيرة وهي بيت في جبل تنور مائة ذراع في أربعين ذارعاً، وفي صدره سرير عظيم من ذهب عليه رجل عظيم الجسم وعند رأسه لوح فيه مكتوب شعر:
أعتبر يا أيها المغرور بالعمر المديد ... أنا شداد بن عاد صاحب القصر المشيد
وأخو القوة والبأساء والملك الحشيد ... داز أهل الأرض طراً لي من خوف وعيدي
فأتى هود وكنا في ضلال قبل هود ... فدعانا لو أقبلناه إلى الأمر الرشيد
فعصيناه ونادينا الأهل المجيد ... فأتتنا صيحة تهوي من الأفق البعيد
فثوينا مثل زرع وسط بيدا حصيد(1/40)
وكفى حضر موت من الشرف العظيم. والمجد الفخيم. والفخر الذي لا يبلى ويبيد. بل ينمو ويزيد. أن الإمام شيخ الإسلام مجتهد زمانه الشيخ أبا الحسن البكري الصديقي. ذكر في تفسيره عند قوله تعالى " وأن منكم إلا وأردها " الآية. يستثني من ذلك أهل حضر موت لأنهم أهل ضنك في المعيشة. وروي عن الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي. رضي الله عنه. أنه أرسل ولده عبد الرحمن من مكة المشرفة إلى حضرموت. لزيارتهم. فلما عاد إليه سأله عنهم. فقال له رأيتهم لا يحصون كثرة، ورأيت أنوارهم مشرقة كالشمس وأنشد شعر:
مررت بوادي حضرموت مسلماً ... فالفيته بالبشر مبتسماً رحباً
والفيت فيها من حبها بذة العلا ... اكابر لا يلقون شرقاً وغرباً
واما تريم التي قدرها كوزنها عظيم. وهي بتاء مثناة فوقية ثم راء مكسورة ثم ياء تحتية بعدها ميم. بلدة بحضرموت وهي أعدل أرض الله هواء وأصحها تربة. وأعذبها ماء. وهي قديمة يقال أنها كانت قديم الأيام عامرة جداً. وأما الآن فهي ضعيفة إلى الغاية. ولاجل ضنك المعيشة بها وقع من الشيخ أبي الحسن البكري ذلك القول. في حق أهلها. وهذا لعمري من جملة محاسنها.إذا القاطنون بها دائماً كأنهم في رياضة. ولهذا يفتح على كثير منهم بأدنى توجه، وأقبال على الله. فزوى الله عنهم أسباب البطر والأشر من حيث لا يشعرون. من العصمة أن لا تقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والظاهر أن سبب خرابها سيل العرم. الذي أرسله الله تعالى على سبأ. فانقطعت عنها المياه التي كان يزرع عليها. فسبحان من يقلب الأمور. ولم يتغير بتغير الدهور. ولم يوجد الآن بها من الفواكه غير التمر. وهو كثير عندهم بحيث أنه غالب قوت البلد. وعلى أنواع مختلفة. فهي باعتبار كثرة النخيل بها كأنها كانها جنة شعر:
كأن النخيل الباسقات وقد غدت ... مناظرها حسناً قباب زبرجد
وقد علقت من قبتها زينة لها ... قناديل ياقوت بامراش عسجد
وقيل انه كان عيون كثيرة. والذي سدها معن بن زايدة الشيباني الجواد. فعد ذلك من سيئاته. وسبب ذلك فيما ذكروا. أن أخاه كان والياً عليها. وكان فاسقاً فقتله أهلها بسبب ذلك. فغضب معن لذلك، وأمر بسد العيون التي كانت فيها فسدت بالرصاص ، وحكم على أهلها بكشف الرؤس ولبس السواد. فمن ثم جرت عادتهم بذلك. بل صار اليوم لبس السواد عندهم من جملة الزينة. حتى أن أهل الورع يحذرون منه. وحكي أن بعض المغاربة جاء الى حضرموت. في زمن السلطان بدر الكثيري. وأراد أن يفتح فيها بعض العيون. ثم إن السلطان خاف ان يطمع فيها الاروام. إذا قويت فترك ذلك بعد أن كان عزم عليه. وبناها تريم بن حضرموت. فسميت باسمه. وقيل أسعد الكامل. وللفقيه محمد بن أبي الحب قصيدة في صفتها وخواصها منها شعر:
نسيم جنوبها أبداً صحيح ... وطبع الجو فيها مستقيم
وطبع بيارها في الصيف برد ... وأيام الشتا هي الحميم
تعادل حرها والبرد فيها ... فلا حر يضر ولا سموم
وطبع البرد فيها فيه لطف ... يطيب نسيمه ينمو الجسوم
وحر الشمس فيها ليس يؤذي ... وبرد شتائها أبداً سليم
بلاد طاب مسكنها وطابت ... مباركة لها رب رحيم
فلو نظرت فلاسفة إليها ... لقالوا جنة الدنيا " تريم "
وسماها الشيخ القطب عمر المخضار ابن الشيخ عبد الرحمن السقاف في بعض قصائده. بلاد الطب. قال بعضهم شملت هذه الكلمة من الشيخ عمر رضي الله عنه. الطبين جميعاً طب القلوب، وطب الأبدان.
ولي: تر صاحبي أفوز بزورة من تريم. وأظفر بالمنا. قال لي تبلغ ما ترم سيدي من الريم. وتحضى بالهنا. وما أحسن قول الشيخ عبد المعطي باكثير رحمه الله في صفتها شعر:
أرضاً غدت تفاخر السما ... كذا حصاها فاخر الجوزا
أرضاً ينال كل من أم لها ... كرامة فوق الذي أملها
وتربها غدا يضاهي المسكي ... للزعفران الجنوي يحكى
قد أشرقت من سائر النواحي ... على الملا بورها الوضاحي
وهي معشر الأولياء معدنهم ... ومنشأ العلماء وموطنهم(1/41)
وهي مسكن السادة الأشراف آل باعلوي. فإن جدهم أحمد بن عيسى لما قدم إلى حضرموت سكن فابتنى جشير بكسر الجيم والشين المعجمة وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم راء. يعرف اليوم ببيت بني جشيب بالباء الموحدة. على نصف مرحلة من تريم. ثم أنتقل منها إلى الحسيسة بضم الحاء المهملة وفتح السين وياء مثناة من تحت بينهما مشددة مكسورة قريب منها. وأشترى بها عقاراً كثيراً وبها توفي ودفن في شعبها الشرقي. ثم أن ولده الشيخ عبد الله أنتقل إلى سمل بضم السين المهملة وفتح الميم وسكنها مدة زمان. واشترى بها أموالا كثيرة. وهي على نحو ستة أميال من تريم. وحكي أن وفاته كانت بها. ثم أنتقل أولاده منها إلا بيت جبير. بضم الجيم وفتح الباء الموحدة واسكان الياء المثناة من تحت وراء بعدها. قريب منها فسكنوها مدة. ثم انتقلوا إلى تريم وسكنوا بها وتوطنوها من سنة إحدى وستين وخمسمائة. إلى يومنا هذا فازدادت بهم شرقا وفخراً إلى فخرها. وازدهرت بها أقطارها. واخضرت أشجارها. وأشرقت بدورها. وفاح عبيرها. وأنشد قائلها.
أشم منك نسيما لست أعرفه ... ما ضر لمياجرت فيك اذيالا
غيره:
تحيي بهم كل ارض ينزلون بها ... كأنهم لخراب الأرض عمار
ولما كانت خير بلاد الله بعد الحرمين الشريفين. وبيت المقدس أكرمها الله تعالى بخير عباده وأكرمهم عليه. الذين زينهم بأتباع السنة الغراء. مع صحة نسبهم المتصل بالسيدة الزهراء. الذي عز وجود نظيره في غيرهم. فكاد لا يوجد الشريف السني إلا نادراً. هذا مع ما خضوا به وأشتهر عنهم من العبادة. والعلم والتواضع والزهد. فأدناهم والمقصر منهم في أموره هو الشريف السني. رضي الله عنهم ونفع بهم آمين. ولله در من قال شعر:
طابت تريم بهم وطاب محلها ... أضحوا بها القنديل وهي المسجد
تختال زهواً في العراص لحسنها ... بحول سلمى حسنها لا يفقد
اضحت تريم بهم عروساً تجتلى ... تذكر عبيراً نشره يتردد
يا ربع سلمى رحمة وتحية ... مني عليك مدى الزمان تردد
ويذكر إنها تنبت الصالحين كما تنبت الأرض البقل. واجتمع بها في عصر واحد من العلماء الذين بلغوا رتبة الإفتاء ثلاثمائة رجل. وان بمقبرتها جماعة ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وان عددهم سبعون نفرا. وكان الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله عنه.إذا زار قبور تريم يشير إلى مكان قبورهم في محل مخصوص هناك. وروي عنه انه قال في تربة آل باعلوي ثمانون قطباً كلهم أشراف. وروي عن بعض الصالحين. انه قال لرجل من أهل تريم أتعرف الفريط الأحمر والجبل والأحمر.
فقال له: نعم. فقال له تحته روضة من رياض الجنة. وروي عن الشيخ فضل ابن عبد الله. انه قال ثلاث ترب محمولات بترابهم إلى الجنة. تربة تريم. وتربة الهجرين. وتربة غيل أبي سودان. ويقال ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه. دعى له بثلاث دعوات. أن يكثر بها الصالحون، وأن يبارك الله فيما بها، وان لا تطفي نار إلى يوم القيامة ومعناه ان لا تزال عامرة الى يوم القيامة. وذلك حين بلغه ان اهلها لم يرتدوا كغيرهم من العرب الذين ارتدوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذا قيل لها مدينة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وروي أن الفقيه محمد ابن أبي بكر عباد رحمه الله كان يقول: اذا كان يوم القيامة أخذ أبو بكر الصديق اهل تريم كلهم قبضة في يده ورمى بهم في الجنة. وبها مساجد كثيرة. مشهورة البركة. منها المسجد المعروف بمسجد آل باعلوي. وقد نظم السبعة الذين يعتقد أهل زبيد ان من زارهم سبعة ايام متوالية قضيت حاجته. الشيخ على ابن أبي بكر في معرض الثناء عليهم. ثم التعريف بأن في بلدة تريم الجم الغفير من هم بهذا الوصف الخطير. فقال رحمه الله ورضى عنه وعن ساير الصالحين وعنا بهم آمين. شعر:
بباب سهام سبعة من مشايخ ... لقاصدهم ذخر وكنز لمقلل
فيونس إبراهيم مرزوق جبرتي ... وأفلح مياد كذا ابن الرضي الولي
زيارتهم نجح لكل حوائج ... وفي الخلد سكنى للذي زار مقبل
تريم بها منهم الوف عديدة ... بساحة بشار شموس الهدى قل(1/42)
زيارة كل منهم صح أنها ... لما شئت من جلب ودفع محصل
وإن قيل ترياق ببغداد جربا ... وفي ربع بشار شفا كل معضل
ويا حبذا ذاك الفريط وظله ... فكم قد حوى من كامل السر منهل
فكم معدن كم مورد كم معظم ... وكم حبر تحقيق وشيخ مدلل
وبلبل قلبي نفح مسك بزنبل ... بها من كنوز السر كم من مجلل
وكم جهبذ فيها بنوا كدر بها ... بهم ينزل الله الغيوث لممحل
فلا تحقرنها رب اشعث خامل ... سماسرة فضلا على كل مفضل
وفيها:في ليلة الثلاثاء رابع عشر شوال توفي الشيخ الكبير والعلم الشهير القطب الرباني شمس الشموس الشيخ أبو بكر بن عبد الله العيدروس باعلوي بعدن فصارت به على الحقيقة عدناً وأكرمها الله بها حياً وميتاً وسكوتاً وسكناً كما قيل شعر:
صار دال أسمها كما كان فيها ... ساكناً ساكناً فدام النزول
فبه الثغر والجهات جميعاً ... عمها النور والبها والقبول
فابشروا أيها النزول " بعدن " ... لسلام من ربكم لا يزول
وقبره بها اشهر من الشمس الضاحية يقصد للزيارة والتبرك من الأماكن البعيدة. وقد ضمن صاحبنا الفقيه عبد الله بن أحمد بن فلاح تاريخ عام وفاته في بيتين فقال شعر:
قضى جاتراه وفيها بعام ... وفاة الولي القطب صاحب عدن
أبي بكر العيدروس الذي ... به الله أعلى منار المنن
وكان مولده بتريم سنة إحدى وخمسين وثمانمائة. ومدة اقامته بعدن نحو خمس وعشرين سنة، وكان من أكابر الأولياء بل هو القطب في زمانه كما شهد بعد العارفون بالله سبحانه وتعالى، شرقاً وغرباً ولم يمتر في ذلك ذو بصيرة من أهل الطريق، وكان في الجود آية من آيات الله تعالى، وكان يذبح في سماطه كل يوم في رمضان ثلاثون كبشا ولذلك لمغت ديونه مائتي ألف دينار. فقضاها عنه الأمير الموفق ناصر الدين عبد الله باحلوان في حياته قبيل موته بمدة يسيرة حتى قرت بذلك عينه. وكان يقول: إن الله وعدني ان لا أخرج من الدنيا إلا وقد أدى عني ديني. ومن مشايخه من العلم عمه الشيخ علي والفقيه العلامة محمد بن أحمد بافضل ومقروءآته كثيرة لا تنحصر، وله إجازات متعددة من علماء الآفاق كالشيخ العلامة الحافظ السخاوي، والشيخ العلامة المحدث يحيى العامري اليمني والشيخ الإمام العلامة المزجد الزبيدي وغيرهم. وعده الشيخ جار الله بن فهد في معجمه من شيوخه في الحديث وأجتمع على إثبات ولايته وعظيم خصوصيته من كان في زمانه من الاولياء العارفين، واعترف بعلو منزلته من عاصره من أكابر علماء الدين. وقد ذكر الفقيه العلامة محمد بن عمر بحرق رحمه الله في كتابه الموسوم بمواهب القدوس في مناقب أبن العيدروس من ذلك جملة شافية مقنعة كافية تنشرح بمطالعتها الصدور، ويزداد المحب سماعها نوراً على نور. منها أن عمه الشيخ علياً رضي الله عنه شهد له بالقطبية في حكاية. وقد تقدم ذكرها في ترجمة الفقيه الصالح محمد بن أحمد باجرفيل، وكذا شهد له بها من أهل عصره الشريف حسين ابن الصديق الأهدل.
قلت: وقد مر كلامه أيضاً مستوفى في ترجمته. قال وسألت بعضهم عنه فقال: الذي نعتقده وندين الله به أنه صاحب الوقت. وذكر أيضاً أنه سأل الفقيه الصالح محمد بن أحمد بافضل عنه، فأجاب بجواب يتضمن المدح والثناء عليه وقد مر أيضاً في ترجمته.
قلت:وحكي عن بعض الثقات أنه قال حججت سنة سبع وتسعمائة فبينما أنا أطوف إذ برجل عليه هيئة أهل الصلاح أخذ بيدي وقال لي أنت فلان وبلادك كذا وأخبرني بأشياء جرت، لم أعرفه قبل ذلك. ثم قال: أتدري من غوث الأولياء اليوم؟ فقلت: لا. فقال: غوثهم الشريف أبو كبر بن عبد الله العيدروس الذي بعدن فقلت له: منذ هو في القطيبة فقال منذ ستين. ومدحه العلامة أحمد بن عمر المرجد الزبيدي مصنف العباب بهده الأبيات شعر:
سلام كروض باكرته غمائمه ... وفتح عن زهر الأقاحي كأئمة
وأعشب وأخضرت أفانين دوحة ... وغنت على أغصانها جمائمه
سلام يباري المندل الرطب نشره ... فتعبق منم تلك الربوع معالمه(1/43)
على السيد سامي إلى ذروة العلى ... وليس له في مثلها من يزاحمه
أبي بكر الصديق اكرم بينعة ... نمته فقد نطيت عليه تمائمه
وهمته في نيل كل فضيلة ... وليس إلى أحراز ما هو طاعمه
له من كتاب الله أعذب منهل ... ومن سنة المختار شرب يلائمه
ومن نهج أشياخ الطريقة منهج ... تقهقر عنه عربه وأعاجمه
ولا غرو اذ خير النبيين جده ... ومنه خوافي ريشه وقوادمه
أتاني كتاب منه يرعى عهوده ... وأني على العهد الذي هو عالمه
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... وفضت جيوش الغم إذ فض خاتمه
عفى الله عن هذا الزمان فإنه ... يحاربنا دأبنا ونحن نسالمه
يفارق ما بين الخليلين عنوة ... ومن كان أقوى منك كيف تحاكمه
ويلحم فينا غارة بعد غارة ... وتفجأنا في كل يوم ملاحمه
سلام على الشيخ الكبير الذي غدت ... كرامته معروفة ومكارمه
لكل زمان قائم في صروفه ... وهذا رمضان أنت لاشك قائمه
فلا تخلني من دعوة مستجابة ... فأنت وسيع البر جم مراحمه
فهؤلاء العلماء الذين عاصروه، وبكل فضل وصفوه، ولم نذكر منهم إلا اليسير إذ هم جم غفير، وجمع كثير. ولو ذكرت الكل مفصلا لطال هذا الباب وخرجنا عما الترمناه من الإجار إلى الاسهابز وحكي من مجاهداته أنه مجر النوم بالليل أكثر من ثلاثين سنة. وأما كراماته فكصيرة كقطر السحاب لا تدرك بعد ولا حساب. ولكن أذكر منها على سبيل الإجمال دون التفصيل. ثلاث حكايات تكون كالعنوان على باقيها بالدلالة والتمثيل. منها انه لما رجع من الحج دخل زيلع وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق فاتفق انه ماتت أم ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها فكاد عقله يذهب لموتها فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدة الجزع ليعزيه ويأمره بالصبر والرضاء بالقضاء وهى مسجاة بين يدي الحاكم بثوب فعزاه وصبره فلم يفد فيه ذلك واكب على قدم سيدي الشيخ بقبلها. وقال: يا سيدي إن لم يحيي الله هذه مت انا أيضاً، ولم تبق لي عقيدة في أحد. فكشف سيدي وجهها وناداها باسمها فأجابته لبيك، ورد الله روحها، وخرج الحاضرون، ولم يخرج سيدي الشيخ حتى اكلت مع سيدها الهريسة وعاشت مدة طويلة. وعن الامير مرجان انه قال: كنت في نفر من أصجاب لي في محطة صنعاء الأولى فحمل علينا العدو فتفرق عني أصحابي وسقط بي فرسي لكثرة ما أثخن من الجراحات فدار بي العدو حينئذ منم كل جانب فهتفت بالصالحين، ثم ذكرت الشيخ أبا بكر رضي الله عنه، وهتف به فإذا هو قائم. فوالله العظيم لقد رأيته نهاراً وعاينته جهاراً أخذ بناصيتي وناصية فرسي وشلني من بينهم حتى أوصلني المحطة. فحينئذ مات الفرس ونجوت انا ببركته رضي الله عنه ونفع به. وعن المريد الصادق نعمان بن محمد المهدي انه قال: بينما نحن سائرون في سفينة إلى الهند إذ وقع فيها خلق عظيم فايقنوا بالهلاك، وضج كل بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وهتف كل بشيخه وهتف انا بشيخي أبي بكر العيدروس رضي عنه. فأخذتني سنة فرأيته داخل السفينة وبيده منديل ابيض وهو قاصد نحو الخرق فانتبهت فرحاً مسروراً وناديت بأعلى صوتي أن ابشروا يا أهل السفينة فقد جاء الفرج فقالوا: ماذا رأيت فأخبرتم فتفقدوا الخرق فوجدوه مسدود بمنديل أبيض كما رأيت فنجونا ببركته رضي الله عنه ونفه به.(1/44)
" فايده " اعلم أن كرامات الاولياء حق. والدليل على وقوعها موجود من المنقول والمعقول. أما المنقول فهو ما ثبت في القرآن العزيز فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قصة مريم وجريح وغيرهم الذين ليسوا أنبياء ووقعت على أيديهم، وما روي عن الصديق رضي الله عنه وكلن أخبر عند موته امرأته تلد بنتاً وكانت إذ ذاك حاملاً، وعن الفاروق رضي الله عنه في قصة سارية المشهورة، وعن ذي النورين رضي الله عنه في الرجل الذي دخل عليه وقد نظر إلى امرأة اجنبية فكاشفه بذلك، وعن المرتضى رضي الله عنه في الأسود الذي قطع يده ثم ردها مكانها فعادت كما كانت، وأما ما نقل من ذلك عن اولياء الله تعالى فكثيراً جداً. من ذلك ما وقع لبعض الأولياء وهو على جبل فقال: ان من أولياء الله من إذا قال لهذا الجبل تحرك لتحرك فتحرك الجبل من قوله فقال: له أسكن إنما ضربت بك مثلا. وكما قال ذو النون المصري للسرير طف بالبيت فطاف ثم عاد إلى مكانه. وكان هناك شاب فصاح الشاب حتى مات. وأما المعقول فذكر صاحب تفسير النيسابوري هو أن الرب حبيب العبد الرب لقوله: " يحبهم ويحبونه " فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجزه إلى حيث يفعل ما أمره الله. فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته مرة واحدة ما يريد العبد؟ وأيضا لو امتنعت الكرامة فأما لأجل ان الله ليس أهلا له وذلك قدح في قدرته، وأما لأن المؤمن ليس إهلاله وذلك بعيد لن معرفة الله والتوفيق عليه أشرف العطايا. واجزلها. وإذ لم يبخل الفياض بالإشراف فلأن لا يبخل بالا دون أولى. ومن هنا قالت الحكماء: أن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعلمية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تتصرف في جسده.
قلت: وذلك لأن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل، وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى تنبسط وتقوى على أشبرق غيره والتصرف فيه. والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعنى بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. وقال الشيخ داود بن باخلا الشاذي الإسكندري: ولا تستبعد هذه الأشياء يعني الكرامات على اولياء الله تعالى. فإن الله تعالى جعل هذا العالم كله خادماً لبني آدم مؤمنهم وكافرهم طائعهم وعاصيهم، ومكنهم في المملكة وطوع لهم حيواناتها ونباتاتها ومياهها وأشجارها وسحابها وأمطارها ؛وهو لغيره عابدون وبه كافرون. فكيف لا يسخر لأوليائه المقربين وعباده المتقين نوعاً آخر من التسخير وهو القادر على ما يشاء قدير انتهى. ولسيدي الشيخ أبي بمر العيدروس من الكمالات والخوارق ما يعجز عنهن للسان ولا يحصره البيان ولله رد من قال شعر:
له كل قلب بالولاية شاهد ... وكل فؤاد من حبته ملي
فلله ما أعلى مراتب فضله ... واجزال ما أعطى واسمح ما ولي
فنعن الفتى لا شك في عظم حاله ... فما شئت في الفضل الذي ناله قل
وكان متمسكاً بالكتاب والسنة حتى انه كثيراً ما يقول: إذا جرى ذكر التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم: والله العظيم لو بعث الله والدي الشيخ عبد الله وأستاذي الشيخ سعد، وذكر الي أن سيدنا علياً أفضل عند الله من سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما ما رجعت عن معتقد أهل السنة والجماعة من أن أبا بكر وعمر وعثمان افضل من علي رضي الله عنهم أجمعين. ومناقبه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر شعر:
إذا تغلغل فكر المرء في طرف ... من مجدة عرقت فيه خواطره
وشهرته تغني عن ترجمته شعر:
وليس يزيد الشمس قدراً ورفعة ... أطالة ذي وصف واكثار مادح
وأبي اصفه وهو فوق ما وصفته. وغالب ظني بل يقيني اني ما أنصفته.
ان الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت لعلي زدت نقصاناً(1/45)
وماذا كرته من أحواله ومقاماته دون ما تركته بكثير. وقد صنف فيها غير واحد من العلماء الأعلام كالشيع الإمام العلامة جمال الدين محمد بن عمر بحرق الحضرمي فانه جمع فيها مؤلفا سماه مواهب القدوس في مناقب ابن العيدروس. أجاد فيه كل الإجادة ولم يترك لغيره محلا للزيادة، والشيخ الفاضل عبد اللطيف باوزير رحمه الله في مقدمه الديوان. مع علمي ان كلا منهم غير موف بالمقصود، ولا مؤد للأحوال على حقيقها. أما لعدم استيعاب أطلاعه، أو لقصورعبارته وضيق باعه. وإلا فمناقب بني العيدروس أكثر من تحيط بها الطروس، أو يضبطها قلم أو دروس. فلقد كانوا زهرة الأنام وبهجة الأيام. سموا من المعالي إلى أعلى مقام وبنو من جميل الذكر ما خلدته في الصحف الأقلام. فهم كما قال المعري شعر:
جمال ذى الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير
وكما قال الآخر:
قوم محاسن جودهم مبثوثة ... يبلى الزمان وذكرها متجدد
وما أحسن قول صاحبنا الشيخ العلامة الفقيه أحمد بن الفقيه بن كمحمد بن جابر حيث يقول:
كلهم في الورى شريف منيف ... لكن العيدروس أعلى وأعلم
وبهذا الدليل قد قال قوم ... قولهم في الورى أقوى وأقوم
فاعتمدته ولا تمل سواه ... إن شئت تسلى وتسلم
وبالجملة فإنه كان نسيج وحده ليس له نظير في زمانه ولم يخلفه بعده مثله وكان كما قيل شعر:
قصب الورى غوثها وجامعها ... زين طريق الرجال سيدها
قطب رحلها رئيس مجلسها ... جملة تفصيلها واوحدها
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در مقاصيرها زبرجدها
ومن تصانيفه تصنيف شريف واف شاف سماه الجزء اللطيف في علم التحكيم الشريف أتى فيه بالعجب العجاب وأغنى بما فيه من الإيجاز عن الأطئاب. ذكر فيه ما ورد في الباس الحرقة الصوفية من الأخبار والآثار، وصفة التحكيم الوارد عن المشايخ وعدد مشايخه الذين أخذ منهم اليد والأذن في الباس الحرقة الشريفة وأنقسام الحرقة الموجودة في سائر الأقطار إلى خمس مشايخ. وله ثلاثة أوراد بسيط، ووسيط، ووجيز. وديوان.
ومن شعره هذه الوسيلة المباركة وهي:
ببسم الله مولانا أبتدأنا ... ونحمد على نعماه فينا
توسلنا به في كل أمر ... غياث الخلق رب العالمينا
وبالأسماء ما وردت بنص ... وما في الغيب مخزوناً مصونا
بكل كتاب أنزله تعالى ... وقرآن شفا للمؤمنينا
بكل طوائف الأملاك ندعوا ... بما في غيب ربي أجمعينا
وبالهادى توسلنا ولذنا ... وكل الأنبياء والمراسلينا
وآلهم مع الأصحاب جمعاً ... توسلنا وكلا تابعينا
وبالعلماء بأمر الله طراً ... وكل الأولياء والصالحينا
اخص به الإمام القطب حقاً ... وجيه الدين تاج العارفينا
رقى في رتبة التمكين مرقى ... وقد جمع الشريعة واليقينا
وذكر العيدروس القطب أجلى ... عن القلب الصدى للصاقينا
عفيف الدين محيي الدين حقاً ... له تحكمينا وبه اقتدينا
ولا تنسى كمال الدين سعدا ... عظيم الحال تاج العابدينا
بهم تدعوا إلى المولى تعالى ... بغفران يعم الحاضرينا
ولطف شامل ودوام ستر ... وغفران لكل المذنبينا
ونختمها بتحصين عظيم ... بحول الله لا يقدر علينا
وستر الله مسبول علينا ... وعين الله ناظرة إلينا
ونختم بالصلاة على محمد ... إمام الكل خير الشافعينا
ومنه:
فأي شمس أنا ولكن ... ختم على العمي لا تراني
كفاني العيدروس فخراً ... وسيفه في العدى كفاني
ومنه
ولو تداينت ملأ الأرض من ذهب ... ما بات عندي منه عشر اعشاري
ومنه:
أنا الجواد ابن عبد الله ان عرضت ... للجود مكرمة اني لها الشاري(1/46)
أني العيدروس ابتن البتول إذا ... حر تسلسل من أصلاب أطهار
أما ترى أنني قضيت دين أبي ... وكان ذاك ثلاثين ألف دينار
مجدي قديم أخير لا يسايره ... مجد لما حزت من صبر وإيثار
ومنه:
يا صاح من مثلنا فيما ترى أحد ... ممن يسير ومن يعلو على الإبل
نحن الكرام بنو القوم الكرم إذا ... جدنا عدلنا بصوب العارض الهطل
لنا السماح الذي عم الانام معا ... كم أبدلت راحة خصبا من المحل
لو أن للبحر أعيانا تشاهدنا ... عند السماح اعتراه الغيض بالخجل
لجدنا من آله العرش منزلة ... كقاب قوسين لم تدرك ولم تنل
وجدنا نظر الباري اقوي ولم ... يسبق إلى مثله قطعا من الرسل
صلي عيه آله العرش ما صدحت ... ورق على فنن بالبشر ذي ميل
والآل والصحب والاتباع عن طرق ... وناصريه بحد البيض والاسل
وفيها: توفي الشيخ أحمد بن محمد بالجفار باحور وهي بلد بين الشحر وعدن على الساحل. وحكي عنه أنه قال كان في مكة رجل يسلب من دخول عليه من الأولياء عن مقامهم فيأخذه من ذلك المقام. قال فدخلت عليه بغفلة مني فسألني عن مقامي فتضرعت بباطني إلى الذي يجيب المضطر إذا دعاه فالهمني ان قلت: مقام الافتقار إليه فصاح وقال: ما أحد نال مني إلا أنت أو كما قال.
قلت ك وقريب من هذا ما ذكره الشيخ العلامة عز الدين بن غانم بن عبد السلام المقدسي في كتابه شرح حال الأولياء ومناقب الأصفياء. إن الشيخ أبا يزيد البسطامي رضي الله عنه رؤي بهد موته في النوم فقيل له: ما فعل الله بك يا أبا يزيد فقال: أوقفني بين يديه وقال لي: بم جئتني يا أبا يزيد ؟ فقلت: يا رب جئتك بما ليس في خزائنك منه شيء: فقال: وما هو الذي ليس في خزائني منه شيء قلت يا رب: الفقر والإفلاس فقال ك يا أبا يزيد جئتني بكل شيء. ومن كلام سيدي أحمد الرفاعي نفع الله به: سلكت كل الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار. فقيل له يا سيدي فكيف يكون قال يعظم أمر الله ويشفق على خلق الله، ويقتدي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما أحسن قول السيخ عبد الهادي السودي قدس الله روحه في المعنى:
واجعل الفقر شافعاً لك تغني ... حبذا الافتقار دينا ومله
وفيها: احترق من مدينة عدن طائفة عظيمة من المدرسة السفيانية إلى حافة اليهود وما هنالك، واحترق فيها من الآدميين نحو ثلاثين نفساً وتلف من الأموال والبيوت مالا يحصى.
وفيها: ارتفعت الأسعار بمدينة زبيد وأعمالها فبلغ طعام الذرة. الثمن بعشرة دراهم والدخن بأحد عشر درهماً والسمسم بستة دنانير، والسمن خمسة أواق وأقل بدرهم صغير، وكاد اللبن أن يعدم وقل وجوده في الدواب وماتت أكثر البهائم جوعاً، ولم يحصل في الشتاء مطر وضاقت الأحوال وعدمت المكاسب.
وفيها: حصل ببندر مدينة عدن ريح عظيمة ودامت إلى الصباح، وزاد البحر زيادة عظيمة وطلع الماء فوق درجات المدينة، وكثر الموج وغرقت في البحر سفينة مقبلة من جهة ميط وعكبرى والناس ينظرون إليها وكاد ما في البندر من السفن جميعاً أن يغرق فسلم الله تعالى ولله الحمد.
سنة خمس عشرة بعد التسعمائة
وفي عشية يوم الاثنين خامس شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة توفي العلامة الحبر الفهامة المتقن المدقق جمال الدين محمد الطيب ابن إسماعيل مبارز إلى رحمة الله تعالى، وصلى بعد صلاة العصر بمسجد الاشاعر، ودفن في عصر ذلك اليوم، وكان له مشهد عظيم رحمه الله ونفع به آمين.
وفي ذلك اليوم: توفي فقيه بيت الفقيه ابن حشيبر الفقيه عبد الله ابن الخطيب أحمد بن حشيبر ببلده رحمه الله.
وفي: السابع من شهر رجب الفرد الحرام توفي الإمام البطل الجواد أمير الجوق الشريف محمد بن الحسين البهال الحسيني رحمهما الله بصعده.
وفيها: زلزلت مدينة زبيد وسمع على السطوح حركات شديدة وتقلبت الآنية في الرفوف ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/47)
وفيها: ظهر في السماء في آخر الليل من مطلع العقرب على هيئة قوس قزح ابيض له شعاع وهو ازج له رأس مائل نحو مطلع سهيل واستدام يطلع ليلة في الوقت المذكور نحو ثلاثة عشر ليلة ثم اضمحل.
سنة ست عشرة بعد التسعمائة
وفي: يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر المحرم سنة ست عشرة توفي القاضي العلامة الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد الفرغاني بمدينة تعز، ودفن بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم رحمه الله تعالى.
وفيها: هاجت ريح شديدة واظلمت الدنيا ثم انكشفت بإذن الله تعالى. وفيها: في آخر يوم ثاني رمضان توفي السلطان العادل المجاهد أبو الفتح محمود بن محمد صاحب كجرات بأحمد آباد، ودفن بها. ذكره السخاوي في ضوئه. وقال: ولد سنة ثمان وأربعين تقريباً. أسلم جد جده مظفر على يد محمد شاه صاحب دلي وكان عاملاً له على فتن من كجرات، ثم وثب عليه ابنه وسجنه ولم يلبث أنا ستفحل أمر الأب بحيث قتل ولده، ثم بعد سنين انتصر أحمد لأبيه وقتل جده واستقر في كجرات، وخلفه ابنه غياث الدين ثم ابنه قطب الدين ثم أخوه داود فلم يلبث سوى أيام وخلع، واستقر أخوهم محمود شاه صاحب الترجمة وذلك في سنة ثلاث وستين حين كان ابن خمس عشرة سنة ودام في المملكة إلى الآن وأخذ من الكفار قلعة الشابانير فابتنى مدينة، وسماها محمد آباد ومن جملة ممالكه كبناية. وقال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وعمر بمكة رباطاً مجاور باب المدينة عرف بالكبنابتية وقرر به جماعة ودروساً وغير ذلك، وكان يرسل لهم مه أهل الحرمين عدة صدقات ثم قطعها لما بلغه استيلاء النظار عليهما واستمر على ولايته حتى مات في التاريخ السابق رحمه الله تعالى.
وفيها: ارتفعت الأسعار لقلة الأمطار وبلغ ثمنت الطعام عشرة دراهم.
وفي: ليلة الاثنين الخامس من شهر جمادى الأولى توفي الفقيه شمس الدين علي بن موسى المشرع عجيل بمدينة زبيد، ودفن صبح يومها رحمه الله تعالى.
وفيها: انقض كوكب عظيم من نصف الليل آخذاً في الشام وأضاءت الدنيا كذلك اضاءة عظيمة حتى لو أن الإنسان حاول رؤية الذر بذلك لم يمتنع عليه ثم غاب في الجهة الشامية وبقي أثره في السماء ساعة طويلة.
وفيها: حصل بمدينة عدن ولحج أبين والمسلية وتلك النواحي مطر عظيم لم يعهد مثله من نصف الليل إلى عصر يوم الأربعاء وامتلأت الصهاريج كلها حتى تفجرت وزاد الماء زيادة عظيمة حتى سال إلى البحر من نصف الليل إلى آخر النهار واشتد حتى أشفق الناس وخافوا، وسقطت بعدن ولحج بيوت كثيرة وسقط بيت بها عن أهله فهلك منهم تحت الردم خمس نسوة وعبد وسال بولد ليوسف البرينثي فلم يوجد إلا في البحر في البرج الذي ترسي عنده المراكب وقد مات. وكان بلحج وأبين وتلك النواحي أعظم مما بعدن وسقطت البيوت وسال السيل بالإبل والبقر والغنم وأكثر الزرع ولم يبق مكان إلا عمه المطر وسقى الأراضي وسال إلى البحر ولله الحمد.
وفيها: زلزلت مدينة زبيد زلزالا شديداً. ثم زلزلت مرة أخرى، ثم زلزلت الثالثة، وانقض في عصر ذلك اليوم كوكب عظيم من جهة الشرق آخذاً في جهة الشام ورؤي نهاراً، وحصل عقبه رجفة عظيمة كالرعد الشديد وزلزلت مدينة موزع ونواحيها زلزالاً عظيماً ما سمع بمثله، واستمرت تتردد ليلاً ونهاراً زلازل صغار وزلازل كبار، وقد اضرت بأهل الجهة اضراراً عظيماً حتى تصدعت البيوت الضعيفة البناء، وما سلم بيت من تشعب. وتشققت الأرض المعدة للزراعة وتهدمت القبور واختلطت جملة من الآبار.
وفي: عصر يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة توفي الفقيه رضي الدين الصديق ابن عبد العليم اقبال القرتبي، ودفن في آخر ذلك اليوم عند ولده بمجنة باب القرتب بجوار مشهد الفقيه أبي بكر ابن علي الحداد، وكان له مشهد عظيم رحمه الله.
سنة سبع عشرة بعد التسعمائة
وفي: سادس عشر المحرم سنة سبع عشرة توفي السيد الشريف البارع في العلم والعمل والجود والكرم الشيخ الحسين بن عبد الله العيدروس بتريم، ودفن بها عند أبيه وكان مولده سنة إحدى وستين وثمانمائة، وكان عالماً بالكتاب والسنة حافظاً لكتاب الله مواظباً على تلاوته ليلاً ونهاراً قائماً بما جرى عليه سلفه من الأوراد والأذكار، وأكرام الوافدين والفقراء والمساكين وبذل الجاه في الشافعات للمسلمين واصلاح ذات بينهم ولله در من قال:(1/48)
إن الحسين تواترت أخباره ... في فضله عن سادة فضلاء
غيث يسيح على العفاه سحابه ... سحاً إذ شحت يد الأنواء
تال لآثار النبي محمد ... مستمسك بالسنة البيضاء
ورث المكارم والعلى عن سادة ... ورثوا عن الآباء فالآباء
وروي عن الشيخ عبد العيدروس أنه كان يقول: كنت كثير الدعاء في سجودي أن يرزقني الله ولداً عالماً سنياً وأرجو أن يكون هو الحسين، وروى عن أخيه الشيخ أبي بكر بن عبد الله العيدروس أنه كان يقول: الشيخ الحسن أكرم مني فقيل له في ذلك فقال: ينفق عن ضيق لكونه بحضرموت، ونحن ننفق عن سعة فهو بذلك أكرم مني. وكان مشاركاً في جميع العلوم المنطوق منها والمفهوم. ومن مشايخه الفقيه عبد الله بن أحمد باكثير. والقاضي إبراهيم ابن ظهيرة. والفقيه محمد بن عبد الرحيم الاسقع. والفقيه العلامة عبد الهادي السودي قبل أن ينجذب وكانت له اليد الطولى في علم الفلك وكان يحقق قراءة الشيخين وكان الفقيه عبد الله بن أحمد بامحزمة يقول: ما رأيت اعقل منه. وجاور بمكة المشرفة سنتين وزار قبر جده المصطفى صلى الله عليه وسلم مرتين. ومن كراماته، حكى عبد الرحيم الخطيب قال: صليت وراء السيد حسين رضي الله عنه صبح يوم الجمعة فقرأ السجدة فأصابتني حقنة وهممت بمفارقته فقرأ في الثانية سورة الإخلاص وأسرع فعجبت لذلك، وظننت أن له حاجة أيضاً فلم يزل في مصلاه حتى طلعت الشمس كعادته. ومن شعره. هذه الأبيات الحسان التي أشار فيها إلى التعرض لنفحات الرحمن:
ترج فضلاً بدا في الوقت وارتقب ... فربما نفحات الله تقترب
وكن مع العالم القدسي منقطعاً ... وغب عن الكون والأغيار واستلب
واشهد محيا جمال والجلال وقل ... حسبي وقسمك في المطلوب والطلب
وانظر إلى وجهه الواضح بلا حجب ... يأتيك من فضله منا بلا تعب
وامعن إلى حسنه الساري مكافحته ... وانظر ابتهاج غير مضطرب
واعكف على الغاية المطلوب منه وقل ... هذا هو الحق والمعنى بلا ريب
وعش وطب وبشرب الذكر ذوق له ... من لا يطيب بذكر الله لم يطب
هذا صفاء العيش إن كنت اللبيب به ... سراً تقرب فهو من أفضل القرب
واسلك سبيل طريق الله اجمعها ... محبة وتأدب غاية الأدب
واعمل إلى العالم اللاهوت منطوياً ... على الفرار من الآفات واللعب
وجاهد النفس واعمل ما يخلصها ... وانظر لما قال أهل العلم والكتب
فإن عز اولي الدارين قد جمعت ... في طاعة الله لا في المال والنسب
ثم الصلاة على المحمود مرتقياً ... مقام قوسين عال عالي الرتب
وفيها: توفي العلامة الفقيه محمد بن عبد الرحمن الاسقع باعلوي بتريم في شوال، وكان من الفقهاء البارعين والعلماء المتفننين. أخذ أنواع العلوم وبرع وتفنن ولزم الجد والاجتهاد في العلم والعمل وأقبل على نفع الناس اقراء وافتاء مع الدين المتين وترك مالا يعنيه وشدة الورع والزهد والعبادة والخمول، وكان حسن التقرير في تدريسه وأخذ عنه غير واحد. ومن مشايخه: خاله الفقيه الصالح محمد بن أحمد بن عبد الله بأفضل، وكان جل انتفاعه عليه، ومنهم الشيخ علي بن أبي بكر باعلوي والقاضي إبراهيم بن ظهيرة القرشي والفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بأفضل والحافظ السخاوي، وله منه إجازة ومكث في مكة مدة لكلب العلم، ومن محفوظاته الحاوي في الفقه ومنظومة البرماوي في الأصول وألفية ابن مالك في النحو ومقرراته كثيرة جداً، وحكي أنه قرأ الأحياء أربع مرات، ومن كلامه كل قرصك والزم خلصك. إشارة إلى القناعة والعزلة، ورآه بعضهم في المنام بعد موته فسأله عن حاله فقال " في مقعد صدق مليك مقتدر " ومن كراماته أن بعض خدامه سرق داره فقال له: اذهب إلى المكان الفلاني تجد فيه ما أخذ منك ففعل فوجد سرقته في ذلك المكان الذي عينه رحمه الله.(1/49)
وفيها: في ضحى يوم الخميس الرابع من شهر محرم الحرام توفي الفقيه العالم الصالح وجيه الدين عبد الرحمن ابن القاضي صفي الدين أحمد بن عمر المزجد إلى رحمة الله تعالى، وصلي عليه بعد صلاة العصر بمسجد الأشاعر، ودفن بجوار الشيخ علي المرتضى بمقبرة سهام، وأسف عليه والده أسفاً كثيراً، وصبر واحتسب، وكان له مشهد عظيم، وكان قد نجب ودرس وأفتى رحمه الله.
وفيها: ولدت مولودة بقرية النويدرة، وطلب لها من يؤذن لها في اذنها فحين بلغ " أشهد أن محمداً رسول الله " سمع الطفلة عند ذلك تقول: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. ثلاث مرات.
وفي: فجر يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الأول. توفي الشيخ الصالح بن إسماعيل المشرع إلى رحمة اله، ودفن ضحى ذلك اليوم إلى جنب والده.
وفي: ليلة الأحد والعشرين من شهر جمادى الآخرة توفي الفقيه الصالح أبو القاسم بن علي بن موسى المشرع شهيداً بمر جام. حصل له في ليلة الجمعة الحادي عشر من الشهر المذكور وهو قاعد بين الناس في بيته لقراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فانكسر رأسه وأقام تسعة أيام ثم مات رحمه الله تعالى وعوضه الجنة ولم يعرف قاتله ودفن إلى جنب أبيه وجده.
وفي: يوم الخميس الثالث عشر من شهر رمضان توفي الشيخ العالم الصالح جمال الدين محمد بن إسماعيل المشرع عجيل بمدينة زبيد ضحى، وصلى عليه بمسجد الأشاعر بعد صلاة العصر، ودفن إلى جنب أبيه قبلي تربة الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي رحمه الله وعوضه الجنة آمين.
وفي: يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ذي الحجة الحرام توفي الشيخ الصالح أبو القاسم الجنيد أحمد بن موسى المشرع عجيل بمكة المشرفة وكان قد انقطع للمجاورة بالحرمين الشريفين فكان يقيم بمكة أياماً وبالمدينة أياماً، وصلى عليه بالحرم الشريف بعد صلاة العصر من ذلك اليوم، وشيعه جمع عظيم، وحملت جنازته على الرؤس، ودفن بالمعلاة رحمه الله تعالى ونفع به.
وفيها: خسف بفيل السلطان عامر بن عبد الوهاب المسمى مرزوق بقرية يقال لها الركز من زوايا الشيخ شهاب الدين قطب زمانه وواسطة عند أقرانه أحمد بن علوان نفع به قريباً من قرية يفرس، وكان قد أدخله بيت بعض فقراء الشيخ كرهاً وسألهم مالا طاقة لهم بتسليمه فلم يشعروا حتى غاب أكثر الفيل في الأرض، وكانت من القفا من رجليه فصرخ صرخات ومات. إلا رحم الله سائسه فكان عبرة لمن رآه. ولم يقدر أحد على اخراج شيء منه من موضع الخسف.
وفيها: كان دخول الافرنج عدن وقتل كبيرهم المسمى عين البقر على يد الأمير مرجان. وهذا مرجان هو الذي عمر قبة العيدروس بعدن ودفن معه فيها.
سنة ثمان عشرة بعد التسعمائة
وفي: سنة ثمان عشرة توفي الشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن الشيخ أبي بكر ابن الشيخ عبد الله العيدروس باعلوي بتريم، وقبر بمشهد جده الشيخ عبد الله العيدروس، وكان مشاركاً في العلوم، قرأ المنهاج في الفقه، وكان من محفوظاته الإرشاد للمقري وملحة الاعراب.(1/50)
وفيها: يوم الأحد وقت العصر خامس شهر رمضان توفي الشيخ الإمام العلامة الصالح الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحاج الحضرمي بالشحر، وكان له مشهد عظيم، ودفن في طرف البلد بالشحر من جهة الشمال في موضع موات نجدي عقل باغريب، وهو أول من دفن هناك، ودفن الناس إلى جانبه حتى صارت مقبرة كبيرة، وعمل على قبره بنيان وصار مزاراً مشهوداً يطلب للتبرك عنده، وكان أوحد وقته علماً وعملاً وورعاً، ومولده سنة خمسين وثمانمائة، وارتحل لطلب العلم إلى عدن وغيرها وأخذ عن الإمامين محمد بن أحمد بافضل وعبد الله بن أحمد محزمة، ولازم الثاني وتخرج به وانتفع به كثيراً، وحج سنة خمس عشرة وتسعمائة، وأخذ أيضاً عن قاضي القضاة برهان الدين ابن ظهير، وأبي الفتح المراغي وغيرهما، ودأب في الطلب واكب على الاشتغال حتى برع وتميز واشتهر ذكره وبعد صيته واثنى عليه الأئمة من مشايخه وغيرهم، وكان شيخه أبو مخرمة كثير الثناء عليه، ولعمري أنه كان بذلك حقيقاً وبكل نعت حميد خليقاً، وكان عالماً فاضلاً عابداً ناسكاً ورعاً زاهداً شريف النفس كريماً سخياً مفضالاً كثير الصدقة حسن الطريقة لين الجانب صبوراً على تعليم العلم متواضعاً حسن الخلق لطيف الطباع آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، حسن التوصل لنفع الطلبة وغيرهم كثير السعي في حوايج المسلمين ومصالحهم فكانت له حرمة وافرة عند الملوك وغيرهم، وكان كثير التوسط بين سلاطين حضرموت وقبائلها، وكان حافظاً أوقاته لا يرى إلا في تدريس علم، أو مطالعة كتاب أو اشتغال بعبادة أو ذكر، وولي التدريس بجامع الشحر وانتصب فيها للاشتغال والفتوى، وصار عمدة القطر وانتهت إليه رياسة الفقه في جميع تلك النواحي وانتفع به الناس كثيراً من وجوه كثيرة، ولم يزل على ذلك حتى توفي على الحال المرضي، وكان عمدة أهل زمنه في الفتوى والتدريس، وتصدى لنفع الأنام، وانتفع به غير واحد من العلماء الأعلام، ومنهم الفقيه الصالح العلامة عبد الله بن محمد باقشير، وقد ذكره في إجازته لوالدي من جملة شيوخه الذين أخذ عنهم ومدحه فيها وأطنب فيه غاية الإطناب وله جملة من التصانيف منها المختصر في علم الفقه وهو المشهور بين الناس اقتصر فيه على ربع العبادات انتفع به الطلبة والمتدينون، وقد اعتنى شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي بشرحه فشرحه شرحاً فائقاً، وأراد أن يكمله إلى آخر أبواب الفقه فبلغ فيه مع الشرح إلى باب الفرائض وأدركته الوفاة، وله أيضاً مختصر آخر في الفقه أصغر منه وقد شرحه العلامة الشيخ محمد الرملي المصري الشافعي، ومنها لوامع الأنوار وهدايا الأسرار وودائع الأبرار في فضل القائم بالأسحار، ومنها الحجج القواطع في معرفة الواصل والقاطع، ومنها مؤلف لطيف في اذكار الحج. ومنها وصية نافعة ورسالة صغيرة في علم الفلك، وروى أن السيد الجليل إبراهيم الخواص رضي الله عنه ونفع به قال: دواء القلب خمسة أشياء. قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين. فنظم هذا صاحب الترجمة فقال:
تدبر قرآن وجوع تهجد ... جلوس اولي التقوى دعاء مع السحر
ورأى الفقيه الصالح جمال الدين محمد بن عمر بحرق ليلة موته النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول: ون حضر جنازة الفقيه عبد الله بالحاج بافضل غفر له، أو كما قال دخل الجنة.
وفيها: في يوم السبت ثامن من المحرم توفي الشيخ الصالح عفيف الدين عبد الله بن عبد الرزاق الجبرتي بالمدينة بعد الحج والزيارة رحمه الله تعالى.
وفي:يوم الخميس الخامس من شهر صفر توفي الفقيه شهاب الدين أحمد بن محمد الموزعي بمدينة زبيد قافلا من الحج، وكان فاضلاً عالماً ولي قضاء المقرانة ثم موزع، فصل عنها فحج ومات عقب ذلك في التاريخ المذكور، ودفن بمجنة باب القرتب رحمه الله.
وفيها: في يوم الاثنين سابع الشهر المذكور توفي الشيخ الصالح شمس الدين علي بن محمد السدح ببلدة من أصاب ودفن بها رحمه الله.(1/51)
وفيها: في ليلة الاثنين السادس عشر من الشهر المذكور توفي القاضي عفيف الدين عبد العليم بن القاضي جمال الدين محمد بن حسين القماط بعد طول مرضه بمدينة زبيد، وكان قد قدم إليها في السنة التي قبلها من مدينة أب متوعكاً بعد طلوع ولده الفقيه عفيف الدين عبد الله إليه فجعله نائباً له، وقدم إلىمدينة زبيد فلم يزل بها مريضاً حتى قبل موته بأيام، وصل ابنه عبد الله باستدعائه إليه فمات بعد قدومه بأيام في التاريخ المذكور رحمه الله ونعم الرجل كان فقهاً وصلاحاً وديناً وأمانة وعفة وصيانة، وصلي عليه بعد صلاة الصبح يوم الاثنين بمسجد إلا شاعر وشيعه خلق كثير، ودفن إلى جنب والده بمجنة باب سهام رحمه الله.
وفيها: في يوم الأربعاء الثالث عشر من جمادى الأولى توفي الفقيه شهاب الدين أحمد بن حسن الصباحي مفتي مدينة تعز.
وفيها: في عشية يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر جمادى الآخرة توفي الفقيه الصالح شهاب الدين أحمد بن علي الواحدي المقري بمدينة زبيد ودفن قبل غروب الشمس من اليوم غربي مشهد الشيخ أحمد الصياد، وكان رجلاً مباركاً له قرب من الساطان بل كان يؤمه غالب الأوقات رحمه الله.
وفيها: كثر الموت بمدينة زبيد وعم الوباء، وبلغت الموتى فيها كل يوم إلى قريب مائة نفس، ومات بسببه من الأعيان وغيرهم خلائق لا يحصون.
وفيها: توفي الشيخ موسى ابن أبي الغيث الخاص صاحب الموثاه بها يوم الاثنين سلخ شهر رجب.
وفيها: توفي الفقيه الصالح حسين بن محمد بن نور الدين يوم السبت ثاني عشر شعبان.
سنة تسع عشر بعد التسعمائة
وفي المحرم أول سنة تسع عشر توفي جد والدي الشيخ الإمام والصديق الهمام الشريف شيخ بن الشيخ عبد الله العيدروس، وكان من أعيان الصالحين وعباد الله المقربين حسن الأخلاق والشيم جميل الأوصاف معروف بالمعروف والكرم سليم الصدر رفيع القدر، صحب غير واحد من الأكابر كأبيه الشيخ عبد الله العيدروس وعمه الشيخ علي وعمه الشيخ علي وعمه الشيخ أحمد وأخيه الشيخ أبي بكر ومن في طبقتهم، وأخذ عنهم وتخرج بهم وتلقى منهم، ودخل من بابهم وصار وحيد عصره ومن المشار إليهم في قطره، ومحاسنه كثيرة وبحار فضائله غزيرة ولا سبيل إلى حصرها والأولى الآن طيها دون نشرها رحمه الله. وفيه يقول حفيده وسميه سيدي الشيخ الوالد قدس الله روحه شعر:
وفي شيخ من عبد الله جدي ... معاشرة بحسن الخلق تبدي
له قلب منيب ذو صفاء ... سليم الصدر بالانفاق يسدي
له في الأولياء حسن أعتقاد ... كريم الأصل ذو فخر ومجد
تربا بالولي القطب حقاًُ ... أبوه العيدروس للخير يهدي
ولله در الشيخ عبد المعطي حيث يقول فيه من قصيدة أمتدح بها سيدي الوالد التزم فيها ذكر آبائه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
أين الشيخ الذي يضاهي أباه ... في المعالي رفعة وأرتقاء(1/52)
وفيها: توفي العلامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسن بن جلال الدين بن فتح الدين بن وجيه الدين المصري المالكي ويعرف كسلفه بابن سويد بأحمد آباد من كجرات، ودفن بها، وكان مولده في سادس شهر شعبان سنة ست وخمسين وثمانمائة. أمه أم ولد ونشأ في كتف أبيه فحفظ القرآن وابن الحاجب الفرعي والأصلي والفيه النحو وغيرها، وعرض على خلق وأشتغل قليلاً عند أبيه، وورث عنه شيئ كثير فأتلفه في أسرع وقت ثم أملق وذهب إلى الصعيد ثم إلى مكة، وقرأ هناك على الحافظ شمس الدين السخاوي. الموطأ ومسند الشفاعي وسنن الترمذي وابن ماجه وسمع عليه شرحه للالفية وغير ذلك من تصانيه. ولازمه مدة. ذكر السخاوي في تاريخه قال: وكان صاحب ذكاء وفضيلة في الجملة واستحقار وتشدق في الكلام، وكانت سيرته غير مرضية وأنه توجه إلى اليمن، ودخل زليع ودخل وحدث، ثم توجه إلى كيناية، وأقبل عليه صاحبها. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله: وقد أعظم صاحب الترجمة في بلاد الهند وتقرب من سلطانها محمود شاه ولقبه بملك المحدثين لما هو مشتمل عليه من معرفة الحديث والفصاحة وهو أول من لقب بها وعظم بذلك بلاده وأنقاد له الأكابر في مراده، وصار منزله مأوى لمن طلبه وصلاته وأصلة لأهل الحرمين الشريفين، واستمر كذلك مدة حياة السلطان المذكور، ولما تولى ولده السلطان مظفر شاه أخرج بعض وظائفه عنه بسبب معاداة بعض الوزراء له فتأخر عن خدمته إلى أن مات قال: ولم يخلف ذكراً بل تبنى ولداً على قاعدة الهند فورثه مع زوجته ولم يحصل لابنته التي بالقاهرة شيء من ميراثه لغيبتها رحمه الله تعالى.
سنة العشرين بعد التسعمائة
وفي سنة العشرين حصل مطر عظيم في مدينة زبيد وما حواليها حتى اشتبه وقت صلاة الجمعة على الناس وفاتت صلاة الجمعة معظمهم من المطر وعدم رؤية الشمس وكانت صلاة من صلى منهم ذلك اليوم بالأجتهاد.
وفيها: أيضاً بعد أيام حصلت مدينة زبيد مطرة عظيمة جداً كأفواه القرب وعقبتها ريح شديدة كادت تقلع البيوت، وأشفق الناس من ذلك، ونفس الوادي نفساً عظيما، وسقى أكثر الأرض وأخرب منها كثيراً حتى قيل أن بعض الردم الذي بناه السلطان الملك الظافر من أسفل قرية مسلب ويمانيها شعثه السيل وسال بخلق كثير يزيدون المائة ومات أكثرهم. وسال بدواب كثيرة تنيف على ألف دابة من الأبل والبقر والغنم والحمير مات أكثرها، وحصل برد مات به جماعة وسلم منه جماعة بعد أن أصابهم لفح منه، ولانت الاسعار ووجد الطعام بعدما كاد يعدم.
وفي: ليلة السبت الحادي عشر من شهر ربيع الأول توفي الفقيه العلامة جمال الدين محمد بن الصديق الصانع إلى رحمة الله بمدينة زبيد، وصلي عليه بعد صلاة الصبح، بسجد الأشاعر، ودفن غربي مشهد الشيخ أحمد الصياد رحمه الله، وحضر القراءة له ثلاثة أيام والعزابه جماعة كثيرة، وحضر من أعيان الدولة الفقيه عبد الحق النطاري والشرف الموزعي وقاضي الشريعة أحمد بن عمر المزجد وغيرهم.
وفي :مستهل شهر رجب الفرد الحرام توفي الشيخ شمس الدين علي بن الشجاع العنسي برداع العرش، ودفن هنالك رحمه الله تعالى ونعم الرجل، كان عقلا ورجاحة وديناً وامانةً.
وفي: يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر شوال توفي الفقيه الصالح عمر بن معوضة الشرعبي، وصلي عليه بعد صلاة العصر بمسجد الأشاعر، ودفن بمجنة باب سهام قريباً من مسجد الشيخ إسماعيل الجبرتي من جهة القبلة بوصية منه رحمه الله.
وفيها: حج ولد سلطان الديار المصرية الملك الأشرف قانصوه الغوري وامرأته، وتصدقا بمال عظيم وفعلا من البر والمعروف والاحسان في الحرمين الشريفين ما يجل الوصف، ولما رجعا إلى الديار المصرية بعد الحج والزيارة تجهز معهما أمير الحجاز الشريف بركات بن محمد بن بركات باختياره ورضاه، وتوجه صحبتها إلى باب السلطان فقابله بالأحسان الجزيل والبر العريض الطويل، وأكرم نزله وأعلى محله، ولم يزل عنده مجللا محترما مقضي الحوائج أول داخل وآخر خارج، إلى أن رجع إلى الحجاز متولياً أمورها ليس لأحد معه كلام والحمد لله
سنة إحدى وعشرين بعد التسعمائة(1/53)
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين: توفي الفقيه الأجل جمال الدين محمد بن محمد النظاري رحمه الله تعالى بمدينة إب بعد ان طلع إليها متوعكاً بنحو شهر، وترك ولده الفقيه عبد الحق عوضاً عنه بزبيد ووصل العلم بوفاته إلى مدينة زبيد يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر المذكور، وصلي عليه بمسجد الأشاعر بها وقرئ له ثلاثة أيام بالمسجد المذكور؛ وحضر القراءة له خلق كثير لا يحصون، وحضر عبد الوهاب بن السلطان عامر القراءة يوم الثالث، وتصدق عنه أولاده بصدقة عظيمة. رحمه الله تعالى وأسكنه جنته. فنعم الرجل كان عقلا وصيانة وديناً وأمانة باذلا للمعروف كافا للاذى معيناً للملهوف. له صدقات جليلة سراً وعلانية؛ وكان قطب رحى المملكة السلطانية الظافرية، وعين الأعيان في الجهة اليمانية. ومن آثاره المخلدة لذكره بناء الجامع ببيت الفقيه عجيل. عمره عمارة متقنة إلى الغاية، ومدرسة بمدينة أب ووقف عليها وقفا جليلا وجملة من الكتب النفيسة، وله من الآثار الحسنة ما يجل عن الوصف.
؟سنة اثنين وعشرين بعد التسعمائة
وفي سلخ المحرم أول سنة اثنين وعشرين توفي الشيخ أحمد بن الشيخ أبي بكر العيدروس بعدن ودفن بها في قبة أبيه وعمره يومئذ أربعون سنة تقريباً وأمه بهية بنت الشيخ علي بن أبي بكر ابن الشيخ عبد الرحمن السقاف، وامها فاطمة بنت الشيخ عمر المحضار ابن الشيخ عبد الرحمن السقاف فولده الشيخ عمر من الجهتين كان ولده أيضاً الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمن السقاف مرتين وقد تميز بهذا عن غيره من بني عمه كما أشار إليه العلامة بحرق رحمه الله حيث يقول:
أصل السيادة لا ينتمي ... إلى حد إلا هو السيد
لئن شاركته بنو العيدروس ... بفخر هو الشمس لا يجحد
فقد خصه الله من بينهم ... بآيات مجد له تشهد
حوى سر جديه من أمه ... فطاب له الفرع والمحتد
فهو الوارث لأبيه وجده، وحامل الراية من بعده وولي عهده فقد قام بالمقام أتم ونهض بما نهض به آباؤه الكرام فساد وجاد بني معاقل المجد وشاد واحي الرواتب التي أسسها أبوه والاوراد وواظب على اطعام الطعام وصلة الارحام والاحسان إلى الفقراء والايتام باذلاً جاهه وماله في أيصال النفع إلى أهل الإسلام، وقد رأى بعد موت أبيه كانه حمل أباه على كتف وجده على ستف وتوقف في تأويلها فكان تأويلها قيامه بمقام أبيه بعدن، وبمقام جده بحضر موت، وكان في مدة ايامه السعيدة وطول حياته العزيزة الحميدة مجريا النفقة التامة الوافرة والكسوة الفاخرة لمن كان ابوه مجريا له من زوجة وخادمة ونحوها، قائماً بكفاية الفقراء نفقه وكساء صيفاً وشتاءً. حتى أن ثمن الكسوة التي أشتراها في آخر ختمته لرمضان صلاها بلغ خمسة آلاف دينار فأكثر، وحكي أن خبز مطبخه إذا ركموه يبلغ إلى سطح الدار ودون عدن عالية جداً بحيث أنها تكون على ثلاثة قصور غالباً. قال الرواي فعجبت فقلت: ما كان بعدن إذ ذاك سائل قالوا: لا ماكان في زمن الشيخ أبي بكر وولده الشيخ أحمد يوجد في عدن سائل أصلا، ومحاسنه رضي الله عنه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. ومن كراماته حكى الشريف محمد بن عبد الرحمن كريشه باعلوي أنه مرض مرة بزيلع وهو عند الشريف علوي بن إسماعيل وأصابه وجع البطن وكان علوي المذكور وكيلاً للسيد أحمد بن أبي بكر وهو أذ ذاكبها فعن له الرجوع إلى عدن فقال له: يا سيدي أن كريشه مبطون فكيف أعمل به فقال رح أقذف له، وكان له حسن ظن كامل في الشيخ وعقيدة ثابتة فلم يتمالك أن جاء إليه ووضع بطنه على بطنه وتقيأ شيئاً كثيراً. ثم قال محمد: فما هو إلا أن قام عني وقمت وكأن لم يكن بي شيء وسارا في تلك الليلة. وللعلامة محمد بن عمر بحرق فيه مرثية في غاية الحسن وهي شعر:
لمن تبنى مشيدات القصور ... وأيام الحياة إلى قصور
وحتى م التهالك والتفاني ... على الخداعة الدنيا الغرور
فما يغتر بالدنيا لبيب ... ولو ابدت له وجه السرور
فغاية صفوها كدر وأقصى ... حلاوتها إلى الكأس المرير
ألم تر كيف هدت ركن مجد ... وفاضت بحر مكرمة زخور(1/54)
وروعت الأنام بفقد شخص ... رزيته على بشر كثير
شهاب ثاقب من نور بدر ... تبقى شموس من بدور
نماه العيدروس وكل قطب ... غياث للورى فرد شهير
تناثر عقدهم نجما فنجما ... تغيب تحت أطباق الصخور
فأظلم بعدهم دست المعالي ... وأكسف قطرهم بعد الزهور
فوا اسفا على أطواد حلم ... إذا أستشكلت ملمات الأمور
وواحزناً على تيار جود ... يمد بصيب الغيث الغزير
ويا لهفا على أخلاق لطف ... يفوق الزهر في الروض النضير
لئن ذهبوا فقد أبقوا فخاراً ... يضيق لحصره صدر السطور
ففاقوا الناس أحياء وفاقت ... ضرايحهم على أهل القبور
فلا يأتي الزمان لهم بمثل ... وهل للشمس ويحك من نظير
على تلك الوجوه سلام رب ... رحيم غافر بر شكور
الهى كن لنا خلفاً وذخرا ... فانك جابر العظم الكسير
وصل على أجل الخلق قدرا ... محمد البشير لنا النذير
ومن والاه من آل وصحب ... على مر الأصايل والبكور
وفيها: زالت دولة الشرا كسة على عهد الغوري وهو آخر ملوكهم فقد في حرب السلطان سليم ولم يظهر له خبر.
وفيها: في يوم الخميس الثاني من شهر صفر توفي الفقيه العالم الفاضل جمال الدين محمد ابن الفقيه موسى بن عبد المنعم الضجاعي أحد المدرسين بمدينة زبيد ودفن بها بعد صلاة العصرمن ذلك اليوم عند أبيه وجده بعد أن صلي عليه بمسجد الأشاعر، وكان له مشهد عظيم.(1/55)
وفيها: وفي عصر يوم الثلاثاء خامس شعبان توفي العلامة إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل البرهان أبو الوفاء ابن الزين المقري أبي هريرة ابن الشمس ابن المجد الكركي الأصل القاهري المولد والدار الحنفي أمام السلطان ويعرف بابن الكركي غريقاً شهيداً في بركة الفيل تحت منزله بها، وكان مولده وقت الزوال من يوم الجمعة تاسع رمضان سنة خمس وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة، وأمه أم ولد جركسية فحفظ القرآن وأربعين النووي والشاطبية ومختصر القدوري والفية ابن مالك وغيرها، وعرض على علماء عصره كالشهاب ابن حجر والعلم البلقيني والعلمان القلقشندي واللولوي السقطي وسعد الدين بن الديري وابن الهمام وجماعة آخرين وكتبوا كلهم له، وسمع صحيح مسلم أو أكثره على الزين الزركشي، وتلى القرآن على بعضهم وجود القراءة مع رؤسائها وأكثر من ملازمة الشافعي والليث وغيرهما من المشاهد الجليلة وعادت بركة أربابها وزوارها عليه، وفي غضون ذلك مقبل على العلم وتحصيله يتوجه لمنقوله ومعقوله. فأخذ الميقات عن البدر القيمري والفقه العربية عن الشمس أمام الشيخونية، وكذا أخذ عن النجم الغزي قاضي العسكر بل والعز عبد السلام البغدادي، وسمع عليه الشفاء ملفقاً بقراءة قارئين، وقرأ الصحيحين على الشهاب أحمد بن صالح الحلبي الحنفي ابن العطار حضر دروسه بل حضر دروس الكمال ابن الهمام ولازم التقي الحصني وكذا النقي الشمني والكافياجي، وعظم اختصاصه بهم، ومما أخذ عن الشمني. التفسير وعلوم الحديث والفقه والأصلين والعربية والمعاني والبيان والمنطق وغيرها بقراءته، ومرة غيره تحقيقاً ودارية وبقراءته أيضاً الشفاء والبخاري، ودخل معهم في كثير من مشكلات كتب هذه الفنون وغيرها، وأذنوا له في اقرائها ولما سافر قايتباي في أيام امارته قبل أن يصير إليه الملك إلى بعض البلاد أستصحبه أماماً، ثم لم يلبث إلى أن أرتقى إلى السلطنة فقربه وأدناه وأحبه فبلغه مناه، واختص به عن من عداه وخوله مزيد النعم وشمله فيها يلتمسه بنعم، وأعطاه قراءة البخاري بالقلعة وولاه تدريس أماكن متعددة ومشيخة الصوفية في بعضها وخطابة بعض المدارس واقطاع، ورتب له في كل يوم ديناراً وجوالي وعدة وظائف كانت معه ومع أبيه بجامع طولون من رياسة وغيرها بحيث قيل: ان المستقر في متحصله اليومي من جهاته شيء كثير سوى ما يساق إليه من الهدايا والعطايا كاعطائه في جهاز ابنة له فيما قيل ألف دينار من السلطان ومن الدوادار مثلها بل ازيد، ونوه به في قضاء الحنفية وكان شأنه أعلى من ذلك إذ كان القضاة وغيرهم من الأعيان ممن يتردد لبابه ويتلذذ بخطابه، بل مال الفضلاء من الغرباء وغيرهم إلى الأستفادة منه وسماع مباحثه والأنتفاع بتنويهه ومساعدته، وبمساعدته استقر شيخه الحصني في مشيخة الشافعي. ولم يزل يزيد اختصاصه بالسلطان بحيث لم يختلف عنه في أسفاره حتى انه دخل معه الشام وحلب وبيت المقدس ومكة والمدينة. قال السخاوي: أنه تمنى بحضرته الموت فانزعج من ذلك وقال: بل انا أتمناه لتقرأ علي عند قبري وتزورني ونحو ذلك ولذا لم يجب سؤاله في مشيخه مدرسته المكنية قال: وقد صنف وافتى وحدث وروى ونظم ونثر ونقب وتعقب وخطب ووعظ وقطع ووصل وقدم واخر. ومن تصانيفه في الفقه فتاوى مبوبه في مجلدين وحاشية على توضيح ابن هشام. هذا كله مع الفصاحة والبلاغة وحسن العبارة المقتضية للانتظام والربط والانسجام والضبط وجودة الخط ولطف العشرة والظرف والميل إلى النادرة واللطف، ومزيد الذكاء والتفنن وسرعة البديهة التي يتضح بها التبيين، وطراوة النغمة والأعتراف بالنعمة والطبع المستقيم الذي لا يميل به غالباً لدني ولا لئيم، ولم يزل في ازدياد من الترقي حتى بلغ مبلغاً عظيماً إلى أن كان في أواخر جمادى الآخرة سنة ست وثمانين تنكد خاطر السلطان من جهته فمنعه من الحضور في حضرته فتوجه للإقراء في بيته لفنون العلم والفتيا إلى أن كان في مستهل ذي القعدة سنة ثمان وتسعين عاد للإمامة على عادته ثم أعيد لكل من قراءة الحديث ومشيخة الأشرفية في السنة التي تليها. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وبعد المؤلف في زمان الناصر ابن الأشرف قايتباي تولى قضاء الحنفية بالقاهرة مستهل المحرم عام ثلاث وتسعمائه ثم عزل عن القضاء في سنة ست وتسعمائة واستمر مفصولاً حتى عرض عليه القضاء شرف(1/56)
الغوري فلم يقبله فاستحسن الملك منه ذلك وصار مبجلاً معظماً حتى مات رحمه الله.ري فلم يقبله فاستحسن الملك منه ذلك وصار مبجلاً معظماً حتى مات رحمه الله.
وفيها: في ليلة الثلاثاء عاشر جمادى الأولى توفي الشيخ العالم الفاضل الجمال أبو الفتح إبراهيم بن علي بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن علي القلقشندي الأصل القاهري المولد والدار الشافعي بالقاهرة، وكان مولده في حادي عشر سنة احدى وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة ونشأ بها فحفظ القرآن والشاطبيتين وعرض على خلق كثير كالبساطي والمحب ابن نصر الله والحافظ ابن حجر العسقلاني، وسمع على الآخرين وأبيه وجده والتاج السرابيسي والناقوسي والزركشي وابن ناظر الصلاحية وابن الطحان وابن بردس وعائشة الحنبلية والواسطي في آخرين وقرأ بنفسه الكثير على غير واحد من المسندين. بل قرأ في محاسن الاصطلاح على ابن ابن المولد العلم البلقيني واجاز له خلق: منهم العلاء البخاري وقرأ على ابنه فيلا التقاسيم والحديث وغير ذلك، وكذا قرأ على المحلي شرح المنهاج وجمع الجوامع وشرح البردة، وما كتبه من التفسير وغيرها وعلى الشرواني في التوسط وغيره، وحج في حياة أبيه، وكان دخوله بمكة في رجب سنة إحدى وخمسين وسمع بها على المراغي والأسيوطي وابن هند وغيرهم. ثم أخذ بالمدينة في سنة سبع وخمسين عن عبد الله بن فرحون لقراءته، ثم حج ثالثة في سنة تسع وثمانين، واستقر في مشيخة الدوادارية وخزانة الكتب الأشرفية برسباي وغيرها بعد أبيه، وكذا في تدريس الحديث بجامع طولون مشاركاً لعمه ثم استقل به بعد موته مع المباشرة به وفي تدريس التفسير بالجمالية برغبة عبد البر بن الشحنة، وفي الفقه بالسكرية بمصر ودرس بعض الطلبة بل حدث باليسير هذا مع ما ذكر وزايد، قاله السخاوي: قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله تعالى أقول: وبعد المؤلف عمر حتى انفرد بعلو الاسناد وتزاحم عليه الطلبة من العباد، وخرج لنفسه أربعين حديثاً عشارية الإسناد وبعض طلبته أربعين حديثاً عشارية الإسناد وبعض طلبته أربعين أخرى عالية فرغب الطلبة في أحدهما مع غالب مروياته في معرفة العالي والنازل، واسماء الرواة واعتناء بالتحديث، واعتقاد في الصوفية وصدقات مع جلالة وعظمة ولذلك ولي قضاء الشافعية بالقاهرة مرة بعد أخرى أولها سنة إحدى عشر وتسعمائة، وثانيها في سنة ثلاثة عشرة واجتمعت به في أيام ولايته فيها فقرأت عليه أشياء، ثم عزل في السنة التي تليها فضعفت بنيته، وقلت حركته لإستيلاء البلغم عليه، وقل ما بيده واستمر مفصولاً حتى مات رحمه الله تعالى.
وفيها: في يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة توفي الفاضل برهان الدين إبراهيم بن موسى ابن أبي بكر ابن الشيخ علي الطرابلسي الحنفي نزيل الريدية من القاهرة بمدرسته بالقاهرة، وصلي عليه فيها، ودفن بالقرافة ؛وكان مولده في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة بطرابلس ؛وأخذ بدمشق عن جماعة. منهم الشرف بن عبد ؛وقدم معه القاهرة حين طلب لقضائها فلازم الصلاح الطرابلسي ورغب له عن تصوفها بالريدية لما أخذ مشيخة الأشراف. وأخذ عن الريمي شرح الفية العراقي للناظم، وعن الشيباني اشياء وكذا سمع على الحافظ السخاوي شرح معاني الآثار، والآثار لمحمد بن الحسن وغيرهما وعلق عنه بعض التأليف بل سمع على أبي السعود القرآن والرضي الأوجافي. قال السخاوي: وهو فاضل ساكن دين ممن حضر بعد في أثناء سنة أربع وتسعين مع الحنفية بالقبة الدوادارية بين يدي السلطان. وعلم بحاله وفضله فأنعم عليه بأشياء. ثم قرره في الجوالي المصرية عن الكوراني. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله اقول: وبعد المؤلف صار من اكابر الحنفية، وتولى مشيخة المدرسة القحماسية وفصل كل قضية لاجماعهم على علمه وخيره وصلاحه. وألف عدة مؤلفات منها. الاسعاف في حكم الأوقاف ؛ وجاور بمكة واقر في سنة خمس عشرة وتسعماية ثم عاد إلى القاهرة رحمه الله تعالى.
سنة ثلاث وعشرين بعد التسعمائة(1/57)
وفي المحرم سنة ثلاث وعشرين توفي الشيخ الكبير العارف بالله تعالى عبد الرحمن بن الشيخ علي ابن أبي بكر رضي الله عنهم بتريم ودفن بها ؛ وكان مولده سنة خمسين وثمانمائة؛ وكان من الأولياء العارفين والمشايخ الصالحين زاهداً عابداً. وحكي من مجاهداته أنه كان وهو صغير يخرج هو وابن عمه الشيخ أبو بكر العيدروس إلى شعب من شعاب تريم يقال له النعير بعد مضي نصف الليل فينفرد كل منهما يقرأ عشرة أجزاء في صلاة ثم يرجعان إلى منازلهما قبل الفجر، وقرأ الأحياء على والده أربعين مرة. وبلغني أنه كان يغتسل لكل فرض. ومن مشايخه أبوه الشيخ علي والفقيه محمد بن أحمد بافضل العدني والفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بالحاج بافضل والفقيه الدوسري وكان يحفظ الحاوي في الفقه للقزويني، والوردية في النحو واجتمع بالشيخ العلامة الصالح يحيى العامري وله منه اجازة. وحكى أنه لما اجتمع بالشيخ العامري وكان معه ابن عمه الشيخ أبو بكر العيدروس فالتمسا منه أن يريهما موضع الأصابع النبوية من ظهره فكشف لهما عنها فرأوها بالعيان. وقريب من هذا ما أخبرنا به صاحبنا الشيخ العلامة البسكري قال: كان عندنا رجل من أهل الغرب يعلم القرآن وكان يغطي احدى يديه فلا يكشفها لأحد فسأله بعضهم عن السبب في ذلك فأبى أن يخبره به فالح عليه في ذلك فقال: كنت شاعراً وامتدحت النبي صلى الله عليه وسلم بجملة قصائد. ثم اتفق ان قلت قصيدة امتدحت بها بعض أهل الدنيا فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يعاتبني على ذلك. ثم أمر بقطع يدي فقطعت فشفع في الصديق رضي الله عنه فشفعه والتحمت فعادت كما كانت فانتبهت والعلامة ظاهرة في يدي، ثم كشف له عن يده فإذا محل القطع نور يتلألأ، وممن أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن علي من كبار العلماء الفقيه عبد الله بن محمد بن سهل باقشير والفقيه عمر باشيبان وكان مشاركاً في جميع العلوم لكن غلب عليه علم التصوف، وكان يقرأ لابي عمرو ونافع ويقرأ لعاصم برواية حفص. ومن كراماته ما حكاه بعضهم أنه قال: كنت جالساً عنده بمسجد بامروان بتريم فسمعت شيئاً سقط في جانب المسجد فقال: قم هات الذي سقط فقمت فلقيت ورقة مغرية فجئت بها إليه فحلها وقرأها ثم أخذ بياضاً وكتب ورقة لي: خذ هذه الورقة واطرحها مكان الورقة التي وجدتها فأخذتها وطرحتها مكان تلك الورقة التي وجدتها وبقيت التفت إلى الورقة فإذا طائر قد جاء وأخذ الورقة فأخبرته بذلك وسألته عن الطائر فقال: إن الشيخ باعباد بيننا وبينه معرفة وكتب لنا ورقة وردينا جوابها.(1/58)
وفيها: في ليلة الجمعة سابع المحرم توفي العلامة الحافظ أحمد بن محمد ابن أبي بكر ابن عبد الملك بن أحمد بن حسين بن علي القسطلاني المصري الشافعي بالقاهرة،وصلي عليه بعد صلاة الجمعة بجامع الأزهر، ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله. ذكره السخاوي في ضوئه، وان مولده ثاني عشر ذي القعدة سنة احدى وخمسين بمصر ونشأ بها وحفظ القرآن وتلا للسبع وحفظ الشاطبية والجزرية والوردية وغير ذلك، وذكر له عدة مشايخ منهم الشيخ خالد الأزهري النحوي والفخر المقسمي والجلال البكري وغيرهم، وأنه قرأ صحيح البخاري في خمسة مجالس على الشاوي، وأنه تلمذ له أيضاً وقرأ عليه بعض مؤلفاته أعني السخاوي، وأنه حج غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين، وسنة أربع وتسعين، وأنه أخذ بمكة عن جماعة منهم النجم بن فهد، وأنه ولي مشيخة مقام سيدي الشيخ أحمد بن أبي العباس الحرار بالقرافة الصغرى، وأنه عمل تأليفاً في مناقب الشيخ المذكور وسماه نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرار، وأنه كان يعظ بالجامع العمري وغيره ويجتمع عنده الجم الغفير، وانه لم يكن له نظير في الوعظ، وانه كتب شيئاً كثيراً لنفسه ولغيره واقرأ الطلبة، وأنه تعاطي الشهادة. ثم انجمع واقبل على التأليف. وذكر من تصانيفه العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية في علم التجويد، والكنز في وقف حمزة وهشام على الهمزة، وشرحاً على الشاطبية زاد فيه زيادات ابن الجزري مع فوائد غريبة لا توجد في شرح غيره، وشرحاً على البردة سماه الأنوار المضيئة. وكتاب نفائس الأنفاس في الصحبة واللباس. والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر، وتحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري، ورسائل في العمل بالربع المجيب. انتهى ما ذكره السخاوي ملخصاً قلت: وارتفع شأنه بعد ذلك فاعطي السعد في قلمه وكلمه وصنف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبان في حياته ومن أجلها شرحه على صحيح البخاري مزجاً في عشرة أسفار كبار لعله أحسن شروحه واجمعها والخصها. ومنها المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. وهو كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع ليس له نظير في بابه. ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغض منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها ولا ينسب النقل إليها، وانه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فالزمه ببيان مدعاه فعدد عليه مواضع قال: أنه نقل فيها عن البيهقي وقال: أن للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر لنا ما ذكره في أي مؤلفاته ليعلم أنه نقل عن البيهقي ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقل عن البيهقي فنقله برمته. وكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عن البيهقي، وحكى الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أن الشيخ رحمه الله تعالى قصد ازالة ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة، وكان الجلال السيوطي معتزلاً عن الناس بالروضة فوصل صاحب الترجمة إلى باب السيوطي ودق الباب. فقال له: من أنت ؟ فقال: أنا القسطلاني جئت إليك حافياً مكشوف الرأس ليطيب خاطرك علي فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله. وبالجملة فإنه كان إماماً حافظاً متقناً جليل القدر حسن التقرير والتحرير لطيف الإشارة بليغ العبارة حسن الجمع والتأليف لطيف الترتيب والترصيف. كان زينة أهل عصره ونقاوة ذوي دهره. ولا يقدح فيه تحامل معاصريه عليه فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصر رحمهم الله.
وفيها: في شهر المحرم توفي فقيه مدينة تعز ومفتيها ومدرسها الفقيه عفيف الدين عبد الباري بن سليمان الطويل.(1/59)
وفيها: في عصر يوم الجمعة التاسع والعشرين من الشهر المذكور توفي العلامة الكبير مفتي مدينة زبيد وعالمها شيخ الإسلام مفيد الطالبين كمال الدين موسى ابن زين العابدين ابن أحمد بن أبي بكر الرداد البكري الصديقي الشافعي الجهبذ المحقق المصقع المدقق شافعي زمانه ورئيس أقرانه علماً وعملاً. كان رحمه الله تعالى بحراً من بحار العلم وجبلاً من جبال الدين له القدم الراسخ في المذهب والباع الطويل في كل مشرب نهد إليه الطالبون ورغب في الأخذ عنه الراغبون تفقه بالقاضي العلامة شيخ مشايخ الإسلام الطيب الناشري وصدر العلماء المبرزين عمر الفتى والشمس علي بن محمد الشرعي ونجم الدين يوسف المقري الجبائي. روى فقه الشافعي من طرق العراقيين والمراوزة عن الإمام علي بن عطيف نزيل مكة وأهل طبقته ودرس وافتى وانتشر صيته في معرفة الخلاف والوفاق وطار طائر فضله في جميع الآفاق واعترف له الأكابر بالإمامة وقصد للفتوى من كل نجد وتهامة وتفقه به الجلة. منهم ابنه المحقق علامة دهره ونادرة عصره الشيخ فخر الدين أبو بكر وأبو العباس الطبنداوي والفقيه عمر ابن الوجيه الدؤالي والزين الناشري ويوسف بن الناصر وعيسى بن عطيفة وغيرهم، وله الجوابات الرائقة والبحوثات الفائقة والتفقهات الخارقة والمصنفات المقبولة والشروح المتداولة المنقولة. فمنها الكوكب الوقاد شرح الإرشاد. في نحو أربع وعشرين مجلداً كتاب جليل لم يصنف مثله في كثرة الجمع والفوائد، وله شرح صغير على الإرشاد أيضاً لكنه لم يظهر. لكن قال الفقيه العلامة أبو المكارم مفتي الإسلام أحمد بن محمد الجابري الزبيدي رحم الله روحه. وقفت على بعض منه في ناحية الجبل جهة المخلاف انتهى. وكثيراً ما ينقل عنه ولده فخر الدين فيقول: قال شيخنا في شرح الإرشاد الصغير. ورأيت بخط الشيخ العلامة عبد السلام بن شيخ الإسلام عبد الرحمن بن زياد ان المراد بالشرح الصغير مسودة الكبير انتهى. وله أيضاً فتاوى جمعها ولده المذكور ورتبها ترتيباً حسناً وزاد عليها بزيادة لاغنى عنها. قال العلامة مفتي الوقت أحمد بن عبد الرحمن الناشري أبقاه الله تعالى: اتفق لصاحب الترجمة ما لم يتفق لأحد قبله بمحارث الوادي زبيد وذلك أنه زرع البر في أرضه واستغله وحرث غيره فلم يتم له ذلك، وكان قوته في غالب الأحوال اللوز والعسل قال: ومن جسام نعم الله عليه أنه مكث أربعين سنة ما رزء في أحد من بيته ولم يخرج من بيته بجنازة بل الله ثراه بوابل الغفران والرضوان.
وفيها: في ليلة الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر توفي الفقيه الكبير الصالح تقي الدين عمر بن محمد ابن أبي بكر جغمان ببيت الفقيه ابن عجيل.(1/60)
وفيها: في يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة توفي الشهاب أحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن زهير الرملي ثم الدمشقي الشافعي المقري الشاعر إمام مقصورة جامع بني أمية بدمشق، ودفن بباب الصغير، وكان مولده في شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثمانمائة بالرملة ونشأ بها ثم تحول إلى دمشق وحفظ المنهاج وألفية النحو والحديث والشاطبيتين والدرة في القراآت الثلاث لابن الجزري وعرض على جماعة، وممن أخذ عنه أبو زرعة المقدسي وابن عمران وخطاب وعمر الطيبي والزين الهيتمي وجعفر بالقاهرة ودمشق وتميز فيها، وولي مشيخة الاقراء بجامع بني أمية وبدار الحديث الأشرفية وبتربة الأشرفية بعد " خطاب " وبتربة أم الصالح بعد البقاعي، وكان لازمه حين اقامته بدمشق حتى أخذ عنه في الفية الحديث وغيرها. وعادى أهل بلده أو الكثير منهم بسببه. وكذا لازم " خطاباً " في الفقه والعربية والعروض وغيرها قراءة وسماعاً، والشمس بن حامد في الفقه وطراه فيه، والنجم ابن قاضي عجلون في آخرين كالعبادي والبكري بالقاهرة، وأخذ المختصر قراءة والمطول سماعاً عن ملازاده السمرقندي وكذا أخذ عنه العقائد وبعض شرح المواقف، وتكرر قدومه القاهرة. وكذا ذكره السخاوي في ترجمته قال: وقصدني في بعض قدماته، وأخذ عني وأنشدني قصيدة من نظمه امتدح بها الخضيري وكان نائبه في امامة مقصورة الجامع الأموي ثم ناب في القضاء قال: وبالجملة فهو خفيف مع فضيلة. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وبعد المؤلف استمر نائباً في القضاء والإمامة وعليه ابهة ومهابة وحصلت له محنة مع قضاة بلده طلبوا إلى القاهرة لأجلها، ونالهم التعب بسببها لإنكارهم على كاتب سرها الاسلمي سلامة الله تعالى على ضريح وليها الشيخ رسلان، وهجاه بأبيات سمعتها منه مع تكلم غيرها في رحلتي لدمشق عام اثنين وعشرين.
وفيها: تغيرت دولة الجراكسة بالعثمانية ففوضوا إليه قضاء الشافعية في البلاد الشامية فانفرد بذلك بين فانتفع به جماعة من الأصحاب وأنا ممن لاحظني بنظره، وحصل لي حجة على يده فعدت بعدها إلى بلدي رحمه الله.
وفيها: في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر استشهد السلطان الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب سلطان اليمن، وكان على جانب عظيم من الدين والتقوى والمشي في طاعة الله تعالى لا تعلم له صبوة، وكان ملازماً للطهارة والتلاوة والاذكار ولا يفتر عن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، كثير الصدقات وفعل المبرات. ومن مآثره المخلدة لذكره على الدوام والموجبة لحلوله دار السلام في حوار الملك العلام عمارة الجامع الأعظم بمدينة زبيد لم يسبق إلى مثلها. انفق في ذلك جملة مستكثرة من أمواله وخالص حلاله، وعمارة مدرسة من جنوبه الدار الكبير بمدينة زبيد، وعمارة مدرسة الشيخ الكبير إسماعيل ابن إبراهيم الجبرتي بها، وعمارة مشهد الفقيه أبي بكر الحداد خارج باب القرتب بظاهر مدينة زبيد، ومدرستين بمدينة تعز واجراء العين بها والجامع الكبير بالمقرانة، ومسجد القبة بها ومدرسة عظيمة برداع العرش، ومسجد بداخل عدن واجراء المياه بظاهر باب البر منها، وصهريج عظيم بها لم يسبق إلى مثله وآخر بقرية عسيب، وما لا يحصى من المساجد والصهاريج والآبار والأسداد في الأماكن المحتاج إليها، والمواضع المنقطعة. وهو اجرى التلاج إلى مدينة عدن من أماكن بعيدة، وانفق في ذلك أموالاً عديدة، وله من أعمال البر مالا يحصى كثرة ضاعف الله تعالى له الثواب وأحسن له المرجع والمآب، وكانت مدة ملكه إلى انقضاء دولته تسعاً وعشرين سنة إلا أياماً. وللعلامة الديبع رحمه الله فيه:
اخلاي ضاع الدين من بعد عامر ... وبعد أخيه عاد الناس في الناس
فمذ فقدا والله والله اننا ... من الأمن والسلوان في غاية الياس
وله فيه:
تحطم من ركن الصلاح مشيده ... وقوض من بنيانه كل عامر
فما من صلاح فيه بعد صلاحه ... ولا عامر والله من بعد عامر
؟سنة أربع وعشرين بعد التسعمائة(1/61)
وفي سنة أربع وعشرين توفي الشريف الفاضل العالم العامل محمد بن علوي ابن الفقيه الصالح الولي محمد بن علي صاحب عيديد. اشتغل بالعلم حتى برع فيه تفقه بالفقيه أحمد بن يحيى رشيد بعدن ونقل كتاب الارشاد للمقري وسمع البخاري على غيره، وكان جيد الفهم وكان شيخه الشيخ القطب عبد الرحمن بن علي نفعنا الله ببركاته يثنى عليه ويقول: استفدت منه حال قراءته علي أشياء، وكان على قدم من الصلاح والزهد والخمول كثير التلاوة لكتاب الله تعالى وكانت وفاته بعدن رحمه تعالى. وجده الفقيه محمد بن علي صاحب عيديد نفعنا الله ببركاته من كبار الأولياء، وعمه الشريف الصالح العالم عبد الله وهو الذي جمع كلام الاستاذ الأعظم الشيخ عبد الله العيدروس في كتاب فله بذلك علينا المنة معاشر الأصحاب.
وفيها: مات السلطان سليم سلطان الروم، وتولى بعده السلطان سليمان، وفي أيامه زال ملك الجراكسة واعتبار خلفاء بني العباس. فسبحان من لا يزول ملكه.
؟؟؟سنة خمس وعشرين بعد التسعمائة(1/62)
وفي يوم الجمعة رابع ذي الحجة سنة خمس وعشرين توفي الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة زين الدين زكريا بن محمد بن احمد الأنصاري السكيني ثم القاهري الأزهري الشافعي بالقاهرة ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي، وحزن الناس عليه كثيراً لمحاسنه الكثيرة واوصافه الشهيرة، ورثاه جماعة تلامذته بعدة مراثي مطولات، وكان مولده في سنة ست وعشرين وثمانمائة بسنيكه من الشرقية ونشأ بها وحفظ القرآن عند الفقيهين محمد بن ربيع والبرهان الفاقوسي البلبيسي وعمدة الأحكام وبعض مختصر التبريزى في الفقه، ثم تحول إلى القاهرة في سنة إحدى وأربعين فقطن جامع الأزهر واكمل حفظ المختصر ثم حفظ المنهاج الفرعي والألفية النحوية والشاطبية والرائية وبعض المنهاج الاصلي، ونحو النصف من الفية الحديث ومن التسهيل إلى " كاد " وبعض ذلك بعد هذا الأوان، وأقام بعد مجيئة القاهرة بها يسيراً ثم عاد إلى بلده، ثم رجع وداوم الأشتغال وجد فيه. فكان ممن أخذ عنهم الفقه القاياتي والعلم البلقيني أخذ عنهما بقرائة شرح البهجة ملفقاً، بل وأخذ عنهما في الفقه غير ذلك والشرف السبكي والشموس الوفاي والحجازي والبدرشي والشهاب ابن المجدي والبدر النسابة والزين البوشنجي، بل وعن شيخ الإسلام ابن حجر والزين رضوان في آخرين، وحضر دروس الشرف المناوي وغيره وأصول فقه القاياتي والمحيوي الكافياجي. قرأ عليهما العضد منفقاً والعز عبد السلام البغدادي والكمال نزيل زاوية الشيخ نصر الله قرأ عليه العبري شرح الطوالع للآمدى وغيرهم. وعن كل مشايخه في أصول الدين أخذ النحو، بل وأخذ أيضاً عن ابن المجدي وابن الهمام والشمني والصرف عن العز عبد السلام والشرواني، وكذا عن محمد ابن أحمد الكيلاني قرا عليه شرح تصريف العزي للتفتازاني وطائفة، والمعاني والبيان والبديع عن القاياتي أخذ عنه المطول ما بين قراءة وسماع، والشمس البخاري المذكور فقرأ عليه المختصر والكافياجي والشرواني، وعن ما عداه أخذ المنطق، وكذا عن ابن الهمام والآمدي والزين جعفر نزيل المؤيدية قرأ عليه شرح الشمسية وغالب حاشية السيد الجرجاني، والتقي الحصني أخذ عنه ظناً القطبي وحاشيته، أخذ عن القاياتي في اللغة، كذا أخذ عنه وعن الكافياجي وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في التفسير أخذ علم الهيئة والهندسة والميقات والفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغيرها عن ابن المجدي، وقرا عليه من تصانيفه أشباه الفرائض والحساب أيضاً عن الشمس الحجازي والبوشنجي كذا عن أبي الجود الليثي المجموع والفصول الحكمية عن الشرواني وجعفر المذكور، الطب عن الشرف بن الخشاب، العروض عن السراج الورودي علم الحرف عن محمد بن قرقمازي الحنفي، التصوف عن جماعة منهم أبو عبد الله الغمري والشهاب أحمد الأذكاوي ومحمد الغومي وكلاهما من أصحاب أبي إسحاق الأذكاوي عن السراج عمر البلقيني والزين عبد الرحمن الخليلي، وتلقن منهم ومن الفقيه أحمد ابن الفقيه علي بن محمد بن حميد الدمياطي عرف بالزلباني الذكر تلى بالسبع على كل من النور البلقيني أمام الأزهر والزين الرضوان والشهاب القلقيلي الكسندراني بعد تدريسه في ذلك لبعض طلبتهم، وبالثلاث الزائدة عليها ممن تضمنته مصنفات ابن الجزري في النشر والتقريب، والطيبية على الزين ظاهر المالكي بالعشر لكن إلى " المفلحمن " فقط، عن الزين ابن عياش المكي أخذ رسوم الخط. عن الزين رضوان سمع عليه في البحث من شرح الشاطبية للجعبري، وحمل عنه كتباً جمة في القراآت والحديث وغيرهما كجملة من شرح الفية الحديث للعراقي، عن ابن الهمام أخذ عن الشرح بتمامه سماعاً وبعضه قراءة، وعن القاياتي بعضه أخذ عن شيخنا الكثير منه ومن ابن الصلاح وجميع شرح النخبة له. وقرا عليه والسيرة النبوية لأبن سيد الناس ومعظم السنن لأبن ماجة وأشياء غيرها، وسمع في صحيح مسلم عن الزين الزركشي، كذا سمع على العز ابن الفرات البعث لأبن أبي داود وغيره على سارة ابنه ابن جماعة في المعجم الكبير للطبراني بقرائتي وعلى البرهان الصالحي والرشيدي ومثير ممن تقدم كالزين رضوان، واشتدت عنايته بملازمته له في ذلك حتى قرأ عليه مسلم والنسائي والبوشنجي والبلقيني، وبمكة سنة خمسين حين حج على الشرف أبي الفتح المراغي والتقي ابن فهد والقاضيين أبي اليمن النويري وأبي السعادات ابن زهيرة في(1/63)
آخرين، بالقاهرة وغيرها كتب له أسانيد في جزء وأجاز له في ذلك بعض من ذكر من جميع شيوخه في أخذ في أخذه عنه أكثر من بعض كما أن عمله في هذه العلوم أيضاً يتفاوت، ولم ينفك عن الاشتغال على طريقة جميلة من التواضع وحسن العشرة والأدب والعفة والانجماع عن بني الدنيا مع التقلل وشرف النفس ومزيد العقل وسعة الباطن والاحتمال والمداراة إلى أن أذن له غير واحد من شيوخه في الافتاء والاقراء، وممن كتب له شيخ الإسلام ابن حجر ونص كتابه في شهادته على بعض الإجازات: له وأذنت له أن يقرئي القرآن على الوجه الذي تلقاه ويقدر الفقه على النمط الذي نص عليه الإمام وارتضاه قال: والله المسؤول أن يجعلني وإياه ممن يرجوه ويخشاه إلى أن نلقه وكذا أذن له في إقراء شرح النخبة وغيرها، وتصدى للتدريس في حياة غير واحد من شيوخه وانتفع به الفضلاء طبقة بعد طبقة وشرح عدة كتب منها آداب البحث. وسماه فتح الوهاب شرح الآداب وفصول ابن الهايم وسماه غاية الوصول إلى علم الفصول مزج المتن فيه وشرحه شرحاً آخر سماه منهج الوصول إلى تخريج الفصول وهو ابسطها والتحفة القدسية لابن الهايم في الفرائض أيضاً سماه التحفة الانسية لغلق التحفة القدسية والفية ابن الهايم أيضاً المسماة بالكفاية وسماه نهاية الهداية في تحرير الكفاية وبهجة الحاوي فقه سماه الغرر البهية بشرح البهجة الوردية وتنقيح اللباب لابن العراق ومختصر الروضة للمقري المسمى روض الطالب سماه اسنى المطالب إلى روض الطالب وكتب على الفية النحو يسيراً اقرأه معظم ذلك. طار اسم شرح البهجة في كثير من الأقطار، قصد بالفتاوي وزاحم كثيراً من شيوخه فيها، وله تجهد وتوجه وصبر واحتمال وترك القيل والقال، وله أوراد واعتقاد وتواضع وعدم تنازع وعمله في التودد يزيد عن الحد ورويته أحسن من بديهته وكتابته أمتن من عبارته، وعدم مسارعته إلى الفتاوي يعد من حسناته. واختصر المنهاج الفرعي للنووي وسماه منهج الطلاب وشرحه شرحاً مفيداً قلت: وصنف في كثير من العلوم كالفقه والتفسير والحديث والنحو واللغة والتصريف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والطب وله في التصوف الباع الطويل، وصنف في الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهيئة والهندسة إلى غير ذلك. وترأس بجدارة دهراً، وولي المناصب الجليلة كتدريس مقام الإمام الشافعي، ولم يكن بمصر أرفع منصباً من هذا التدريس، وولي تدريس عدة مدارس رفيعة وخانقاه صوفية وغيرها إلى أن رقى إلى المنصب الجليل وهو قاضي القضاة بعد امتناع كثير وتعفف زائد. ووقع ذلك في شهر رجب سنة ست وثمانين وثمانمائة. ثم استمر قاضياً مدة ولاية السلطان الاشرف قايتباي رحمه الله تعالى. ثم استمر بعد ذلك إلى أن كف بصره فعزل بالعمى رحمه الله تعالى، ولم يزل رحمه الله تعالى ملازم التدريس والافتاء والتصنيف، وانتفع به خلائق ودرس تلامذته في حياته وافتوا وتولوا المناصب الرفيعة ببركته وبركة الانتساب إليه، ولم يزل كذلك في نشر العلم وكثرة الخير والبر والاحسان إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجم مشايخه: وقدمت شيخنا زكريا لأنه أجل من وقع عليه بصري من العلماء العالمين والأئمة والوارثين واعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المسندين. فهو عمدة العلماء الأعلام وحجة الله على الانام حامل لواء مذهب الشافعي على كاهله، ومحرر مشكلاته ووكاشف عويصاته في بكرته وأصائله ملحق الاحفاد بالأجداد المتفرد في زمنه بعلو الاسناد كيف ولم يوجد في عصره الأمن أخذ عنه مشفهة أو بواسطة أو بوسائط متعددة بل وقع لبعضهم انه أخذ عنه مشافهة تارة وعن غيره ممن بينه وبينه نحو سبع وسائط تارة أخرى وهذا لا نظير له في أحد من أهل عصره فنعم هذا التميز الذي هو عند الأئمة أولى واحرى لأنه حاز به سعة التلامذة والاتباع وكثرة الآخذين عنه ودوام الأنتفاع انتهى كلام ابن حجر. ويقرب عندي انه المجدد على رأس القرن التاسع لشعرة الأنتفاع به وبتصانيفه واحتياج غالب الناس إليها فيما يتعلق بالفقه وتحرير المذهب بخلاف غيره فان مصنفاته وان كانت كثيرة فليست بهذه المثابة على أن كثيراً منها مجرد جمع بلاد تحرير حتى كان حاطب ليل. ومن أحسن مارثي به قول بعضهم شعر: بالقاهرة وغيرها كتب له أسانيد في جزء وأجاز له في ذلك بعض من ذكر من جميع شيوخه في أخذ في أخذه عنه أكثر من بعض كما أن عمله في هذه العلوم أيضاً يتفاوت، ولم ينفك عن الاشتغال على طريقة جميلة من التواضع وحسن العشرة والأدب والعفة والانجماع عن بني الدنيا مع التقلل وشرف النفس ومزيد العقل وسعة الباطن والاحتمال والمداراة إلى أن أذن له غير واحد من شيوخه في الافتاء والاقراء، وممن كتب له شيخ الإسلام ابن حجر ونص كتابه في شهادته على بعض الإجازات: له وأذنت له أن يقرئي القرآن على الوجه الذي تلقاه ويقدر الفقه على النمط الذي نص عليه الإمام وارتضاه قال: والله المسؤول أن يجعلني وإياه ممن يرجوه ويخشاه إلى أن نلقه وكذا أذن له في إقراء شرح النخبة وغيرها، وتصدى للتدريس في حياة غير واحد من شيوخه وانتفع به الفضلاء طبقة بعد طبقة وشرح عدة كتب منها آداب البحث. وسماه فتح الوهاب شرح الآداب وفصول ابن الهايم وسماه غاية الوصول إلى علم الفصول مزج المتن فيه وشرحه شرحاً آخر سماه منهج الوصول إلى تخريج الفصول وهو ابسطها والتحفة القدسية لابن الهايم في الفرائض أيضاً سماه التحفة الانسية لغلق التحفة القدسية والفية ابن الهايم أيضاً المسماة بالكفاية وسماه نهاية الهداية في تحرير الكفاية وبهجة الحاوي فقه سماه الغرر البهية بشرح البهجة الوردية وتنقيح اللباب لابن العراق ومختصر الروضة للمقري المسمى روض الطالب سماه اسنى المطالب إلى روض الطالب وكتب على الفية النحو يسيراً اقرأه معظم ذلك. طار اسم شرح البهجة في كثير من الأقطار، قصد بالفتاوي وزاحم كثيراً من شيوخه فيها، وله تجهد وتوجه وصبر واحتمال وترك القيل والقال، وله أوراد واعتقاد وتواضع وعدم تنازع وعمله في التودد يزيد عن الحد ورويته أحسن من بديهته وكتابته أمتن من عبارته، وعدم مسارعته إلى الفتاوي يعد من حسناته. واختصر المنهاج الفرعي للنووي وسماه منهج الطلاب وشرحه شرحاً مفيداً قلت: وصنف في كثير من العلوم كالفقه والتفسير والحديث والنحو واللغة والتصريف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والطب وله في التصوف الباع الطويل، وصنف في الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهيئة والهندسة إلى غير ذلك. وترأس بجدارة دهراً، وولي المناصب الجليلة كتدريس مقام الإمام الشافعي، ولم يكن بمصر أرفع منصباً من هذا التدريس، وولي تدريس عدة مدارس رفيعة وخانقاه صوفية وغيرها إلى أن رقى إلى المنصب الجليل وهو قاضي القضاة بعد امتناع كثير وتعفف زائد. ووقع ذلك في شهر رجب سنة ست وثمانين وثمانمائة. ثم استمر قاضياً مدة ولاية السلطان الاشرف قايتباي رحمه الله تعالى. ثم استمر بعد ذلك إلى أن كف بصره فعزل بالعمى رحمه الله تعالى، ولم يزل رحمه الله تعالى ملازم التدريس والافتاء والتصنيف، وانتفع به خلائق ودرس تلامذته في حياته وافتوا وتولوا المناصب الرفيعة ببركته وبركة الانتساب إليه، ولم يزل كذلك في نشر العلم وكثرة الخير والبر والاحسان إلى أن توفي رحمه الله تعالى. وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجم مشايخه: وقدمت شيخنا زكريا لأنه أجل من وقع عليه بصري من العلماء العالمين والأئمة والوارثين واعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المسندين. فهو عمدة العلماء الأعلام وحجة الله على الانام حامل لواء مذهب الشافعي على كاهله، ومحرر مشكلاته ووكاشف عويصاته في بكرته وأصائله ملحق الاحفاد بالأجداد المتفرد في زمنه بعلو الاسناد كيف ولم يوجد في عصره الأمن أخذ عنه مشفهة أو بواسطة أو بوسائط متعددة بل وقع لبعضهم انه أخذ عنه مشافهة تارة وعن غيره ممن بينه وبينه نحو سبع وسائط تارة أخرى وهذا لا نظير له في أحد من أهل عصره فنعم هذا التميز الذي هو عند الأئمة أولى واحرى لأنه حاز به سعة التلامذة والاتباع وكثرة الآخذين عنه ودوام الأنتفاع انتهى كلام ابن حجر. ويقرب عندي انه المجدد على رأس القرن التاسع لشعرة الأنتفاع به وبتصانيفه واحتياج غالب الناس إليها فيما يتعلق بالفقه وتحرير المذهب بخلاف غيره فان مصنفاته وان كانت كثيرة فليست بهذه المثابة على أن كثيراً منها مجرد جمع بلاد تحرير حتى كان حاطب ليل. ومن أحسن مارثي به قول بعضهم شعر:(1/64)
قضى زكريا نحبه فتفجرت ... عليه عيون النيل يوم حمامه
لتعلم أن الدهر راح امامه ... وما الدهر يبقى بعد فقد امامه
سقى الله قبراً ضمه مزن صيب ... عليه مدن الايام سح غمامه
وحكي أن بعض قضاة مصر المحروسة كان يسمى صالحاً وكانت أحكامه غير مرضية وكان شيخ الإسلام المذكور يكره أفعاله القبيحة ويتأذى منه جداً حتى انه جهاه بهذين البيتين:
الاسم غير المسمى ... والحق أبلج واضح
أن كنت تنكر هذا ... فانظر لسيرة صالح
وفيها: في ليلة السبت ثالث عشر شهر ربيع الثاني توفي الفقيه الصالح العلامة الشيخ عبد الله بن أحمد باكثير الحضرمي ثم الملكي بمكة، فجهز في ليلته، وصلي عليه صبح يومها عند باب الكعبة، ودفن بالمعلا في الشعب الأقصى، وحملت جنازته على الرؤس ببركات العيدروس. وكثير بفتح الكاف وكثر الثاء المثلثة وكان من العلماء العاملين والفضلاء البارعين متصفاً بمحاسن الاخلاق وحسن الأرتفاق. ولد تقريباً في سنة ست أو سبع وأربعين وثمانمائة بحضرموت ونشأ بها سبع سنين، ونقله والده إلى غيل باوزير فحفظ القرآن في سنة وعمره ثمان سنين وحفظ المنهاج والبهجة لأبن الوردي وخلاصة ابن ظفر والفية ابن مالك وغيرها. ثم سأل والده في الاجتماع بشيخ من الصوفية فأشار عليه بالشيخ عبد الله العيدروس رضي الله عنه فتوجه إلى تريم وأخذ عنه وتربى على يديه. وكان يقول لو أجتمع شيوخ الرسالة في جانب الحرم وأنا في جانبه الآخر ما كنت أهتز إلى ماعندهم لما ملاني به الشريف يعني به عبد الله رضي الله عنه. وحكي أنه سبب أنتقاله إلى مكة ما روي أن شيخ الشيخ عبد الله العيدروس قال: من حصل كناب الاحياء وجعله إلى أربعين جزء ضمنت له على الله الجنة فسارع الخلق إلى ذلك، وكان الشيخ عبد الله باكثير المذكور ممن حصله وجعله في أربعين جزء وجعل لكل جزء كيساً وزينه في أوله زيادة على ما شرطه الشيخ فلما اتاه به ورآه قال: انك قد زدت فيه فيحتاج لك زيارة على الجنة فتمن ما تريد فقال: أريد أن أرى الجنة في هذه الدار فأجابه الشيخ إلى ذلك وقال: لا يمكنك الجلوس بعدها عندي فأمر بالعزم إلى مكة والمجاورة فعزم إليها وأقام إلى ان توفي بها،ولقى جماعة من العلماء وأجازه بعضهم بالافتاء والتدريس فتصدى لذلك ونثر ونظم. ومن ذلك الدار اللوامع في نظم جمع الجوامع وتتمة التمام وسفك المدام في عقائد أهل الإسلام وفرظها له جماعة. وهو كثير الفوائد وكان من فضلاء مكة وعين المدرسين فيها مع الزهد والصلاح والتعفف والاحتمال والسكون والأنجماع عن أنباء الدنيا وخلف اولاداً ذكوراً وأناثاً نحو العشرة ومن شعره:
من كان يعلم أن كل ما مشاهد ... فعل الآ له فما له أن يغضبا
بل واجب أن يرتضي ما شاهدت ... عيناه من ذاك الفعال ويطربا
سنة ست وعشرين بعد التسعمائة(1/65)
وفي ضحى يوم الثلاثاء من ذي الحجة عام ست وعشرين توفي الشهاب الفاضل أحمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن عيسى بن محمد بن أحمد بن مسلم الشهاب ابن المبذر المكي، ويعرف كأبيه بابن عليف بضم العين تصغير علف بمكة فجهز في ظهر تاريخه، ودفن بالمعلاة، وخلف ولداً وبنتين. ولد في جمادى الأولى سنة أحدى وخمسين وثمانمائة بمكة ونشا بها فحفظ القرآن واللالفية النحوية والأربعين النواوية وعرضهما والكثير من المنهاج، وسمع بمكة على التقي بن فهد وولده النجم والزين عبد الرحيم الأسيوطي وأبي الفضل المرجاني ويحيى العلم ولازم النور الفاكهي في دروسه الفقهية والنحوية، وبالقاهرة على الشهاب الشادي وحضر عند الخيضري، بل سمع الشفاء على الجوجري، وأخذ عن العباد والجوجري وآخرين بالقاهرة فقد دخلها مراراً قال السخاوي: وكنت ممن أخذ عنه بها وبالحرمين، وتلي الكثير لأبي عمرو على عمر البخاري وحضر دروس القاضي عبد القادر في العربية قال السخاوي: وتكسب بالنسخة مع عق وتودد وحسن عشرة وتميز وربما نظم ما يقع له فيه الجيد. ومع ذلك لم يسلم ممن يعاديه بل كاد أن يفارق المدينة لذلك قال: واغلب أقامته الآن بطيبة على خير وانجماع وتقلل، ونعم الرجل قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله اقول: وبد المؤلف باع داره وسكن مكة وتزوج فيها ورزق بنتين، وكان انتصر للمؤلف على الشيخ جلال السيوطي بالشهاب الهاوي على منشي الكاوى، ثم المنتقد اللوذعي علي المجتهد المدعي، وألف السلطان الروم بايزيد بن عثمان الدار المنظوم في مناقب السلطان الروم ومدحه وغيره من أقرانه، فرتب له خمسين ديناراً في كل سنة فتجعل بها ومدح صاحب مكة السيد بركات بن محمد الحسني فاقتصر على مدحه وحظى عند لبلاغته حتى صار متنبي زمانه، ثم أصيب بكثرة الاسقام في آخر عمره حتى مات رحمه الله. ومن نظمه الحسن هذه القصيدة العظيمة المشتملة على الفصاحة التامة والامثال العجيبة وهي:
خذ جانب العليا ودع ما يترك ... فرضى البرية غاية لاتدرك
واجعل سبيل الذل عنك بمعزل ... فالعز أحسن ما به يستمسك
وأمنح مودتك الكرامة فربما ... عز الكريم وفات ما يستدرك
وإذا بدت لك في عدوك فرصة ... فافتك فأن أخا العلا من يفتك
ودع الأنماني للغبي فأنما ... عقبي المنى للحر داء مهلك
من يقتضي سبباً بدون عزيمة ... ضلت مذاهبه وعز المدرك
تعست مداراة العدو فانها ... داء تحول به الجسوم وتوعك
لا يدرك العليا إلا من له ... في كل حي من عداه منسك
ندب عريق لا يرام مرجب ... ضرب جزيل في الأمور محكك
ذو هضبة لا ترتقى وشكيمة ... عزت يدين له الألد إلا محك
إلا فاتل عند الحفيظة راية ... لكن بتجريب الزمان محنك
فاركب سنام العز في طلب العلا ... حتام تسكن والنوى يتحرك
وأستفرغ المجهود في تحصيل ما ... فيه النفوس تكاد جبناً تهلك
وإذا نبا بك منزل فانبذ به ... ودع المطية تستقل ويترك
وأرغب بنفسك أن ترى في ساحة ... يسقى بها الحر الكريم والمرتك
وأرحل عن الأوطان لا مستعظما ... خطراً ولو عز المدى والمسلك
فالحر يدرك ضد ما يعتاده ... ويميط ثوب الذل عنه ويبتك
وإذا تغشاه الهوان ببلدة ... يابي الأذى أوسيم خسفاً يفلك
ومتى تنكرت المعارف خلته ... يثني العنان عن الديار ويعتك
لا خير في دار يضام بها الفتى ... والى سواها لا يميل ويترك
وفتى تقاضته المساعي نفسه ... فغدا يمنيها القضاء ويمعك
بهوى النفس لا تكون عزيزة ... ولها إلى طرق المعالي مسلك
ولو أجد سبل الكرام ولم يزل ... يغضي الجفون على القذى ويفتك
والمرئ يعذر أن سعى وتعذرت ... عنه المساعي أو حواه المهلك
تبت يد الأيام تلقى للفتى ... سلماً يسلمه يد ما تملك(1/66)
يبكي اللبيب على تقاعس حظه ... حيناً ويطمعه الرجاء ويضحك
ولكن تغامره قد دونها ... عن حوضه فغدا لديها يفرك
سميتهى في القنع أعلى غارب ... فغدت بذروة عزه تتورك
وسقيتها عللاً على نهل به ... وتركتها ترضى عليه وترمك
عجباً لمن سر الزمان وأهله ... فغذا بتعليل المطالع يمسك
ولمن له فضل يمن به فلا ... يسموا على هام السماك ويسمك
حتى متى أطوي الليالي بالمنى ... والجد ينهضني وجدي يبرك
ويجول فكري ولعل وأختها ... ويحول دونهما زمان أنوك
وينالني بالنقص غمر ماله ... في الفضل سمهم مثل سهمي يشرك
لا صاحبتي نفس حر لم تكن ... نزاعة فيما ينال ويترك
هل في القشية أن أرى متقابلاً ... أحكي القوافي للئام وأحتك
وأبيت أنسج من سرابيل الثنا ... حللاً على طول المدى لا تدعك
أكسو بنائله تخال وجوههم ... بالملح حال المدح غيظاً تعرك
واغوص عن در النظام بهمة ... وأصوغ من تبر الكلام واسبك
في كل فدم لا سليم يرتجى ... يرضيك منه القول وهو من وتك
متغافل عن فطنه مستبطن ... لوماً كثير الخير وافه حوتك
هلا فتى في المجد يقصر دونه ... مع طول غايتها الجبال السمك
سمح على العلات بحر في الندا ... يحيى به در القريض المهتك
ماتوا بناة المجد والعز الأولى ... كانوا بطيب ثناءهم يستمسك
النازلين من المكارم منزلا ... بترابه يتبرك المتبرك
ونكصت في حل أجل نواله ... وعد يؤكده بقول يعفك
فعلام لا الوي رجاءي عنهم ... ناساً وفي جنبي قلب دكدك
وأرى برأي يقتضي ذو همة ... لا يستقيم بها اللئيم الممسك
لو لم يعارضني زمان عاشر ... فيه وحظ حين أعدوا أشوك
لله عصر بت أطوي عتبه ... مني على تلك وقد لا أحبك
وأشوبه عود الضمير مغالطاً ... فينلني وعداً عليه وينسك
ويطيل بالتسويف في تقصيره ... حلفاً ويرميني بخصم يمحك
لا كنت من أولي الفضايل منتم ... للفضل أفعل ما أروم وأترك
كلا ولا كانت كرام ابوتي ... أهدي إليه ولاية تتنسك
أيضاً ولا منعت من أربى بها ... في موقف عند التنافر يفتك
أن لم أرد النفس عن أتيانه ... وأنال منه ما ينال المدرك
ولقد ندمت على مديحي معشراً ... ندما يضل الدمع منه يسبك
وذممت دهري اذ غدا متغافلاً ... عني وصار باهله يتحكك
دهراً متى أوسعت فيه أهله ... ذماً بباب والمدايح توفك
قلدت فيه الدهر غير نفيسه ... وسلكته في موضع لا يسلك
لو لم يكن فيما أذم لأجله ... إلا معاصرة اللئام وأفرك
فمتى اسموا مكاني مثلها ... فلبئس دا مكة تجيء وتدمك
ليت المكارم لم تكن مقصودة ... في كل ذي قدر وضيع ينبك
قسماً بنفس بالزمان قصيرة ... وبحرمة الأدب التي لا يهتك
لو لا أشتغال الخطب في جهاله ... عني لكنت لكل فضل أملك
وفيها: أخذ السلطان بدر رحمه الله تعالى تريم قسراً من السلطان أحمد ابن محمد.(1/67)
وفي: ضحى يوم الخميس تاسع عشر شهر ذي القعدة توفي الفقيه الفاضل الأديب البارع حمزة بن عبد الله بن محمد بن علي ابن أبي بكر ابن علي بن محمد الناشري بمدينة زبيد، ودفن بمقبرة سلفة الصالح بباب سهام قريباً من آل مرزوق وقبر إسماعيل الجبرتي، وكانت ولادته ثالث عشر شوال من سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وأخذ الفقه والحديث عن العلامة قاضي القضاة الطيب ابن أحمد الناشري مصنف الإيضاح على الحاوي، وعن ولده قاضي القضاة عبد الله والعلامة محمد بن أحمد حميش وغيرهم، وروي عن القاضي مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس، والفقيه محمد بن أبي الفتح المدني وأجازه شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري، وكتب له بالإجازة هو وعلماء مصر كالشيخ زكريا الأنصاري والجوجري والسيوطي وابن أبي شريف وغيرهم من علماء مصر، ومن الحجاز الحافظ أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي. وله مصنفات حسنة غريبة منها الأربعون التهليلية ومسالك التحبير، من مسائل التكبير، ومختصره التحبير في التكبير وانتهاز الفرص في الصيد والقنص وكتاب النبات العظيم الشأن المسمى حدائق الرياض وغوضة الفياض، وعجائب الغرائب والعجائب، والبستان الزاهر في طبقات علماء آل ناشر، ذيل به على مؤلف قريبه، والنعمة المشكورة في المسائل المنثورة وسالفة العذار في الشعر المذموم والمختار، وله الفية في غريب القرآن وغير ذلك. ومن مؤلفاته أيضاً مجموعاً حسناً مفيداً في بابه في الفقه يسمى مجموع حمزة، وذلك من فتاوي علماء اليمن وغالبه من فتيا علماء زبيد رحمه الله تعالى آمين، وغالب مؤلفاته لم تبيض قلت: ووقفت له على قصيدة في روي لام ألف في منافع البن ذكر فيه نيفاً وسبعين خاصية وعدتها نحو الخمسين بيتاً ومنها.
كل البن لا تعدل بينك تنبلا ... لتعلو هب بين الانام وتنبلا
وأشتهر باللطافة وكثرة الزواج ورزق كثيراً من الاولاد مات غالبهم، وكان ضعيف الحال عظيم المقدار قوياً في نفسه والتمتع بحواسه ولقد قارب المائة وهو يفتض الأبكار ويستعمل الحرارات القوية المعينة على النكاح إلى أن قضي نحبه وحط سلبه، وتفقه به خلائق كثيرون كاسماعيل بن إبراهيم العلوي وأخيه أحمد والحافظ ابن ربيع وأبي البركات الناشري وأخيه حافظ الدين عبد المجيد وغيرهم ومن شعره في الفل الأبيض.
زهور الفل تنظرها ابتهاجا ... نجوماً زاهرات في غياض
وما غربت نجوم الليل لكن ... نقلت من السلماء إلى الرياض
وله فيه
أنظر إلى الفل في الأغصان والورق ... ونزه الطرف في رؤياه بالحدق
نزهو حديقته فخراً ببهجتها ... في رفرف أخضر أو أبيض يقق
كأن خضرتها والفل حين بدا ... صحن السماء وفيه أنجم الأفق
ومن شعره في الانيج
ومصفرة الملاة قد جناني ... رحيق الشهد من رشف المحاج
أشبه شامة حمرا عليه ... بفضل الخمر في كأس الزجاج
وله فيه
إذا نظرت إلى العنب اتحسبه ... جاما من التبر فيه فص ياقوت
أو خد عانية يحمر من خجل ... أو قرص عاشقه أدماه كالتوت
ولي في الانيج
يا صاح أن العنب له لذة ... تفوق لذات الفواكه والثمار
ووقت أتيانه لا تنسه ... فهو الذي ينسيك ذات الاستار
ولي فيه
أيام العنب قدست يا أيام ... أذكرتني الراحة وتلك الأعلام
بذلتي الرضاع للناس دهراً ... وما مفجعهم منك إلا الفطام
ولي فيه
العنب سلطان الثمار ... وما سواه الحاشية
فلونه المحمر يحكي ... حسن خد الغانية
وريحه العطر يزري ... بكل طيب وغالية
سنة سبع وعشرين بعد التسعمائة(1/68)
وفي سنة سبع وعشرين توفي الأمير مرجان الظافري وتولي بعده الشيخ عبد الملك بن طاهر. وهذا مرجان هو الذي عمر قبة العيدروس بعدن وهو مدفون معه فيها، وكانت له عقيدة كاملة وحسن ظن زائد في العيدروس نفع الله به. ولقد قال عندما ذكرت عنده كراماته قدس الله روحه: لو شئت أن أملي من كراماته مجلداً لا مليت نقل ذلك العلامة بحرق رحمه الله في كتابه مواهب القدوس في مناقب ابن العيدروس، وكان الأمير مرجان مشهوراً بالشجاعة والكرم متصفاً بمحاسن الأوصاف والشيم. ويكفي في فضله العظيم أن الفقيه بحرق قال في وصفه: الكريم الأمير المؤيد بتوفيق الله تعالى وعنايته المسدد بحفظ الله ورعايته الذي فتح الله بنور الإيمان عين بصيرته وطهر عن سوء العقيدة باطن سريرته وصار معدوداً من الأولياء لموالاته لهم باطناً وظاهراً وحاز من بين الولاة والحكام من التواضع لله والرفق بالفقراء والمساكين حظاً وافراً مرجان بن عبد الله الظافري لا زال على الأعداء ظاهراً وإلى مرضاة مولاه مبادراً.
وفيها: طلب الشيخ عبد الله بن طاهر جدي الشيخ عبد الله العيدروس إلى عدن المحروس فسار إليه من بلدة تريم وأقام عنده مدة نحو ست سنين على غاية التعظيم ثم رجع إلى تريم سنة ثلاث وثلاثين.
سنة ثمان وعشرين بعد التسعمائة
وفي سنة ثمان وعشرين توفي العلامة محمد ابن أسعد جلال الدين الصديق الدواني بفتح المهملة وتخفيف النون نسبة لقرية من كازرون الكاروني الشافعي القاضي باقليم فارس والمذكور بالعلم الكثير وممن أخذ عنه المحيوي اللاري وحسن ابن البقال. وتقدم في العلوم سيما العقليات وأخذ عنه أهل تلك النواحي وارتحلوا إليه من الروم وخراسان وما وراء النهر ذكره السخاوي في ضوئه قال: وسمعت الثناء عليه من جماعة ممن أخذ عني فاستقره السلطان يعقوب في القضاء وصنف الكثير من ذلك. شرح على شرح التجريد للطوسي عم الانتفاع به وكذا كتب على العضدي مع فصاحة وبلاغة وصلاح وتواضع وهو الآن في سنة تسع وتسعين حي ابن بضع وسبعين انتهى.(1/69)
وفيها: سئل الحكيم بدر الدين محمد بن محمد القوصوني بما صورته: ما قولكم رضي الله عنكم ونفع بعلومكم المسلمين في القهوة. هل استعمالها مضرام نافع ؟ وهل طبعها الحرارة، أم البرودة أم اليبوسة، أم الرطوبة ؟ وإذا قلتم بأن استعمالها نافع فما القدر النافع منها، وما المضر ؟ وهل الاكثار منها ضار أم لا ؟ وهل فيها تقوية للباه أم لا ؟ وهل استعمالها على الشبع مضر أم نافع وكذلك استعمالها على الجوع هل هو مضر أم نافع ؟ وهل فيها هضم ؟ وهل استعمالها حارة أولى من استعمالها فاترة، أم عكسه ؟ وهل يضاف إليها شيء من الأشياء عند طبخها أم لا ؟ افتونا مأجورين أثابكم الله الجنة فأجاب: الحمد لله لم أجد ذكراً للبن فضلاً عن القهوة في شيء من كتب الطب التي طالعتها واطلعت عليها والذي نتكلم فيه الآن إنما هو بحسب ما ظهر لنا من آثارها بطريق التجربة فأما هل استعمالها مضر أم لا فنقول: إنه ليس يمكنا الحكم على دواء من الأدوية بأنه نافع مطلقاً، ولا بأنه ضار مطلقاً في كل حال. بل أن أثبتنا له نفعاً في بعض الأحوال فلا ينافي ذلك أن يكون له مضرة في حالة أخرى، وأن يكون غيره أنفع منه في تلك الحال ونوضح ذلك بمثال فنقول: الدرياق الفاروق قد اجمع الأطباء أنه أعظم الأدوية. ومع ذلك لا يمكن أن يقال بنفعه مطلقاً وفي كل حال بل بعض الأدوية المبردة كبزر قطونا للمحموم مثلاً أنفع منه بكثير فبقي أن يقال: إن القهوة كغيرها من الأدوية لها نفع في بعض الأحوال. فأما طبع القهوة فنقول: إن في الكيفيتين الفاعلتين أعني الحرارة والبرودة فالظاهر أنها معتدلة ومايلة إلى البرد قليلاً، ولا يبعد أن يكون لها جزء حار به يكون الهضم ونحوه من أفعالها فإن كثيراً من الأدوية كذلك، وأما في الكيفيتين المنفعلتين فتجدها مائلة إلى جانب اليبس لا نجدها تجفف الأبدان وتغير أصحاب الأمراض اليابسة. وأما القدر النافع منها فهو مختلف بحسب مزاج مستعلمها، وأما هل الإكثار منها مضر فقد قال الأطباء: إن كل كثرة عدو للطبيعة ولا شك أن الإكثار من القهوة مضر خصوصاً بذوي الأمزجة اليابسة. وأما هل فيها تقوية للباه ؟ فنقول: لا يبعد ذلك بواسطة تجفيفها للرطوبات المرطبة للأعصاب فيكون ذلك بطريق العرض، وأما هل استعمالها على الشبع مضر؟ فنقول: قد نهى الأطباء عن استعمال سائر المشروبات عقب استعمال الغذاء لما يفجج الغذاء وينفذه قبل انهضامه. لكن القليل من المشروبات خصوصاً المعينة على الهضم كالقهوة ونحوها نافعة بشرط أن لا تبلغ إلى حد تنفذ الغذاء إلى فجاجته، وأولى ما استعملت القهوة بعد أخذ الغذاء في حالة الانهضام، فأما على الجوع فمجففة تنفع أصحاب الأمزجة الباردة الرطبة وتغير المهزولين ويابسي الأمزجة، واستعمالها فاترة أولى لأنها حينئذ تكون ألذ طعماً وأقوى على النفوذ، وأما هل أنه يضاف إليها دواء عند الطبخ فنقول: لا يتعذر أن يضاف إليها أدوية مصلحة لمزاجها مقوية لافعالها. لكن تخرج عن كونها قهوة وتدخل في جملة الادوية النافعة. ولكن الأولى أن يضاف إليها شيء من السكر أو العسل لباردي المزاج ليعين ذلك على نفوذها والله أعلم قاله بدر الدين محمد القوصوني في المحرم سنة.938
سنة تسع وعشرين بعد التسعمائة(1/70)
وفي سنة تسع وعشرين توفي الفقيه العلامة شهاب الدين أحمد ابن الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بالحاج بافضل وكان مولده يوم الجمعة خامس شوال من سنة سبع وسبعين وثمانمائة وتفقه بأبيه وبالفقيه محمد بن أحمد فضل، وأخذ عن قاضي القضاة العلامة يوسف بن يونس المقري والقاضي أحمد بن عمر المزجد وغيرهما وبرع وتميز وتصدر للإفتاء والتدريس في زمان والده وكان متولياً الاعادة في درس الجامع في زمان والده. ولما مات والده خلفه وصار في عين المكان. وكان فقيهاً فاضلاً حسن الاستنباط قوي الذهن شريف النفس وكان والده يعظمه ويثنى عليه ويشير إليه بالمعرفة في الفقه وحج مراراً، واجتمع في حجته الاخيرة بالشيخ العالم الصالح محمد ابن عراق وكان من رجال الطريق ومشايخ التحقيق فصحبه ولازمه وتسلك على يده، وكان سخياً كثير الصدقة وفعل المعروف محباً للصالحين والفقراء حسن العقيدة فيهم كثير المواصلة لهم مواظباً على الطاعة، ولم يزل على ذلك حتى استشهد في معركة الكفار لما دخل الافرنج الشحر وقتلوا الأمير مطران وغيره وأسروا ونهبوا. وذلك بعد فجر يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الثاني من السنة المذكورة، ودفن عند والده رحمهما الله تعالى ونفع بهما آمين آمين. وله من التصانيف نكت على روض المقري في مجلدين لطيفين، وله نكت على الارشاد في مجلدين لطيفين أيضاً، وله تصنيف حسن في بابه مفيد جداً، وله أيضاً كتاب مشكاة الأنوار وهو غاية الحسن كثير النفع وكفاه شرفاً أن مؤلفه قال في وصفه في أثناء وصيته. وعليك بالأوراد التي علقتها في كراريس سميتها مشكاة الأنوار. عليك بها، عليك بها فاني ضمنتها والله الاسم الأعظم الذي هو اكسير الأولياء. ولكن لا يظهر إلا بالمداومة مع الصيانة والديانة والعفة والسلامة من الوقوع في الشبهات والشهوات، عليك بحفظ مافيها عن ظهر القلب، وله وصية مختصرة ومن كلامه: من كان همه المعالف فاتته المعارف، وكان يعظم السادة الاشراف آل باعلوي جداً. وحكي عنه أنه قال طفت كثيراً من البلدان كمكة المعظمة والمدينة المشرفة واليمن الأنيس وغيرها ونظرت كثيرا من الحجاج ممن يفد إلى بيت الله الحرام من أطراف البلاد وسائر الآفاق وسألت غير واحد من الثقات فما ذكروا لي ولا وجدت في الاشراف مثل آل باعلوي وطريقتهم في الاستقامة والاتباع للكتاب والسنة، ومما كتب به إلى بعض السادة آل باعلوي من جملة مكتوب ما صورته فأنتم أهل الفضل والاحسان ومعدن سر النبوة والفضائل والفتوة. قليلكم كثير حقيركم جليل ضعيفكم قوي مسكينكم غني ولكن أكثرهم لا يعلمون. أوصاف غيركم طارئة وكمالاتكم ذاتية كيف يبلغ شأو الذات فضيلة الصفات هذا إن صحت كيف وقد ساق الله لكم الكمالين نعوذ بالله من الجهل بمعرفة حقكم انتهى.
سنة ثلاثين بعد التسعمائة(1/71)
وفي: فجر يوم الأحد شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وتسعمائة توفي الشيخ الإمام شيخ الإسلام العلامة ذو التصانيف المفيدة والفتاوي السديدة المجمع على جلالته وتحريه وورعه اقضى قضاه المسلمين أوحد عباد الله الصالحين صفي الدين أبو السرور القاضي أحمد بن عمر بن محمد بن عبد الرحمن ابن القاضي يوسف بن محمد بن علي بن محمد بن حسان ابن الملك سيف بن ذي يزن المدحجي السيفي المرادي شهاب الدين الشهير بالمزجد بميم مضمومة ثم زاء مفتوحة ثم جيم مشددة مفتوحة ودال مهملة آخر الحروف الشافعي. الزبيدي ببلدة زبيد، وصلي عليه بجامعها الكبير، ودفن بباب سهام وقبره قبلي تربة الشيخ علي افلح ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى ونفعنا بسره وسر علومه، ورثاه جماعة من أكابر العلماء والأدباء من تلامذته ومعاصريه وعظم الأسف عليه، وكان من العلماء المشهورين وبقية الفقهاء المذكورين واحد المحققين المعتمدين المرجوع إليهم في النوازل المعضلة والحوادث المشكلة، وكان على الغاية من التمكن في مراتب العلوم الإسلامية من الأصول والفروع وعلوم الأدب. وذكروا له كرامات،وهو الذي افتى بحلية البن والقهوة. ولد رحمه الله تعالى سنة سبع وأربعين وثمانمائة بجهة قرية الزبيدية ونشأ بها وحفظ جامع المختصرات ثم اشتغل فيها على أبي القاسم ابن محمد بن مريفد، ثم انتقل إلى بيت الفقيه ابن عجيل فأخذ فيها على شيخ الإسلام إبراهيم ابن أبي القاسم جغمان والطاهر بن أحمد بن عمر جغمان، وأخذ أيضاً عن القاضي عبد الله بن الطيب الناشري، وقال تلميذه شمس الدين الناشري لقد سمعت شيخنا شهاب الدين المشار إليه يقول: ما دخلتني هيبة من أحد قط كما كانت تدخلني بين يدي إبراهيم المذكور انتهى. ثم ارتحل إلى زبيد واشتغل فيها بالفقه على العلامة أبي حفص عمر الفتى ونجم الدين يوسف المقري ابن يونس الجباي وبهما تخرج وانتفع، وأخذ الأصول عن السفيكي والجبائي والحديث عن الحافظ يحيى العامري وعن الصديق الطيب المطيب، والحساب والفرائض عن موفق الدين الناشري والعلامة الحسين الصباحي بتعز وغيرهم وبرع في علوم كثيرة وتميز في الفقه حتى كان فيه أوحد وقته. ومن مصنفاته المشهورة في الفقه: العباب المحيط بمعظم نصوص الشافعي والأصحاب. وهو كاسمه وكما وصفه جامعه رحمه الله إذ قال شعر:
إلا أن العباب أجل سفر ... من الكتب القديمة والجديده
كتاب قد تعبت عليه دهراً ... وخضت لجمعه كتباً عديده
وقربت القصي لطالبيه ... وقد كانت مسافته بعيده
وغصت على الخبايا في الزوايا ... فها هي فيه بارزة عتيده
وكم قد رضت فيه جياد فكري ... ومرت لي به مدد مديده
إلى أن بلغ الرحمن منه ... مرادي من مواهبه المديده
فدونك كنز علم لست تلقى ... مدى الأزمان في الدنيا مديده
وثق بجميع ما فيه فاني ... منحت العلم فيه مستفيده
إلهي اجعله ذخراً وضاعف ... ثوابي من عطاياك الحميده
وجد بقبوله واجعل جزائي ... رضاك وجنة الخلد المشيده
بجاه محمد خير البرايا ... وتنقذهم من الكرب الشديده
وصل مسلماً أبداً عليه ... وعم جميع عترته السعيده(1/72)
وهو على أسلوب الروض. جمع فيه مسائل الروض ومسائل التجريد، وهو كتاب عظيم جامع لأكثر أقوال الإمام الشافعي وأصحابه وأبحاث المتأخرين منهم على الغاية من جزالة اللفظ وحسن التقسيم، ولقد اشتهر هذا الكتاب في الآفاق ووقع على حسنه ونفاسته الاجماع والاتفاق، وكثر اعتناء الناس بشأنه وانتفاع الطلبة به واغتباطهم ببيانه واعتناء غير واحد من علماء الإسلام بشرحه كالعارف شيخ الإسلام أبي الحسن البكري فانه شرحه بشرحين صغير وكبير كتب الصغير أولا وجعله أصلاً وميز فيه المتن من الشرح بخطوط سود ثم كتب على الحواشي زيادات كثيرة وميزها عن الشرح الأول وذكر أن ما دونها شرح صغير وأنها مع الشرح الصغير شرح كبير قالوا. وخط الشارح على غاية من الصعوبة بحيث عجز أكثر أصحابه عن استخراج خطه واستمر الشرح في المسودة لتلك الصعوبة، ثم تصدى بعض الطلبة لتبييض الشرحين المذكورين فبيض حتى وصل إلى نحو ثلث الشرح وانتهى ذلك إلى نحو من تسعين جزءاً، وكذا شرحه شيخ الإسلام أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى إلا أنه لم يتم بل قارب ثلث الكتاب فيما أظن نعم عيب عليه فيه قوله " خلافاً للشيخين " في مواضع متعددة. وقد تقرر أن الذي عليه الفتوى الآن في مذهب الإمام الشافعي هو ما اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي فإن اختلفا فالنووي لأنه متعقب ربما ظهر له ما خفي على الأول الا ما اتفق المتأخرون قاطبة على أنه سهو أو غلط وما عداه لاعبرة بمن خالف فيه. نبه على ذلك خاتمة المتأخرين شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى، وذكر أن هذا هو ما أخذه عن مشايخه وهم عن مشايخهم وهكذا انتهى والله أعلم. وهو في مجلد ضخم، ومنها تجريد الزوائد وتقريب الفرائد في مجلدين. جمع فيه الفروع الزائدة على الروضة غالباً. وكتاب تحفة الطلاب ومنظومة الارشاد في خمسة آلاف وثمانمائة وأربعين بيتاً وزاد على الارشاد كثيراً من المسائل والقيود ونظم أوائله إلى " الرهن " في مدة طويلة ثم مكث نحو خمس عشرة سنة ثم شرع في تتمته فكمله في أقل من سنة. وفتاوى جمعها والده القاضي العلامة بركة المسلمين حسين بن أحمد المزجد ثم جمعها ابن النقيب وزاد فيها من تفقهاته ما لا غنى عنه، وله غير ذلك وتفقه به خلائق كثيرون: منهم أبو العباس الطبنداوي وشيخ الإسلام ابن زياد والحافظ الديبع والعلامة محمد بن عمر بحرق وصالح النماري، وغيرهم من أكابر الأعيان واختلاف أجناس الطلبة من جهات شتى. وله شعر حسن ومنه في الحصن الحصين.
إذا ما خفت من نوب الفنا ... فلازم عدة الحصن الحصين
وثق بجميع ما فيها لتظفر ... سريعاً بالتخلص عن يقين
فقد جربتها فوجدت فيها ... أمان الخائفين من المنون
وفيها برء داء لا يداوي ... وتفريج عن القلب الحزين
ومنه
لا تصحب المرء إلا في استكانته ... تلقاه سهلاً أديباً لين العود
واحذره ان كانت الايام دولته ... لعل يوليك خلقاً غير محمود
فإنه في مهاو من تغطرسه ... لا يرعوي لك أن عادى وأن عودي
وقل لأيامه اللاتي قد انصرمت ... بالله عودي علينا مرة عودي
ومنه
قلت للفقر أين أنت مقيم ... قال لي في محابر العلماء
إن بيني وبينهم لاخاء ... وعزيز علي قطع الاخاء(1/73)
وكان ينظم في اليوم الواحد نحو ثمانين بيتاً مع القيود والاحترازات. وله مرثية عظيمة في شيخه عمر الفتى. قال حفيده شيخ الإسلام قاضي قضاة الأنام أبو الفتح ابن حسين المزجد رحمه الله تعالى: كان جدي رحمه تعالى شرح جامع المختصرات للنسائي في ست مجلدات ثم لمارآه لم يستوف ما حواه الجامع المذكور من الجمع والخلاف القاه في الماء فاعدمه والله المستعان. قال علامة العصر ومفتيه أحمد بن عبد الرحمن الناشري أبقاه الله تعالى: كان القاضي المشار إليه إذا سئم من القراءة والمطالعة استدعا بمقامات الحريري فيطالع فيها ويسميها طبق الحلوى. وولي قضاء عدن ثم قضاء زبيد وباشر ذلك بعفة وديانة وطالت مدته فيها. وحكي أنه لما جاء إلى زبيد وأتى إليه بمعلومها قال: جئنا من عدن إلى عدم وكأنه والله أعلم. وكان غير راض بهذه المرتبة لما فيها من الخطر العظيم وذلك لكمال ورعه واحتياطه في دينه واستحقاره لزهرة الدنيا، ومنصبها وكان على جانب عظيم من الدين حتى قال بعضهم في عصره: لو جاز أن يبعث الله نبياً في عصرنا لكان أحمد المزجد هو ذلك النبي قال النماري: ولما دخلت عليه وشرعت في قراءة العباب لديه أخذتني من دهشته الهيبة العظيمة ما منعني استيفاء ما كنت آلفه من الانبساط في حال القراءة، ففهم ذلك مني وأخذ يباسطني بذكر بلدي وأن منها الشاعر الفلاني الذي قال في قصيدته ما هو كيت وكيت حتى زال عني ذلك الدهش وثابت إلي نفسي قلت: والهيبة من علامات الأولياء ولا يعزب عنك ما مر قريباً من أنه أي المزجد قال: ما دخلتني هيبة قط كما كانت تدخلني بين يدي الفقيه إبراهيم يعني شيخه إبراهيم ابن أبي القاسم جغمان، وبذلك يعلم أنه من وفقه الله ليعظم شيخه قيض الله له من يعظمه من الآخذين عنه. وكان رحمه الله تعالى ملازماً للعزلة والعبادة وتلاوة القرآن والدفع بالتي هي أحسن. ويشهد له بذلك قوله من قصيدة:
فلازم كسر بيتك فهو ادعى ... لبعدك عن قبيح الاعتياد
وسامح أهل عصرك واعف عنهم ... وعش مستأنساً بالانفراد
وقل أقرضتكم عرضي جميعاً ... وقد ابرأتكم يوم المعاد
لكم حق علي ولا أرى لي ... حقوقاً عندكم هذا اعتقادي
لأني عبد سوء ذو عيوب ... يصاح علي في سوق الكساد
وقال النماري: شيخنا المذكور أوقاته مرتبة يجعل أواخر الليل وأول النهار لدرس القرآن، ثم يشتغل بماله من أوراد ثم بالتفسير ثم بالفقه ثم يخرج إلى الحكم إلى وقت الظهر ثم يقيل ثم يشتغل بالاحياء للغزالي ونحوه من كتب الرقائق. وفي آخر النهار ينظر في التاريخ إلى أن يخرج لمجلس الحكم بعد صلاة العصر لأنه كان يجلس للحكم في اليوم مرتين قال الشيخ جار الله بن فهد: انتفع به الناس وأخذ عنه الطلبة واستمر على عظمته ووجاهته حتى مات في دولة الأروام رحمه الله تعالى انتهى. وحكى تلميذه العبد الصالح العلامة المفنن محمد بحرق قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في ثغر عدن وقت السحر وبيده الكريمة كتاب يطالع فيه قال فقلت له: ألك اطلاع يا رسول الله على تصانيف امتك؟ فقال : نعم. فقلت: ما تقول في عقيدة احياء علوم الدين قال: لا بأس بها. فقلت: هل لك اطلاع على تصانيفهم الفقهية؟ قال: نعم: ولم أر أجزل عبارة عن إمام الحرمين وما رأيت مثل مجموع لأبي السرور الذي ضمنه الروض وزاد عليه باقي مسائل المذهب. فوقع ببالي أن المجموع المذكور هو العباب انتهى. وكان بينه وبين سيدي الشيخ القطب شمس الشموس أبو بكر بن عبد الله العيدروس اتحاد كلي، ولكل منهما إلى الآخر ميل قلبي، وكانت بينهما محبة ومكاتبات ومواصلات ومراسلات ومدح هو العيدروس بقصيدة سبقت في ترجمته. وفيه أيضاً يقول العيدروس نفع الله به:
سلام كوبل عم ساجمه ... تفتح عن نور الكمام مباسمه
سلام يفوق المسك في نشر عطره ... ويزرى بذوق الشهد في فيَّ طاعمه
على السيد الحبر العليم شهابنا ... نواوي العلا مفتي الزمان وحاكمه
له في سلوك الدين أوضح منهج ... له من فنون العلم أو فى مقاسمه
لكل زمان عالم يقتدى به ... وهذا زمان لا شك أنت عالمه(1/74)
بمجلسه تجلى العلوم ويهتدي ... به كل حبر ليت من هو ملازمه
يفك عويص المشكلات دراية ... بديهته: تبدي خفي مكارمه
وفيه يقول أيضاً من قصيدة له أخرى شعر:
شهاب العلاغوث الملا هو أحمد ... وقاضي قضاة الوقت في مدة العصر
فيوم له في العلم والفضل والحجى ... يزيد على أعمار سبع من النسر
وفي العلم يم لم يزل متلاطماً ... يجل عن الاحصاء والعد والحصر
ومناقبه كثيرة وترجمته طويلة كبيرة. وقد أفردها بالتصنيف حفيده القاضي أبو الفتح بن الحسين المزجد في جزء لطيف سماه منية الأحباب في مناقب صاحب العباب. وإذا تأملت ما أسلفناه عنه من الأخبار الجميلة والسير الحميدة علمت أنه من العلماء الاخيار الابرار. ولا ينافي ذلك ما كان متلبساً به من القضاء ونحوه فقد ابتلى بمثل ذلك غير واحد من العلماء الصلحاء كشيخ الإسلام تقي الدين السبكي. وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وحسبك أن العيدروس نفع الله به وصفه بهذه الأوصاف الجليلة والنعوت الجميلة. وإذا وقع من مثل هذا الرجل فيه مثل هذا القول فقد أغنى ثناءه عن كل وصف والشهادة منه خير من شهادة ألف ألف، وكان لصاحب الترجمة أربعة أولاد: علي والحسن والحسين وعبد الرحمن وكل منهم افتى في حياة أبيه، ومات منهم اثنان في حياة ابيهما وهما عبد الرحمن وحسن ورثاهما وحزن عليهما. فوفاة حسن سنة تسع وتسعمائة، ووفاة عبد الرحمن سنة احدى عشر وتسعمائة.
وفيها: في ليلة العشرين من شعبان توفي الشيخ الإمام البارع النحوي اللغوي الأديب المفنن القاضي جمال الدين محمد بن عمر بن مبارك بن عبد الله بن علي الحميري الحضرمي الشافعي الشهير بحرق بحاء مهملة بعد الموحدة ثم راء مفتوحة بعدها قاف، وكان من العلماء الراسخين والأئمة المتبحرين اشتغل بالعلوم وتفنن بالمنطوق منها والمفهوم وتمهر في المنثور والمنظوم، وكانت له اليد الطولى في جميع العلوم وصنف في كثير من الفنون كالحديث والتصوف والنحو والصرف والحساب والطب والأدب والفلك وغير ذلك. وما رأيت أحداً من علماء حضرموت أحسن ولا أوجز عبارة عبارة منه، وله نظم حسن وهو أحد من جمع بين ديباجتي النظم والنثر فنثره منثور الرياض جاد بها السحائب، ونظمه منظوم العقود زانتها النحور والترائب.
إن شاء أنشأ نثراً رائعاً وكذا ... إن ود أنشد نظماً يشبه الدررا
وهو الذي يقول هذه الأبيات مجيباً لبعض الفضلاء الممتحنين له من أهل زمانه شعر:
يا من أجاد غداة أنشد مقولا ... وأفاد من احسانه وتفضلا
إن كنت ممتحني بذاك فانني ... لست الهيوبة حيث ما قيل انزلا
وإذا تبادرت الجياد بحلبة ... يوم النزال رأيت طرفي أولا
قسماً بآيات البديع وما حوى ... من صنعتيه موشحاً ومسلسلا
لو كنت مفتخراً بنظم قصيدة ... لبنيت في هام المجرة منزلا
من كل قافية تروق سماعها ... وتعيد سبحان فصاحة باقلا
ويرى لبيد فيها بليد قلبه ... حصراً وينقلب الفرزدق أخطلا
وعلى جرير نجر مطرف تيهنا ... ومهلهلا ينديه نسيح مهلهلا
ولئن تبنا ابن الحسين فانني ... سأكون في تلك الصناعة مرسلا
أظننت أن الشعر يصعب صوغه ... عندي وقد أضحى لدي مذللاً
أبدي العجاب إذا برزت مفاخراً ... أو مادحاً للقوم أو متغزلا
لكنني رجل أصون بضاعتي ... عمن يساوم بخسها مبتذلا
وأرى من الجرم العظيم خريدة ... حسناً تهدى للئيم وتجتلا
ما كنت أحسب عقرباً تحتك بالأفعى ... ولا هيفا يزاحم بزلا
وأنا الغريب وأنت ذاك وبيننا ... رحم يحق لمثلها أن توصلا
ولقد أجاد فيها كل الإجادة ولله دره ولا يبعد أن براعته في الشعر لمعنى ارثى من إمامه الشافعي رضي الله عنه. فقد حكي عنه من ذلك الكثير وكان من فحول الشعراء وهو الذي يقول:
ولولا الشعر بالعلماء يرزي ... لكنت اليوم أشعر من لبيد(1/75)
فائدة " ذكر الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله كتابه مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه قبل ذكر الأشعار المنقولة عن الشافعي مقدمة وهي: إن انشاء الشعر وأنشاده غير مذموم. والدليل عليه النص والمعقول أما النص فماروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنشد من شعر أمية ابن أبي الصلت مائة بيت وقال: أن كاد يسلم، وأستنشد من أبي بكر رضي الله عنه شعر قس بن ساعدة وهو قوله: شعر
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
ولما رأيت موارداً للموت ... ليس لها صادر
وقد تلفظ عليه الصلاة والسلام بمصاريع من أبيات لبيد. منها:
إلا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكان نعيم لا محالة زائل
ومنها قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوده(1/76)
وكان الصديق رضي الله عنه حاضراً فقال: بأبي أنت وأمي لم يقل القائل كذلك. بل قال: ويأتيك بالأحبار من لم تزود، وأما المعقول فالنكتة فيه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه: وهوان الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح ولذلك قال عليه الصلاة والسلام أن من الشعر لحكمة. والمقصود من هذه المقدمة أن لا يقول جاهل أن صنعة الشعر لا تليق بالعلماء المجتهدين. فان ذلك جهل بالشعر لان الشعر اذا كان مشتملا على العلم والحكمة كان اشرف الكلمات انتهى وبالجملة فانه كان آية من آيات الله تعالى وكتبه تدل على غزارة علمه وكثرة أطلاعه، وكان غاية في التحقيق وجودة الفكر والتدقيق، وكان مولده في ليلة النصف من شعبان سنة تسع وستين وثمانمائة بحضرموت ونشأ بها فحفظ القرآن ومعظم الحاوي ومنظومة البرماوي في الاصول والفية النحو بكمالها، وأخذ عن جماعة من فقهاء حضرموت منهم. الفقيه الصالح محمد بن أحمد باجرفيل، ثم ارتحل إلى عدن ولازم الإمام عبد الله بن أحمد محزم،واشتغل عليه في الفقه وأصوله والعربية حتى كان جل أنتفاعه به، وقرأ عليه جميع الفية ابن مالك في النحو، وجميع سيرة ابن هشام وجملة صالحة من الحاوي الصغير في الفقه ، وسمع عليه جملة من علوم شتى، وكذلك أخذ عن الفقيه الصالح محمد بن أحمد بافضل، ثم ارتحل إلى زبيد وأخذ عن علمائها فأخذ علم الحديث عن زين الدين محمد بن عبد اللطيف الشرجي، وعلم الأصول عن الفقيه جمال الدين محمد بن أبي بكر الصائغ، وكذلك أخذ عنه التفسير والحديث والنحو وقرأ عليه شرح البهجة الوردية لأبي زرعة، وأخذ أيضاً عن السيد الشريف الحسين بن عبد الرحمن الأهدل، والبسه خرقة التصوف وصحب الشيخ أبا بكر العيدروس، واخذ عنه وانتفع به فعادت عليه بركته. ولما حج في سنة أربع وتسعين وثمانمائة سمع من الحافظ شمس الدين السخاوي وسلك السلوك في التصوف. وحكي عنه انه قال: دخلت الأربعينية بزبيد فما اتممتها إلا وانا اسمع أعضائي تذكر الله تعالى كلها، ولزم الجد والأجتهاد في العلم والعمل، واقبل على نفع الناس أقراء وافتاء وتصنيفاً. وكان رحمه الله من محاسن الدهر له اليد الطولي في النظم والنثر والخطب وغيرها، وكان غاية في الكرم محسناً إلى الطلبة وغيرهم كثير الايثار محباً لأهل الخير متصفاً بالأنصاف رجاعاً إلى الحق مفضالاً جواداً سيداً قوي النفس مواظباً على أفعال الخير، وتولي القضاء بالشحر فصدع بالحق وحمدت احكامه، وعزل نفسه من القضاء، ثم عزم إلى عدن وحصل له بها قبول وجاه عند اميرها مرجان، ثم لما مات مرجان عزم إلى الهند ووفد على السلطان مظفر فقربه السلطان وعظمه، ولم خبر علمه وفضله زاد في تعظيمه وتبجيله وانزله المنزلة اتي تليق به، ومن تصانيفه تبصرة الحضرة الشاهية الاحمدية بسيرة الحضرة النبوية الاحمدية، والاسرار النبوية في اختصار الاذكار النووية، ومختصر الترغيب والترهيب للمنذري. وكتاب الحديقة الانيقة في شرح العروة الوثيقة، وكتاب عقد الدرر في الايمان يالقضاء والقدر، وكتاب العقد الثمين في أبطال القول بالتقبيح والتحسين، وكتاب الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرسول، وكتاب العقيدة الشافعية في شرح القصيدة اليافعية، وكتاب الحواشي المفيدة على أبيات اليافعي في العقيدة وذكر في كتابه ترتيب السلوك ان له على أبيات الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي ثلاثة شروح بسيط ووسيط ووجيز، ومختصر المقاصد الحسنة، وكتاب حلية البنات والبنين فيما يحتاج إليه من أمر الدين، وكتاب ذخيرة الاخوان المختصر من كتاب الاستغناء بالقرآن، وكتاب النبذة المنتخبة من كتاب الاوائل للعسكري، وكتاب ترتيب السلوك إلى ملك الملوك، وكتاب متعة الاسماع باحكام السماع المختصر من كتاب الامتاع، وكتاب النبذة المختصرة في معرفة الحصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة، وكتاب مواهب القدوس في مناقب ابن العيدروس، وكتاب شرح الملحة للحريري، وشرح لامية ابن مالك في التصريف وهو شرح مفيد جداً وله أيضاً عليها شرح أصغر منه واختصر شرح الصفدي على لامية العجم، وله أيضاً رسالة في الحساب ورسالة في الفلك، والمنظومة في الطب وشرحها وغير ذلك. وبالجملة فمحاسنه كثيرة وفضائله شهيرة ومن مقاطيعه :
انا في سلوة على كل حال ... اذ اتاني الحبيب أو ان اباني(1/77)
اغنم الوصل ان دنى من أمان ... وإذا ما نأى أعش بالأماني
وله أيضاً
لئن بلغ الزوار خيف منى منا ... وامنا برمي الجمر من لهب الجمر
فبالمنحنى من أضلعي والعقيق من ... دموعي إلى التشريق شاركت في الأجر
وذكره السخاوي في ضوئه قال: وصاهر صاحبنا حمزة الناشري على ابنته واولدها وتولع بالنظم ومدح عامر بن عبد الوهاب حين شرع في بناء مدارس بزبيد والنظر فيها، وكان من أولها فيما انشدنيه حين لقيه بمكة وأخذه علي. وكان قدومه ليلة الصعودفحج حجة الاسلام وأقام قليلاً ثم رجع كان الله له. شعر.
أبي الله إلا أن تحوز المفاخرا ... فسماك من بين البرية عامرا
عمرت رسوم الدين بعد دروسها ... فاحييت آثار الآله الدواثرا
فأنت صلاح الدين لا شك هذه ... شواهده تبدو عليك ظواهرا
قال وكذلك أنشدني مما امتدح به المشار إليه بيتاً هو عشر كلمات وهو:
نشرت بحراً براً معيناً ناصراً ... شمس الملوك صلاح دينك عامرا
وضمنه في أربعة أبيات يستخرج منها الضمير من العشر فقال:
ايدت دينك يا رب العلا ابدا ... بناصرلملوك الأرض قد ضهدا
اعني به عامراً شمس الملوك فكن ... نصيره ابداً في كل ما قصدا
وناصراً ومعيناً فهو شمس ضحى ... اخفى نجوم ملوك الأرض منذ بدا
سميته عامراً لما أردت به ... صلاح دينك أرغاماً لمن جحدا
انتهى. وكان السلطان عامر بن عبد الوهاب يراسل الشيخ حسين بن عبد الله العيدروس بقصائد يخبر فيها بأموره ويطلب منه الدعاء فكان الفقيه المذكور يجيبه عنها.
والقصائد مذكورة مع جواباتها مثبتة في كتاب الشيخ أحمد بن الحسين الذي صنفه في أخبار والده في غاية الفصاحة والبلاغة، وأعظم شاهد على فضل الفقيه وما أودعه الله من السر فيه. وذكر الشيخ أحمد في الكتاب المذكور أنه اجتمع بالفقيه بحرق ومدحه وأطنب فيه غاية الأطناب رحمه الله وستأتي قصيدته التي رثى بها الشيخ أحمد ابن أبي بكر العيدروس في ترجمته وهي في غاية الجودة، ومن نظمه الحسن هذه القصيدة المسمطة التي امتدح بها شيخه سيدي الشيخ أبو بكر ابن عبد الله العيدروس نفعنا الله ببركاته. وهي:
سأبيح بالغرام ... كم ذأ تستر بعشيقى
وأرفع ذي اللثام ... أو خذ نصيبي ورزقي
زدني في الملام ... يا عاذلي لا تتبقي
وأشهر ذا الكلام ... في كل غرب وشرق
ما للناس معي ... إذا هويت كل رعنا
وأحنيت أصبعي ... في عشق سلمى ولبنا
واصغى مسمعي ... لكل معنى ومغنا
وسأشرب من مدام ... الحب يا صاح وأسقى
ما في الحب عار ... كلا ولا فيه من باس
سأخلع ذا العذار ... وأحمله شهري على الراس
وأعصي من أشار ... وأترك رضا الناس للناس
من كان مستهام ... مثلي فيأتي بشقي
والله العظيم ... لا أرعوي للعواذل
لي رب كريم ... بجوده الكل شامل
كرر يا نديم ... من مطربات البلابل
حدك يا غلام ... الدف من كل طرقي
سأصرح وأقول ... عشقت زيد المسما
وأغنم ذا القبول ... من قبل أما وأما
ما للناس فضول ... من هابهم مات غما
دعهم في سلام ... يسعد حد الله ويشقى
سأنثر في الجلوس ... عقود در وعقيان
في ابن العيدروس ... عالي المقامات والشان
منفوس النفوس ... ومنتهى كل إنسان
طال عمره ودام ... لكل فتق ورتق(1/78)
وله قصيدة عظيمة سماها العروة الوثيقة في الجمع بين الشريعة والحقيقة أجاد فيها إلى الغاية وشرحها شرحاً سماها الحديقة الانيقة. وقد مر ذكره عند مؤلفاته، وقد كتبت عليها أيضاً شرحاً مختصراً سميته الحواشي الرشيقة على العروة الوثيقة. وله هذا اللغز وقد حله بالنثر بعده وهو مذكور بعبارته قال شعر:
يا متقناً كلمات النحو أجمعها ... حداً ونوعاً وافراداً ومنتظمه
ما أربع كلمات وهي أحرفها ... أيضاً وقد جمعتها كلها كلمة
ثم قال هذا في تمثيل الوقف على هاء السكت أي قولك كلمد فالكاف في في قولك كلمة للتمثيل واللام للجر والميم أصلها ما الاستفهامية حذفت الفها والهآء للسكته. ووجدت بخطه ما صورته: فرع لو صدر منه لفظ محتمل للطلاق فظنه طلاقاً أو أفتاه جاهل بوقوع الطلاق البائن فاقر عند الشهود انه طلقها أو أنشأ طلاقاً آخر مع اعتقاده انها قد بانت باللفظ الأول. لم يؤاخذ باقراره ولم يقع طلاقه الثاني لانه مبني على ظن فاسد والله اعلم. قال محمد بن عمر بحرق الحضرمي كان الله له. ومن كراماته ما حكي انه حضر مجلس بعض الوزراء بالهند وكان في ذلك المجلس رجل من السحرة فبينما هم كذلك إذ أرتفع ذلك الساحر وقعد في الهواء قال: فوقع عندي من ذلك واستغثت بالنبي صلى الله عليه وسلم واومأت إليه بفردة من حذائي فما زالت تضربه إلى ان رجع إلى مكانه بالارض وحكي أنه وقع بينه وبين بعض وزراء السلطان بحث فاحتقره ذلك الوزير فتعب الفقيه من ذلك ودعا عليه فنهب بيته في ذلك اليوم وأخذ جميع ما كان فيه. فجاء إلى الفقيه معتذراً ومستعطفاً ووصله بشيء، وطلب منه الدعاء فحسب انه فعل ذلك. واذا بالخبر يأتيه من عند السلطان بالاجلال والتعظيم ويرد جميع ما نهب له وان الذي وقع من ذلك انما كان غلطاً فانه انما امر بنهب بيت غيره فرد جميع ما أخذ له. وحكي ان ام الفقيه كانت من جواري الشيخ عبد الله العيدروس فيرون ان تلك البركة كانت فيه بسببها. وحكي انه مات بالسم والسبب ذلك انه حظى عند السلطان إلى غاية فحسده الوزراء على ذلك فوقع منهم ما أوجب له الشهادة وناهيك بها من سعادة. ومن أحسن ما قيل فيه هذا الدوبيت لبعضهم يمدحه:
لأي المعاني زيدت القاف في أسمكم ... وما غيرت شيئاً إذا هي تذكر
لانك بحر العلم والبحر شأنه ... اذا زيد فيه الشىء لا يتغير
ومثله قول الآخر فيه أيضاً:
فانت بحر وقاف ماله طرف ... محمد أسمك المعروف موصوفا
سمي خير الأنام الطاهر من مضى ... يهناك يهناك هذا الفخر تشريفا
وفيها:توفي الشهاب أحمد بن سليمان بن محمد بن عبد الله الكناني الحوراني المقري الحنفي المغربي نزيل مكة ببلدة غزة، ودفن بها، وولد في حدود الستين وثمانمائة بغزة ونشأ بها فحفظ القرآن ومجمع البحرين وطيبة النشر وغيرهما وأشتغل بالقرآات وتميز فيها وفهم العربية وأشتغل فيها، وقطن مكة على خير وأنجماع من تحرز وتبجل كذا ذكره السخاوي قال: وقد لازمني في الدراية والرواية وكتبت له إجازة وسمعته ينشدني نظمه. شعر:
سلام على دار الغرور لأنها ... مكدرة لذاتها بالفجائع
فإن جمعت بين المحبين ساعة ... فعما قليل اردفت بالموانع
قال: ثم قدم القاهرة من البحر في رمضان سنة تسع وثمانين، وأنشدني من لفظه قصيدتين في الحريق والسيل الواقع بالمدينة ومكة وكتبهما لي بخطه وسافر لغزة زيارة امه وأقبل عليه جماعة من اهلها. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله: وبعد المؤلف اجتمعت به في غزة سنة اثنين وعشرين وتسعمائة وهو يعظ بها ويخطب نائباً بجامع الأشرف قايتباي فيها ويقري الأبناء مع فقره وفضله وحسن نظمه، وكتبت عنه بعضه وقال لي أنه اقام بمكة ثلاثة عشر سنة وتردد إلى المدينة واليمن وزيلع، وأخذ عن جماعة فيها وفي القاهرة، وهو مبارك متقشف نفع الله به.
وفيها: توفي الشريف بركات بن محمد سلطان الحجاز والد الشريف أبي نمى
سنة إحدى وثلاثين بعد التسعمائة(1/79)
وفي سنة إحدى وثلاثين عند طلوع فجر ليلة الجمعة مستهل شهر رمضان توفي الشيخ العلامة عبد الحق بن محمد بن عبد الحق السنباطي القاهري الشافعي ويعرف كأبيه بابن عبد الحق بمكة فجهز في يومه، وصلي عليه عند باب الكعبة عقيب صلوة الجمعة بعد النداء له على زمزم، وشيعه خلق بحمل جنازته على الرؤس وطابت برؤيتها النفوس ودفن بالمعلاه، ورثاه جماعة بمراثي مطولة منهم تلميذه الأديب الزيني عبد اللطيف الديري الأزهري وقال مضمنا لتاريخ وفاته في ثلاثة أبيات وهي:
توفي عبد الحق يوم عروبة ... بمكة عند الصبح بدء تمامه
قضى عالم الدنيا كأن لم يكن بها ... سقى الله قبراً ضمه من غمامه
وزد إحدى فوق الثلاثين مردفاً ... بتسع مئين وأجعله عام حمامه
وفجع الخلق بموته وكثر الأسف عليه وبالجملة فانه كان بقية شيوخ الأسلام وصفوة العلماء الأعلام، وكان مولده في أحد الجمادين سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة بسنباط، ونشأ بها فحفظ القرآن والمنهاج الفرعي ثم أقدمه أبوه القاهرة في ذي القعدة سنة خمس وخمسين فحفظ بها العمدة والألفيتين والشاطبيتين والمنهاج الأصلي وتلخيص المفتاح والجعبرية في الفرائض والخزرجية وعرض على خلق كالجلال البلقيني والمحلي وابن الهمام والديري أبي الفضل المغربي والولي السنباطي والبدر البغدادي، وجد في الأشتغال فأخذ عن الأولين يسيراً والفقه عن المناوي ولازمه والعبادي. ومن قبلهما عن الجلال البكري والمحيوي الطوحي، وكذا أخذ فيه عن الفخر فلان والدين زكريا والجوجري. والأصلين عن التقي الشمني الحصني والأقصري والشرواني، وأصل الدين فقط عن زكريا وأصل الفقه فقط السنهوري، وكذا أخذ عنه وعن النفيس والنورالوراق والآمدي العربية، وعن الحصني والعز عبد السلام البغدادي الصرف، وعن الشرواني والسنهوري والنفيس المعاني والبيان، وعن الوراق والسيد علي الرضي الفرائض والحساب، واليسير من الفرائض فقط عن أبي الجود وعن الشرواني قطعة من الكشاف وحاشيته، وعن السيف الحنفي قطعة من أولهما وبعض البيضاوي عن الشمني، وشرح الفية العراقي بتمامه عن الزين قاسم الحنفي، والكثير منه عن المناوي والقرآات بقراءته أفراد الغالب السبع وجمعاً إلى أثناء الأطراف عن النور الإمام وجمعا، فأما عن ابن أسد بل قرأ على الشهاب السكندري يسير النافع إلى هؤلاء وبعضهم في الأخذ أكثر من بعض، وجل أنتفاعه بالتقي الحصني ثم الشمني، ومما أخذه عن حاشيته على المغني والشروان، وأجاز له شيخ الاسلام الن حجر العسقلاني والبدر العيني والعز بن فرآت وآخرون. فإذن له غير واحد بالتدريس والأفتاء، وولي المنصب الجليلة في أماكن متعددة. كتدريس الحديث في موضعين ومشيخة الصوفية، وغير ذلك وتصدى للقراء بالجامع الأزهر وغيره وكثر الآخذون عنه، وحج مع أبيه وسمع هناك يسيراً ثم حج بعده في سنة اثنين وثمانين وجارو بكة في السنة التي تليها ثم بالنبوية التي يليها ثم بمكة أيضاً، وأقرأ الطلبة بامسجدين متوناً كثيرة، بل أقرأ بجانب الحجرة النبوية غير واحد من الكتب، ثم رجع فاستمر على الأقراء والأفتاء هذا مخلص ما ذكره السخاوي قال: وهو على طريقة جميلة في التواضع والسكون والفعل وفي أزدياد من الخير بحيث أنه الآن أحسن مدرسي الجامع قال: الشيخ جار الله بعد فهد: وبعد وفاة المؤلف سنة ثلاث وتسعمائة عاد لمكة من الحاج وأقام بالقاهرة يدرس الفقه والحديث وكنت أحد القراءة عليه بل لا يخلو ساعة من النهار مع ضعفه بالمرض وكبر سنه وكثرة عائلته وقلة ما بيده. ثم توجه إلى المدينة في أثناء جمادى الأولى، وأقام بها إلى آخر رجب، ثم رجع لمكة وسافر مع الحاج قال: ثم ملك كتبه لاولاده ونزل لهم عن وظائه، وتخلى عن الدنيا وتكفل به أولاد الثلاية فانتفع به خلائق لا يحصون، ثم عاد لمكة في موسم سنة ثلاثين بأولاده وعائلته وأقاربه وأحفاده ليموت بأحد الحرمين فانتعشت به البلاد وأغتبط به العباد فأخذ الناس عنه طبقة أخرى والحق والأحفاد وبالأجداد. وأجتمع فيه كثير الخصالص الحميدة كالعباد والعلم والتواضع والحلم وصفاء الباطن الباطن والتقشف وطرح التكلف بحيث علم هذا من طبقه كل من اجتمع به ولا زال على جلالته وعظمته إلى أن توفي رحمه الله.
؟سنة اثنين وثلاثين بعد التسعمائة(1/80)
وفي يوم الأربعاء سابع صفر سنة اثنين وثلاثين توفي الشيخ الكبير والعلم الشهير قطب العارفين وسلطان العاشقين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الودي الشهير بالهادي اليمني بتعز وقبره مشهور بها يزار عليه قبة عظيمة، أحد الأولياء الكبار والمشايخ المشهورين في الأقطار، وأحد من تنزل عند ذكرهم الرحمة، وكان من العلماء الراسخين والأئمة المتبحرين ودرس وأفتى، ثم طرأ عليه الجذب وصدرت منه أمور تدل على أنه من العارفين بالله ورويت عنه كرمات، وله ديوان مشهور وشعر رائق على طريقة أهل التصوف، ونظمه هذا ما وقع إلا بعد الجذب. وحكي أنه كان ما يقوله إلا في حال الوارد مثل ابن الفارض. فكان يكتب بالفحم فوق الجدران فإذا أفاق محي ما كتبه من ذلك وكان فقراءه بعدان علموا منه ذلك يبادرون بكتب ما وجدوه من نظمه الجداران فيجمعونه بعض إلى بعض. وحكي أن بعض المنشدين أنشد بين يديه قصيدة من نظمه فطرب لها وتمايل عليه ثم سأل عن قائلها فقيل أنها من نظمك فأنكر ذلك، وقال: حاشا ما قلت شيئاً حاشا ما قلت شيئاً، وكان مولعاً بشرب القهوة ليلاً ونهاراً، وكان يطبخها بيده وكان لا يزال قدرها بين يديه وقد يجعل رجله تحتها في النار مكان الحطب، وكان كلما يأتي إليه من النذورات أن كان بمن المأكولات طرحه فيهها، أو من غيرها أو قد به تحتها كائناً ما كان من ثوب نفيس أو عود أو غير ذلك. وقيل أن السلطان فغضب، وأرسل يطلبها منه فأدخل يده في النار وأخرجها كما كانت ودفعها إليهم. وقد اشار إلى هذا الشيخ عبد المعطي بن حسن با كثري في قصيدته التي عارض فيها شيخ الاسلام أبا الفتح مالكي وكلاهما مدحا بالقوة فقال:
قهوة البن جل مقصودي ... في الخفا والعلن
هام فيها أمامنا السودى ... قطب أهل اليمن
وطبخها بالند والعودي ... وبغالي الثمن
من ثيابه حرير مع قطن ... فاخر الملبس
وبذاكم خوارق تثني ... عليه لم تدرس
وحكي أنه كاد يقرأ في الفقه على بعض العلماء فلما وصل إلى هذه المسئلة " والعبد لا يملك شيئاً مع سيده " كرر هذا السؤال على شيخه كالمستفهم وأعترته عند ذلك هيبة عظيمة وبهت وحصل عيه الجذب. وبالجملة فإنه كان آية من آيات الله وأقواله تدل على حاله في المحبة ومقامه في المعرفة، وكذا تدل على تففنه في العلوم الظاهرة مثل النحو والبديع والمعاني والبيان وغير ذلك، وعلى أطلاعه على الأخبار السالفة والأمثال السائرة. حتى كأنما جميع العلوم والمعاني كانت ممثلة بين عيني يختار منها التي يريد ولا يعدل عن الشيء إلا ما هو خير منه وعلى نظمه قبول عجيب فيه تأثير غريب فأنه السهل المنتع بفهمه كل واحد من متانة عبارته وتتأثر به الناس غالباً ويكثر عليه وجد المتواجدين بل قيل: أنه فارضى اليمن وهو رقيق جداً تقبله الطباع وبفهمه الخاص والعام ويذكر الأوطان ويهيج الأشجان فهو في رقته يشبه كلام التلمساني والحاجري رحمه الله تعالى.
شاهد جمال محيا غاية الطلب ... تظفر فديتك بالاعلى من القرب
ولا تكن عن حياة الروح مشتغلاً ... بالتراهات فما هذا من الأدب
والحظ محاسن تسبي العقل أجمعه ... من السرور بها والأنس والطلب
وخلص القلب من أن أكون غربته ... وأدخل حمى ربة الأستار والحجب
وأنس العلوم وما قد كنت تكتبه ... فمحوه واجب من كل مكستتب
وأنهض إلى العالم الأسنى على ... قدم التجرد لا تلتقت يوماً إلى سبب
وأصرف على حسن من تهوى وصالهم ... جسماً وروحاً وهذا ليس بالعجب
ولا ترد عوضاً عنهم إذا قبلوا ... فالكل ملكهم م فهت بالكذب
ما أنت لولاهم أجروا عنايتهم ... عليك إلا محل الشك والريب
لو لا تعرفهم ما كنت تعرفهم ... ولا رفعت إلى شيء من الرتب
هم أهلوك لهم جوداً ومكرمة ... وبلوغك التي ترجوا من الأدب
سافر إلى حصرة عليا مقدسة ... تصح من ألم الأغيار والنصب(1/81)
ومن مقالك لم هذا وكيف وهل ... لا كان هذا مقال الجهد والعطب
وكن عبيداً لهم لا تعرترض أبداً ... وأضمم جناحك مع هذا من الرهب
وأن بدا وجه ذات الخال صل له ... وأسجد كما جاء في القرآن وأقترب
أشطح على سائر النساك أن عدلوا ... وقل لمن لام من عجم ومن عرب
فنيت عني بها يا صاح إذ برزت ... وغبت إذ حضرت حقاً ولم تغب
فما أبالي إذا ما لمتني أبداً ... وربما ذقت طعم اللوم كالضرب
ومنه
يا عرب نجد انتم لي فتنة ... وبطيب ذكركم الذ وأطرب
وأغيب عن كلي وحقكم بكم ... وعذا بكم يحلوا لدي ويعذب
وإذا شهدت جمالكم وجلالكم ... فجميع ما يحوي الوجود مغيب
رمدت عيون ليس تلحظ حسنكم ... هل ظاهر عن غبري اعمى يحجب
روح بحبكم تحلى جيدها ... عنها المعارف كلها لا يعرب
يا سادتي بل يا أحبة مهجتي ... كم ذا عن الربع الانيس تغرب
أن دام هذا الهج ها أنا ميت ... حاشا يضام نزيلكم ويخيب
ومنه
يا سادة ما عنهم مذهب ... في حبكم لي مذهب مذهب
قد رام مني عاذلي تركه ... لكنه فيما نوى أشعب
من أين تسلوا عنكم مهجتي؟ ... وفيكم الأمثال بي تضرب
يا ساكني يا وادي عذيب الهوى ... تعذيبكم كالشهد يستعذب
بددتم شملي فياهل ترى ... بعد الجفا يصفو لي المشرب
استودع الله الزمان الذي ... ما فارقت ربعي به زينب
ناشدتك الله يا نسيم الصبا ... من أين هذا لنفس الطيب
هل أنت من ليلى بشير الرضا ... أم أنت عن اسرارها تعرب؟
أو جذت في روض به قد مشت ... ام ثغرها قبلك الأشنب؟
فهات اطربني بأخبارها ... فعهدك اليوم بها اقرب
عجبت دهراً من رجال صبوا ... فاليوم منى عجبي يعجب
يا أهل نجد هذه قصتي ... لكن إليكم منكم المهرب
ومنه
معاذ الله أن أسلوا عربياً ... هو أهم في الحشى أرسى خيامه
ثملت بهم وما خامرت خمراً ... ولا دانيت أديان المدامه
رعى الله إلا بيرق والمصلى ... وبان الحي ما سجعت حمامه
فتلك مواطن الصب المعنى ... بها الأرواح صارت مستهامه
على عرب بها مني سلام ... يكون المسك من قبلي ختامه
ومنه
ليس عند الخلق من خبر ... عنك يا أغلوطة الفكر
تاهمت الألباب فيك وما ... ميزت ورداً من الصدور
حيرة عميت انباء ذاك على ... كل من في البدو والحضر
وغدا يسأل بعضهم ... عنك بعضا عل من ظفر
فاثنوا والله ما وقعوا ... لا على عين ولا على أثر
بل عظيم القوم مطلبه ... شدة التحيير والحصر
كيف حاروا فيك واعجباً ... يا منى سمعي ويا بصري
أنت لا تخفي على أحد ... غير عشق الفكر النظري
أو على شخص به كمه ... لم يشاهد صورة القمر
بالظهور الصرف محتجب ... أنت هذا صح في الأثر
أنت فيهم ظاهر وبهم ... وهو لو لا بقاء الأثر
لو تلاشت عنهم ظلم ... وانمحوا عن عالم الصور
شاهدوا معناك منبسطاً ... سارياً في سائر الفطر
ودروا أن الحجاج هم ... عن شهود المنظر النضر
وقضى يعقوب حاجته ... وانتهى زيد إلى الوطر
ومنه
ثق بمولاك في جميع الأمور ... وأحسب الناس كلهم في القبور
وارج منه العطا لا من سواه ... فهو يوليك كل فضل وخير
لا تعول إلا عليه تعالى ... عن شريك في ملكه وظهير(1/82)
كل من في الوجود كل عليم ... ليس يرجون غيره من نصير
عنده ما تروم كل خير ... جل من خالق عظيم قدير
فالزم باب لا تحل عنه يوماً ... لم يفز غيره من حظى بالحضور
فهو باب مجرب للأماني ... فيه ما شئت من منى وسرور
حسبي الله من جميع البرايا ... وكفى عن غنهم والفقير
هو غوثي إذا طلبت غياثاً ... ومعيني على المراد والخطير
عم بالفضل كلع بد وحر ... فهم بين حامد وشكور
وصلاة الاله في كل يوم ... وأوان على البشير النذير
ومنه
يا مقعد العزمات يا عبد الهوى ... يا بانيا والبين يهدم ما بني
ذرني أعلمك الهوى وفنونه ... وأشتم نفاسي يزل عنك العنى
فأنا أمام جيوشه وجنوده ... وأنا الدليل لهم على كنز الغني
لي في الغرام حقائق ودقائق ... من نالها أو بعضها نال الهنى
يا نازلين عى منى وحياتكم ... ليس القتيل بحبكم إلا أنا
أنتم سكنتم في سويدا مهجتي ... لم لا اصري لسركم كلي أنا
لكم الجمال بديعه وغريبه ... والحب لي ماشط منه وما دنى
يا من أعيذ جمالهم بجلالهم ... ما كان فيه رضاكم فهو المنى
لا تحسبوني خائفاً من هجركم ... أو راجياً لدوام وصل يجتنى
هيهات لي شغل بكم عن ذا وذو ... طبنا بكم لو لاكم طبتم بنا
لو لاكم ما شاقني بان اللوى ... كلا ولا وادي النقا والمنحنى
وقد خمس هذه القصيدة سيدنا ومولانا وشيخنا وأستاذنا العارف بغوامض الحقائق الجامع للطائف أسرار الدقائق المعرب عن مغيبات الأسرار المغرب بلدنيات الأخبار مظهر الصفات الازلية مهبط الرحمات الأبدية شيخنا السيد حاتم بن أحمد الأهدل أعاد الله علينا من بركاته آمين تخميساً بديعاً بحيث يظن انها لواحد. وكان السيد حاتم المذكور من آيات الله الكبرى وأعجوبة الزمان الذي بها الورى. ليس له نظير في أحواله وأقواله ومقاماته، وكانت له يد في جميع العلوم لكن غلب عليه علم التصوف. فكان ابن عربي زمانه وبومي أو أنه لم ير نفسه ولا راى الرؤان مثله في كماله وبراعته، جمع بين علمي الشريعة والحقيقة وشرح احسن الشرح اصول الطريق، وكانت له أحوال فاخرة وكرامات باهرة، ظهرت بركات أنفاسه على خلق كثير من العصاة فتابوا وأنابوا إلى الله تعالى، ووصل به خلق عظيم إلى الله عز وجل، وصار له أصحاب واتباع كالنجوم. وبالجملة كان قطب زمانه وسيد وقته وسر الله بين خلقه، والتطويل بذكر كراماته تطويل في مشهور وإسهاب في معروف. وكنت أحب لقاءه وأحدث نفسي به وأنا شغف بحبه كلف بقربه فعاق دون لقائه بعد الشقة وضعفي عن تحمل المشقة، وتأسفت بعد موته جداً حيث لم أكن ذهبت إليه، وفزت من علومه ومعارفه فيما بقي من عمره بما يخرج فضله عن الحد والحصر. وما علمت أني أصبحت في عمري بمثل مصابي به، ولكن الله سبحانه وتعالى غالب ومطلوبه لا يخرج عنه من الطالبين كالب، وكان قد وصلتني منه قبل وفاته بنحو تسع سنين مكاتبة جواب كتابي إليه. فلما حصل اليأس من الاجتماع به أنشدت في ذلك هذه الأبيات:
أفدي زماناً نعمت به ... ثغر الزمان كان فيه باسم
عصر الشباب له رونق ... سيما إن لم يكن الخل فيه راحم
حظيت فيه بورود خطابه ... وكان مكتوبه خير قادم
كنا نؤمل ونرجو دائماً ... لقاه والله في أشرف المواسم
فشح باللقا وحرمته ... واعجباه من بخل حاتم
حاشا علاه حاشاه ان ... يحرم الراجي المكارم
لئن قصرت في قصدي له ... فقد كنت في ذكرى له دائم
اسأل الركبان عنه أبدا ... وشغفي به لا يزال ملازم
وكان شوقي لرؤيته متزايداً ... وكان حبي لذاته متقادم(1/83)
ومع هذا فاشتغالي بسواه ... كان والله من أعظم الجرائم
كذا وتشويقي بلقاه ... كان والله من أعظم العظائم
لقد أصبت بفقده مصاباً ... ما أظن أصيب بمثله العوالم
نسخة ما كتبه ومن خطه الشريف نقلت بحروفه: بسم الله الرحمن الرحيم. حمداً لك يا من عم الخلق احسانه، وشكراً لك اللهم على ما اسليت من بركة الإيجادوالوجود، وأنعمت من المدد المتوالي امكانه والصلاة والسلام على من خص بالسبق في ميادين الشهود، وعمم ارساله فلم يشذ عن أمره ونهيه من وسم برسم الوجود. فهو السابق لي مجالي الأرواح، والفاتق رنق حضرة الواحدية لظهور الاظهار وبروز الأشباح، صلى الله وسلم عليه صلاة لا غاية لها ولا انتهاء ولا أمد لها ولا انقضاء، ما دامت التجليات الذاتية مدار الحضرات الصفاتية، وما قبلت القوابل الأحمدية فيوض الكمالات الالهية من الأسرار المحمدية والأنوار القاسمية، حتى يظهر الاسم الظاهر بكماله في ذات مولانا وسيدنا الشريف الولي المقرب عبد القادر العيدروس ظهوراً ملتحقاً بالجمال لجلاله متعجراً بالمجد الباذخ المجيد بنواله فينشد لسان حاله في مرتبة كماله معرباً عن حاله مغرباً عن مجاله. شعر:
ليس بي حاجة إلى ... ظاهر من علومه
قد كفاني بذاته ... عن مباني رسومه
وصل كتابكم فشرح صدر التصوف، ونور جهات التعرف. فافعم قوابل الأعيان بما أفاضه من نفس الرحمن، ووصلت الطاقة البيضاء وحصل بوصولها للفقراء غاية الانس والرضاء، وذكرتم يا سيدي أنكم أرسلتم بأوراق وكراريس إلى الفقير والى العلامة عبد الملك فلم يقف الفقير على ذلك وربما أن مولانا الفقيه يرى قصور الفقير عن ذلك. وأما مولانا الفقيه امام المصنفين وعلامة المؤلفين فلا تؤاخذوا عبدكم في التقصير لأن العجز حرفتي والضعف صفتي وبي حاجة إلى دعائكم فاجعلوه صلتي والسلام. هذا والشوق إلى رؤية وجهكم السعيد كل يوم يزيد فتوجهوا بقلبكم الواسع الوحداني إلى جهة عبدكم لتطفح عليه بركات أنفاسكم فتقوى روحه على السريان، ويتسع قلبه لمشاهدة الماضي والمستقبل في الآن فيعود ناشراً برود الثناء على حضرتكم الشريفة، ويستمر على وظيفة الدعاء لذاتكم اللطيفة، وانظروا إليه ببسط وجولان ويسرح من قبضة الكون لموجوداته فيخرج عن المكان إلى عالم الامكان، ولا يحصره الزمان بعد اطلاعه على حضرة الأعيان هذا ليس الخبر كالعيان، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. ومن حضر حضرتكم الشريفة فهو مخصوص بجزيل السلام: العبد الفقير حاتم بن أحمد الاهدل لطف الله به آمين. قلت وأرجو من الله بركة هذه الاشارات المتضمنة للبشارات. ولله در من يقول شعر:
قد سمعت الفال ابشر بالهنا ... زال والله التنائي والعنا
وأتاني قائل نلت المنا ... صح هذا الفال
غيره
توسل بأنفاس الكرام لربهم ... إذا رمت مطلوباً وعزت وسائله
فهم شفعاء الخلق في باب عزه ... وما خاب راجية لديهم وسائله
واني لأرى النسبة إلى هذا الرجل العظيم والسيد الكريم من أجل ما أنعم الله به علي، واجمع ما وصل من الطاقة الي. ولي فيه قصائد متعددة. منها أبيات التزمت فيها أن يكون يخرج منها من أوائل السطور اسمه الشريف وهي:
" ح " حمام الايك بالله اسعدينا ... ورددي البكا حيناً بعد حينا
" أ " أفي نجد حزنك فلا تلامي ... وعمرو الله أني مثلك حزينا
" ت " تناءت داري فحرمت وصالهم ... وصرت بعد اغتباطي مغبونا
" م " ما أرى لي في وجدي شبيهاً ... وايم الله ذا حقاً يقينا
ومنا ابيات كنت قلتها فيه في حياته وهي:
وباعى به قلبي صار مولعاً ... فجاء الحياة قد حوى السر اجمعا
وثانية ألف الابتداء تبع له ... وثالثه تاء التمام المبدعا
وفي آخره ميم يدل بأنه ... وريث النبي الهادي سراً ومترعا
وآخره مبدأ اسم نبيه ... دليل أنه من سره قد تضلعا
لأن بدايات النبي نهاية ... الولي فما أجل ذاك وأرفعا(1/84)
وللسيد المذكور نظم كثير وجمع اخواننا من أصحابه منه ديواناً كبيراً فكان يقوله وقت الوارد، وبلغني أنه كان إذا ورد عليه الوارد يبقى يملي عليهم وهم يكتبون وهو يجري في ذلك مثل السيل. وما من معنى أشار إليه أئمة الطريق مما يتعلق بالذات المقدس أو الصفات المنزهة أو بالذات المحمدية والصفات النبوية إلا وله فيه القول إلا بلغ واللفظ الأفصح إلى غير ذلك من الأشعاؤ اللطيفة على لسان الطريقة. ومن شعره:
إني علمت بأن فضلك واسع ... بكن ذنب العبد يورثه البكم
ولقد بدأت بنعمة الايجاد ... والامداد فالاسعاد خاتم الكرم
ومنه
الفقر والذل في صفاتي ... والعز يا رب والغنى لك
كمل سماتي جمل صفاتي ... كمال ذاتي دعى كمالك
ومنه
حقائق الحق قد تجلت ... للخلق في الحق بالمجال
ما الخلق إلا كواو عمرو ... رسماً ولكن بلا محال
ومنه هذه القصيدة العظيمة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
سعدت برؤية وجهك الابصار ... وتسابقت في مدحك الأفكار
وسرت نوافح رحمه الرحمن في ... كل الوجود فغيثها مدرار
وبك استنار وجود كل مكون ... واضاءت الأقطار والأمصار
علم تعين بالنبوة وصفه ... من قبل آدم خصه الجبار
فبآدم الأسماء سمت ولك اقتض ... ت ذات المسمى وانقضت أوطار
من قبل قبض تراب طينة آدم ... حزت الفخار أفوق ذاك فخار؟
ما زلت تبني بالعلوم عوالم إلا ... رواح في ذاك المقام بحيث لا يختار
فظهرت عن غيب الغيوب لحضرة ... فيها استوى الاعلان والاسرار
بطنت بما ظهرت وقد ظهرت ... بما بطنت فواحدها بها قهار
صمدت حقائقها لحقك فاقتضى ... منك الظهور لخفائها اظهار
وتنزل الأمر العلى معدداً ... بمظاهر كملت بها الأدوار
حظيت بك الاملاك في ملكوتها ... ولعالم الجبروت منك منار
وادار جودك في وجودك دورة ... ظهرت بها الأسماء والآثار
نسخت شريعتك الشرائع وانطوت ... في ضوء نور كتابك الأسفار
وخصصت بالقرآن ذكراً جامعاً ... من قبضه تتفجر الأنهار
منه علوم الأولين جميعها ... والآخرين حباكها المختار
لولاك ما علم العوالم عالم ... كلا ولا طارت به الأطوار
كانت جميع الكائنات كصورة ... الروح فيها أنت يا مختار
ان البها الملك والملكوت ... والجبروت أفلاك عليك تدار
بك سار سر الروح في حضراته ... وتبهجت بحديثك الاسمار
من نورك الأنوار قد وجدت ... وفي ارسائك الأنوار والأسرار
وبقاب قوسين استوت وتكملت ... في ذلك الأسرار والأنوار
لمقام أو أدنى أراك لوجهه ... رب العلى وحباك ما تختار
أوحى إليك بذاته وصفاته ... كشفاً ولا حجب ولا أستار
شاهدت بالنص المحقق ذاته ... لاحد يحويه ولا مقدار
من غير لا جهة ولا كيف ولا ... حجب تعالى الواحد القهار
فرفلت في حلل البقاء مؤيداً ... بالحق كشفاً ما عليه غبار
صلى السلام عليك والآل الذي ... آلو إليك فكلهم أبرار(1/85)
وله علام عال في التصوف. وهذه نبذة من الجوابات عما سئل من السؤلات، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لولي حمداً لا يحصره الحد ولا يقصره العد، والصلاة والسلام على سيدنا وعبده محمد وعلى آله الأحمد. وبعد فان لطائف العطف نظمت عواطف اللطف في معاطف الاستقامة، ونفحات القرب قربت قوارب الاقتراب بريح السلامة، وخضم الجود لا ينضب تياره، وبر الوجود لا يشق غباره، وما ثم إلا ما يرضاه من القى السمع وهو شهيد، وبرز في عين السيادة بصفة أقل العبيد فلم تزحزحه الزعازع لثبوته في مركز الدائرة، ولم يتحرك ولو كان الفلك كار أو نغمات صريف الاقلام بقصائده شاعرة، والسلام على الاخوان، والحمد لله بكل قلب ولسان:
ليس إلا الذي مراد من الخير ... على كل حالة لا محاله
فاشتمل مطرف النقابي وغيب ... عن نفس أرواحها في تباله
وتذلل في حي ليلى ليلى ... وأرض بالموت فهو فيها جلاله
يا أخي إن لمحت معنى كلامي ... كن علياً تكن على البدر هاله
تلحظ العين من قريب بعين ... ينظر البدر من سناها هلاله
مظهر جامع الجمع وفرق ... شمس عرفانه دليل الدلاله
برزخ فاصل قريب بعيد ... مطلق الوصف فيه يبدي كماله
وله ومن فيضه نفع الله به جواباً على رؤيا رآها بعض الفقراء. الحمد لله مدير الفلك ومنور الحلك، والصلاة والسلام على العين المقصودة بالاصالة وعلى إخوانه وآله كمال علومه وأسراره مظاهر الجلالة. وبعد فإنما هي معاني تبرز من الغيوب على صفحات القلوب فتحقق بها الأسرار، وتملاء بأنوارها المسالك والأقطار. تنطق التراجمة بالاذن العلي فتودعها مخازن القلوب المتعطشة إلى مراحم الولي. فتارة تعرف وتؤلف، وتارة تنكر فتصرف من يصرف. واعلموا وفقكم الله وايدكم بروح منه واسمعكم عنه انه كلما عرج الولي في معارج العلى ودرج على مدارج سبح اسم ربك الاعلى جهلت صفته وتنكرت معرفته فلولا رسم العبودية اللازم لما ثبت له المعالم، ولا عملت كينونته العوالم ويكفيكم في شأن حاله قوله بعض اهل المقام ورجاله:
تسترت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام مااسمي ما درت ... وإين مكاني ما عرفت مكاني؟
والصلاة الجامعة على عروس اهل الطبقة الرابعة، والسلام على الاتباع الافراد والاشفاع والحمد لله رب العالمين،وله أيضاً على هذين البيتين للتلمساني:
ما صادحات الحمام في القضب ... ولا ارتقاص المدام بالحبب
الالمعنى اذا ظفرت به ... الزمك الجد صورة اللعب
ما صادحات حمام الأرواح على قضب الأشباح، ولا ارتقاس مدام المحبة الذاتية في حضرات الغيوب الازلية بتعين حب حبب الاعيان الآلهية والكونية إلا لمعنى لا يظهر لنفسه الافي مراتب نفسه اذا ظفرت به ايها المعاني لهذه المعاني الزمك جد الحق المشروع صورة اللعب الموضوع كما قال المحقق: الكون كله خيال والوجود الحق فيه الكبير المتعال علمه من علمه فاستراح وجهله من جهله فلم يبرح من قفص الاشباح انما الكون خيال وهو حق في الحقيقة واذي يفهم هذا حاز أسرار الطريقة. اللهم وفقنا لما يرضيك عنا يا رب العالمين بتاريخ ليلة الجمعة 26 من شوال سنة 554 وله أيضاً حين سأله السائل عن معنى هذا البيت للفقيه عبد الرحمن العلوي نفع الله به: شعر:
يا مطلق التقييد لا تحكم ... فالعلم في شأنك حكم:(1/86)
وعنك الاحتمال فقال سيدنا حاتم في معنى هذا البيت: يا مطلق هو الذي لا يلزمه القيد وهو مطلق في حال التقييد، ومقيد في حال الاطلاق لان الاطلاق قيد معنوي يقتضي الحصر، والحصر خلاف حكم واجب الوجود وانما الشأن في الإطلاق الذي لا يقابله فافهم. أي قل يا من هذا شأنه، وهذه صفته لا تحكم أي لا تحكم علينا بان نحكم عليك بما ليس لك لان القيد يقتضي الحصر، والحصر خلاف حكم واجب الوجود، وكذلك الإطلاق الذي يقابله القيد قيد عن الإطلاق المطلق لكن أن العلم الإلهي الذاتي حكم على الوجود المطلق بالإطلاق وعلى الوجود المقيد بالتقيد حكما نسبياً لا حقيقة له في شان التوحيد ولهذا قال: وعنك الاحتمال. يعني وان كان الوجود المحدث يرجع إلى المطلق لانه أصله فلسان الأدب يحكم بالفرق، ولسان العلم يقضي بالتمييز ولسان الوجود يحكم بالتوحيد لا إله إلا الله كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليك كان، والشأن المشار إليه هو الكنه الذاتي المغيب عن الإطلاق والتقييد وأما قوله وعنك الاحتمال. يريد أن الأعيان الثابتة من حيث هي تحملت حصص الوجود المفاض عليها في علم النور المرش في حضرة الإمكان. والاشارة إليه من الحديث القدسي في قوله: ان الله خلق الخلق في ظلمته ثم رش عليهم من نوره. فالظلمه ظلمة العدم الأمكاني، نور الوجود المفاض إلى الاعيان بحسب الإرادة المرجحة والمشيئة القاضية بما حكم به من العلم عليها ولها. وانما حكم عليها بها ولهذا صح الاحتمال والسلام على أهل التوفيق من أهل الطريق. ومما املاه أيضاً في ليلة الأربعاء الثامنة والعشرين من شهر رمضان سنة 1558 لما جاءت الرآء في أول السور القرآنية في ستة مواضع انبسطت في نفسها، ونظرت إلى أصلها وهو اثنين فحصل منها اثنا عشر اسم هي ذاتية وهي حقيقة من حقائق التطوير كان هذا العدد مشتملاً على اثنى عشر برجاً ومراتب العدد ونصفه عن الست الجهات في العالم السفلي. بيان ذلك أن عدد اسمه ثلاثة فإذا ضربت الثلاثة في الجذر الذي هو اثنين ظهرت الستة وإذا ضربت الستة في الاثنين أثنى عشر وهو الفلك المشار إليه محيط بجميع العوالم العلويات والسفليات فلهذا ظهر بذاته في آخر الكلمات الثلاث. التطوير والتغيير والتصوير. وهذا حرف الراء لما كانت حقيقته راجعة إلى حرف الواو من وجه ظهر في مرتبة التوحيد، وهو من الحروف التي لها الأتصال البعدي وليس لها القبلي ولها من الصفات ستة آلاف. والدال والذال والواو والراء والزاء يتصل بها ولا تتصل به لها من الخصائص الآلهية ست صفات. وهي الجلال والعظمة والكبرياء والأحدية والغنى المطلق والعزة المطلقة. ولها من الرجال ستة هؤلاء الستة حالهم البطون ويحبون الحمول ليس لهم التفات إلى شيء من الكائنات ينتفه بهم الخلق ولا يشعرون. انتهى. ومن املائه ليلة الثلاثاء 27 من شهر رمضان سنة 1558 من ترك حديث النفس حرمة لوارد الحق انقلب وسواسها الهاماً، وحديثها وجداناً ولذلك قريء في بعض القراآت وهي قراءة بعض الصحابة رضي الله عنهم وما أرسلنا من قبلك من رسول، ولا نبي ولا محدث. الآية. وقد صلى الله عليه وسلم أن من أمتي محدثين، وأن عمر لمنهم يقول بعض السلف الصالح: أخبرني قلبي عن ربي، وأخبرني ربي عن قلبي. وقد صح أن الحق على لسان كل قائل والسلام على أهل التسلم. وسأله الفقيه مرجان وهو حينئذ بمدينة تعز سنة 1559 في ليلة الأربعاء من جمادى الآخرة عن معنى قصيدة بيت الشيخ عبد الهادي وهي قوله رضي الله عنه:
بلبل الجحف اليماني ... لم أزل منه مبلبل
كما غنى شجاني ... قط لا مليت ولا مل
قد عناه ما عناني ... فلهذا مال وميل
فلمه يا أهل المعاني ... انا معجم وهو مهمل؟(1/87)
فأجابه سيدنا ومولانا بهذا النفس المعظم بلبل الجحف اليماني: البلبل داعي الحق في قلوب المؤمنين. والجحف: منعطف الوادي وأضافته إلى اليمن لقوله صلى الله عليه وسلم اني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن فهو يهتف بعشاق الجمال ويذكرهم زمن الوصال قبل الانفصال حيث قال السيد الأكبر والمحبوب الأفخر: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. ولا بد للنبي من قابل يتلقى عن اسرار النبوة التي شرف بها فان كل من عالم الأرواح فالقابل من عالم الأرواح، وان كان من عالم الاشباح فالقابل من عالم الأشباح فلا يزال يتذكر ما كان به في ذلك العالم قبل ضرب الحجاب وحصول الشك والارتياب فلم يزل العارف المعتنى به يتذكر سوابقه ويحقق لواحقه فلم يزل مبلبل البال. والبال: القلب أي فلم يزل قلبه متحركاً متقلباً في أودية العشق حتى تظهر له كلمة السبق في عالم الحق. يقول كلما غنى شجاني أي كلما كرر في السجوع احرم عين المحب الهجوع، قال الترجمان الأكبر: ان الله لا يمل حتى تملوا. قال الشيخ الأقدح: قط لا مليت ولا مل يعني أن سر " يحبهم " ظهر في " يحبونه " وأمر يحبونه ظهر في من يحبهم فمنه إليهم ومنهم إليه. فالكل منه والهي يرجع الأمر كله فاعبده عبودية الإضطرار، وتوكل عليه بالأختيار، فهم هذه الاشارة من فهمها وعقلها من خلق لها قد عناه ما عناني فلهذا مال وميل فيه اشارة إلى الحديث المشهور وهو الذي يقول فيه قال صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا آخر كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول له من مستغفر فاغفر له هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فاعطيه؟ وهنا النزول نزول لطف ورحمة وعطف ونعمة فنبه قلب من أيقظه واعنني به فميله إليه فاستيقظ من نوم الغفلة لما ميله هذا النداء الرحماني الرباني من حضرة الاسم اللطيف الرؤف العطوف. واعلم أن المحبة إذا صحت قامت بالمحب والمحبوب فيعود المحب محبوباً والمحبوب محباً، والمريد مراداً والمراد مريداً فلهذا قال الشيخ قد عناه ما عناني: أي قام به من وصف المحبة ما قام بي منها. وقد أشار إليه الاستاذ القطب الغوث الفرد الجامع الشيخ ناصر الدين ابن عبد الدائم الأنصاري الشاذلي الشهير بابن بنت المليلق رضي الله عنه في قصيدته الشهيرة الموسومة بحال السلوك في قوله:
أن المريد مراد والمحب هو المحبوب ... فاستمل هذا من أماليه
فلهذا يتنزل المحبوب من مقام عزته وجماله إلى مقام اللطف والعطف بالمحب الصادق: قال الشيخ نفع الله به: فلهذا مال وميل مال إلى المحب باللطف والعطف فميله فنهض به من رقدة غفلته وانعشه من سجن شهوته فبادر إلى باب محبوبه واسرع إلى فناء مطلوبه فيالها من رجعة ما أحلاها، ومن نجعة ما أصفاها فلما. صحت المنازلة وكلمت المواصلة وصار كل واحد محباً ومحبوباً محباً من وجه ومحبوباً من وجه شرع الشيخ فيه بالتمييز بلسان البيان متجاهلاً بلسان من لم يعلم هو يعلم فنادى بأصحابه وأترابه من أهل المعاني والمعارف يعجبهم على هذا الذي ظهر بسر الاتحاد، وتميز فيه الوجود من الايجاد، فقال : فلمه يا أهل المعاني أنا معجم؟ أي مقيد بالنقطة التي اعجمت وجودي وكانت غيباً على عين شهودي، وهو مهمل : أي مطلق عن القيود والحروف والحدود فعلى الحقيقة هو عين الشاهد والمشهود. والسلام على أهل التسليم ممن أتى الله بقلب سليم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ومن املائه نفع الله به حين سئل عن هذا البيت للشيخ عبد الهادي السودي نفع الله به:
وأنس العلوم وما قد كنت تكتبه ... فمحوه واجب من كل مكتتب(1/88)
أمره بنسيان العلوم وهي كثيرة : فمنها علوم يجب نسيانها لذاتها كعلم السحر والنجوم والرمل والجدل والرجز والفال والمنطق عند قوم من أهل الورع، وثم علوم يستحب نسيانها بمعنى الترك لما هو أعلى منها. وهو علم الصرف والنحو والعروض والتواريخ والبديع إلا المعاني والبيان لتكفلهما بايضاح معاني القرآن واظهار بلاغته. واعلم أن العلوم حجب على القلب كما قال الإمام الغزالي رضي الله عنه: وإن الحجب كثيرة وأقواها العلم. ولما كان طلب العلم فريضة على كل مسلم تكلم فيه العلماء بأقوال كثيرة منها أنه العلم النافع الذي يعرفك بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وما ينبغي له وما يستحيل عليه. فهذا هو العلم المفروض المشار إليه، ويلحق به ربع العبادات فوجب ترك تلك العلوم جميعها ونسيانها والتجرد لتحصيل العلم المفروض. وهو الذي يعرفك بمعبودك وآخرتك وما يقربك إليه فوجب عليك نسيان تلك العلوم الشاغلة للقلب عن التطلع إلى أنوار التوحيد الفعلي والصفاتي والذاتي فامح نقوش غير هذا من قلبك واغسلها من مكتتب سمعك وبصرك ولوح فكرك حتى يتوجه قلبك لواحد لا اله إلا هو الواحد القهار والسلام. ذكر الإمام الرافعي في بعض مصنفاته قال سمعت غير واحد من الصالحين يروون عن الشيخ أبي الغيث بن جميل أنه قال: إلى الشيخ والفقيه صاحبا عواجه إلى شيخنا الشيخ علي الاهدل وطلبا منه أن يذهب معهما إلى بعض المواضع فوافقهما وذهبت أنا معهم فلما كان بعض الليالي وإذاً أنا أنظر الشيخ والفقيه وهما فوقنا في الهواء وفي أيديهما سيفان مسلولان، فذكرت ما رأيت منهما لشيخي فقال لي : يا أبا الغيث هذان في مقام التولية والعز يوليان ويعزلان ويميتان ويحيان باذن الله تعالى، وسوف أرثهما وترثني أنت. وهذه الحكاية تقتضي موتهما قبل الأهدل. وسيأتي في ترجمة الشيخ عبد الله ما يدل على موت الاهدل أولا قبل الشيخ والفقيه والذي يظهر أن الصحيح وفاة الاهدل قبل وفاتهما. ويحمل قوله ارثهما أنا وترثني أنت في هذه الحكاية على أنه يبلغ مثل مرتبتهما وإن كان في الحياة، ويكون ذلك في طريق التجوز في العبادة وإن كان حقيقة الوراثة انما يكون بعد الموت. فلما وقف مولانا السيد حاتم بن أحمد بن أهدل على هذا القول كتب فوقها بخطه الشريف " فائدة فيها تأنيس وتفهيم " وذكر الشيخ الكبير الأكبر في فتوحاته وفي فصوصه ان الشيخ القطب الكبير أبا السعود ابن الشبل صاحب سيدي الشيخ القطب الأكبر محي الدين عبد القادر الجيلاني أنه قال: اعطيت التصرف منذ كذا وكذا سنة فتركته نظر. فانه يشير إلى مقام الخلافة وهي البرزخية الكبرى، وصاحبها واسطة بين الحق والخلق والمقام الذي أثره الشيخ أبو السعود مقام الفردية، وهي أخص وأشرف من المقام الأول لتحقيق صاحبها بالعبودية المحضة، ومقام الخلافة لا بد فيه من رائحة الربوبية إلا من عصمة الله تعالى فإنه حصل وجاز إلى المقام الثاني الذي هو مقام الفردية ايثاراً لجناب الحق أعطاهم ذلك كمال المعرفة بالبواطن. وسادتنا المشار إليهم تحققوا بالمقام وخلصوا إلى مقام الختام وهو رؤية الأحد الموصوف بالجلال والاكرام فافهم. حكى القشيري في بعض كتبه أن أبا يزيد الأكبر لما اقامه الحق في مقام الخلافة قال تعالى له : اخرج بصفتي إلى خلقي فخطى خطوة ثم صاح فناداه الحق تبارك وتعالى ردوا علي حبيبي فانه لا صبر له عني، وذلك لا يثار جناب الحق والتخلص من حمل أعباء مقام الدعوة للخلق فافهم.(1/89)
" ايضاح " إذا علمت أن مقام الفردية أخص من مقام التصرف فاعلم إن إشارة سيدي الشيخ الاهدل قدس اله سره تقتضي أن الحق سبحانه اطلع على علمه الذي لا يحاط بشيء منه إلا بأذنه وهو الاذن الآلهي المحيط بالمعلومات فانبأنا عن الثاني وتحققه رضي الله عنه وخلوصه إلى المقام الأفضل ووراثة الشيخ أبي الغيث له رضي الله عن الجميع، وقد يكون ذلك لهولآء الأكابر في يوم واحد أو أقل أو أكثر، وأما عبارته بالارث فهو مطلع قوله تعالى " والله خير الوارثين " والله ميراث السموات والأرض لا من مفهوم الارث الذي مات مورثه، أو سيموت وارثه تعالى الله عن ذلك، وعز جناب أهل الله عن التطفل على مصطلحات الغير، فالمعنى الذي عبر الشيخ آلهي وهو غير اللفظة التي تستعملها الناس في عرفهم والحمد لله رب العالمين. وتحقيق النظر في الشيء الموروث إن كان مفارقاً للروح كالأموال على اختلاف أجناسها فليزم عليه ما قاله المصنف والأسرار والعلوم التي تتصف به الروح ويشرق بها ضياء العلم وتتجلى بها النفس الناطقة فهي كمالات للنفس وصفات للروح لا تفارق الموصوف بها والمتحقق بحقائقها والمتخلق بأوصافها فلا يصح الشرط المقدر فالأمر كما تقرر والله الموفق الهادي. وقد اقتصرنا من كلامه الرفيع في هذا المهيع الوسيع على هذا القدر اليسير ايثاراً للاختصار. وأما خوارقه وكشفه وتصرفه في الموجودات فقد حفظ اخواننا من أصحابه من ذلك كله كثيراً ولله در من يقول:
واصلتم الكلم بقطع الكلام ... على حياتي وهي أنتم سلام
الغيتم ذكري ضناً به ... ذكرتم في الكاتبين الكرام
أما كفي البين عذاباً؟ ... فلم شهرتم سيف الجفا يا سلام؟
ظلمتموني وتظلمتم ... يا رب لا وأخذت أهل الآثام
بخلت يادهر ما تستاحي ... وحاتم بالجود اعدى اللئام
هلا تأدبت بآدابه؟ ... أما تعلمت فعال الكرام؟
فلو كتبنا الاسم منه على ... صخر لسال الصخر بالانسجام
ولو دعونا باسمه ميتاً ... قام وإن كان رفاتاً عظام
وبالجملة فانه ما كان إلا شيخ أهل هذه الطريق حالا وعلماً، وأمام أربابها حقيقة ورسماً، ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما. لا تكدره الدلاء وسحاب تتقاصر عنه الأنواء. ولقد رأيت من أقواله وسمعت من أخلاقه وأحواله مالا تسعه عبارة ولا يهتدى إليه بإشارة، نفعنا الله ببركاته وأمدنا في الدارين بإمداداته آمين. وما ذكرته من أحواله ومقاماته دون ما تركته بكثير، وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد عند غروب الشمس سابع عشر محرم سنة ثلاثة عشر بعد الألف بالمخا، ودفن في بيته. ولي فيه مرثية مطلعها :
أيها الغافل الغبي تنبه ... إن بالنوم يقظة الناس اشبه
ومنها
يا خليلي فرقة الخل والله على ... الانفس الكريمة صعبة
سيما خلك الخصيص الذي لم ... تزل تتمنى لقاه وقربه
الحبيب الذي حوى كل وصف ... حين يملي يملي القلوب محبه
ذاك والله حاتم خير خل ... قط ما ذم صاحب منه صحبه
عارف الوقت من رفاقي المعالي ... اوجها وسما لأرفع رتبه
من جميع العلوم حاز فنوناً ... قد ورثها من النبي وحزبه
حاتمي العصر في المعرف فرد ... شاذ لي الزمان علماً ونسبه
خصه الله منه بعلم لدني ... وحباه منه بوصل وقربه
ومنها
قد قضى حاتم حميد فمالي ... بعده في الحياة والعيش رغبه
صاحبي من قريب عشرين عاماً ... كل يوم يزداد مني حبه
بكت الأرض والسماء عليه ... وعلوم ابن عربي وكتبه
الفتوحات والفصوص البهية ... حل منها ما كان غامض ونبه
بكاه اليمن الأنيس ومصر ... وجميع البلاد شرقه وغربه
يا رعى الله عصراً وبقاعاً ... قد تباهت به وفازت بتربه
ولي فيه مرثية أخرى. وعدد أبياتها خمسة وسبعون بيتاً وهي في غاية اللطافة لو قرأت على الصخور لانصدعت من الرقة والسلاسة منها:(1/90)
فشح باللقا وحرمته ... واعجباه لي من بخل حاتم
السيد الاستاذ فرد زمانه ... الشريف المنتقى من أولاد هاشم
سار في السلوك بجد وعزم ... هكذا قلتكن في الله العزائم
ولا زال في الدرجات يرقى ... حتى أتاه الفتح بالغنائم
فجل الله الذي أعطاه ... من فيض فضله أسنى المقاسم
وضاهى في التصوف اللي مضوا ... فكأنما حاتم كان لهم خاتم
وخاض في بحره لجة ... وكان فيه أبداً عائم
وابدا في التكسير غرائباً ... في جمعهم جمعه غدا سالم
وغاب في شهود الحقيقة قلبه ... وظاهره كان بأمر الله قائم
وكم خوارق عنه قد شهد ... ولسانه أمضى من كل صارم
وكم مريد لاذ به في أمره ... فما بات إلا وقد سرت إليه المراهم
طال ما نيل على يديه المراد ... وقال لسان الحال منه أنا قاسم
طال ماطاف إلى ربعه ... الناس من عربها والأعاجم
در ثدي المعرف منه فسق ... جماً غفيراً وما كان لهم فاطم
طال ما كان في محراب المعارف ... امام صادح وباغم
تباهت الاعصار بع عجباً مفرطاً ... وتحلت الأيام منه بأشرف خاتم
غاض الوفاء لفقده وكذا ... ذهبت والله المكارم
مات التصوف بموته ... وغدا طالبه حيران هائم
وا أسفي على أخلاقه أنها ... قد حكت الروض البهي الناعم
والهفي على نطقه أنه ... مثل الزلال لمن أتى طاعم
فما عظم الله العزا لامرء ... كان قاصد ورائم
إنه الموت ليس منه خلاص ... وغير الله ليس باقي ودائم
ومنها
هنيئاً لمن كان اسمه ورده ... فهو به لا شك أنه غانم
اني إذا مارمت مطلباًجعل ... ت اسمه لذاك صدر التمائم
ولو كتبنا اسمه على ميت ... لعادت الروح فيه وثب قائم
ومنها
اني مما بأحشائي من الأسى ... كانني سقيت سم الأراقم
يا عجباً كيف اجتمعا في شجى ... شوقي نار ودمعي كالغيت المتراكم
وكنت جذلان من فرحي بوجوده ... والآن صرت بعد نشوتي خادم
كأنني الطير وقد بقى بعد ... ذهاب الخوافي منه والقوادم
يا مجنون وقيس قاسيا ما ... قاسيته من هذه العظائم
طال مارقيته وكائر طر ... في لرؤياه بات حائم
ومنها
ما لقلبي غير يداويه ... ولا لدائي سواه حاسم
نسمة سرت لي من عنده ... ويلاه ما أطيب تلك النسائم
نفث بسرها في سراًيرى ... فاستنشق ذلك مني الخياشم
اهدت الي علومه ونوره ... ايقضتني وكنت نائم
علمتني الهوى وفنونه ... تركتني بشأنه حازم
فكنت في دين الهوى قدوة ... من شجوي ناحت الحمائم
وغصت في بحره فزال الظمما ... وعدت من بعد جهلي به عالم
وفزت من سري بما رمته ... وصرت من بعد غبني به غانم
شغفي به لا يقاس أبداً ... فكأنما هو وايم الله حاتم
حبي به لايحد حده ... دمعي ازرى بفيض الغمائم
وغرامي فيه لا يكون له نظير ... نعم قد حكاه البحر المتلاطم
ما مر بي صبح ولا مسا ... إلا وذكره على قلبي جاثم
شابهت الخنسا في شجوي ... بل سالبهني في وجدي الملازم(1/91)
كل يوم عندي من حزني ... كمثل كربلاء ومآتم
مولاي ناداك عبد إلى ... علياك ما زال ينظر دائم
من أرض الهند يريد القرى ... وأنت بكل ما يرويه عالم
حاشا علاه حاشاه إن ... يحرم الراجي له المكارم
ومنها
لقد أصبت بفقده مصاباً ... ما أظن أصيب بمثله العوالم
لفي عليه إن فضله ... يعجز عن شرحه كل ناثرٍ وناظم
لذا لا يفارقني أسفي أبداً ... ولا يزال دمع العين مني ساجم
اني وإن أجهدت طاقتي ... عسى أن أكون ببعض حقه قائم
اعزي به الدنيا بأسرها ... ان عزاه حقاً في كل العوالم
لبس الوجود السواد حلة ... وغدا كل طالبٍ محروم هائم
عليه من ربه كما يرضاه له ... من الرضا وجم المراحم
وصلى الله على أصله ... محمد النور أبي القاسم
وعلى صحابته كذا وآله ... الجميع واخصص حاتم
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجمة الشيخ عبد الهادي السودي فمن شعر الشيخ عبد الهادي أيضاً. ومنها:
عساك يا بلبل الافراح تخبرني ... عن غادة بالحمى الغربي من أضم
فتلك لي من قديم الدهر مالكة ... وقد جرى حبها مني كجري دم
كم قلت للقلب أقصر عن مودة من ... في أسرها من سراة الحي كل كم
فقال لي وقواه قد وهت فرقا ... " إن المحب عن العذال في صمم "
ومنه
قالت سعاد وقد رأت دمعي جرى ... صدق المحدث والحديث كما جرى
فدهشت من فرحي وقلت نعم نعم ... ما كان حبكم حديث يفترى
لي من هواكم صرفه وعتيقه ... حاشاي من وردية ان أسكرا
بالله يا حادي النياق لحيهم ... فالصيد كل الصيد في جوف الفرى
سلم على أهل الخيام وقل لهم ... مات المحب من الغرام وما درى
ومنه
قلبي على عهدكم مقيم ... والشوق لي مقعد مقيم
ومن عدول الشهود اني ... مؤذن في الهوى مقيم
وفي حماكم حططت رحلي ... والغير من حوله يحوم
وحقكم بعد إذا حصلتم ... لأعصين الذي يلوم
ماذا يلتقي مثلكم فؤادي ... يا أهل نجد به يهيم
فساعدوني على هواكم ... يا من هم الكأس والنديم
ومنه
عذبتني بالمطل منها سعاد ... وبراني وهد ركني البعاد
وجفاني من بعدها هجرتني ... طيب عيشي وزار جفني السهاد
لو تراني أسامر النجم ليلاً ... على ليلى يكون منها افتقاد
يا اخلائي اصل سقمي أنتم ... ولقاكم هو الشفا والمراد
عاملوني يا أهل ودي ... لاحظوني ما قد مضى لا يعاد
ما احيلا الوصال في ظلم ليل ... وقد غال كل واش رقاد
ذاك اهنا الوصال لا شك فيه ... هكذا هكذا يكون الوداد
أنا مملوككم على كل حال ... ومريض فهل تروني أعاد
يا اهيل الحمى حللتم بقلبي ... واليكم يحن مني الفؤاد
كل كلي بحبكم مستهام ... والسويدا تشتاقكم والسواد
لا يحق البكا عليكم ... وعلى وصلكم يليق الجاد
وقد شرحت هذه القصيدة شرحاً فائقاً في كتاب جواهر الإحياء وإمدادات الأولياء. وجعلت اسم فتح الله الجواد بشرح " عذبتني بالمطل منها سعاد " .
ومنه
لقد غنى الحبيب لكل صب ... فأين الراقصون على الغناء
أيشدوا من تحب وأنت قاس ... وترضى بالقساوة والعناء
إذا ما كنت صباً مستهاماً ... فمل طرباً كغصن في هواء
وقل للعاملين دعوا ملامي ... فإن العذل عندي كالهباء
أفي أهل اللوا وعريب نجد ... أطيعكم وقد سكنوا أحشائي(1/92)
معاذ الله ان أصغي إليكم ... نعم القي ملامكم ورائي
ومنه
لولاك يا زينة الوجود ... ما طاب عيشي ولا وجودي
ولا شجاني وميض برق ... ونقر دف وصوت عودي
أنت الذي همت في هواه ... وليلة الوصل منك عيدي
بالله زرني فدتك روحي ... يكفي من الهجر والصدود
ما أصعب الهجر من حبيب ... لا سيما للشجي العميد
وما احيلى وصال ليلى ... ليلاً على السفح من زرود
فيا ليالي اللقا علينا ... عودي ليخضر منك عودي
ومنه
ليس إلا بكم يتم السرور ... يا عريبا هم بقلبي حضور
أنتم الأغنيا حسناً ولكن ... أنا صب إلى الوصال فقير
كلما هبت الصبا كدت شوقاً ... نحوكم يا أهيل نجد أطير
فاسمحوا لي ولو بطيف خيال ... ان نفع القليل منك كثير
واقبلوني بفضلكم يا موالي ... لا بجهدي فداك شيء حقير
واريحوا فدتكم الروح قلبي ... من سواكم لعله يستنير
ومنه
قد كساني لباس سقم وذلة ... حب غيد بالجمال مدله
سلبنتني وغيبتي عني ... وغدا العقل من هواها مدله
سفكت في الهوى دمي ثم قالت ... يا طفيلي عشقتني أنت ابله
ان ترد وصلنا فموتك شرط ... لا ينال الوصال من فيه فضله
فافن عن جملة الوجود لتبقى ... كل هاتيك يا فتى مضمحله
واخلع عنك يا خليع غرامي ... لا يكن لك غير وجهي قبله
طهر العين بالمدامع سبعاً ... من شهود السرى تزل كل عله
وترى حسننا البديع فتضحى ... في سرور قرير قلب ومقله
وابذل الروح فهو فينا قليل ... راضياً لا تقل دمي من احله
واجعل الفقر شافعاً لك تغنى ... حبذا الافتقار ديناً ومله
من أتى تائباً قبلناه فضلاً ... تلك عاداتنا لمن جاء قبله
كم محب بعجزه قد تحلى ... نال منا الذي يروم ومثله
نقطة الباء كن إذا شئت تسمو ... أو فدع ذكر قربنا يا موله
واردنا بنا بغير مراد ... والزم الباب في حياء وخجله
واحفظ العهد كي توافي حمانا ... سالم القلب من نناس وغفله
هذه سنة المحبين فاسلك ... واترك العاذل الجهول وعذله
ومنه
يا راحة الروح يا من ... هواه أشرف مذهب
واصل فديتك صباً ... أنسيته كل مذهب
وباين الكل إلا ... من بالهوى قد تمذهب
مشارب القوم شتى ... من كلها صار يشرب
قد شرف الناس طراً ... وللغرائب غرب
فهو الغريب ولكن ... محبوبه منه أغرب
تعجب الخلق منه ... وباطن الأمر أعجب
يا موجبين لصحوي ... السكر والله أوجب
وليس يوجب صحوي ... إلا بليد معذب
بين الغوير ونجد ... ظوال الزمان مذبذب
فطالعوا ان شككتم ... تهذيبكم والمهذب
ياما ألذ استماعي ... قول الندامى لي اشرب
في حضرة ليس فيها ... إلا مراد مقرب
ومطرب الحي يشدو ... لا عاش من ليس يطرب
ومنه
علي لله نذر لا اخل به ... إلا لعذري إلى الإخلال الجاني
إن شاهدت مقلتي سلمى بذي سلم ... تعفير خدي بذاك الحي الجاني
فبذل روحي قليل في محبتها ... دع عنك بذل عروض ثم اعياني
ومنه
لا تحسبوا يا قوم قلبي خافق ... لكنه طرباً عليه يصفق
ومنه
ذلي لعزك يا حبيبي لائق ... وبك الوصال من القطيعة أليق
ومنه
كتمت هوى ساكن في الحشا ... ولكن على الرغم مني فشا(1/93)
لقد صاد قلبي وما صدته ... فوا عجباً كيف سمي رشا
سوى البذل للروح لا يرتضي ... فلا ترج منه قبول الرشا
إذا رام هجري ورمت اللقا ... رضيت بحكم الهوى ما يشا
ومنه
لوقيل لي وهجير الصيف في وهج ... وطي أحشاؤكم فيه من شعل
أهم أحب إليك اليوم تشهدهم ... أم شربة من زلال الماء كالعسل
لقلت مشهدهم أهوى ولو تلفت ... روحي أسى وجوى ياليت ذلك لي
وهكذا الحب إن صحت قواعده ... " ليس التكحل في العينين كالكحل "
وقد سبقه إلى هذا المعنى الإمام الشاشي فقال:
لو قيل لي وهجير الصيف متقد ... وفي فؤادي جوى للحر يضطرم
أهم أحب إليك اليوم تشهدهم ... أم شربة من زلال الماء قلت هم
والأخذ على هذا الوجه عند أهل البديع جائز: ومنه
بالله كر أيها المطرب ... تذكار قوم ذكرهم يعجب
ما زمزم الحادي بذكرهم ... في الشرق الأرقص المغرب
ومنه
خلوا عزلي فقد حلالي العشق ... كم من جدل رقوا لحال رقوا
ذات عللي وما بقى لي نطق ... أرجى عملي أني لسعدى رق
ومنه
قد بلبل خاطري وأجرى دمعي ... تغريد حمام بأن وادي الجزع
لما ندبت هديلها بالسجع ... أمسيت الوب وفي نواحي الربع
ومنه
يا ليل إلى متى أقاسي بيني ... ما الذنب وماجرى لقطع البين
بالله عيدي مريض هجر ونوى ... يا مالكتي أصلاح ذات البين
ومنه
يا مانح مهجتي ويا مسعفها ... في الطور ضحى عساك أن توقفها
عين نظرت حماك ما ألطفها ... إذن سمعت نداك ما أشرفها
ومنه
ذلي لجمال عزه يكفيني ... عزاً وبذلك أن أمت تكفيني
ما الحب ولو فنيت إلا ديني ... من ذا معه عشق عسى يعديني
ومنه
أهوى قمراً رضيته لي وعلي ... من مات به فذلك الميت حي
كم من أسد أذابه وهو ظبي ... أن رمت تحبه فللموت تهي
ومنه
غنى البلبل معتماً في بابل ... والبال مبلبل والبال وجسمي ذابل
فارتاح من الهموم قلبي القائل ... أما شجي فاهتز مثل الذابل
ومنه
لا كان عن النقا فؤاداً عدلاً ... وانقل فتواي أنه ما عدلا
يا من رحل الجمال يبقى مللا ... حاذر كسلاً في قصدها أو مللا
ومنه
يا مالك مهجتي ووالي ديني ... انجز عدتي فالوعد مثل الدين
والهجر إذا اطلته يرديني ... حاشاك وأنت لم تزل تهديني
ومنه
قلبي لشراب حب سعدى قدح ... لا أتركه لعذل قد قدحوا
دع من طعنوا في حبها أو جرحوا ... فالقاهر عالم بما قد جرحوا
ومنه
عودوا صباً بكم مريضاً عودوا ... يا من صرموا وللتصافي عودوا
منكم طربي إذا شجاني العود ... فاسقوا غرسي يخضر منه العود
ومنه
لم أخش وأنت ساكن انساني ... يا من بجماله الورى انساني
لا نال مناه يا حبيبي قلب ... عن حبك عاقه انسان
ومنه
قد قصرت على سعاد وقفاً ولها ... بالله علام ذا كستني ولها
إن كان الذنب أنني همت بها ... فالكون سهى بالحسن قبلي ولها
ومنه
لم أنس زمان وصلكم بالسفح ... يا من منحوا جفني دوام السفح
أعراضكم في القلب منه جرح ... داووا بالله يا موالي جرحي
ومنه
أهوى رشأ ذابت عليه كبدي ... في الحب له حياة روح الجسد
لا أسمع فيه زور أهل الفند ... فالعاذل لم يزل ضجيج الحسد
ومنه
أفدي قمراً في حي قلبي سكناً ... لم أرض لمهجتي سواه فيها سكنا
من واصله لاقى سكوناً وهنا ... لكن وجدي بوصله ما سكنا
ومنه
إن جزت بسلع عن الأحباب ... واذكر لهم كي يرحمون ما بي(1/94)
قل صبكم قد ضاق صدراً فمتى ... بالوصل يفوز أو يفتح الباب
ومنه
ما ناح مطوق بأعلى البان ... أو لاح بويرق على نعمان
إلا أمسيت صانعاً لي فلكاً ... كي لا أفنى بدمعي الطوفان
ومنه
لم أرض بغير حبكم لي مذهب ... هذا ديني ومالي عنه مذهب
يا من سكنوا العذيب من أحشاي ... تعذيبكم يا سادتي ما اعذب
ومنه
فارقتكم والقلب في اسركم ... يا من منعوا جفني لذيذ الوسن
عيشتي من بعد ما نأيتم كفني ... فالميت أنا والفرق ترك الكفن
ومنه
تغريد الورق في الدجى ارقني ... لما باتت تشدوا باعلى الفنن
مالي سكن أشكوا إليه شجني ... حبيبي ربي إن رمت شكوى الحزن
ومنه
لله ليالياً على ذي سلم ... ما بين أراكها وبين السلم
أمسيت بها سمير سلمى وحدى ... حتى هزم الصباح جيش الظلم
ومنه
يا سعد إذا جئت النقا والبانا ... فاذكر لبناً والسفح من لبنانا
وانقل أخبار من هواهم فرضي ... ما زلت بهم حلف الضنا ولهانا
ومنه
أفدي قمراً في حسنه نزهني ... قالوا ألهاك قلت بل ولهني
ما كنت على حديثه مطلعاً ... لولا " مكحول " طرفه حدثني
ومنه
حبي لكم يا أهل نجد شرف ... ما فيه كما يظن لاح سرف
والمحكم من حديث قطعي سقمي ... فيكم صحت آياته والصحف
ومنه
جمعي بكم يجلو سويدا بصري ... يا من بهم يحق محو الأثر
طوبى لفتى رماه لحظ منك ... قد جاء بذاك شاهد في الأثر
ومنه
أصبحت أرق من شمال وصبا ... في حسن شويذن كساني وصبا
قلبي لامام حسنه شيعني ... فاقضوا عجباً إن هام شيعي وصبا
ومنه
بانوا عني فبان كل سلوان ... واعتضت من السرور جم أحزان
هل يجمعني وأهل وادي نعمان ... هذا سهل على الكريم المنان
ومنه
أفدي قمراً جماله الهاني ... قد طاب به زمان عيشي الهاني
من شاهده يصير كالولهاني ... لا أسمع فيه قول من ينهاني
ومنه
في القلب لكم منزل مقصور ... عن غيركم ومنكم معمور
في الذر عرفتكم فلا أنساكم ... يا من بهواهم جرى المقدور
ومنه
وعاذ لي يلوم ... يظن أني سليم
وما أصاب فأني ... كليم قلب سليم
ومنه
يا هاجراً لي طول عمري عامداً ... انعم بوصلك يا حياتي آخره
واجعل نصيبي القرب بتلك تفضلا ... أولا " فإن العيش عيش الآخرة "
ومنه
جرحت يا نور عيني ... خدي بماء معين
وليس ينكر جرح ... أتى به " ابن معين "
ومنه
ومهفهف قبلت اشنب ثغره ... وبلوغ ذاك الثغر مالا يحسب
قال احسب القبل التي قبلتني ... فاجبت " انا أمة لا نحسب "
ومنه
مالي إليك رسول ... إلا نسيم العليل
فحملوه شذاكم ... يصح منه العليل
ومنه
مراسيل شوقي نحو ليلي رسائلي ... وكتمان وجدي من أجل وسائلي
ولكن جرى دمعي ونم بما جرى ... فتحقيق جار عند جار وسائلي
ومنه
بالله دع ذا التغابي ... واسمح برد الجواب
وارحم بعزك ذلي ... فقد أحاط الجوا بي
ومنه
بالله ما بينكم وبيني ... حتى اطلتم زمان بيني
لا عيش إلا إذا وصلتم ... عذاب بين يعذب بيني
ومنه
بالوصل منك مريض هجر يشتفى ... مما ألم به ومثلك من شفا
يا منتهى الآمال يا كل المنى ... ادركه فهو من الصدود " على شفا "
ومنه
افدي الذين إذا ما ... ذكرتهم انسوني
أنستهم فنسوني ... لابل هم آنسوني
ومنه
بلابل الحب تشدوا ... بكل معنى غريب
وليس تلك المعاني ... إلا لصب غريب
ومنه(1/95)
زار الحبيب فأحيا ... ميت الغرام وحيا
فشاهدوا ميت حي ... بزروة عاد حيا
ومنه
هواكم صار ديني ... يا عرب وادي العتيق
وقد جرى دمع عيني ... مما جرى كالعقيق
زمنه
يا حبذا يا حبذا يا حبذا ... بدر أصابني عليه كم من إذا
والله لا خطر السلو بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
ومنه
يا من له القلب بيت ... سواك مافيه مرا
أراك تسأل عنه ... و " صاحب البيت أدرى "
ومنه
يا قتيل الغرام كن لي معنى ... أنا في الحب الطف الناس معنى
لو رآني مجنون ليلى لقرت ... عينه بي وهام في كل معنى
ومنه
سلم لهم من الطافهم عجبا ... واخضع لهم يا طفيلي الهوى أدبا
ولا تقل سببي يوماً ولا نسبي ... يكفي بهم سبباً يكفي بهم نسبا
ومنه
يا سالب النوم عن جفوني ... اجعل لهذا الصدود حدا
واشرح بطيب الوصال صدري ... نقداً وإن شئت كان وعدا
أنت لروح المحب قوت ... وطالب القوت ما تعدا
ومنه
يا هاجراً حبي له زائد ... لا " صلة منك ولا عائد "
لم أنس طيب الوصل فيما مضى ... يا ليت ذاك الوصل لي عائد
ومنه
أيها اللحظ المريق دمي ... أنت في حل وفي سعة
حبذا يا فتنتي قدمي ... بي إلى حتف الهوى سعت
نسبي في الحب ثابتة ... همتي عن غيره سمت
كنت مجهولاً بلا سمة ... وهي لي بين الورى سمتي
كم معان فيك يا قمري ... للمعنى الصب قد دعت
من تمعناها وعاينها ... عاش في حفظ وفي دعة
والسودي نسبة إلى قرية تسمى " سودة شضب " . وهي على ثلاثة مراحل من صنعاء ونسبه يرجع إلى بني شمر وهم من أولاد كندة وكان للشيخ نفع الله به ولدان : احدهما عبد القادر والآخر محمد، ومات عبد القادر في حياة أبيه وخلف بنتاً ولم يبق للشيخ عبد الهادي الآن نسل إلا منها. وأما محمد فعاش بعد والده وصار متوالياً قضاء تعز، ولما استولى الاروام على تعز لزموه وبعثوا به إلى مصر فمات هناك. وذلك في حدود الستين بعد التسعمائة.
وفيها توفي السلطان الأعظم مظفر شاه ابن محمود شاه صاحب كجرات، وكان عادلاً فاضلاً محباً لأهل العلم، وكان حسن الخط وكتب بيده جملة مصاحف أرسل منها مصحفاً إلى المدينة الشريفة. وخرجت روحه وهو ساجد والظاهر أنه هو الذي وفد عليه الشيخ العلامة بحرق الحضرمي، وصنف بسببه السيرة النبوية وإن كان اسم الكتاب يشعر بغير ذلك فإنه ما كان في ذلك الزمان أحد ممن ولي السلطنة اسمه أحمد غيره. ولم يزل عنده مجللاً مجرماً إلى أن مات.
سنة ثلاث وثلاثين بعد التسعمائة(1/96)
وفي يوم الأحد سابع شهر صفر سنة ثلاث وثلاثين. توفي العارف بالله الرباني والقطب الصمداني شافعي زمانه وجنيد أوانه. ولي الله بالاتفاق وشيخ المشايخ على الاطلاق المشهور في الآفاق الشيخ محمد بن علي بن عراق الكناني الشافعي بمكة المشرفة زادها الله شرفاً وتعظيماً. وكان وصوله من مكة إلى المدينة المصطفى في شهر رمضان من سنة اثنين وثلاثين لاطفاء الفتنة التي اطفاها الله تعالى بوصوله بين الشريف أبي نمى ابن بركاب والأروام وأميرهم سلمان ومعهم خير الدين واظهارهم أن نيتهم العزم على الفرنج فقتلا كلاهما باليمن، وكان رضي الله عنه من كبار المشايخ العارفين وبقية الصفوة من الأولياء الوارثين، وكان من رجال الطريق ومشايخ التحقيق وخاتمة ذوي العرفان وعمدة في تربية المريدين. ومن كراماته أنه كان في يوم من الأيام جالساً تحت شجرة فمر على خاطره قول البوصيري في البردة " وراودته الجبال الشم من ذهب " البيت وان ذلك قليل بالنسبة إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال فما استتمت بخاطري إلا ونظرت إلى تلك الشجرة قد استحالت ذهباً فهالني ذلك وتضرعت إلى الله تعالى حتى عادت كما كانت، وله نفع الله به عقيدة مختصرة وهي هذه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم إنا نوحدك ولا نحدك، ونؤمن بك ولا نكيفك جل ربنا وعلا تبارك وتعالى. حياته ليس لها بداية فالبداية بالعدم مسبوقة، قدرته ليس لها نهاية فالنهاية بالتحقيق ملحوقة، إرادته ليست بحادثة فالحادثة بالاضداد مطروقة، سمعه ليس بجارحة فالجارحة مخروقة، بصره ليس بحدقة فالحدقة مشقوقة، علمه ليس بكسبي فالكسبي بالتأمل والاستدلال بعلم، ولا بضروري فالضرورة على الارادة والالزام تلزم، كلامه ليس بصوت فالأصوات توجد وتعدم، ولا بحرف فالحروف تؤخر وتقدم، ذاته ليست بجوهر فالجوهر بالتحيز معروف، ولا بعرض فالعرض باستحالة البقاء موصوف، ولا بجسم فالجسم بالجهات محفوف، هو الله الذي لا آله إلا هو الملك القدوس على العرش استوى من غير تمكن ولا جلوس، لا العرش له من قبل القرار ولا الاستواء من جهة الاستقرار، العرش له حد ومقدار والرب لا تدركه الأبصار، العرش تكيفه خواطر العقول وتصفه بالعرض والطول، وهو مع ذلك محمول والقديم لا يحول ولا يزول، العرش بنفسه هو المكان وله جوانب وأركان وكان الله ولا مكان، وهو الآن على ماعليه كان. جل عن التشبيه والتقدير والتكييف والتغيير والتأليف والتصوير. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والصلوة والسلام على سيدنا محمد البشير النذير، ونستغفر الله من كل تقصير غفرانك ربنا وإليك المصير. انتهت العقيدة وشرحها شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي. وله وصية غير نافعة وغير ذلك. ومن أولاده الشيخ العلامة الحبر الفهامة قدوة وقته في المعقول والمنقول، والمعول عليه في الفروع والأصول شيخ الأنام بطيبة النبوية. ومرجع الخاص والعام بالحضرة المصطفوية الشيخ علي وكان من كبار أهل العلم، وله جملة مصنفات منها: شرح على العباب في الفقه إلا أنه لم يتم، ومنها تنزيه الشريعة عن الأحاديث الموضوعة وهو كتاب جليل عظيم الفائدة، ومنها الصراط المستقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم، واختصر رحلة ابن رشيد، وعمل تذكرة جمع فيها فوائد عديدة. وسئل عن القهوة بهذه الأبيات:
أيها السامي لكلتا الذرتين ... بجوار المصطفى والمروتين
والعلي القدر علماً وكذا ... ذا علا فوق زين النيرين
من له في الزهد باع ويد ... وهو في بذل الندى رحب اليدين
افتني في قهوة قد ظلمت ... حيثما شئت تعاطيها بشين
من تله هالنا مهيعه ... وافتراق للاقاويل ومين
ومراعاة أمور شاهدتها ... في الحان كلتا المقلتين
وحكى شرابها أهل الطلا ... فالتداني بين تين الفردني
اودعو ذا الطرس ما يرجوا الغنى ... وادعوا فاليأس احدى الراحتين
فأجابه رحمه الله
أيها السامي سمو الفرقدين ... وإمام العلم مفتي الفرقتين
يا رضي الدين يا بحر الندى ... من رجاكم راح مملوء اليدين(1/97)
جاءني منكم نظام قد حكى ... في نصوع اللفظ مسبوك اللجين
قلت فيه إن ذا القهوة قد ... خلطوها بتله ويمين
وبمطعوم حرام وغنى ... وبرقص وبصفق الراحتين
وطلبت الحكم فيها بعدما ... قد رأيتم ما ذكرتم رأي عين
فعلى ذي الأمر انكار الذي ... شابها حتى يصفى دون رين
فإذا لم يستطعه دون أن ... يمنع الأصل ففعل منه زين
والتداني من حماها وهي في ... وصفها المذكور شين أي شين
والصفا في شربها مع فئة ... اخلصوا التقوى وشدوا المئزرين
ثم ناجوا ربهم جنح الدجى ... بخشوع ودموع المقلتين
فابتداء الأمر فيها هكذا ... قد حكوه عن ولي دون مين
ذا جوابي واعتقادي أنه ... في اعتدال كاعتدال الكفتين
ومن شعره أيضاً
قالوا العزيز له صفات أربع ... بالقهر يأخذ كل من يطأ عليه
صعب الوصول له وقل نظيره ... واشتدت الحاجات من كل إليه
ومنه
ولربما صاد العقاب بكيده ... من لو تراه لخلته مكسالا
حتى تحقق والقضاء مساعداً ... إن العلا ما اعجزت محتالاً
صورة شيء من اجازة صاحب العباب المزجد للشيخ علي بن عراق بعد أبيات تتضمن الحمد والصلاة:
وبعد فالولد العالي علي ... فتى محمد بن عراق العالم العلم
السالك الناسك المحي طريقة من ... روى فأروى الورى من ورده الشيم
فالله يبقيه في خير وعافية ... من غير بأس ولا بؤس ولا نقم
أراد مني إجازات ولست هنا ... اني وإن كنت موجوداً فكالعدم
" انا المعيدي فاسمع بي ولا ترني " ... نعم وما السمن المريء كالورم
وقد علمت بحسن الظن منه بما ... دعى إليه بأمر منه منحتم
أجزته في علوم الشرع أجمعها ... وكلما لي من نثر ومنتظم
بما لها من أسانيد مطولة ... عن المشايخ أهل الفضل والهمم
هذا نهاية ما استطيع جئت به ... ومن يقصر وراء الجهد لم يلم
والحمد لله حمداً لانفاذ له ... على التواصل في بدء ومختتم
ثم الصلاة على المختار من مضر ... ما اومض البرق من محلولك الظلم
صورة صدر اجازة الشيخ أبي القاسم ابن اقبال للشيخ علي بن عراق: الحمد لله الذي جعل صدور العلماء مشكاة لمصابيح الأنوار وامدها بزيت من الهداية والتوفيق " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار: وزين ظواهرهم بالسكينة والوقار وبواطنهم بمعارف عوارف الأسرار. وفي تذكرة الشيخ علي بن عراق آدم لما أهبط وأزال درنه وظفره وشعره خلق الله منه النخلة فالخشب من الدرن والجريد من الظفر والليف من الشعر. وتاريخ وفاته لم أقف عليه وهذا هو الذي منعني من أن أترجم له على حدته رحمه لله تعالى. ومن أولاد الشيخ محمد بن عراق أيضاً الشيخ عبد النافع، وكان عالماً فاضلاً فصيحاً بليغاً رئيساً كبيراً ذا أدب وظرف وملح ولطف. وحكي أنه سئل عن الشوي الذي يصنعه الحضرميون المسمى عندهم المظبي أتقول به معنى يعجبك ؟ فقال: حتى أذوقه فلما ذاقه قال نعم أقول به، أقول به قلت: وعلى ذكر الشوي المذكور ذكرت بيتين فيه لصاحبنا الأديب الفاضل جمال الدين محمد بن عبد اللطيف مخدوم زاده هما:
إن الهباريش لها لذة ... تفوق لذات الشوي والكباب
ولذة الوقصة لا تنسها ... وهي التي تنسيك شرخ الشباب(1/98)
والحضارم يسمون ما يشوى من سواد البطن ونحوه. الهباريش بالهاء والباء الموحدة وبعدها ألف وراء ثم تحتية وأخره شين معجمة. ومن عادتهم انهم إذا جلسوا على أكلة يشرع أحدهم في قطع اللحم فيدور فيه على الجماعة فيدفع إلى أحدهم قطعة ويصنع بالآخر مثل ذلك ومثله بالآخر إلى أن تعود نوبة الأول فيعطيه ويستمر كذلك إلى أخر أكلهم، ويسمون ذلك الأكل على هذه الكيفية الوقصة. ويجدون لذلك لذة عظيمة لا يعد لها لذة أخرى. وله أشعار رائقة وأخبار فائقة. ومن شعره وفيه التورية والإنسجام والتوجيه:
يا قائلين وقولي حين اذكرهم ... كم هكذا اغتدى في غربة وفراق
لو سار ركب بعشاق الهوى رملاً ... نحو الحجاز لما ذاق النوى ابن عراق
وله أيضاً
كل له ورد يكون وسيلة ... لمعاشه ومعاذه ومعاده
وجعلت وردي في الخروج عن السوي ... وأكون مع مولاي تحت مراده
ومنه
هذه القهوة هذه ... ليست المنهي عنها
كيف تدعى بحرام ... وأنا اشرب منها
ومنها
لشارب قهوة البن التغادي ... فسر شرابها في الكون بادي
لها عرف العنابر في الأيادي ... ولون المسك تشرب بالزبادي
وحكي أنه كان له أخ يسمى نعمان وولد له ابن من سرية له حبشية فأنشد في ذلك:
وقد نلت البنين من السراري ... وأقربهم إلى روحي وجاشي
وليد لا يزال يقول عمي ... هو النعمان والخال النجاشي
قلت وعلى ذكر النعمان والنجاشي فقد وقع لي تشبيه بديع جداً ولكن في غير هذا المعنى:
خديد حبي حكى الشقائق ... وخاله خلته وجه وأشي
رمت تشبيهاً فقال خذه ... أنا النعمان والخال النجاشي
وكان تولى الخطابة بالمدينة الشريفة، وتولى القضاء الأقضية باليمن. وللعلامة الفقيه عبد الله ابن محرمه فيه وهو يومئذ قاضي الأقضية بزبيد لما غاب عنها إلى بندر المخافي أواخر شهر جمادى الأولى وأوائل جمادى الآخرة من سنة ست وخمسين وتسعمائة وذلك شعر:
رأيت زبيد في شهري جمادى ... بآخر ذا وأول ذا كئيبة
وبدر جمالها فيه انكساف ... وقد كانت محاسنها عجيبة
فقلت لها أخبريني أي شيء ... كساك الكسف؟ قالت لي مجيبة
ألست نظرت في علم الطبيعي ... ففي الهيئات علة ذا قريبة
وذلك أن نور الشمس يعطي الضيا ... للبدر وهي له حبيبة
فحين يحول ظل الأرض عنها ... عراه كسفة ولقي المصيبة
وشمسي غاب عني فاعتراني ... كسوف وضاق أنحائي الرحيبة
فإن شمسي تعود يعود نوري ... وتصفوا كل أحوالي الشغيبة
فبا الله اطلبوا ربي يعيده ... ويحرسه من النوب التعيبه
ويصحبه بتأييد ولطف ... فما يخشى الذي ربي صحيبه
وله أيضاً
سألت زبيد عما قد عراها ... من الأظلام في وجه وخد
وقلت لها اما سبب لهذا؟ ... فقالت لي مفارقه الأفندي
ولم أعثر على تاريخه أيضاً رحمه الله تعالى آمين.
سنة أربع وثلاثين بعد التسعمائة(1/99)
وفي سنة أربع وثلاثين أخذ الإمام الجواد أحمد مدينة هرر من بلاد الحبشة وضعف عن مقاومة سلطانها، وكان من ولد سعد الدين، ولم يزل أمر الإمام بعد يعظم حتى صار إلى ما صار إليه، وأستفتح كثيراً من بلاد الحبشة وقهر الكفار، وواظب على الجهاد والغزو في سبيل الله، ونقل عنه في ذلك ما يبهر العقول حتى سمعت بعضهم يقول ما تشبه فتوحاته إلا بمثل فتوحات الصحابة. وناهيك فيمن يكون بهذه المثابة، وكذلك حكي من أمر شجاعته حكاية غريبة قالوا: وكانت أموره جميعاً على قوانين الشريعة الغراء حتى أنه كان يخرج الخمس من الغنيمة ويصرفه إلى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم. ورأى بعض الأخيار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وعنده الإمام المذكور. قال الرائي فقلت: يا رسول الله من هذا الرجل قال: هذا رجل نشأ فصلح به بلاد الحبشة وكانت هذه الرؤيا قبل أن يترقى الإمام إلى هذا المقام، ورأى بعضهم العيدروس وهو يقول: لا تسمونه سلطاناً ولا أميراً سموه إمام المسلمين، وبالجملة فكان هذا الرجل من آيات الله تعالى رحمه الله تعالى آمين.
سنة خمس وثلاثين بعد التسعمائة
وفي شهر ربيع الثاني سنة خمسين وثلاثين توفي محمد بن علي ابن أحمد بن سالم الجناجي بجيمين الأولى مضمومة بينهما نون خفيفة، نسبة لجناج قرية بين البحرارية وسنهور من الغربية، ثم القاهري الأزهري المكي وربما يعرف هناك بابن وحشي بمكة، وصلي عليه عند باب الكعبة ودفن بالمعلا، وكان مولده في سنة ستين أو بعدها تقريباً. وحفظ القرآن ونحو النصف الأول من مختصر الشيخ ومن ألفيه النحو، وأشتغل عند داود الفلتاوي في الفقه والعربية بل وقرأ على السنهوري النصف من توضيحه وسمع عليه غير ذلك وقرأ على الديمي البخاري، وسمع على الكمال ابن أبي شريف في مسلم، وعلى الشاوي في البخاري بحضرة الخيضري كذا ذكر السخاوي قال: وحج غير مكة ولقيني في سنة سبع وتسعين بمكة فقرأ علي الموطأ، ونحو النصف من الشفاء بسماع باقيه ولازمني في غير ذلك سماعاً وتفهماً ولديه استحضار ومشاركة وأختص بالشمس الحلبي التاجر، ثم بأبي الفتح ابن كرمون وسافر معه إلى اليمن فحصل ما أرتفق به وعاد بعد أشهر في سنة تسع، وأستمر مقيما بمكة يقرى ولد المشار إليه بعد رجوع الأب إلى القاهرة،ومعه جارية يتقنع بها ولا بأس به. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وقد رزق منها ذكران وبنت وأنقطع بمنزله من وجع رجله وتقرر في عدة وظائف، وضرر فصار أولاده يباشرونها عنه بحيلة واظهار فضيلة وأستمر على ذلك حتى مات رحمه الله.
وفيها: كانت وفاة الأمير سلمان الرومي الذي قتل في جزيرة المجاملة قريباً من بندر البقعة ويجمع مقتله له " قررت " وكانت قاتله ابن أخته خير الدين ثم ان مصطفى بهران ابن أخت الأمير سلمان الثاني استوفي وأخذ ثار خاله بقتل خير الدين ثم دخل الهند مصطفى بهرام هو والخواجه صفر سلماني فخوطب مصطفى بهرام برومي خان وخوطب صفر بخدواند خان وسيأتي ذكرهما وتاريخ ذلك العام قريباً.
سنة ست وثلاثين بعد التسعمائة(1/100)
وفي عصره صفر يوم الخميس تاسع عشر المحرم وثلاثين توفي الشهاب أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عمر بن عبد الله ابن أبي بكر الفاكهي الأصل المصري المكي الشافعي ابن أخت السراج، وجهز في ليلته، وصلي عليه صبح يوم الجمعة، ودفن على قبر أبيه وجده في شعب الأقصى جوار الفضيل بن عياض وتربة بني الشيبي، وكان مولده في شعبان سنة ثمان وستين وثمانمائة بمكة ونشأ بها فحفظ القرآن واربعين النووي والأرشاد لابن المقرى والفية بن مالك، وعرض على البرهان ابن ظهيره، والمحب الطبري والعلمي وعمر بن فهد في آخرين قال السخاوي: سمع مني بمكة والمدينة أشياء بل قرئ علي بالقاهرة في سنن أبي داود، وتكرر قدومه لها وهو حاذق فطن منور: قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وبعد المؤلف استمر على حاله في التودد والحذق وكثرة دخول القاهرة ومخالطة الأكابر مع الحرص على تحصيل الوظائف، وتزوج واحدة بعد أخرى ورزق جملة من أولاد أنجبهم عبد الله من حبشية، وغيره من مكية ومدنية، وحصل الأملاك وعمرها ثم ضعف في آخر عمره، وطلع له فتق في بدنه، وأنقطع في بيته نحو جمعة بالإسهال، ثم مات بعد وصية وحصل بالإسهال الشهادة، ووقى فتنة القبر بموته يوم الجمعة وناهيك بهما من سعادة رحمه الله تعالى وايانا. وخلف عبد الله وعمر وعبد القادر وأبا السعادات قلت: وقد أشتهر كل من أولاده بمزيد العلم خلا عمر، وسيأتي ذكر الثلاثة منهم عند ذكر السنة التي توفوا فيها فليعلم.
وفيها: توفي السيد الشريف الفقيه حسين بن أحمد بن علي باجبهان باعلوي وكان فقيها فاضلاً صاحب إتقان وتحقيق تفقه بجماعة من أهل عصره وعلماء مصره كالفقيه أحمد بن علي خرد الملقب قاضي شريف، والعلامة الفقيه عبد الله بن محمد باقشير صاحب القلائد والفقيه علي بن عبد الرحمن باحرمي والفقيه الزين بن الفقيه عبد الله با فضل، وكان محفوظه الارشاد للمقري في الفقه والفية بن مالك في النحو والشاطبية في القرآات، وقرأ المنهاج للنووي مراراً وقرأ روض المقري والإسعاد شرح الإرشاد لأبن أبي شريف، وغير ذلك من كتب المذهب وكانت وفاته بروره من بر سعد الدين رحمه الله تعالى آمين.
سنة سبع وثلاثين بعد التسعمائة
وفي سنة سبع وثلاثين سار جدي الشيخ عبد الله العيدروس للحج وأستصحب معه ولده سيدي الوالد، وكان الأروام في تلك السنة حصروا عدن ومنعوا المراكب أن تسير إليها مدة من الزمن فلما وصل سيدي الجد إلى الشحر، وسمع به الأمير مصطفى بهرام الرومي وكان يريد الهند فتوة في الشحر جاء إليه يزوه فأخبره سيدي الجد بأنه يريد عدن فأذن له وسار إليها، وكان يوم دخوله فيها يوماً مشهوداً، وكان سلطانها يومئذ عامر بن داود آخر ملوك بني طاهر، فقابله بالإجلال والإكرام وقام بواجبه أتم القيام.
سنة ثمان وثلاثين بعد التسعمائة
وفي ليلة السبت سادس عشر شوال عام ثمان وثلاثين توفي يحيى بن علي بن أحمد ابن شرف الدين الرحبي الأصل المكي المالكي، ويعرف كأبيه بالمغربي، فجهز في ليلته وصلي عليه في صباحها، ودفن بالمعلا عند قبر جده رحمه الله، وكان مولده في ليلة الأربعاء رابع عشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وستين بمكة، ونشا بها فحفظ القرآن وأربعين النووي. والشاطبية. والرسالة وألفيه النحو، وعرض في سنة تسع وسبعين على قضاء مكة الأربعة، وعمر بن فهد وأشتغل قليلاً، وحضر عند الفخر بن ظهيرة وأخيه البرهان مع ذكاء وفهم ثم تعانى التجارة بعد ان أثبت البرهان ابن ظهيره رشده، وسلمه ماله وسافر في التجارة لدمشق وتلقن في القاهرة الذكر من ابن عبد الرحيم الأنباسي. ذكره السخاوي في تاريخه قال: وله تردد إلي وسماع علي ولي إليه زائد الميل، ونعم هو تواضعاً وأدباً وفهماً وذكاء وحسن عشرة بحيث صار بيته بمكة وغيرها مألفاً لأحبابه مع عدم اتساع دائرته. قال الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله أقول: وعاش بعد المؤلف، وتردد للقاهرة وأقام بها مدة ثم عاد لمكة، وأستمر على حاله في الجمع لأحبابه حتى توفي بعد طول مرض انقطع بسببه في المنزل مدة أعوام، ولم يخلف غير ابنة واحدة ملكها جميع مخلفه وأثبت ذلك في حياته رحمه الله.(1/101)
وفيها: توفي الفقيه صالح المقري إبراهيم بن علي ابن الولي علوي خرد باعلوي، وعمره سبع وثلاثون سنة لأنه ولد سنة إحدى وتسعمائة كما قاله أخوه المعلم خرد تفقه بالعلامة المزجد، والعلامة الربيع وغيرهما، وكان يحقق للقراء العشرة ورواتهم برواياتهم، ولم يسبق إلى ذلك فيما نعلم في زمننا في قطرنا ولا قبل ولا بعد، بل كانوا يحققون للسبعة، وكان حسن العشرة، وجاور بمكة المشرفة ومات بها رحمه الله تعالى آمين.
وفيها: كان وصول مصطفي بهرام إلى أرض الهند، ووصل في صحبته المدفعين المشهورين المسميين. ليلى والمجنون.
سنة تسع وثلاثين بعد التسعمائة
وفي سنة تسع وثلاثين: قفل سيدي الشيخ الجد عبد الله العيدروس من الحج إلى عدن، وأمر ولده سيدي الشيخ الوالد بالذهاب إلى الإمام أحمد الجواد بالحبشة بسبب دين لحقه ففعل، وحصل المقصود على أحسن الوجوه وأجملها، ورجع إلى عند والده بعدن في مدة يسيرة جداً، وقضى الله عنه ذلك الدين الذي كان استدانه في سفره إلى الحج، ورأيت بخط سيدي الوالد إن جائزة الجراد لهم كانت. ألف وخمسماية ذهب.
سنة أربعين بعد التسعمائة
وفي آخر ذي الحجة سنة أربعين: توفي الشريف الصالح الفقيه العابد الولي شيخ ابن الولي عبد الله ابن الاستاذ الأعظم الشيخ عبد الرحمن السقاف، وكان كثير العبادة متواضعاً تفقه على علماء عصره، قرأ التنبيه على العلامة الصالح الفقيه محمد بن أحمد بافضل، وقرأ المنهاج على الفقيه محمد بن عبد الله با جعفر وابن أخي المذكور كان فاضلاً بليغاً نقل الحاوي والالفية. وقرأهما وحققهما على العلامة محمد بن أحمد بافضل بعدن، ونظم على منوال القصيدة الموسومة بالوترية. قصيدة أجاد فيها. ذكره المعلم خرد في كتابه، النور المضي والدر البهي ولم يذكر تاريخ الوفاة. والظاهر أنه كان إذ ذاك حياً، واسمه عبد الله بن أبي بكر وكان يعاني التجارة.
وفيها: خرج سيدي الوالد من عدن إلى تريم بأمر والده وتزوج فيها، وولد له ولد مات صغيراً، وقرأ في تلك السنة على الفقيه عبد الله باسهل وغيره من المشايخ.
سنة إحدى وأربعين بعد التسعمائة
وفي سنة إحدى وأربعين: توفي العالم الكبير ملا عماد بن محمود الطارمي مولده بطارم: قرية من خراسان نشأ بها، واشتغل بتحصيل فنون العلوم حتى برع ثم جاء إلى كجرات، وأقام بها إلى أن مات، وسمعت شيخنا ملا عبد الرحمن ابن حسن يقول: إن والد صاحب الترجمة كان يعاني التجارة فاتفق أنه صنع خيمة عظيمة انفق فيها مالاً جزيلاً ورصعها بالجواهر واللآءلي، وذهب بها إلى ملك الروم فعجز عن قيمتها ثم أتى بها إلى كجرات وذلك في عهد السلطان محمود الكبير فلم يأخذها أيضاً فأراد الرجوع إلى وطنه فاتفق أن مر ذات يوم وكان يوم جمعة على بعض المساجد، وكان الشيخ الكبير شاه عالم في ذلك المسجد فسمع الجلبة والغوغاء فقال: ما هذا فقيل له بالقصة فقال: اطلبوه فاحضر بين يديه وعرض تلك الخيمة عليه فاشتراها الشيخ منه على أن يؤدي إليه الثمن بعد أيام ورجع إلى منزله فقال بعض الناس له: ايش صنعت ابتعت من هذا الشيخ من أين يعطي هذا المبلغ الذي عجز عنه الملوك ؟ فدخل عنده هذا الكلام وذهب من وقته إلى الشيخ فوجده جالساً وقد نصب الخيمة وجعلها نهبة للناس فلما رأى التاجر ذلك هاله هذا الأمر، وطلب من الشيخ المبلغ قبل حلول الأجل فقال الشيخ: لقد حرضك بعض الناس على هذا أي جنس من النقد تختاره فذكر نقداً معيناً فرفع الشيخ بساطاً كان تحته وأمره أن يأخذ حقه فوجد ذلك المبلغ بعينه من جنس ما طلب هناك من غير زيادة ولا نقصان. فاعترف عند ذلك بقدر الشيخ، وطلب منه أن يرزقه الله ولداً فأخرج الشيخ تانبولا من فيه وأعطاه إياه وقال له: سيكون ذلك انشاء الله تعالى فرجع إلى بلده وولد له هذا الولد واشتغل بتحصيل العلوم حتى فاق اقرانه، وكان قد سمع من والده أحوال الشيخ وكراماته فسافر الى كجرات لملاقاته فما قدر الله وصوله إليها إلا بعد وفاته، وكان وصل في عهد السلطان مظفر بن السلطان محمود، وكان بارعاً في كثير من العلوم سيما العقليات قيل: انه كان عنده منها كذا وكذا علماً، وكانت له يد طولى في علم السيمياء وعنه في ذلك حكايات مشهورة وممن أخذ عنه من العلماء الأعلام مولانا وجيه الدين، ومولانا العلامة القاضي عيسى.(1/102)
وفيها: توفيت فاطمة بنت القاضي كمال الدين محمود بن سيرين بالقاهرة، ودفنت بالقرافة. ولدت تقريباً سنة خمس وخمسين وثمانمائة، ونشأت فتعلمت الكتابة وما تيسر، وتزوجت الناصر بن محمد بن الطنبغا فاستولدت ابنتها فاطمة وغيرها، ثم مات عنها فتزوجها العلآء علي بن محمد ابن بيبرس حفيد ابن أخت الظاهر برقوق فاستولدها بيبرس. ولاحظ لها في ذلك مع براعتها في النظم وحسن فهمها وقوة جنانها حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه. ذكرها السخاوي في تاريخه، وذكر كثيراً من نظمها مما امتدحته به هو وغيره من فضلاء ذلك العصر. من ذلك أنها أرسلت إليه بأبيات تستفتيه فيها عن بعض المسائل فأجاب عنها نثراً، ومن ذلك أن الشهاب المنصوري كتب للزين سالم شعر:
أيا سيداً حسن الخلق اسمه ... وجمله والله بالخلق عالم
أعن بيد فيها أياد لسائل ... ولا تخش حساداً فانك سالم
فقالت هذه بديها:
أيا سيداً عم الخلائق بره ... واحسانه فرض تضاعف لازم
أعن سائلاً يأتيك والدمع سائل ... ولا تخش من سوء فانك سالم
وكان بحضرة السراج العبادي وغيره فرجحوها عليه، بل وفق المنصوري على ذلك قال: وقد حجت سنة أربع وثمانين، ثم سنة أربع وتسعين وجاورت في هذه بجوارنا، ثم في سنة ثمان وتسعين مع أبيها وجاورا في السنة التي تليها. قال الشيخ جار الله ابن فهد رحمه الله أقول: وبعد المؤلف عمرت نحو أربعين سنة حتى بلغت نحو خمس وثمانين سنة، وجاورت بمكة سنين عديدة في حدود العشرين، وخالطت سلطان مكة السيد بركات الحسني وزوجته. بل وامتدحتهما وانعما عليها بعدة انعامات. بل راسلها الشريف وغيره من الأكابر، وجمعت نظمها في عدة كراريس، وقد أخذت دورها في أول دولة الأروام وتوجهت للقاهرة بسببها، وفقدت نظرها وقدحت عينها فلم ينتج شيئاً، ثم مات ولدها سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وضعف حالها بعده رحمها الله قلت: وعلى ذكر قدح العين فهنا حكاية غريبة يحسن ذكرها. وهي أن الفقيه الصالح محمد بن الحسن بن عبدويه بفتح العين واسكان الباء الموحدة وفتح الدال المهملة والواو واسكان المثناة من تحت ثم هاء. تلميذ الشيخ أبي اسحاق الشيرازي كف بصره في آخر عمره، وكان متوطناً في جزيرة كمران. فقال بعض من كان يقرأ عليه: خرجت مرة من بلدي أريده في الجزيرة فدخلت المهجم فوجدت به طبيباً فاخبرته بحال الفقيه وسألته أن يسير معي فأجابني، وخرج معي إلى المهجم، ثم ركبنا البحر حتى أتينا الجزيرة فأتيت الفقيه وسلمت عليه وأخبرته بقدومي بالطبيب فقال: لا بأس ثم لما كان آخر اليوم الذي قدمنا فيه عليه دعى بابن ابن له فقال له: اكتب ثم املي عليه شعراً:
وقالوا قد دهى عينيك سوء ... فلو عالجته بالقدح زالا
فقلت الرب مختبري بهذا ... فإن اصبر انل منه منالا
وان أجزع حرمت الأجر منه ... وكان خصيصتي منه الوبالا
وإني صابر راض شكور ... ولست مغيراً ما قد أنالا
صنيع مليكنا حسن جميل ... وليس لصنعه شيء مثالا
وربي غير متصف بحيف ... تعالى ربنا عن ذا تعالى
قال: ولما بلغ قوله وإني صابر راض شكور البيت رد الله تعالى عليه بصره وأضاء له المسجد وعاين ابن ابنه وهو يكتب، وتكامل بصره بفضل الله تعالى فقال له: اعط الطبيب ما شرط له فقد حصل الشفاء باذن الله تعالى لا بمداواته.
سنة اثنين وأربعين بعد التسعمائة
وفي سنة اثنتين وأربعين: توفي الشيخ الشريف عبد الله بن علي ابن أبي بكر، وكان من الأولياء العارفين والعلماء العاملين، وكان والده يقول فيه: عبد الله صوفي حقاً. ومن كراماته أنه كان يجلس في بعض البيوت. بترم، وكان البيت غميماً فذكر له بعض الحاضرين: إن البيت غميم فقال: عادكم تنظرون من هذه الطاقة بيت فلان. فبعد نحو عشرين سنة اخرب السلطان بدر تلك البيوت وكانت كثيرة، ورأى البيت الذي كان أشار إليه من ذلك الموضع.(1/103)
وفيها: في ضحى يوم الخميس حادي عشر شعبان: توفي الفقيه العلامة عبد الله بن الفقيه محمد بن أحمد بافضل بعدن، وكان تفقه لوالده وانتصب بعده للتدريس بمسجد الدرسة بعدن، وكان فقيهاً محدثاً فاضلاً حسن الأخلاق شريف النفس مخالقاً للناس حسن السعي في حوائج المسلمين محبباً إلى الناس سليم الصدر، ثم عمي في آخر عمره وتطبب فرد الله عليه بصره، ولم يزل على الحال المرضي إلى أن توفي رحمه الله وهو من شيوخ والدي رحمه الله.
وفيها: توصل السلطان همايون إلى كجرات وهزم السلطان بهادر، وكان مصطفى بهرام المخاطب رومي خان هو الذي أغراه على ذلك، وحمله على المجيء إليها وكاتبه فيه، ثم عرض له بعد ذلك ما كدر خاطره من الخوف على ولايته القديمة، وتغلب بعض السلاطين هناك فذهب إليها، وعاد أمر كجرات إلى السلطان بهادر كما كان. وسبب طلب رومي خان له أنه كان استفتح للسلطان بهادر قلعة تسمى جيتور من الكفار بعد أن تعب في ذلك لأنها كانت حصينة وكان السلطان وعده بها ولم يتم له بذلك.
وفيها: قتل السلطان بدر الافرنج في الشحر بعد أن عزموا على قتله فخذلهم الله تعالى، وكان هو وإياهم في بيت يشربون، وقد أغلقوا الأبواب عليه فأخبرته بعض الجوار منهم، ولم يجد له مخرجاً إلا من بيت الماء فخرج منه، وسلمه الله منهم وأصبح في ذلك اليوم هلب عليهم، وقتلوا عن آخرهم، وأرسل برؤسهم إلى السلطان سليمان.
سنة ثلاث وأربعين بعد التسعمائة
وفي شهر ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين: توفي الفقيه الصالح القاضي عفيف الدين عبد الله بن أحمد سرومي الشحري بمكة، وكان عزم إلى الحج في السنة المذكورة فلما أن وصل إلى مكة توفي بها قبل الحج في شهر ذي القعدة، ودفن بالمعلاة، وكانت ولادته ببلدة الشحر ونشأ بها وقرأ بها القرآن ثم ارتحل لطلب العلم زبيد فأخذ عن إمامها الفقيه كمال الدين موسى بن الزين. والعلامة جمال الدين محمد بن حسين القماط وغيرهما، ثم رجع إلى بلدة الشحر، وأخذ عن عالمها الفقيه الصالح عفيف الدين بن عبد الله بن عبد الرحمن فضل المعروف بالحاج. ولازمه ثم سعى له رحمه في وظيفة القضاء بها في أيام السلطان عبد الله بن جعفر فولاه القضاء وذلك أول سنة عشر بعد وفاة القاضي الصالح عبد الله بن عيسرين بنحو سنتين، ولم يزل متوالياً بها القضاء إلى أن عزم إلى الحج، وكان رحمه الله تعالى يحب الطلبة، ويؤهلهم ويحب الإفادة والاستفادة، وكان لطيفاً قريب الجانب سليم الباطن ذكره الفقيه عبد الله بامخرمة في ذيل طبقات الاسنوي، وذكر أنه من جملة شيوخه قال: وأما معرفته في الفقه فلم تكن بذلك بل كان بعيد الذهن ضعيف التصرف، بل لم أر له تصرفاً لكنه كان كثير الاعتناء بالروضة قوي الصبر على الطاعة والأوراد النبوية، كثير التعظيم للأكابر من العلماء والصالحين، ونرجو من فضل الله أن يحشرنا واياه في زمرتهم وينفع الجميع ببركتهم آمين. وحكي أنه قدم إلى الشحر في بعض السنين بعض السياحين من أهل الارادة فقام ذات يوم إلى القاضي عبد الله وقال له: يا سيدي كيف الطريق إلى الله تعالى؟ فاطرق القاضي ساعة ثم قال: " ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " فخر ذلك السياح على أقدام القاضي يقبلها، وبلغني أنه كان اعتنى بحاشيته على الروضة لكن خفيت في آخر أيامه وبعد وفاته، والسبب في ذلك أن أحد أولاده دخل بها الهند حتى أنها عدمت ولم تظهر والله أعلم " .
" فائدة " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من خرج من بيته قاصداً للحج ومات قبل أن يحج فإن الله عز وجل يوكل ملكاً ينوب عنه بالحج في كل عام إلى يوم القيامة قلت: وجرى مثل هذا للشيخ القطب أبي الحسن الشاذلي نفع الله به فإنه سافر من بلده بنية الحج فمات قبل أن يحج، وحكي أن الشيخ في تلك السفرة قال لامحابه في هذا العام احج حجة نيابة: فمات قبل أن يحج، فلما رجع أصحابه إلى الديار المصرية سألوا المفتي شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام، وأخبروه بمقالته فبكى. وقال لهم: الشيخ والله أخبركم أنه يموت وما عندكم به علم، وقد أخبر به أن الملك هو الذي يحج نائباً عنه لأنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من خرج من بيته قاصداً للحج ومات قبل أن يحج فإن الله عز وجل يوكل ملكاً ينوب عنه بالحج في كل عام إلى يوم القيامة.(1/104)
وفيها: في ثالث شهر رمضان قتل السلطان بهادر ابن السلطان مظفر صاحب كجرات في بندر الديو. تجمع ذلك عدد حروف " قتل سلطاننا بهادر " .
سنة أربع وأربعين بعد التسعمائة
وفي ليلة الأربعاء رابع عشر شعبان سنة أربع وأربعين: توفي جدي الشريف عبد الله ابن شيخ ابن الشيخ عبد الله العيدروس بتريم، ودفن بها وكان مولده سنة سبع وثمانمائة، وكان من كبار الأولياء صحب عمه الشيخ الكبير فخر الدين أبا بكر ابن عبد الله العيدروس صاحب عدن، واختص به وكذا صحب عمه الشيخ حسن وأباه الشيخ شيخ وغيرهما من الأكابر وأخذ عنهم، وتخرج بهم إلى أن بلغ المرتبة التي تعقد عليها الخناصر، وكان له جاه عظيم في قطر اليمن، وقبول كثير عند الخاص والعام خصوصاً في ثغر عدن، ولبس منه الخرقة جماعة من أعيان مكة، وذكر الشيخ ابن حجر الهيتمي في معجم مشايخه: ان له في لبس الخرقة جملة طرق يرجع بعضها إلى العيدروس. والظاهر أن الشيخ ابن حجر لبس من المذكور بلا واسطة أو لبس من بعض أولئك الجماعة الذين لبسوا من يده الشريفة والله أعلم، وكان حسن الأخلاق كثير الانفاق شريف الأوصاف نقيب الاشراف وافر العقل ظاهر الفضل غني النفس قانعاً بالكفاف وضي الوجه أخضر اللون طويل القامة كثير المناقب عظيم المواهب ليس له في زمانه نظير وبحر فضائله عزيز. وبينما هو ذات في الحرم الشريف بمكة إذ دخل رجل بصبي وهو يهرول به وألقاه بين يديه فإذا برجله مرض واعوجاج خلقي فمسح بيده المباركة عليها فعادت كاختها مستقيمة ليس بها شيء ببركته، وكراماته كثيرة رحمه الله تعالى. وقد نظم صاحبنا العلامة عبد القادر ابن الشيخ الإمام العلامة محمد ابن الشيخ الإمام العلامة عبد القادر بن أحمد الحياني كتابي الفتوحات القدوسية فقال لما انتهى في النظم إلى ذكر هذا السيد العظيم وأتى من ذلك بما يفوق الدر النظيم:
أما أبوه الشيخ عبد الله ... ذو العقل والفضل وسيع الجاه
قد حاز في زمانه السيادة ... والعلم والزهد مع العبادة
عليه أنوار الجمال الباهره ... تخافه الملوك والجبابره
كريم نفس مكثر الانفاق ... مهذب وحسن الأخلاق
أوصافه كثيرة عديده ... شائعة بن الورى حميده
وفيها: في ذي القعدة توفي الفقيه الصالح الشريف عمر باشيبان ابن محمد بن أحمد بن أبي بكر، وكان مولده سنة ثمانين أو احدى وثمانين وثمانمائة، وكان من العلماء العاملين والأولياء الصالحين. وحكى الفقيه الصالح علي بن علي بايزيد الدوعني المقبور بالشحر: أنه زار السادة الأشراف آل باعلوي في بعض السنين فاجتمع بالشريف عمر باشيبان، ومما وقع له معه من الكرامات أنه قال عند الخروج لزيارة قبر نبي الله هود عليه السلام: تجدون عند القبر رجلاً من أهل الكشف يقال له محمد بن سليمان باسنان يتكلم بكلام يزعم أنه منامات، وهو من طريق الكشف فالزموه، وعنده ولدان من أولاد الأشراف أحدهما عقيل بن عبد الله، والثاني عبد الودود. فوجدنا الأمر كما ذكر، ووجدنا أولئك الذين سماهم بأسمائهم قال وقال لي: لا بد من عودة إلى هنا فعدت بعد ثلاثين سنة. ومن تصانيفه كتاب ترياق اسقام القلوب الواف في ذكر حكايات السادة الأشراف.(1/105)
وفيها: في ضحى يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رجب توفي الشيخ الإمام الحافظ الحجة المتقن شيخ الإسلام علامة الأنام الجهبذ الإمام مسند الدنيا أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين خاتمة المحققين شيخ مشايخنا المبرزين أبو محمد عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني العبدري وجيه الدين الشافعي العالم الفاضل ملحق الأواخر بالأوائل قال. رحمه الله ورضي عنه في آخر كتابه بغية المستفيد بأخبار زبيد: كان مولدي بمدينة زبيد المحروسة في يوم الخميس الرابع من شهر الله الحرام الحرم أول سنة ست وستين وثمانمائة بمنزل والدي منها وغاب والدي عن مدينة زبيد في آخر السنة التي ولدت فيها ولم تره عيني قط ونشأت في حجر جدي لأمي العلامة الصالح العارف بالله تعالى شرف الدين أبي المعروف إسماعيل بن محمد مبارز الشافعي رحمه الله، وانتفعت بدعائه لي في أوقات الإجابة وغيرها وهو الذي حدب علي ورباني واطعمني وسقاني وكساني وواساني وعلمني وأوصاني جزاه الله عني بالإحسان، وقابله بالرحمة والرضوان، وكان المذكور على قدم في عبادة الله عز وجل محافظاً على قيام الليل واحياء ما بين العشائين وملازمة الجماعة في الصلوات المفروضات تالياً لكتاب الله تعالى عارفاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخذ العلم عن غير واحد من أشياخ قطره وغيرهم كالعلامة نور الدين الفخري والخطيب كمال الدين الضجامي والنفيس العلوي والشيخ أبي الفتح المارفي والمقري شمس الدين الجزوي والقاضي زين الدين مكي وغيرهم رحمة الله عليهم، وصحب الشيخ الصالح شرف الدين أبا المعروف وإسماعيل ابن أبي بكر الجبرتي الصوفي نفع الله به، وقرأ كتب القوم وحفظها، وكانت له اليد الطولى في فتح مغلقها، وكان رحمة الله تعالى يؤثرني حتى على أولاده الذين لصلبه آثره الله بحبه وقربه، ثم أني تعلمت القرآن الكريم عند سيدي الفقيه نور الدين علي ابن أبي بكر خطاب كان الله له حتى بلغت سورة يس وانتفعت به كثيراً، وظهرت نجابتي عنده، ثم انتقلت إلى سيدي وخالي الفقيه العلامة جمال الدين أبو النجباء محمد الطيب ابن إسماعيل مبارز جزاه الله تعالى عني خيراً. فلما رأى نجابتي أمرني بنقل القرآن العظيم من أول سورة البقرة إلى آخره فقرآته عنده شرفاً واحداً حتى ختمته وحفظته بذلك الشرف عن ظهر القلب وأنا ابن عشر سنين ولله الحمد. ثم توفى الله والدي إلى رحمة الله تعالى ببندر الديو من بلاد الهند في أواخر سنة ست وسبعين، ولم يحصل لي من ميراثه سوى ثمانية دنانير ذهباً. ثم أخذت بعد ختم القرآن على خالي المذكور في علم القراآت السبع فنقلت الشاطبية، ثم قرأت القراآت عنده مفردة ومجموعة، وتم لي ذلك بحمد الله وعونه، ثم أخذت في علم العربية على خالي المذكور، وعلى غيره وأخذت عليه خصوصاً في علم الحساب والجبر والمقابلة والمساحة والفرائض والفقه حتى انتفعت في كل علم منها، ثم قرأت كتاب الزبد في الفقه للإمام شرف الدين البازري على شيخنا الإمام العلامة الصالح المعمر تقي الدين مفتي المسلمين أبي حفص عمر بن محمد الفتى بن معيبد الأشعري رحمه الله قراءة بحث وتحقيق وفهم وتدقيق في سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة، ثم حججت إلى بيت الله الحرام في آخرها، وانفقت الثمانية الدنانير التي ورثتها من والدي رحمه الله في تلك الحجة، ثم تقدمت بعد الحج إلى مدينة زبيد وقد توفي بها جدي المذكور في حال غيبتي، وكانت وفاته ضحى يوم الأربعاء منتصف المحرم سنة أربع وثمانين وثمانمائة عن ثمانين سنة غير أربعة أشهر رحمه الله تعالى، وكان قدومي يوم رابع موته فاقت بزبيد عند خالي المذكور في أطيب عيش وأتم سرور، ولم أزل عنده حتى ذهبت إلى الحجة الثانية في أواخر سنة خمس وثمانين فرجعت إلى مدينة زبيد سالماً غانماً، ثم مَنَّ الله علي الله بصحبة شيخنا الإمام العلامة المحدث بقية أهل اليمن زبن الدين أبي العباس أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الشرجي كان الله له، فأخذت عليه في علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هو المرشد لي إلى ذلك جزاه الله عني أحسن الجزاء فقرأت عنده صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود الترمذي والنسائي وموطأ الإمام مالك والشفاء للقاضي عياض وعمل اليوم والليلة لابن السني والشمائل للترمذي والرسالة للقشيري وجميع مؤلفاته ومصنفاته، وما لا يحصى من الأجزاء والكتب(1/106)
اللطيفة وبه تخرجت وانتفعت وألفت في حياته كتابي المسمي بغاية المطلوب وأعظم المنة فيما يغفر الله به الذنوب ويوجب به الجنة، وهو الذي تعلمت منه صنعه التأليف والتصنيف، وارتحلت في حياته بإشارته إلى بيت الفقيه ابن عجيل لزيارة الفقهاء بني جغمان، فأخذت في الفقه بها على شيخنا الإمام الصالح المقري ولي الله تعالى جمال الدين أبي أحمد الطاهر ابن أحمد عمر ابن جغمان فقرأت عليه منهاج الطالبين للنووي جميعه. ومن الحاوي الصغير وتيسيره للبارزي ونظمه لابن الوردي إلى ثلث كل كتاب منها، وأخذت في الحديث بها على شيخنا الإمام الأوحد الصالح ذي الفنون العديدة والمآثر الحميدة برهان الدين أبي اسحاق إبراهيم بن أبي القاسم بن جغمان، فقرأت عليه كتاب الأذكار للإمام النووي والشمائل للترمذي وعدة الحصن الحصين للجزري وغير ذلك، وسمعت عنده بقراءة غيري مجالس من صحيح البخاري ومسلم وبعضاً من كتاب الإرشاد مختصر الحاوي للعلامة شرف الدين ابن المقري وغير ذلك، وانتفعت بدعاء كل واحد من مشايخي المذكورين ومحبتهم لي رحم الله جميعهم وشكر صنعهم، ثم حججت الحجة الثالثة في سنة ست وتسعين وثمانمائة وزرت بعد الحج قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر ذي الحجة منها، ثم رجعت إلى مكة المشرفة في المحرم من سنة سبع وتسعين وثمانمائة فمنَّ الله علي بلقاء الشيخ الإمام حافظ العصر مسند الدنيا فريد الوقت شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المصري الشافعي فيها فصحبته وانتفعت به، وأخذت عليه في علم الحديث النبوي، وسمعت عنده كثيراً من صحيحي البخاري ومسلم، ومن كتاب مكشاة المصابيح للتبريزي، وجملة من الفية الحديث، وقرأت عليه كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ أبي الفضل ابن حجر، وبعضاً من كتاب سيرة ابن سيد الناس اليعمري المسماة بعيون الأثر، وبعضاً من كتاب رياض الصالحين للنووي، وثلاثيات البخاري وما لا يحصى من الأجزاء والمسلسلات وكان يجلني ويشير إلي ويعظمني ويقدمني على سائر الطلبة ويؤثرني وأحسن إلي كثيراً جزاه الله عني خيراً، ثم لما رجعت من الحج إلى وطني وألفت كتابي المسمي كشف الكربة في شرح دعاء الإمام أبي حوبة، ثم ألفت بعده كتابي هذا بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد. ولما وقف عليه مولانا السلطان الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب بن داود طاهر جدد الله سعوده ونصر جنوده، طلبني إلى مجلسه الشريف العالي المنيف واستجاده واستحسنه، ودعاني ونبهني على إلحاق أشياء فيه كنت أغفلتها، واستدراك فوائد شوارد لم اكن ذكرتها، ثم اختصرت منه كتابي المسمى. بالعقد الباهر في تاريخ دولة بني طاهر. ذكرت فيه دوله جديه بني طاهر ووالده ومآثرهم الحميدة ودولته المباركة الميمونة السعيدة. فلما وقف عليه مولانا السلطان أضاف علي مواهب الجود والإحسان وأجازني من مواهبه الهينة بجائزة ميمونة سنية، ثم حصل هذا التاريخ تحصيلاً عظيماً، وتقدمت به إلى مولانا السلطان وهو إذا ذاك بمحروسته المقرانة مقيماً، وقدمت إليه فأثابني بثواب عليه، وأفاض علي من مواهبه وكرمه ما يقصر صوب الغمام عن غزير ديمه، ولم أزل عنده في روض اريض وجود فياض عريض، حتى أذن لي في الرجوع إلى وطني وخلع علي خلعة نفيسة وأكرمني، وتصدق علي بيتاً منه سلطانية بمدينة زبيد للسكنى، وأعطاني قطعة نخل بوادي زبيد، وصيرني لاحسانه قناً وتلافاني بعد الضعف وتدارك، وجعل لي قراءة الحديث بجامع زبيد علي المنبر المبارك، فرجعت مسروراً إلى الوطن في نعمة وافرة وحال حسن شاكراً لجوده وإحسانه معترفاً بفضل وامتنانه. سائلاً الله تعالى أن يجمع الخلق على طاعته، وأن يمد في أيام دولته وأن يعز بمتابعته كل صبار شكور، ويذل بمخالفته كل ختار كفور، ويجمع له بين نصره العزيز وفتحه المبين، ويجعل كلمة الحق باقيه فيه وفي عقبة إلى يوم الدين، آمين.يفة وبه تخرجت وانتفعت وألفت في حياته كتابي المسمي بغاية المطلوب وأعظم المنة فيما يغفر الله به الذنوب ويوجب به الجنة، وهو الذي تعلمت منه صنعه التأليف والتصنيف، وارتحلت في حياته بإشارته إلى بيت الفقيه ابن عجيل لزيارة الفقهاء بني جغمان، فأخذت في الفقه بها على شيخنا الإمام الصالح المقري ولي الله تعالى جمال الدين أبي أحمد الطاهر ابن أحمد عمر ابن جغمان فقرأت عليه منهاج الطالبين للنووي جميعه. ومن الحاوي الصغير وتيسيره للبارزي ونظمه لابن الوردي إلى ثلث كل كتاب منها، وأخذت في الحديث بها على شيخنا الإمام الأوحد الصالح ذي الفنون العديدة والمآثر الحميدة برهان الدين أبي اسحاق إبراهيم بن أبي القاسم بن جغمان، فقرأت عليه كتاب الأذكار للإمام النووي والشمائل للترمذي وعدة الحصن الحصين للجزري وغير ذلك، وسمعت عنده بقراءة غيري مجالس من صحيح البخاري ومسلم وبعضاً من كتاب الإرشاد مختصر الحاوي للعلامة شرف الدين ابن المقري وغير ذلك، وانتفعت بدعاء كل واحد من مشايخي المذكورين ومحبتهم لي رحم الله جميعهم وشكر صنعهم، ثم حججت الحجة الثالثة في سنة ست وتسعين وثمانمائة وزرت بعد الحج قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر ذي الحجة منها، ثم رجعت إلى مكة المشرفة في المحرم من سنة سبع وتسعين وثمانمائة فمنَّ الله علي بلقاء الشيخ الإمام حافظ العصر مسند الدنيا فريد الوقت شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المصري الشافعي فيها فصحبته وانتفعت به، وأخذت عليه في علم الحديث النبوي، وسمعت عنده كثيراً من صحيحي البخاري ومسلم، ومن كتاب مكشاة المصابيح للتبريزي، وجملة من الفية الحديث، وقرأت عليه كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ أبي الفضل ابن حجر، وبعضاً من كتاب سيرة ابن سيد الناس اليعمري المسماة بعيون الأثر، وبعضاً من كتاب رياض الصالحين للنووي، وثلاثيات البخاري وما لا يحصى من الأجزاء والمسلسلات وكان يجلني ويشير إلي ويعظمني ويقدمني على سائر الطلبة ويؤثرني وأحسن إلي كثيراً جزاه الله عني خيراً، ثم لما رجعت من الحج إلى وطني وألفت كتابي المسمي كشف الكربة في شرح دعاء الإمام أبي حوبة، ثم ألفت بعده كتابي هذا بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد. ولما وقف عليه مولانا السلطان الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب بن داود طاهر جدد الله سعوده ونصر جنوده، طلبني إلى مجلسه الشريف العالي المنيف واستجاده واستحسنه، ودعاني ونبهني على إلحاق أشياء فيه كنت أغفلتها، واستدراك فوائد شوارد لم اكن ذكرتها، ثم اختصرت منه كتابي المسمى. بالعقد الباهر في تاريخ دولة بني طاهر. ذكرت فيه دوله جديه بني طاهر ووالده ومآثرهم الحميدة ودولته المباركة الميمونة السعيدة. فلما وقف عليه مولانا السلطان أضاف علي مواهب الجود والإحسان وأجازني من مواهبه الهينة بجائزة ميمونة سنية، ثم حصل هذا التاريخ تحصيلاً عظيماً، وتقدمت به إلى مولانا السلطان وهو إذا ذاك بمحروسته المقرانة مقيماً، وقدمت إليه فأثابني بثواب عليه، وأفاض علي من مواهبه وكرمه ما يقصر صوب الغمام عن غزير ديمه، ولم أزل عنده في روض اريض وجود فياض عريض، حتى أذن لي في الرجوع إلى وطني وخلع علي خلعة نفيسة وأكرمني، وتصدق علي بيتاً منه سلطانية بمدينة زبيد للسكنى، وأعطاني قطعة نخل بوادي زبيد، وصيرني لاحسانه قناً وتلافاني بعد الضعف وتدارك، وجعل لي قراءة الحديث بجامع زبيد علي المنبر المبارك، فرجعت مسروراً إلى الوطن في نعمة وافرة وحال حسن شاكراً لجوده وإحسانه معترفاً بفضل وامتنانه. سائلاً الله تعالى أن يجمع الخلق على طاعته، وأن يمد في أيام دولته وأن يعز بمتابعته كل صبار شكور، ويذل بمخالفته كل ختار كفور، ويجمع له بين نصره العزيز وفتحه المبين، ويجعل كلمة الحق باقيه فيه وفي عقبة إلى يوم الدين، آمين.(1/107)
آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا
وهذا محصل خبر مبتداه إلى منتهاه رحمه الله تعالى. أخذ عنه الأكابر كالعلامة ابن زياد والسيد الحافظ الطاهر بن حسين الأهدل، والشيخ أحمد بن علي المزجاجي، وغيرهم وأجاز لمن أدرك حياته أن يروي عنه فقال:
أجزت المدركي وقتي وعصري ... رواية ما تجوز روايتي له
من المقروء والمسموع طراً ... وما ألفت من كتب قليله
ومالي من مجاز من شيوخي ... من الكتب القصيرة والطويله
وأرجو الله يختم لي بخير ... ويرحمني برحمته الجزيله
وسمعت صاحبنا العلامة الفقيه محمد بن أحمد الجابري رحمه الله يقول: أخبرنا شيخنا السيد الطاهر بن عبد الرحمن ابن الأهدل قال أخبرنا شيخنا الضياء وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الدبيع بما لفظه قال أخبرني شيخنا القاضي العلامة العدل الفقيه محمد بن عبد السلام الناشري كان الله له وزاد فضله قال اخبرني الفقيه كمال الدين محمد بن عبد الله فقيش وهو رجل ثقة صالح قال أخبرني الفقيه عمر بن محمد الملاح وهو ثقة صالح قال: تزوجت امرأة شابة وأنا رجل كبير وكان أهلها يحبوني ويعتقدوني وهذه كارهة بباطنها لصحبتي من حيث كبري وتظهر الود من أجل أهلها فاتفق أن امرأة دخلت عليها خفية مني، وأنا أسمع وهي لا تشعر بي وكانت كلما تكلمت كلمة كتبتها في ورقة عندي، ثم أن المرأة أرادت أن تخرج فقالت لها زوجتي أصبري نقرا الفاتحة كما يفعل الفقيه وأصحابه فقرأت هي والمرأة فكتبت أيضاً قرآتهما الفاتحة، ثم ذكرت لأخوتها وقلت لهم لا تكرهوها وأردت أن أفارقها فكرهوا ذلك وعتبوا عليها، فأنكرت جميع ما صدر عنها فقلت لهم قد كتبت كلامها في ورقة، ثم جئت بالورقة لأريهم كلامها فلم أجد في الورقة شيئاً سوى الفاتحة وهذا من بركات الفاتحة. قال الحافظ الديبع قال شيخنا جمال الدين هذا ما أخبرني به الفقيه محمد فقيش ولعمري أن هذا من فضلها قليل. وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم أنها رقية، وذلك حقيقة أنها رقية الظاهر والباطن. قال الفقيه محمد بن عبد السلام ولقد أخبرني الفقيه محمد بن عطيف أيام وصل إلينا زبيد: أن رجلاً رأى أن القيامة قامت، وأن منادياً ينادي يا أهل اليمن قوموا ادخلوا الجنة فقيل للمنادي بما أعطوا هذه المنزلة ؟ قال لقرأتهم الفاتحة ، وكان اخباره لي بذلك إنا كنا إذا دخلنا عليه نتحدث عنده ساعة فإذا أردنا الخروج طلب منا قراءة الفاتحة، وكذا كل من دخل عليه من أهل زبيد يعجب من هذه القاعدة، وذكر هذه القصة والحمد لله الذي ألهمنا ذلك وتفضل علينا بفضله سبحانه. ووجدت بخط شيخنا الشيخ أبي السعادات الفاكهي المكي قال: وجدت بخط شيخنا الحافظ وحيد الدين عبد الرحمن بن علي الديبع ما لفظه: الحمد لله مصنف كتاب مولد النبي صلى الله عليه وسلم المفتتح بالحمد لله الذي شرف الأنام بصاحب المقام الأعلى هو الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن علي بن قاسم المالكي البخاري الأندلسي المرسي اللخمي الشهير بالحريري. وهذا المولد هو الفصل التاسع من كتابه الذي صنفه في الوعظ والرقائق، ووقفت على الجزء الأول منه يشتمل على خمسة وعشرين فصلا بعد طول البحث عن مؤلف هذا المؤلف، وعدم معرفته عند أكثر العلماء وهذه فائدة تساوي رحلة انتهى ما وجدته قلت: وبذلك يعلم عدم صحة نسبة هذا المولد إلى ابن الجوزي فإني سمعت كثيراً من الناس ينسبونه إليه والله أعلم. ومن شعره في اللغات التي نزل بها القرآن:
نزل القرآن بلفظ سبع قبائل ... وهم قريش مع خزاعة واليمن
وتميم ثم هذيل والسعدان ... سعد هزيم مع سعد بن بكر فاعلمن
وله في مصنفات النووي
أيها السالك نهج المصطفى ... تابعاً سنته في كل حين
غير كتب النووي لا تعتمد ... وتنزه في رياض الصالحين
وله في الأربعين النوويه:
أيها الطالبون علم حديث ... هذه أربعون حقاً صحيحة
كلها غير سبعة فحسان ... فاعتمدها فأنها لصحيحة
ومنه في صحيح البخاري ومسلم:
تنازع قوم في البخاري ومسلم ... لدي وقالوا أي ذين يقدم(1/108)
فقلت لقد فاق البخاري صحة ... كما فاق في حسن الصناعة مسلم
ومنه أيضاً فيهما:
قالوا لمسلم سبق ... قلت البخاري جلا
قالوا تكرر فيه ... قلت المكرر أحلا
ومن شعره:
كفاني من عجزي وفخري إنني ... جبلت على التوحيد واخترته طبعا
وأني لم أُشرك بربي غيره ... وأني للرحمن عبد له ادعا
ومنه قوله:
يا رب كم أنعمت من نعمة ... علي من عجزي وتقصيري
إن لم تقبل عملي لم يكن ... بنافعي جدي وتشميري
ومنه قوله:
أذنبت والرحمن ذو منة ... بالعفو والغفران للمذنبين
أوقعني في الذنب تقديره ... وهو تعالى أرحم الرحمين
ومنه قوله:
أعضاء ابن آدم فيها ما ... بأوله كاف وعدتها عشر هي الكوع
كف وكتف وكبد كاهل ... كلا وكمرة كفل كعب وكرسوع
ومنه
قالت لي النفس أما تستحي ... فقلت توفيقي على خالقي
قد أحسن الرحمن فيما مضى ... لا بد أن يحسن فيما بقي
وله وقد أشترى جارية أسمها حرير:
حرير لعمري جنة ولي جنة ... بها الله أغناني وكنت فقيرا
صبرت فساق الله لي أحسن الجزا ... على حسن صبري جنة وحريرا
وله في الزبيب الرازقي:
يا أهل صنعاء قد رزقتم جنة ... أنهارها حفت بلطف الخالق
ورزقتم فيها زبيباً ابيضا ... وبلا نوى فتنعموا بالرازق
ومنه في مقامات الحريري:
أحب مقامات الحريري لأنها ... لدى مسمعي أحلى من المن والسلوى
ولست بهذا القول أول قائل ... بريت إلى الرحمن من كذب الدعوى
فقد قال قبلي ابن العجيل لصحبه ... بغير تحاش هذه طبق الحلوى
وكان إماماً لا يجازف في الذي يفوه ... به فوه وحاشاه أن يغوى
وما قال إلا الحق والله أنها ... لأحلى من الحلوى ومن وصل من أهوى
وبلغه من فضلاء عصره أنه صلى الله عليه وسلم خضب لحيته فأنكر ذلك عليه وكتب بهذه الأبيات:
والله ما وقر المختار من مضر ... من أدعى أنه للشيب قد خضبا
لم يبلغ الخضب فيما قاله أنس ... وهو الخبير به من دون من صحبا
إن كان خادمه دهراً ملازمه ... ليلاً وصباحاً مقيما عنده حقبا
قالوا له احمر منه الشعر قال نعم ... من كثرة الطيب تلك الحمرة اكتسبا
ما شاب شيباً إلى فعل الخضاب دعى ... بل كان يدخل تحت الحصر لو حسبا
إذا تدهن وأرى الدهن ذاك فلم ... يرى له اثراً من رام أو طلبا
ومن يقل قد أرتني أم سلمة مخضوبا ... من الشعر أي من طيبه أنخضبا
إذ لم يقال أنها قالت له خضب النبي ... هذا مقال الحق قد وجبا
ومن رأى صبغه بالصفرة اعتبروا ... ما قاله في ثوابه أو فعله أدبا
لا في الشعور وقس ما قيل فيه على ... ما قيل أن رسول الله قد كتبا
وكان ثقة صالحاً حافظاً للأخبار والآثار متواضعاً انتهت إليه رياسة الرحلة في علم الحديث وقصده الطلبة من نواحي الأرض. ومن مصنفاته تيسير الوصول إلى الجامع الأصول مجلدين، مصباح المشكاة، وشرح دعاء ابن أبي حربه وكتاب غاية المطلوب وأعظم المنة فيما يغفر الله به الذنوب وتوجب به الجنة، وله كتاب بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد وكتاب قرة العيون في أخبار اليمن الميمون، وله مولد شريف نبوي وله كتاب المعراج. إلى غير ذلك من المؤلفات ولم يزل على الإفادة وملازمة بيته ومسجده لتدريس الحديث والعبادة واشتغاله بخصوصيته عما لا يعنيه إلى أن توفي رحمه الله، واجتمع به سيدي الوالد بزبيد سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة، وأخذ عنه. رحمهم الله الجميع آمين.
؟سنة خمس وأربعين بعد التسعمائة(1/109)
وفي ليلة الجمعة آخر يوم من شهر صفر الخير سنة خمس وأربعين. توفيت أم والدي السيدة الشريفة الصالحة فضل الله بنت السيد الشريف صالح المجود للقرآن العظيم محمد بن حسن بن أحمد بن عمر باعلوي وذلك بعد وفاة زوجها السيد عبد الله بنحو ستة أشهر ونصف وهي أم سائر أولاده خلارقية رحمها الله تعالى.
وفيها: في ليلة الأربعاء ثامن عشرين المحرم كانت ولادة شيخنا السيد الكبير والعلم الشهير العارف بالله تعالى عفيف الدين الشيخ عبد الله العيدروس فسح الله في مدته بتريم وتاريخ ذلك العام يجمعه " ذرهم " وكان جعل هذا التاريخ والده نفع الله به ثم نظمه قال:
ذرهم اشارة لك عن عبارة ... يفصح بميلادك مع البشارة
الله قل ذرهم في الحرارة ... في ضمنها التوحيد والإشارة
ونشأ على قدم العفاف والتقوى وقرأ على جماعة من علماء عصره وشارك في كثير من الفنون مع عقل وجود وتواضع وحلم وحسن وخلق. وما أحسن قول شيخنا الشيخ عبد المعطي ين حسن باكثير المكي رحمه الله تعالى فيه:
هو القطب عبد الله نخبة حيدر ... ربي العلى والمجد والأصل هاشم
تفرد بالمعروف والدين والتقى ... وليس له في عصره من يقاوم
له همة فوق السماكين قد علت ... وحسن اتضاع زينته المكارم
فيا ابن رسول الله ياسر سبطه ... ويا بضعة الزهراء جاهاً وفايم
ورثت العلا والمجد لا عن كلالة ... فآباؤك الأطهار أسد ضراغم
فيا قطب يا ابن القطب يا أوحد الورى ... رقيت مقاماً ليس فيه مزاحم
بصدر رحيب واسع قد وسعتهم ... وجود حكاه الوابل المتراكم
وسعت الورى حلماً وبشراً بهيبة ... وبذلك للمعروف والثغر باسم
ثناء جميل عنك يثنى معطر ... ووفرك مبذول وعرضك سالم
دمائه أخلاق عطية خالق ... وخيم كريم أصله متقادم
جمعت خصالاً يا ابن شيخ حميدة ... بواحدة يسمو الفتى ويساهم
حياء ومعروفاً وجوداً بشاشة ... وعلماً وحلماً جل من هو قاسم
وهو والله كما وصفه شيخنا وفوق ذلك فكم قد اجتمع في ذاته الشريفة من الأخلاق المحمودة المنيفة كالحياء والمرؤة والخاء والفتوة، وبالجملة فهو جواد كريم عالم بالكتاب والسنة عامل بهما قائم بما جرى عليه سلفه من الأوراد والأذكار واكرام الوافدين واطعام الفقراء والمساكين وبذل الجاه في الشفاعات للمسلمين وإصلاح ذات بينهم حتى أنه لو حلف الحالف أنه لم يكن أكرم منه ولا أعقل منه في زمنه لم يحنث، إلى غير ذلك من الأحوال الباهرة والكرامات الظاهرة ومقامات الرجال وصفات الكمال. ورحم الله الشيخ عبد المعطي حيث يقول فيه من قصيدة:
يا خليلي يمما أرض نجد ... واسلكا كل فدفد وقفار
واقصدا حضرموت نحو تريم ... بقعة الخير منبت الأخيار
وانزلا ساحة الممجد عبد الله ... معدن الأسرار
الشريف المنيف غوث البرايا ... كامل الوصف عالي المقدار
عيدروس الهدى إمام المعالي ... مستباح الندى منيع الجار
وسع الوافدين حلماً وجوداً ... قد حكى شيخ في اقتفاء الآثار
خلق كالنسيم سهل وجود ... في يديه كالوابل المدرار
همة زاحمت نجوم الثريا ... واتضاع مزين بوقار
لك يا عيدروس ذكر جميل ... وثناء في سائر الاعصار
خصك الله بالسماحة والبر ... وبذل المعروف للزوار
وبفضل جم وخيم كريم ... فطرة الله الواحد القهار
لا برحتم يا آل شيخ هداة ... وحماكم مستودع الأسرار
منكم القطب والولي ومنكم ... كل قرم يسمو على الأقمار(1/110)
وأمه الولية الصالحة فاطمة بنت الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ علي ابن أبي بكر، وأثنى عليه جماعة من الكبراء وأشار إليه غير واحد من الصلحاء، وكان والده يحبه ويجله ويعظمه ويحترمه حتى أني سمعته مراراً يقول: ما أحد يعرف قدري مثل والدي عبد الله، وكان بعض أولاد السيد عبد الله المذكور يقرأ عليه بعض المدائح التي قيلت في سيدي الشيخ عبد الله العيدروس فقال له عند ذلك: لا تشهد هذا إلا في أبيك أو كما قال، وكان بنى المساجد والنخيل التي اتخذها والدي بحضرموت كلها على يديه، وكان والدي قد جعله وكيلاً مطلقاً في كل مما يتعلق به لما رآى من نجابته وكياسته، ولم يسافر من بلده تريم الامرة واحدة فانه قد دخل فيها إلى الهند لزيارة والده وذلك سنة ست وستين ورجع إليها في عامه وله من المصنفات شجرة آل باعلوي وضعها على أسلوب بديع. ومن كراماته أنه كان أمرني بالسفر إلى بروج والاقامة بها إلى أن يأذن الله. وما كان في ذلك مصلحة من حيث الظاهر، وامتثلت اشارته ففتح الله علي من فضله بأشياء ما كنت أتوقعها، ومنها أنه كان في بعض السنين كتب يأمر بالاهتمام في عمارة قبة على ضريح والده نفع الله به، وما كان يتيسر ذلك بسبب قلة توفيق أهل الزمان، وعدم مساعدتهم في فعل الخير. ثم وقع الشروع فيها بعد ذلك وتيسر بناؤها على احسن ما يكون ببركته نفع الله به آمين، وكان كف بصره الشريف منذ سنوات ثم رد الله عليه بصره وعد ذلك من خرق العادات، وكتب إليه الشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن علي البسكري مهنئاً له بهذه الأبيات:
حمداً لما اولاك مولاك من ... نعمائه الظاهرة الخافيه
قد نور الأبصار من نوره ... فالعين كالسمع غدت واعيه
وسل سيفاً كان في غمده ... على عتاة حسد طاغيه
يهني عفيف الدين غوث الورى ... قطب الملا أنواره الزاهيه
يهناك نور الحق ها قد أتى ... من فضل رب عينه راعيه
فالحمد لله وشكراً له ... على زوال العلل الماضيه
قد سرنا والله ما قد أتى ... من صحة تبقى ومن عافيه
وسر سادتنا وأهل ومن ... قد كان في الحضر وفي الباديه
وسر أهل الجود ثم التقى ... وخص مولى ذاته ساميه
غوث الورى فخر العلا سيد ... إلى المعالي نفسه راقيه
عبد الاله القادر الفخر من ... يمناه بالجود غدت ساريه
ذو غرة كالبدر في تمه ... ترتاح منه الند والغاليه
والمسك والكافور والعنبر ... الرطب إذا وافا مع الناغيه
كذا شهاب الدين ذو الحال من ... كل الملا منه الدعا راجيه
والعيدروس القطب رب الندا ... حاوي العلا ذو الأنفس الزاكيه
قد سرهم والله أخباركم ... من كل مكتوب ومن ناحيه
فدم مدى الأيام في نعمة ... تبقى لكم في عيشة راضيه
والعبد يرجو منكم دعوة ... بان ينال إلا من في الفانيه
في الدين والدنيا وفي الأهل ما ... كانوا بذي الدنيا وفي الثانيه
وصل يارب على المصطفى ... وآله ما دامت العاليه
سنة ست وأربعين بعد التسعمائة(1/111)
وفي سنة ست وأربعين: توفي الشيخ الكبير الولي شهاب الدين أحمد ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ علي ابن الشيخ أبي بكر باعلوي وكان من المشايخ المشهورين. وحكى انه اجتمع بحجة الاسلام الغزالي يقظة في غرفة بداره في بلدته تريم فاستجاز منه كتبه فأجازه، وأذن له في اجازتها روى ذلك عن الشيخ الولي عبد الرحمن بن عمر العمودي نفع الله به وروى أنه زار مرة قبر جده السيد أحمد بن عيسى وهو متوجه إلى بور لأخذ شيء من التفاؤل منها فحصل له وهو جالس عند قبره المعروف الآن ذهول وغيبة، ثم أفاق وأخبر أنه استحضر روحانيته وسأله عن قبره أهو ذلك حقيقة ؟ فقال نعم، ثم ذكر أنه طلب وهو في تلك الحالة أن يحصل له من أهل بور اربعمائة نقيل من غير طلب وقال: ان حصل لنا ذلك منهم من غير طلب فذلك حق، ثم دخل بور وقصد جامعها فهرع الناس إليه وكان كل من سلم عليه منهم قال: عندي لكم من النقاول ما هو كذا وكذا حتى وفت الابعمائة فأراد أن يحقق ذلك أيضاً فأمر من يطلب منهم غير ذلك فاجتهدوا في ذلك فلم يحصل فزالت الشبهة، ومنها أنه قدم بعض قرى حضرموت وكان قد شرع في بناء بيت له بتريم فطلب بعض أهل تلك القرية وقال: نريد منك حاجة فقال له ذلك الرجل: وأنا أريد منك حاجة فقال الشيخ : تتم انشاء الله تعالى ثم قال: نريد الخشبة التي عندك نجعلها باباً للبيت وأنت ما حاجتك ؟ قال أريد أن أقرأ القرآن بظهر الغيب. فقال له: افتح فمك ففتحه فتفل فيه ثلاثاً فحفظ القرآن لوقته. ورأيت في مجموع مناقبه لفقيره الولي الصالح الشهير يحيى خطيب أنه سمعه يقول: دخلت على جدي الشيخ علي يوماً في حياته ولي من العمر سبع سنين فقال: تعالى فجئت إليه فمد لسانه وقال لي: مصها فمصصتها ساعة طويلة ثم قال لي: يا ولدي أنت وارث سري، وفيه أيضاً من كلامه أنه نفع الله به قال: من نظر إلى المشايخ بعين العظمة حرم بركتهم، ومن نظرهم بعين التعظيم رزق بركتهم ولحق بهم وإن لم يعمل بعملهم، وكان مولده سنة سبع وثمانين وثمانمائة. وفي هذه السنة سار الشيخ أبو بكر العيدروس نفعنا الله ببركاته من بلدة تريم للحج وهي الحجة الأخيرة، ولم يعد إلى تريم بل أقام بعدن وتوطنها إلى أن مات بها رحمه الله.
سنة سبع وأربعين بعد التسعمائة
سنة سبع وأربعين: توفي العلامة الطيبي ابن الفقيه الإمام العلامة عفيف الدين عبد الله بن أحمد محزمه بعدن، ودفن في قبر جده لأمه القاضي العلامة محمد بن مسعود أبي شكيل بوصية وذلك في قبة السيخ جوهر رحمهم الله تعالى وكثر الحزن والتأسف من الخاص والعام، وكان من محاسن الدهر جمع الله فيه من محاسن الصفات من التواضع وحسن الخلق والبشاشة ولين الجانب وكرم النفس وصلة الاخوان والصبر والرفق ومداراة الناس وحسن التدبير والمواظبة على الطاعة. ولد بعدن ليلة الأحد ثاني عشر ربيع الثاني سنة سبعين وثمانمائة وأخذ عن والده وعن الفقيه محمد بن أحمد فضل وانتفع به كثيراً ولازمه، وكذلك أخذ عن غيرهما كالقاضي العلامة محمد بن حسين القماط والقاضي العلامة أحمد بن عمر المزجد، وذلك في أيام قضائهما بعدن، وتفنن في العلوم وبرع وتصدر للفتوى والاشتغال، وكان من أصح الناس ذهناً واذكاهم قريحة واقربهم فهماً، ومن أحسن الفقهاء تدريساً حتى أن جماعة من الطلبة وغيرهم يذكرون أنهم لم يروا مثله في حسن التدريس وحل المشكلات في الفقه، وصار في آخر عمره عمدة الفتوى بعدن هو ومعاصره العلامة محمد بن عمر باقضام وأبو قضام المذكور كثير الاستحضار للفروع وحسن التصرف فيها، وليس له في غير الفروع يد. وأما المذكور فإنه مشارك في كثير من العلوم منها: الفقه والتفسير والحديث والنحو واللغة وغيرها، وروي عن تلميذه العلامة شهاب الدين أحمد بن عمر الحكيم أنه كان يقول: سمعت شيخنا يعني شيخه المذكور يقول: اقري في أربعة عشر علماً، أو كما قال يقرى في أربعة عشر علماً والله أعلم وولى القضاء بعدن. وحدث به في آخر عمره وجع عطله عن الحركة وذلك يبس قوي في عصبة وتشنج في بدنه، ولم يزل يتزايد به حتى منعه من الصلاة إلا بالايماء برأسه، ومكث كذلك نحو سنتين أو أكثر واستمرت به هذه العلة إلى أن مات رحمه الله تعالى. ولابن أخيه الفقيه عبد الله بن عمر محزمه فيه مرثية عظيمة مطلعها:(1/112)
انهد ركن الدين وهو قويم ... وأنهار طود المجد وهو صميم
وتغيرت شمي البلاد واظلمت ... وتناثرت من أفقهن نجوم
والأفق متعكر الظلام كأنما ... الدخان في جو السما مركوم
هذه علامات القيامة هذه إلا ... شراط هذا الموعد المحتوم
هذا الإمام قضى عليه نحبه ... الطيب العلامة المرحوم
شيخ العلوم وناشر أعلامها ... محيي الفهوم إذا تموت فهوم
علم الأئمة واحد في عصره ... ولكل عصر واحد معلوم
من للعلوم الزهر بعد وفاته ... هيهات قد رمست وراه علوم
ومنها:
مولاي اوحشت الديار فهذه ... أطلالكم فيها تصيح البوم
لا عيش يصفوا بعدكم كلا ولا ... تلك الرسوم وإن عظمن رسوم
قد كانت الدنيا تزين بذكركم ... منها العراق ومصرها والروم
واختص ذا اليمن المبارك بالذي ... قد خصه واليمن فيه قديم
لا سيما عدن فقد فخرت بكم ... فخراً على وجه العلى مرقوم
والثغر منها كان يبسم ضاحكاً ... فاليوم يبكي واعترته هموم
لهفي على تلك المحاسن أنها ... كالزهر وهو الطيب المشموم
وسع الأنام فكلهم أولاده ... راضون عنه كأنه معصوم
كثرت فضائله فطاب لقائل ... في وصفه المنثور والمنظوم
وله رحمه الله تعالى تصانيف حسنة منها: شرح صحيح مسلم. غالب استمداده فيه من شرح الإمام النووي، بل هو في الحقيقة شرح النووي مع زيادات وتحقيقات في بعض المواضع، وأسماء رجال مسلم، وتاريخ مطول مرتب على الطبقات والسنين وابتداء التاريخ المذكور من أول الهجرة، وكتاب في مشتبه النسبة إلى البلدان وهو مفيد في بابه جداً.
سنة ثمان وأربعين بعد التسعمائة(1/113)
وفي سنة ثمان وأربعين توفي: أحمد بن الطيب ابن شمس الدين الطبنداوي البكري الصديقي الشافعي شهاب الدين شيخ الإسلام الحبر الإمام العارف بالله القانت الأواه واضح المحجة والسنن. بلغ غاية من العلم ماارتقى إليها أهل ذلك الزمن. كان مع أهل عصره بمنزلة الشمس مع النجوم وتميز عليهم في معرفة المنطوق والمفهوم شديد التصلب في الدين والصدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم. مولده بعد السبعين وثمانمائة تقريباً تفقه بالنور السمهودي والقاضي أحمد المزجد والكمال الرداد والجمال القماط والعلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد السلام الناشري وأحمد بن الطاهر جغمان وغيرهم، وأخذ عنه خلق كثير منهم شيخ الاسلام ابن زياد والحافظ شهاب الدين أحمد الخزرجي والغريب الأكسع وعبد الملك بن النقيب وعبد الرحمن البجلي وصالح النماري وغيرهم، وانتهت إليه رياسة الفتوى والتدريس بمدينة زبيد، وولي التدريس في كثير من مساجدها وأقام بذلك أتم قيام وانتفع به الخاص والعام، وله فتاوي مشهورة عليها الاعتماد بزبيد وشرح التنبيه في أربع مجلدات. قال الفقيه العلامة مفتي الوقت العبد الصالح شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن الناشري: كان أبو العباس يعني المترجم له يقول لشيخنا ابن زياد تلميذه أنتم نفعكم أحمد المزجد بلحظه، ونحن بلحظه ولفظه انتهى. وله على العباب حاشية علقها على نسخته وأفردها بعض تلامذته في كراريس وهي موجودة مفيدة قال الشيخ صالح النماري: ومن عجيب ما سمعته منه أنه قال طالعت جميع الايضاح شرح الحاوي للقاضي الطيب الناشري في ليلة واحدة وهو مجلدان ضخمان قال: وعلقت من كل باب فائدة وهذا خرق عادة، وقال الخولاني سمعته يقول: كانت الفوائد التي كتبتها تلك الليلة ثلاثة كراريس انتهى. وكان يقول قراءتي للارشاد سبع مرات وما صح لي إلا في المرة السابعة مع أنه كان يحفظه، وكان رحمه الله مفرط الذكاء صافي الخاطر نقي الذهن المعياً مسدداً في فتواه وبحوثه شديد الاعتقاد في أهل الله من المتصوفين. حكى العلامة الحافظ جمال الدين محمد ابن المعروف أفلح محدث الديار اليمنية قال: كنت أيام قراءتي عليه اخرج معه في الاسبوع يوماً نزور السبعة المشهورين المسمين بالأعلية جمع على غير قياس لأنهم يريدون جمع علي فكلما وصل إلى قبر واحد منهم قرأ ما شاء الله تعالى واهدى ذلك إلى روح صاحب القبر، ثم يأمرني أن آتيه باناء من ماء فيضع من تراب القبر فيه ويشرب، ثم يأمرني أن افعل مثله ويقول لي: هو ترياق مجرب، وهو ممن أفتى بحلية القهوة وله في حلها واباحتها فتاوي متعددة قال في بعضها: وأما القهوة فليس فيها الاروحنة يسيرة وتقوية قليلة. قال: وقد سمعت شيخ الإسلام المجمع على تجديده للقرن التاسع زكريا الأنصاري أنه كتب إليه بعض المالكية بتحريم سرب القهوة وساعده من لا بصيرة له على ذلك، ومنع الناس من شربها فانتشر الخبر إلى مصر والقاهرة. فكتب المولعون بها سؤالاً إليه فكان جوابه إن قال: احضروا الي جماعة من المتعاطين لها فسألهم عن عملها فذكروا له أنها لا عمل فيها سوى ما قدمناه من التقوى فأراد الاختبار فأحضر قشر البن ثم أمر بطبخه، ثم أمرهم بشربها ثم فاتحهم في الكلام فراجعهم فيه ساعة زمنية فلكية فلم يرمنهم في الكلام، فراجعهم فيه ساعة زمنية لا تغيراً ولا طرباً فاحشاً بل وجد منهم انبساطاً قليلاً فلم يؤثر ثم زاد فلم يؤثر فصنف في حلها مصنفاً قاطعاً بالحل قلت: لله دره لم يقدم على التحريم بمجرد ما نقل إليه بل اختبرها فلما لم ير فيها شيئاً من أسباب التحريم فأفتى بحلها رحمه الله. وقد افتيت قديماً بحلها واستدللت على ذلك بدليل اجمع عليه الأصحاب وهو: ان الشيء إنما يحرم تناوله وأكله وشربه. إما لاضراره كالسم، أو لإسكاره كالخمر والنبيذ مع نجاسته، أو لنجاسته كالبول والغائط، أو لتخديره وتخييله للعقل كالبنج والحشيش ونحوهما، أو لاستقذاره كالمخاط والبزاق المنفصل من الآدمي فإنه يحرم بلعه بعد اخراجه من الأنف والفم كما يحرم تعاطيه من غيره مطلقاً سواء تناوله بعد انفصاله أو قبله لاستقذاره. وليس في القهوة شيء من ذلك لأنها ليست بمضرة ولا مسكرة ولا نجسة ولا مخدرة ولا مخيلة ولا مستقذرة. وهذه أسباب التحريم فانتفاء أسبابه قال: وقد كنت كتبت هذا الجواب قديماً وأنا باق عليه مقدر له. فإن قيل: إن بعض الناس(1/114)
يضره شرب القهوة أو الاكثار منها ؟ فالجواب أن تقول: إنها محرمة في حقه فقط لأن حجة الاسلام محمد بن محمد الغزالي الطوسي حبر هذه الأمة رضي الله عنه ونفع به وبعلومه قال في كتب متعددة: إن الشيء المجمع على حله كالعسل قد يحرم في حق من غلبت عليه الحرارة وشهد علماء الطب بأنه يضره فكذلك القهوة من باب أولى نقول بتحريمها حيث أضرت بعض الناس لكن في حقه فقط. ثم قال: فينبغي أن يقال في حق من تعينه القهوة على التلاوة أو مطالعة العلم إن تعاطيها مستحب لأن للوسائل حكم المقاصد، وان كان يستعان بها على مباح فتعاطيها مباح. ومن شعر صاحب الترجمة رحمه الله تعالى:ره شرب القهوة أو الاكثار منها ؟ فالجواب أن تقول: إنها محرمة في حقه فقط لأن حجة الاسلام محمد بن محمد الغزالي الطوسي حبر هذه الأمة رضي الله عنه ونفع به وبعلومه قال في كتب متعددة: إن الشيء المجمع على حله كالعسل قد يحرم في حق من غلبت عليه الحرارة وشهد علماء الطب بأنه يضره فكذلك القهوة من باب أولى نقول بتحريمها حيث أضرت بعض الناس لكن في حقه فقط. ثم قال: فينبغي أن يقال في حق من تعينه القهوة على التلاوة أو مطالعة العلم إن تعاطيها مستحب لأن للوسائل حكم المقاصد، وان كان يستعان بها على مباح فتعاطيها مباح. ومن شعر صاحب الترجمة رحمه الله تعالى:
شهدت بأن ربي ذو اقتدار ... على كل الأمور بغير شك
وذو لطف وذو علم محيط ... تعالى الله عن كيف ودرك
فاسأله يلاطفني سريعاً ... ويفرج كربتي ويزيل ضنكي
ومنه
ألا قل للحسود وللمعاند أقل ... عناك فالاحسان زائد
يزيد عداوة ويزيد ربي ... فزدني كي يزيد لي العوائد
ومنه
بجودك الجم رب قصدي ... أنزلت يا منتهى المقاصد
مع اعترافي بضعف رأي ... وقبح فعلي الذي أكابد
فقم بحالي بحسب فضل ... وفك عني عرى الشدائد
واصلح الشأن ربي جمعا ... ولا تكلني إلى العوائد
ومنه
يا رب جدلى الذي ترضاه يا أملي ... واصلح بفضلك جوداً فاسد الخلل
وقم بحالي في الدارين مرحمة ... ولا تكلني إلى علمي ولا عمل
وأخبرني سيدي الفقيه عمر بن زيد قال: سمعت شيخنا الشيخ بدر الدين المصري يقول: اجتمعت بالعلامة الطبنداوي في زبيد سنة ست وثلاثين وتسعمائة وأنشدني من لفظه:
ومذ كنت ما اهديت للحب خاتماً ... ومسكاً وكافوراً ولابست عينه
ولا القلم المبري أخشى عداوة ... تكون مدى الأيام بيني وبينه
قلت: ولا أعلم لهذه الخصال أصلاً من الكتاب والسنة، وسمعت سيدي الوالد يقول : ليس لها تأثير. قلت ولا بأس باجتنابها مع عدم اعتقادها. ورأيت بخط الفقيه أحمد بن الفقيه محمد با جابر قال: وجدت بخط العلامة أبي العباس الطبنداوي ان من قرأ الفاتحة اربعمائة وتسعين مرة قضيت حاجته كائنة ما كانت. مجرب مجرب.
وفيها:في ظهر يوم السبت عاشر شهر ربيع الثاني توفي أحمد ابن الشمس ابن محمد ابن القطب محمد ابن السراج البخاري الأصل المكي الحنفي بجدة، وحمل منها لمكة، ودفن فيها ثاني يوم تاريخه علىابيه بالمعلاه، وخلف أولاداً رحمه الله، وكان. مولده في صفر سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة بمكة، واشتغل بالعلم فقرأ على السخاوي في سنن أبي داود والشفاء، ودخل القاهرة مراراً، وسمع الحديث فيها على جماعة: منهم الحافظ الديلمي والجلال السيوطي، ولبس خرقة التصوف من بعض المشايخ، وولى المناصب الجليلة كالقضاء والإمامة والمشيخة وأجازه بعضهم، وقرأ الكتب الستة وغيرها واسمع كثيراً في الفقه والحديث مع قوة حافظة وحسن كتابة وناطقية.
سنة تسع وأربعين بعد التسعمائة
وفي صبح يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين . كان مولد سيدنا ومولانا الشيخ الكبير والعلم الشهير الولي العارف بالله شمس الشموس شهاب الدين أحمد ابن الشيخ القطب شيخ ابن عبد الله ابن الشيخ القطب الغوث عبد الله العيدروس أبقاه الله تعالى آمين. وتاريخ ذلك العام يجمعه " ولي الله شمس الشموس وجعل هذا التاريخ الوالد وأنشأ في مولده نصيدة وهي:
لله حمدي بمولود ... طالعه سعد السعود(1/115)
أحمد محمد محمود ... عبد الآله المعبود
فوق الخلائق يسود ... بفضل ربه يجود
يعطيه ربه امان ... من كل حاسد ظمان
يفهم معاني القرآن ... والمعرفة والبرهان
بالقلب والترجمان ... دائم وهو في شهود
تاريخه خطى ولد ... حصنت روحه بالأحد
وقل هو الله احد ... محفوظ بالله الصمد
ملحوظ من عين الأبد ... عناية الله الودود
يا حافظ أحفظ أحمد ... قوله وفعله يحمد
وفي العواقب يرشد ... وسوطه وأحمد
والعيدروس الممجد ... نفحه لطفل مولود
أحد أولاد الوالد من السيدة الطاهرة فاطمة بنت الشيخ عبد الرحمن بن علي وشقيق أخيه عبد الله كلاهما تجل ذلك السيد الكريم، وشبل ذلك الأسد العظيم نشأ بتريم، ودخل الهند في سنة ثمان وستين وتسعمائة لزيارة والده ثم رجع إلى حضرموت معاوداً لوطنه وتجديد المعاهدة، ودخل الهند مرة ثانية في سنة إحدى وسبعين وتسعمائة، وبقي بها إلى الآن ورزق القبول العظيم مع الناس وصار لهم فيه أعتقاد، ورويت عنه كرامات، وحصل له حال غيبه عن إحساسه وقلت فيه شعر:
أيها الشهاب المفدى ... أنت هو الفرد إلا وحدا
أعطاك المهيمن منحاً ... تفوق المنح وأزيدا
الله أقامك مقصدا ... يا فوز من لك يقصدا
تهن بالشهود ذي نلته ... فيا سعد من لك يشهدا
أتيت مراتباً بعضها ... إذا نالها الشخص سودا
فبين الأولياء بأسرهم ... مقامك الأحمد يا أحمدا
وما أحسن قول العلامة حميد بن عبد الله السندي فيه:
الله أتاك فضل العلم والعمل ... يا أحمد الخلق هذا غاية الأمل
مواهب لك دون الناس قد خبئت ... في لوحك المودع المحفوظ في الأزل
لله في الخلق أسرار تدق ولا ... نكر إذ أجمع الأسرار في رجل
فمن يساميك لا ينفك مستفلا ... وأنت أنت على رغم الحسود على
وأنت في الفضل بحر لا أنتهاء له ... وأنت اشبه وقت الحلم بالجبل
والخلق منك حكته روضة أنق ... تغترا كمامها في زهرها الخضل
ولم تكن عندك الدنيا لها خطر ... فليس أهمالك الدنيا من الخطل
لوان زهرتها في الكف منك وقد ... سألتها كنت تعطيها ولم تسل
عطاء من لم يضق صدراً بقلتها ... ولا بكثرتها تلقيه ذا جذل
وقد صفا القلب منه عن تكدرها ... لما تولاه قطب الوقت خير ولي
شيخ الشريف بن عبد الله والده ... فهو العريق إذاً في السادة الكمل
أطاع خالقه فالخلق أجمعها ... في طوعه لم تحل عنه ولم تزل
وكم له من كرامات قد أشتهرت ... في الشرق والغرب ايضاً شهرة المثل
ربا وهذب أقواماً وأرشدهم ... فصار طبعهم ما فيه من ميل
فأصبحوا كلهم أعيان وقتهم ... وأنت إنسان تلك الاعين النجل
لله درك أخلاقاً عرائسها ... تحلى محاسنها في أفخر الحلل
بقيت بحر فيوض من جواهره ... تبدي تصاريف قد أضحى بهن ملي
ودمت بالعلم مشغولاً وملتهياً ... عما يعانيه أهل اللهو من شغل
ودمت تجلى بحفظ قد حفظت به ... حدود ملة جدك خاتم الرسل
أزكى الصلاة عليه والسلام معا ... والآ ل ماعز ذو شرف وصار ولي
سنة خمسين بعد التسعمائة(1/116)
وفي سنة خمسين توفي السيد الجليل صاحب الكرامات الخارقة والآيات الصادقة الشيخ شيخ ابن إسماعيل بن إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحمن السقاف بالشحر، وكان من المشايخ الكبار رحمه الله. وحكي عنه انه قيل له: ها هنا رجل تحصل له حالة عظيمة عند السماع فقال: ليس الرجل الذي يحتاج إلى محرك يحركه إنما الرجل هو الذي لا يغيب عنه الشهود حتى في حالة الجماع فضلاً عن غيره. فيحتمل أنه أشار بذلك إلى نفسه نفع الله به، وكان يعظم الشيخ أبا بكر العيدروس وبلغني أن له ديوان شعر ومن نظمه في القهوة شعر:
ذي قهوة ما مثلها قهوة ... سل فيها بالسين من ياسين
أبو الفقراء بالله تجبرني ... تقرأ لي ثلاث من ياسين
وإن زدته أربع فذا قصدي ... عد أركان البيت بالتمكين
في الحضرة دائم فتقرأها ... والقهوة تكون في التسكين
ان دامت هذا بها دمنا ... زاد النور في البصر والعين
والفقرا ما ية ماية جمعا ... بصلاة على البها في العين
الشافع المصطفى النافع ... يا غوثي من كل كرب أو دين
وفيها: توفي الشريف الصالح الولي حسين بن أحمد باعلوي صاحب قسم بها، وكان من الأولياء الكبار أهل المقامات والانوار. ومن كراماته ما حكاه اخي السيد عبد الله قال ارسلني والدي اليه فجئنا ولم نجده فنادت بعض نسائه وهي عندنا بصوت خفي كثير وقالت حسين حسين ثلاث مرات فحسب ان يجبي الجائي من المسجد إلى البيت إلا وهو يدق الباب ويقول انتم طلبتمونا قالوا: نعم واخبروه الخبر.
وفيها: توفي الصالح الشريف عبد الرحمن زين بافقيه باعلوي، وكان من الأولياء ، وذكروا عنه كرامات رحمه الله.
وفيها: في النصف الأخير من ليلة السبت ثاني عشر صفر توفي الشيخ الإمام والحبر الهمام ولي الله تعالى العلامة محمد بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد أبو عبد الله الرعيني الاندلسي الأصل الطرابلسي المولد المالكي نزيل مكة ويعرف هناك كسلفه بالخطاب، ويتميز عن شقيق له أكبر منه أسمه محمد أيضاً بالرعيني وذلك بالخطاب وأن اشتركا في ذلك لكن للتمييز، ويعرف في مكة بالطرابلسي. ولد وقت صلاة الجمعة من العشر الأخير من صفر سنة احدى وستين وثمانمائة بطرابلس، ونشأ بها فحفظ القرآن والرائية والجزرية في الرسم والضبط ثم الرسالة وتفقه فيها يسيراً على محمد القابسي وربما يحذف الفه، وعلى أخيه في المختصر ثم تحول مع أبويه وأخيه وجماعتهم إلى مكة سنة سبع وسبعين فحجوا ورجعوا. وقد توفي بعضهم فأقاموا بها سنين، ومات كل من أبويه في أسبوع واحد في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين بالطاعون واستمر هو وأخوه بها إلى أن عاد إلى لمكة في موسم سنة أربع وثمانين فحجا ثم جاورا بالمدينة النبوية في السنة التي تليها، وعاد الأخ بعد حجة منها إلى بلاده وهو إلى المدينة وقرأ بها على الشمس العوفي في العربية وكذا حضر عند السراج معمر في الفقه وغيره، وعاد لمكة فلازم الشيخ موسى الحاجبي وقرأ فيها القرآات على موسى المراكشي وصاهر ابن حزم في سنة إحدى وتسعين على أبنته بل أخذ عن الشهاب بن حاتم مع كونه أفضل منه وكثر انتماؤه بعبد المعطي،و سمع من الحافظ السخاوي، وجلس للاقراء في الفقه والعربية وغيرها، وولي مشيخة رباط المؤلف وباشر في عمارة وقف الطرحا كل ذلك مع الفاقة والعفة ونعم الرجل، قال الشيخ جار الله بن فهد أقول: وقد فتح عليه في آخر عمره وصار من المعتقدين في العلم والدين وظهر له ثلاثة من الأولاد وهم الجمال محمد، وزيني بركات، والشهاب أحمد وزوجهم في حياته ورأى أولادهم مع نجابتهم، وصار أكثرهم من المفتيبن والمدرسين بحرم الله الأمين، وقدمه والده في جميع جهاته لعجزه عن الحركة لكونه بلغ من العمر تسعين سنة إلا عاماً، وأنقطع بمنزله عدة سنين وهو يدرس فيه، ورتب له مرتب في الجوالي وأعتقده الناس في الآفاق، وقصد بالفتوحات والودائع وناله الضرر من الدولة بسببها وهو متقنع متعفف مجتهد في عمارة الأوقاف التي تحت نظره وكذلك ولده الأكبر من حياته وتحمل لذلك كثيراً من الديون وقاسى شدة في مرضه حتى قضى نحبه رحمه الله.
سنة إحدى وخمسين بعد التسعمائة(1/117)
وفي سنة إحدى وخمسين توفي الولي الصالح الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الحلبي تلميذ الشيخ أبو بكر العيدروس بأحمد آباد، وكان قد تحكم للشيخ العيدروس المذكور، وأخذ عنه وتخرج به وأختص بنظره ومكث في ملازمته نحواً من عشرين سنة، ثم أمره بالدخول إلى الهند والاقامة بها فدخلها وأخذ عنه جماعة كثيرون وأنتفع به خلائق لا تحصى، وكان قبل دخوله في هذا الطريق من اعيان التجار فآثر زي الفقر وترك ما كان عليه من أسباب التجارة وكان حسن الخط. وحكي أنه كان بمكة وكان يعاني تعلم الخط فلقيه رجل بالمسعى وقال له: أذهب فقد أعطيناك الخط والحظ، قال: فلما لقيت الشيخ أبا بكر وتلمذت له قال: أتذكر ما قال لك ذلك الشخص ، وتدري من هو وما عناه بذلك؟ ثم قال الشيخ: هو الشيخ ابن العباس الخضر ، وما أشار إليه من الحظ فهو نحن نفع الله بهم.
وفيها: في يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول توفي الفقيه العلامة الفروعي جمال الدين محمد بن عمر باقضام أبو محزمه يجتمع مع الفقيه العلامة عبد الله بن أحمد محزمه في الأب السادس،. وله ببلدة الهجرين ونشأ بها ثم أرتحل إلى عدن لطلب العلم، وأخذ عن أماميها الفقيه عبد الله بن أحمد محزمه، والفقيه محمد بن أحمد فضل، ثم أرتحل إلى زبيد وأخذ عن علمائها، ثم رجع إلى عدن ولازم الإمام عبد الله بن أحمد محزمه وولده العلامة شهاب الدين أحمد وأنتفع بهما وتخرج عليهما. ولما أن وصل العلامة محمد بن الحسين القماط قاضياً على عدن ثم بعده العلامة أحمد بن عمر المزجد قاضياً أيضاً لازم كل منهما ولم يزل مجتهداً حتى فاق أقرابه في الفقه، وصار في عدن بعد موت الأمامين عبد الله بن أحمد محزمه ومحمد بن أحمد فضل هو الإمام في الفقه المشار إليه والعالم المعول عليه وأحتاج الناس إلى علمه وقصدوه بالفتاوى من النواحي البعيدة لكنه قد كان يتساهل في الفتاوى ويترك المراجعة لا سيما في آواخر عمره فاختلفت أجوبته وتناقضت فتاويه، وكان ذلك مما عيب عليه، ثم كان السلطان عامر بن داود وهو آخر ملوك بني طاهر بعدن استماله في آخر عمره وأحسن إليه لأغراض فاسدة عزم عليها، وكان إذا عزم على أمر فاسد يتعلق يالشرع أرسل إليه من يشاوره في كتب سؤال القضية على أنه يجيب عليها فيجيبهم إلى ذلك، ويكتب على سؤالاتهم أجوبة توافق أغراضهم فيتوصلون بها إلى مفاسد لا تنحصر ولا حول ولا قوة إلا بالله. وحكي أن الناس تركوا فتاويه رأساً.
وفيها: مات شير شاه البتان يجمع ذلك عدد حروف " شير مات "
سنة اثنين وخمسين بعد التسعمائة
وفي شهر جمادى الآخر سنة اثنين وخمسين: توفي الشيخ الإمام والحبر الهمام العلامة أبو السعود محمد بن مصطفى بن عماد الاسكليبي نسبة إلى أسكليب قصبة في أماسية. الرومي المشهور قاضي السلطان سليمان سلطان الروم صاحب التفسير. قال الأنقشاري في تاريخ وفاته شعر.
أمسى بجوار ربه ذي الحلم ... مفتي الإسلام بل سمي الاسم
والعلم بكى مذ قيل في تاريخه ... قد مات أبو السعود مولى العلم(1/118)
ولد في أسكليب تاسع عشر صفر سنة ست وتسعين وثمانمائة، ووالدته بنت أخي العلامة مولانا علاء الدين علي القوشجي، وكان والده من أهل العلم والصلاح كذا قيل، وتربى صاحب الترجمة في حجر والده المرحوم مرتضعا ثدي الكمالات في مهد العلوم فحفظه والده كتباً منها: المفتاح للسكاكي فامتاز في صغره بفصاحة العرب العرباء، وأشتغل بفنون الأداب، ودخل إلى الفضائل من كل باب، وأخذ عن جماعة من علماء عصره، وأنتهت إليه رياسة الفتيا والتدريس ولما جمع السلطان سليمان رحمه الله العلماء بمجلسه وأمرهم بالمناظرة رجح المشار إليه في بحثه وتبين فضله وأستحق التقديم وكان أهله، وكان قبل ذلك وقد ولي التدريس في مواضع متعددة، ثم ولي قضاء بروسا، ثم ولي قضاء اسطنبول . قال الشيخ قطب الدين المفتي: وأجتمعت به في الرحلة الأولى وهو قاضي أسطنبول سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة فرأيته فصيحاً وفي الفن رجيحاً فعجبت لتلك العربية ممن لم يسلك ديار العرب ولا محالة انها منح الرب، ثم ولي في سنة أربع وأربعين قضاء العسكر، وصار يخاطب السلطان في الأمر والنهي، ثم في سنة إحدى وخمسين ولي منصب الأفتاء، وكان سلوكه لا عوج فيها ولا أمتى، وسمعته يقول: جلست يوماً بعد صلاة الصبح أكتب على الأسئلة المجتمعة فكتبت إلى صلاة العصر على ألف وأربعمائة واثني عشر فتيا، وكان له في الألسنة الثلاثة شعر بديع، ومن قصائده التي سارت بها الركبان قصيدة ميمية غريبة الشأن وهي طويلة ومطلعها هذه الأبيات:
ابعد سليمي مطلب ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام
وفوق حماها ملجأ ومثابة ... ودون ذراها موقف ومقام
وهيهات أن يثني غير بابها ... عنان المطايا أو يشدحزام
هي الغاية القصوى وإن فات نيلها ... فكل من الدنيا علي حرام
سلوا النفس عنها وأطمأن بنأيها ... سلو رضيع قد عراه فطام
وصب سقاه الرشد سلوان رشده ... فأمسى وما في القلب منه هيام
صحا عن سلاف الغي بعد أنهماكه ... عليه فبأن الكأس منه وجام
محوت نقوش الجاه من لوح خاطري ... فاضحى كان لم تجر فيه قلام
ومنها
قد اخلق الأيام خلعة حسنها ... فألهم ضحت وديباج إليها رمام
على حين شيب قد الم بمفرقي ... وغادرها الشعر وهو ثغام
فلله در الهم حيث أمدني ... بطول حياتي في الهموم سمام
فسبحان رب العرش ليس لملكه ... تناه وحد مبدا وختام
قال: ولم يزل في عزة إلى ان مات رحمه الله تعالى، واتى نعيه إلى الحرم فنودي بالصلاة عليه من أعلى زمزم، وصلي عليه صلاة الغائب، ورثاه جماعة من أهل مكة منهم الإمام الهمام الشيخ رضي الدين محمد بن أحمد القاواني الشافعي بقصيدته ذكرها القطب الحنفي وإنما لم نأت بها هنا طلباً للاختصار.
سنة ثلاث وخمسين بعد التسعمائة
وفي سنة ثلاث وخمسين بعد التسعمائة توفي السيد الجليل عبد الله ابن علوي ابن الشيخ عبد الله العيدروس صاحب عدن بتريم وقبر في قبر أبيه وهو والد السيد الولي وحيد عصره وفريد دهره شمس الشموس عمر بن عبد الله العيدروس الآتي ذكر بعض محاسنه البهية وطرف من اوصافه الرضية.
وفيها: لست ليال بقين من شهر ربيع الثاني، قتل الأمير الكبير الخواجة صفر سلماني الرومي المخاطب بخداوندخان ويجمع تاريخ موته " نبأ مقتل صفر " وكان مشهوراً بالشجاعة والرأي وفعل الخير والإحسان رحمه الله تعالى.
سنة أربع وخمسين بعد التسعمائة(1/119)
وفي سحر ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادى الثاني عام أربع وخمسين: توفي الشيخ جار الله بن عبد العزيز بن عمر بن محمد بن محمد بن فهد الهاشمي المكي يعرف كسلفه بأبن فهد، وسنة أربع وستون سنة، وخلف أولاداً، وكان مولده في ليلة السبت العشرين من شهر رجب سنة إحدى وتسعين وثمانمائة بمكة ونشأ بها في كنف أبويه فحفظ القرآن وكتباً كاربعي النووي ومنها به ، وسمع من السخاوي والمحب الطبري، وأجاز له جماعه كعبد الغني ابن البساطي، وغيره، ولازم والده في القراءة والسماع، وتوجه معه للمدينة وجاور بها سنة تسع وتسعمائة، وسمع بها من لفظ والده تجاه الحجرة الشريفة الكتب الستة والشفاء لعياض وغيره، وعلى السيد السمهودي بعضها وتاريخه الوفاو فتاواه. وألبسه خرقة التصوف، وقرأ على أبيه فيها العمدة والشمائل وغيرهما.
ولما عاد لمكة أكثر عليه من قراءة الكتب الكبار والأجزاء الصغار وأنتفع بارشاده ، وخرج الأسانيد والمشيخات لجماعة من مشايخه وغيرهم وأستوفي ما عند مشايخ بلده من السماع ورحل إلى مصر والشام وحلب وبيت المقدس واليمن وأخذ بها وفي غيرها من البلدان نحو السبعين على جماعة من المسندين، وأجازه خلق كثيرون جمعهم في مجمع حافل، وأشتغل في فنون وأخذ الفقه والنحو والأصلين عن الشيخ عبد الله باكثير وقرأ عليه المنهاج للنووي وغالب شرحه للمحلي والفية ابن مالك وغيرها وبعض شرح الورقات وقسم المنهاج على الشيخ شهاب الدين اليسري مرتين. وعلى الشيخ عبد الحق السنباطي مرة ولازمه في قراءة كتب الحديث، وخرج له مشيخه وأغتبط بها وكذا الخطيب محب الدين النويري وغيرهما من الأكابر، وخرج له مشيخه وأغتبط بها وكذا الخطيب محب الدين النويري وغيرهما من الأكابر، ودخل الروم عوداً على بدء وتزوج ورزق الأولاد وحدث بالمحرمين والشريفين وغيرهما.
سنة خمس وخمسين بعد التسعمائة
وفي سنة خمس وخمسين. وصل من مكة المشرفة الخان الأعظم آصفخان الكجراتي إلى كجرات، وأقام بها في منصب الوزارة إلى ان قتل مع مخدومه السلطان محمود في الليلة التي قتل فيها، وهي ليلة ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وتسعمائة رحمه الله، وكان الوزير آصفخان رجلاً صالحاً جواداً ممدوحا شريف النفس عالي الهمة ذا تهجد وأوراد، وكانت ولادته في ليلة الخميس ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة سبع أو تسع وتسعمائة، وأشتغل بالعلم حتى مهر في كثير من الفنون، وزر للسلطان بهادر شاه، ولما جاء السلطان همايون خشى السلطان بهادر على حريمه ونفائس خزائنه فأمر المذكور على الحريم والخزائن وأرسله بها إلى مكة المشرفة فمكث بها أكثر من عشر سنين مشتغلا بالعبادات وأنواع الطاعات، حتى حكي أنه أقام بمكة تلك المدة لا يعرف انه ترك الجماعة فيها مع الإمام بالمسجد الحرام في فرض واحد من غير مرض ونحوه وكان محباً لأهل العلم محسناً إليهم موءلفاً لأهل الفضل مشفقاً عليهم حتى نفق العلم في زمنه بمكة نفاقاً عظيماً وأجتهد أهله فيه أجتهاداً بالغا وثاب الطلبة وعكفوا عكوفا باهراُ عليه، وبحثوا عن الدقائق لينفقوها في حضرته، وتحفظوا الاشكالات ليتقربوا بها إلى خواطره، كل ذلك لا سباغه على المنتسبين إلى العلم من صنوف الإحسان وواسع الامتنان وهوامع الأنغام وواسع الاكرام ما لم يسمع بمثله عن أهل زمنه ومن قبله بمدة مديدة حتى قال بعض العلماء: قد أذكرنا ذلك ما يحكى عن الخلفاء والبرامكة وأبان لنا حقيقة ما في التواريخ عنهم حتى قيل أنه أنفق بمكة في نحو سنة مائة وخمسين صندوقاً ذهباً. حتى ألبس أهل مكة نسآءهم وخدمهم حلي الذهب الذي لم يعهدوا مثله، وتوسعوا في الملابس والمعاش بما لم يعرفوه قبل ذلك فجزاه الله خير الجزاء، وأكمله وأتمه وأشمله وأفضله بمنه وكرمه، ولما بلغ أهل مكة خبر مصابه حزنوا جداً لما كان ينالهم من الإحسان بسببه، ورثاه الشيخ العلامة عبد العزيز الزمزمي المكي بهذه القصيدة العظيمة وهي:
أي القلوب لهذا الحادث الجلل ... اطواده الشم لم تنسف ولم تزل
وأي نازلة في الهند قد نزلت ... بلفحها كل حبر في الحجاز صلي
اعظم بنازلة في الكون طار بها ... براً وبحراً مسير السفن والابل
أخبارها طرقت سمعي فحملني ... طروقها عبء رزء غير محتمل(1/120)
أهدت لأهل الحجاز البأس بعدرجا ... واليأس بعد الرجا كالظل بالأسل
فأصبح الناس في وهج وفي فكر ... كثيرة ومزاج غير معتدل
خطب على كل معروف ومكرمة ... ونعمة قلدت جيد الزمان حلى
أصم أذنى به الناعي واسمعني ... أمراً به صرت مثل الشارب الثمل
وهو البشير بضد الأمر ربتما ... أصبب من هول هذا الخطب بالخطل
عمري لقد جمع الضدين في نسق ... وقرب البعد بين الحزن والجذل
في حال اشراق شمس البشر قد غربت ... فصار وقت طلوع الشمس كالطفل
يا صاح سل عن فوأدي بالحديث وعن ... سكري بطافح هم فيه لا تسل
على اصفخان وجدي لا يفارقني ... أو تبلغ الروح مني منتهى الأجل
لهفي ولهف رجال العلم فاطبة ... على إمام بتحقيق العلوم ملي
على الجواد الذي فاضت مكارمه ... للآملين بما أربى على الأمل
مضى شهيداً إلى دار البقا ليرى ... ما قدمت يده من صالح العمل
لقد اعد له عند النزول بها ... رب غفور رحيم أكرم النزل
بكت عليه السما والأرض إذ فقدت ... تهجداً عند طول الدهر لم يحل
وورد صوم ظماه فيه ادخله ... جنات عدن من الربان في عجل
وفعل خير وإحسان ينيل غداًُ ... قرار سجساج ظل غير منتقل
لها بهاتيكم الطاعات قد شهدت ... بطاح مسجد طه خاتم الرسل
ومسجد القدس والمكي لا برحت ... ارجاؤهم من غمام الأمن في ظلل
وكم طواف ببيت الله كان له ... وكم وقوف بباب الله في وجل
وبالمعروف أعواماً متابعة ... بها استتم فروض الحج عن كمل
سلوا مشاعر جمع كيف ليلتها ... كانت تضيء ببدر منه مكتمل
وكان شمساً بها لما يحل منى ... أيام تشريقها أشراقهن جلى
سقياً ورعياً لأيام سلفن بها ... ونحن في مجلس سام لديه علي
اذ الزمان عزيز وجهه خضل ... بغرة من محيا وجهه الخضل
والعيش غض بما يوليه من نعم ... لدن الحواشي بانس منه مقتبل
والدهر يلحظنا شزراً ويوهمنا ... خديعة انه عنا لفي شغل
فحين رد إلينا طرفه أرتجعت ... يداه منا الذي اولاه من نحل
فشتت الشمل بعد التئام ولم ... يقنع بنوح مقيم أثر مرتحل
حتى رمانا فاصمتنا رمايته ... عمداً باسم هذا الحادث الجلل
أيا " أصفخان " لا يحصى تأسفنا ... عليك ضبط بتفصيل ولا جمل
لقد فقدناك فقدان الربيع ولم ... نجد لنا عنك بعد الفقد من بدل
نفديك منا ألوف لو فديت بها ... من خيرنا لا من الدهماء والسفل
أني لأبكيك للجود الذي فضحت ... أنواءه كل وسمي وكل ولي
أبكيك للعلم والعقل اللذين ها ... عماد دنبا ودين الحازم الرجل
وللحجاز وأهليه إذا فقدوا ... مألوف بر إليهم منك متصل
وللصيام وأحياء الظلام إلى ... حين الممات بلا وهن ولا ملل
مسافراً ومقيماً ما كسلت ولا ... عجزت حوشيك من عجز ومن كسل
قد كنت بحر علوم زاخراً وندا ... من فيضه كل بحر كان في خجل
ففاض ما فاض من أمواجه وطغا ... منها وروى الورى علا على نهل
بموته مات ذكر الجود واندرست ... منه الربوع ورسم المكرمات بلى
عذلت في قتله دهري فقال أما ... أحطت علما بسبق السيف للعذل؟(1/121)
لبى نداء المنايا عندما هتفت ... به وسار بها يمشي على مهل
لا قته وهي كمين فاستكان ولو ... بدت له لم تجده كان ذا فشل
فإنه كان ثبتاً حازماً حذراً ... ولم يكن راميه يؤتى من الزلل
أباد أحمد أباد هول مصرعه ... وباء بعد الآباء من فيه بالوجل
فذم محمود أباد الناس حين بدا ... منها عناًُ ما به للناس من قبل
وريح نكبة كنبايت عواصفها ... نكبآء هبت خلال الدور والحلل
والنار شبت بشنبانير من فتن ... تموج كالبحر ملء السهل والجبل
والدير أودت بها أدواؤها وبدت ... فيها أراجيف أهل العل والنقل
فلا ملام على سرات أن لبست ... ملابس الحزن بعد الحلي والحلل
اوفي وسلطانه السامي المقام معا ... على انتهاء الأجل المحتوم في الازل
كذا الخليفة والفتح الوزير له ... كانت وفاتهما في اعصر أول
عز العزا وأزمان المسرة قد ... ولت وكل خلي بالهموم ملي
عبد العزيز عزيز ما أصبت به ... على الممالك والأديان والملل
عبد العزيز عزيز ما أصبت به ... على شهامة أهل الملك والدول
عبد العزيز عزيز ما أصبت به ... على المشايخ والطلاب والملل
عبد العزيز عزيز ما أصبت به ... على مجالس أهل البحث والجدل
كانت تتوق لأرض الهند أنفسنا ... " كيما تحقق أن العز في النقل "
فمذ نعيت نأت عنها المنى وغدت ... أبواب نيل الغنى مسدودة السبل
يلومني فيك أقوام ولو علموا ... عذري لما أكثروا لومي ولا عذلي
محبب كل من يولي الجميل وقد ... أوليتني جملا منها علي جمل
إن ساء مصرعه أهل الحجاز فكم ... قد سرهم بالعطايا الغر والنجل
يعطيك والبشر يكسو صفحتيه فقل ... بعداً لتقطيب وجه العارض الهطل
أفعاله صدقت ما قد تكذبه ... أسماعنا من حديث الجود في الأول
فانظر إلى فعله واترك حديثهم ... " في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل؟
يلقاك لابس برد من تواضعه ... ما قط دنسه بالذل والفشل
في عزه لم يشبها كبر ذي حمق ... يظن بالكبر تعلو رتبة السفل
بالعلم كان وفعل الخير مشتغلا ... ولم يكن عنهما باللهو في شغل
ولم يزل برجال العلم محتفلا ... لمنه بسواهم غير محتفل
تأثلوا المال في أيامه وبه ... نالوا مكاناً من العلياء لم ينل
في حضرة ومغيب كان يمنحهم ... مالم يكن لهم والله في أمل
منه اتتني سنيات الهبات ومن ... تمامها أنها جاءت ولم أسل
مدحته كي أوفي شكرها فأبى ... مزيد فايض احسان له هطل
والآن علي أوفى بالرثاء له ... حقاً فاني وفي بالحقوق ملي
قد كنت آمل هذا الدهر يمتعنا ... به ويبقيه غوثاً للمعفاة ولي
وما توهمت أن الدهر ينزعه ... نزعاً ويجفؤه بالقتل والغيل
شلت يمسن الذي بالقتل فاجأه ... عمداً وشين كف المجد بالشلل
ملاحم حكم المولى بها وقضى ... وجودها سابق في علمه الأزل
يا من يسائل عن تاريخ مصرعه ... عنه الجواب " انقضى " فاكفف ولا تسل
عليه والله لا أنفك ذا أسف ... أهدى إليه الدعاء ما امتد في اجلي
همت على روض قبر حله ديم ... من الرضى ما هما دمع من المقل
ثم الصلاة على المختار من مضر ... خير البرية طه خاتم الرسل(1/122)
والآل والصحب ما أوفى الحجيج على ... بيت الآله وحي الركن بالقتل
سنة ست وخمسين بعد التسعمائة
وفي سنة ست مخمسين: توفي السيد الشريف الصالح الفاضل الشيخ حسن بن علي، وكان من المشايخ العارفين وعباد الله الصالحين صاحب هيبة عظيمة لا يراه أحد إلا هابه، وكان يصلي إماماً في مسجد والده الشيخ علي بن أبي بكر، وكان إذا دخل في الصلاة وأحرم ارتعدت فرائص الحاضرين لهيبته فهم بالصلاة معه الولي الشريف عبد الله بن الفقيه با علوي فلما سوى الصفوف وكبر طاش لبه، ودهش عقله وقال: ما هؤلاء إلا بقر يعني الحاضرين، وحمل ثوبه وخرج هارباً ولم يصل معه قلت: وحضر وفاة ابن محمد الشيخ أبو بكر العيدروس بعدن، وصلى على جنازته إماماً. كذا قاله العلامة جار الله ابن فهد المكي رحمه الله في معجمه.
سنة سبع وخمسين بعد التسعمائة
وفي سنة سبع وخمسين: توفي الولي العارف بالله تعالى الشريف عمر بن شهاب الدين بن الشيخ عبد الرحمن بن علي با علوي، وكان مشهوراً بالصلاح والمكاشفات وفيها توفي العلامة القاضي أحمد شريف ابن علي ابن علوي، وكان مولده يوم الجمعة تاسع شهر ذي الحجة سنة أربع أو خمس وثمانمائة، واشتغل بالفقه على جماعة كالعلامة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بافضل صاحب المختصر المشهور، وكالعلامة الفقيه محمد بن عبد الرحمن الاسقع باعلوي وغيرهما، وجد واجتهد حتى برع فيه وأشير إليه بالرياسة والفتوى، وذكره أخوه المعلم خرد في طبقات فقهاء آل باعلوي قال: وولي قضاء ابن رشد وهو مشتمل على مدن متعددة من قرى حضرموت اشهرها تريم لم يعارضه معارض ولم ينقض عليه مناقض انتهى قلت: ولم يل أحد من آل باعلوي القضاء غيره رحمه الله وبلغني: أنه لم يكن من القضاة الورعين سامحه الله وإيانا آمين. وفي تاريخ شنبل أنه وأخاه عبد الله شريف ولدا توأمين في بطن، وعزل من القضاء وقال: أنا لا أعزل وإن عزلني السلطان بسبب أنه ليس في الجهة من هو أعلم مني قلت: وهذا الذي ذهب إليه القاضي أحمد شريف لا أدري أهو له وجه ضعيف في المسئلة؟ أو أراد بن النكتة والمطابية، وقريب من هذا أن الصاحب ابن عباد قال لقاضي قم: أيها القاضي بقم عزلناك فقم. فكان القاضي يقول: أنا معزول السجع قلت: وذكرت بقوله أنا لا أعزل وأن عزلني الوالي. قول بعضهم:
إن الأمير هو الذي ... يضحي أميراً يوم عزله
إن زال سلطان الولا ... ية لم يزل سلطان فضله
وما أحسن قولهم في الحكم: إن أردت أن لا تعزل فلا تنول.
سنة ثمان وخمسين بعد التسعمائة
وفي سنة ثمان وخمسين: توفي الشيخ الصالح العلامة الفقيه عبد الله ابن الفقيه محمد ابن الشيخ الفقيه حكم سهل ابن الفقيه الولي عبد الله ابن الفقيه الجليل الإمام محمد بن الشيخ حكم باقشير الشافعي الحضرمي بحضرموت في العجز ببلدة قسم وقبره بها معروف يزار، وكان من الأئمة المحققين والعلماء العاملين والفقهاء البارعين صاحب تصانيف مفيدة وحيد زمانه علماً وعملاً وزهداً وورعاً. جمع بين معالم الشريعة وسلوك الطريقة وعلوم الحقيقة. ومن تصانيفه المشهور في الفقه كتاب قلائد الخرائد وفرائد الفوائد في مجلد ضخم ذكر: إنه جمع فيه مالا يوجد صريحاً في الكتب المختصرة في الفقه مما أخذ من المبسوطات والفتاوى المتفرقات، ومنها القول الموجز المبين، ومنها كتاب السعادة والخير في مناقب السادة بني قشير، ورسالة صغيرة في الفرج. ومن مشايخه: الشيخ الكبير والعلم الشهير القطب الرباني شمس الشموس أبو بكر عبد الله العيدروس والولي الصالح الشيخ عبد الرحمن بن علي باعلوي، والفقيه الصالح العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الحاج بافضل. ومن كراماته ان والدي رحمه الله لما استودع منه في دخول الهند في سقوفه في سفرته الأخيرة قال له: أظن أن هذا آخر عهدكم بحضرموت فكان كذلك.(1/123)
وفيها: وقع من أمير الحاج الفاجر مما سولت له نفسه الخبيثة من الهجوم على السيد الشريف صاحب مكة محمد أبي نمى يوم عيد النحر ليقتله هو وأولاده في ساعة واحدة فظفروا به وأرادوا قتله، وجميع جنوده لكنه أعنى السيد أبو نمى أشفق على الحاج أن يقتل عن آخره فلا يعقل منه عقال. فأمسك عن قتاله، ثم ذهب ليلة الغد إلى مكة والناس في أمر مريج فلم يزد ذلك الجبار إلا طغياناً فناد ان الشريف معزول فلما سمعت الاعراب ذلك سقطوا على الحاج ونهبوا منهم أموالاً لا تعد وعزموا على نهب مكة بأسرها واستئصال الحجاج والأمير وجنده فركب الشريف جزاه الله تعالى عن المسلمين خيراً واثخن في العرب الجراح، وقتل البعض فخمدوا، واستمر ذلك الجبار بمكة والناس في أمر مريج بحيث بطلت أكثر مناسك الحج، وقاسوا من الخوف والشدة ما لم يسمع بمثله، ثم رحل ذلك الجبار بأن سعى في باب السلطان بعزله وقتله. قال بعض الصالحين من أهل اليمن: فخرجت من مكة في تلك الأيام إلى جدة وأنا في غاية الضيق والوجل على الشريف وأولاده والمسلمين فلما قربت من جدة قبل الفجر نزلت استريح ساعة حتى يفتح سورها فرأيت في النوم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه وفي يده عصى معوجة الرأس، وكان يضرب عن الشريف أبي نمى ويقول أخبره أنه لا يبالي هؤلاء، وإن الله تعالى ينصره عليهم فما مضت إلا مدة يسيرة وإذاً الخبر يأتي من باب السلطان بغاية الاجلال والتعظيم للشريف فنصره الله تعالى على ذلك المفسد ومن أغراه على ذلك، وعاد أمر المسلمين إلى ما عهدوا من الأمن الذي لم يعهد في غير ولايته.
وفيها: كانت وقعة الجرب بجيم موحدة بينهما راء ساكنة. المشهورة. وهي أن جماعة من القبائل يقال لهم عبيد آل يماني، وكان السلطان لا يقدر عليهم لكثرتهم ولشجاعتهم وشيعتهم فاتفق أنهم اجتمعوا كلهم في قرية تسمى الجرب بأسفل حضرموت فأخبر السلطان بذلك فجهز إليهم عسكراً وحاصرهم في تلك القرية مدة إلى أن اضربهم الجوع والتعب من شدة الحصار حتى أكلوا الجلود والميتة، ودخلوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكانوا نحو خمسمائة رجل وطهر الله الأرض منهم، وصار قتلهم تاريخاً مشهوراً عند أهل حضرموت يقال " سنة وقعة الجرب " .
وفيها: دخل والدي الهند، وأقام فيها إلى أن مات رحمه الله تعالى.
سنة تسع وخمسين بعد التسعمائة
وفي سنة تسع وخمسين: كانت عمارة البيت الشريف زاده الله تعظيماً. وتاريخ ذلك للشيخ عبد العزيز الزمزمي في المصراع الأخير من هذا البيت:
وقد أتى تاريخ ترميمه ... رمم بيت الله سلطاننا
وفيها: سافر المولى الشهير الشريف عبد الله ابن الفقيه باعلوي من حضرموت بنية العزم إلى مكة بأهله فأدركه يوم عرفة وهو باللحية.
وفيها: عمر السلطان بدر ابن السلطان عبد الله بن جعفر الكثيري مدرسة لطلبة العلم بالشحر، وجعل فيها وقفاً معلوماً الفقيه أحمد الجابري برد الله مضجعه مؤرخاً لذلك العام:
شاده البدر مسجد قد ... تعالى بعلاه على النجوم المضيئة
رب من قال ارخوه فقلت ... مسجداً شيدوه للشافعية
سنة ستين بعد التسعمائة
وفي سنة ستين: توفي الشريف الفاضل جمال الدين محمد ابن علي بن علوي خرد باعلوي صاحب كتاب غرر البها، وقعت عمارة ميزاب الرحمة " من البيت الشريف عظمة الله تعالى، ومن غريب الاتفاق أن جاء تاريخ ذلك لا رحمة من ربك " وكان قد جعل هذا التاريخ الشيخ أبو بكر اليتيم المكي ثم نظمه في بيتين فقال:
يا أيها المولى الجليل ومن له ... المجد الاثيل الفائق المريخا
ميزاب بيت الله جد فا ... قتبسنا رحمة من ربك التاريخا
سنة احدى وستين بعد التسعمائة(1/124)
وفي ليلة ثلاثة عشر من شهر ربيع الأول سنة احدى وستين: قتل السلطان محمود شاه ابن لطيف شاه صاحب كجرات شهيداً. وسببه أن بعض خدمه سولت له نفسه قتل السلطان فدبر الحيلة في ذلك، وواطأ بعض الوزراء وواطأ أيضاً حرسة السلطان وخدمه، وكان ذلك الخادم هو المتولي لمأكول السلطان ومشروبه فقيل دس له شماً في شربه، وقيل في نحو علو، وقيل غير ذلك. فشكى السلطان عقيب تناوله حرارة عظيمة اشتعلت بباطنه فاستغاث فقيل بل له سكراً نباتاً ودس له اسماً أيضاً ليعجل موته قبل أن يشعر به، وقيل بل طلب السلطان الطبيب فبادر ذلك الشقي وذبح السلطان، وذبح أيضاً الطبيب كذلك، ولم يشعر أحد، ثم أرسل رسل السلطان المعتادين إلى وزرائه وطلبوهم على لسان السلطان. فقدم كل على انفراده من غير شعور له بشيء مما وقع واحداً بعد واحد وذلك الشقي وجماعته واقفون والسلطان عندهم مقتول فكل من دخل من الوزراء قتلوه بأسلحتهم فلما كثر القتل وقع الاحساس ببعض ما جرى. وفي زمنه أخذ الافرنج الدير من المسلمين ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
وفيها: مات السيد أحمد ابن أبي نمى صاحب مكة، وهو الذي دعس بسط سلطان الرونم سليمان ولم يدعس غيره من سلاطين مكة. وشوكته استقرت في حياة أبيه، وحكاية مشهورة.
وفيها: مات سليم شاه بن شير شاه البتان.
وفيها: مات برهان نظام شاه سلطان الدكن.
وفيها: قتل السلطان بايزيد بن سليمان العثماني قتله شاه طهماز بأمر أبيه السلطان سليمان. فهؤلاء خمسة سلاطين اتفق موتهم في هذه السنة فقال بعضهم مؤرخاً لذلك " زوال خسروان " .
؟سنة اثنين وستين بعد التسعمائة
وفي سنة اثنين وستين: توفي الشيخ الإمام العلامة الهمام الشيخ حامد بن محمود الجبروتي نزيل مكة المشرفة، وكان إليه النهاية في العلم والعبادة، ورثاه الشيخ عبد العزيز الزمزمي بهذه القصيدة العظيمة وهي:
أيها الغافل الغبي تنبه ... إن بالنوم يقظة الناس أشبه
وتأمل فإنما الناس سفر ... دار دنياهم لهم دار غربه
كل يوم تحل في السرح منها ... عصبة منهم وترحل عصبه
كيف يهنى الفتى بها وهو فيها ... يشتكي دائماً فراق الأحبه
واحد أثر واحد يتداعوا ... للفنى يالكربة أثر كربه
كل حلو بعد الأحبة مر ... فحياتي من بعدهم غير عذبه
يا خليلي فرقة الخل والله ... على الأنفس الكريمة صعبه
سيما خلك الخصيص الذي لم ... يزل بالجنب منك يلصق جنبه
الوفي الذي يسرك فعله ... إن يسؤك الزمان يوماً بنكبه
الحبيب الذي حوى كل وصف ... حين يملي يملأ القلوب محبه
ذاك والله حامد خير خل ... قط ما ذم صاحبه منه صحبه
قد مضى حامد حميداً فمالي ... بعده في الحياة والعيش رغبه
صاحبي من قريب خمسين عاماً ... ما ترآءيت في محياه غضبه
مزجت روحه بروحي فاضحى ... منطقي نطقه وقلبي قلبه
يبتديني بما به ابتديه ... من حديث لم تنتقص منه حبه
ذو حفاظ تلقيه في الهزل والجد ... صدوقاً عليه ما عد كذبه
طاهر الذيل لم يزن بسوء ... صين ما عليه تؤثر سبه
لم يكن فاحشاً لم يسب ولم يلق ... من الناس واحد قد سبه
حازم الرأي ثابت الجأش شهم ... فيه مع غرمه اناة ودربه
أي حفظ وأي ايراد لفظ ... مستلذ ينسى أخاه الكرب كربه
من جميع العلوم حاز فنوناً ... فتسامى بها لأرفع رتبه
نازعته إلى سمو الراقي ... همة انزلت في الأفق شببه
بلغت غاية المطالب والأ ... غراض أحبابه الجميع وصحبه
لم يكن راهباً سوى الله لكن ... كان فيه الله أعظم رهبه
كان يحيي إلى الممات الليالي ... آخذاً بالنصيب من كل قربه
كم صلاة يطول وصفي فيها ... قام عن فرشه لها وتنبه(1/125)
وطواف ما عنه منه ورد ... شكر الله سعيه فيه غبه
ومن الذكر والتلاوة أوراد ... بها لم يزل يرتب حزبه
بكت الأرض والسماء فقد عبد ... كان يعصي الهوى وبعبد ربه
وسيبكيه حين يفقد منه ... رمضان إذا أتى أي اهبه
طالما قام وشمر فيه ... مئزراً واستحث قوماً وانبه
كيف لا يدخل الجنان من ... الريان والمعاطف رطبه
كيف يظمأ غداً وفي كل يوم ... كان والله مآء زمزم شربه
يا رعى الله اعصراً وبقاعاً ... جمعتنا في عنفوان رشبه
حيث ندعى إلى الدروس ونلقى ... كل شيخ ربى المريد وربه
من رضاع العلوم أي اخاء ... بيننا بيننا به أي نسبه
يا أخي يا أبا محمد عهدي بك ... تهدي لقيا اخياك وقربه
كيف فارقتني وكنا جميعاً ... فرقدي الفة صفت ومحبه
كنديمي جذيمة نتعاطى ... من كؤوس الوداد اعذب شربه
كل يوم نزداد حباً إذا ... مل سوانا من الأحباء حبه
فجعتني فيه المنون فنفسي ... للتفاني من بعده مشرئبه
في فني الترب للبيب نذير ... أنه لا حق على القرب تربه
أن أعش بعده لعمري أني ... خنته في وداده والمحبة
إنه الموت ليس فيه وفاء ... فيه ضاهى إلى الفنى من أحبه
ويعيد إذا انقضى نحب شخص ... إن شخصاً يقضي لذلك نحبه
يا جلييسي الذي على كل خير ... فعله دل والمقال ونبه
يا صديقي الذي يكافح عني ... زمني إن عدا ويدفع خطبه
يا سميري لقد تقرح جفني ... سهراً مذاتي الردى أن تنبه
نم هنيئاً فطالما في الليالي ... سهرت مقلتاك ديناً وحسبه
وسلام عليك ما حنت الورق ... فابكت على حبيب محبه
روح الله منك في الخلد روحاً ... ويسقي صيب الحيا منك تربه
وفيها: كان موت السلطان همايون ابن بابور، وكان سبب موته سقوطه من سقف، فقال مؤرخ وفاته بالفارسي " همايون باد شاه ازبام افتاد " .
سنة ثلاث وستين بعد التسعمائة
وفي سنة ثلاث وستين: وصل الوزير الأعظم الفخان الكبير ياقوت سلطان في جمادى الثاني مكسوراً من بيرم كام إلى وسرت، كذا ذكره العلامة أبو السعادات الفاكهي المكي في رحلته، وفيها: قتل السيد مرتضى رحمه الله، وفيها سافر الشيخ أبو السعادات من أحمد أباد إلى سرت، ثم جاء بعده بأربعة أشهر الشيخ عبد المعطي بن حسن باكثير المكي والخطيب أبو السعادات ابن ظهيره، وعبد الله العراقي من أحمد أباد إلى سرت بأهلهم وتديروا بها.
سنة أربع وستين بعد التسعمائة(1/126)
وفي شهر جمادى الأول من سنة أربع وستين: توفي الشيخ الولي الصالح العلامة المحقق العارف المدقق بحر الحقيقة وإمام الشريعة والطريقة بقية السلف الصالح ومرشد الخلق إلى النهج الواضح أبو العباس أحمد بن علي المزجاجي الحنفي شهاب الدين، ودفن بجوار مسجده بتربة الظاهر الذي أنشأه جده الشيخ الصديق بن عبد الله المزجاجي الصوفي قدس الله أرواحهم. ولد رحمه الله تعالى ورضي عنه سنة سبع وتسعين وثمانمائة، وقرأ القرآن وحفظه، وسمع الحديث على جماعة منهم الحافظ عبد الرحمن بن علي الديبع رحمه الله، وكتب له الاجازة والأسانيد بخطه وتفقه بجماعة من الحنفية، وقرأ في كتب الرقائق، وسمع على الشيخين الوليين الكاملين المحققين نور الدين القطب الرباني يحيى ابن الصديق النور وبه تخرج وانتفع، والشيخ العلامة الحافظ العلامة بقية المحققين العارفين الصادقين المكملين أبي الضيا وجيه الدين عبد الرحمن بن إبراهيم العلوي أعلى الله أنواره وأسمى مناره، وقرأ في أصول الدين على الشيخ العالم المصقعي المفنن شرف الدين دامغ الملحدين إسماعيل أبي الذبيح شرف الدين ابن إبراهيم العلوي أخذ عليه كتاب النكت لأبي القاسم القشيري، وسمع عليه بقراءة غيره شيئاً كثيراً من كتب الأصول وغيرها، ولبس الخرقة من والده، ثم ألبسه مرة أخرى أخوه لأمه الشيخ إسماعيل ابن المشهور المزجاجي وأذن له في الباسها من استحقها، وكانت له اليد الطولى في كتب القوم وهو شاب، وأفاد وأملى وأجاد واستمد فامد وبلغ في كل فضل الأمد، تخرج به ولده العلامة الحافظ المجتهد الولي المقرب العارف بالله تعالى شيخنا ومولانا أبو الحسن علي شمس الدين وحقق وانتفع انتفاعاً عم الخلق نفعه، وأخذ عنه شيخنا الأستاذ الإنسان الكامل المحقق خاتم الأولياء مولانا السيد الشريف حاتم بن أحمد الأهدل وخلائق لا تحصى والشيخ كمال الدين أحمد بن إبراهيم العلوي، وله اتباع بلغوا مبلغ الكاملين ومكنوا في الولاية أي تمكين. وبالجملة فكان فريد دهره ونادرة عصره ونسيج وحده ولزيم ابده علماً وعملاً وأفادة وسيادة، وله كلام في الحقائق يشهد له بحيازة علم، وكان علماء وقته يجلونه غاية الإجلال ويشهدون له بالتقدم على الأمثال من رآه ذكر الله وقال تبارك الله، يقصده الخاص والعام والقضاة والحكام للزيارة والتبرك به والتماس الدعاء منه إذا نزل بهم منهم، وكان يبسط له في الوقت ويمد له فيه بحيث أنه يقرأ مائة شرف القرآن في نصف نهار أو دون ذلك. وحكى لي فقيره الصادق محمد قحطان، وكان رجلاً صدوقاً من أهل الخير والصلاح وتلاوة القرآن وكتبه القوم. قال بلغ سمع شيخنا رحمه الله ان رجلاً يحوك الثياب بجواره يقرأ ستين ختمة من بعد الشروق إلى بعد الظهر فعظم أمره على الشيخ، وقال هذا في جوارنا ولا نطلع عليه أو كما قال فلما كان اليوم الثاني بكر إليه فجاء وهو يسدي خيوطه ويهذبها وينقيها فلما وقع نظر الرجل على الشيخ سر سروراً عظيماً بدخول الشيخ منزله فرحب به وانبسطت نفسه. فقال له الشيخ: يا فلان ما حديث حدثته عنك من تلاوتك القرآن كل يوم كذا وكذا ختمة. فقال: نعم كل يوم ستين فقال له: هل شرعت اليوم في القرأة؟ قال: بلى الآن افرغ من التسديد واقعد للعمل، واشرع فقال الشيخ أحب أن اشرع أنا وأنت فمتى تفرغ من الستين قال. وقت كذا من النهار فلما قعد للعمل شرعا معاً وفارقه الشيخ فلما كان الوقت الذي عينه الحائك للشيخ جاءه الشيخ فقال له كيف أنت قال حصل لي ببركة دخولكم علي في هذا اليوم زيادة ست ختمات فقال له الشيخ. وأنا أتممت المائة. رضي الله عنهما. وهذا من باب خرق العادة وتوسعة الوقت. فقد حكى الفرغاني في تائية ابن الفارض ما هو أعظم من ذلك فيطلب من هناك، وكان الفقيه إسماعيل العلوي المذكور من أكبر المنكرين على الشيخ المذكور وكان المقوي لاسماعيل على ذلك صالح النيماري، وكان إسماعيل يعنف أخاه أحمد على كثرة تردده إلى الشيخ أحمد وصحبته له فقال أخوه أحمد: يا أخي وشيخي ووالدي ولك علي حق وطاعتك واجبة فهلم نذهب أنا وأنت الليلة إلى راتب الشيخ ونقعد من وراء ونباشر حال الشيخ وعمله فإن وجدت على طريقة مرضية دخلنا عليه وإلا رجعنا ولا أصل بعدها إلى الشيخ، وكان هذا من أحمد كيد خفي، لأنه يعلم أنه متى وقع بصر أخيه على الشيخ انصبغ وإن لم يره الشيخ بعين الرأس فطمع أخوه(1/127)
إسماعيل فيه ولم يدر أن للبيت رباً يحميه، فذهبا معاً فحضرا درس القرآن فكاد إسماعيل يحترق من ذلك فلما ختم الدرس والدعاء انشد المنشد، وشرع صاحب السماع في الاسماع قال له أخوه أحمد نذهب إلى البيت قال: لا بل ندخل على الشيخ فهو على قدم صدق فسر بذلك أحمد، ودخلا على الشيخ أحمد فلما رآه الشيخ سر به وحصل له من الانس والبسط ملا مزيد عليه فعاد إسماعيل من أكبر المحبين الآيبين إلى الله تعالى، وكان صالح النيماري في جهة الجبل فلما نزل بلغه قصد الفقيه إسماعيل المذكور إليه، وقال له يا فقيه إسماعيل انتظمت في سلك فلان، ثم تلكم في حق الشيخ وطريقته فقال: لا تقل هكذا وجدنا الرجل على خير كبير نحن في حجاب عنه لكن الموعد بيني وبينك الليلة وقت صلاة المغرب الجبرتية مسجد إسماعيل الجبرتي فتواعدا على ذلك فحضرا معاً صلاة المغرب بالمسجد المذكور فلما أذن واقيمت الصلاة دخل الفقيه الصالح الولي الفالح عبد الرؤف المشيم يصلي بالناس فكاد أن يفوت الوقت بكثرة الخشوع في القراءة فلما فرغت الصلاة قال الفقيه إسماعيل الصالح: رأيت حال هذا الرجل وعظم توجهه، ورقة قلبه والله لو تلوت أنا وأنت كذا وكذا ختمة ما قطرت لنا دمعة قال: نعم مع قوة معرفتنا إنا نقرأ أحسن منه قال له إسماعيل هكذا القبول قال: نعم. وإن هذا من أولياء الله تعالى قال له إسماعيل: هذا من أصغر أصحاب أحمد بن علي مقاماً، فما زاده ذلك إلا نفوراً حتى أفضى الأمر إلى منافرة ومناقرة وأهاجي بينهما والله المستعان.ماعيل فيه ولم يدر أن للبيت رباً يحميه، فذهبا معاً فحضرا درس القرآن فكاد إسماعيل يحترق من ذلك فلما ختم الدرس والدعاء انشد المنشد، وشرع صاحب السماع في الاسماع قال له أخوه أحمد نذهب إلى البيت قال: لا بل ندخل على الشيخ فهو على قدم صدق فسر بذلك أحمد، ودخلا على الشيخ أحمد فلما رآه الشيخ سر به وحصل له من الانس والبسط ملا مزيد عليه فعاد إسماعيل من أكبر المحبين الآيبين إلى الله تعالى، وكان صالح النيماري في جهة الجبل فلما نزل بلغه قصد الفقيه إسماعيل المذكور إليه، وقال له يا فقيه إسماعيل انتظمت في سلك فلان، ثم تلكم في حق الشيخ وطريقته فقال: لا تقل هكذا وجدنا الرجل على خير كبير نحن في حجاب عنه لكن الموعد بيني وبينك الليلة وقت صلاة المغرب الجبرتية مسجد إسماعيل الجبرتي فتواعدا على ذلك فحضرا معاً صلاة المغرب بالمسجد المذكور فلما أذن واقيمت الصلاة دخل الفقيه الصالح الولي الفالح عبد الرؤف المشيم يصلي بالناس فكاد أن يفوت الوقت بكثرة الخشوع في القراءة فلما فرغت الصلاة قال الفقيه إسماعيل الصالح: رأيت حال هذا الرجل وعظم توجهه، ورقة قلبه والله لو تلوت أنا وأنت كذا وكذا ختمة ما قطرت لنا دمعة قال: نعم مع قوة معرفتنا إنا نقرأ أحسن منه قال له إسماعيل هكذا القبول قال: نعم. وإن هذا من أولياء الله تعالى قال له إسماعيل: هذا من أصغر أصحاب أحمد بن علي مقاماً، فما زاده ذلك إلا نفوراً حتى أفضى الأمر إلى منافرة ومناقرة وأهاجي بينهما والله المستعان.
سنة خمس وستين بعد التسعمائة(1/128)
وفي يوم السبت إحدى عشر شهر المحرم سنة خمس وستين: توفي الشيخ الكبير والقدوة الشهير الولي العارف بالله تعالى الإمام العلامة شهاب الدين أحمد الفقيه عثمان بن محمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن عثمان بن عمر بن محمد ابن الشيخ الكبير الولي المربي سعيد بن عيسى بن أحمد الشهير بالعمودي بتعز، وكان من كبار أهل العلم وأهل الفتيا والتدريس مع الورع التام والزهد العظيم والاقبال على الطاعة وكثرة العبادة والسلوك على نهج السلف الصالح ولزوم الخمول وترك مالا يعني والإحسان الدائم إلى الفقراء والمحتاجين والطلبة والملازمين، وكان مع ذلك من أهل الولاية العظيمة والتصريف النافد في الوجود، وقيل أنه كان يعرف اسم الله الأعظم، وكان ينفق من الغيب، وكان الباشوات تعظمه وتخضع لهيبته، وكان من محفوظاته الارشاد في الفقه، وكانت تجيء إليه الفتاوى من البلاد البعيدة فيجيب عنها، وكان ولي مدرسته بتعز، وكان ينفق جميع ما يصير إليه من وقفها على الفقراء والطلبة ولا يمسك منه لنفسه شيئاً، ولم يزل على ذلك حتى مات. وبالجملة فانه كان أوحد عصره علماً وصلاحاً ولم يخلفه بعده مثله، وكانت ولادته بزبيد وما، وقفت على تاريخ مولده إلا انه مات وهو ابن خمسين سنة تقريباً، وبنيت عليه بعد موته قبة عظيمة رحمه الله تعالى، وكان والده الفقيه عثمان بن محمد من اهل العلم والصلاح، وكان انتقل من بلاده قيدون إلى زبيد وهو شاب لتحصيل العلم فأخذ عن جماعة حتى برع في العلم وتزوج هناك امرأة فولدت له صاحب الترجمة هذا، وهو الذي أخذ عنه وتخرج به الفقيه الصالح علي بن علي با يزيد الدوعني صاحب النكت على الارشاد وصاحب الفتاوى المشهورة، وكانت وفاة الشيخ عثمان في هذا القرن، وتاريخ موته لم أعثر عليه ولهذا لم افرده بالذكر في هذا التاريخ والا فهو حقيق بذلك.
" فائدة " أعلم ان في قلبي حسرة عظيمة اذ لم يتيسر إلى الوقوف على تواريخ جماعة من الاعيان المشهورين كطائفة من الأولياء الكرام، وجملة من العلماء الاعلام: مثل الشيخ الإمام والحبر الهمام مجتهد زمانه وعارف اوانه الشيخ أبي الحسن البكري، والشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي المصري، والولي العارف سراج الدين الفقيه عمر بن عبد الله با محزمه الحضرمي، والشيخ الكبير والولي الشهير عمر بن أحمد العمودي والد الشيخ عبد الرحمن الآتي ذكره، والشيخ الإمام العلامة عبد القادر بن أحمد الحباني، والشيخ العلامة علي بن أحمد البسكري المالكي المغربي المكي والد صاحبنا الشيخ أحمد البسكري، والشيخ الفاضل محمد الحطاب سمي ابيه، والشيخ العلامة علي بن عراق. وأخوه الشيخ عبد النافع، والشيخ الكبير العلامة المفنن أحمد بن عبد الغفار المالكي، والولي الصالح الشيخ أحمد بن عبد القوي بافضل الحضرمي والشيخ الكبير الولي الشهير أحمد بن سهل باقشير، والولي الصالح المعلم با جابر صاحب عندل، والشيخ العلامة عبد الرؤف الواعظ تلميذ الشيخ ابن حجر الهيتمي والعلامة الشهير الشيخ محمد الرملي المصري، والعلامة الطبلاوي، وآخرين يطول ذكرهم ويتعذر حصرهم مع أني قد اذكر بعضهم في ترجمة غيره بطريق الأستطراد ولكني لم استوعب أخباره كما ينبغي ويراد، والمرجو أن يمن الله علي بذلك حتى أشفى العليل بشرح مناقبهم العديدة وسيرتهم الحميدة والله ولي التوفيق والمسؤل على هذا الكتاب من الأخوان الفضلاء وظفر بشيء من ذلك فليضفه إليه على هذا النمط والسياق، ويرجي لمن فعل ذلك إنشاء الله ببركتهم الاندراج في المسرعين إلى الخيرات السباق انتهي.(1/129)
وبنو العمودي أهل اصلاح وولاية أشتهر منهم جماعة بالعلوم الظاهرة ومقامات الولاية الفاخرة ويقال ان نسبهم يرجع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأما خرقتهم فهي ترجع إلى الشيخ أبي مدين المغربي رضي الله عنه فإن جدهم الشيخ الكبير والعلم الشهير تاج العارفين ومربي المريدين الشيخ سعيد بن عيسى العمودي قدس الله روحه أخذها عن الشيخ عبد الله الصالح رسول رسول الشيخ أبي مدين فهي كخرقة قطب العارفين وأمام الأولياء المتمكنين الشيخ الفقيه محمد بن علي مقدم التربة، وحكى أن الشيخ أبا مدين أرسل تلميذه الشيخ عبد الرحمن المقعد من المغرب نائباً عنه وأمره بالذهاب إلى حضرموت وقال له أن لنا فيها أصحاباً سر إليهم وخذ عليهم عقد الحكم،و أخبره بأنه سيموت في أثناء الطريق فكان كذلك ومات بمكة المشرفة، ثم أرسل تلميذه الشيخ عبد الله الصالح كما أمره شيخه، وقال له أذهب إلى حضر موت تجد فيها الفقيه محمد بن علي يقرأ العلم على الفقيه علي بن أحمد با مروان وسلاحه على رجليه موضوع فأطلبه من عنده وحكمه. ثم أذهب إلى قيدون تجد فيها الشيخ سعيدبن عيسى العمودي فحكمه. فلما قدم إلى تريم وجد الفقيه بتلك الصفة التي ذكرها له شيخه ففعل ما امره وذهب إلى قيدون كذلك، وكان الشيخ سعيد أحد كبار مشايخ حضرموت مشهوراً بالولاية الكاملة والكرامات العظيمة وكان كاملاً مربياً مسلكاً، وبه انتفع الشيخ أبو معبد وغيره وله في ناحيته ذرية مياركة واتباع وزاوية لهم مشهورة، وروي عنه أنه قال: زيارتي بعد وفاتي أفضل من زيارتي في حياتي، وروي عنه أيضاً أنه قال: من احبني أو أحب من أحبني أو زارني أو زار من زارني أو صافحني او صافح من صافحني فأنا ضمينه بالجنة، وحكي أنه عمر في القطبية ثمانية عشر يوماً، وروي عنه أنه قال من رضي بي شيخه فليشهد الله على نفسه أنه رضي بي شيخه دينا وأخري، وأنا شيخه ولايمد يده إلى أحد، وروي عنه أنه قال: من زارني ثلاث مرات يتعنى ماله حاجة إلا زيارتي فأنا ضمينه بالجنة، وكان الشيخ سعيد رضي الله عنه امياً ويرد على الفقهاء في المسائل الفقهية وعلى القاري إذا غلط أو لحن، وتوفي سنة احدى وسبعين وستمائة وتربته مقصورة للزيارة والتبرك نفع الله به آمين، وطبقت تاريخ وفاته بحساب الجمل على أحرف. سآء معشر. ثم نظمته فقلت:
سعيد الذي شاع فضله ... " سآء معشر " نقله
وكذا طبقة على أحرف " شعر سما " ثم نظمت ذلك أيضاً فقلت:
هوالعمود الشيخ سعيد العلما ... تاريخ عام نقلته " شعر سما "
وقال بعض الفضلاء من الصالحين في ذلك ايضاً:
بست مئين كان تاريخ شيخنا ... واحدى وسبعين بذلك فاعلما
سعيد بن عيسى القطب واحد عصره ... عمود لدين الله قدره معظما
ويجمع ذا التاريخ اعداد أحرف ... إذا شبت فاعددها تجدها " عرش سما "
سنة ست وستين بعد التسعمائة
وفي سنة ست وستين: توفي الإمام عبد القادر الشافعي رحمه الله، ورثاه صاحبه الأديب الفاضل السيد محمد السمرقندي نزيل طيبة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام بهذه القصيدة وهي:
مات الإمام فعيشي بعد كدر ... ودمع عيني لا ينفك ينحدر
قضى ولم يقض لي من وده وطر ... وأصبحت دوره بعد العلا الحفر
يا ليته علني من بعد نهلته ... علا به تشرف الاسماع والبصر
قد كنت احذر هذا اليوم من عمري ... لو كان ينفع في مقدوره الحذر
حتى رميت بسهم ليس يمنعني ... منه صديق ولا خدن ولا وزر
مالي وما لليالي كلما جنحت ... سالمتها وهي لا تبقي ولا تذر
حملت من جهلها ما ليس يحمله ... قلب وما عجزت عن دركه الفكر
وأنت يا رائحاً عني وتاركني ... ونار وجدي في الاحشاء تستعر
إن جئت داراً أعز الله جانبها ... وجادها المزن لا ينفك ينهمر
بلغ سلامي إلى من بالتراب ثوى ... ما كان ظني فيه ينزل القمر
بلغ تحية محزون إلى جدث ... به الذي عف منه الفرح والازر(1/130)
بلغ تحية محزون إلى جدث ... به الذي طاب منه الخبر والخبر
امام مكة عبد القادر ابن أبي ... اليمن الذي خير من قد انجبت مضر
من نبعه المصطفى الهادي ارومته ... أكرم بفرع بذاك الأصل يفتخر
يا ابن الائمة والقوم الذين هم ... على الحقيقة فينا الأنجم الزهر
يا صاحب الرتبة المعذور حاسدها ... إن الحسود على مرماك ينعذر
إليك قد كان يعزى الفضل منتسباً ... واليوم فيك يعزى البدو والحضر
قد كان وجهك في الاقبال قبلتنا ... به تعززت الحجات والعمر
أنت الذي كنت نعم المستشار به ... إذا دهتني في ديناي الغير
جعلت فضلك فيما بيننا نسباً ... إذ كان في الأم والآباء منحصر
ارضعتني ثدي انس منك الفه ... واليوم عنك رضيع الانس منقهر
تبدي التواضع للاخوان منبسطاً ... ولو وضعت على هام لهم شكروا
كم خطبة لك عند البيت فائقة ... بها تسلسل عن خير الورى الأثر
لله كم من مقام بالمقام لكم ... حلت بترديده الآيات والسور
يبكي المقام على هذا الإمام كما ... يبكيه منبر بيت الله والحجر
أبكي عليه وهل يشفي البكا كبداً ... كادت لموقع هذا الخطب تنفطر
قد كاد يجدي التأسي عنك دمع أساً ... لو كان مثلك في ام القرى بشر
برغم أنفي أن يدعوك ذو أمل ... فلم يجبه سوى الاطباق والستر
وان يرى ربعك العالي وليس به ... لكل ذي مقة ورد ولا صدر
ماتت بموتك عرب كنت غيثهم ... فكيف حال عريب ما لهم مطر
سقى ضريحك صوب المزن منتحباً ... حتى يضاحك أقصى تربه الزهر
تاريخه " جنة الفردوس منزله " ... ثم الصلاة على من حفه الحجر
والآل والصحب والأزواج ما نظموا ... أهل القريض مديحاً فيه أو نثروا
وفيها: قتل الوزير عماد الملك رحمه الله يوم سبع وعشرين في شهر رمضان، وقتل معه جمع منهم مصطفى القرماني عيدل خان وغيرهم قتلهم رجب خلاوند خان ولد الخواجا صفر.
سنة سبع وستين بعد التسعمائة(1/131)
وفي يوم الجمعة تاسع عشرين من شهر رجب الحرام سنة سبع وستين توفي الشيخ الكبير والولي الشهير قدوة العارفين، وحجة الله على السالكين وجيه الدين عبد الرحمن بن الشيخ عمر ابن الشيخ أحمد بن محمد بن عثمان بن محمد العمودي وهو الذي يلتقي فيه نسبه مع ابن عمه الشيخ أحمد بن عثمان الذي تقدم ذكره بمكة المشرفة، ودفن بالمعلاه، وكان من الأولياء الصالحين والمشايخ العارفين كثير العبادة والاجتهاد عظيم الورع والزهد والمثابرة على الاعمال الصالحة مع الاشتغال بالعلوم النافعة لوجه الله تعالى، وكان مشاركاً في كثير من فنونها، وكان يحفظ الارشاد في الفقه. ومن مشايخه الشيخ أبو الحسن البكري والشيخ الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيتمي. وما أحسن قول الشيخ عبد القادر الفاكهي فيه حين ذكر أنه أخذ عن الشيخ ابن حجر: أخذ عنه رواية أخذ شيخ عن شيخ كما قيل في أخذ أحمد عن الشافعي ثم قال ولعمري أن شيخنا العمودي: هو أجل من يقال في حقه بعد انتهائه تلميذ ويطلق وأن جل الشيخ يعني ابن حجر، وحسبك بما أشرت إليه في التنبيه في أخذ أحمد عن الشافعي فانه بديع يدريه أهله إذ فيه توقير لمنصب المشبه والمشبه به انتهى، ومن تصانيفه حاشية على الارشاد، وكان أراد محوها فمنعه الشيخ ابن حجر من ذلك، ومنها النور المزرور، وكان كثير التعظيم لأهل العلم مع الخمول المفرط والتواضع الزائد والاستقامة والانقطاع إلى الله تعالى فلم يتزوج لذلك مدة عمره مقبلاً على الطاعة مذ نشأ، وحكى الفاكهي أنه سمعه يقول: طلب مني الشيخ أبو الحسن البكري الحضور في الليل ساعة لاستماع درسه العام فما وافقته إلا امتثالا لامره الأكيد قال: فقلت له: ما سمعت؟ فقال: وقفت ساعة وأنا مشغول ولم أدر ما يقول، وإنما وقفت امتثالاً أي لشغله بالاوراد التي لا رخصة عنده في تركها، وروى أنه قدم إلى تريم لزيارة من بها من المشايخ فاجتمع بالشيخ الكبير الولي العارف بالله شهاب ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ علي باعلوي فأخبره بأنه اجتمع بالامام الغزالي في غرفة بداره يقظة من طريق الكشف واستجاز ومنه كتبه فأجازه بها فطلب منه الشيخ عبد الرحمن أن يجيزه بالاجازة المذكورة فأجازه بذلك، وكانت له أحوال فاخرة، وكرامات طاهرة قال الفاكهي: ومناقبه افردتها برسالة قلت: وهو الذي طلب من الشيخ ابن حجر أن يشرح مختصر الفقيه عبد الله بافضل في الفقه، جاور بمكة المشرفة سنيناً، ومات بها رحمه اله تعالى وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وحكي أن الشريف أبو نمى سلطان مكة أرسل إليه بمائة دينار فلم يقبلها واستحى الرسول أن يردها على الشريف فبقيت عنده حتى مات الشيخ عبد الرحمن رضي الله عنه، فأخبر الشريف عند ذلك فأمره بأن يدفعها إلى الشريف عبد الله بن الفقيه الآتي ذكره قال الفاكهي: وسمعت من لفظ شيخنا صاحب الكرامات الباهرة والمجاهدات المعلومات الظاهرة ولي الله عبد الرحمن العمودي نفع الله به يقول: ان شخصاً من آل العمودي يخرج من مقبرة المعلاه وهو من السبعين الألف الشافعة ولا أعلم في المعلاه من العموديين أجل منه وان كان بها عمه وآخرون منهم بل سمعت منه أيضاً ما دل دلالة صريحة: أن أباه الشيخ عمر المدفون بالقنفذه من السبعين الألف الشافعين. ولا يستعظم هذه المنقبة عليه وعلى أبيه إلا جاهل بحالهما ولو من مخالطيه، ومن أراد الوقوف على عنوان مناقبه وعلى مراتبه فليقف على كتابي ارشاد المغني، والفقير إلى فضل التقشف والرضاء باليسير، فاني شرحت فيه بعض أحواله وأشرت إلى جمع كراماته الدالة على قطبيته وكماله بل ان أراد أوسع منه فليتطلبه فربما يعثر عليه فاني أرجو جمع كتاب واسع في كراماته بعد تتبعها من أهل جهاته وخصوصياته ضاماً ذلك إلى ما عندي من كثير ولا ينبئك مثل خبير. ومن نظمه هذه الأبيات في القهوة.
أسرار قهوتنا خذها مبينة ... تعين سالكنا في الليل ما سهرا
وتشرح القلب والأعضاء تبسطها ... وتذهب الهم والأحزان والكدرا
فاشرب فديتك منها ما قدرت له ... وقم لصحتك بالأسحار ما يسرا
واخلص لدى نية مهما شربت لها ... وكن كيئيساً بها الخيرات مدخرا
واقتد بشربها ممن مضى خلفا ... ذوي الصلاح ولا تقتد بمن خسرا(1/132)
واسال آلهك ان يفضل برحمته ... على نبيك خير الخلق والبشرا
وكان والده الشيخ عمر نفع الله به من كبار أهل العلم، وكان يدرس ببلده قيدون ويفتي بها، وحكي أنه ارتفع إليه اثنان في دعوى، وكان أحدهما على الحق والآخر على الباطل فأشار عليهما الشيخ أن يصطلحا ستراً للحال فأبى ذلك الرجل الذي كان مبطلا وقال: لا أرضى ألا بحكم الشرع، فغضب الشيخ عند ذلك وقال: أما إذا كان هكذا فشهود الملاحف ما يجوزوا عندي، وكان ذلك الشخص أعطى اثنين كل واحد ثوباً حتى يشهدان له فكاشفه الشيخ بذلك، وحكي أنه دخل عدن في زمان الشيخ أبي بكر العيدروس فإضافه الشيخ أبو بكر وبالغ في ذلك فلما راي الشيخ عمر كثرة ما صنع خطر في قلبه أن هذا اسراف فالتفت إليه الشيخ أبو بكر عند ذلك وقال: أكرمناهم قالوا أسراف. فقال الشيخ عمر عند ذلك: استغفر الله ، ولم يعلم الحاضرون بشيء من ذلك حتى حكى لهم الشيخ عمر بخاطره الذي خطر له، وكاشفه الشيخ به، وحكى ولده الشيخ عبد الرحمن العمودي رحمه الله عنه أنه كان في مجلس وفيه جماعة من أهل الكشف فصدر من أحدهم سوء أدب عليه فعوقب ذلك الرجل بالسلب في الحال، وحكي أن الشيخ عمر رضي الله عنه بلغ رتبة القطبية وكان قد ولي المشيخة ببلاده قيدون بعد أبيه على طريقه سلفه، فلما آل الأمر في ذلك إلى سفك الدماء ونحوه ورجوع أمر تلك المرتبة إلى قوانين الملك ترك ذلك وعزل نفسه زهداً فيها ورغبة فيما عند الله عند الثواب، وكان في زمنه يسوس الخلق إلى قوانين الشرع الشريف ولا يحابى في الحق القوي على الضعيف فكرهنه العامة لذلك وعزموا على أنهم يقتلوه، ويولوا مكانه مكانه أخاه عثمان فأخبره بذلك فقال: ما يحتاج إلى هذا وتركهم وما يريدون وعزم إلى مكة المشرفة فلما قفل منها مات بالقنفذه وقبره بها مشهور،و عليه بناء عظيم رحمه الله تعالى، وقيل أنه دعا عند ذلك عليهم أن الله تعالى يبتليهم بسبع مثل سبع يوسف فاستجاب الله ذلك فمنعوا القطر هذه المدة حتى أقحطت الأرض، ولاقى الناس بسبب ذلك شدة عظيمة، وكان صاحب الترجمة وأبوه هذا يكرهان ما يفعله بنو عمهم من حمل السلاح ونحوه، وكان ينكر أن عليهم أشد الإنكار أعاد الله علينا من بركتهما في الدارين آمين، وكانت وفاته في هذا القرن ولم أعلم تاريخه ولهذا لم أترجم له كما وقع لي في غيره، وقد ذكرت السبب في ذلك وإلا فهو حري بإن يذكر على الاستقلال كيف وهو أحد ممن تنزل الرحمة عند ذكره وهو غني بفضله وشهرته على الإطناب في أمره وترجمته.
وفيها: كانت وفاة أحمد شاه بأحمد آباد قتيلا، وفيها جاء جنكيز خان إلى سرت وحرق دورها وخربها، وخرب أهلها وأستأسر، ثم صالحه صاحب سرت خداوند خان وذهب إلى بلده بروج، ثم جاء إلى سرت ثانية أيضاً.
سنة ثمانية وستين بعد التسعمائة
" عام ثمانية وستين " وخرج جانباً من الكوت، وأخرب جمعاً من أهل سرت ومنير وغيرهما من التجار والرعية، ثم ذهب إلى بروج في آواخر شهر رمضان، وكان ذهب من الكوت خفية ليلاً صاحب سرت خداوند خان فذهب إلى بلاد الكفار، ثم وصل إلى أحمد آباد ثاني شوال، ثم قتل آخر يوم من ذي القعدة يوم الثلاثاء بعد العصر قتله بجليخان وأغا ريحان ورستم خان مع عسكرهم وفي العسكر جميع ابن عبيد خداوند خان " هربوا منه من رهبته " وقد قلت في الواقعة المذكورة شعر:
سمي حرام ذاق الحمام في مثله ... وفعل حرام في حرام من أعظم الوزر(1/133)
ومعنى البيت: أن سمي شهر حرام يعني رجب. ذاق الحمام وهو الموت في مثله يعني في شهر حرام أيضاً وهو القعدة، وفعل حرام وهو القتل. في شهر حرام هو القعدة من أعظم الذنوب، ولا شك أن المعاصي إذا وقعت في مكان عظيم كمكة أو زمان شريف كالأشهر الحرم تتضاعف من الله سبحانه وتعالى العقوبة على مرتكبيها وهذا ظاهر، وكان خداوند رحمه الله تعالى أميراً كبيراً جليل القدر رفيع المنزلة حسن الأخلاق كثير الأنفاق جميل الصورة طيب السيرة جواداً سخياً وشهماً أبيا شديد البأس محببا إلى الناس متواضعاً مملاحاً لين الجانب مشهوراً في المشارق والمغارب كثير الإحسان والأفضال مقصوداً بشد الرحال محباً لأهل الخير والفلاح مجمعاً لأهل العلم والصلاح حسن العقيدة في الأولياء والصالحين محسناً إلى الفقراء والمساكين عظيم الصدقة والمعروف كثير الإحتفال بالوفود والضيوف، وكان عريق الرياسة حسن السياسة ظريفاً لطيفاً وفي آخر الأمر أعتراه نوع من الوسواس حمله على الاستيحاش من الناس أختل به النظام تدبيره فخذله وزيره ومشيره وقل معه معاونه وناصره وتفرقت بسببه عنه عساكره والكمال الله. فكان هذا هو السبب في زوال الملك عنه وظفر العدو به ونفور الناس منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وللشيخ العلامة أبي السعادات الفاكهي فيه مرثية عظيمة وهي:
الدهر في يقظه والسهر للبشر ... والموت يبدو ببطش البدو والحضر
والسام أصعب كأس أنت ذائقه ... قبل التدثر للأجساد بالحفر
لا مين فيما قلت ولا ولا ريب ... أن كنت ذا ريب فاسأل عنه وأدكر
وأسأل زمانك عن كسرى وقيصره ... كذا السلاطين والا قيال من مضر
أفناهم الدهر حتى صار ذكرهم ... كانوا وكانوا وهذا أعظم العبر
يا ويح ناع أتى يوماً يخبرنا ... أجرى دموعاً على الأخداد كالمطر
أتى برأس رئيس كان كان مفخرنا ... كأصله منبع الإحسان والظفر
أبو الأرامل والايتام والغربا ... بموته ما صفت أرواح من كدر
أبو المشايخ والأشراف والنجبا ... أبو الرعية من أنثى ومن ذكر
خان عظيم له رجب سمي رجب ... مرجب قد براه الله من صفر
أكرم به وفروع منه قد بسقت ... وبيت سلمان أهل الخير والظفر
هم الأكابر أصلا ثم فرعهم ... أصل الفخار إلى حين من الدهر
تباً لناعق بين صاح ينبئنا ... أبكى الدماء وأبكى الجن والبشر
أبكى الفحول مع الأبطال أجمعهم ... أبكى الخيول كذا الأفيال فاعتبر
أبكى الأسود مع النمور مع الظبا ... أبكى الديار وأعماها مع البصر
أبكى الرعية والفتوة والندا ... أبكى البرية من ساه ومدكر
أبكى المواكب والأملاك قاطبة ... أبكى المراكب والأفلاك ذو الدسر
أبكى الرمال كذا الأطلال نادبة ... وأبكى القفار مع الأنهار والبحر
أما التجار فقد صاروا بأسرهم ... كالشاة تخشى شر ذي أشر
يا ويح " سرت " ما سرت لساكنها ... الله يحفظها من طارق الغير
لبس السواد رعاياه ولم يلموا ... لكن حكم القضا جار بلا نكر
كانت شجاعته في كل معترك ... كيوم ميران أسنى من سنا القمر
وكم خصائص فيها مالها عدد ... ومكرمات بلا عد لمستطر
لو كان يسمع أهل الروم كيف جرى ... لجهزوا الجيش للغارات في الأثر
لكن نصر آله جر ناصرنا ... يكفي ويجعل من عاداه في عبر
تاريخ ميتته سلخ لقعدتنا ... يوم الثلاثاء مسآء منه فادكر
أما السنون فإني سوف أر قمها ... بحمرة بحساب الجمل البهر
لا غروان " الشهادة حازها رجب " ... فرد كفرد عظيم القدر في الشهر(1/134)
خوطب كأصل له مذكان في صغر ... خان خداوند ساد الناس في كبر
فأعجب لهذي الدنا لا تحتشم أحداً ... قد أسست صفوها دأباً على كدر
فقل لمغرور في دنياه كن يقظاً ... لها المصارع في غفلات محتذر
كيف التحذر والأقدار سابقة ... لا بد منها على الأرواح والصور
لو كان يفدى من الأموات سيدنا ... كنا فديناه بالإسماع والبصر
يا رب ترحمه تغفر لمعشره ... تجعل مآثره ابهى من الدرر
وأرض عنه خصوماً أنت تعلمهم ... وخصه بلا الجنات والسرر
وعم أهلا وأحباباً وكل فتى ... يهوى لخير وبالخيرات مشتهر
وخص أصلا له أيضاً قرابته ... الله يحفظهم بالعلم والسور
يارب وأرحم لميتهم فضلا وميتنا ... يا رب وأعمم بخير منك وأنتصر
يا رب فاحرس الكون ثم ساكنه ... وأحفظ لحافظيه وصفيهم من الكدر
وأغفر لمنشئها حقاً وسامعها ... وأرحم لراقمها في الطرس والسطر
يا رب أحمي الإسلام وحوزته ... من الضلال وأهل الكفر والفجر
يا رب وأنصر لدينك وكل ناصره ... يا رب وأنعم بجبر كل منكسر
يا رب يا رب أنت الله مقتدر ... أنت الغني فاغني كل مفتقر
يا رب وأستر بفضلك كل معترف ... بالهفو فيما فاه من عور أو من عثر
من الفعال مع الاقوال أجمعها ... يا رب يا رب يا ساتر على العثر
يا رب يا رب يا رحمن يا صمد ... أغفر لمن قد مضى في غابر الدهر
أو أحفظ لمن قد بقى وابقية في رغد ... وجمل الكل وأحمل كل ذي العسر
ثم الصلاة على المختار صفوته ... خير البرية من فهر ومن مضر
كذا السلام عليه دائماً أبداً ... صلى عليه آله الخلق والفطر
وخص من بعده آلا وعثرته ... وصحبه والتابعين له في كل مفتخر
وكا الشيخ أبو السعادات المذكور كمن المشمولين بعنايته والمنتظمين في سلك نعمته كغيره من العلماء والصلحاء، فإن " سرت " في أيامه السعيدة كانت طافحة بالمشايخ والفضلاء ومشحونة بأكابر الناس من سائر الاجناس مملوءة باعيان التجار والأكابر وشجعان الجنود والعساكر، وكانت عامرة أشد العمارة يجلب إليها سائر البضائع والنفائس للتجارة، وكان يسافر منها عدة من المراكب والسفن إلى ساير النواحي كمصر وغيرها من المدن، وكانت الرعية في أعظم أمان وسرور دائم بلا أحزان والناس في ارغد عيش وأنعم بال والوقت في اطيب مضاء واسترحال، والقلوب مطمئنة والشرور مستكنة. حتى قال بعضهم " سرت " سرت الخواطر وقرت النواظر. يعني لكثرة ما كان بها في زمنه من الأفراح وأسباب الإنشراح، وبلغني انه كان يجعل لكل من يدخل إليها من الغرباء مرتباً بحسب حاله، وإذا أراد الذهاب كذلك زوده من ماله. وبالجمله فمحاسن هذا الرجل كثيرة وأخباره معروفة في الناس شهيرة رحمه الله تعالى وايانا آمين آمين.
وفيها: في سابع جمادى الأولى: توفي الشيخ الكبير القطب العارف بالله تعالى أحمد ابن الشيخ حسين ابن الشيخ عبد الله العيدروس بتريم، وكان من سادات مشايخ الطريقة المكاشفين بأنوارالحقيقة جمع له بين كمال الخلق وحسن الأخلاق وبسط المعرفة وصحة النية وصدق المعاملة، مناقبه كثيرة وأحواله شهيرة. ومن كراماته رضي الله عنه كان مرة بمسجد في سماع عظيم وبيده سبحة يسر، وكان كلما قال سبحان الله وبحمده ودرج الحبة فانفلقت أربع فلق وأقل وأكثر فأخذوها منه وقد انفلق منها أكثرها كذلك وأصاب بعض الحاضرين شيء من ذلك في بدنه فآلمه. وروى الولي الصالح الشهير أحمد بن عبد القوي بافضل أنه رأى الشيخ عياناً واقفاً بعرفات، وشاهده مشاهدة يطوف باالبيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة. ولسيدي الشيخ الوالد فيه مرثية عظيمة وهي:
تقضي فتمضي حكمها الأقدار ... والصفو يحدث بعده الأكدار(1/135)
والدهر أبلغ واعظ بفعاله ... وكفى لنا بفعاله انذار
نادى واسمع لووعت آذاننا ... وأرى العواقب لو رأت أبصار
قل للذي يغتر منه برونق ... لا تغترر فحظيره أخطار
من ينظر الدنيا بعين فوأده ... كشف له من خبرها أخبار
ما كنت قلت ان " تريم " تضعضعت ... ارجاؤها أو انها تنهار
حتى نعى ناعي شهاباً أحمدا ... بن الحسين بن العفيف مزار
العيدروس سر سر الله من ... أسراره تسري به الأدوار
رفع الولي ابن الولي ابن الولي ... من جده خير الورى المختار
أرواحهم بالعرش قنديل يضي ... كشعاع شمس زادها الأنوار
ما أن ذكرت فصائلا في أحمد ... إلا وهيج حزني التذكار
فسقى الحيا تابوت قبر قد ثوى ... وتعاهدت تابوته الأمطار
آه على وادي ابن راشد بعده ... واسبتهمت من بعده الأسرار
قد كنت نوراً في تريم ظاهراً ... تقضى به الحاجات والأوطار
هيهات ما أن للمنية دافع ... أبداً ولا لحياتنا استقرار
قد قال لي بلسان حال مفصح ... لما احتسبت لربنا القهار
هون عليك فكل حي ميت ... والدهر في أبنائه دوار
فلينظرن أهلة منكم فقد ... طلعت في سما العلا أقمار
لا زال منكم في الولاية سيد ... ما غردت في أيكها الأطيار
وقد ضمنها التاريخ في قوله " العيدوس سرا سرا الله " .
سنة تسع وستين بعد التسعمائة
وفي ليلة السبت خامس عشر صفر الخير سنة تسع وستين: توفي الشيخ الكبير والقدوة الشهير العارف بالله تعالى أبو محمد معروف بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد مؤذن ابن عبد الله بن محمد بن أحمد جمال بدوعان، وكانت ولادته بشبام في ليلة الجمعة حادي عشرشهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة، وكان كبير الشأن ذا كرامات ظاهرة وآيات باهرة، وبلغني أن مناقبه أفردها بعض الفضلاء بتصنيف رحمه الله، وكان من المشايخ المشهورين والاساتذة الكبار المذكورين بتربية المريدين وتخريج السالكين، وكان ذا جاه عظيم وقبول عند الخاص والعام، وسبب خروجه من بلده إلى دوعان أنه كان وشيء به إلى السلطان بدر الكثيري في أشياء. منها فرط اعتقاد الناس فيه وامتثالهم لأوامره ونواهيه. فأمر بنفيه من البلاد بعد الاشهار باهانته بين العباد فنودي عليه هذا معبودكم يا أهل شبام، وجعل في عنقه حبلاً وطيف به بين الأنام. ومن غريب الاتفاق أن السلطان أمر بعض امرائه أن يتولى فعل ذلك منه بنفسه، وكان ذلك الشخص من معتقدي الشيخ المذكور فتوقف لذلك. فأرسل إليه الشيخ معروف قدس الله سره أن أفعل ما أمرت به وأنا ضمينك على الله بالجنة. فانظر إلى مشهد هذا الشيخ العظيم الذي يرى الأشياء كلها من الله الحكيم، وما وقع عليه من الامتحان له فيه أسوة بغيره من الأعيان أراد الله أن يرفع به درجاتهم ويضاعف بسببه في ثوابهم وحسناتهم على أن الطائفة العلية كما قيل في نعوتهم السنية: انهم رضي الله عنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وفيها: صار بحضرموت حريق البرد المشهور.
سنة سبعين بعد التسعمائة
وفي سنة سبعين ثاني يوم من شوال. كان السيل العظيم الهائل بحضرموت الذي لم يسمع بمثله اخرب كثيراً من النخيل، وأهل تلك الجهة يذكرونه إلى اليوم ويؤرخون به وهو المسمى عندهم سيل الاكليل وقد ضمن تاريخه صاحبنا الفاضل الفقيه عبد الله بن أحمد بن فلاح الحضرمي في بيتين هما:
سيل بوادي حضرموت أذاه عم ... في سنوء اكليل النجوم أخد نسم
وضعوا له تاريخ ناسب جوره ... يلقاه من يطلب في أحرف " ظلم "
ويقال أنه في قديم الزمان كان وقع سيل أو سيلان مثله، أو قريب منه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سنة احدى وسبعين بعد التسعمائة(1/136)
وفي شهر جمادى الأولى سنة احدى وسبعين: توفي الشيخ الكبير والعلم الشهير تاج العارفين وبقية الأولياء الكاملين وجيه الدين الشريف عبد الرحمن ابن حسين ابن الصديق الأهدل اليمني قدس الله روحه بزبيد، وقبره بها مشهور مزور وعليه قبة، وكان من كبار المشايخ أرباب الأحوال الفاخرة والكرامات الظاهرة نهد إليه الزائرون من سائر الأقطار، وقصد التبرك بفضله الخاص والعام من القرى والأمصار. دائره مهبط الوفاد ومحط رحال القصاد ما قصده قاصد إلا وأحرز غاية المراد وفاز بالمدد المعنوي والمحسوس من فضل الله الجواد، ولد رضي الله عنه سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، نشأ بمدينة زبيد، وقرأ بها القرآن العظيم، وصحب جماعة من المشايخ، وحكمه الشيخ المعروف ابن إسماعيل الجبرتي، ونصبه شيخاً وهو ابن ثلاث عشرة سنة فقال للشيخ يا سيدي أنا لا أقدر أقوم بما تقوم به المشايخ فقال له الشيخ: أنت حظك مطلق، وظهرت عليه آثار بركة المشايخ الصالحين، وفتح عليه فتوح العارفين حتى لحق من قبله وساد أهله وتضالت عليه المشايخ الأكابر، وشهدت له بالتقدم على الأوائل والأواخر فأصبح فريد دهره ووحيد عصره منقطع النظير متصلاً مجده بالأثير، كثرت اتباعه وأصحابه من المشايخ والعلماء والقضاة والأمراء والوزراء والأغنياء والفقراء، وكان رحمه الله تعالى كثير الانفاق ميسرة عليه الأرزاق، ما قصده سائل غاب ولا أمه وافد إلا ورجع بزلفى وحسن مآب يعطي مما يعطي ويجيب داعيه بغير ابطاء، يفرق ما يكفي إليه من الفتوح فكل ينال منه ما قسم وخط له في اللوح من ذهب وفضة وفلوس وكساء وغير ذلك. وكان رضي الله عنه دأبه الانفاق على الفقراء والمساكين خارجاً عن صدقات مخصوصة بأقوام، وعن صلة ذوي القربى والأرحام، وهو مع ذلك على قدم التوكل والفتح الرباني، وكان محباً للعلم وأهله معظماً مشاركاً في كثير من العلوم، وجمع كتباً كثيرة في فنون شتى، وكان من حسن الخلق ولين الجانب ولطف الشمائل وسلامة الصدر وطلاقة الروجه والبشر ما يجل عن الوصف، وكان إذا خرج من بيته يزدحم عليه الناس ويلتمسون بركته، ورزق من القبول والمحبة والوجاهة يا يشهد أن له عند الله أعظم من ذلك، وحببه الله إلى خلقه، واعتقده الخاص والعام، وانتشر صيته، واشتغل به الناس اشتغالاً عظيماً الرجال والنساء والصغار والكبار حتى كان لا يكاد يخلو عنهم ساعة واحدة يتبركون به ويلتمسون دعآءه، وكانت شفاعته لا ترد عند أولي الأمر فمن دونهم، وكان صاحب كرامات خارقة وأحواله صادقة وانتفع به الناس انتفاعاً عظيماً. وعلى الجملة فترجمة هذا الرجل لا يسعها الأوراق. ومن كراماته أنه جاء إليه مريض وقد عظم بطنه من الاستسقاء فقرب إليه طعاماً وأمره أن يأكله جميعه فحسب أن فعل ما أمره زال عنه ذلك المرض في الحال واستوى بطنه وكراماته كثيرة لا تنحصر. وبالجملة فانه كاوحيد عصره وفريد دهره لم يخلفه في مصره وشهرته تغني عن ترجمته ومن شهر والده الحسين:
قد كان في سنة خير الورى ... صلى عليه الله طول الزمن
ان لا يرد الطيب ولا المتكا ... والتمر واللحم كذاك اللبن
زمنه
لا اعتب الدهر ولا أهله ... في حط مقدار ولا منزله
نحن قسمنا بينهم قاله ... الهنا والفضل والعدل له
الحمد والشكر لمن قد جرت ... أحكامه بالقسمة العادلة
رحمه الله تعالى.
وفيها: توفي الشريف العالم الفاضل النسابة نور الدين علي باجهان باعلوي.
وفيها: فاضت أودية بمكة المشرفة بسيول عظيمة فدخل الحرم الشريف وعلا على الركن اليماني ذراع. فقال مؤرخاً لذلك الأديب صلاح الدين القرشي رحمه الله تعالى في بيت مفرد وهو:
يا سائلي تاريخ سيل طما ... علا على الركن اليماني ذراع
وفيها: عمر والدي رحمه الله مسجده بسرت. فقال الشيخ الأديب عبد المعطي ابن حسن با كثير المكي في تاريخ ذلك هذه الأبيات وهي:
هذه بقعة شرفت في الأزل ... قد حوت قبة نزهت عن مثل
شق فيها ضريح الشريف الأجل ... ميم حاميم دال مصطفى فيه حل
الولي الكبير للجنان انتقل ... تجل من قد سما فوق هام القلل
الشريف شيخ شيخ الشيوخ الأول ... سيدي العيدروس غيث فضل هطل(1/137)
الصفي الولي سر خير الرسل ... قطب هذا الزمان الرفيع المحل
يالها بقعة سرها قد حصل ... وبها مسجد فضله لم يزل
جاء تاريخه " رافلا في حلل ... مسجد خالص لوجه الله جل "
سنة اثنين وسبعين بعد التسعمائة
وفي سنة اثنين وسبعين: توفي الشيخ العلامة عبد الله بن أحمد الفاكهي الملكي الشافعي وأمه أم ولد حبشية، وكان مولده سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وكان من كبار العلماء مشاركاً في جميع العلوم، وله مصنفات مفيدة، منها شرح الآجرومية، وشرح على متممتها للحطاب أجاد فيها كل الاجادة، وشرح على قطر ابن هشام في غاية الحسن وصنفه سنة ستة عشر وتسعمائة، وكان عمره حينئذ ثمانية عشر سنة. وشرح على الملحة واستنبط حدوداً للنحو، وجمعها في نحو كراسة، ثم شرحها أيضاً في كراريس ولم يسبق إلى مثل ذلك. وبالجملة فإنه لم يكن له نظير في زمانه في علم النحو فكان آية الله حتى قيل أنه سيبويه عصره رحمه الله. وحكي أنه حضر في الجامع الأزهر وقاريء يقرأ شرح القطر على بعض المشايخ فاشكل عليهم بعض العبارات فيه فخلها المذكور وذكر أنه هو الشارح فلم يصدقوه حتى أقام البينة على ذلك، وشهد له من كان هناك من اهل مكة بذلك.
وفيها: في ليلة لعشر ليال مضت من شهر رجب الحرام توفي الفقيه العلامة عبد الله ابن الفقيه الصوفي عمر ابن الإمام العلامة عبد الله بن أحمد محزمه بعدن، وعمره خمس وستون سنة، وكان آية في العلم خصوصاً الفقه والفلك أخذ عن والده الفقيه الولي عمر وعمه العلامة طيب، والقاضي العلامة عبد الله بن أحمد باسرومي، وكان يقول أني استفدت من هذا الولد أكثر مما استفاد مني، وجد واجتهد حتى برع، وانتصب للتدريس والفتوى، وصار عمدة يرجع إلى فتواه من الجهات النازحة والاقاليم البعيدة، وكان عمه الطيب يقول: لا أستطيع ما يستطيع عليه ابن أخي في حل المشكلات، وتحرير الجوابات على المسائل العويصات الغامضات، وكان الشيخ الإمام العلامة جمال الدين محمد ابن الإمام عبد القادر الحباني يعظمه جداً ويرجحه على والده وكان معظم تحصيله عليه، وجل انتفاعه به. وممن أخذ عنه أيضاً من العلماء الأعلام وشيوخ الإسلام سيدنا وشيخنا الشيخ العلامة الصالح الفقيه محمد بن عبد الرحيم با جابر ومدحه الأديب أبو زكريا الدمشقي ببيتين وهما:
يا عمري الأصل أنت مالكي ... ونافعي بفضله بين البشر
ها قد رفعت مسندي اليكم ... لمالك لنافع لابن عمر
وبالجملة فكلامه وأبحاثه في كتبه وأجوبته تدل على قوة فطنته وغزارة مادته، وكان مع ذلك يغلب عليه الحرارة حتى على طلبته، وكان فيه على ما قيل " باو " مفرط والكمال لله، وكان فصيحاً بليغاً فاضلاً في الأدب نادرة الوقت في النظم والنثر، وكان قد ولي قضاء مدينة الشحر مرتين، وفي آخر عمره أقام بعدن، وولي بها مشيخة التدريس في مواضع متعددة. ومن تصانيفه كتاب ينكث فيه على شرح المنهاج للشيخ ابن حجر الهيتمي في مجلدين، وفتاوى كبيرة في مجلد ضخم، والمصباح لشرح العدة والسلاح وشرح الرحبية وذيل على طبقات الشافعية للاسنوي ورسالتين في الفلك والميقات ورسالة في الربع المحبب. وغير ذلك ومن شعره:
قلت سلام الله من مغرم ... ما أن سلا عنكم فقالوا سلا
فقلت هل ترضون لي وقفة ... قالوا فما تطلب قلت الكلا
ومنه: وقد بلغه موت بعض أصحابه بالشحر:
لئن صح هذا العلم فالشحر بعدكم ... حرام علينا ظلها وفناها
وكيف يقيم المرء في سوح بلدة ... وقد كان منها موتها وفناها
ومنه
يا قريب الفرج عبدك ... على الباب واقف
كلما آيس ترجى ... من جنابك لطائف
ومنه
يا سادة عودوني كل مكرمة ... لا تقطعوا البر عن مملوككم وصلوا
وجملوا الحال فالدنيا مجاملة ... والخير أبقى وكل المال منتقل
ومنه
لا تنس من لم ينس ذكرك ساعة ... وانظر إليه بعين ود واعطف
أوليس منسوباً اليك وأنه ... فرض عليك " عرفت أم لم تعرف "
ومنه
وقائلة بالله صف لي متيما ... اضربه طول النوى كيف حاله(1/138)
فقلت على نوعين: أما نهاره ... فيبكي، وأما ليله لا كرى له
ومنه: قاله وهو ببدر الموضع المبارك المشهور:
ذكرت في بدر بدري عندما غربت ... شمس النهار وضآء البدر بالأفق
فقيل: بدرك هذا قلت: بينهما ... فرق وشاهده في الليل والشفق
ومنه هذان البيتان وقد ضمنها قول أبي تمام " السيف اصدق أنباء من الكتب " .
الواو من صدغه في العطف يطمعني ... والسيف من لحظه يومي إلى العطب
فحين ما حرت قام الهجر ينشدني ... " السيف أصدق أنباء من الكتب "
وأيضاً هذين البيتين: وقد ضمنها قوله أيضاً " سيد قومه المتغابي " :
قالت أراك من الذكا في غاية ... جلت عن الاسهاب والاطناب
فعلام تبدي في الأمور تغابياً ... فأجبت " سيد قومه المتغابي "
وأيضاً هذين البيتين: وضمنها قول المتنى " لكل امرء من دهره ما تعودا "
وعاذله أبدت لفقري توجعاً ... وقالت أتاك الفقر من جانب الندا
فقلت لها لا تطمعي في تغيري ... " لكل امرء من دهره ما تعودا "
وأيضاً هذين البيتين: في الاقتباس:
ويا لكهف من محاجر فتية ... فنون الصبابة من وصفهم
ترى الشمس البها والكمال ... تمر " تزاور عن كهفهم "
" فائدة " تتعلق بالاقتباس. ذكرها السبكي في الطبقات بعد أن أورد هذين البيتين للاستاذ أبي منصور البغدادي في الاقتباس وهما:
يا من عد اثم اعتدى ثم اقترف ... ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
ابشر بقول الله في آياته ... " إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف "
قال: واستعمال مثل هذا الاستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره فائدة. فإنه جليل القدر والناس ينهون عن هذا، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه لا يجوز، وقيل إنما ذلك يفعله الشعراء الذين هم في كل وادٍ يهيمون، ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي. وهذا الأستاذ أبو منصور من أئمة الدين وقد فعل هذا والحافظ أسند هذين البيتين عنه في كتاب السنن.
" فائدة " أخرى في اصطلاح أهل المعاني والبيان أنه إذا ذكر المتكلم ناظماً أو ناثراً في كلامه كلام غيره لا على حكايته. فإن كان ذلك الكلام من عبارات القرآن أو الحديث، فهو الاقتباس، وإن كان شعراً فهو التضمين، على اصطلاح المتأخرين وإن كان المتكلم نظم نثراً فهو العقد، وإن كان نثر نظماً فهو الحل، وإن كان أشار إلى كلام غيره ايمآء لا تصريحاً فهو التلميح، وهي خمسة فنون: الاقتباس والتضمين، والعقد، والحل، والتلميح. ومن شعره أيضاً هذه القصيدة المشتملة على المواعظ الجامعة والوصايا النافعة وهي:
زم الركاب وحلها عن عقلها ... ودع المطايا ترتمي في سبلها
وابعد عن الأوطان في طلب العلى ... واترك ديار الذل عنك وخلها
لا ترض من دون النجوم بمنزل ... وترق من طل لطائل ويكها
لا ترجعن القهقري مثل التي ... نقضت وحلت بعد عزم غزلها
واسمع أخي نصيحة من ناصح ... إن النصيحة ليس يخفى فضلها
انظر إلى الله الكريم ولذ به ... واقصده في حل الأمور وقلها
وإذا الأمور تضايقت وتعقدت ... فاضرع إليه فإنه المرجو لها
واجهد على الخيرات تحظ بخيرها ... واحذر يفوتك فرضها أو نقلها
ودع العاصي والغواية واستقل ... فالله يقبل من أناب إذا لها
والنفس ان تدعو فخالف أمرها ... ودع الهوى إن الهوى من فعلها
فإذا بدا لك من رفيقك زلة ... فاغفر ولا تجزي المسيء بمثلها
والرفق رافق في أمورك واصطبر ... فالصبر من خير العرى واجلها
وإذا بليت بشدة فاثبت لها ... حتى ترى مستبشراً بمحلها
نظراً إلى أن المقدر كائن ... فعلام تجزع يافتى من أجلها
والصدق فالزم في حديثك كله ... والوعد أوف به فذاك اجلها
واترك مصاحبة الكذوب ومن ... تكن عاداته عند النميمة حملها(1/139)
وتغاض عن عيب الأنام فإن من ... يطلب معايبها رماه بنبلها
عود لسانك كل قول طيب ... فالقول من عقل الرجال ونبلها
واحفظ حقوق الوالدين وقم بها ... والأهل والأصحاب واحمل ثقلها
وترق في العليا إلى غاياتها ... فبجمعك الخيرات تجمع شملها
وانصب لكسب المال كي تكفي به ... منن اللئام في الاحتياج لبذلها
فركوبك الأهوال في تحصيله ... عين الرجالة أن تكن من رجلها
بالمال يصفو الدين والدنيا معاً ... والمال في أيدي الرجال كعقلها
فيه المكارم والمآثر في الورى ... وبه الصلات الناميات ووصلها
فانهض له ودع الكسالة أنها ... بئس الضجيع فلا تنم في ظلها
واحذر كلام عصابة من عجزها ... رضيت لباس الافتقار وذلها
تحتج في تفضيله بادلة ... جهلت حقائق شرطها في نقلها
إن كنت تقوى أن تقوم بشرطها ... طوبى وإلا عد عنها لأهلها
فالفقر كاد يكون كفراً في الورى ... قد قال ذلك فيه خاتم رسلها
والنهي عن جمع الحطام محله ... من ليس يقصد عند ذلك عدلها
أما الذي ينوي الحلال لكي يصن ... عن وجهه ولكي يمن بفضلها
من غير ما حرص وغير تكاثر ... فثوابه متعين فاقصد لها
سنة ثلاث وسبعين بعد التسعمائة
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين: توفي الولي الصالح العابد الزاهد أحمد بن علوي ابن المعلم محمد بن علي حجدب ابن عبد الرحمن ابن محمد ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ علوي ابن الشيخ الفقيه المقدم باعلوي نفع الله به ببلدة تريم، وكان يعد في حكم رجال الرسالة لشدة ورعه وتقشفه واستقامة طريقته، روي ذلك عن الشيخ الولي عبد الرحمن بن عمر العمودي نفع الله به، وله في الزهد والتقلل من الدنيا حكايات لعله لا يوجد في تراجم كبار الأولياء أكثر منها، ولم يتقدموه إلا بالسبق في الزمان. ومن كراماته أنه لما عزم بنية الحج في البحر رئي يشرب من مائه. فقيل له في ذلك فقال: أليس كل أحد يشربه؟ فأخذ بعضهم ما بقي في الاناء فشربه فإذا هو حلو، وكف بصره آخر عمره، وحصل عليه قريب انتقاله جذبه من جذبات الحق اندهش بها عقله وتحير لبه وانغمر بها سره، وأخذ عن نفسه فكان يقوم إلى الصلاة بطريق العادة، وهو مأخود عن حسه وربما صلى إلى غير القبلة. وذلك لما استولى عليه من سلطان الحقيقة فتلاشت العبدية في كعبة العندية، ونودي بفناء الفناء من عالم البقاء، ورفعت القبلة وما بقي إلا الله فأينما تولوا فثم وجه الله، ومكث كذلك نحو أربعة أيام، ومات رضي الله عنه. ولي فيه:
سلام من الله على روح سيدي ... مغيث كل ملهوف ومكروب صفر اليد
أيا جحدب المشهور عوني وعمدتي ... شهاب لدين الله غاية مقصدي
شبيه الفضيل بن عياض وأمثاله ... ومن كان في اسلوبه فرد مفرد
لقد حيرت أوصافه كل ناظر ... وازرى بالعباد في كل مشهد
ومن في أوامر ربه كان امة ... فيا فوز من كان بآثاره يقتدي
فيا سيدي لا تنسني منك بنفحة ... فليس بعد الله غيرك معتمدي
وليس يخفى عليك مرادي سيدي ... فحقق رجائي وبرد كبدي
وقر عيوناً لي وطيب خاطري ... واسعف بما قد رمت منك وأسعد
ألا يا أولياء الله اجيبوا صارخاً ... لبابكم يهرع راج ومجتدي
يريد أموراً أنتم أهل لقضائها ... فقولوا حبيناه بالعز السرمدي(1/140)
وفيها في ليلة الاثنين خامس عشر شوال: توفي العلامة الصالح الفقيه محمد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ علي ابن الشيخ أبي بكر بتريم، وكان من العلماء العاملين والفقهاء البارعين، وكانت له اليد الطولى في جميع العلوم سيما في الفقه والنحو، وجاور بمكة لطلب العلم سنين، ومن محفوظاته: الارشاد للمقري والالفية في النحو، ومن مقرؤاته: المنهاج ومقرؤاته كثيرة، وكان متحلياً بالعبادة والنسك سالكاً علي منهاج السلف الصالح مع السمت والصلاح وحسن الأخلاق. وبالجملة فإنه كان وحيد عصره ولم يخلفه بعده مثله رحمه الله، وللشيخ العلامة أبو السعادات الفاكهي فيه هذه المرثية وهي:
قلق الفوأد وبالصدود يروع ... والقلب دأباً بالفراق يصدع
ألف السهاد مع الجفون مجافياً ... للنوم لا يدنو ولا يتوقع
ما للهموم مع الغموم تصاحبت ... يوم النوى وقت الجموع تجمع
تباً لشخص لا يزال ملذعاً ... بالنار لا يهدو ولا يتقلع
رعياً لأيام مضت مع سادة ... كانت ليالينا بهم تتلمع
لعمري هم القادات حقاً وانهم ... هم الذخر في الأخرى بهم نتشفع
ولا غرو أن يشفوا عليلاً ويشفعوا ... وسيلتهم جد شفيع مشفع
فيا دهركم تحرق وتغرق وتنتقي ... خياراً لنا ما آن أن تترجع
صبرت على حلو القضاء ومره ... وقد عيل صبري أختشي أتجزع
وصابرت قلبي عل يظفر بحبه ... فما راعه الاحمام مقطع
فيا ويح ناع قد أتانا مخبراً ... بموت فقيه جامع ومجمع
هو السيد المفضال حبر وعارف ... هو السند المطوال رحب موسع
واعني به بحراً من العلم جامعاً ... وبراً رحيباً شاسعاً وممنع
مقدم سادات كبار أئمة ... ونخبة قادات علو وترفعوا
محمد شيخي اسمه ثم وصفه ... محامده تعلو شيوخاً وركع
كذا حسن أصل له ثم حسنه ... هو الحسن أصلاً ثم فرعاً مفرع
فبالله يا عيني فجودي بعندم ... وبالحق يا أجفان للنوم ودعوا
ويا ابن حسن يا منبع العلم والتقى ... محباً لكم أمسى حزيناً مقطع
وذاك الفقير الفاكهي عبيدكم ... حياة له موت وقلب ملذع
لقد مات يا عالم بموتك عالم ... وقد ثلم الدين القويم الممنع
وقد نقصت أطراف أرض لفقدكم ... فيا ويح قلب بالفراق مجذع
فيا رب يا الله تحسن عزاءنا ... وتعظم لنا أجراً كثيراً موسع
وصلى الهي ثم سلم دائماً ... على المصطفى جد لشيخي مشفع
وآل وصحب ثم زوج وتابع ... وحمد لربي بالختام مودع
وفيها: توفي الشهاب القباني الحادي الشهير وله اليد الطولى في علم الموسيقى وقد أرخ نفلته صلاح الدين القرشي بقوله:
الأنس من بعد الشهاب ... لقد توفي شيخه
والبسط قال لموته ... القبض لي تاريخه
وفيها: عمر القاضي حسين رحمه الله سبيلا بأعلى مكة شرفها الله، وارخ ذلك بعض الفضلاء فقال هذه الأبيات:
عين هذا الزمان انشا محلا ... وسط روض الجنان عالي مكه
فيه كرم وروض أنس وورد ... ومياه كالبحر تحمل فلكه
وقلال تجري بوسط سبيلسلسبيلسلسبيل لا يسع الناس تركه
هو بدر العلى حسين بن طه ... مالكي المكي سيد مكه
المنى والأمان بين يديه ... فلكم معسر من المعسر فكه
جاء تاريخ ما بناه مليكي ... يملك المجد خلد الله ملكه(1/141)
وفيها: سافر الفقيه الفاضل محمد بن افلح المكي من الهند إلى مكة في مركب الوزير الغخان فغرق المركب ومن فيه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكان ابن أفلح فاضلاً بليغاً فصيحاً أديباً ذا ملح وحكايات واستحضار لبعض الروايات اشتغل بالعلم قليلاً، وكان له فهم بالغ وسمعت من اثق به بقول: انه لو اشتغل بقدر فهمه في العلم لكان وصل فيه إلى ما لم يصل إليه غيره إلا أنه كان يميل إلى اللهو والبطالات ويعجبه التماشي والاجتماعات رحمه الله تعالى. والظاهر أن أصله من اليمن وربما أظن أنه من زبيد. ومن ذريه الشيخ افلح المشهور الذي هو من السبعة الذين من زارهم قضيت حاجته، وبلغني أنه درس بالهند في الفقه وقرأ عليه جماعة منهم الفقيه الصالح علي بن صبر اليافعي مع أنه لم يكن فيه بذاك حتى أن الفقيه محمد بن سراج الحضرمي حضر عندهم ذات يوم، وكان الدرس في باب استقبال القبلة فتوقف ابن افلح في حل مسئلة، وحلها ابن سراج المذكور. ولابن افلح أشعار فائقة إلا أني لم أظفر من مقطعاته بشيء. نعم له قصائد متعددة في والدي وأخي السيد أحمد وهي في غاية ما يكون من الفصاحة والبلاغة، وكان في ذلك المركب المذكور الفقيه محمد الزبيدي فغرق أيضاً وكان هذا الفقيه محمد من أهل الفضل والأدب، وكان شافعي المذهب، وقيل أنه كان محققاً في علم الأصول وله. نظم حسن ورأيت له قصائد في مدح والدي وكان ناخوذاً في ذلك المركب حسن علوان المشهور فغرق أيضاً رحمهم الله آمين.
سنة أربع وسبعين بعد التسعمائة
وفي ثامن جمادى الأولى سنة أربع وسبعين: توفي الولي الصالح المجذوب عبد الله ابن الفقيه محمد بن عبد الرحمن الأسقع باعلوي بمكة، وكان بوم موته مشهوداً، وقبره بالشبيكة معروف يزار، وكان من الأولياء العارفين والأئمة المقربين السالكين المجذوبين اولي الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة والمقامات العلية والأحوال السنية، انتشرت مناقبه وعمت مواهبه وفاضت على الخليقة أسراره ونفحاته ووسعت البرية بركاته، انتقل بأهله وولده إلى مكة وجاور بها إلى أن توفي بها، وكانت مدة اقامته بمكة المشرفة أربع عشرة سنة وكان له بها جاه عظيم في الأنام وقبول عند الخاص والعام. وحكى عن السيد الشريف شهاب الدين بن عبد الرحمن خرد باعلوي أن الشريف أحمد بارقيه كان يصحب الشيخ أحمد بن حسين العيدروس، والسيد أحمد بن علوي با مجدب، والسيد عبد الله بن الفقيه الاسقع. وربماانه كان يأمره بعضهم بضد ما يأمره به الآخر فشق ذلك عليه وتحير فيه فخرج إلى ضريح العيدروس وآلى على نفسه أنه لا يذهب من عنده حتى يعلمه بأحوال الثلاثة، وبمن يقتدي به منهم فنام فكلمه الشيخ عبد الله العيذروس، قال له جئت تسأل عن أحوال الثلاثة ؟ أما الشيخ أحمد بن حسين فبحر الحقيقة، وأما السيد أحمد بن علوي فأفرده الله، وأما عبد الله ابن الفقيه فله نوبة تضرب في السماء ونوبة تضرب في الأرض وشرب من كأس الحميا حتى روي أو كما قال.
وفيها: في رجب توفي الشيخ الإمام شيخ الإسلام خاتمة أهل الفتيا والتدريس ناشر علوم الإمام محمد بن ادريس الحافظ شهاب الدين أو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري بمكة، ودفن بالمعلاه في تربة الطبريين، وكان بحراً في علم الفقه وتحقيقه لا تكدره الدلاء وإمام الحرمين كما أجمع على ذلك العارفون وانعقدت عليه خناصر الملاء، إمام اقتدت به الأئمة وهمام صار في إقليم الحجاز أمة. مصنفاته في العصر آية يعجز عن الاتيان بمثلها المعاصرون فهم عنها قاصرون، وأبحاثه في المذهب كالطراز المذهب طال ما طاب للواردين من منهل تدريسه صفاء المشرب وطال ما طاف حول كعبة(1/142)
مناسكه من الوافدين من يريد وفاء المأرب، فوقع له قلم الباري في إرشاد المقري والقارىء، كواكب سيارة من منهاج سماء الساري يهتدي بها المهتدون تحقيقاً لقوله تعالى " وبالنجم هم يهتدون " وأحد العصر، وثاني القطر، وثالث الشمس والبدر. من أقسمت المشكلات أن لا تتضح إلا لديه وأكدت المعضلات آليتها أن لا تتجلى إلا عليه لا سيما وفي الحجاز عليها قد حجر. ولا عجب فإنه المسمى بابن حجر. ولد في رجب سنة تسع وتسعمائة، ومات أبوه وهو صغير فكفله الإمامان الكاملان علماً وعملاً العارف بالله شمس الدين بن أبي الحمائل، وشمس الدين الشناوي، ثم أن الشمس الشناوي نقله من بلده محلة أبي الهيتم إلى مقام القطب الشريف سيدي أحمد البدوي نفع الله به، فقرأ هناك على عالمين به في مبادي العلوم، ثم نقله في سنة أربع وعشرين وهو في سن نحو أربعة عشر سنة إلى الجامع الأزهر مسلماً له إلى رجل صالح من تلامذة شيخه الشناوي، وابن أبي الحمائل، فحفظه حفظاً بليغاً وجمعه بعلماء مصر في صغر سنه فأخذ عنهم، وكان قد حفظ القرآن العظيم في صغره. ومن مشايخه الذين أخذ عنهم شيخ الإسلام القاضي زكريا الشافعي، والشيخ الإمام المعمر الزيني عبد الحق السنباطي، والشيخ الإمام فقيه مجلي النفس الشافعي، والشمس ابن أبي الحمائل، والشمس الشهدي، والشمس السمهودي، وابن العز الباسطي، والأمين الغمري، والشهاب الرملي الشافعي، والطبلاوي الشافعي، والشيخ الإمام أبي الحسن البكري الشافعي، والشمس اللقاني الضيروطي، والشمس الطهراي، والشمس العبادي، والشمس البدوي، والشمس بن عبد القادر الفرضي، والشمس الدلجي، والشهاب النطوي، والشهاب الركسي، والشهاب ابن عبد الحق السنباطي، والشهاب البلقيني، والشهاب ابن الطحان، والشهاب ابن النجار الحنبلي، والشهاب ابن الصائغ رئيس الأطباء، واذن له بعضهم بالافتاء والتدريس. وعمره دون العشرين، وبرع في علوم كثيرة من التفسير والحديث وعلم الكلام وأصول الفقه وفروعه والفرائض والحساب والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والتصوف. ومن محفوظاته في الفقه: المنهاج للنووي ومقرؤآته كثيرة لا يمكن تعدادها. وأما اجازات المشايخ له فكثيرة جداً، وقد استوعبها رحمه الله في معجم مشايخه، وقدم إلى مكة في لآخر سنة ثلاث وثلاثين فحج وجاور بها في السنة التي تليها، ثم عاد إلى مصر، ثم حج بعياله في آخر سنة سبع وثلاثين ثم حج سنة أربعين، وجاور من لك الوقت بمكة المشرفة وأقام بها يؤلف ويفتي، ويدرس إلى أن توفي. فكانت مدة اقامته بها ثلاث وثلاثون سنة، وذكر رحمه الله في معجم مشايخه قال: كنت بحمد الله ممن وقفت برهة من الزمان في أوائل العمر باشارة مشايخ أرباب الأحوال وأعيان الأعيان لسماع الحديث من المسندين، وقراءة ما تيسر من كتب هذا الفن على المفسرين، وطلب الإجازة بأنواعها المقررة في هذا العلم الواسعة ارجاؤه الشاسعة على المفسرين، وطلب الإجازة بأنواعها المقررة في هذا العلم الواسعة ارجاؤه الشاسعة انحاوه مع الناس، والملازمة في تحصيل العلوم الآلية والعلوم العقلية والقوانين الشرعية لا سيما علم الفقه وأصله تفريعاً وتأصيلاً إلى أن فتح الكريم من تلك الأبواب ما فتح ووهب ما وهب ومنح وتفضل بما لم يكن في الحساب ومراعاة نتيجة الاكتساب حتى اجازتي أكابر اساتذتي باقراء تلك العلوم وافادتها، وبالتصدي لتحرير المشكلة منها بالتقرير والكتابة واشارتها ثم بالفتاء والتدريس على مذهب الإمام المطلبي الشافعي ابن ادريس رضي عنه وارضاه وجعل جنات المعارف منقلبه ومثواه، ثم بالتصنيف والتأليف وكتبت من المتون والشروح ما يغنى رؤيته عن الاطناب في مدحه والاعلام بشرحه كل ذلك وسي دون العشرين بحلول نظر جماعة علي من العارفين اولي التصرف والشهود والتمكين وأرباب الامداد الوافر وكنوز الاسعاف والاسعاد الباهر، ثم جردت صارف عزمي وارهفت حد فهمي في خدمة السنة المطهرة باقراء علومها وافادة رسومها المستكتمة، لاسيما بعد الاتيان إلى حرم الله تعالى واستيطان بلده والتفرع لاسماع المقيمين والواردين حيازة لنشر العلم والفوز بعلاه ومدهه صادعاً فوق رؤس الاشهاد ليعلم الحاضر والباد أن من يبيع نفسه لمولاها يقطعها عن سائر الأغراض إلى حيازة العلوم وأولاها التى آل التغفل عنها إلى اندراسها والتشاغل بالحظوظ الفانية إلى تزلزل(1/143)
قواعدها وأساسها منادياً في كل مجمع وناد وسمر وعداد عباد الله هلموا إلى شرف الدنيا والآخرة فإنه لا طريف أقرب في الوصول إلى الله من العلوم الشرعية النزهة من أن يشوبها أدنى شوب من المطامع الدنيوية، ومن ثم قال أئمة الفقه والعرفان كالامام العظم أبي حنيفة النعمان: ان لم تكن العلماء أولياء فليس لله ولي في زمن من الزمان لكنهم لم يريدوا صور العلم بل حقائق تطهير القلوب ثم ملأها من معارف القوم دون شقاشق أهل الرسوم، وكما أن للصوفية سياحات لا بد منها كذلك لأئمة السنة حالات لا يستغنى أكثرهم عنها، وشتان ما بينهما شتان. لن نفع تلك قاصر على أهلها وهذه عامة النفع والإحسان ولذا دعا لهم محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم دعوة وحباهم عن غيرهم بأفضل حبوة فقال " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها " ومع هذا العلو الشامخ والشرف الراسخ تقهقر الزمان فركدت الهمم لاسيما عن هذا العلم العلي الشأن حتى كاد أن يكون نسياً منسياً وان بعد ما كان أمره ظاهراً فعاد خفياً، ولهذا كان الناس بعد أن فقدت الرحلة في طلب الاسناد إلى شاسع الأقطار يطلبون الإجازة بالاستدعاء بالكتابة من الأساتذة البعداء الديار، وأما الآن فقد زال ذلك التقاحم في طلبه ونسي هذا التزاحم في نيل رتبه، وتقاعدت عنه الهمم إلى الغاية، فاخلدت إلى أرض شهواتها عن طلب الدراية والرواية، وذهب المسندون الجلة ومن كانت تزدهي بوجودهم الملة شعر:عدها وأساسها منادياً في كل مجمع وناد وسمر وعداد عباد الله هلموا إلى شرف الدنيا والآخرة فإنه لا طريف أقرب في الوصول إلى الله من العلوم الشرعية النزهة من أن يشوبها أدنى شوب من المطامع الدنيوية، ومن ثم قال أئمة الفقه والعرفان كالامام العظم أبي حنيفة النعمان: ان لم تكن العلماء أولياء فليس لله ولي في زمن من الزمان لكنهم لم يريدوا صور العلم بل حقائق تطهير القلوب ثم ملأها من معارف القوم دون شقاشق أهل الرسوم، وكما أن للصوفية سياحات لا بد منها كذلك لأئمة السنة حالات لا يستغنى أكثرهم عنها، وشتان ما بينهما شتان. لن نفع تلك قاصر على أهلها وهذه عامة النفع والإحسان ولذا دعا لهم محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم دعوة وحباهم عن غيرهم بأفضل حبوة فقال " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها " ومع هذا العلو الشامخ والشرف الراسخ تقهقر الزمان فركدت الهمم لاسيما عن هذا العلم العلي الشأن حتى كاد أن يكون نسياً منسياً وان بعد ما كان أمره ظاهراً فعاد خفياً، ولهذا كان الناس بعد أن فقدت الرحلة في طلب الاسناد إلى شاسع الأقطار يطلبون الإجازة بالاستدعاء بالكتابة من الأساتذة البعداء الديار، وأما الآن فقد زال ذلك التقاحم في طلبه ونسي هذا التزاحم في نيل رتبه، وتقاعدت عنه الهمم إلى الغاية، فاخلدت إلى أرض شهواتها عن طلب الدراية والرواية، وذهب المسندون الجلة ومن كانت تزدهي بوجودهم الملة شعر:
كان لم يكن بين الجحون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر(1/144)
لكن بحمد الله تعالى قد بقى من آثارهم بقايا وفي زوايا الزمان ممن تحمل عنهم خبايا. وأنا أرجو أن أكون إن شاء الله من متبعيهم، بحق ووارثيهم بصدق لأني أخذته رواية واتقنته دراية عن الأئمة المسندين ممن يضيق المقام عن استيعابهم، ويحجب الاقتصار على مسانيد أشهر مشاهيرهم، شيخنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي، ثم شيخنا الزيني عبد الحق السنباطي، ثم شيخ مشايخنا بالاجازة الخاصة وشيخنا بالاجازة العامة لأنه أجاز لمن أدرك حياته وأني ولدت قبل وفاته بنحو ثلاث سنين فكنت ممن شملته اجازته واشتملته عنايته حافظ عصره باتفاق أهل مصره الجلال السيوطي انتهى. ومن مؤلفاته شرح المشكاة نحو الربع، وشرح المنهاج للامام النووي في مجلدين ضخمين، وشرحين على الارشاد للمقري كبير. وهو المسمى بالامداد والصغير وهو المسمى فتح الجواد، وشرح الهمزية البوصيرية، وشرح الاربعين النواوية، والصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والضلال والزندقة، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع، والزواجر عن اقتراف الكبائر، ونصيحة الملوك، وشرح مختصر الفقيه عبد الله بافضل الحاج المسمى المنهج القويم في مسائل التعليم، والأحكام في قواطع الإسلام، وشرح العباب المسمى بالايعاب، وتحذير الثقات عن أكل الكفتة والقات، وشرح قطعة صالحة من ألفية ابن مالك، وشرح مختصر أبي الحسن البكري في الفقه، وشرح مختصر الروض والأخير لم يتم، وحاشية غير تامة على شرح المنهاج، وحاشية على العباب، واختصر الإيضاح والإرشاد والروض والأخير لم يتم، ومناقب أبي حنيفة، ومؤلف في الأصلين والتصوف، ومنظومة في أصول الدين، وشرح عين العلم في التصوف لم يتم: والهيتمي نسبة إلى محلة أبي الهيتم من اقليم الغربية بمصر، والسعدي نسبة إلى سعد باقليم الشرقية من إقليم مصر أيضاً، ومسكنه بالشرقية لكن انتقل إلى محلة أبي الهيتم في الغربية.وأما شهرته بابن حجر فقيل ان أحد أجداده كان ملازماً للصمت لا يتكلم إلا عن ضرورة أو حاجة فشبهوه بحجر ملقى لا ينطق فقالوا حجر، ثم اشتهر بذلك. وقد اشتهر بهذا اللقب أيضاً شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، وكاد صاحب الترجمة يشبهه في فنه الذي اشتهر به وهو الحديث مع ما منحه الله به من الزيادة عليه من علم الفقه الذي لم يشتهر به الحافظ العسقلاني هذا الاشتهار كيف وهو سميه فاشبهه اسماً ووصفاً، وزادته نسبة إلى جوار الحرم الشريف شرفاً. وقد كنت نثرت فيه قديماً مشيراً إلى هذا الاسم الشريف فقلت: ابن حجر في البشر كالياقوت في الحجر. يشاركها في الاسم ويفارقها في الرسم، وللشيخ العلامة عبد العزيز ابن علي الزمزمي المكي فيه شعر:
منك المعارف فاضت عذبة ولكم ... عذباً زلالاً فاض من حجر
ولصاحبنا الفقيه أحمد بن الفقيه الصالح محمد با جابر:
قد قيل من أصم تفجرت ... للخلق بالنص الجلي أنهار
وتفجرت يا معشر العلماء من ... حجر العلوم فبحرها زخار
أكرم به قطباً محيطاً بالعلا ... ورحآؤه حقاً عليه تدار
وفيها: توفي السلطان الأعظم سليمان بن سليم سلطان الروم، وكان عادلاً فاضلاً، وللأديب ماميه الانقشاري في تاريخ وفاته شعر:
انتقل العادل من دنيته ... جاور الرحمن والمولى الرحيم
قالت الأقطاب في تاريخه ... " مات سليمان بن سلطان سليم "
وله فيه مرثية أجاد فيها كل الإجادة منها هذه الأبيات:
لقد جدد البيت العتيق حداده ... وقد وشحت طرز السواد المحامد
كأن بني العباس سنت سوادها ... عليه وبالأعلام قاست دلائل
وكان عماد الدين في كل حادث ... وسلطانه بالنصر للشرع حافل
وما كان علمي فقد سما العلا ... بأن الثرى للنيرين منازل
على عد حم حمى ملكه حمى ... وعن قوله كم قال راو وناقل
وجئته في الأرض أضحت دفينة ... ومن شأنها تحوي الكنوز الجنادل
بسبع أقاليم بكى الناس واحداً ... على السبع يطوي في الوغا وهو حائل
فصبر وغفو العين سار وسارح ... ودمعي على الخدين هام وهامل(1/145)
فكم حي قلب قد تقلب في الغضا ... عليه وكم عقل غدا وهو ذاهل
وكم انفق الأموال في الغزو قائلاً ... إلا في سبيل الله ما أنا فاعل
شياطين أهل الكفر ولت لأنها ... سليمان وافا وهو للشرك خاذل
غزاهم بعزم كالشهام وقد سما ... ومن حوله عد النجوم حجافل
اسود لها لهف الدروع مواطن ... وغاباتها سمر القنا والعوامل
وهي طويلة أولها:
لعمرك ما الأعمار إلا مراحل ... وفيها مرور الحادثات مناهل
ولحسنها ذكرت منها هذه الأبيات، وفيها اشارة إلى بعض مآثره رحمه الله. ولولا خشية التطويل لأتيت بها جميعها فإن قاعدتنا في هذا التاريخ البسط في ترجمة العلماء والصلحاء دون غيرهم من السلاطين ونحوهم. وحكي أنه لما مات السلطان سليم، وتولى ولده سليمان سمع قائلاً يقول:
قل لشياطين البغاة اخسأوا ... قد اوتي الملك سليمان
ولمامية الانقشاري أيضاً هذين البيتين:
لو يقاسي قيس ما قاسيته ... لشكى للناس ضر الضرتين
ذاك مجنون بليلى وحدها ... وانا المجنون بين الليلتين
قال بعض الفضلاء وقد وقف عليهما: عجب من رومي هذه الفصاحة. قلت: ومثله ان الخليفة الناصر لدين الله لما سمع هذين البيتين:
اذا ما رآني العالون وغردت ... حمائم دوح ايظتها النسائم
يقولون مجنون جفته سلاسل ... وممسوس حي فارقته التمائم
وهما لتاج الطرقي الاصفهاني تعجب من ذلك وقال: ما ظننت ان أحداً من العجم يصل كلامه إلى هذا الحد، وبعث إليه بخلعة، وكان الشاعر ماميه الأنقشاري المذكور حج في سنة خمس وستين وتسعمائة، وحصل له قبول عظيم وطارح ادبآء مكة باشعاره. قال الشيخ عبد الرؤف بن يحيى الواعظ تلميذ الشيخ ابن حجر الهيتمي في وصفه: انه ممن توحد في عصره بصناعة الشعر وبرع في الصناعتين في الغزل والنسيب، وكاد ان يكون ثاني الحاجري في الرقة والتشبيب. ومن شعره أيضاً في القهوة وهو تشبيه حسن:
طاف يسعى بقهوة في مقام ... شمس حسن سما بصبح المحيا
كأسها البدر والحباب نجوم ... وهي ليل تجلى بكف الثريا
ومنه
قد شربنا قهوة بنية ... ولها شربنا غداً بالنيه
لونها قد حكى أذايب مسك ... أو زباد وسط الزباد الجليه
ومنه
أتتنا قهوة من قشر بن ... تعين على العبادة للعباد
حكت في كف أهل اللطف صرفاً ... زباداً ذائباً وسط الزباد
ومنه أيضاً على لسانها
أنا المعشوقة السمرا ... اجلى في الفناجين
وعود الهند لي عطرا ... وذكري شاع في الصين
ومنه أيضاً
ما زلت أبكي جيرة الأجرع ... حتى استغاثت الغيث من ادمعي
وددت من توديع أهل اللوى ... يوم النوى لو أن قلبي معي
يا بين ما شئت امتحن أنني ... لولا فراق الجزع لم أجزع
قد مسني ذكر عبير الحمى ... حتى لقد مس معي مسمعي
وانقطع الصبر وضاع القوى ... لكنما مد معي مدمعي
يا حادي البين ترآى الحما ... فلعلع الأصوات في لعلعي
لم أدر هل صبح بدا بالسنا ... أم أسفرت ليلى عن البرقع
ومنه
سبا العقول بصاد جل فاطره ... وصاد قلب المعنى وهو فاطره
غزال ربرب بغزل الجفن غاز لنا ... وقد غزاني ببيض السود ناظره
فريد وصف تثنى قده هيفاً ... وماس تيهاً على الأغصان ناضره
إن صال بأعينه أسد فرائسه ... أو مال مايسه فالقلب طائره
نبي حسن بدت أنور طلعته ... تهدي الذي قد اضلته غدائره
ما مثله بشر في ثغره درر ... في طرفه حور هاروت ساحره
لم انس حين وفا الوقت فيه صفا ... والصب بعد جفا سر خاطره
والهم منفرج والقلب منبلج ... والروض مبتهج تزهو ازاهره(1/146)
وبات ينشدني والكأس في يده ... " باكر صبوحك أهنا العيش باكره "
ومنه
كل الوجود تجليات جماله ... لكن بدا متحجباً بجلاله
نور ولا شيء سواه وانهم ... ظنوا السوى لتشكيلات خياله
لا تشهدن النقص لو في ذرة ... فجميع ما في الكون فيض كماله
وإذاً رأى الإنسان نقصاً إنما ... مرآته تجلى عليه بحاله
فاطلب ولو أفنيت عمرك طالبا ... فسعاك أن تحظى بكنز وصاله
ومنه
زمن الورد روح جسم الزمان ... وحياة النفوس نبي الرمان
فدعاني واودعاني بحسان ... والقياني بين القنان القيان
كل حوراء تفتن الحور حسناً ... وجمالا تزهو على الولدان
بدر تم يدير بين النجوم ... في هلال الكؤوس شمس الدنان
في رياض أرضى الغمام ثراها ... قتراها قد زخرفت كالجنان
سما والربيع منثور در ... نظمته مباسم الاقحوان
وتغنت بلابل الدوح لما ... ان تجلت عرائس الاغصان
فتباهت وشقت الارض شقاً ... وجلا الغصن وردة كالدهان
ما احيلا الصبوح بين صباح ... في صباح أتى ببشر التهاني
في رياض تجننت فلهذا ... سلسلتها سلاسل الغدران
فاغتنم فرصة الزمان وبادر ... قبل ان تدور نوائب الحدثان
ولعمري ما العمر إلا زمان ... قد مضا بالمنا وغر الاماني
ومنه مورياً بالنغمات
ركب الحجان صعيد عراقها ... فاثار نار الالشوق من عشاقها
لما سرى ليلاً بسلمى قاصداً ... اهداه نار ضاء من اشراقها
شمس إذا رفعت سحاب ردائها ... ابدت لنا القمرين من أطواقها
عجباً لعيني كيف أغرقها البكا ... وجوانحي تشكو لظى حراقها
ما علم القمري ينوح بشجوه ... إلا جريح ان من اشواقها
ومنه هذا التخميس
حبيبي زار في روض نزيه
وجاد برؤية الوجه الوجيه
وحين سكرت بالأشجان فيه
سقاني خمرة من ريق فيه ... وحيا بالعذار وما يليه
وانعم لي بوصال بعد صد
وأقربني إليه بعد بعدي
وبت وحيدة من فوق زندي
وبات معانقي خداً بخد ... غزال في الأنام بلا شبيه
وأمسى الدهر طوعاً في يدينا
وعين السعد ناظرة إلينا
وباتت شمسنا تجلى لدينا
وبات البدر مطلعاً علينا ... سلوه لا ينم على أخيه
ومنه هذا التخميس على البيتين المشهورين:
إلا طاعات نفسك فاجتنبها
وساعت الاماني فارتقبها
وزبدة منحة ان تحتلبها
إذا ردت نياقك فاحتلبها ... فما تدري الفصيل لم يكن
تحذر من امورك واحتكمها
ومن دنياك فاقطع واتهمها
وسفن الصبر فاركب واستلمها
فان هبت رياحك فاغتنمها ... فان لكل خافقة سكون
ومنه هذا التخميس أيضاً:
يا من يروم من الإنسان رفقته
ويرتجي من اهيل والود صحبته
قد قال قبلك من عانى عشيرته
ما في زمانك من تصفو مودته ... ولا صديق إذا خان الزمان وفا
فلا تعاشر فتى يرميك في نكد
وان رءاك بخير مات من كمد
فما خلا جسد في الدهر من حسد
فعش وحيداً ولا تركن إلى أحد ... اني نصحتك فيما قلته وكفا
وفيها: في رجب ختم صحيح البخاري عند الأمير الصالح الفخان الحبشي بقراءة العلامة القاضي جمال الدين محمد المهايمي وعمل الفخان لختمه ضيافة غظيمة وأنشأ القاضي المهايمي في فضل البخاري خطبة، وذكر في آخرها الفخان قرأها ذلك اليوم على روس الاشهاد.
وفيها: سافر والدي من بروج إلى احد اباد، وقام بها إلى ان توفي، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، وخرج لاستقباله منها من كان بها من الوزراء.(1/147)
وفيها: صنع الاستاذ شيخ الإسلام جمال الدين محمد ابن الاستاذ شيخ الإسلام أبي الحسن البكري ضيافة عظيمة لتطهير اولاده الكرام، واتفق في ذلك الوقت اتمام دار عمرها الاستاذ أيضاً، فانشأ الأديب البارع إبراهيم ابن المبلط المصري في ذلك قصيدة بديعة في بابها فائقة بينم اترابها مشتملة على المعاني الغريبة وما وقع في ذلك من الأمور العجيبة مع رقة الانسجام والجناس التام
وافق السعد في حماك السرورا ... وامان الزمان ارخى الستور
فتمتع وبن وقم في قصور ... لم يصد واحد إليها قصورا
ان رآها الحسود يوماً بعين ... ينقلب طرفه إليه حسيرا
ان رب السماء اعطاك فيها ... فرحاً عاطفا عليه سرورا
ودحى عنك حادثات الليالي ... وبنى بينهها وبينك سورا
لا تخف ان سمعت طارق ليل ... فهو بالخير قد اتاك بشيرا
ما لهذا البنا في الحسن واللطف ... وان كان واسعاً وكبيراً
أسسوه على التقى فلهذا ... هو بالخير لم يزل معموراً
شكر الله سعي من قد بناه ... انه كان سعيه مشكورا
ستوفي لك الاجور بما ... وفيت فيه الاجورا
فبا تمامه اقم في هناءٍ ... وبختن البنين عش مسرورا
قطعت سرة لهم قبل هذا ... لكن الآن طهروا تطهيراً
وسيأتي زواجهم عن قريب ... فتأهب له واعط المهورا
صاحبي احضر وليمة ختن ... ودعا عنكما محالا وسرورا
وانظر مجمعاً لهم ضم خلقاً ... ليس يحصى أعدادهم تكثيراً
عالماً صالحاً أميراً كبيراً ... قاضيا ساهداً غنياً فقيرا
فيقول الفقيه عني استنيبوا ... في جهاتي وعطلوها شهورا
فجهاتي مشغولة عن جهاتي ... ولي العذران تركت الحضورا
والاصولي قائل بي اضطرار ... وتبيح الضرورة المحضورا
ويقول الخطيب للناس جهراً ... يا اولي الجد شمروا تشميرا
ويقول القاضي وللا كل يوفي ... " كان ذلك في الكتاب مسطورا "
قد دعاني ولي امري ... وعندي يستحق المخالف التعززيزا
وتقول الشهود جيئنا نودي ... ما علينا ونترك التاخيرا
وتقول القراء عنوان خير ... نحن في رزقنا نرى التيسيرا
ويقول المجيد علم لغات ... بل لجرعان تعرفون نظيرا
والعروضي لا يقطع إلا في ... لحوم ولم يقطع بحورا
واخو النحو قد علاه اختلاط ... فهو يبدي ضميره المستورا
ويجر المنصوب من غير سوغ ... ثم من بعد يرفع المجرورا
جملة الأمر انهم ابصروا ما ... حير العقل منه متحييرا
رق قلبي على رغيف سيوط ... حين ابصرت فليه مكسورا
وقباب الحلوى التي عرضوها ... عن جموع السلامة التكسيرا
والعزيزي من إياد طوال ... خاف فازداد لونه تصفيرا
ولكم في السماط رأس سميط ... وسليخ قد استوت تخميرا
ودجاج معلوفة وأوز ... كان منها الصدور تشفي الصدورا
جمع الطيبات طولاً وعرضاً ... ولعمري يستوجب التصديرا
شبع الناس كلهم منه أكلا ... وانتهابا ولم يزل مستورا
والذين اعتنوا بنقل قراهم ... ينقلون الصحيح والمشهورا
رضي الله فيه من نقباء ... قد أجادوا التصريف والتدبيرا
فإذا أبصروا بأيدي نابصيه ... لم يظهروا تأثيرا(1/148)
وإذا قال قائل لنقيب ... ما تراهم يقول كن ستيرا
إن هذا رزق حلال ... مباح وأرى منعه لهم محظورا
فجميع الأنام راضون عنهم ... شاكروا الفضل غيبة وحضورا
كم ألوف من فضة وكذا من ... ذهب قدرت له تقديرا
لم يكن درهم ولا دينار ... مستعداً لهم ولا مصرورا
بل من الله قد أتت وبحمد ... انفقت في الهنا وعادت أجورا
ولكم أوقدت مصابيح نور ... فيه حتى بدا الصباح منيرا
تشبه النجم كثرة وارتفاعاً ... وضياء على الأنام ونورا
في ليال بدا بها قمر الأفق ... منيراً فزادها تنويرا
وشموع كأنها الفات في ... طروس الظلام خطت سطورا
كلما مس نوره الريح أمسى ... كلسان بين الشفاه أديرا
والحراقات في المراكب ترمي ... شرراً من قراضة مستطيرا
صنعة الكيميا في الرفع والخفض ... ترينا التصعيد والتقطيرا
كمروق السهام دفعاً ورفعاً ... وبروق السماء لاحت ظهروا
أو كما فر طائر مل حبساً ... فعلاً شاهقاً وجاوز سورا
أو كحلي في رأسه شربوس ... قد تبدا مقرعاً منشورا
أو كما قرطت سلاسل در ... وبدا حب عقدها منثورا
أو كما تبذر الحبوب لزرع ... أو كما تنفخ الشفاة القشورا
أو كخشخاشة بكف صغير ... لم يجد اكلها فصب البذورا
أو كما تنثر النقود نقوطاً ... أو كما تخرج الرياض زهورا
ولكم فصلت ثياب حرير ... وغدا في اختلافها الأمر شورا
ولكم اطلقت صنوف بخور ... وشممنا نشراً لها وعبيرا
ولكم سكر نقي مذاب في ... الأواني مكوراً تكريرا
وترى النقل والفواكه والحلوى ... لجمع الورى أعدت فطورا
ولكم قد ادير قهوة بن ... وسقينا منها شراباً طهورا
من تعاطى منها شهاراً جهاراً ... لا يرى في الورى عليه نكيرا
وخيام منصوبة لا يرى من ... حل فيها شمساً ولا زمهريرا
وتولى فينا مليك جديد ... دام فينا مؤيداً منصورا
وله بالحلى زينت الدنيا ... واثرت ملابساً وستورا
إن أردت اللحاظ تلق حريراً ... أو أردت الجلوس تلق سريرا
واكتسى الروض من بدأيع صنعاً ... موشى محبرا تحبيرا
واكتست قضبه من الخلع الخظر ... التي فضلها غدا مجرورا
وأجادت رقصاً باكمام زهر ... عطر الكون نشرها تعطيرا
وفصاح الطيور غنت بلحن ... وأجاب المطوق الشحرورا
ولجمع الأتراك يوم عظيم ... كان يحوي الأمير والمأمورا
والأغاوات والصناجق إلا صا ... حب السعد ما استطاع الحضورا
ودعى السادة البنين وأعطاهم ... من المال مبلغاً مصرورا
وكساهم ملابس فاخرات صيرت خاطراً لهم مجبورا
بعد اجلالهم بحسن تلقيه ... واحلا لهم محلاً اثيرا
ثم قاضي القضاة جاء و ... ابتاع له كان جمعهم موفورا
والأمير المعظم دفتر دار مصر ... يعطي الوقوف الكثيرا
ويقول انظروا لعبد ولاكم ... خدمة فالأمير ليس أميرا
أدباً منه واحتشاماً ولطفاً ... زاده في مقامه تكبيرا
ومماليك صاحب السعد جاءوا ... جل من قد براهم تصويرا(1/149)
نحو سبعين وثمانين شخصاً ... كل شخص يحكي القضيب النضيرا
بالحياصات والعصائب صيغت ... من نضار صفا وأشرق نورا
والمزامير والطبول بأيدي ... من يجيد التطبيل والتزميرا
فغدا يوم جمعهم وهو يحكي ... بهم يوم موكب مشهورا
ثم كانت لهم نهاراً وليلاً ... زفف تجمع الموالي الصدورا
من أولى الخير والصلاح وأهل ... العلم زيدوا على الورى توقيرا
ومن السادة الموقعين وأصحاب ... الدواوين كان جماً غفيرا
وجميع الكتاب إلا قليلاً ... وجميع التجار إلا يسيرا
ثم باقي الأنام إلا كبيرا ... أو رضيع ثدي صغيرا
قلت لولا جمالهم بثياب ... لحكى البعث جمعهم والنشورا
وتصور الشموع والزهر فاقت ... كثرا واستوق بها تقديرا
وزهت باختلاف شكل ... ولون زادها في جمالها تزهيرا
ثم فيها الجنايب الغر تزهو ... بلبوس قد شهرت تشهيرا
من خيول مسومات جياد ... عاليات وغاليات مهورا
ولمن زف مع بنيه صغاراً ... وكساهم من اللباس حريرا
وتولى أجر الحساب لهم عن ... والديهم يبغي بذاك الأجورا
ثم في سابع الختان لهم ... كان مهم ضاهى المهم الكبيرا
في اجتماع وفي مصابيح نور ... عمرت حين اشعبت تعميرا
وسماط مركب طبقات ... كم حوى طيبا وحاز حنورا
فيه مالا يعبر الوصف عنه ... فلذا أطبقوا عليه حبورا
قاسه كل ذي ذراع طويل ... فرآه محرراً تحريرا
أمنوا عنده رقيباً نقيباً ... وحسود إلا كل وغيورا
والمشاهير بالدخول من القرا ... والواعظين كانوا حضورا
يقرءون القرآن طوراً وطورا ... ينشدون الموشح المشهورا
فظفرنا معهم باحياء ليل ... كان بالخير كله معمورا
كان هذا المهم حاوي مهمات ... عظام يحتاج شرحاً كبيرا
نحو شهر يقام في كل يوم ... فرح كامل عديم نظيرا
مع غلاء الأقوات سعراً ... وإذ لا يقضي حكم حاكم تسعيرا
يا لتلك الليالي حسناً وطيباً ... ليتها ما انقضت ودامت شهورا
تم فيها السرور من كل وجه ... ومحى صفو عيشها التكديرا
وبلغنا من الزمان الأماني ... وأمنا المخوف والمحذورا
لسرور الأستاذ من سخر الله ... له الكون كله تسخيرا
وأفاض الآله منه علينا ... نعماً جمة وفضلاً كبيرا
وكراماته غدت بينات ... ليس تخفى على الأنام ظهورا
من أبو بكر الإمام له جد ... وقد كان للنبي نصيرا
ورفيقاً وصاحباً وأنيساً ... من عدو في الغار يأتي مغيرا
حاز اسناده علواً ورفعاً ... درجات على الأنام وفورا
أخذ العلم عن أبيه عن الصديق ... عن سيد الورى مأثورا
لا تجف عين علمه ضد ... فهي عين قد فجرت تفجيرا
سيدي هذه هدية عبد ... من فريض قد غاص فيه البحورا
لو رأت درة النفيس الغواني ... نظمته وقلدته النحورا
فيه لب حلو المذاق وقشر ... فخذ اللب منه وارم القشورا
مزج الجد منه الهزل كيما ... بانتقاله يرى مجبورا
عذره في تاخريه رمد في ... عينيه لم يزل معذورا(1/150)
وشعاري التأخير دأباً ومعنى ... لم أزل في الورى به مغيورا
وعسى أن يحصل بي نظر منك ... فيلفي التقديم والتأخيرا
دمت في العالمين عمراً طويلاً ... كل عام تنشي مهما كبيرا
وبقيت الزمان مجتمع الشمل ... بأولادك الجميع قريرا
بالموالى أبي السرور وتاج الدين ... والعارفين عاشوا دهورا
ثم عبد الرحيم أيضاً وزين ... العابدين الذي استحق الظهورا
وأخيهم أبي المواهب ثم الأ ... خوات الإناث تلو الذكورا
ورأيت الجميع بالقرب حازوا ... عملاً صالحاً وعلماً غزيرا
قد حضرنا ولائماً ليس تحصى ... وشهدنا جمع الأنام الكثيرا
ما رأينا ولا سمعنا بشيء ... مثل هذا واسأل بذاك خبيرا
ولقد قيل أرخوه فقلنا ... فرح مبهج القلوب سرورا
وصلاة من ربنا وسلام ... لنبي إلى الأنام بشيرا
ما أقيمت في شرع طه بموسى ... سنة للخليل يهدي السرورا
سنة خمس وسبعين بعد التسعمائة
وفي ليلة الأحد بعد صلوة المغرب حادي عشر رجب الفرد الحرام سنة خمس وسبعين: توفي شيخ الإسلام مفتي الأنام علم الأئمة الأعلام محرر المذهب وطراز المذهب أستاذ المحققين سراج الظلمة ناصر السنة المحمدية بالحجج السنية والبراهين المضيئة أو الضياء عبد الرحمن بن عبد الكريم بن إبراهيم بن علي بن زياد الغيثي المقصري نسبة إلى المقاصرة بطون من بطون عك ابن عدنان الزبيدي بلداً ومولداً ومنشاء، الشافعي مذهباً، الأشعري معتقداص، الحكمي خرقة، اليافعي تصوفاً وفي ذلك يقول رحمه الله:
انا شافعي في الفروع يوافعي ... في التصوف أشعري المعتقد
وبذا أدين الله القاه به ... أرجو به الرضوان في الدنيا وغد(1/151)
وصلى عيه ولده مفتي المسلمين مفيد الطالبين الشيخ الإمام عبد السلام بعد صلاة الصبح بالجامع المظفري بزبيد، ثم حمل على رؤس الجم الغفير وانسكب عليه الدمع الغزير، ودفن إلى جنب والده بمقبرة باب القرتب من مدينة زبيد، وكان له مشهد عظيم لم تر الأعين مثله رحمه الله ورضي عنه آمين آمين، وخلفه بعده على الافتآء والتدريس ولده المذكور وقدمه في ذلك الجمهور، وأفتى ودرس إلى أن ناج بباب مولاه وعرس، كان الشيخ عبد الرحمن المذكور شافعي الزمان انتشر ذكر فضله في الآفاق قصدته الفتاوى من شاسع البلاد وضربت إليه اباط الابل من كل ناد للأخذ عنه والاقتباس منه، ولد رحمه الله في شهر رجب الحرام سنة تسعمائة رأس القرن، وحفظ القرآن عن ظهر الغيب على والده، ثم الإرشاد في الفقه على العلامة محمد وأخيه أحمد ابني موسى الصنجاعي، وشيخ الإسلام أحمد المزجد، وتلميذه شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن الطيب الطبنداوي، وبه تخرج وانتفع واذن له في التدريس والإفتاء فدرس وافتى في حياته وصحح له اجوبته، واخذ في التفسير والحديث والسير على الإمام الحافظ الضابط وجيه الدين ابن الديبع، وعلى الفقيه موسى بن عبد اللطيف المشرع، واخذ في الفرائض على شيخ العلامة فرد زمانه وشيخ شيوخ أوانه الصديق الغريب الحنفي، وأخذ في الأصول على الفقيه الزاهد العارف بالله المفنن جمال الدين يحيى قتيب، والعربية عن الفقيه الصالح الفاضل المقرء محمد مفضل اللحياني، وجد واجتهد إلى ان رأى النفع ووجد، وطالع الكتب مختصرها ومبسوطها حتى صار عيناً من أعيان الزمان يشار إليه بالبنان وتعقد عليه الخناصر، وتلمذ له الأكابر. وفي سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة حج إلى بيت الله الحرام وزار قبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، واجتمع بفضلاء الحرمين ودرس في الحرمين بمحضر من أعيان البلدتين الشريفتين كمفتي الحجاز شيخ الإسلام عبد العزيز الزمزمي وأمثاله، كان يقول شربت من زمزم لثلاث لأرجع إلى بلدي واجتمع بوالدي. واشتغل بالافتاء، وليرضى الله عني فوجدت خصلتين رجعت إلى بلدي واجتمعت بوالدي، وعمر بعد ذلك زمانا طويلاً واشتغل بالإفتاء من سنة ثمان وأربعين وتسعمائة بعد وفاة شيخه أبي العباس الطبنداوي، وكان يقول أرجو ان ألقى الثالثة، وما ذلك على الله بعزيز ولما مات شيخه المذكور تصدر للتدريس والإفتاء استقلالا وصنف ودرس الفقه بالجامع الكبير بزبيد بمدرسة الوهابية والأشرفية والواثقية من مدارس زبيد، وله تدريس الحديث بجامع الباشا مصطفى النشار بزبيد أيضاً، وكان من الفقر على جانب عظيم بحيث لا يملك إلا شيئاً يسيراً من الكتب، وكان غالب أوقاته كما كان يخبر على نفسه انه يصبح وليس عنده قوت يومه وهو مع ذلك لا يترك التدريس ويسعى بعد تمام الدرس في تحصيل قوت يومه واخبر رضي الله عنه ان امرأته وضعت ليلة ولم يكن عنده مما يعمل لذات النفاس ولولدها حتى عجز عن المصباح في تلك الليلة وباتوا كذلك، وكان تدريسه عن تحقيق ومباحثه في نهاية التدقيق، لا يقعد للتدريس حتى يطالع الكتب المبسوطة، كالوسيط والخادم والكوكب الوقاد وحاشية السمهودي والروضة. وقد يعقد أياماً يعتذر عن التدريس لعدم المطالعة، وطريقته انه يجمع الدرسة على درس واحد من أول النهار إلى مضي ربعه يذكر الدليل والعلة، وما تفهمه العبارة، وما يرد عليها، ومن وافق ومن خالف في المصنفات والفتاوي والنكت والحواشي، وتحضر في التدرس الكتب المبسوطة، تورد عليه الطلبة الابحاث والاشكالات فما رأى من صواب قرره وما لا فلا، ويطول المجلس بالمشاطرة بين تلامذته في الابحاث عن القواعد وعبارات الأصحاب، وربما كان يجلس من أوله إلى آخره على مسئلة واحدة وربما قام الشيخ من مجلسه وأشكال المسئلة ما ارتفع فيحله في مجلس آخر لأنه كان وقافا عند الاشكالات، وربما تمر ايام في تحقيق مسئلة، وهو في الحقيقة تدريس المذهب لا كتاب لأنه كان يقول رحمه الله: أنا ادرس المذهب لا كتاب، وكان تدريسه في الأسبوع السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء، وله درس في الحديث بمنزله بعد صلاة العصر جميه الأسبوع لم يترك غير عصر الجمعة، وختم عليه في ذلك المجلس كتب عديدة من التفاسير والحديث والسير وغير ذلك، وفي شهر رجب وشعبان ورمضان يقرا عليه صحيح البخاري بالجامع الجامع المظفري بزبيد بحضرة الجم الغفير(1/152)
من العلماء والطلبة وغيرهم بأيديهم النسخ العديدة نحو الأربعين نسخة وبين يديه هو فتح الباري، وقد اخبر رضي الله عنه انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالعين الشحمية حاضرً في ذلك المجلس، ويحصل له في ذلك المجلس الخشوع والخضوع والسكينة والرحمة مالم ير في مجلسه غيره، ويكون ختم هذا الدرس صبح اليوم التاسع والعشرين من رمضان، ويحضر الختم جمع عظيم من الخاص والعام وأمير البلد وقضاة الشرع وأجناس مختلفة من بوادي زبيد ويكون جمعاً حفيلاً مشهود الخير والبركة، وينشد فيه القصائد المبتكرة وتظهر بركة المجلس على من حضر، وكان يبتدي مجلس الدرس بالفاتحة وآية الكرسي ويس وتبارك والإخلاص والمعوذتين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء، وقصد للفتوى المشكلة من الحرمين الشريفين وأرض الهند والحبشة وحضرموت، وقد يقصد لها من البلد التي هي زبيد فلا يعجل بالكتب عليها، ويمهل فيها مدة طويلة، ويفتش الكتب لها ويجتهد ولا يمل، وإذا علم أن لأحد عليها كلاماً أو على نظيرها يطلبه، ولا يكتب عليها حتى يقف عليه ويبحث فيها مع أصحابه وغيرهم من أهل المذهب، ويأمرهم بالتفتيش والاجتهاد ويأخذ ما عند كل واحد وينازله على فهمه، ويبحث معه فيرد ما يرد ويقبل ما يقبل، ويدأب في ذهب ويدأب الطلبة، وإذا كان المسئلة مشكلة جداً أو مهمة جمع عليها كلام المتقدمين والمتأخرين وكتب عليها مؤلفاً، وكلما ذكرناه عنه من هذا الاجتهاد والتوقف والمهل والفحص والبحث والمناظرة والمنازلة والقبول والرد من الورع والاحتياط في الدين، وحصل بينه وبين جماعة من أهل عصره مخالفات ومشاححات في مسائل، ولشيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي مفتي مكة وغيره وكل منهم ألف وبرهن على ما يقول، وهو يؤلف ويرد عليهم في مؤلفاته وفتاواه ينقل عبارات الأصحاب برمتها وألفاظها، ويعيب على من يحذف منها أو يلخصها حتى بلغت مؤلفاته في ذلك نيفاً وثلاثين مؤلفاً. وفي سنة أربع وستين وتسعمائة نزل في عينيه ماء فكف بصره فاحتسب ورضي، وقال مرحباً بموهبة الله وجاءه قداح فقال له أنقشك ويصطلح بصرك، وقال بعض أهل الثروة: وأنا أنفق عليك وعلى عيالك مدة ذلك، فامتنع وقال شيء البسنيه الله به لا أتسبب في ابطاله، ومع ذلك لم يفقد شيئاً من أحواله، وكان على عادته في التدريس والافتاء والتصنيف يأمر ولده بالفتش ويشير إلى المظنات ويقرأ عليه فيقرر الحكم، وأستمر على تدريسه على عادته في الجامع وغيره من المدارس التي ذكرناها قبل، وإذا ورد عليه سؤال قريء عليه فيتأمله ثم يأمر بفتش المظان وأسماعه إياها فينزل السؤال على ذلك؛ ثم يأمر بالكتب وألف مؤلفات وهو على حالة العمى، وله فتاوى مؤسسة على التحقيق. قال تلميذه العلامة القاضي عمر بن عبد الوهاب الناشري رحمه الله تعالى قرأتها عليه جميعها بحضرة الجملة من مشايخ العلم وغيرها من الطلبة، وامرني ان اتتبع ماشذ منها ولم يدخل في الفتاوى، وقرأتها عليه وصححتها لديه قال: وله مؤلفات قرأت عليه بعضها انتهى.قلت: اما مصنفاته فتحرير المقال في حكم من خبر برؤية هلال شوال. وحاصله وجوب الافطار على من اخبر برؤية شوال إذا اعتقد صدق المخبر، وحصل بينه وبين العلامة اسماعيل العلوي في هذه المسئلة منازعة، والف العلوي كتاباً في عدم الجواز لكن وافق ابن زياد أهل اليمن ومكة ومصر وغيرهم. ومن مؤلفاته إثبات سنة رفع اليدين عند الإحرام والركوع والاعتدال والقيام من الركعتين، وكتاب فتح المبين في أحكام تبرع المدين، والمقالة الناصة على صحة ما في الفتح والذيل والخلاصة. وهذه الثلاثة التآليف بسبب ما وقع بينه وبين ابن حجر لم يوافق ابن زياد بل صنف كتاباً آخر في عدم بطلان تبرع المدين فعند ذلك رد عليه وجيه الدين بكل من الثلاثة الكتب، وله كتاب النخبة في الاخوة والصحبة، وكتاب فتح الكريم الواحد في انكار تأخير الصلاة على ائمة المساجد، والادلة الواضحة في الجهر بالبسملة وانها من الفاتحة. وهو كتاب حافل مشتمل على مناقب الأئمة الأربعة والتقليد واحكام رخص الشريعة وذلك مما لاغناء للفقيه عن تحصيله؛ وكتاب إقامة البرهان على كمية التراويح في رمضان ؛وكتاب الرد على ما اوهم ان ترك الرمي للعذر يسقط الدم، وكتاب تجديد الأئمة الإسلام من تغيير بناء المسجد الحرام، والجواب المحرر في أحكام المسقط والمحذر، وبغية المشتاق في(1/153)
تصديق مدعي الانفاق، وكشف الغمة عن حكم المقبوض عما في الذمة وكون الملك فيه موقوفاً عند الأئمة، ومزيل العنافي أحكام الغنا، والأجوبة المرضية عن الأسئلة الملكية، والجواب المتين عن السؤال الوارد من البلد الأمين، وحل المعقود في أحكام المفقود، وفصل الخطاب في حكم الادعاء باتصال الثواب، وإيضاح النصوص المفصحة ببطلان تزويج الولي الواقع على غير الحظ والمصلحة، وايراد النقول الذهابية عن ذوي التحقيق في أنت طالق على صحة البراءة عن صقيع المعارضة لا التعليق، وإسعاف المستفي عن قول الرجل لامرأته أنت أختي، وسمط اللآل في كتب الأعمال، وافصاح الدلالة في ان العدالة المانعة عن الشهادة بجامعة العدالة، وكشف النقاب عن أحكام المحراب، وله رسالة في القات والكفته والقهوة والبن وجميع المخدرات المباحة والمكروهة والحرام، وغير ذلك من المؤلفات العديدة والفتاوى المفيدة قال العلامة مفتي العصر أحمد بن عبد الناشري أبقاه الله تعالى قال العلامة محمد ابن أبي القاسم جغمان: مؤلفات ابن زياد أكثر تحقيقاً من كتب ابن حجر الهيتمي. وبالجملة فما كان الانووي الزمان وواحد هذا الشأن ملازماً لبيته ومسجده لا يخرج إلا لصلاته وتدريسه منقطعاً عن الناس محبوباً إليهم تزدحم الناس على تقبيل يده بعد صلاة الجمعة والتمسح به والتماس بركته وتقصده العلماء والكبراء والامراء والوزراء والفقراء والأغنياء إلى منزله للتبرك به وبدعائه، وكان مسموع الكلمة لا ترد شفاعته، وكان سريع الدمعة مجاب الدعوة حسن العقيدة في أهل الله الصوفية وصالحيهم اذا اجتمع بأحد منهم التمس منه الدعاء المواخاة ويعتقد بالمجاذيب إلى الله تعالى، ويذاكر أهل التصوف في كلام القوم فيستفيدون منه، ويعتقد بمحي الدين ابن عربي ويثني عليه وعلى كلامه ويفتح عليه فيه بذوق عظيم، وما جالسه أحد إلا واستفاد منه وتعلم وتأدب واتعظ، وكان شديد التأليف بين الطلبة يؤدبهم بلسانه وحاله ويزهدهم في الدنيا ويكره لهم الاشتغال بها ويزجرهم عن مجالسة الجهال وأهل الأهواء ولا يرضي لهم الترشح لوظائف الأحكام والأوقاف ويأمرهم بالتحلي بحيلة الكمال ويحثهم على الاشتغال بالعلم ومطالعة الكتب المبسوطة، ولا يرضى لهم بالاقتصار على المختصرات ويستعين بهم على المشكلات المدلهمة والفتاوى المعضلة المهمة، وكان ذلك بسبب الألفة لقلوبهم والافهم لا ينكرون استغناءه عنهم ورسوخ العلم في قلبه، وقد بشربه بعض الصالحين قبل مولده. أخبر والده عبد الكريم رحمه الله أنه دخل مسجداً بزبيد يقال له مسجد الزيالع قال قصت ذلك المسجد لصلاة الضحى به فلما فرغت منها إذ أنا بشخص معتكف في المسجد المذكور يتأملني من ورائي فقال لي: يا فقيه تقرا في العلم فقلت لا فقال: لو قرأت لكنت مصنفاً فلما بلغ ولده ما بلغ وهو كان يحكي بهذه الحكاية ويقول: كأنه رأى عبد الرحمن في صلبي قلت: ولا يبعد ذك على أهل الله تعالى فقد أذكرتني هذه الحكاية مانقلته عن خط الحافظ المسند أمام الحديث النبوي بزبيد أقضى القضاة مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس أحمد بن عبد اللطيف الشرجي وصورة ذلك. وحكى لي حفظه الله وأبقاه والإشارة بذلك إلى المجد المذكور. إنه دخل في بعض السنين مدينة قم فسمعت بأن كتباً تعرض للبيع فذهبت إلى بيت صاحبها فأدخلني وأحضر الكتب بين يدي ومددت يدي إلى كتاب منها وفتحته فإذا هو بخط أبي فقلت هذا خط والدي فقال: ما أسم والدك؟ فقلت يعقوب بن إبراهيم الفيروز أبادي. قال فقام الرجل إلي وقبل راسي وقال: صدقت كأن جاءني والدك في بعض السنين إلى غار من مغارات هذا الجبل وأنا من قطع إلى الله فيه للعبادة فأقام عندي أياماً ونسخ لي هذا الكتاب فيه وكان يخدمني ويتعبد معي فاتفق في بعض الأيام أن قلت له: يا شيخ يعقوب ما ترى ننزل إلى المدينة فندخل الحمام ونتنظف فقال: الأمر إليك في ذلك فنزلنا فلما دخلنا الحمام قلت له هات ظهرك لأحكه فامتنع علي وقال: أنا أولى بخدمتك فلازمته على ذلك وهو يتمنع فرأيت الحيلة في ذلك إن قلت له لتصل بركة يدي إلى ظهرك فهنالك أعطاني ظهره فسمعت حسك في ظهره فقلت له: يا يعقوب في ظهرك أولاد فقال ما يدريك قلت أحسست بهم قال كم هم قلت أربعة قال: سمهم فقلت على الفور محمد ويوسف وعلي وحسن قال ثم: فارقني وفارقته فمن أنت منهم؟ قال شيخنا مجد الدين أنا محمد قال:(1/154)
هل لك أخوة فقلت نعم كما ذكرت يوسف وعلي وحسن قال وكلهم في الحياة قلت لا توفي علي وحسن فقال: الحمد لله فتعجبت من كشفه، ومن غريب الأتفاق قال: وأسم هذا الرجل أيضاً مجد الدين وهو من عباد الله الصالحين أنتهى. قلت: وقريب من هذا أن ابن شيخ ابن الشيخ عبد الله العيدروس تمن. فقال: ما أريد إلى البركة والدعاء لي بذرية صالحة فقال له: يا عبد الله سيلد لك من الأولاد الذكور فلان وفلان وفلان وسماهم أبو بكر وشيخ وحسين، وكان إذ ذاك جدي لم يتزوج بعد، ثم خرج إلى حضرموت بعد وفاة عمه المشار إليه وتزوج بها أمرأة فولدت له أولاداً كما ذكر وسماهم بتلك الأسماء التي سماهم بها الشيخ، ثم ولد له بعد الثلاثة ولد سماه محمداً. أخبرني بهذه الحكاية الثقة سالم بن علي باموجه رحمه الله، وقد سمعها من سيدي الوالد قدس الله روحه بلفظ قريب من هذا، وذكر سيدي الشيخ الوالد رحمه الله في كتاب العقد النبوي والسر المصطفوي أن جده الأعلى وهو الشيخ الكبير والولي الشهير علوي ابن الشيخ القطب الفقيه محمد بن علي أراد أن يترك يترك التزوج إيثاراً للأنقطاع في العبادة فهتف به هاتف من ظهره نحن في ظهرك ذرية صالحة تزوج وأخرجنا وإلا خرجنا من ظهرك. فتزوج بعد ذلك وولد له أولاد تناسلوا بذرية طيبة مباركة صالحة حتى كان منهم من لا يحصى من المشايخ الكاملين والعلماء العاملين الذين شهرتهم تغني عن الأطناب في مدحتهم فكأنما عناه القائل بقوله:لك أخوة فقلت نعم كما ذكرت يوسف وعلي وحسن قال وكلهم في الحياة قلت لا توفي علي وحسن فقال: الحمد لله فتعجبت من كشفه، ومن غريب الأتفاق قال: وأسم هذا الرجل أيضاً مجد الدين وهو من عباد الله الصالحين أنتهى. قلت: وقريب من هذا أن ابن شيخ ابن الشيخ عبد الله العيدروس تمن. فقال: ما أريد إلى البركة والدعاء لي بذرية صالحة فقال له: يا عبد الله سيلد لك من الأولاد الذكور فلان وفلان وفلان وسماهم أبو بكر وشيخ وحسين، وكان إذ ذاك جدي لم يتزوج بعد، ثم خرج إلى حضرموت بعد وفاة عمه المشار إليه وتزوج بها أمرأة فولدت له أولاداً كما ذكر وسماهم بتلك الأسماء التي سماهم بها الشيخ، ثم ولد له بعد الثلاثة ولد سماه محمداً. أخبرني بهذه الحكاية الثقة سالم بن علي باموجه رحمه الله، وقد سمعها من سيدي الوالد قدس الله روحه بلفظ قريب من هذا، وذكر سيدي الشيخ الوالد رحمه الله في كتاب العقد النبوي والسر المصطفوي أن جده الأعلى وهو الشيخ الكبير والولي الشهير علوي ابن الشيخ القطب الفقيه محمد بن علي أراد أن يترك يترك التزوج إيثاراً للأنقطاع في العبادة فهتف به هاتف من ظهره نحن في ظهرك ذرية صالحة تزوج وأخرجنا وإلا خرجنا من ظهرك. فتزوج بعد ذلك وولد له أولاد تناسلوا بذرية طيبة مباركة صالحة حتى كان منهم من لا يحصى من المشايخ الكاملين والعلماء العاملين الذين شهرتهم تغني عن الأطناب في مدحتهم فكأنما عناه القائل بقوله:
فهو أبو الآباء ... خير منجب ومنسل
وهو أبو الأشبال ... حيا قبره كل ولي
أولاده الزهر بهم ... يدفع كل معضل
كم فيهم من قطب ... كم فيهم من بدل
كم كم محدث فقيه ... ومحدث ولي
وكأنما عنا الآخر ذريته بقوله:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
شدت إليهم الرحال من أطراف البلاد وغنى بذكرهم الحداة في كل سمر وناد، طبق ذكرهم طباق الأرض وعم نفعهم المشارق والمعارب بالطول والعرض. ولو لم يكن منهم إلا الاستاذ الكامل القطب الشيخ عبد الرحمن السقاف وحفيده الأستاذ المحقق القطب الغوث عبد الله العيدروس الذين عقم الزمان أن يجيء بأمثالهم ولا سمحت الدهور بأشكالهم أعاد الله علينا من بركاتهم في الدارين آمين آمين آمين قلت وكان الشيخ علوي هذا من آيات الله الكبرى وهو من أمثال الشيخ ومن مناقبه أنه كان يعرف الشقي من السعيد، ويحيي ويمييت بإذن الله تعالى، ويقول للشيء كن فيكون بإذن الله. إلى غير ذلك من الكرامات العظيمة والخوارق العجيبة التي لا يشاركه فيها غيره نفع الله به وأعاد علينا من بركاته آمين؛ ولبعضهم يمدح رسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن زياد صاحب الترجمة:(1/155)
إلا إني وقفت على الرسالة ... وما حوت الرسالة من مقاله
قالفيت المقال مقال حق ... وتحقيق لمن صدق أنتحاله
على أن المصنف بحر علم ... له العلماء تشهد بالجلاله
فما قال الإمام فتى زمانه ... فإن الحق فيه لا محاله
على تخريجهم قافهم كلامي ... قان العلم لا يخفى رجاله
ولو لا أن للمكي فضل ... سعت كتباً يداه به وقاله
كتاب في المناقب فيه عدل ... وأنصاف يدلعلى الكماله
لكنت لما رأيت بسوء ظني ... بجهلي ما عرفت من العدالة
ولا أرضى له ينشي خلافاً ... لمن في العلم قد وجب أمتثاله
ولكني سألت الله ربي ... يمن علي فضلاً بالجماله
وفيها: في اليوم الثاني عشر من شوال توفي الشيخ الإمام مفتي الأنام علامة الزمان مقدم الأعيان عبد السلام ابن شيخ الإسلام وجيه الدين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن زياد واحد علماء البلاد وفاضلها باتفاق الحاضر والباد أبو نصر عز الدين. ولد سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة، نشأ في حجرو الده وتغذى بدر علومه وفوائده فظهرت المعيته وبراعته، أقرت عين أبيه لجابته، تفقه بوالده كثيراً ورأس على الأكابر صغيراً درس وأفتى في حياة أبيه ؛ وصنف مصنفات لا يستغني عنها فقيه؛ وكتب معاصر أبيه على فتويه؛ وأنفرد بعد والده بالأفتاء مع زحمة البد بأئمة شتى، ودرس بالمدارس التي كان والده يدرس بها المذكورة في ترجمته، وكان من الولاية والعلم والفضل على جانب عظيم لا يجهل قال العلامة الشاب الظريف الفاضل بركات ابن الفقيه سعادات العطارد رحمهما الله تعلى: رأيت له مراسلة كتبها لبعض أصحابه يقول فيها: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبشرني بكذا وكذا؛ ولوح بأمور ذكرها في الرسالة المذكورة، ثم قال: ووالله " أنه لقول فصل وما هو بالهذل " أنتهى. قال رحمه الله ورضي عته: رأيت ابن الرفعة نجم الدين في النوم فرأيته أوقفني على مسئلة في الوسيط فعقيب ذلك نزل بي سؤال هو عين تلك المسئلة، ولم يكن عندي نقل عليها غير ما نبهني عليه ابن الرفعة فحمدت الله تعالى على ذلك انتهى. وكل هذا ببركة أبيه له وبركة أدبه مع العلماء فإنه لم يذكر منهم أحداً في مؤلفاته إلا وترضى عنه وأثنى على فضله وبالغ في تعظيمه والترحم عليه كثر منه في مؤلفاته وفتاويه؛ وله شرح على مولد السيد الحسين ابن الصديق الأهدل؛ وشرح لوداع ابن الجوزي مات عنهما مسودين، وله كتاب سماه تشنيف الاسماع بحكم الحركة في الذكر والسماع، وكتاب سماه القول النافع القويم لمن كان ذا قلب سليم، وكتاب سماه التحرير الواضح والاكمال في الحكم الماء المطلق والمستعمل، وكتاب سماه المطالع الشمسية في الأجوبة السنية. وهو مشتمل على فقه وحديث تقبل الله ذلك منه ورضي عنه.(1/156)
وفيها: في ليلة الثلاثاء وقت السحر توفي العالم الصالح الولي الشهير العارف بالله تعالى علي المتقي ابن حسام الدين ابن القاضي عبد الملك ابن قاضي خان القرشي بمكة المشرفة بعد مجاورته بها بمدة طويلة، ودفن في صبح تلك الليلة، ومدفنه بالمعلاه بسفح جبل محاذي تربة الفضيل بن عياض بين قبريهما الطريق المسلوك عند محل يقال له ناظر الجيش؛ وعمره سبعة وثمانون سنة وقيل تسعون سنة رحمه الله تعالى، وكان من العلماء العاملين وعباد الله الصالحين على جانب عظيم من الورع والتقوى والاجتهاد في العبادة ورفض السوي، وله مصنفات عديدة وذكروا عنه أخباراً حميدة رحمه الله تعالى آمين. ومن مناقبه العظيمة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وكانت ليلية جمعة وسبع وعشرين في شهر رمضان فسأله عن أفضل الناس في زمانه فقال له: أنت قال: ثم من فقال: محمد بن طاهر بالهند، ورأى تلميذه الشيخ عبد الوهاب أيضاً في تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله مثل ذلك فقال له: شيخك، ثم محمد ابن طاهر بالهند فجاء إلى الشيخ علي المتقي ليخبره بالرؤيا فقال له قبل أن يتكلم: قد رأيت مثل الذي رأيت، وكان يبالغ في الرياضة حتى نقل عنه أنه كان يقول في آخره عمره: وددت أني لم أفعل ذلك لما وجده من الضعف في جسده عند الكبر قال الفاكهي: وكان لا يتناول من الطعام إلا شيئاً يسيراً جداً على غاية من التقلل فيه بحيث يستبعد من البشر الاقتصار على ذلك القدر، وما ذاك إلا لملكة حصلت له فيه وطول رياضة وصل بها إليه حتى كان إذا زيد في غذائه المعتاد ولو قدر فولة لم يقدر على هضمه قال: وكذا كان قليل الكلام جداً قال غيره: وكان قليل المنام مؤثراً للعزلة عن الأنام. قلت: وقد قلت الكلام جداً قال غيره: وكان قليل المنام مؤثراً للعزلة عن الأنام. قلت: وقد علمت أن أصول التصوف في الابتداء تدور على أربعة أشياء قلة الطعام، وقلة الكلام، وقلة المنام، واعتزال الأنام. قال بعضهم: جعل الخير في بيت ومفتاحه الجوع، وجعل الشر كله في بيت ومفتاحه الشبع، وقال يحيى بن معاذ لو كان الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره، وقل سهل: ما صار الابدال إبدالاً إلا بأربع خصال: اخماص البطون، والسهر، والصمت، والاعتزال عن الناس. فقد قيل في صفة الابدال: إن أكلهم فاقه، ونومهم غلبة، وكلامهم ضرورة. قلت: هذا وإن كان تقليل الغذاء مستحسناً عند القوم بالجملة ولكنه ليس بمقصود أصلي ولعله يتولد من الإفراط آفات مخلة بالمقصود الأصلي، وإنما المقصود من التقليل كسر النفس وتقوية القلب وتبييضه فإن الجوع يذيب شحم القلب ويقلل دمه فيبيض ويرق ويصفو فيستعد بصفاته لقبول نور الذكر وأنوار المعاملات الشرعية والواردات الغيبية، ثم تنعكس الأنوار من مرآة القلب إلى أرض النفس " فأشرقت الأرض بنور ربها " وتلاشت ظلمات صفات النفس وانشق صدف ظلمة الشهوة عن درة المحبة فإن الشهوة مطية المحبة، وهي المطلوب من الإنسان، وبها فاق على الملائكة المقربين وسجدوا له فافهم جداً. فالامساك المحمود عن الطعام ما يكون محمياً عن طرفي الافراط والتفريط كما قال تعالى " كلوا واشربوا ولا تسرفوا " فالمحمي من الافراط نصف رطل إلى رطل كل يوم، أو قريب من هذا فيزيد وينقص منه كل طائفة على قدر قوتهم وصحة مزاجهم، وكانت ولادته ببرهان فور سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وقيل خمس وثمانين وثمانمائة، ومؤلفاته كثيرة نحو مؤلف ما بين صغير وكبير، ومحاسنه جمة ومناقبه ضخمة، وقد أفرادها، وقد افردها العلامة عبد القادر بن أحمد الفاكهي المكي في تأليف لطيف. سماه القول النقي في مناقب المتقي ذكر فيه من سيرته الحميدة ورياضاته العظيمة ومجاهداته الشاقة ما يبهر العقول. ولعمري ما أحسن قوله فيه حيث يقول: طابق اسم شيخنا علي ولقبه المتقي موضع علماه ومسماه وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور: ما اجتمع به أحد من العارفين أو العلماء أو اجتمع هو عليهم إلا واثنوا عليه ثناء بليغاً كشيخنا تاج العارفين أبي الحسن البكري، وشيخنا الفقيه العارف الزاهد الوجيه العمودي، وشيخنا أمام الحرمين الشهاب ابن حجر الشافعي، وصاحبنا فقيه مصر شمس الدين الرملي الأنصاري، وشيخنا فصيح علماء عصره شمس البكري، ولكل من هؤلاء الجلة عندي ما دل على كمال مدحة شيخنا(1/157)
المتقي بحسن استقامة والاستقامة أجل كرمه، وقول كل من هؤلاء معتمدي في شهادته:تقي بحسن استقامة والاستقامة أجل كرمه، وقول كل من هؤلاء معتمدي في شهادته:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
قال: ومن ثم اشتهر باقليم مكة المشرفة أشهر من قفا، وصار بقصده وفود بيت الله كما يقصد المشعر الحرام والصفا حتى بلغ صيته لسلطان الإسلام المرحوم المقدس سليمان بعد أن كان يفرغ على يديه بل قدميه ماء الطهارة محمود أعظم سلاطين الهند اعتقاداً فما له من شأن قال: وشهرته في الهند وجهاتها أضعاف شهرته بمكة كما لا يحتاج في ذلك إلى اقامة برهان قال: ومن مناقبه أن بعض أصحابه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في حياة الشيخ على وكانت الرؤيا بمكة المشرفة قائلاً: يا رسول الله بماذا تأمرني حتى أفعله قال: تابع الشيخ علي المتقي فعل أفعله انتهى. قلت: وفي هذا دليل على أن الشيخ علي المتقي نفعنا الله ببركاته كان له النصيب الأوفر من متابعته صلى الله عليه وسلم ولذا خصه صلى الله عليه وسلم بالذكر دون غيره من أهل زمانه وأمر الرائي بملاحظة افعاله ومتابعته فيها إلى غير ذلك من الاشارات كتسميته شيخاً، وكان الشيخ أبو اسحاق الشيرازي نفعنا الله ببركاته يفتخر بمنام نبوي فيه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم له شيخاً. قلت: ورأيت في بعض التعاليق رسالة من املاء الشيخ نفعنا الله ببركاته تشتمل على نبذة من أحواله التي لا تلقى إلا عنه كالمشيرة إلى كمال مبدأه ومآله، فرأيت إن أذكر منها هنا ما دعت إليه الحاجة قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد فيقول الفقير إلى الله تعالى على أبناء ابن حسام الدين الشهير بالمتقي أنه خطر في خاطري ان ابين للأصحاب من أول أمري إلى آخره فاعلموا رحمكم الله أن الفقير لما وصل عمري إلى ثمان سنين جاء في خاطر والدي رحمه الله أن يجعلني مريداً لحضرة الشيخ باجن قدس الله سره فجعلني مريداً. وكان طريقه طريق السماع، وأهل الذوق والصفاء فبايعني على طريق المشايخ الصوفية، وأخذت عنه وأنا ابن ثمان سنين ولقنني الذكر الشيخ عبد الحكيم ابن الشيخ باجن قدس سره، وكنت في بداية امري اكتسب بصنعة الكتابة لقوتي وقوت عيالي، وسافرت البلدان فلما وصلت إلى الملتان صحبت الشيخ حسام الدين، وكان طريقه طريق المتقين فصحبته ما شاء الله، ثم لما وصلت مكة المشرفة، وصحبت الشيخ أبا الحسن البكري الصديقي قدس الله سره، وكان له طريق التعلم والتعليم، وكان شيخنا عارفاً كاملاً في الفقه والتصوف فصحبته ما شاء الله، ولقنني الذكر وحصل لي من هذين الشيخين الجليلين عليهما الرحمة والغفران من الفوائد العلمية والذوقية التي تتعلق بعلوم الصوفية، فصنفت بعد ذلك كتباً ورسائل، وأول رسالة صنفتها في الطريق إلى الله سميتها تبيين الطرق إلى الله تعالى، وآخر رسالة صنفتها سميتها غاية الكمال في بيان أفضل الأعمال. فمن كان من الطلبة حصل منهما رسالة ينبغي له ان يحصل الأخرى ليلازم بينهما في القصد انتهى. قلت: وبالجملة فما كان هذا الرجل إلا من حسنات الدهر وخاتمه أهل الورع ومفاخر الهند، وشهرته تغني عن ترجمته وتعظيمه في القلوب يغني عن مدحه.
وفيها: غرق مركب بالهند في خور كنباته، كان فيه عشرة منن السادة آل باعلوي فكانوا من جملة من غرق، وحصلت لهم الشهادة لهم الشهادة بسبب ذلك رحمهم الله.
سنة ست وسبعين بعد التسعمائة(1/158)
وفي يوم الاثنين آخر النهار ثامن شهر صفر سنة ست وسبعين: توفي الولي الشهير شيخ بن الشيخ عبد الله ابن الشيخ علي بن أبي بكر باعلوي بتريم، ودفن يوم الثلاثاء، وحكي أنه كان ببر سعد الدين في مجلس فكان يأتي إلى ذلك المجلس رجل في زي سائل أو مجنون ويشتمه من بين الجماعة من غير موجب لذلك ولا سبق معرفة بينه وبينه، وكأنه كان والله أعلم يريد اختباره وينظر صبره على المكروه واحتماله للأذى، وتكرر منه ذلك وربما أراد الحاضرون أن يقعوا فيه فيمنعهم الشريف من ذلك، فلما كان في بعض الأيام قال له: تعالى إلى الموضع الفلاني واصحب معك دواة وقلماً وموسى ففعل ما أمره ووجده هناك وحده فقال له: هات الموسى نريد نذبحك بها فأعطاه اياها مستسلماً، ثم طلب منه الدواة والقلم وعلمه الوفق الثلاثي وأراه وضعه، وعلمه اسم الله الأعظم، ثم ذهب ذلك الرجل ولم ير بعد ذلك فصار الشريف إلى ما صار إليه بعض من التصريف بعد ذلك، وأخبرني بعض الثقات قال: بينما أنا أسير معه بتريم إذ أخذ من ورق بعض الأشجار وأكل منها وأعطاني فإذا هو ورق القات وهو لا يوجد بحضرموت أصلاً.
وفيها: توفي العلامة الشهير الشيخ عبد العزيز الزمزمي المكي وقد طبق بعض الفضلاء تاريخ ذلك العام بعدد حروف " بجنان الخلد قد أصبح " ثم نظم ذلك التاريخ في بيتين فقال:
ان من أجرى الدموع على ... عز دين الله قد أفلح
قد أتى تاريخه ضبطاً ... " بجنان الخلد قد أصبح "
وكان مولده سنة تسعمائة، وكان من أعيان علماء مكة وفضلائها وأكابرها ورؤسائها، وله قصيدتين عظيمتين في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أجاد فيهما كل الإجادة. احدهما عارض فيها البردة وسماها الفتح التام في مدح خير الأنام. والأخرى عارض فيها أم القري وسماها الفتح المبين في مدح سيد المرسلين، وحيث كانت أم القرى مرفوعة والقيراطية مكسورة جعل قصيدته مفتوحة، وما أحسن قوله فيها مشيراً إلى ذلك مع التورية بمزيد التواضع والاعتراف بالقصور عن تلك المسالك:
فاز بالرفع مقلق لك وشا ... كيف ترقى وافحم الشعراء
وبخفض الجنان جوزى منشي ... ذكر الملتقى جزآء وفاء
جئت من بعد ذا وذاك أخيراً ... فلهذا نظمي على الفتح جآء
وبالجملة فانه كان أوحد الفضلاء، وبقية العلماء حسن الشعر والانشاء، وفيه يقول الشيخ الكبير والولي الشهير العارف بالله تعالى جمال الدين محمد ابن أبي الحسن البكري الصديقي من أبيات:
أجل جيران بيت الله قاطبة ... علماً إذا وصفوا في مكة العلما
وله أيضاً
أنت الذي بصفات الفضل أجمعها ... في بلدة الله أولى سائر العلما
فليهن مكة بل وليهن ساكنها ... وليهن ابطحها والبيت والحرما
ومن شعره الحسن أبيات الفرج التي استغاث فيها بصاحب الخلق الحسن سيد المرسلين ورسول رب العالمين وهي هذه:
يا رسول الله عجل بالفرج ... قد توالى الكرب واشتد الحرج
يا رسول الله في جاهك لي ... سعة إن ضاق بي كل نهج
قسماً بالله ما لاذ امرء ... بك في خطب رجا إلا انبلج
أنت شمس الكون والهادي الذي ... ملئت ملته الدنيا بلج
أنت للرسل طراز معلم ... بسنى النور الآلهي انتسج
كل وصف في معاليك انطوى ... كل لفظ في معانيك اندرج
بضيا السودد والفخر انتهى ... عند بيت فاخر منه خرج
طيب الاعراق ما فاح له ... عرق إلا هفا طيب الأرج
حسن الخلق جميل مشرق ... من رأى حسن محياه ابتهج
ابلج أن لاح في جنح الدجى ... خلت من لئلآئه الصبح انبلج
وسعت أخلاقه الخلق فلم ... يك فحاشا غليظ القلب فج
كرماً يعفو عن الجاني الذي ... سد عنه ذنبه كل الفرج
ورماه الغي والجهل على ... ساحل البحر وفي البحر ولج
قدمته الرسل في موقفها ... ليلة الاسرى فصلى وعرج
وارتقى السبع السموات إلى ... قاب قوسين وفي الأنوار زج(1/159)
وله شفاعة الفصل لذا ... مقامه المحمود في أعلى درج
وجهه حجتنا البيضاء في ... يوم تأتي الناس فيه بالحجج
يا وجيه الوجه طالت غربتي ... كل يوم مر منها كحجج
أن يطل هذا المدى يقصر في ... أمد العمر واقفو من درج
كم جرعنا كأس هم مترعاً ... خمر خوف بأذى البرد امتزج
خطوة في البر والبحر معاً ... وسرى بين ثلوج ولجج
في وحول وجبال شمخ ... شاهقات ما إليها منعرج
قطن الثلج بها فهو الذي ... ندف القطن عليها وحلج
سفرة قد بعدت شقتها ... فتت منا قلوباً ومهج
أين أرض الروم من أم القرى ... جادها صوب من الوسمي ثج
غرباً في دار قوم عندهم ... عربي الدار من بعض الهمج
بينهم كل فصيح ناطق ... بلسان عربي ذي عوج
عظم الكرب ولكن نرتجي ... برسول الله يأتينا الفرج
قد توسلنا إلى الله به ... ولجا كل لمولاه ولج
شرعة آدم قدماً سنها لبنيه فانتهجنا ما انتهج
يا أعز العرب يا من بابه قط من سائل رفده ما ارتتج
نسأل الله يجلى ما بنا ... حل من كرب شديد وحرج
يا إلهي بالنبي المصطفى ... خير من حج ومن تج وعج
اطو بعد السير عنا سيدي ... واجعل العقبى سروراً وفرج
وآنل كل امرء ما قد نوى ... واطف حراً بين جنبي اعتلج
واجبر المكسور بالعود إلى ... بينك المحجوج كي يحظى بحج
رب قربنا إلى أوطاننا ... فلنار البعد في الاحشا وهج
رب واجعلنا بجاه المصطفى ... في حمى بيتك لا نخشى هرج
نحن جيرانك والجار له ... جانب يرجى على ألف عوج
أنت أوصيت على الجار فلا ... تنس جاراً مسه الضر فهج
لا تعذبنا ببعد عن فنا ... حرم يؤتى له من كل فج
إن ركبنا الذنب بجهل ما سوى ... عفوك اللهم في النفس اختلج
فاعف عنا ما مضى واغفر لنا ... توبة شد التقى منها السرج
واختم الأعمار بالخير فقد ... ذهبت في اللهو منهن حجج
وصلاة وسلام منهما ... ارج المسك على الهادي نفج
وعلى أصحابه والآل ما ... أوب الركب إليه أو دلج
ومنه هذا التخميس على أبيات العارف الشيخ علي وفا:
يا رب باللطف الخفي لنا تدارك
وارحم ضعافاً جاور بيتك ودارك
نادوك حين الكرب لازمهم ودارك
ذو الجاه يحمي جاره فاحمي جوارك ... لا تتركن في قبضة الأسرى جارك
جار بسوح فناك دام حلوله
لم يخش ضيماً في حماك يهوله
لم لا وأنت من الهوان كفيله
حاشا جنابك أن يضام نزيله ... حاشا مهابك أن يهاب من استجارك
بالحرب آذننا زمان قد عدا
ولنا فوارسه اعدوا رصدا
اعداؤنا صالوا وشرهم بدا
انصرفوا فراغوثاه قد عدت العدا ... لا قابلت فرسان نصرهم انتصارك
ارجاء ساحتك التي تسع الملا
تركت ضيافة من إليها أقبلا
من ضيق عيش سعره فيها غلا
يا آمراً بكرامة الأضياف لا ... تهمل ضيافة مضيفك المبارك
اني عجزت عن احتيال منقذي
من خوف أمراض بها قلبي غذي
فطرقت بابك طرقة المتعوذي
فامنن بأمن العاجز الوجل الذي ... قدام بابك سائلاً يرجو اقتدارك
برد بعفوك حر لاعج حرقتي
ابدل بتوفير الأنابة وجهتي
أني صرفت لقصد بابك وجهتي
باب إذا ما أمه ذو لوعة ... هدى لواعجه وجلله وقارك
أنت الذي في الجود ليس كمثله
أي افتقارك خشى من كله
وغناك يا ذا الفضل واكف ويله
من أمه نادته ألسن فضله ... أهلاً وسهلاً قد كفيناك افتقارك(1/160)
وكانت له جاريتان أحداهما اسمها غزال، والأخرى دام السرور فاتفق أنه بأعلمها ثم ندم على ذلك فقال:
بجاريتي كنت قرير عين ... وافق مسرتي بهما منير
فنفر صرف أيامي غزالي ... فلا دامت ولا دام السرور
وفيها: كانت ولادة أخي محمد فضل الله باحمد اباد، وتاريخ ذلك العام بعدد حروف " فضل الله " وهذا من غريب الاتفاق وهذا التاريخ للوالد رحمه الله ونظمه الأديب الفاضل عبد الطيف المنشي في أبيات فقال:
بدا كوكب من أفق عز وسودد ... به يسر الله الأماني كما نشا
وزهت به الدنيا وعاد لأهلها ... نشاطاً كمن عاطى المدامة وانتشا
ولا غرو منه أنه خير بضعة ... لخير عباد الله أن قام أو مشى
ومن عجب أن جاء عام ظهوره ... لقد وافق الاسم الشريف بلا غشا
وهذا هو الحظ العظيم بلا مرا ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
وكانت وفاته سابع جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وتسعمائة في حياة الوالد وهو ابن سنتين وأربعة أشهر، ودفنه الوالد داخل البيت، ثم أن سيدي الوالد دفن إلى جنبه، وبنيت القبة عليهما بعد ذلك، وسمعت الشيخ العلامة حميد بن عبد الله السندي رحمه الله يقول قلت للشيخ: لم أخترتم دفنه في البيت ؟ فقال: لنا في هذا قصد فلما توفي الشيخ العلامة عبد المعطي باكثير أنه قال: وجدت فيه حال الغسل حركة فأخبرت والده فقال: امض على حالك ولا عليك مما رأيت.
وفيها: كانت ولادة الوزير العادل ميرزا شمس الدين فقلت مادحاً لجنابه الشريف ومضمناً هذا التاريخ اللطيف وهو:
أبو الفتح شمس الدين كهف ومقصد ... به حوزة الإسلام حازت لمنعه
به نصر الشرع الشريف وأهله ... وتم نظام الملك من حسن نية
فأيامه في الدهر غرة وجهه ... وطلعته أخفت لشمس الظهيرة
وتدبيره للملك دل بأنه ... عليه معان من اله البرية
له سيرة بالعدل والخير والتقى ... ومعروفه يسدى لأهل المرؤة
له المولد الأسنى يظهر فضله ... فمن مثله قد نال تلك الفضيلة
وذلك فضل الله يؤتيه من يشا ... خصوصية منه له بمزية
بها خصة الله المهيمن ربه ... به جادت الدنيا على حين فترة
فبشرى من الله العزيز بنصره ... له الحمد مني ثم شكري ومدحتي
وكان قد ولي أحمد أباد مدة من الزمان، ثم فصل عنها وحصل بعده ما حصل من الظلم والطغيان فقلت في ذلك:
رأيت البلاد وقد علاها كسوف ... فقلت عهدي بك وأنت ذات شمسي
قالت غاب نوري مذ فقدت عدله ... فإن تعد إلي شمسي أكون كأمسي
قلت: وعلى ذكر موافقة التاريخ الاسم كان ولد لي ولد في سنة خمس بعد ألف سميته عبد اللطيف ولقبته تاج العارفين وجعل تاريخ ذلك العام صاحبنا الشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن علي البسكري " بدا تاج العارفينا " ثم نظمه في أبيات فقال رحمه الله:
بدا تاج لجمع العارفينا ... ولي الله فاعلمه يقينا
بدا عبد اللطيف بكل لطف ... يعم به الأقارب والبنينا
بدا فأضاء الوجود له بحق ... وأشرق نوره في العالمينا
وعم الكل مظهره سرورا ... وخص الأهل ثم الوالدينا
هو الشيخ ابن الشيخ وابن الشيخ ... إلى رأس الرؤوس على روينا
فيا لله ما أعلاه شأناً ... وأنور وجهه الزاهي المبينا
واسأل من اله العرش فضلا ... بأن ينشيه نشو الصالحينا
ويحميه من الأعداء دوماً ... ويحفظه ويجعله مكينا
بحق محمد والآل طراً ... وكل الأولياء والمرسلينا
وتاريخ له بدءاً وختماً ... أتى يا صاح في نظمي مبينا
فعاينه بفضل منك واسأل ... من المولى الدعاء له معينا(1/161)
تراه جاء في ذا اللفظ طبقاً ... وها هو القطب " تاج العارفينا "
وتوفي في شهر ذي القعدة سنة ست بعد ألف، وعمره نحو سنة وشهرين فإنه ولد في رمضان من السنة التي قبلها، ومات في هذا التاريخ فليعلم، وقبره داخل قبة سيدي الوالد.
سنة سبع وسبعين بعد التسعمائة
وفي آخر شعبان سنة سبع وسبعين: توفي السلطان الأعظم والملك الأكرم السلطان بدر الدين ابن السلطان عبد الله ابن السلطان جعفر الكثيري سلطان حضرموت وكان مولده سنة اثنتين وتسعمائة وولي السلطنة وهو شاب، وكان حسن الأخلاق جواداً كثير الانفاق وافر العقل ظاهر الفضل عريق الرياسة حسن السياسة طيب السيرة جميل الصورة حتى كان كما قال بعض الفضلاء: كان كاسمه بدراً منيراً أينما طلع سطع وغيثاً غزيزاً كيف ما وقع نفع، وكان في زمنه بدر الصدور وصدر البدور؛ وكان لطيف المعاشرة ظريف المحاضرة شجاعاً مقداماً وهزبراً ضرغاماً فكم اباد أحزاب الضلال وممزقها، وكم أزال فرق الفساد وفرقها، وكان محظوظاً جداً حتى كان لا يقصد باباً مغلقاً إلا انفتح ولا يقدم على أمر مبهم إلا اتضح ولا يتوجه إلى مطلب إلا نجح، وهو الذي دان البلاد وخضعت له العباد وأول من أظهر بحضرموت هيبة الملك بسعده، وأسس قواعد السلطنة ومهدها لمن بعده، وطالت دولته حتى لم يعلم أن أحداً من السلاطين مكث في الملك هذه المدة. وكان يقال إن ثلاثة من السلاطين كانوا في عصر واحد، وكانوا متقاربين في السن والولاية، وكانوا رزقوا السعد والاقبال وطالت أيام ملكهم: أحدهم صاحب الترجمة هذا، والثاني الشريف أبو نمى بن بركات، والثالث السلطان سليمان صاحب الروم. وحكي إن جماعة نالوا من السلطان بدر بحضور بعض الصلحاء الكبار من السادة آل باعلوي فنهاهم عن ذلك وقال: هو من خير الأورام، وما يروي من ذلك عنهم ولولاه ما سلمت حضرموت منهم ولا استحلوا الحرام، وظلموا الأنام، وكان ذلك الصالح يدعو بطول بقاء السلطان المذكور، وكانوا يرون أنه حامياً له بحاله المشهور فما حصل عليه ما حصل من سابق المقدور إلا بعد الموت ذلك الرجل المذكور، وقد مدحه بعض العلماء الأعلام بهذه القصيدة البديعة وهي:
اشبب لكن بالمفاخر والمجد ... ولي صبوة لكن إلى طالع السعد
ولي طرب لكن إلى حضرة العلا ... ولي ظمأ لكن إلى الكوثر العد
إلى حضرة العليا إلى منتهى المنى ... إلى المقعد الأسنى إلى جنة الخلد
إلى الطاهر الأزكى إلى عالم الهدى ... إلى العروة الوثقى إلى الجوهر الفرد
إلى الأمجد المولى إلى ملك الورى ... إلى منبع الحسنى إلى الأسل الورد
إلى ذي العلى والفضل والفخر والحجى ... وذى النسب الوضاح والحظ والجد
إلى عالم الأجواد صفوة جعفر ... أبي عمر المعطي المطهمة الجرد
فمدح ابن عبد الله أولى فأنه ... هو الملك الشهم السبوق إلى الجد
أخو همم جاوزن أبعد غاية ... وجزم وحزم يغنيان عن الحشد
فما جعفر ما المستعين وواثق ... ومستنصر والمستضيء وما المهدي
وما الملك المنصور والمكتفي ... وما الأمين وما المأمون ما صاحب الرشد
وما المرتضي ما المقتدي ثم طائع ... وما المقتفي في في ساعة البذل والرفد
وما قاهر مسترشد ثم راشد ... وما الحاكم المعروف في الناس بالقصد
ومستنجد إلا كعقد مفصل ... بدر وبدر الملك واسطة العقد
حوى كل فضل مجمل ومفصل ... وهذا الذي ابديت معشار ما عندي
فطاعته فرض وصحبته غنى ... مجانبته حرب وخصمته تردي
فسبحانه من أعطاه ملكا على الورى ... والزمهم في أمره خدمة العبد
فلا زلت محروساً وقدرك سامياً ... وملكك محفوظاً وعيشك في رغد
وصيتك منشوراً وعدلك شاملاً ... وجودك مبسوطاً على الشام والهند(1/162)
يساعدك المقدور فيما تريده ... وتخدمك الأملاك في القرب والبعد
ثم تولى بعده ولده السلطان عبد الله، وهو الذي قبض على أبيه وحجر عليه حتى مات، وغلب على الملك ووثب على السلطنة، وكان رأى بعض الصالحين المنام رؤيا حاصلها: أنه رأى أربعة من الصالحين عرف منهم الولي الشهير الشيخ محمد باوزير كل منهم قد مسك ركناً وقالوا نريد نولي عبد الله، فلم تمض بعد ذلك إلا مدة يسيرة، وهجم المشار إليه على أبيه واستولى على الملك، وذلك دليل على ما روي أنه لا يقوم سلطان في هذا العالم عالم الشهادة إلا بعد أن ينصبه أولياء الله تعالى بإذن الله تعالى في عالم الغيب، وكان حسن الاعتقاد في الأولياء والصالحين محباً للفقراء والمساكين رحمه الله، وتولى بعده ولده السلطان جعفر، ولم تطل أيامه ومات مقتولاً في سنة تسعين، ثم تولى بعده عمه السلطان العادل والملك الكامل السلطان عمر بن السلطان بدر سلطان العصر وأعجوبة الدهر جم الفضائل حسن الشمائل وافر العقل كثير العدل ذو سيرة مرضية في الرعية وسلوك حسن مع سائر البرية حسن السياسة صادق الفراسة صاحب أخلاق الطف من النسيم وأبهج من الدر النظيم، قل أن ورد عليه أحد من الغرباء إلا وصدر يثني عليه الثناء الجميل، أو وفد إلى ساحته بعض الفضلاء إلا وانصرف يشكر ما أسداه إليه من البر الجزيل:
ثناء جميل عنك يثني معطر ... ووفرك مبذول وعرضك سالم
وسعت الورى حلماً وبشراً بهيبة ... وبذلك للمعروف والثغر باسم
بصدر رحيب واسع قد وسعتهم ... وجوداً حكاه الوابل المتراكم
دماثة أخلاق عطية خالق ... رحيم كريم أصله متقادم
جمعت خصالاً يا ابن بدر حميدة ... بواحدها يسمى الفتى ويساهم
حياء ومعروفاً وجوداً بشاشة ... وعلماً وحلماً جل من هو قاسم(1/163)
فالله تعالى يمتع المسلمين ببقاء ذاته الطاهرة، ويديم أيام دولته الزاهرة آمين. وأمه أم ولد حبشية. ولا يفهم من هذا ان مثل هذا نقيصة في جلالة قدره الرفيع، وعلو شأنه الشامخ المنيع، وحطي أن هشام بن عبد الملك قال لزيد بن علي بن الحسين رضوان الله عليهم أجمعين: بلغني أنك تريد الخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة. فقال له زيد رضي الله عنه: إن الأمهات لا يضعن شيئاً من الأبناء وليس أحد أولى بالله ولا أرفع منزلة عنده من نبي بعثه وقد كان إسماعيل عليه السلام من خير الأنبياء وولد محمداً خيرهم، وكان ابن أَمة وأخوه ابن حرة مثلك فاختاره الله عليه فأخرج منه خير البشر، وأم اسحق سارة فمن ولده القردة والخنازير، وما على أحد جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت أنه. فجعل هشام، وتزوج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه أّمة له أعتقها فلامه عبد الملك على ذلك وكتب إليه: أما بعد فإنه بلغني عنك أنك اعتقت أَمتك وتزوجتها وقد كان لك في أكفائك من قريش ما تستكرم به في الصهر فلم تنظر لنفسك ولا لولدك ونكحت في اللؤم. كتب إليه: أما بعد فإني اعتقتها بكتاب الله وارتجعتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقى لأحد في مجد أن الله قد رفع بالإسلام الخسيسة، وأتم النقيصة وأكرم به من اللؤم فلا عار على مسلم. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أَمته وامرأة عبده. فقال عبد الملك: إن علي بن الحسين تشرف من حيث يتضع الناس. ومن غريب الاتفاق أن ثلاثة سادوا الأنام في زمانهم، وانفرد كل منهم بالفضل الظاهرة واعقل الباهرة ومزيد الصلاح والهمة العالية والسيرة الحميدة والذكاء العجيب والفهم الغريب والنظم الحسن والإنشاء البديع، وكانت أم كل منم أم ولد حبيشة. اما أحدهم فالشريف الفاضل الصالح وجيه الدين عبد الرحمن بن أحمد البيض باعلوي، وكانت وفاته بالشحر سادس جمادى الأولى سنة إحدى بعد الألف، والثاني صاحبنا الشيخ العلامة أحمد بن العلامة علي البسكري المكي ثم المغربي المالكي وسيأتي ذكره في ترجمة صاحبه الشيخ محمد بن عبد الحق المالكي، والثالث الشيخ الرئيس ذي الكرم الجم والفضل الكثير جمال الدين محمد ابن الشيخ الشهير عبد اللطيف المكي الحنفي الشهير بمخدوم زاده أبقاه الله تعالى قلت: وكذلك كانت أم اخي السيد محمد مصطفى الذي ينوه سيدي الوالد بذكره ويشير إليه كثيراً أم ولد حبشة واسمها نور الصباح، وكانت وفاته في يوم السبت ثامن عشر ذي الحجة الحرام سنة ثمانية وستين وتسعمائة بسورت وعليه قبة ومزاز، وكان مولده في سنة ثلاث وعشرين من شهر رمضان سنة سبع وستين وكانت أم أخي السيد محمد فضل الله المولود في المحرم سنة ست وسبعين وتسعمائة والمتوفي في سابع جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وتسعمائة أم ولد هندية، وكانت من الصالحات العابدات، وكانت تقرأ القرآن العظيم توفيت يوم الاثنين ثاني شهر شعبان سنة اثنى عشر بعد الألف رحمها الله، ويقرب من هذا ما ذكره ابن الصلاح رحمه الله في رحلته قال: روينا عن الزهري انه قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت من مكة قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قال قلت: عطاء ابن أبي رباح قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي. قال فبم سادهم؟ قلت بالديانة والرواية قال: ان أهل الديانة والرواية ينيغي أن يسودوا الناس قات: نعم. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قال قلت: طاووس بن كيسان قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي قال: فبم سادهم؟ قلت بما سادهم به عطاء قال: من كان كذلك ينبغي أن يسود الناس قال فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أي حبيب قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي فقال: كما قال في الاولين معه قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول الدمشقي. قال: فمن العرب أم من الموالك؟ قلت من الموالي عبد نوبي اعتقتهه امرأة من هزيل. فقال كما قال: ثم قال، فمن يسود أهل الجزيرة قلت: ميمون بن مهران قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي فقال: كما قال. ثم قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضحاك بن مزاحم قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي فقال: كما قال: ثم قال فمن يسود أهل البصرة قلت: الحسن بن أبي الحسن قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت:(1/164)
من الموالي قال فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي قال: من العرب ام من الموالي قلت: من العرب قال: ويلك يا زهري فرجت عني فوالله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر، وان العرب تحتها قال. قلت: يا أمير المؤمنين إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط. فائدة: كان أبو السيد الجليل الكبير المقدار صاحب المقامات والأنوار الإمام العالم العابد عبد الله بن المبارك قدس الله روحه عبداً هندياً كما ذكره القزويني في كتاب أخبار البلاد وآثار العباد، وكان هذا الرجل من أولياء الله تعالى وممن تستنزل الرحمة بذكره، وترتجى المغفرة بحبه كما قال ولي الله الإمام النووي رحمه الله. فلا بد أن نشنف الاسماع بذكر شيء من أوصافه الفاخرة رجاء أن ينفعنا الله ببركته في الدنيا والآخرة. حكي انه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم، وكان رئيساً أيضاً وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر، وكان له غلام هندي ينطر بساتينه فذهب يوماً إلى البستان فطلب من غلامه شيئاً من العنب فأتى بعنب حامض فقال له: هات عنباً حلواً فاتى بحامض فقال القاضي: ويحك ما تعرف الحلو من الحامض. فقال: بلى ولكنك امرتني بحفظها وما امرتني بالاكل منها، ومن لا يأكل لا يعرف فتعجب القاضي من كلامه وقال: حفظ الله عليك أمانتك. وزوج منه ابنته فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع، وكان يحج سنة ويغزو في سنة اخرى، وحكي عنه رحمه الله عليه قال: خرجت للغزو مرة فلما تراآت الفئتان خرج من صف الترك فارس يدعو إلى البراز فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة قلت له: تنح عني حتى أصلي ثم افرغ لك فتنحى فصليت ركعتين وذهبت إليه فقال لي: تنح عني حتى اصلي أنا أيضاً فتنحيت عنه فجعل يصلي إلى الشمس فلما خر ساجداً هممت ان اغدر به فإذا قائلاً يقول: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا " فتركتن الغدر فلما فرغ من صلاته قال لي لما تحركت؟ اردت الغدر بك قال: فلم تركته؟ قلت لأني أمرت بتركه. قال الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالايمان، وآمن والتتحق بصف المسلمين، وحكي انه كان معاصراً لفضيل بن عياض رحمة الله عليه، وفضيل قد جاوز بمكة وواظب على العبادة بمكةوالمدينة فقال عبد الله بن المبارك:من الموالي قال فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي قال: من العرب ام من الموالي قلت: من العرب قال: ويلك يا زهري فرجت عني فوالله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر، وان العرب تحتها قال. قلت: يا أمير المؤمنين إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط. فائدة: كان أبو السيد الجليل الكبير المقدار صاحب المقامات والأنوار الإمام العالم العابد عبد الله بن المبارك قدس الله روحه عبداً هندياً كما ذكره القزويني في كتاب أخبار البلاد وآثار العباد، وكان هذا الرجل من أولياء الله تعالى وممن تستنزل الرحمة بذكره، وترتجى المغفرة بحبه كما قال ولي الله الإمام النووي رحمه الله. فلا بد أن نشنف الاسماع بذكر شيء من أوصافه الفاخرة رجاء أن ينفعنا الله ببركته في الدنيا والآخرة. حكي انه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم، وكان رئيساً أيضاً وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر، وكان له غلام هندي ينطر بساتينه فذهب يوماً إلى البستان فطلب من غلامه شيئاً من العنب فأتى بعنب حامض فقال له: هات عنباً حلواً فاتى بحامض فقال القاضي: ويحك ما تعرف الحلو من الحامض. فقال: بلى ولكنك امرتني بحفظها وما امرتني بالاكل منها، ومن لا يأكل لا يعرف فتعجب القاضي من كلامه وقال: حفظ الله عليك أمانتك. وزوج منه ابنته فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع، وكان يحج سنة ويغزو في سنة اخرى، وحكي عنه رحمه الله عليه قال: خرجت للغزو مرة فلما تراآت الفئتان خرج من صف الترك فارس يدعو إلى البراز فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة قلت له: تنح عني حتى أصلي ثم افرغ لك فتنحى فصليت ركعتين وذهبت إليه فقال لي: تنح عني حتى اصلي أنا أيضاً فتنحيت عنه فجعل يصلي إلى الشمس فلما خر ساجداً هممت ان اغدر به فإذا قائلاً يقول: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا " فتركتن الغدر فلما فرغ من صلاته قال لي لما تحركت؟ اردت الغدر بك قال: فلم تركته؟ قلت لأني أمرت بتركه. قال الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالايمان، وآمن والتتحق بصف المسلمين، وحكي انه كان معاصراً لفضيل بن عياض رحمة الله عليه، وفضيل قد جاوز بمكة وواظب على العبادة بمكةوالمدينة فقال عبد الله بن المبارك:(1/165)
يا عابد الحرمين لو ابصرتنا ... لعلمت انك بالعبادة تلعب
من كان يخطب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضي
وغبار خيل الله في أنف امرءٍ ... ودخان نار جهنم لا يذهب
هذا كتاب الله يحكم بيننا ... ليس الشهيد كغيره لا يكذب
وحكى الحسن بن الربيع انه خرج ذات سنة في جيوش المسلمين إلى الغزوفلما تقابل الصفان خرج من صف الكفار فارس يطلب القرن فذهب إليه فارس من المسلمين فما أمهل المسلم حتى قتله فخرج إليه آخر فما أمهله، ثم آخر فما أمهله، فاحجم الناس عن مبارزته. ودخل المسلمين منا حزن فااً فارس متلمتم خرج إليه من صف المسلمين، وجال معه زماناً ثم رماه وجزر رأسه فكبر المسلمون وفرحوا ولم يكن يعرفه احد فعاد إلى مكانه، ودخل في غمار الناس قال الحسن: فبذلت جهدي حتى دنوت منه وحلفته ان يرفع لثامه فاذا هو عبد الله بن المبارك فقلت يا امام المسلمين اخفيت نفسك مع هذا الفتح العظيم الذي يسره الله على يدك فقال: الذي فعلت له لا يخفى عليه، وحكي ان عبد الله بن المبارك عاد من مرو إلى الشام لقم رآه معه بمرو وصاحبه بالشام. ورئي سفيان الثوري رحمه الله عليه بعد موته في المنام فقيل له، ما فعل الله بك قال: رحمني فقيل: ما حال عبد الله بن المبارك قال: هو ممن يدخل على ربه كل يوم مرتين. ولد سنة مائة وعشرين، وتوفي سنة مائة واحدى وثمانين عليه رحمه الله ورضوانه.
سنة ثمان وسبعين بعد التسعمائة
وفي عشية يوم الخميس لعشرين خلت من شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين كان مولد مؤلف هذا الكتاب بلغه الله من الخير امله وختم بالسعادة عمله وقد عمل سيدي الوالد قدس سره لضبط العام المذكور تواريخ كثيرة منها " بخ بمولود سيد قطب زمانه " ولا يخفى ما فيه من الاشارة المتضمنة للبشارة من هذا السيد الجليل والولي الكبير، وقد نظم بعض التواريخ الذي جعلها سيدي الوالد صاحبنا الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن عبد اللطيف الجامي المكي الشهير بمخدوم ذاده في مقطعات له متعددة، وقال سيدي الوالد عند ذلك:
بدا النور من نجد ومن شعب عامر ... بطلعة أبي بكر الفتى عبد القادر
بشهر ربيع ليلة الجمعة الغرا ... لثالث عشرين زهت بالبشائر
لعام ثمان بعد سبعين سنوة ... من الهجرة الغرا ذات الاشاير
وتسع مئين صح ميلاد سيد ... دعي بأبي بكر محمد باقر
من المصطفى المختار مشكاة نوره ... إلى العيدروس المجتبى بالسرائر(1/166)
وقد خمس هذه الأبيات الفقيه صالح أحمد بن الفقيه محمد با جابر، وخمسها أيضاً الشيخ محمد بن عبد اللطيف مخدوم زاده المذكور، وصدرها وعجزها أيضاً صاحبنا الشيخ الصالح العلامة شهاب الدين أحمد بن العلامة علي بن محمد البسكري المكي المالكي المغربي تغمد الله برحمته، وكان والدي رحمه الله رأى في المنام قبل ولادتي بنحو نصف شهر جماعة من أولياء الله تعالى: منهم الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، والشيخ أبو بكر العيدروس رضي الله عنه وغيرهما، وكان الشيخ عبد القادر يريد حاجة من الوالد فذلك هو الذي حمله على تسميتي بهذا الاسم، وكناني أيضاً أبا بكر ولقبني محيي الدين، وتقرر عنده انه سيكون لي شأن، وكان قل ان يسلم له أحد من الاولاد بأرض الهند فما عاش له منهم غيري، وكان يحبني جداً وقال لي مرة: إذا وقع زمانك افعل ما شئت وكم لي منه من اشارات تضيق على بسطها العبارات والأولى الآن طي حكايتها والمرجو من الله عود ثمرتها وبركتها، وحكى بعض الثقات قال جاء بعض الوزراء الكبار إلى والدك يطلب منه الدعاء في أمر من الأمور وأنت إذا ذاك صغير جداً وكنت جالساً بين يديه فقرأت في الحال هذه الآية " واخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب " فقال الشيخ لهم: يكفيكم هذا الفال هذا مثل الوحي قال: ثم قضيت تلك الحاجة باذن الله تعالى، وكانت أمي أم ولد هندية وهبتها بعض النساء من ارباب الخير وبيت الملك المشهورة بالصدقات الجليلة والهبات الجزيله والكرم والاحسان والفضل والامتنان لأبي رحمه الله واعطتها حينئذ جميع ما تحتاج إليه من أثاث البيت، وأخدمتها جملة من الجواري، وكانت تنظرها مثل ابنتها وتزورها في الشهر مرات، وكانت هي إذ ذاك بكراً ولم تلد له أحداً من الأولاد غيري، وكانت من الصالحات، على جانب عظيم من التواضع وسلامة الصدر وحسن الاخلاق وكثرة الانفاق، توفيت ضحى يوم الجمعة لعشرين خلت من شهر رمضان سنة عشر بعد الالف، وكان آخر كلامها لا أله إلا الله، وقبره بجوار سيدي الوالد خارج قبته الشريفة رحمها الله تعالى، وقرأت القرآن العظيم حتى ختمته على يد بعض أولياء الله تعالى وذلك في حياة الوالد تغشاة الله بالرحمة، واشتغلت بعد قراءة القرآن بتحصيل طرف من العلم، وقرأت عدة من المتون على جماعة من العلماء الأعلام وتصدت لنشر العلم ومزاحمة أهله وذلك بكرم الله وفصله والأخذ عن العلماء والاستفادة منهم، ومعرفة فضلهم وتعظيمهم مع التطفل معهم بالاقوال والتشبه بهم في الأفعال وتكسير سوادهم ورعي ودادهم وشاركت في كثير من الفنون وتفرغت لتحصيل العلوم النافعة لوجه الله تعالى وعملت الهمة في اقتناء الكتب المفيدة وبالغت في طلبها من اقطار البلاد البعيدة مع ما صار الي من كتب الوالد رحمه الله فاجتمع عندي منها جملة عديدة، ولما بلغني ان سيدي الشيخ عبد الله العيدروس رضي الله عنه قال: من حصل كتاب احياء علوم الدين وجعله في أربعين جلداً ضمنت له على الله بالجنة فحصلته كذلك بهذه النية ولله الحمد، ووقفت لاستماع الأحاديث النبوية واشتغال الأوقات بها مع صدق النية، وطاعت كثيراً من الكتب باعانة الله تعالى، ووقفت على أشياء غريبة فيها وفيما تلقيته عن المشايخ الأفراد وفضلاء العصر الأمجاد وغيرهم من الثقات. فلم يفتني بحمد الله سبحانه اشارة صوفية، أو مسئلة علمية أو نكتة ادبية، ولكني مع ذلك اظهر التجاهل في ذلك لأن الكلام على اشارات التصوف ومقامات الصوفية لا ينبغي الشخص أن يصفها إلا إذا كان متحققاً بها، ومع ذلك فلا يجوز له ان يتكلم فيها مع غير أهلها لانها مبنية على المواجيد والاذواق لا يطلع على بيان حقيقتها بالألسنة والأوراق. واما نكت الأدب فلا يحسن بعاقل أن يشتهر بمعرفة علمها. والله المسؤول ان يجعل ذلك مقرباً اليه، وموجباً للزلفى عنده ولديه، وان يتم لنا كمال السعادة بان يرزقنا حسن الخاتمة عند الموت حتى نظفر بالحسنى وزيادة مع الدينا وأحبابنا ومشايخنا وأصحابنا وأخواننا وذرارينا انه أكرم مسؤول قريب مجيب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه انيب، ثم من الله علي بعد ذلك وله الحمد لا أحصى ثناء عليه بما لا كان لي قط في حساب فسبحان المتفضل المنعم المعطي الوهاب حتى سارت بمصنفاتي الرفاق، وقال بفضلي علماء الآفاق ورزقت محبة ارباب القلوب من اولياء الله تعالى وحظيت(1/167)
بدعواتهم الصالحة، وعظمني العلماء شرقاً وغرباً، وخضع لي الرؤساء طوعاً وكرهاً وكاتبني ملوك الاطراف وأرفدوني بصلاتهم الجليلة وهباتهم الجزيلة ووصلت الي المدائح من الآفاق كمصر واقصى اليمن وغيرهما من البلاد البعيدة، وأخذ عني غير واحد من الاعلام، وانتفع بي عدة من الانام. وممن لبس مني خرقة التصوف من الأعيان السيد الجليل العلامة جمال الدين محمد بن يحيى الشامي المكي، والشيخ الكبير العلامة الشهير بدر الدين حسن ابن داود الكوكني الهندي، والشيخ الصالح العلامة الفقيه أحمد ابن الفقيه الولي محمد بن عبد الرحيم با جابر الحضرمي، والشيخ الفاضل شهاب الدين أحمد بن ربيع ابن الشيخ الكبير والعلامة الشهير أحمد بن ربيع ابن الشيخ الكبير، والعلامة الشهير أحمد بن عبد الحق السنباطي المكي المصري وغيرهم. وأما الذي لبسها من الملوك والتجار وطوائف الناس فجماعة كثيرون وخلائق لا يحصون، والفت جملة من الكتب المقبولة التي لم اسبق إلى مثلها، ووقع الاجماع على فضلها فلا يكاد يمتري في ذلك إلا عدو أو حاسد وهي لعمري على ما أنعم الله به من فضله علي أعظم شاهد ككتاب الفتوحات القدوسية في الخرقة العيدروسية. وهو كتاب نفيس لم يؤلف قبله أجمع منه، وهو مجلد ضخم، وقرظة جماعة من العلماء الاعلام وسادات الانام حتى ان التقاريظ التي كتبوها عليه جآءت في كراريس، ومن غريب الاتفاق ان تاريخه جآء مطابقاً لموضعه وهو " لبس خرقة " وكان جعل هذا التاريخ الشيخ الفاضل محمد بن عبد اللطيف مخدوم زاده ونظمه في ابيات. منها:م الصالحة، وعظمني العلماء شرقاً وغرباً، وخضع لي الرؤساء طوعاً وكرهاً وكاتبني ملوك الاطراف وأرفدوني بصلاتهم الجليلة وهباتهم الجزيلة ووصلت الي المدائح من الآفاق كمصر واقصى اليمن وغيرهما من البلاد البعيدة، وأخذ عني غير واحد من الاعلام، وانتفع بي عدة من الانام. وممن لبس مني خرقة التصوف من الأعيان السيد الجليل العلامة جمال الدين محمد بن يحيى الشامي المكي، والشيخ الكبير العلامة الشهير بدر الدين حسن ابن داود الكوكني الهندي، والشيخ الصالح العلامة الفقيه أحمد ابن الفقيه الولي محمد بن عبد الرحيم با جابر الحضرمي، والشيخ الفاضل شهاب الدين أحمد بن ربيع ابن الشيخ الكبير والعلامة الشهير أحمد بن ربيع ابن الشيخ الكبير، والعلامة الشهير أحمد بن عبد الحق السنباطي المكي المصري وغيرهم. وأما الذي لبسها من الملوك والتجار وطوائف الناس فجماعة كثيرون وخلائق لا يحصون، والفت جملة من الكتب المقبولة التي لم اسبق إلى مثلها، ووقع الاجماع على فضلها فلا يكاد يمتري في ذلك إلا عدو أو حاسد وهي لعمري على ما أنعم الله به من فضله علي أعظم شاهد ككتاب الفتوحات القدوسية في الخرقة العيدروسية. وهو كتاب نفيس لم يؤلف قبله أجمع منه، وهو مجلد ضخم، وقرظة جماعة من العلماء الاعلام وسادات الانام حتى ان التقاريظ التي كتبوها عليه جآءت في كراريس، ومن غريب الاتفاق ان تاريخه جآء مطابقاً لموضعه وهو " لبس خرقة " وكان جعل هذا التاريخ الشيخ الفاضل محمد بن عبد اللطيف مخدوم زاده ونظمه في ابيات. منها:
ولما كان ذا التأليف فيمن ... تشرف في الانام بلبس خرقه
فلا عجب ولا بدع إذا ما ... اتى تاريخ ذلك " لبس خرقه "(1/168)
وكتاب الحدائق الخضرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشرة وهو أول كتاب الفته، وكان سني إذا ذاك دون العشرين، وكتاب اتحاف الحضرة العزيزة بعيون السير الوجيزة. وهو على نمط كتاب الحدائق إلا انه أصغر منه، وهو عجيب في بابه، وقرظه بعض الفضلاء، وكتاب المنتخب المصطفى من أخبار مولد المصطفى. واستحسن اسلوبه بعض الصلحاء من أهل العلم جداً، وكتاب المنهاج إلى معرفة المعراج، وكتاب الانموذج اللطيف في أهل بدر الشريف. ولم أعلم أن أحداً تقدمني إلى أفراد مناقب أهل بدر رضي الله عنهم، وهذا الكتاب الشريف من أعظم الأعمال التي أعتمد عليها وارجو بها من فضل الله الجنة، وكتاب اسباب النجاة والنجاح في اذكار المساء والصباح وكتاب الدار الثمين في بيان المهم من علم الدين. ذكرت فيه كلما يجب على المبتدي من معرفة العقائد، ثم ما يحتاج إليه بعد ذلك من أمر دينة كالصلاة والصيام والزكاة والحج. ثم بينت بعد ذلك الاخلاق المذمومة حتى يجتنبها الطالب والأخلاق المحمودة ليجتهد في طلبها كل راغب، وهو كتاب نفيس جداً ومفيد في بابه إلى أقصى الغاية، وكتاب الحواشي الرشيقة على العروة الوثيقة، وكتاب منح الباري بختم صحيح البخاري، وكتاب تعريف الأحياء بفضائل الأحياء وباعثه أن سيدي الشيخ عبد الله العيدروس رضي الله عنه قال: غفر الله لمن يكتب كلامي في الغزالي فرجوت ان يتناولني دعاءه، وأردت اسعاف والدي بتحقيق رجاه فاني سمعته يقول: ان امهل الزمان جمعت كلام الشيخ عبد الله في الغزالي. في كتاب واسميه الجوهر المتلالي من كلام الشيخ عبد الله في الغزالي. وقد اشتمل هذا الكتاب على جملة من كلامه في الثناء عليه وعلى كتبه، وكتاب عقد اللآءل بفضائل الآل، وكتاب خدمة السادة آل باعلوي باختصار العقد النبوي. وارجو ان يوفقني الله لا تمامه، وكتاب بغية المستفيد في شرح تحفة المريد وهو مختصر جداً. وكتاب النفحة العنبرية في شرح البيتين العدنية، وكتاب غاية القرب في شرح نهاية الطلب. اعتنى به الناس كثيراً وحصلوا منه نسخاً عديدة نحو الأربعين فيما علمت، وكان بعض العلماء أمر ولده بحفظه عن ظهر القلب عن جاري العوائد في حفظ المتون، وقد اشار إليه العلامة الحباني مع المولد في بعض القصائد التي امتدحني بها بقوله:
وبغاية القرب العلوم تفتحت ... وبما اتانا نخبة في المولد
وشرح على قصيدة الشيخ أبي بكر العيدروس صاحب عدن النونية وهو كتاب في غاية الحسن بديع الترتيب غريب التأليف والتهذيب حسن السبك والأنسجام بحيث يفهمه الخاص والعام مشتمل على فوائد جمة ومحتو على مقاصد مهمة، وكتاب اتحاف أخوان الصفاء بشرح تحفة الظرفاء باسماء الخلفاء، وكتاب الفتح القدسي في تفسير آية الكرسي، وكتاب صدق الوفاء بحق الاخاء. وهو مع اختصاره عجيب في بابه غريب في وضعه واسلوبه، وكتاب النور السافر عن أخبار القرن العاشر وهو هذا، وتقريظ على شرح قصيدة البوصيري التي عارض بها بانت سعاد لشيخنا شيخ الإسلام ومفتي الانام الفقيه عبد الملك بن عبد السلام دعسين الأموي اليمني الشافعي، وأخر على رسالة صاحبنا الشيخ العلامة أحمد بن علي بن محمد البسكري في تنزيه الإمام مالك رحمه الله تعالى عن تلك المقالة الشنيعة التي نسبها إليه من لاخلاق له، واجازة للفقيه الصالح أحمد ابن الفقيه محمد باجابر، وديوان شعر جمعه بعض الاصحاب واضاف إليه المدايح التي في الناظم. واسمه الروض والاريض والفيض والمستفيض ومن نظمي:
إذا ما اشتد ليل الهموم ودجى ... جعلت إلى أهل بدر الالتجا
وما خاب عبد لهم قد رجا ... ومتى توسل بهم إلى الله فرجا
ومنه
قسماً ببديع جماله وبيان لسانه ... اني لمعاني آداب صفاته رق
فقهت من منطقة العذب حديثه ... وفهمت من دقة خضره سر يرق
واينما كنت فقلبي طائر نحوه ... ومتى اردت صرفه رأيته يشق
ومنه
شافعى أحمد لي عند مالكي ... وما خاب من أحمد له شافع
بل حقيق ان يغفر له زلاته ... وينعم عليه بالذي هو طامع
ومنه
ايها العاذلون اقصروا عن عتابي ... انني استعذبت في العشق عذابي(1/169)
ليس لي غير الغرام شرعاً ... انني فيه مرسل بالكتاب
ومنه
يا رسولي إذا وصلت الي سولي ... فهن هناك نفسك بالوصول
واذا جزت بحيهم اجر ذكري ... ولطف القول كي يرقوا لنحولي
ومنه
مريدي أصدق تنل ما تريد ... فكل ذا على الله ليس ببعيد
تريد قرب مولاك يا صاحبي ... تقرب فهو أقرب من حبل الوريد
ومنه
لما كان حبيبي أصل مبدأ الوجود ... وكان في الخلق للرسل ختام
صح انهم بيت حسن بدا ... لكن حبيبي كان لحسنهم التمام
ومنه
قالت محاسنه تطيق فراقي ... ناديتها لا صبر لي لا صبر لي
ومنه
انا شيعي لآل محمد ... ومن مذهبي حب شيعته
واستحسن غالب هذه المؤلفات جماعة من أهل العلم والصلاح الذين شهرتهم تغني عن الأطناب في مدحهم. كالشيخ صالح ولي الله العلامة جمال الدين الفقيه محمد بن عبد الرحيم باجابر الحضرمي، والشيخ الكبير قدوة العلماء ودرة تاج الفضلاء الفقيه محمد ابن الإمام عبد القادر الحباني، والشيخ الإمام علم العلماء الإعلام شيخ الإسلام ومفتي الانام شافعي زمانه على الأطلاق صاحب المصنفات التي اشتهرت في الآفاق الفقيه عبد الملك بن عبد السلام دعسين الاموي الشافعي اليمني، والفقيه المحقق العلامة جمال الدين محمد بن عبد المولى القرطبي المغربي، وكان المذكور قدم اليمن فاجتمع فيها بالفقيه عبد الملك ووقف عنده عند مجلد فيه جملة منها فاعجب بها جداً، وقال انه ما بقي لمؤلفها في هذا الزمان نظير، واني لأدعو له بطول العمر حتى يبدو منه مثل هذه الفوائد المستجادة لينتفع بها من اراد الله هدايته من أهل السعادة، وكتب الأكابر بعضها بخطوطهم، وكان أخي السيد الكبير والولي الشهير العارف بالله تعالى الشيخ عبد الله كان الله له يعجب بها إلى الغاية،وله في طلبها واقتنائها اشد عناية، وكان يحثني على ارسال كلما تجدد لي منها، ويذكر انه أعجبه أسلوبها جداً، وانه لم يجد لي مثلاً في ذلك، ورأيت في أوراقه إلى خادمه سالم بن علي با موجة وقد ذكرني فيها وقال: انا ما نراه إلا منزلة والده، وكتب الي الفقيه الصالح محمد بن عبد الرحيم با جابر في بعض الاوراق في أمر يطلب مني ان أفعله، وكان فيه نوع صعوبة فقال: ولا تستبعد هذا يا شيخ عبد القادر فانك من الذين يتصرفون في الكون، وتنفعل لهم الأشياء بأذن الله تعالى، وكان الفقيه عبد الملك رحمه الله يتمنى الاجتماع بي كما حكاه عنه بعض الثقات وهو الذي يقول في ذلك أيضاً من قصيدة امتدحني بها:
إذا مثلت شخصكم بفكري ... اوالي زعقة في اثر زعقة
ومهما تذكرو عندي تصبني ... لو اعج صعقة من بعد صعقة
ويجري دمع مقلتي استباقا ... بخدي دفقة من بعد دفقة
فمنوا باللقاء ولو مناماً ... لعل مريض شخض بنأى ينقه
واحظى باجتماع في محل ... يضيء الأنس بالأفراح افقه
بحضرة من حوى كل المعالي ... واحرز من مجيد المجد فرقه
وحاز السبق فيما يبتغيه ... ولا عجب إذا ما حاز حقه
تغذى بالمعارف وهو طفل ... وفي سن الكهولة ما أحقه
حباه الله بالعلم اللدني ... فاضحى فاتقاً بالفهم رتقه
وذاك الشيخ عبد القادر ... العيدروس اخو الفهوم المستدقه
سليل الأكرمين ومنتقاهم ... واحظاهم بفخر حاز سبقه
تبؤا في الفضائل قصر فضل ... لرايات الجلال عليه خفقه
وخص ببسطة في العلم خلت ... له جمل المعارف مسترقه
فآتاه الآله فنون علم ... بلا تعب لديه ولا مشقه
واعطاه العطاء الجم فضلا ... وحسن بعد حسن الخلق خلقه
فادرك في العلوم مقام بسط ... واعجز من تصوف أو تفقه
وصنف في فنون العلوم كتباً ... جليلات ابان بهن حذقه(1/170)
وخرقة أهله قد جاء فيها ... بتصنيف غدا الاتقان طبقه
وسلسلها إلى أصل اصيل ... بتنقيح أصاب الضبط وفقه
واما في التصوف فهو فرد ... امام قد حوى بالجمع فرقه
لقد ورث الولاية عن أبيه ... بتعصيب وفرض أستحقه
فانفق من كنوز العلم عفواً ... وخص بكل فن مستحقه
فيهنيه الذي اولاه مولا ... ه، تحف العطايا المستحقه
قلت: وذكري لهذه الأشياء إنما هو من باب التحدث بنعمة الله، ولأن الذي حكيت عنهم ذلك من أهل الدين والصلاح تيمنا بانفاسهم الطاهرة على أنى ما ذكرت من ذلك إلا القليل مع أن ما ذكرته من أنواع لطفهم بي دون ما تركته بكثير، جزاهم الله عني أفضل ما جزى استاذاً عن تابعه، ولم أر في نعم الله التي أنعم بها علي بعد الإسلام والنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمة أجل منه فلذلك ذكرته في هذا التأليف وأخترت بقاءه في وفي عقبي وأصحابي إلى آخر يوم من أيام الدهر، وقد سبقني إلى ذلك من العلماء المقتدى بهم جماعة لا يحصون كالعلامة شيخ الشيوخ أمام المحدثين وقدوة المحققين ابن حجر العسقلاني، والعلامة الحافظ السخاوي، والعلامة شرف الدين إسماعيل المقري اليمني صاحب الارشاد، والعلامة الحافظ الدبيع والعلامة الفاسي، وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر الهيتمي، وغيرهم.
وفيها: فاضت بأحمد أباد بعض البرك حتى فرج عنها الماء الذي كان فيها وصارت فارغة.
وفيها: أيضاً رئي الدم في بعض برك الماء بأحمد أباد.
سنة تسع وسبعين بعد التسعمائة
وفي ربيع الثاني سنة تسع وسبعين توفي الفقيه الصوفي الجامع بين الشريعة والحقيقة حسين ابن الفقيه عبد الله ابن عبد الرحمن ابن أبي بكر ابن الحاج بافضل الشافعي الحضرمي بتريم، ولصاحبنا الأديب الفاضل الفقيه عبد الله بن أحمد بن فلاح الحضرمي في تاريخ ذلك العام بيتين وهما:
شيخنا حي تجده ... ضابط العام الذي مات
وفيه حسين ابن الفقيه با ... فضل بالحاج ذي الكرامات
وكان من كمل المشايخ العارفين الجامعين بين علوم الشريعة وسلوك الطريقة وشهود الحقيقة صاحب أحوال سنية ومقامات علية وفراسات صادقة وكرامات خارقة، وله في التصوف رسالة سماها: الفصول الفتحية والنفاثات الروحية فيما يوجب الجمعية وعدم البراح من جانب الحق والغناء والبقاء به بالكلية والجزئية. ومن كراماته أنه كان مرة في مجلس وبين يديه مريده فضل بن إبراهيم فكان يتكلم بأشياء بطريق الكشف كعادته، وكان في ذلك المجلس أخي السيد عبد الله فالتفت إليه فضل المذكور وقال: أن والدك ركب في بعض الخشب وسرى هذه الساعة فقال الشيخ حسين: ما خرج من الهند أصلا فتراجعا، فقال الشيخ حسين اما علي كذا أو عليك كذا من باب البسط، ثم أتفقا على أنه ما خرج فاتفق أن أخي تب هذه القصة في كتاب ووقع عزمه إلى الهند في تلك السنة وكان الكتاب المذكور في صحبته فلما رآه والده قال: صدق الاثنان الشيخ حسين ومريده إلا أن الشيخ حسين كان نظره يشرف على حقائق الأشياء واخبر أنه كان في ذلك الوقت في ذلك اليوم في ذلك الشهر عزم من أحمد أباد بنية برعرب لأن الوزير وهو عماد الملك الذي كان يعوق عليه ذلك خرج في تلك السنة للصيد فلما كان في أثناء الطريق لحقه الوزير المذكور فصده عن ذلك قال: وأما قول فضل أنه ركب بعض الخشب وسرى هذه الساعة فإن البهل إذا مشى به البقر يشبه سراية الخشب في البحر. وبينما هو في بعض الليالي يسير في الطريق اذ وجد والدي رحمه الله فوقفا يتذاكران وأستمر كذلك إلى الصباح، وحكي أنه قال ما عندنا من الأعمال التي نعتمد عليها شيئاً إلا ذرة من حب آل محمد صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس فقال: هنيئاً له هذا هو الذي عناه عنه الشيخ أبو بكر العيدروس بقوله:
لك الهنا أن حل فيك ذرة ... من حبهم أو لاح منك حظرة
بذكرهم ما أعظم المسره ... طوبي لقب حل حبهم فيه(1/171)
وكان مولعاً بكتب الشاذلية، وكان يميل إلى طريقتهم السينة حتى قيل فيه أنه شاذني زمانه روي ذلك عن الشيخ الكبير والولي الشهير أحمد ين سهل، وكان يعظم الشيخ محيي الدين ابن عربي، ويقري كتبه، وكان له في أقتنائها أشد عناية حتى أن كتاب الفتوحات المكية كان لا يوجد بحضرموت إلا عنده، ولما كتب والدي إلى ولده السيد عبد الله ان يحصله له طلبه من الشيخ حسين فامتنع اولا وسأل بعض الثقات أن السيد عبد الله يريد يحصله لنفسه أو لوالده فقال: لا بل لوالده فأعطاه إياه، وحكي أن الشيخ بل النسخة التي كانت عنده عند وفاته ما خلا باب الوصايا منه وقال: أنما فعلته تعظيماً لشأنه لأن الناس لا يفهمون معانيه فيقعون في الغلط بسبب ذلك. قلت: وكان الشيخ من المشايخ المربين وكتب الشيخ ابن عربي أشتملت على علوم لا يفهمها إلا أهل النهايات وتضر بارباب البدايات. قال الحافظ السيوطي: والقول الفصل عندي في ابن عربي طريفة لا يرضاها فرقنا أهل العصر لا من يعتقده ولا من يحط عليه. وهي أعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه قلت: وحكى الشيخ الإمام العلامة بحرق أنه سمع الشيخ أبا بكر العيدروس يقول: لا اذكر ان والدي ضربني ولا انتهرني إلا مرة واحدة بسبب انه رأى بيدي جزءاً من كتاب الفتوحات المكية لأبن عربي فغضب غضباً شديداً فهجرتها من يومئذ قال: وكان والدي ينهى عن مطالعة كتابي الفتوح والفصوص لأبن عربي ويامر. بحسن الظن فيه وباعتقاد انه من أكابر الأولياء العلماء بالله العارفين ويقول: ان كتبه اشتملت على حقائق لا يدركها إلا ارباب النهايات وتضر بارباب البدايات.قال الشيخ بحرق: وأنا أيضاً على هذه العقيدة وأدركت عليها جماعة من المشايخ المقتدى بهم قلت: وهذا المقتدى بهم قلت: وهذا مقتضى كلام السيوطي رحمه الله وأنا أيضاً على هذه العقيدة وهذه الطريقة أسلم والله أعلم، ووجدت بخط صاحب الترجمة سيدي الشيخ حسين ابن الفقيه عبد الله بالحاج بافضل رضي الله عنه ونفع به آمين. ان الشيخ الإمام ولي الله تعالى محيي الدين النووي لما رأى كلامه وطالعه قال: الكلام كلام صوفي. ثم قال الشيخ حسين وهو كما قاله هذا الإمام ان كلامة كلام الصوفية وانما هو بسط العبارة في موضع الأشارة وما يحمله من ينكر على الصوفية، ووجدت بخطه أيضاً ما صورته هذه الأبيات تصلح في الشيخ محي الدين:
دعوه لا تلوموه دعوه ... فقد علم الذي لم تعلموه
رأى علم الهدى فسمى إليه ... وطالب مطلباً لم تطلبوه
اجاب دعاه لما دعاه ... وقام بحقه ووضعتموه
بنفسي من ممنوح قرب ... وطاعم مطمعاً لم تطعموه
قلت: وعلى الي حكاية غريبة وقعت للشيخ ابن عربي تدل على فضله العظيم اذكرها هنا تيمناً بذكره واستشعاره بعضيم قدره ولان المؤرخين يقولون: من ذكر انساناً وعلم له نادرة فلم يذكرها فقد ظلمه ذكر بعض المعتنين بأخباره والمداونين لمحاسن آثاره ان صاحب اشبيلية ارسل مالاً عظيماً إلى مكة شرفها الله تعالى وأوصى الوكيل ان لا يفرق هذا المال إلا اعلم أهل الأرض واتفق انه اجتمع تلك السنة بمكة شرفها الله تعالى من المشايخ والعلماء والفقهاء ومن كل ذي فن من العلوم ما لم يجتمع في عصر من الأعصار وهي السنة التي اجتمع فيها الشيخ شهاب الدين السهروردي بالشيخ محيي الدين رضي الله عنهما، وقال كل واحد منهما في شأن صاحبه ما قال فاجمع الكل على الشيخ محيي الدين رضي الله عنه، وان لا يفرق المال سواه ففرقه فلما فرغ من تفريقه قال: لو لا ان خوفي خرق الاجماع لامتنعت فقال: له بعض أصحابه لم يا سيدي؟ قال: ما اريد به وجه الله، بل اريد به التفاخر فقال: له بين لي ذلك فقال: ان صاحب الغرب اراد ان يفتخر بي على سائر ملوك الأرض إذ قد علم انه لا يفرقه سواي فما اراد به وجه الله تعالى، بل أراد التفاخر فبلغ ذلك المجلس إلى صاحب اشبيلية فبكى، وقال: صدق الشيخ هذا اردت. ومن شعر ولده محمد وكان قد جاور بالمدينة الشريفة فطلب منه بعض الأصحاب العود إلى وطنه وكتب إليه هذه الأبيات:
لو قيل لي في حضرموت جواهر ... تعطى من لكل طليب
أو قيل لي ما تشتهي وما تهوى ... تجده غاية المطلوب(1/172)
لأخترت منها نظرة في طيبة ... والموت ياتي بعدها بقريب
هذا خلاصة رغبتي في غربتي ... فافهم فديتك شرح حال كئيب
ما يراد ويشتهى في غيرها ... لي جنة في روضة المحبوب
صلى عليه الله ربي دائماً ... ما بان نجم أو هوى بغروب
ومنه
اتينا قبا قال مسجده لنا ... مقالاً فصيحاً وهو بيت من الشعر
لقت ضعت في قفر فما لي عائد ... فواحسرتا اذ كنت في جانب البر
ولهذين البيتين قصة عجيبة وهي ان المشار إليه كان يختلف كثيراً إلى المسجد قبا، وكان وقف المسجد إلى جهة الشيخ أبي اللطيف البري، وما كان يقوم بخدمة المسجد، وما يحتاج إليه من العمارة وغيرها كما ينبغي. فكتب هذين البيتين على مسجد قبا. وبالجملة فانه كان لطيف النظم رقيق الطبع، وكان صاحبنا الفقيه أحمد ابن الفقيه محمد با جابر قد اجتمع به بالمدينة الشريفة فحكى عنه من النوادر المستظرفة والحكايات المستطرفة شيئاً كثيراً، وله مشاركة في كثير من العلوم، وتقرأ عليه الطلبة في غير واحد من الفنون وهو إلى الآن موجود كان الله له، وله أخ ثاني بحضرموت اسمه زين علي قدم والده يشار إليه بالصلاح.
وفيها: في ضحى يوم الأربعاء ثاني عشر شهر جمادى الأولى توفي الفقيه عبد القادر ابن الفقيه عبد الله ابن الفقيه الصالح أحمد بن محمد بافضل بعدن ودفن داخل دائرة مقبرة جده الفقيه محمد بالقرب من قبره، وكان رجلاً لبيباً عاقلاً فاضلاً أديباً بليغاً نحوياً يقول الشعر، وكانت له مشاركة في الفقه والحديث أخذ عن الفقيه عبد الله بن عمر محزمه والعلامة شهاب الدين أحمد بن عمر الحكيم، وأخذ النحو واللغة عن الفقيه محيي الدين عبد القادر الحموي وذلك ببلدة عدن، وكان قائماً بوظيفة مسجد الدرسة، وولي بناية الشافعية بمدينة عدن، وكانت سيرته حسنة محمودة رحمه الله تعالى.
وفيها : مات قاضي القضاة محمد حاجي بمكة المشرفة. فقال الأديب عبد الرحمن الخفاجي المكي مؤرخاً لذلك:
لقد رحم المهيمن قبر قاض ... عزيزاً قد سما عز افتخاره
امام عالم حبر تقي ... به الشرع الشريف علا مناره
فدل على سعادته انطراح ... بباب الله من قد عز جاره
له عدل به الركبان سارت ... وزان جماله الأسنى وقاره
بميزان يحل بخير أرض ... فكان بمكة الغرا قراره
فتاريخ الوفاة له بضبط ... وتحرير جناز الخلد داره
وفيها : بنى والدي باحمد اباد بيتاً وجاء تاريخه " بيت السعادة " وجعل هذا التاريخ الشيخ عبد المعطي باكثير ثم نظمه في أبيات فقال:
أكرم بأرفع روشن قد زينت ... ارجاؤه إذ صار في غرفاته
قد اتقن الاستاذ صنعة وضعه ... فزها وفاق بذاته وصفاته
انشاه مولانا الشريف بقصره ... العالي المنيف فشاد من بركاته
شمس الشموس العيدروس المجتبى ... شيخ ابن عبد الله شهم حماته
قطب الوجود وغوثنا وملاذنا ... يا رب متعنا بطول حياته
يا حسنه من روشن في غرفة ... قد زخرفت منه بحسن سماته
بالعيدروس سما وجاز نضارة ... مذ حل فيه بنفسه وبذاته
ومن السعادة قد أتى تاريخه ... بيت السعادة فهو من آياته
سنة ثمانين بعد التسعمائة
وفي سنة ثمانين توفي: العبد الصالح الشيخ عبد الرحيم بخضر خادم سيدي الشيخ الوالد فقير الشيخ الكبير سعيد بن عيسى العمودي، وكان له حسن ظن مفرط في الوالد حتى أنه كان يبتلع بصاقه، وكان مجذوباً، ورويت عنه كرامات رحمه الله آمين.
وفيها : أخذ السلطان أكبر ابن همايون كجرات، وهو من أولاد تيمور لنك بينه وبينه أربعة آباء، وكان عظيم الشأن ورزق السعد في أيامه وطالت مدة ولايته واتسع ملكه جداً، وكان عادلاً حليماً عاقلاً حكيماً. والكلام فيه يطول والمسائل في شأنه تعول فلنقبض العنان والله المستعان، وكانت مدة سلطنته خمسين سنة، وتوفي في شهر جمادى الآخرة سنة أربع عشرة(1/173)
بعد الألف، وتاريخ العام يجمعه " غدي " بالياء وهي لغة غير فصيحة في غدا بالألف أي ذهب وقلت في ذلك :
غدي أكبر في الذاهبين ... وذي سنة الله في الغابرين
وتولي بعده ولده سليم شاه.
وفيها : وقع ختم احياء علوم الدين بحضرة سيدي الوالد فأنشأ الشيخ عبد المعطي با كثير قصيدة وهي:
يا سيد السادات يا ابن المصطفى ... يا نسل حيدر يا عظيم الشان
يا قطب يا غوث الورى يا من حوى ... بالعلم والتقوى أعز مكان
با شيخ يا ابن العيدروس ومن سما ... ذاتاً وأوصافاً بكل زمان
يا خادم العلم الشريف بقلبه ... ولسانه وبسائر الأركان
أكملت أحياء العلوم قراءة ... بالبحث والتصحيح والاتقان
ابديت فيه فوائد وفرائداً ... بفصيح نطق مع صحيح بيان
ابرزت دراً من مكامن وضعه ... كعرائس تجلى على الآذان
قررت كل دقيقة وجليلة ... بعبارة عذبت بحسن بيان
فكأن حضرتك العلية جنة ... فقطوف أثمار الفوائد دان
أو روضة قد أينعت أزهارها ... أو مظهر المعروف والاحسان
وكأن ذاتك إذا جلست بمجلس ... التدريس تلقي الدرس كالسلطان
من حولك الأشراف يمنة يسرة ... خير البرية من بني عدنان
من آل باعلوي أعلام الهدى ... أهل التقى والدين والقرآن
متمسكين بسنة وجماعة ... متزينين بزينة الايمان
هذا هو الفخر المنيف إذا تعد ... مفاخراً بالدين للإنسان
بالعلم والنسب الشريف وبالتقى ... والسعي دأباً في رضا الرحمن
فتهن يا ابن العيدروس بختمك ... الأحياء تماماً في أقل أوان
ختم عليه من المهابة رونق ... زينته بجمالك الفتان
لا زلت في درس العلوم مواصلاً ... ختماً لدرس بابتداء ثاني
وأسلم ودم في عزة ومكانة ... في ذروة العليا بكل زمان
وعليك من رب الأنام تحية ... ما غردت ورق على الأغصان
سنة إحدى وثمانين بعد التسعمائة
وفي سنة إحدى وثمانين. فقد مركب سيدي الشيخ الوالد المسمى بالعيدروسي وهو مسافر من الشحر إلى الديو، وكان فيه جماعة من الأشراف وغيرهم فحصلت لهم الشهادة.
وفيها : قدم الإمام العلامة أبو بكر ابن الإمام برهان الدين إبراهيم مطير بندر المخا. فكتب إليه الشريف الفاضل الولي العارف بالله تعالى السيد حاتم ابن أحمد الأهدل هذا السؤال. وهو :
يا من له في النحو فهم ثاقب ... ودراية في الشعر من بين الملا
اوضح بفضلك لي جواباً ضافياً ... عن بيت شعر شكله قد أشكلا
البيت هذا من قصيد قاله ... عبد الرحيم فصح لنظم قد حلا
ذكر المعاهد والزمان الأولا ... فبكي لأيام العذيب وأعولا
وبدا له برق بابرق رامة ... وهنا فبات من الجوى متململا
نامت عيون العالمين فلم ينم ... وسلت قلوب العاشقين وما سلا
إن كان فارقه الفريق فروحه ... معهم تسير مع الهوادج في الفلا
هل أن تراها في الأخير بكسرة ... أو فتحه حقق هديت تفضلا
فأجاب:
إن الكلام بكسرة شرطية ... والفآء جواباً جآء بعد مفصلا
ويريد ان هم فارقوه فروحه ... معهم ملازمة تساير في الفلا
والفتح لم يظهر له معنى وأن ... قلنا به جآء الجواب معطلا
ولقد أجاد الشاعر المنطق في ... لفظ بديع مع فصاحته حلا
حالت بلاغته القريظ فخلته ... وشياً على الحسنا يفوق على الحلا
لا زالت الألفاظ طوع مراده ... وفوأده بالدر صار مكملا
ثم الصلاة على النبي وآله ... وصحابة والتابعين على الولا(1/174)
وفيها : جاء السلطان أكبر إلى كجرات وذلك أنه بعد أن أخذها ترك فيها بعض الوزراء ورجع فحاول من بقي من أمراء كجرات أن يستنزعوها من يد ذلك الوزير وحاصروه بجموع عديدة، وكادوا أن يظهروا عليه فلما سمع السلطان بهذا الخبر دهمهم بجنود كثيرة، ووصل إليها في مدة قليلة، وحاربهم أشد المحاربة حتى قتلهم عن آخرهم.
وفيها : وقع باحمد اباد ريح عاصف عظيم مع غبار كثير حتى أظلمت الأرض وعقبة رعد وبرق وقليل مطر.
سنة اثنين وثمانين بعد التسعمائة
وفي سنة اثنين وثمانين توفي : الفقيه العالم العلامة المتبحر سراج الدين عمر بن عبد الوهاب الناشري رحمه الله تعالى بمدينة زبيد، وكان سئل عما يعتاده أهل زبيد من العيد الذي في أول خميس من رجب هل له أصل، وهل هو سنة أم لا ؟ فأجاب بهذه الأبيات :
وسائل سأل عن قوم وعادتهم ... عيد الخميس الذي في مبتدا رجب
أسنة هو أو لا ؟ أوضحوه لنا ... وما لتمييز هذا اليوم من سبب؟
فقلت ذا مبدأ الإسلام في يمن ... عيد الخميس الذي في مبتدأ رجب
أتى معاذ بأمر الله فيه لنا ... بالاتباع إلى منهاج خير نبي
فصار ذلك عيد عندنا فلذ ... نخصه بمزيد الحب في القرب
ولا نقول بتخصيص الصيام له ... ولا صلاة ولا شيء من القرب
نعم لنا فيه تخصيص المحبة إذ ... كان النجاة لنا فيه من العطب
فصار اقباله فيه القبول على ... قوابل القابلين الأكل عن ارب
ثم الصلاة مع التسليم لا برحا ... على محمد خير العجم والعرب
والآل والصحب ثم التابعين لهم ... ما انهل مزن على الأشجار والكتب
وفيها : توفي الشيخ الفاضل عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي المكي بمكة، وكان مولده في شهر ربيع الأول من عام عشرين وتسعمائة، وله تصانيف مفيدة منها: شرحان على البداية للغزالي احدهما أكبر من الآخر، ومصنافاته كثيرة لا تنحصر، ورأيت منها جملة عديدة في فنون شتى. ولعمري أنه يشبه الجلال السيوطي في كثرتها بحيث أنه يكتب على كل مسئلة رسالة مع أن عبارته ما هي بذاك رحمه الله، وسئل عن حكمة ما يقع أيام الموسم من حدوت الهم والتشاغل لمن لا عيال له ولا دين يثقله ويهمه. فقال : إن السر في ذلك والله أعلم هو اشتغال أكثر الناس واهتمامهم بمعاشهم ونحوه فيسري ذلك منهم ولغيرهم كما جآء في الحديث " المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه شكى البعض الآخر " ومن شعره:
إذا كان رفضي في محبة حيدر ... وبنيه قاطبة فاني رافض
حسبي اقتدائي بالإمام مقلدي ... الشافعي بحر العلوم الخائض
ومنه في القهوة
اشرب القهوة صرفاً ... تجد الصفو مزاجاً
واذكر الله عليها ... تشهد الأنس سراجا
ومنه تاريخ بيت بناه الشريف أبو نمى سلطان مكة:
إن بيتاً بناه خير مليك ... أسس المجد كفه وأشاده
فاق في وصفه وحسن بداه ... كل قصر به العلا والسيادة
جاء تاريخ وصفه في نصيف ... أنا بيت الملوك دار السعادة
وكان الفقيه الصالح محمد بن عبد الرحيم با جابر رحمه الله قد اجتمع به بمكة سنة سبعين وتسعمائة وأنشده هذين البيتين من لفظه وذكر أنمهما لجده:
بادر إلى طلب العلم العزيز وان ... ضاقت ولم تصف أقوات وأوقات
ولا تؤخر لصفو ورجا سعة ... فهم يقولون للتأخير آفات
وفيها : توفي العلامة المتفنن القاضي عيسى الهندي باحمد اباد، وكان من أعيان العلماء المشهورين وأوحد المشايخ المدرسين، وله تصانيف نافعة رحمه الله.
وفيها : توفي سلطان الروم السلطان سليم ابن السلطان سليمان وللأديب ماميه الانقشاري في تاريخ موته:
فارق الملك سليم المجتبى ... وغدا ضيفاً على باب الكريم
وغدا في الشهداء تاريخه ... رحمه الله على حي سليم(1/175)
وقد وضع لوفاته أيضاً بعضهم تاريخاً مطابقاً إلا أن فيه تجاوزاً من حيث الكتابة، ومن حيث اللفظ أيضاً وهو " مضا سليماً " قال بعض أصحابنا وهذا لا بأس به ولو كان ملحوناً فالعلم حاصل. ولماميه الانقشاري تاريخ ابتداء سلطنة سليم نصيف هو " تولى سليم الملك بعد سليمان " وتولى بعده ولده السلطان مراد. ولنامية الانقشاري في تاريخ ذلك:
بالبخت فوق التخت أصبح جالساً ... ملك به رحم الآله عباده
وبه سرير الملك سر فارخوا ... حاز الزمان من السرور مراده
ولبعضهم أيضاً في مثل ذلك بيتين:
يا سائلي تاريخ من ... ولي الخلافة والحرم
فاسمعه مني أنه ... هذا المراد لقد حكم
ومولده هذا مراد في سنة إحدى وخمسين وتسعمائة فافهم بعض المؤرخين إن مراداً هذا من الصالحين لكون تاريخ مولده يجمعه عدد حروف الذكر لقوله تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون " وتوفي السلطان مراد رحمه الله ثاني جمادى الأولى سنة ثلاث بعد الألف وتولي بعده السلطان محمد وهو السلطان اليوم.
وفيها: عمر الوزير درويش باشا حماماً عظيماً فعمل الأديب البارع مامية الانقشاري لذلك تاريخاً لطيفاً وهو " حمام رفع الحدث " ثم نظمه في أبيات وهي:
في دولت السلطان عدلا مراد ... من حكمه شرقاً وغرباً مكث
درويش باشا شاد حمامه ... ومن قديم مثله ما حدث
يروي الشفا من مائه والهوى ... كأن روح الله فيه نفث
فاجزم على الغسل به كي ترى ... تاريخه " حمام رفع الحدث "
وفيها : أيضاً عمر الوزير المذكور جامع دمشق المحروس فجعل له مامية الانقشاري أيضاً تاريخاً وضمنه في هذه الأبيات:
في دولة السلطان بالعدل مراد ... من قام بالفرض واجباً والسنة
درويش باشا قد أقام معبدا ... ولك له أجر به ومنة
بناه خير جامع تاريخه ... " لله فاسجد واقترب بجنة "
سنة ثلاث وثمانين بعد التسعمائة
وفي المحرم سنة ثلاث وثمانين : طلب السلطان عبد الله بن بدر الكثيري الفقيه الصالح العلامة محمد بن عبد الرحيم باجابر من بلدة بروم إلى الشحر ليوليه تدريس مدرسة أبيه السلطان بدر بها والزمه بذلك ففعل، وانتفع بتدريسه الأنام واستناؤت بذلك وجوه الليالي والأيام. وما أحسن ما قاله السيد الشريف الفاضل وجيه اليدن عبد الرحمن بن أحمد البيض باعلوي رحمه الله في ذلك:
شمس الهدى طلعت وغاب رقبها ... ونجوم نحس الجهل آن مغيبها
بظهور مولانا ومالك غعصرنا ... نجل الخلافة فحلها ونجيبها
مولى ملوك الأرض غير مدافع ... ومدافع لبعيدها وقريبها
عبد الله السلطان منصور اللواء ... مردي العداة بكفه تعذيبها
لما أتى للشحر يصلح أمرها ... وجميع داعية الفساد يذيبها
ودعى امام العصر فرد زمانه ... شيخ العلوم فقيهها وأديبها
أعني الفقيه محمد بن مزاحم ... من زاحم العلماء وحاز نصيبها
العالم الحبر المبرز في العلا ... سباق غايات الكرام خطيبها
جاد الزمان به علينا فاغتدت ... أيامه معلومة من طيبها
غفرت ذنوبك يا زمان جميعها ... إذ قد برزت إلى القلوب حبيبها
إن كنت ترغب في العلوم ونقلها ... بادر إليه وسله في تهذيبها
فعلى الخبير بها سقطت فسله عن ... ما شئت من عزيزها وغريبها
فالله يبقيه ويصلح شأنه ... وجميع اعداده اللئام يصيبها
وفيها : في شعبان فرغ والدي رحمه الله من كتابه الفوز والبشرى في الدنيا والأخرى شرح العقيدة الزهرى : وهذا الكتاب من محاسن الدهر لم يسبق إلى مثله فيها علمت، ولما سمعت لعض العلماء الصلحاء قال: كنت أدور الأشياء من جهة المعتقدات فما شفانا شيء مثله فيها لا من كتب الغزالي ولا اليافعي.
سنة أربع وثمانين بعد التسعمائة(1/176)
وفي شهر ذي الحجة سنة أربع وثمانين : توفي الشيخ العلامة المفنن عبد الله بن سعد الدين المدني السندي بمكة رحمه الله تعالى، وكان من كبار العلماء البارعين وأعيان الأئمة المتبحرين، وله جملة مصنفات منها حاشية على العوارف للسهرودي.
وفيها : توفي العالم الصالح الشريف عبد الله الشهير بالنحوي ابن عبد الرحمن ابن هارون باعلوي بتريم. ومن كراماته أنه كان في يوم من الأيام جالساً وعنده أخي السيد عبد الله فقال له : يا عبد الله أن معي خاطراً أن فلاناً أيفعل كذا وكذا، وذكر شيئاً من الأفعال المذمومة التي لا يبيحها الشرع وقعد معي أياماً، وهو من المتعلقين بنا وتجب له منا النصيحة فطلبه إلى عنده وكلمه فاعترف بذلك، وتاب من وقته وحسنت توبته، ثم أن الشريف بقي يلوم نفسه على ذلك، ويقول أخاف أن يكون هذا من الاستدراج.
وفيها: في ليلة السبت عشر رجب : توفي الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد وهو أخو الشيخ العلامة أحمد العمودي الذي تقدم ذكره وهما أبناء الشيخ الكبير العلامة الشهير الفقيه عثمان بن محمد العمودي. نفع الله بهم الحضرمي باحمد أباد، وكان حسن الخلاق كريم النفس كثير التواضع محبوباً عند الناس ذا وجاهة عظيمة وقبول عند الخاص والعام رحمه الله تعالى.
وفيها في يوم الاثنين ثالث شوال : توفي العبد الصالح سيدي سعيد سلطاني الحبشي لاحمد اباد، وكان حنفي المذهب. وكان يتعصب للأمام أبي حنيفة حتى أنه ربما حمله ذل على تنقص الإمام الشافعي، وكان فقيهاً مشاركاً في كثير من العلوم، وكان يحفظ القرآن العظيم، وكان كثير العبادة، وكان يختم في رمضان خمس ختمات، وكان أمراء الجيوش يحترمونه أشد الاحترام ويعاملونه بالاجلال والاكرام، وكانوا جعلوا له معلوماً يوازي خمسة عشر ألف ذهب، وكان محسناً محباً لأهل العلم، ولما حج قرأ على الشيخ ابن حجر الهيتمي، وكان له رغبة في تحصيل الكتب حتى اني سمعت انه كان يصدر لشرائها إلى مصر المحروسة، وابنتي باحمد اباد مسجداً جيدة العمارة إلى غير ذلك من أفعال الخير إلا انه كان في كبر والكمال لله رحمه الله وايانا وقبره بمسجده، ثم قبر إلى جنبه شيخنا الشيخ عبد المعطي باكثير.
وفيها: كانت وفاة السلطان عبد الله بن بدر، وفيها كان اتمام الحرم المكي في ايام السلطان مراد، وكان ابتدأ في عمارته ابوه السلطان سليم فجاء تاريخه " عمر الحرم سلطان مراد " وفيها: عمر القاسم الدابولي مسجداً في بندر المخا، وجعل جامعاً للحنفية فقال: السيد حاتم مؤرخاً لذلك في بيتين. وهما:
مسجد في جمال ... فيه انوار بهية
وافق التاريخ منه ... مستقر الحنفية
سنة خمس وثمانين بعد التسعمائة
وفي سنة خمس وثمانين: طلع نجم ذو ذوأبة كهيئة الذنب طويلة جداً له شعاع ومكث كذلك يطلع نحو شهرين وأكثر.
وفيها: كان ختم صحيح البخاري بحضرة سيدي الوالد وانشا الشيخ عبد المعطي في ذلك قصيدة طنانة. وهي:
حديث غرامي مسند ومسلسل ... ومطلق دمعي فوق خدي مرسل
وعشقي صحيح والعواذل قولهم ... ضعيف وتروك هباً متقول
وما حسن إلا الأحاديث عنكم ... وأما حديث عن سواكم فمعضل
أحبتنا طبتم فطاب حديثكم ... وطاب سماعي عنكم حين ينقل
خلعت عذاري في هواكم أحبتي ... وقد لذ لي فيه العنا والتذلل
ولي بين سفحي لعلع وطويلع ... فؤاد كثيب مستهام معلل
مقيم على شط المزاز كأنه ... أسير بهايتك العراص موكل
هواه بنجد بل ببطاء مكة ... وجئته بالهند كيف التحول
فيها عرباً بالمنحنى عز جارهم ... فجارهم في ذروة العز يحمل
ويا جيرة البيت العتيق ومن لهم ... حطيم وأستار وركن مقبل
مقام عليه للخيل مآثر ... وملتزم فيه الدعاء متقبل
وزمزم والحجر المشيد والصفا ... ومروة والمسعى فنسعى ونرمل
معاهد فيها للنبي تردد ... مهابط فيها للأمير تنزل(1/177)
عسى عودة يا جيرة الحي عاجلا ... فنرفل في ثوب السرور ونحجل
ونلقي عصى التسيار من بعد بعدنا ... فأم القرى فيها المقام مؤمل
الهي فجد للغائبين باوبة ... يكون لنا فيها الشفاء معجل
الهي وسيلتنا إليك نبينا ... نبي الهدى المدثر المزمل
محمد المبعوث من آل هشام ... بشير نذير للخلائق مرسل
وعترته الاشراف من انحجبت بهم ... لحيدرة الزهراء سر مسلسل
أخصص منهم آل علوي من لهم ... فضائل منها مجمل ومفضل
فمجملها للمصطفىخير نسبة ... وتفصيلها زهد صلاح توكل
ومن بعض ما خصوا به أن عقدهم ... عن السنة الغراء لا يتحول
مقدمهم بحر الحقائق سيد ... كذا نجله علوي قطب مدلل
كذا الفخر والسقاف قطبا ولاية ... فسرهما للعيدروس مكمل
وشيخ ابن عبد الله شيخي وقد وتي ... له باكتساب العلم مجد مؤثل
امام عضيم بالمهابة مرتد ... همام كريم بالوقار مسربل
هو البحر في علم الحقيقة زاخر ... هو الحبر في علم الشريعة فيصل
فيا شيخ يا ابن العيدروس ومن له ... على هامة الجوزاء مقام ومنزل
سمعت أحاديث البخاري مسند ... بمجلسك العالي وأنت المبجل
حديث نبي الله جدك أحمد ... وسيرته قول وفعل مفصل
منتقحه جمع البخاري من له ... لصحة تحرير الحديث توصل
أصلح كتاب في الحديث لأنه ... منقح من حديث الرواة مغربل
مشايخه عن شرطه ليس يخرجوا ... جهابدة عدل عن العدل ينقل
وزينة قاريء فصيح مهذب ... له مقول عذب الأداة مرتل
فيا عيدروس الخير يا أوحد الورى ... ويا ايهذا السيد المتنفل
ويا غوث الأنام وغيثهم ... إذا ما تخط العارض المتهلل
ويا من غوادي علمه ونواله ... ومعروفة تهمى علينا وتهطل
تهن بختم ثم ينهاك مبدأ ... كعادتك الحسنى تحل وترحل
صحيح البخاري والفاء كلاهما ... لدين الهدى أمن وصل ومعقل
فلا زلت يا ابن العيدروس تفيدنا ... علوماً وأحكاماً وتعطي وتجذل
تفيد العلوم السرع حيناً وآوناً ... تثبت علوم القوم فينا وتبذل
وترشد ضلالا وترفد معدماً ... ففي الدين والدنيا عليك المعول
فعش وأبق وأسلم في ذرى المجد راقياً ... بعلم ومعروف تقول وتفعل
وأزكى صلاة مع سلام معطر ... يفوح برياه جنوب وشمأل
على المصطفي من شرف الله قدره ... ومن جاءه وحي من الله منزل
وعترته مع آله وأصحابه ... وتابعهم ما جاد غيث مجلل
وفيها: توفي الرجل الصالح ميان عبد الصمد الهندي، وكان من الأخيار محسناً متواضعاً عالماً فاضلاً، وحكي انه كان إذا لم يكن على طهارة وثم أحد ممن اسمه نبي لم يتلفظ باسمه تعظيماً واحتراماً لذلك الاسم الشريف رحمه الله تعالى آمين. قلت: وفي كتاب المدخل لابن الحاج المالكي رمه الله قال: وقد ورد في الحديث عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أهل بيت في اسم إلا بعث تبارك وتعالى ملكاً يقدسها بالغداة والعشي انتهى.
سنة ست وثمانين بعد التسعمائة(1/178)
وفي سادس شوال سنة ست وثمانين: استشهد الرجل الصالح العلامة جمال الدين محمد بن طاهر الملقب بملك المحدثين الهندي رحمه الله آمين على يدي المبتدعة من فرقتي الرافضة السبابة والمهدوية القاتلة. وسبب ذلك انه كان ينافرهم ويناظرهم ويريدون يرجعون إلى الحق ويتركون ما هو عليه من الضلالة والزندقة، وكان هذا دأبه ابداً، وجرى له معهم وقائع كثيرة وقهرهم في مجالس عديدة واظهر فضائحهم وكشف خز عبلاتهم ودمغهم وادحض حجتهم وابطلها وبالغ في الرد عليهم والتحذير منهم، حتى قال بكفرهم وجزم بخروجهم من الدين والمنهج القويم وضلالهم من الصراط المستقيم، واراد اعدام هذا المذهب القبيح راساً وسعى في ذلك سعياً بليغاً، واراد التوصل إلى سلطان الزمان لذلك فاحتالوا عليه حتى قتلوه قبل ان يصل إلى ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمزية في الرؤيا التي رآها الشيخ علي المتقي السابقة وناهيك بها من منقبة عليه، وكان على قدم من الصلاح والورع والتبحر في العلم، وكانت ولادته سنة ثلاث عشر وتسعمائة، وحفظ القرآن وهو لم يبلغ الحنث، وجد في طلب العلم ومكث كذلك نحو خمس عشر سنة، وبرع في فنون عديدة وفاق الاقران حتى لم يعلم أن أحداً من علماء كجرات بلغ مبلغه في فن الحديث. كذا قاله بعض مشايخنا، وله تصانيف نافعة منها جمع بحار الانوار في غرائب التنزيل ولطائف الاخبار، وشيوخه كثيرون. ولما حج أخذ عن الشيخ حسن البكري، الشيخ ابن حجر الهيتمي والشيخ علي بن عراق، والشيخ علي المتقي الهندي المكي، والشيخ جار الله بن فهد، وأخذ عن جدي السيد عبد الله العيدروس في التصوف بعدن، وورث من أبيه ما لا جزيلا فانفقه على طلبة العلم الشريف، وكان يرسل فيقول له: كيف حالك. فأن كان غنياً يقول له: تعلم، وأن كان فقيهراً يقول له: تعلم ولا تتهم من جهة معاشك أنا أتعهد أمرك وجميع عيالك على قدر كفايته فكن فارغ البال، وأجتهد فيلا تحصيل العلم، فكان يفعل ذلك بجميع من ياتيه من الضعفآء والفقراء ويعطيهم قدر ما وظفه لهم حتى صار منهم جماعة كثيرة علماء ذووا فنون كثيرة فانفق جميع ماله في ذلك، وحكي أنه في أيام تحصيله قاسى من الطلبة وغيرهم شدائد فنذر أن رزقه الله علماً ليقومن بنشره أبتغاء لمرضات الله فلما تم له ذلك فعل ذلك، وقام به أحتساباً لله فانتتفع بتدريسه عوالم لا تحصى رحمه الله وأعاد إلينا من بركاته أمينز
سنة سبع وثمانين بعد التسعمائة
وفي سنة سبع وثمانين: توفي الشيخ الولي الصالح الشريف عمر بن عبد الله بن عمر الهندوان باعلوي بتريم. وسبب شهرته بذلك أنه كان فيه قوة لقوته في دينه وبدنهشبيباص بالحديد الهندوان. ومن كراماته أنه خبر أخي السيد عبد الله عن شيء يقع من بعض الناس وقل وقوعه، وذلك الشخص بعينه فكان كلما قال بعد موته بيسير.
وفيها: مات السلطان حيدره بن حنش صاحب أحور، وفيها: توفي الشيخ الفاضل الصالح نور الدين علي بن صبر اليافعي الشافعي، وحكي انه كانم قصد الوزير الفخان آخر الايام إلى قوارير، وكان عند الوزير المذكور جماعة من الاشراف آل باعلوي وغيرهم. فلما راوا أقبال الوزير المذكور المكرر عليه حسدوه وتكلموا فيه عنده حتى أعرض عنه. فرأى بعض اولئك الاشراف جده القطب الفقيه محمد بن علي نفع الله به وهو بعاتبه من أجله ويقول له: أن خذا الرجل يحبنا وأنت تتكلم عليه، وأنحو بذلك.
سنة ثمان وثمانين بعد التسعمائة
وفي سنة ثمان وثمانين: أجريت العين إلى مكة المشرفة، وكان قد سعى في ذلك الشريف أبو نمى والقاضي حسين شكر الله سعيهما وجزاهما عن المسلمين خيراً، وبذلا في ذلك مالا جزيلا، وسبب ذلك ان عين مكة كانت أنقطعت عنهم ومكثوا كذلك مدة من الزمان وتضرر أهلها بسبب ذلك جداًن وكان الرمل هو الذي سد مجرى المآء إليها فتوجه الشريف القاضي إلى أصلاحها حتى عادت أحسن ممن كانت. وما احسن قول بعض الفضلاء في ذلك مادحاً للقاضي حسين رحمه الله تعالى:
أقضى القضاة الحسين أغنى ... سكان أم القرى بعينه
وجآء بالعين بعد يأس ... فشكره وأجب لعينه
وفيها: توفي علي عادل شاه سلطان بيجا فرر قتله بعض الحضيان من عبيده لامرما(1/179)
وفيها: قرأ القرىن العظيم على ظهر القلب راجا علي خان سلطان برهان فور، وهو يومئذ سلطان وفي سن الكهولة، وجعل تاريخ ذلك العام الشيخ عبد اللطيف الدبير " حفظ " .
سنة تسع وثمانين بعد التسعمائة
وفي ليلة الثلاثاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة تسع وثمانين: توفي الشيخ الفاضل المحدث المعمر عبد المعطي ابن الشيخ حسن ابن الشيخ عبد الله با كثير المكي ثم الحضرمي بأحمد اباد، وكان مولده في رجب سنة خمس وتسعمائة، وكان من الادباء الفاضلين، والشعراء المصقعين، ولد بمكة ونشأ بها ولقي جماعة من العلماء الفاضلين، وشارك في النقول والمعقول، وتفنن في كثير من العلوم. دخل الهند آخراً وأقام بها، وكان حسن المحاضرة لطيف المحاورة فكهاً له ملح موادر، ولم يزل على قدم الصلاح والتعفف إلى أن مات، وحكي عنه أنه قرأ كتاب الشفاء على بعض مشايخه في مجلس واحد وذلك بعد صلاة الصبح إلى أول الظهر، من شيوخه : شيخ الإسلام زكريا الأنصاري لأنه سمع عليه صحيح البخاري بقراءة والده فهو يرويه عنه سماعاً كما في اصطلاح أهل الحديث، والشيخ زكريا يرويه عن شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني. ولهذا اشتهر صاحب الترجمة في زمثة بالسند العالي وتميز عن أقرانه بذلك فازدحم الناس على الأخذ منه وصار له من الحظ بسبب ذلك ملا يزيد عليه، وسمعت عليه مجالس من صحيح البخاري وأنا صغير وتلفظ لي حينئذ بالإجازة، وكان والدي طلب منه أن يجعلها في ارجوزة حتى يضيفها إلى جنب قصائده فلم يقدر الله ذلك. ومن تصانيفه : كتاب أسماء رجال البخاري. ويذكر فيه كل من اشتمل عليه الكتاب المذكور من شيخ البخاري إلى الصحابي راوي الحديث، ولم يتمه والقدر الذي كتبه منه نحو مجلد ضخم والظاهر أنه لو تم يكون في مجلدين وهو مفيد في بابه جداً ومن شعره:
ضاق ذرعي مما ألاقي يا الهي ... وإليك الشكوى من اللاؤه
يا عليماً بما يجن فؤادي ... يا رجائي في شدتي ورخاء
يا بديع السماء يا مالك الملك ... ويا ذا الجلال والآلاء
يا لطيفاً بخلقه ورحيماً ... بالبرايا سا سابغ النعماء
لك ملك السماء والأرض و ... الخلق ولك الأمر يا سميع الدعاء
فأقل عثرتي الهي ويسر ... كل عسر يا أرحم الرحماء
وانلني ما ارتجيه ووسع ... لي رزقي براحة وهناء
ونه مضمناً للبيت الثاني
يا رب يا من عليه مستندي ... ومن على فضله العميم معتمدي
" خذ بيدي قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام خذ بيدي "
فامنن آلهي في سمعي وفي بصري ... بصحة دائماًوفي جسدي
وما بقى لي من الحياة يكن ... في دعة سيدي وفي رغد
ومنه مضمناً قواعد الإسلام الخمس التي جاء الحديث. إن الإسلام بنى عليها:
هنيئاً لمن صح اسلامه ... ونال من الدين أوفى نصيب
أقام الصلاة الصلاة وآتى الزكاة ... وصام وحج وزار الحبيب
ومنه
فرج هموم من أستطعت ... من منجد أو متهم
فالخير كل الخير في ... تفريج ؟هم المسلم
ومنه
يا مالك يا فتاح يا رزاق ... يا من تكفل الخلق بالارزاق
فرج علينا الهي كل أمر ضاق ... وأمنن برزق وسيع فايض دفاق
قال وقد جربتهما فوجتدتهما للفرج بعد الشدة مفيدة.
ومنه في الاثنى عشر الأئمة
بالمصطفى وعلي التبول ... وبالبسطين ثم علي والباقر العلم
جعفرو موسى علي وجواد كذا ... علي الحسن وكذا المهدي ذي الشيم
ومنه
يا آل بيت رسول الله حبكم ... فرض وفضلكم قد شاع في الأمم
يا آل بيت رسول الله مدحكم ... في الذكر جاء فما مدحي وما كلم؟
ومنه
وميمات الدواة تعد سبعاً ... وسبعاً عندهن بلا خطاء
مداد ثم محبرة مقص ... ومرملة ومصمغة الغراء
ومكشطة وملقمة قط ... ومصلقة ومموهة لماء(1/180)
ومحراك ومسطرة مسن ... وممسحة لختم وانتهاء
ومنه
الورد سلطان الزهور ... وما سواه الحاشيه
فللونه المحمر ينسب ... حسن خد الغانيه
تضوع نشره ... يهدي إليك الغاليه
ومنه
وإذا أقبل الربيع ووفا ... ورده الغض ليت ذاك نصيبي
فحدود الملاح تعزي إليه ... وشذاه أربي على كل طيب
ومنه لغز في صالح
وصال حبي ربي فقد لرؤيته ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها
ومنه أيضاً في رمضان
أنا صاد وروائي ... من لما صافي البديد
صحفوني وأطرحوني ... بين رمان النهود
ومنه أيضاً في شمعة
وممشوقة هيفاء لدن قوامها ... من البيض تزري بالمسقفة السمر
إذا أصبحت أمست تحد سنانها ... تفتق درع الليل من طلعة البدر
فضؤ سناها قد محى أية الدجى ... فصار نهاراً أبيضاً ساطع الفجر
تمد لساناً طائلاً غير ناطق ... ومن غير أجفان مدامعها تجري
وجلبابها تحكي لجيناً بياضه ... وأحشاؤها زرت على لهب الجمر
إذا جمعت تسمع بتصحيفه ... ولات حين مناص جاء في محكم الذكر
فدونك لغزاً واضحاً قد شرحته ... وبينته لكن بنوع من الستر
ومن أيضاً في رمضان
أي اسم إذا خلا القلب منه ... صار يا صاح قلبه ملآنا
في رمضان الصبا تجده فحده ... بعد تصحيفه ولا تتوانا
ومضى قلبه بلا طرفيه ... وأن لهم بالتصحيف تلق امانا
أن تصحف جمعاً فغير مصون ... ومصان أن زال حرفا وبانا
رمت تصحيفه خلا جميعه ... فغدا واضحاً بياناً عياناً
ومنه في القهوة
أهلا بصافي قهوة كالاثمد ... جليت فزانت بالخمار الأسود
لما أديرت في كؤوس لجينها ... بيمني ساق كالقضيب الأملد
يحكي بياض أنائها وسوادها ... طرفاً كحيلاً لا بكحل المرود
ومنه
يقولون لي جاء الشتا ببرده ... بماذا تلاقيه وأنت عليل؟
فقلت لهم هذا الفخان ماجد ... وجود يديه بالدفا كفيل
ومنه مؤرخاً لأخذ جنكيز خان أحمد اباد:
لا تعجبوا لنصر جنكيز ... خان في عزته
نصر من الله له ... والسعد في غرته
وقد أتى تاريخه ... " النصر في طلعته "
ومنه هذه الأبيات وكتب بها الي والدي وطلب منه جارية والتزم أن يكون في آخر بيت منها هذه الكلمة، وكل منها معنى:
يا سيداً نعمته ... فوق الدراري الجارية
وجود كفيه غدا ... مثل الرياح الجارية
تدوم في عزك ... ما جرت ببحر جاريه
فكلما تريده ... الأقدار فيه جارية
انجز لعبد سيدي ... وعد رجوع الجاريه
هباتكم مبرورة ... من الزمان جاريه
وسيل هامي فضلكم ... كماء عين جاريه
ولطفكم بعبدكم ... كف الدموع الجاريه
وله قصيدة عظيمة في أسماء مشايخ طبقات الشرجي نفعنا الله بهم كان اقترحها عليه والدي رحمهما الله، وله جملة قصائد في مدح والدي تكون قدر عشرة كراريس على القطع الكامل، وهي مدونة. من جملتها ثلاث قصائد تتعلق بي احدها تهنئة بولادتي، وثانيهما بعافيتي لأني مرضت وأنا صغير مرضاً اشرفت فيه على الهلاك ثم عافاني الله تعالى منه وله الحمد ففرح الوالد بذلك فرحاً كثيراً وعمل ضيافة عظيمة لذلك، وثالثها أيضاً كان اقترحها عليه الوالد فيما أظن، ومنها هذه القصيدة الفريدة وقد أجاد فيها كل الاجادة ولله دره ولحسنها أتيت بها بكمالها فإنها مما تشهد له بالفضل العظيم والفصاحه الكاملة وهي:
قم يا نديم الصباح قد انفلق ... ومحى بآية نوره ظلم الغسق
قرب صبوحك فالزمان مساعد ... وادر مروقه حكت لون الشفق(1/181)
قامت سقاه كؤوسها في حضرة ... والمسك والكافور فيها قد عبق
قمر يدير الشمس في كاساته ... وبثغره مثل المدامة بل أرق
قد يحاكي السمهري ومقلة ... كالسيف واللحظ السهام إذا رشق
قوس الحواجب موتر بقتالنا ... ولذا قلوب العاشقين غدت درق
قلق الوشاح بحصره وتراه قد ... صمتت خلاله ودملجة نطق
قرت نواظر عاشقيه بحبه ... لكن من الصد المبرح في أرق
قرأ المحب على صحيفة خده ... هذا لعمر الله أحسن من خلق
قد كنت همت بحسنه وجماله ... إذ كان جفن شبيبتي فيه رمق
قضيت أيامي سداً وسبهللاً ... ترك الخلاعة والصبابة بي أحق
قد آن أن أثني العنان عن الهوى ... وأعود عنه عود عبد قد أبق
قدم المشيب فكان أبلغ زاجر ... ومضى الشباب كأنه طيف طرق
قصرت خطاي عن التخطي للخطا ... ولخدمة ابن العيدروس مشت عنق
قمر الهدى شيخ ابن عبد الله نجل ... العيدروس المجتبى شيخ الفرق
قطب الزمان وغوثه وصلاحه ... كل على هذا المقال قد اتفق
قداح زند الفضل وارث جده ... في العلم التقوى وفي النسب الأحق
قرأ العلوم وجد في طلب العلى ... حتى رقا أفق المعرف واتسق
قال لكل مذمة ونقيصة ... وإلى الكمال تراه أكرم من سبق
قل ما تشا في مدحه وصفاته ... فلأنت أولى أن يقال له صدق
قتل الحسود لما رأى في وجهه ... نور النبوة في أسارره برق
قد حاز من شرف النبوة نسبة ... في آل با علوي كالنور ائتلق
قوم لهم في كل فضل قسمة ... ولهم إلى شرف المعالي مستبق
قاموا بطاعة ربهم في سنة ... وجماعة لا يحلفون بمن فسق
قدمت مدحي فيك يا ابن المصطفى ... أنجو به في يوم يلجمني العرق
قصرت في تعداد وصفك إذ غدت ... أوصاف مدحك غاية لا تلتحق
قولي بمدحك ما عسى هو بالغ؟ ... وبمدحك القرآن حقاً قد نطق
ومن شعره ولده الفاضل أحمد بن عبد المعطي في القهوة:
لله محكم تجلى لنا ... في أبيض الصيني طاب شرابها
فكأنما هي مقلة مكحولة ... دخانها من فوقها أهدابها(1/182)
" فائدة " : تتعلق باحمد اباد تشتد الحاجة إليها في بعض الأحيان، ويتعين ذكرها هنا لأن جماعة ممن ذكر في هذا التاريخ ماتوا بها فتكرر ذكرها في هذا الكتاب بهذا السبب. وهي مدينة كبيرة مشهورة من مدن الهند قال السخاوي في ضوئه : أحمد اباد ومعنى اباد عمر وكأنه قال عمارة أحمد والذي اختطها أحمد بن محمد مظفر صاحب كجرات في سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، وتوفي قريباً من سبع وأربعين، فاستقر بعده في كجرات ابنه غياث الدين محمد فأقام إلى سنة أربع وخمسين فاستقر بعده ابنه قطب الدين أحمد، ومات في رجب سنة ثلاث وستين، فخلفه أخوه داود وخلع بعد أيام فاستقر بعده أخوه أبو الفتح محمود شاه وهو ابن خمسة عشر سنة واقامته باحمد التي اختطها جده وهو حي في سنة تسع وتسعين ابن خمسين سنة انتهى كلام السخاوي. قلت : وعاش بعد السخاوي أربعة عشر سنة وقد مر تاريخه، وتولى بعده ولده السلطان مظفر، وتولى بعده ولده السلطان اسكندر وقتل، ثم تولى بعده أخوه السلطان بهادر، وهو الذي بنا قلعة سرت على يد وزيره صفر الرومي، ثم تولى بعده ابن أخيه السلطان محمود وقد مر تاريخه أيضاً وسبب مقتله، ثم تولى بعده السلطان أحمد شاه ومات مقتولاً، ثم تولى بعده السلطان مظفر بن محمود الشهيد، وكانت الوزراء متغلبة عليهما جداً خصوصاً الأخير منهما فما كان له معهم من السلطنة إلا الاسم، والحل والعقد وجميع التصرفات للوزراء نظير ما وقع للخلفاء من بني العباس مع الأتراك حتى آل ذلك آخراً إلى تحاسدهم فيما بينهم واختلاف كلمتهم فأدى ذلك إلى انقراض ملكهك وزوال شوكتهم وانتقال الدولة عنهم إلى غيرهم فأخذ البلاد المغول على عهد السلطان مظفر، وقد مر تاريخ ذلك. ولا حول ولا قوة إلا بالله، فزالوا كأن يكونوا ولم يبق إلا أخبارهم الجميلة ومآثرهم الجليلة:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وحكى أن يحيى بن خالد البرمكي رحمه الله تعالى سمع رجلاً قائماً ينشد هذا البيت فأجابه أحد:
بلاد نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والحدوث العواثر
فسبحان من يقلب الأمور لا يتغير بتغير الدهور. وتعالى من لا يزول ملكه ولا يذهب سلطانه.
وفيها : توفي قطب شاه سلطان كلكتده، وكان عادلاً كريماً إلا أنه كان غالياً في التشيع رحمه الله.
وفيها : دخل سيدي الشيخ محمد العيدروس إلى الهند وفرح سيدي الوالد بوصوله جداً وأنشأ هذه القصيدة:
ألا يا مرحباً بالعيدروس ... جمال الدين محيي النفوس
محمد بن عبد الله جئتم ... إلينا مرحباً شمس الشموس
فأهلاً ألف سهلاً ألف مرحب ... ظفرتم زال عنكم كل بوس
كسيتم من جمال القدس وهباً ... وجللتم بمحول به فدوس
إلا فابشر وبشر كل حب ... ومحبوب بجائزة عروس
إلا فاشرب هنيئاً من سلاف ... بنور الله ديرت في الكؤوس
معتقة لنا من نور كرم ... شربناها على رغم القسوس
شراب القوم لا يدريه فدم ... ولا من يدعي نقل الدروس
قدومك حافظ للشمل فاجمع ... بنا يا ربنا تاج الرؤس
وعاف اغفر وسلم واعف واستر ... بخاتمة لنا من غير بوس
سنة تسعين بعد التسعمائة
وفي ليلة السبت لخمس وعشرين خلت من رمضان سنة تسعين: توفي الشيخ الكبير والعلم الشهير الشريف القطب العارف بالله شيخ بن عبد الله بن شيخ ابن الشيخ عبد الله العيدروس باحمد اباد، ودفن بها في صحن داره، وبني عليه قبة عظيمة. ومن أحسن تواريخ وفاته تاريخ صاحبنا الفقيه عبد الله بن أحمد بن فلاح الحضرمي وقد نظمه في بيتين فقال:
أرخت نقلة سيدي ... شمس الشموس العيدروس
فانظر تجد تاريخه ... " القطب هو شمس الشموس "(1/183)
ولفضلاء الآفاق فيه جملة مستكثرة من المراثي، ومن غريب الاتفاق أنه قبيل موته بنحو شهرين كان أمر بتحصيل رسالة مناقب الإمام النووي رحمه الله ثم أمر بمقابلتها بين يديه، وكان مؤلفها ذكر فيها جملة من المراثي التي قيلت في الإمام فقال: ذات يوم أن المراثي إذا قرأت لا بد أن أحد فاتفق أن مات بعد ذلك، ورثي بمراثي كثيرة حتى أني لم أر أحداً. فلهذا القدر مها سوى التي ذكرها في تلك الرسالة من مراثي الإمام النووي، وكان مولده سنة تسع عشرة وتسعمائة بتريم، وروي عن الشيخ الكبير الولي الشهير شهاب الدين أحمد بن الشيخ عبد الرحمن أنه كان يقول: عاد أهل حضرموت يودون فيه نظرة ويخص به أهل بلد بعيد من أهل المشرق، وكانت مدة أقامته بالهند اثنين وثلاثين سنة لأنه دخلها سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، وكان شيخنا كأسمه، وكما قال فيه بعض الصلحاء في وصفه: ولقد صار بحمد الله شيخ زمانه باتفاق عارفي وقته، وقد ألهم الله أهله حيث سموه شيخاً قبل أوانه ووقته وذلك لتحقق ورائثه من متبوعه كما ألهم الله آل النبي المصطفى لتسليمه محمدا قبل تجلي صفاته الحميدة صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الأسم الشريف يصدق فيه من أربع جيثات: أحدها أنه أسمه، وثانيها انه بلغ في السن حدثنا الشيخوخة، وثالثها انه شيخ أهل التصوف في زمانه، ورامها أنه شيخ طلبة العلم في العلوم الظاهرة. فهو شيخ أسماً ووصفاً على كل تقدير وبكل وجه وأعتبار، وما أحسن قول الديب عبد اللطيف الدبير حيث يقول فيه:
شيخ إلى سبيل الرشاد مسك ... وطريقه في العلم ما لا يجهل
شيخ بحسن أدائه وبيانه ... لظيم أشكال العويص يسهل
شيخ تبحر في العلوم فمن رأى ... بحراً يسوغ لوارديه المنهل
شيخ عليه من المهابة رونق ... كالبدر لكن وجهه يتهلل
شيخ له في الطالبين مسائل ... صوفة أن جئت عنها تسأل
شيخ تقدم في السلوك لأنه ... أن عد أربار الكرامة أول
العيدروس الحبر قدوة عصره ... ومن الشدائد مقصد ومؤمل
قطب الزمان وغوثه وغياثه ... من يرتجيه لا يضاع ويهمل
ابن العفيف أبو الشهاب المرتضى ... بحر الحقائق مرشد متفضل
عذب الموارد من أتاه وأوداً ... من فيضه دون القساوة يغسل
ما قيل هذا كامل في ذاته ... إلا وقلت الشيخ عندي أكمل
لا زال فيض كماله متواصلا ... ما دام شيخ في الطريقة موصل
وروي عن الشيخ الكبير والعلم الشهير القطب شمس الشموس أبي بكر ابن عبد الله العيدروس انه قال لأبيد السيد عبد الله بن شيخ وكان في خدمته هو ابن أخيه عند وفاته: تمن يا عبد الله؟ فقال: ما أريد إلا البركة والدعاء لي بذرية صالحة فبشره بذلك، وقال له: سيأتيك من الولد كذا وكذا وكذا وذكرهم بأسمائهم وعد من جملتهم سيدي الشيخ صاحب الترجمة ثم أثنى عليه، وأشار بالسر المصون إليه وقال له: أنه ولدي وصاحب سري وأم أمه بنت الشيخ علي ابن أبي بكر وحكي أن الشيخ رضي الله عنه كان إذا رأى السيد عبد الله بن شيخ وهو صغير يقول: أرجو أن يتزوج هذا الولد واحدة من بناتي أو بنات أولادي فتحصل له منهم ذرية صالحة. فلما عقد السيد عبد الله بزوجته السيدة فضل الله التي أمها بنت الشيخ علي حضر جماعة من الاعيان منهم والده شيخ وخالها الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ علي وغيره من إخوانه فقال الشيخ عبد الرحمن: أرجو من الله أن لكلام والدي نتيجة فأن كلام الصالحين ما يسقط. فقال له السيد شيخ هذا ثمرة تلك البشارة. قلت: وكان في أسمها ما يشعر بهذه الموهبة العظيمة التي سبقت في الازل للسيد عبد الله بالذرية الصالحة فظهر بفضل الله من بطن فضل الله هذا السيد الكريم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/184)
وروي عن الشيخ الكبير والعلم الشهير أبي بكر ابن سالم باعلوي انه كان يقول: ما احد من آل باعلوي اولهم وآخرهم اعطي مثله، وروي مثل ذلك عن الولي العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الشهيربالنحوي باعلوي وزاد: والله ما هو إلا آية اليوم فهو عديم النظير، ولما سمع كتابه الفوز والبشرى كان لا يمر بشيء منه إلا ويقول: كنت أدور لأشياء من جهة المعتقدات فما شفاني شيء مثله فيها لامن كتب الغزالي ولا اليافعي، وحكي من مجاهداته أنه كان يعتمر غالباً في رمضان أربع عمرات بالليل، وأربعاً بالنهار وناهيك بها منقبة ما أجلها. فقد ورد في الصحيح أن عمرة في رمضان كحجة، وفي رواية تقضي حجة أو حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلامة حميد وتيسير أربع بالليال وأربع بالنهار من الكرامات الخارقة، ولم ينتقل مثله عن أحد فيما اعلم من الأسلاف السابقين، وما أحسن قول الشيخ عبد المعطي بن حسن باكثير رحمه الله حيث يقول في أثناء بعض قصائده فيه:
قد عشت في أم القرى دهراً على ... تحصيل علم ثم درس قرآن
وعبادة وزهادة في خلوة ... متستراً على سائر الأخوان
وقيام ليل مع صيام جواهر ... متمسكاً بالبيت والأركان
وكتبت في الحجاج والعمار ... والزوار والعباد منذ زمان
متردداً من مكة الغرا إلى ... قبر النبي المصطفى العدنان
ما نلت يا ابن العيدروس ولاية ... ومواهباً في رتبة السلطان
إلا بلطف عناية وعبادة ... ومجاهدات في رضا الرحمن
ليس المعالي بالتماني يا فتى ... لو لا المشقة شاهدى وكفاني
أنت الولي ابن الولي ابن الولي ... إلى الوصي الطاهر الاردان
العيدروس أبوك والسقاف جدك ... والمقدم ثالث الرجلان
هذي المفاخران تعد مفاخرا ... بالذات والآباء والاخوان
ومن شيوخه: شيخ الإسلام الحافظ شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي المصري والفقيه الصالح العلامة عبد الله بن أحمد باقشير الحضرمي، وله من كل منهما أجازة جماعة آخرين يكثر عددهم، واجتمع بالعلامة الديبع بزبيد. وأما مقرؤانه فكثير جداً. ومن تصانيفه العقد النبوي والسر المصطفوي. والفوز والبشرى، وشرحان على قصيدته المسماة تحفة الريد أحدهما أكبر من الآخر. وأما الكبير فالمسمى حقائق التوحيد، ومولدان كذلك أحدهما أكبر من الآخر، ومعراج ورسالة في العدل، وورد أسمه الحزب النفيس، ونفحات الحكم على لأمية العجم وهو على لسان التصوف ولم يكمله، وله ديوان شعر ومن شعره:هذه الوسيلة التي نظم فيها نسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
توسلي بمحمد خاتم الرسل ... وفاطمة وأمير المؤمنين علي
ثم الحسن والحسين مع زين عابد علي ... محمد الباقر السجاد جعفر علي
ذلك العريض الإمام محمد نجله ... عيسى الهزبر الهمام يا نعم بطل
باحمد بعبيد الله علويهم ... محمد علوي خالع قسمنا علي
محمد صاحب المرباط ثم علي ... وبالفقيه محمد علوي وعلي
مولى الدويلة محمد ثم سقافهم ... والفخر والعيدروس شيخ العفيف ولي
فهؤلاء بني الزهرا صح بهم نسيبي ... وأرثي بالمختار متصل
سمطاً تسلسل من أولاد فاطمة ... نسب كشمس الضحى في داره الحمل
نسب شريف صريح ضاء مشكاته ... من سيد الرسل والزهر ااحدر من على
مسلسل كنجوم الزهر عقدهم ... بدا وختما محمد خاتم الرسل
ومنه وصف العارفين رضي الله عنهم:
أولئك القوم سادات فحق لهم ... إن يسحبوا الذيل فحراً باسم منان
قوم علوافى في معالي مجد موجدهم ... فاقوا البرايا ياحظواً من فيض رحمان
جواهر السر فاضت من عوالمهم ... بسر متبوعهم فضلا وأحسان(1/185)
شموس معرفة جاءت لمبتهج ... طريقهم حبدا فتحاً وبرهان
ومنه
سارعوا من قبل فوت ... وأغنموا فرصاً ووقتاً
وأقترضوا لله قرضاً ... لن تنالوا البر حتى
ومنه
يا قاريء الخط أدعوا الله يغفر لي ... دنبي وأثمي وعصياني كذا زللي
ويلحظ العبد بالحظ انه قمن ... فاستجابة اللهم أنت ولي
ومنه
يا آل طه طوى الاحشاء حبكم ... طي السجل وطهرتم من القذر
القوم أنتم فلا يشقى جليسكم ... الناس أنتم كفى بالخبر عن خبر
ومنه
لنا بالرسول المصطفى خير نسبة ... مسلسة تعلو على كل رتبة
أئمة علم الله جوهر سره ... زواهر حلم قدوة للطريقة
شمس تجلت والبدور طوالع ... نجوم لنا بالسعد منه أستمدت
شموس بدت في عالم الغيب أشرقت ... بدور أضت أبدال أو تاد صفوة
ومنه
كفاني أن ازهو بجد ووالد ... ولي حسب من فوق هام الفراقد
ولي نسب بالمصطفى وابن بنته ... حسين علي زين زاكي المحامد
أباً فاباً من سيد الرسل هكذا ... إلى العيدروس المجتبي خير ماجد
وراثه خير الخلق أحمد جدنا ... ونحن به نعلو العلا في المقاعد
ورثنا العلا أكرم بناخير سادة ... شدا مجدنا يشذوا بطيب المحامد ومنه
لنا سادة فاقوا على كل سادة ... بتمكين أرث كابراً عن كابر
لنا قادة فاقوا الكماة بعزمهم ... ففي كل وقت منهم مظاهر
هنيئاً لهم طوبى لهم من عشائر ... حقيق لهم ذلك حظوا بالبشائر
عم القوم لا يلقى جليس لهم بهم ... خصوصية خصوا بنور البصائر
وكيف لا يكون الحق حشو قلوبهم ... وهم بضعة المختار أهل المفاخر
ومنه هذا المفرد. والتزم فيه الحروف المقطعة:
زرد أرود دان ودور ... رأي وادي زرود
ومنه هذه القصيدة العظيمة المشهورة بالبركة معطلعا:
حجلب من الله وحرز منيع ... علينا دواماً وفضل وسيع
وحسبي ربي لطيف بديع ... عليم بحالي بصير سميع
وعيون العناية لنا راعيه ... وأسماء عظام بنا ساميه
قطوف المعارف هنا دانيه ... فهيا إلى حي مي الرفيع
إذا عز ربي محيط بنا ... فلا تخش قاصي ولا من دنا
فلو كل خلق ارادوا بنا ... لذلوا وخابوا وباؤا الجميع
ألف لام وكاف ها كافيه ... ويا عين صاد نون نورانيه
وطاسين حاميم قاف وافيه ... هو الله هو هو القريب السريع
ومناقبه وكراماته ليس هذا محلها، وقد أفردها غير واحد من العلماء بالتصنيف كالشيخ العلامة حميد بن عبد الله السندي في رسالة له، والشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن ابن علي البسكري المكي في كتابه نزهة الأخوان والنفوس وفي مناقب شيخ بن عبد الله العيدروس، وقد ذكرت كثيراً منها في مقدمة كتابي الفتوحات القدسية في الخرقة العيدروسية، وإنما قصدنا الآن الإشارة إلى ذلك أجمالا ليستدل به على جلالة قدره وفخامة أمره وكفى بالنفحة دليلاً على الزهر، وبالغرفة معرفة بعذوبة النهر، وبقلامة الهلال تنبيهاً على أقبال شخص الشهر، إذا كتابنا هذا مبني على الإيجاز والاختصار دون الإسهاب والإكثار وبالله التوفيق، ولله در الشيخ عبد المعطي باكثير حيث يقول فيه من قصيدة:
ذاعت فضائله وشاع ثناؤه ... في الخافقين وجاوزت بغدادا
وما أحسن قول الشيخ قول الشيخ الفاضل عبد اللطيف الدبير حيث يقول فيه من قصيدة:
شيخ الأنام مفيد كل محقق ... بحر العلوم العارف الرباني
ابن العفيف أبو الشهاب المجتبى ... قطب الزمان العيدروس الثاني
شرف السيادة والزهادة والتقى ... فحر الحماة الغر من عدنان
هو كالسفينة من توالاه نجا ... وسواه لم يا من الطوفان(1/186)
وفيها: توفي العلامة المفنن الصالح الشيخ عبد النبي الصدر شهيدا رحمه الله تعالى، وكان من المتبحرين في العلم، وكان معظما عند السلطان أكبر جداً. بحيث يقال أن السلطان المذكور كان يتولى خدمته بنفس في بعض الأحيان، وثباته في الدين وصربه على الامتحان مشهور، وحكي أن السلطان كان رسل إليه وهو في السجن وقد عذب بأنواع العذاب أن أترك ما أنت عليه من الصلابة في الدين، وتكون كما كنت في أوج العظمة فيرد عن غير ذلك من الجواب بما يزداد به غيظ السلطان عليه، وحكي أن السلطان أمر بعض الكفار أن يقتله فمكث مدة يحاول ذلك، وما يجيء إلا ويجده في صلاة أو تلاوة فيتوقف لذلك عن قتله، وقال للسلطان أمرك مطاع ولو أمرتني بقتل مائة نفس من مشايخنا يعني من الكفار لفعلت، وأما هذه المسلم فما قط جئت لقتله إلا وجدته فيه مشغولا بطاعة ربه، وأنا أتحاشى عنه ذلك فاعذرني، وقرب إليه كأس فيه سم فأبى أن يتناوله، وقال: أنا أعلم بالذي فيه ولا أعين على قتله نفسي. أي للمحذور في ذلك من جهة الدين، ثم أن السلطان بعد ذلك أمر بخنقه رحمه الله ففعل به ذلك ومات، وكان ذلك ليلة اثنى عشر في ربيع الأول، وهي ليلة المولد الشريف فرحمه الله لقد ابقى ذكراً جميلاً وثبت ثباتاً عظيماً قل أن يتفق مثله إلا لمن وفقه الله أعاد الله علينا من بركاته آمين.
وفيها: في يوم عاشوراء توفي الشريف أبو نمى محمد بن بركات صاحب مكة، ولبعض الفضلاء من أهل مكة في تاريخ وفاته.
يا من به طبنا وطاب الوجود ... قد كنت بدراً في سماء السعود
ما صرت في الترب ولكنما ... اسكنك الله جنات الخلود
وكان مولده سنة عشر وتسعمائة.
وفيها: في تاسع صفر توفي الشريف الفاضل القاضي حسين المالكي. ومن غريب الاتفاق تاريخ يوم موته كان تاريخاً له فتقدم أنه مات في تاسع صفر. وجاء تاريخه:تسع في صفر " رحمه الله، وكان من أعيان أهل مكة وفضلائها وأجوادها ورؤسائها، لم يخلفه مثله وحزن الناس على موته، ولبعض الفضلاء من أهل مكة هذا التخميس على البيتين المشهورين:
لهفي على بدر الوجود وسعده
ومغيبه تحت الثرى في لحده
مات الحسين المالكي بمجده
يا دهر بع رتب العلا من بعده ... بيع الهوان ربحت أم لم تربح
وافعل مرادك يا زمان كما ترى
وارفع من الغوغاء وحط ذوي الذرى
لا تعتذر لذوي النهى عما جرى
قدم وأخر من أردت من الورى ... مات الذي قد كنت منه تستحي
وكانت له عقيدة في الصالحين، وقيل سببها أن أمه كانت تعتقد بالولي الشهير الشريف عبد الله ابن الفقيه باعلوي فمرض ولدها هذا مرضاً شديداً أشرف منه على الهلاك فطلبت من الشريف حصول الشفاء له والحت في ذلك، وكان عنده الشيخ الصالح عبد الرحمن العمودي فقال السيد عبد الله للشيخ عبد الرحمن عساك تتحمل عنه فإن الناس ينتفعون ببقائه. فمن ذلك الوقت ابتدأت العافية في القاضي، ومرض الشيخ عبد الرحمن من وقته وماات بعد أيام، وشهد جنازته القاضي المذكور رحمه الله.(1/187)
قلت: وحكى الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في كتابه الفتوحات المكية عن بعض شيوخه: إن امرأة من بنات الملوك ممن كان الناس ينتفعون بها، وكان لها اعتقاد في هذا الشيخ فتوجهت إليه ليدخل عليها والملك الذي هو زوجها عندها فقام إليه ثم نظر إليها وهي في النزع فقال الشيخ أدركوها قبل أن تقضي. فقال له الملك: بماذا ؟ فقال: بديتها اشتروها فجيء إليه بديتها كاملة فتوقف النزع والكرب الذي كانت فه، وفتحت عينها وسلمت على الشيخ. فقال لها الشيخ: لا بأس عليك، وكان ثم دقيقة بعد أن حل الموت لا يمكن أن يرجع خائباً له من أثر ونحن قد أخذناك من يده وهو يطالبنا بحقه فلا ينصرف إلا بروح مقبوضة وأنت إذا عشت انتفع بك الناس، وأنت عظيمة القدر فلا نفديك إلا بعظيم عندي من هذا الموت، ولي بنت هي أحب البنات الي أنا أفديك بها ثم رد وجهه إلى ملك الموت وقال: لا بد من روح ترجع بها إلى ربك هذه بنتي تعلم محبتي فيها خذ روحها بدلا من هذه الروح فإني قد اشتريتها من الحق وباعني إياها وابنتي جعلك حق مجيئك، ثم قام وخرج إلى بيته، وقال لابنته وما بها بأس: يا بنية هبيني نفسك فإنك لا تقومي للناس مقام زينب بنت أمير خذها فماتت من وقتها انتهى. ولما ابتنى القاضي حسين بيته وجعل فيه التخريجة قال صلاح الدين القرشي في ذلك أبيات منها:
ما عرش بلقيس وما مقداره ... ما تخت كسرى والذي مثله
أنا نادر والحكم لي ولمالكي ... ومن العجائب نادر والحكم له
وله أيضاً تاريخ بيت أنشأه القاضي:
شرف العلى لك منزل ... يا بدر فيه فاحلل
فالسعد قال مؤرخاً ... " للبدر أشرف منزل "
ولما ولي قضاء المدينة الشريفة. قال الأديب مامية الانقشاري في تاريخ ذلك العام:
طيبة مذ طابت بحسام الأحكام ... كم ظلوم خوفاً بات يخفي ريبه
والرعايا لما شكروا من عدل ... قلت في عدله دام قاضي طيبه
ومدحه بعضهم بأبيات. منها:
إنسان عين إنسان من ... سادوا وشادوا المكرمات الطوال
من جوده والعزم أو حلمه ... أو نسب أو شرف أو خصال
كالبحر والسيف ووسع العطا ... والشمس والبدر وماء الزلال
لولا الذي كلمه اختاره ... وزاده في المجد ما لاينال
ما كان قد صيره ناظراً عدلاً ... على البيت العديم المثال
والحرمين البالغين النهى ... أنعم بها مرتبة لا تزال
وهو الحسين الحسني الذي ... فاق الورى في الجود نسل الرجال
وكتب إليه بعضهم يهنئه بقدوم رجب:
يا حسيناً يا شريفاً ... في علاه لا يشارك
عش ودم وهن بشهر ... من فتى وافا جوارك
ذاته قد أرخته ... " رجب شهر مبارك "
ومن شعره وقد أهدى إليه القطب الحنفي سمكاً:
يا أيها القطب الذي ... بوجوده دار الفلك
لو لم تكن بحر الندى ... ما جاءنا منك السمك
وفيها: توفي العالم الفاضل المفتي الشيخ قطب الدين الحنفي المكي النهروالي نسبة إلى نهرواله من أعمال الهند بمكة المشرفة وكان من الأعيان المذكورين والفضلاء المشهورين مجللاً محترماً. ومن شعره هذه القصيدة:
بسيف الحجى عند اهتزاز النوائب ... تقلدت فاستغنيت عن كل قاضب
وجردت من رأسي الشديد عزائماً ... أفل بها حد السيوف الغواضب
ولي همة أسمو بصارم عزمها ... إذا السيف قد اعيى صدور الكتائب
وما فاتني فضل أردت اقتناؤه ... وما غربت عني صعاب المطالب
وكم خطب العلياء غيري ولم ينل ... ونلت لأني كنت أكرم خاطب
ولو شئت أدنت لي رقاب كثيرة ... ولكن رأيت الدهر أغر صاحب
فما الدهر إلا مقبل مع ساعة ... ولا العمر مع طول المدى غير ناهب
وما الناس إلا حاسد ومعاند ... ولا الدهر إلا راجع في المواهب
وما شاد بنيان العلى متهور ... ولا ساد من لم يفتكر في العواقب(1/188)
أخالط أخوان الزمان بعقلهم ... لا نظر ما يبدى به من عجائب
وأظهر أني مثلهم تستميلني ... عذاب الثنايا سود شعر الذوائب
وإن أليم الهجر مما يسوءني ... وإن لذيذ الوصل أسنى مآربي
وما علموا إن الهوى دون رتبتي ... وإن مقامي فوقه بمراتب
إلا في سبيل المجد قوم عهدتهم ... يرون اكتساب الفضل أزرى المكاسب
وما عندهم فضل سوى كثرة الغنى ... وما المجد إلا أخذ بعض المناصب
وفضائلهم محصورة في ثيابهم ... وأورادهم اتقان هذه المناكب
زماني رماني بينهم يستهينني ... وليس محلي غير هام الكواكب
وله رحمه الله صورة مكتوب منظوم كتبه إلى بعض أصحابه بالمدينة الشريفة:
بعد إهداء أطيب السلام ... وأبلغ التمحيد والإكرام
وبث شوق لا يزال زائداً ... وذكر وجدمفرط تزايدا
من كبد إلى اللقاء ظاميه ... ومقلة من الفراق داميه
ومن غليل مهجته عليل ... إلى خليل سيد جليل
شمس سماء الفضل والأفضال ... وبدر تم المضي في الكمال
وزهرة من زهر روض الأدب ... وزهرة تسمو سماء الرتب
لا زال في قلادة الدروس ... واسطة كاللؤلؤ النفيس
وبعد فالعبد له عتاب ... عليك إذ لم يأتن كتاب
مع انني أرسلت كتباً عده ... ولم أكن أنسى لك الموده
فهل نسيت يا فتى ودادي ... أم غيرك الدهر بالبعاد
أم القراطيس غدت ثمينه ... أم هي لا توجد في المدينه
هذا وبالجملة والتفصيل ... أني كما تعهد يا خليل
محبتي من كل غش خالصة ... وخيل ودي لاتكون ناكصه
فلا تكن لكتبك الكرام ... تقطع فهي غاية المرام
والقصد منك يا أخي البشاره ... أن تدخل المسجد للزياره
فتضع الخد على الأرض إذا ... قابلت ذاك الضريح لا يذا
ثم تقول يا نبي الرحمة ... للعالمين وجميع الأمة
" أضعف خلق الله قطب الدين "
حملني من السلام الجمله ... إليك راجياً سؤال الفضل له
وكذا إلى ضجيعه الصديق ... وعمر الشهير بالفاروق
وبلغ السلام والأكراما ... سيدنا وشيخنا الهماما
إمام هذا العصر بل وحيده ... من هو ذو المناقب العديده
شهاب أهل الشرع والحقية ... وبدره وشمسه الشريفة
خلاصة المقربين الأبرار ... الشيخ أحمد بن عبد الغفار
سلمه الله تعالى وجمع ... شملا به وبعلومه نفع
وأنت في دعاك لا تنساني ... يا سيد الاخوان والخلان
لا سيما في ساعة القبول ... عسى أفوز بالمنى والسول
وآن أن أختم هذا بالسلام ... واجعل الحمد لما قلت ختام
وله أيضاً نظمه لبعض من في القافلة يذكر بها في الليل:
إلى متى يا عين هذا الرقاد ... ما آن أن تكتحلي بالسهاد؟
تنبهي من رقدة وأنظري ... ما فات من خير على ذي الرقاد
يا أيها الغافل في نومه ... قم لترى لطف الكريم الجواد
مولاك يدعوك إلى بابه ... وأنت في النوم شبيه الجماد
ويبسط الكفين هل تائب ... من ذنبه من له في مراد؟
وأنت من جنب إلى جانب ... تدور في الفراش اللين المهاد
يدعوك مولاك إلى قربه ... وأنت تختار الجفى والبعاد
كم هكذا التسويف في غفلة ... ليس على العمر العزيز اعتماد
لقد مضى ليل الصبا مسرعاً ... ونير صبح الشيب فود الفؤاد(1/189)
أفق فإن الله سبحانه ... رحمته عمت جميع العباد
ومن شعره أيضاً:
أقبل كالغصن حين يهتز ... في حلل دون لطفها الخز
مهفهف القد ذو محيا ... بعارض الخد قد تطرز
دار بخديه واو صدغ ... والصاد من لحظه تلوز
الخمر والجمر في لماه ... وخده ظاهر وملغز
يشكو له الخصر جور ردف ... أعجزه حمله وأعجز
طلبت منه شفاء سقمي ... فقال لحظي لذاك أعوز
قد غفر الله ذنب دهر ... لمثل هذا المليح أبرز
جز فؤادي بسيف لحظ ... أواه لو دام ذلك الجز
أفديه من أغيد مليح ... بالحسن في عصره تميز
كان نديمي فمذ رآني ... أسيره في الهوى تعزز
حرم من وصله مباحاً ... لما أحل القلا وجوز
يا قطب لا تسل عن هواه ... واثبت وكن في هواه مركز
ومنه معارضاً " خذوا قودي من أسير الكلل " :
ألا حلل الله سيف المقل ... فكم ذا أصاب، وكم ذا قتل؟؟
وما من قتيل به في الهوى ... سوى ألف راض بما قد فعل
لقد نصر الله جيش الملاح ... ببدر لنا حسنه قد كمل
وما بطل في الوغى فارس ... إذا قابل الغيد إلا بطل
إذا قتلني عيون الظبى ... فيا فرحي قد بلغت الأمل
رعى الله ليلة زار الحبيب ... وغاب الرقيب إلى حيث أل
فأجلسته في سواد العيون ... وقد غسل الدمع ذاك المحل
وألصقت خدي بأقدامه ... وأذبلت أخمصه بالقبل
فرق ومال باعطافه ... فديت بروحي ذاك الميل
فعانقته وخلعت العذار ... ومزقت ثوب الحيا والخل
وما زلت اشغله بالحديث ... وستر الظلام علينا انسدل
إلى أن غفى جفنه ناعساً ... وعني تغافل أو قد غفل
فحليت عن خصره بنده ... وأنضيت عن معطفيه الحلل
وبت أشاهد صنع الآله ... تبارك رب البرايا وجل
فظن بي الخير أو لا تظن ... فما أنت تسأل عما حصل
ومنه
الدن لي والكأس والقرقف ... وللفقيه الكتب والمصحف
لا تنكروا حالي ولا حاله ... كل مما ينفعه أعرف
لكنه ينكر أذواقنا ... وماله ذوق ولا ينصف
كم يزدري الراح وشرابها ... اخشي على هذا الفتى يقصف
دعني وحالي يا فقيه الورى ... فأنت عن ادراكه تضعف
هيهات أن يدرك طعم الهوى ... من لم يكن في ذوقه يلطف
للعشق سر لم يزل غامضاً ... لغير أهل الحب لا يكشف
فيا ندبمي اشرب على رغمه ... ودعه في انكاره يرسف
واحبسه في باب الطهارات من ... كتابه لعلمه ينظف
وبي غزال طاب مرعاه في ... كناس قلبي وهو لا يألف
بدر كمال لا يرى حسنه ... نقصاً ولا محفاً ولا يكلف
في خده أنبت ماء الحيا ... ورداً بغير اللحظ لا يقطف
عارضه لام وفي صدغه ... واو ولكن آه لو يعطف
عزيز مصر الحسن لو كان في ... زمانه عام به يوسف
ومنه
لا وفروع كدجى الليل غسق ... وجبين مثله تحت الفلق
ومحيا كلف البدر به ... وخدود من حواليها شفق
وعدار مذ تبدا خده ... يعجز الكاتب عنه أن مشق
ما أرى الغزلان إلا سرقت ... منه جيداً والتفاتاً وحدق
ثم خافت فتولت شرداً ... كيف لايشرد خوفاً من سرق
ومنه
شمس الضحى بعد العشى ... زارت فزال تلهف
واستقبلت بدر السما ... فنظرت للقمرين في
ومنه(1/190)
عذولي زادني في الحب عذلا ... وأكثر في مغالبتي وآذا
وصار يلوم من أهواه حتى ... شكى من لوم عذالي وآذا
ومنه
بلغ حبيبي ما ألقاه إذ أبصرته ... أما عذولي قل له دع عنك ما اضمرته
ومنه معمى في أحمد
لنا إن دارت الكأس العقار ... باطراح الرماح دم مدار
وكتب إليه الأديب الفاضل جمال الدين ابن ملازاده في مستهل شهر رمضان هذان البيتان:
يا قطب أهل العلم في أم القرى ... رمضان هل بهجة لم توصف؟
فتهن وحدك إن ذاتك أصبحت ... هي أشرف في أشرف في أشرف
فأجابه قطب الدين الحنفي وأرسل إليه ديناراً:
يا أوحد الفضلاء أنت جمالنا ... فتهن بالشعر الشريف الأشرف
شعر بشعر لا ربا فيه وإن ... زاد العيار بوزن هذا الأشرف
وكان الشيخ قطب الدين قد سعى لأخيه محب الدين في القضاء ببلاد اليمن، فلما مات المذكور سعى كذلك لابنه فقرر في وظيفة أبيه فقال الأديب الفاضل جمال الدين ملا زاده أيضاً في ذلك:
وليت قطب الدين صنوك قاضياً ... ثم ابنه فليأمن الآفاتا
من مات بعد ولاية قطبية ... كأخيك عشت وكأبنه ما ماتا
من افادات الشيخ قطب الدين رحمه الله تعالى أن لفظ " ابن خلكان " ضبط على صورة الفعلين خل أمراً من خلي أي ترك فعل ماص وكان الناقصة. وسبب تسميته بذلك أنه كان يكثر أن يقول كان والدي كذا، وكان جدي كذا فإنه من البرامكة فقيل له خل كان قال: ورأيت من ضبطه بسكون اللام والباقي على حاله والله أعلم.
وفيها: توفي العلامة رضي الدين القازاني المخزومي المكي بمكة المشرفة رحمه الله تعالى وكان أوحد عصره في الأدب والنظم الحسن. ومن شعره:
قل للروافض أنتم في سبكم ... شيخاً التقى وحبنا علم الهدى
مثل النصارى لا نسب لاجلهم ... عيسى وأن سبوا النبي محمدا
وفيها: ظهر جراد بنواحي كجرات فقيل للشاه فتح الله ضع له تاريخاً فقال " منتشر " .
" لطيفة " نزل الجراد قرب قبيلة زيد ونزل الجراد إلى جانب قرية عمرو فقام أهل قبيلة زيد قالوا لأهل قبيلة عمرو ما نحن نصيد جراداً احتمى بكم. فلما سمعت قبيلة عمرو ذلك قالت: لا سمع ولا طاعة ولا تمكنه من صيد جوارنا فقام القتال بين الفريقين ولا زالوا على قتالهم إلى أن قتلوا هاتين الفئتين وأنشد بعض قبيلة عمرو يقول:
ومنا من أجار جراد نجد ... وحرمه على المتصيدينا
" غريبة " مرض زيد مرضاً شديداً إلى أن تعبت الأطباء من علاجه لقلة ملاقاة أدويته فلما أشرف على الهلاك قال الطبيب لقرابته: اطعموه ما يشتهي وأراد فإنه من الهالكين، وصار المريض يأكل ما اشتهي واراد إلى بعض الأيام فدار في خاطره الجراد فاشترى وامعن في الأكل منه فلما أكثر منه تعافى من مرضه وشاهده الطبيب فقال له: بالله عليك أخبرني ما تناولت من الدواء وما شربت من الأشربة وما غذاؤك من المأكل؟ فقال: الجراد فقال الطبيب: صدقت لأن الجراد يكون قد قعد على حشائش أكل منها ولم تصل منفعتها إلى فهم مخلوق إلى الآن وافق خاصية تلك الحشائش لدائك برئت وكان الجراد واسطة لعافيتك والله أني نظرت في جميع كتب الطب على أن أعرف لدائك دواء فما صح لي ذلك فقلت بترك الحمية لك والله أعلم.
" نادرة " قال الأصمعي أتيت البادية فإذاً اعرابي قد زرع براً له فلما انتهى إلى سنبله أتاه الجراد فجعله ينظر إلى الزرع ولا يدري ما يصنع وأنشأ يقول:
مر الجراد على زرعي فقلت له ... بالله لا تشتغل يوماً بافساد
فقال منهم خطيب فوق سنبلة ... أنا على سفر لا بد من زاد
قلت: وفي بعض السنين قدم كجرات بعض مشايخ العجم بقصد الحج، وكان معه مريدون كثيرون فقال بعض الأدباء جاء الملخ من بلخ شبه بهم لكثرتهم بالجراد وهم يسمونه بالفارسية: ملخ.
سنة إحدى وتسعين بعد التسعمائة(1/191)
وفي سنة إحدى وتسعين: توفي الفقيه العلامة جمال الدين محمد أبي بكر الأشخر بالشين المعجمة الساكنة والخاء المعجمة بعدها راء مهملة، واحد الدهر وشافعي العصر الفاضل الكامل سابق الأوائل شيخ الإسلام مفتي الأنام الفرد الإمام الحافظ الحجة السالك بالطالبين في أوضح المحجة، إمام الفنون الذي اعترف بتقدمه المفتون بالتصانيف المفيدة والتآليف العديدة والشروح الفائزة من العلوم بالقدح المعلى، والمناظيم المشحونة بالنكت التي أقمار دقائقها شارقة في كل مجلى، قرأ على جماعة من الأكابر الجلة، وحصل له من الجميع الإجازة. منهم: شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي، وإبراهيم مطير، والعلامة ابن زياد، وأول تخرجه بأبيه، وتخرج به جماعة من بلده وغيرها. منهم: أخوه العلامة أحمد الأشخر وناهيك أنه حفظ العباب للمزجد، وكان أخوه يقدمه على سائر الطلبة، ولا يكتب شيئاً إلا ويعرضه عليه أولاً. غير أنه بعد ذلك ظهرت فيه طبيعة السوداء فتأثر لذلك وترك الاجتماع بالناس إلا نادراً، ومع ذلك لما اجتمع به صاحبنا الفقيه أحمد ابن الفقيه محمد باجابر حصل له عنده الحظوة التامة، واختلى به أياماً مدة إقامته عنده، وأملى عليه شيئاً كثيراً من نظم أخيه، وبحث معه في مسائل فقهية، وتعجب الناس لذلك جداً.
رجعنا إلى ذكر صاحب الترجمة. وممن قرا عليه الفقيه محمد بن إسماعيل بافضل والفقيه الصالح جمال الدين ابن محمد الطيب المكدش، وفتاويه ومؤلفاته شاهدة بشرف مقامه في العلوم، ولد رحمه الله تعالى في اليوم الثاني والعشر من شهر ذي الحجة الحرام سنة خمس وأربعين وتسعمائة، وله مؤلفات كثيرة منها: منظومة الارشاد، وشرح الشذور، ومنظومة في أصول الفقه وشرحها، ومختصر المحرر للسمهودي في تعليق الطلاق، ومنظومة في أسماء الرجال، والفية في النحو نظمها في مرض موته، وشرح حديث أم زرع وهو آخر مؤلفاته، وله فتاوى في مجلد ضخم، وله شرح على بهجة المحافل، واختصر التفاحة في علم المساحة، وله غير ذلك من المختصرات، وله نظم جيد حسن. ومنه:
رأيتك إذ اوميت للعبد أي إذا ... أتم فلان شربه فتوخنا
كأنك لم تقرأ حديث تيمنوا ... وتقديم الاعرابي إذ كان ايمنا
ومنه هذه القصيدة العظيمة، وقد بلغه عن بعض الناس تنقصاً لأهل العلم الشريف وهي:
عز على الجهال أن يطلبوا ... علماً فيستهدوا بأنواره
وينهجوا نهجاً به بيناً ... ويجتنوا من طيب أثماره
ويسلموا لو أنهم فكروا ... من وصمة الجهل ومن عاره
وينتهوا عما نهى الله عن ... اتيانه المدني إلى ناره
واستحقروا طلابه إذ هم ... لم يستطيعوا فض ابكاره
واستكبروا تيهاً عليهم ولم ... يخشوا من الكبر وأوزاره
وحاولوا اطفاء نور الهدى ... بقولهم أو طمس آثاره
وحاولوا إخفاء برهانه ... والله قد من باظهاره
فاعجب لحمقى غيرهم جهلهم ... فكافحوا العلم بانكاره
أضحوا مصرين على بغضه ... وبغض أهليه وأنصاره
وسبهم والسب شتم فمن ... يرد يزد فيه باكثاره
وقولهم هذا فقيه وذا ... يزور ذا الفقه إلى داره
وهم بشبابة ابليس قد ... أصحوا مطيفين ومزماره
وجل ما يهوون أن يسمعوا ... صوتاً من العود وأوتاره
أو يسمعوا دفاً فيجري بهم ... داعي الهوى سعياً إلى طاره
لا بلغ الله الذي حاله ... هذا إلى غاية أوكاره
تباً لأعمى الجهل يهتم في ... درهمه الفاني وديناره
ويرفض المطلوب منه وقد ... يعتل إذ ذاك بأعذاره
وإن سعى يوماً إلى مطلب ... فإن نزا كالجمل الفاره
فحسبنا الله وما جاء عن ... نبيه الهادي ومختاره
صلى عليه الله ذو العرش ما ... غنى هزار فوق أشجاره
مسلماً ما دامت الأرض لا ... تخلو من العلم وأقماره
وله جامعاً غزوات النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(1/192)
غزوة بدر أحد فالخندق ... بني قريظة بني المصطلق
وخيبر وطائف بالاتفاق ... قاتل فيها المصطفى أهل الشقاق
والخلف في بني النضير ذكرا ... فتح حنين غاية وادى القرى
وله فيها مرتباً لها على سني الهجرة الشريفة.
فبدر فأحد بعد هذين خندق ... فذات رقاع والمريسيع خيبر
وفتح تبوك رتبت هذه على ... سني هجرة كل بذاك يخبر
وله في الإجارة
عقد اجارة بموت ما العقد ... لم ينفسخ إلا بصور وجد
أخذت بيانها فلأوله ... موت موجر وقد أوصى له
بالنفع ما عاش وموت أول ... وقد أجر للثاني الولي
وسيد أجر من بموته ... تستوجب العتق كأم بنته
ومن عليه الوقف حيث النظر ... له بدون المثل لا يؤجر
وبطن وقف حيث وافق شرط ... نظره مدة حقه فقط
وقال أيضاً وهو ضابط ينبغي حفظه:
الفرع يتبع أشرف الأبوين في ... دين وفي بدل وأخذ الجزيه
والاخس في نجس وحرمة أكله ... ونكاحه مع حرمة للذبيحة
واياه في نسب ويتبع أمه ... في سومها والرق والحريه
واخف في نحو الزكاة وأغلظ ... الأبوين في باب الجزاء وتمتي
وقال في حقوق الزوجة الواجبة على الزوج:
حقوق النكاح الواجبات لزوجة ... على الزوج بالتمكين سبع لوازم
طعام وادم ثم سكنى ... وكسوة وآلة تنظيف متاع وخادم
وقال فيما يقبل فيه قول المميز
ضابط ما يقبل فيه القول من ... مميز في قوله زيد اذن
فادخل وايصال هدية وفي ... أخباره بطلب المضيف
كذاك اختيار في الحضانه ... وفي ادعي استعجال بنت العانه
كذاك في الشراء للحقير ... عليه الاجماع بنقل الجوري
وقال أيضاً في الهبة
هبة لنا تطلب بموت الواهب ... من قبل قبض صور منها في اب
مهما يهب للطفل ثم يمت ولم ... يقبض فاستثني إذاً من غالب
وقال أيضاً
وجوزن لبس مورس على ... ما قاله الأكثر لكن نقلا
الزركشي حرمته عن ذي القضا ... أعني أبا الطيب وهو المرتضى
عند ابن صباغ وقالا ذا حري ... بان نقيسه على المزعفر
وقال أيضاً
يجوز بالحرير للمساجد ... ستر بافتاء أبي المحامد
أعني الغزالي وكلام العز في ... فتواه مائل إليه فاعرف
وابن عماد نسب التحريما ... إلى الأصح كن به عليما
وقال أيضاً في موانع الإرث
ضعف ثلاثة هي الموانع ... حقيقة ارثاً وزيد سابع
قتل ورق دور اختلاف ... دين وعهدة ردة تضاف
على المجاز ما بقى إذا انتفا ... ارث لكون الشرط إذ ذاك انتفا
والسابع المرء يدعى طائفه ... بنوه لكن بها مخالفه
من حيث أمهم أن يورثوا ... وإنما ممتنع أن يؤرثوا
ونظم أيضاً الأطفال الذين تكلموا وهم في المهد:
جملة من في المهد قد تكلموا ... أحمد والخليل عيسى مريم
يحيى مجيب لجريج العابد ... بقوله الراعي فلان والدي
وراجع لأمه في قوله ... لا تجعلني سيدي كمثله
وشاهد ليوسف مع عامر ... لأمه بقوله لها اصبري
أنت لدى الحق على الاخدود ... وامر ماشطة الوليد
ومن له قال النبي من أنا ... قال رسول الله محمود الثنا
أعني به مبارك اليمامة ... أعظم بها معجزة كرامه
وبعد صلى ذو الجلال كلما ... سرى الضيا وناطق تكلما
على النبي حبه محبه ... محمد وآله وصحبه
وقال في الذين جمعوا القرآن
وجمع القرآن حفظاً يا أخي ... عثمان مرتضى معاذ وأبي(1/193)
ثم أبو الدرداء وابن ثابت ... ثم أبو أيوب وابن الصامت
سعد أبو زيد هو الأنصاري ... ثم تميم ابن أوس الداري
وقال أيضاً فيما يتعلق بالبروج والمنازل
وزنوا عقرباً بقوس شتاء ... غفروا للبليد لما اسا
شرب الجدي ذا وحوت ربيعاً ... فله الذابح حيث حل الرشا
حمل الثور جوزة نحو صيف ... شارطاً للذراع لما أسا
سرط الليث سنبلاً بخريف ... ناثراً أنجم السماك نثرا
وله أيضاً هذه القصيدة البديعة أنشأها الشيخ في ختم صحيح البخاري:
حدثاني عن الغزال الغريري ... باسانيد ما لها من نظير
واملأ مسمعي بتلك العوالي ... أملياها علي بالتكرير
مع توخيكما مسلسلها ... بالأوليات أو أخير أخير
أو فعال كالابتسام ... وأخذ يد أو باللفظ كالتحذير
وانتساب لبلدةٍ أو قبيل ... أو بلفظ التحديث والتخبير
بمقاها هديتما حبراها ... حسب الجهد أحسن التحبير
ودعاني من عن وان ... ففي ذين يخاف التدليس كل خبير
فشفاء مهجتي وبرء سقامي ... في استماع للفظه المأثور
ولكسر في ذاك أي انجبار ... ولعسري تظافر التيسير
ولقبي وخاطري أي نزه ... ولسمعي بوادر التبشير
ولطرفي في ذاك أي جلاء ... فلطرفي اذ ذاك أي قرير
ولشأني إذا تلاه لساني ... اعتنائي عن ابتسام الثغور
وعن المن ما هو المن والسلوى ... واحلى حلوى وفي الطيور
سنة الوامق التعلل ان فات ... وصال الموموق بالتشمير
كسماعي الآثار اورؤية الآثار ... كالغار من حرا وثور
فلهذا تلقى قلوب اولي الفضل ... اسارى ما بين ثور وعير
وحديث المحبوب لا شك محبوب ... فسل عنه كل حبر خبير
فلهذا قالوا امارت حب المصطفي المجتبى البشير النذير
استماع الحديث في كل حينٍ ... وابتدار السماع بالتبكير
ودؤوب الفتى عليه صباحاً ... ومساء فذاك خير سمير
وارتحال الفتى إلى كل حبر ... حافظ فيه بالتحري شهير
وتوخي الصحيح من ذاك اولى ... كصحيحي محمد والقشيري
البخاري ومسلم فبالاجتماع ... كتاباهما اصح الزبور
بعد تنزيل ربنا فلهذا ... سميا كل واحد بالامير
وكتاب الجعفي اصح لدى الجل ... وبربو فؤائداً للبصير
ولقد فاق مسلم صنعة ... حاز بها الارتقا لقدر خطير
وله احسن التحرى لدى اللفظ ... فيلغي الرديف مثل الغير
وترى عنده الكنى غير الاسماء ... وهذا من ابلغ التحبير
فلذا لذ في القراءة والسمع ... لقارئه والسميع القرير
فيشنف منه المسامع من ... رام اصطلاح الحفاظ بالتقرير
ولقد من ذو الجلال علينا ... ان قرأناه في الثلاث شهور
رجب والذي يليه ... وشهر الصبر فليهن فيه كل صبور
سمع الحاضرون منه بلفظ ... ولبعض بلفظ بعض الحضور
حسب الجهد لا يمر بمتن ... مشكل غير حل بالتفسير
والاسانيد لا يمر بشخص ... باسمه اوبكنية مشهور
أو بنحو بنوه ونساب ... أو لقاب كعالم وفقير
غير ابدى مستورها فتراه ... ظاهراً عند ذاك أي ظهور
وختمنا والحمد لله والشكر لله ... تعالى في يوم عيد الفطور
حضر الختم جمعنا مترجين ... نوالا من المليك القدير(1/194)
كلهم مرتج لغفران ذنب ... قدره في جناب غفر الغفور
لو كبيراً قد كان أي صغير ... فتساوى كبيره بالصغير
ولتيسير كل عسر وتسهيل ... حزون وجبر كل كسير
وليقي فتن الفنى كل مثر ... وافتتاناً بالفقر كل فقير
رب حقق رجاءنا وانلنا ... سؤلنا من نوالك المستطير
وتول الجميع منا بتدبيرك ... كيلا نسؤ في التدبير
ولسلطاننا واجناده انصر ... نصراً على العدو الكفور
وعلى كل من قاصدا وشق ... عصانا بلا انتظان الامور
ولهم وبهم آلهي فاصلح ... وادفعن كل مهلك ومبير
وشفيعي حديث خير البرايا ... أحمد المصطفى السراج المنير
يا نبي هد تلوناى أحاديث ... اتت عنك ضوءها كالبدور
قدرواها عنك النجوم وعنهم ... تابعوهم بالجد والتشمير
ثم عنهم قوم فقوم هم ... الحفاظ حقاً على ممر العصور
حفوظها حفظاً منيعاً فمن ... اين إليها وصول اقوال زور ؟
واتتنا كانها اخرجت من ... فيك حالا بغير كر دهور
فاجزنا يا احسن الناس خلقاً ... وسجايا بكل فضل وخير
وبك الظن ذا فانت غني ... يا شفيع الورى من التذكير
صلاة عليك ثم سلام ... ليس عد لذين بالمحصور
بامور بكل قلب سليم ... ظاهرات اعظم بتلك الامور
وعلى التابعين ما اتسق فجر ... قاطع ضوءه دجى الديجور
ختم كل من ذين كالمسك في ... كل امور في بداها والأخير
وشعره كثير، ونظم كثيراً من المسائل العلمية والقواعد الفقهية ليقرب ضبطها ويسها حفظها. وبالجملة فكانه كان آية من آية الله تعالى، وخاتمة المحققين لم يخلف بعده مثله لووصفه الواصف بما عسى فهو رافل في سرابيل التقصير، وعظمة مصيبته بالاسلام وكثر الاسف عليه من الخاص والعام، وبلغني ان الشيخ الكبير العارف الشهير الشيخ محمد البكري قدس الله روحه رأى في المنام قبل موته كأن الركن اليماني من البيت الشريف انهد، وما هذا معناه فكان تاويلها موت المذكور، ورثاه صاحبنا الاديب الفاضل النازل من محامد الصفات في اشرف المنازل حسين بن عبد الباقي الزاهد الزبيدي الشافعي بمرثية عظيمة نونية قرأت في اليوم الثالث من وفاته رحمه الله تعالى وهي:
حسبي الله من صرف الزمان ... ونكايات اسهم الحدثان
ما لنا في مراتع اللهو نصبو ... في امان ولات حين امان
ما اضر اغتباطنا بالملاهي ... واشد اغترارنا بالاماني
هذه دار نقلة ونفاد ... فتفطن ان كنت ذا عرفان
هذا بيننا القصور العوالي ... شامخات البناء فاين الباني
كم مررنا بدارسات طلول ... فذكرنا القطان والاوطان
حسبنا منذراً بوقع المنايا ... علمنا اننا من الحيوان
فكفانا نصا التلاوة وعظاً ... فاعتبر كل من عليها فان
مع هذا العلم اليقين كانأ ... في وثوق لا شك بالوجدان
سفر هذه الحياة لها الانفا ... س عيس تسوقها الملوان
والمحط الكريم انشأ ذو ... العرش فراديس عاليات الجنان
ابداً حولها ندندن بين القا ... صرات الحسان والوالدان
ايها الغافلون ضمكم النهج ... وآن الرحيل يا أخوان
فاعدوا زاد التقى فنياق ... الموت قد اهبت لجذب العوان
وسوق المنون تخطف ارواح ... الورى من جوارح الابدان
لا محيداً عنها لروح عزيز ... أو ذيل أو شامخ أو داني
فهبوا لفتة إلى الامم الما ... ضين من آدم إلى ذا الآن(1/195)
من عصي وطيع ووضيع ... ورفيع اربى على كيوان
من عماليق حمير وغطاريف ... قريش والشم من قحطان
من ابات اللعن الذين علاهم ... في السيوف الرقاق أو في الجفان
لبسوا الزاغفات وانتطقوا ... البيض وهزوا عوالي المران
صرفتهم صوارف الموت صرف ... السرب عن مورد النمير الهاني
ما حمتهم تلك الحصون لعمري ... لاولا استكملوا لثني عنان
فهم عبرة لنا لو فهمنا اين أهل العقول والعرفان
يالهذي الرزية الصليم الصما ... والفادح العظيم الشان
معقل من معاقل الدين اودى ... وخضم قد غار في الاكفان
حفرة اطبقت عن كوكب الشمس ... فغاب الضيا عن الأعيان
شق جيب القلوب ناعية إذ ... القم أفواه الخلق بالصواب
في مقام ما انفكت الناس فيه ... بين دمع جار وعض بنان
حين ينادي يا للجمال جمال ... الفضل والدين العالم الرباني
غار انسان مقلة الفقه ... فالشحمة من بعده بلا انساني
درست بعده مدارس درس ... وهي كانت اهيلة البنيان
أي قطب دارت عليه من الطلا ... ب افلاك العلم بالدوران
مضرب من مضارب الدين قد فل لعمري وكان ماضي اللسان
خلق كالرياض بللها القطر ... وصدر خال من الاضغان
وجنان يمد كالبحر للطلا ... ب والسائلين بالخلجان
راع ارباب الزيع بالحجج اللا ... تي لعمري تفل حدثنا السنان
حجج تخرس أحمد ابن سريج والامام ابن الطيب الباقلاني
يا نديم العلوم ابكيك ان دا ... رت كؤوس المذاكير الحسان
الحديث الشريف والفقه والتصريف والنحو مع فنون المعاني
وليوم تحار فيه ذووا إلا ... فهام في ليل مشكل ظلماني
من يحل دجى المسائل من ... بعدك يا شمس افق كل بيان
هذه في الورى شموس تضا ... نيفك تجلى في سائر الاكوان
هذه بيننا فوائدك الزهر ... كزهر السماء في اللمعان
فعلى ذاتك الشريفة من ذى ... العرش ازكى السلام والرضوان
عظم الله اجركم يا بني الاشخر والتابعين بالاحسان
رب واجبر مصابنا فيه والمم ... صدعنا لانبؤ بالخسران
رب شيد اركان سادتنا ... الباقين واغمر بهم حمى الايمان
رب وفقهم لنصرة شرع ... ودليل مقام أو برهان
واثب جمعنا بحسن قبول ... وانلهم جوائز الغفران
وصلاة الصلاة منك على من ... جاء بالمعجزات والقرآن
وعلى آله واصحابه ما ... ناح باك الهذيل في الاغصان
وفيها: ختم البخاري بقراءة الفقيه شمس الدين علي ابن الفقيه عبد الرحيم بن محمود القيسي على العلامة الحافظ مفيد الطالبين محدث الديار اليمنية الطاهر بن الحسين بن عبد الرحمن الاهدال بزبيد بمسجد الولي الكبير عبد الرحمن بن حسين الاهدال. فانشا في ذلك العلامة حسين بن بد الباقي الازهر قصيدة لامية مكسورة في غاية الحسن. وهي:
عنعن احاديث الحبيب وسلسل ... وارفع احاديث الحبيب الأول
واطلق مقيد دفع جفنك ليس من ... شرط المحبة وقف دمع مرسل
واذا روت لك نسمة من حاجر ... خيراً فتلك حديثها لم يقبل
كم ضعفت بحديثها المعول من ... جسم وكم اوهت به من مفصل
لي بالعقيق الفرد قلب هائم ... بشعابه يرعى الظبي بهوجل
باك يشوب الدار بالمرجان في ... جزع العقيق بسفح خد مخضل
ويحن ان ذكرت معاهد يثرب ... فاقول " لا تهلك اسى وتجمل "
ان لامه العذال يطرب نشوة ... فكان فرط العذل ضرب تغزل
فنى الصبر وانقضى العمر الذي ... هو فسحة لمسوف ومؤمل(1/196)
كل الذي يرضى الهوى ويرموه ... سهل علي سوى النوى لم يسهل
والله لا اشتاق برقة تهمد ... أو منزلا " بين الدخول فحومل "
لكن باكناف العقيق مضارب ... هي نزهة للناظر المتأمل
هل امتطى هو جاء مشرفة المطا ... شمساً كأني فوق هامة يذبل
تسري النجابيد الغرام خزامها ... والشوق سائقها لأكرم منزل
يغلي بوطاة خفها فرق الفلا ... كشهاب رجم جوف ليل اليل
حتى ترى اطلال طيبة جهرة ... وترى علينا بهجة المتهلل
وتصير اعينها حيال نخيلها ... خوصاً لتعدل بي لاشراف منزل
واكوان أول من يؤم بعزمه ... باب السلام مع الطراز الأول
اسعي إلى الحرم المنيع وانتحي ... للروضة الغرا وقبر المرسل
الفاتح السباق أول مبدع ... في الكون بالنص الجليل الأجل
أصل الاصول وجوهر للعالم الشكل نور الواجب الفرد الولي
سر النبوة جوهر الكونين من ... يوم الحسابن عليه كل معول
اكليل جهة ذا الوجود طراز ... حلته البديع جمال كل مجمل
مخطوب حضرة قدسه ملحوظ ... دورة انسه ختم المقام الاكمل
هادي البرية للهدى فجميعنا ... بلوائه يوم القيامة نعتلي
شرع الشرائع موضحاً سنن الهدى ... للسالكين فشرعه الشرع الجلي
فالزم بسنته الشريفة يا اخا ... الحجر المنير ديانة وبه اعمل
وافزع إلى آثاره الحنى فكم ... جمعت لنا من مجمل ومفصل
ومتى اردت جوامع الكلم التزم ... بالجامع العالي الصحيح الأفضل
فاصح كتب بعد كتب الله ما ... جمع البخاري وهو احسن ما تلي
فادر مكررة بكأس لسانك ... المنطيق للاسماع دور تسلسل
وادفع به نوب الزمان فكم به ... من نكبة صرفت وخطب معظل
هذي كواكب لفظه افلاكها ... دارت على قطب شريف المنزل
العالم العلامة الفهامة ... الحبر البليغ العابد المتبتل
الطاهر الاثواب والانساب ... والاسباب والاصحاب عف المقول
ابن الحسين الاهدل ابن الحسين ... شهيد طف ابن سيدنا علي
ابن البتول وتلك بنت المصطفى ... ناهيك من بيت له باب علي
تمت قراءتنا عليه ودونكم ... مسك الختام نفضه في المحفل
فالحمد الله المعين بلطفه ... المسعد المتفضل المتطول
فجزاه رب العرش جل ثناؤه ... من فضله اسنى الجزاء الازال
واذاقة تسنيم كاس خطابه ... في معقد الصدق العزيز المعتلي
فهو الذي كشف العمى عن نور ... عين بصيرتي وبه بلغت مؤملي
يا مسبل النعم المفاضة غشنا ... بسوابغ النعم الجلال وجلل
واشمل بعين اللطف نادينا ومن ... ضمته دورته وجد وتقبل
وعلى القاريء إلا فافتح له ... في العلم فضلا كل باب مقفل
واغفر لناظمها الحسين وكن له ... يا رب في الدنيا وفي الأخرى ولي
ليعود في افق السعادة بدره ... بك زاهراً في برج سعد تنجلي
ولوالديه واهله وشيوخه ... هذي يدي مبسوطة بتذلل
ها قد مددت يد السؤال بذلة ... فلانت تغضب رب ان لم تسأل
فاصلح ولاة المسلمين ولا تكل ... اعمالهم يوماً لمن لم يعدل
واختم بخير خواتم اعمالنا ... يا خير من يدعى واكرم موئل
وعلى متمم الدور ختم المسك ... سر النشا تكرار الصلاة من العلي
والآل والاصحاب والاتباع ما ... لبى الحمام هدير صوت البلبل(1/197)
وفيها: استعاد السلطان مظفر بن السلطان محمود كجرات من المغول وذلك في آخر شعبان، وقبض اكثر بلادها مثل أحمد اباد وبروج وبرود له وكبنايت، فهزم عسكر المغول ونهبهم، وقتل عض الوزراء الكبار، واخذ ماله. ولم يزل معظم أمره ويكثر عسكره إلى مستهل المحرم من سنة اثنين وتسعين فاختلف عسكره فيما بينهم، وكان ذلك هو السبب لهزيمتهم واختفى المذكور في بعض الأماكن، ورجع أمر كجرات إلى المغول. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأما بروج فكانت قلعتها حصينة متغلبة، وكان فيها جماعة من أصحاب السلطان مظفر فمنعوها مدة وحاصروها جماعة من وزراء المغول إلى أن أخذوها في أخر شهر رمضان من تلك السنة. ورأى بعض الأخيار في المنام رجلاً فسأله عن مدته فكتب له ست واوات. قال الشيخ: فاولتها ستة أشهر فكان كذلك فدخلها في شعبان وخرج منها في محرم.
؟سنة اثنتين وتسعين بعد التسعمائة
وفي ليلة الجمعة رابع شهر صفر سنة اثنتين وتسعين: توفي الشيخ الصالح العلامة شهاب الدين أحمد ابن الشيخ بدر الدين العباسي المصري الشافعي باحمد اباد وعمره نحو التسعين، ودفن بها بتربة العرب بالقرب من تلميذه وصاحبه الشيخ محمد بن عبد الرحيم العمودي رحمه الله، وكان بينهما في حياتهما اتحاد ومحبة عظيمة حتى كانها كانا روحان في جسد، وكان مولده سنة ثلاث وتسعمائة بمصر، وكان من العلمآء العاملين وعباد الله الصالحين. ومن مشايخه شيخ الإسلام زكريا الانصاري، والشيخ العلامة برهان الدين بن أبي شريف، وشيخ الإمام نور الدين المحلي والشيخ كمال الدين الطويل، والشيخ زين الدين الغزي، والشيخ نور الدين المليجي بالجيم، واجتمع بشيخ الإسلام الشيخ أبي العباس الطبنداوي البكري بزبيد سنة ست وثلاثين وتسعمائة واخذ عنه، ومن محفوظاته المنهاج في الفقه للنووي، والشاطبية في القراآت، والعمدة في الحديث للمقدسي، والأربعين والنواوية والاجرومية، في النحو ومختصر أبي شجاع، وكانت له اليد الطولي في علم الحوف والفلك والميقات، وكان شديد الورع قليل الاختلاط بالناس متمسكاً بالكتاب والسنة وطريقة السلف الصالحين مع التقوى المفرطة والخمول الزائد،وحكي ان والده مرض مرضاً شديداً بالشام فاستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه في المنام وهو يضرب على كتفه ويقول له قم يا أبا أحمد فانتبه معافاً من ذلك المرض، ولك يكن معه اذ ذاك ولد اسمه احمد، وكان قد ترك زوجته بمصر حاملاً به فبعد ايام جاء الخبر بانها وضعت غلاماً فسماه أحمد ومن شعره:
كان البخاري حافظاً ومحدثاً ... جمع الصحيح مكمل التحرير
مياده صدق ومدة عمره ... فيها حميد وانقضى نور
ولما وقف على الابيات الآتية التي نظم فيها بعضهم ما لكل فصل المنازل على اصطلاح أهل اليمن وهي:
شرط البطين ثره يا دبر هقعتها ... وهنعة الذرع فصل الصيف قد كملا
فنثرة الطرف جبهة الزبرة انصرفت ... عوا سماك فذا فصل الخريف خلا
غفر ربانا تكلل قلب شولتها ... نعايم بلدة فصل الشتا كملا
واذبح بلاعاً سعود واخب فرعهما ... في بطن حوت فذا فصل الربيع تلا
استحسنها وقال: انه أجاد فيها غير انه اعتمد في ذلك على حساب المتقدمين في المنازل حيث بدأ بالشرطين، وعلى حساب المتأخرين يكون الفرغ المؤخر. قال: فقفوت اثره في القافية وابتدأت بالفرغ المؤخر على حساب المتأخرين فقلت:
مؤخر ورشا شرط البطين ثروا ... دبروا حقع ففصل الصيف قد كملا
وهنعة الذرع نثراً لطرف جبهتها ... وزبرة الصرف ذا فصل الخريف تلا
عوى السماك وغفر الزين كلله ... قلب وشولة ذا فصل الشتا ارتحلا
نعايم البلد ذبح البلع يسعده ... خبا المقدم ذا فصل الربيع تلا
ثم قال وترتيب الفصول المذكورة في هذين المنظمين على طريقة أهل اليمن. قال: ثم أني رتبتها أيضاً في أبيات على حكم ما قال الحكماء. فقلت:
مؤخر ورشا شرط البطين ثروا ... دبر وهقع فذا فصل الربيع خلا
وهنعة الذرع نثر الطرف جبهتها ... وزبرة فذا فصل الصيف قد كملا
عوى السماك وغفر الزين كلله ... قلب وشولة ذا فصل الشتاء ارتحلا(1/198)
وكان كثيراً ما يتمثل بقول:
كان والله فقيهاً عالماً ... وله عرض مصون ما اتهم
غير لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر أمهم
ومما أملاه علي بعض الصالحين من تلامذته من حفظ قبيل موته بمدة يسيرة:
بمكارم الاخلاق كن متخلفاً ... ليفوح عرف ثناءك العطر الشذي
وأمنح صديقك ما استطعت صداقة ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
وأما أملاه عليه أيضاً. قال أنشدني الشيخ أبو العباس الطبنداوي هذين البيتين من لفظه:
ومذكنت ما أهديت للحب خاتماً ... ومسكاً وكافوراً ولا بست عينه
ولا القلم المبرى أخشى عداوة ... تكون مدى الايام بيني وبينه
ومما أملاه عليه أيضاً قال: سمعت الشيخ الإمام العلامة عبد الله بن باكثير بمكة المشرفة في حدود سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة يقول: جاء شخص من علماء مصر إلى مكة المشرفة فيما تقدم، وجاوربها وجلس في بعض الأيام على الكرسي ليعظ الناس في المحرم الشريف فكان أول كلامه بعد أن قال الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أنشدني والدي تهذيباً في أيام الصبا:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الاذى ... وذنبك مغفور وعرضك صين
فلا ينطلق منك اللسان بسوءة ... فللناس سوآت وللناس السن
وعينك أن أهدت إليك معابياً ... فغمض وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من أمتدى ... ولا تدفع إلا بالتي هي أحسن
قلت: وقد روى عن أمام دار الهجرة مالك بن أنس حمه الله أنه قال: أدركت بهذه البلدة يعني المدينة أقواماً لم تكن لهم عيوب فتكلمتوا في عيوب الناس فنسيت عيوبهم، وأدركت أن اقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا في عيوب الناس فنسيت عيوبهم، ومما أملاه عليه أيضاً عن الشيخ عبد الله باكثير المذكور قال: جاء اعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أفي قرانك مثل هذا فقال له: أيش، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فقال الاعرابي:
وحي دوي الاضعان تسبي عقولهم ... تحيتك القربى فقد تدفع النغل
فأن جهزوا بالقول فاعف تكرماً ... وأن ستروا عنك المقالة لم تبل
فإن الذي يؤذيك من أستماعه ... وأن الذي قد قيل خلفك لم يقل
قال قنزلت الآية الشريفة " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع هي بالتي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ، ومما أملاه عليه أيضاً عن الشيخ عبد الله المذكور:
من لم يبكوه ناصحوه ... يضحك من حاله عداه
أدبه الايام والليالي ... من لم يؤدبه والداه(1/199)
وفيها: في يوم الجمعة الحادي والعشرين من جمادى الأولى توفي الشيخ العلامة أبو السعادات محمد بن أحمد بن علي الفاكهي المكي الحنبلي، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وكان له اليد الطولى في جميع العلوم، وأنه قرأ في المذاهب الأربعة. ومن شيوخه الشيخ الكبير المحقق العلامة أبو الحسن البكري، وشيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي، والشيخ محمد الحطاب في آخرين من أهل مكة حضرموت وزبيد يكثر عددهم. ويقال أن الذين أخذ عنهم يزيدون على التسعين واجازوه، ومقروآته كثيرة جداً لا تنحصر. ومن محفوظاته الاربعين النواوية، والعقائد النسفية والمقنع في فقه الحنابله وجمع الجوامع في أصول الفقه والفية ابن مالك في النحو وتلخيص المفتاح في المعاني والبيان والشاطبية في القراآت ونور العيون في السير لابن سيد الناس، وكان يحفظ القرآن العظيم ويقرا للسبعة مع التجويد، ونظم ونثر والف غير واحدة من الرسائل المفيدة منها الذي تكلم فيها على آية الكرسي وهي مفيدة جداً، ومنها شرح مختصر الانوار المسمى نور الأبصار في فقه الشافعية، ومنها رسالة في اللغة، ومنها كتاب جليل جعله باسم بعض السلاطين، ورزق الحظ في زمانه. وسمعته يقول: الانس بالله نور ساطع، والانس بالناس سم قاطع. ومن غريب الاتفاق انه قال: حضرت مجلس بعض الوزراء فوقع الكلام في الاستفهام الانكاري فقال: بعض أهل العلم هذا كقوله " اتأمرون الناس بالبر وتنسون انفسكم وانتم تتلون الكتاب افلا تعقلون: وأشار الي بالتعريض ففهمت منه ذلك فاستحضرت حينئذ وقلت مخاطباً له قوله " أفرأيت من اتخذ آلهه هواه واضله الله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون " فخجل ذلك الرجل وكان والدي يسميه شيخ الاسلام، وكان جواداً قال بعضهم: ما رايت اسخى منه، وقال آخر: ما أظن أن أحداً من الاشراف العرب ودخل الهند إلا وله عليه احسان، وكان لا يمسك شيئاً ولذلك كان كثير الاستقراض، وكان تغلب عليه الحدة، وكان من شدة تواضعه لأصحابه ربما ينسبونه إلى التملق وكان له عقيدة مفرطة في السادة آل باعلوي، وذهب إلى حضرموت لزيارتهم فلقى جماعة من اعيانهم وعادت عليه بركتهم، ودخل الهند وأقام بها مديدة ثم رجع إلى وطنه مكة المشرفة في سنة سبع وخمسين فحج ذلك العام وزار النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حج في السنة التي تليها وعاد إلى الهند في سنة ستين وتسعمائة فاقام بها إلى ان توفي بها رحمه الله، وكان مع جلالة قدره يغضب من ذكر " الفار " وقيل انه لقب اخيه عبد القادر لقبه به من لا أخلاق له من أهل مكة. فكان الذي يقصدونه اذيته يذكرونه له فيتعب من ذلك، وكتب إليه بعضهم هذا الاستفتاء:
يا أيها الشيخ يا من ... هو بدينه فار
يا من إذا أشتعل ... نار الذكاء منه فار
ماذا تقول لنا ... في بركة مات بها فار؟
تبددت منه أجزاؤه ... ولم يبق فار
اجب لنا مسرعاً ... الماء في التنور فار
وللأديب علي باكثير المكي رحمه الله في المنى:
يا علماء العصر ما قولكم ... في مشكل حير كل الأمم ؟
رأيت فاراً عندكم وهو لا ... يقتل في الحل ولا في الحرم
ومن شعره
طبعت على حب المعزة والثناء ... وأرجواهما في طول عمري ديدني
وها أنا أوصي كل خل معزز ... بان لا يداني للدنا من يدي دني
ومنحه الشيخ الفاضل عبد اللطيف الابير بقصيدة. منها:
يا علامة الدنيا ويا عالم غدا ... يقصر عن غاياته في العلى البدر
ومن لاح مثل الصبح فضل كماله ... فضاء به الأقطار وافتخر العصر
ويا أيها البحر الخضم لعلمه ... وللرفق بالطلاب يا أيها البر
وفاكهة الدنيا يهناه ذا الهنى ... وجمع علم فاح من طيها النشر
أب السعادات واصل محامد ... فمن أمه بالنجح آل كذا اليسر
تباهت به كجرات لما ثوى بها ... فإن فحرت يوماً يحق لها الفخر(1/200)
ومن العجائب أن المشايخ الثلاثة هو وأخواه الشيخ عبد الله، والشيخ عبد القادر كانوا كلهم أهل فضل وعلم، وكل واحد من الثلاثة مات قبل الآخر بعشر سنين فكان أولهم موتاً الشيخ عبد الله وآخرهم صاحب الترجمة رحمهم الله تعالى آمين.
" غريبة " ذكر شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني في معجمه أن الأئمة الثلاثة وهو العراقي، والبلقيني، وابن الملقن، كانوا أعجوبة هذا العصر على رأس القرن الأول في معرفة الحديث وفنونه، والثاني في التوسع في معرفة مذهب الشافعي، والثالث في كثرة التصانيف قال: ومن العجائب أن كل واحد من الثلاثة ولد قبل الآخر بسنة ومات قبله بسنة فأولهم ابن الملقن، ثم البلقيني، ثم العراقي، وحكى بعض الفقراء الصالحين قال: سمعت الشيخ أبا السعادات الفاكهي رحمه الله يقول: أسمع العلامة القاضي ابن أبي عقامة اليمني قول المعري قابله الله بعدله:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله ... وتزويجه بنيته بابنته في الدنا
علمنا بأن الخلق من أصل زنية ... وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وقال مجيبا له وراداً عليه:
لعمرك أن القول فيك لصادق ... وتكذب في الباقين من شط أودنا
كذلك اقرار الفتى لازم له ... وفي غيره لغو بذا جاء شرعنا
قلت وللمعري أيضاً
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
فقال الشريف الرضي راداً عليه:
صيانة النفس أغلتها وأرخصها ... خيانة المال فانظر حكمة الباري
وله أيضاً وهو مما يدل على عدم إيمانه بالبعث والنشور قبحه الله:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له سبك
ورد عليه الإمام محمد بن عتيق التميمي قال:
كذبت وبيت الله حلفه صادق ... سيسبكنا بعد الثوى من له الملك
ونرجع أجساماً صحاحاً سليمة ... تعارف في الفردوس ما عند ناشك
وفي عجائب البلدان للقزويني قال: وذكر أنه في آخر عمره تاب عن أمثال هذه واستغفر وحسن إسلامه. قال المجد الفيروز أبادي صاحب القاموس في كتابه البلغة في تاريخ أئمة اللغة: والناس فيه فرقتان فمنهم من يكفره ويزعم أنه كان زنديقاً، ومنهم من هو بضد ذلك وفي ظاهر أشعاره زندقة كثيرة على أن في شعره ما يدل على التوحيد الصريح والاعتقاد الصحيح كقوله:
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمة يحسبونها للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمال ... إلى دار شقوة أو رشاد
وذكر عنه أنه املأ المحكم والمخصص من صدره. وفي عجائب البلدان أنه كان سرير يجلس عليه فجعلوا في غيبته تحت قوائمه أربعة دراهم تحت كل قائمة درهماً فقال: أن الأرض قد ارتفعت عن مكانها شيئاً يسيراً، أو السماء نزلت قال: ومن العجب أنه مع ذكائه اختفت عليه الموجودات التي ليست مجسمة كالجواهر الروحانية فاعتقد أن كل موجود يكون مجسماً قلت: ولا عجب لأن الهداية والضلال ليسا إلا بتوفيق الله وهدايته أو خذلانه وعدم رعايته وأن غير العاقل قد يلهم كثيراً مما يحرمه العاقل قال الله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " " من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له " ولعمري أن العقول التي لم تستضيء بنور الشرع هي عقول أضلها باريها وقضى عليها بالشقاء قاضيها رزقنا الله تعالى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شريعته وجعلنا من خيار أمته وانصار ملته بمنه وكرمه آمين. وما أحسن قول البوصيري رحمه الله:
رب إن الهدى هداك وآياتك ... نور تهدي بها من تشاء
كم رأينا ما ليس يعقل قد ... الهم ما ليس يلهم العقلاء
ووجدت في بعض التعاليق بخط صاحبنا العلامة الشيخ أحمد بن علي البسكري: ان الشيخ عبد النافع ابن الشيخ أحمد ابن عراق دعى الشيخ أبا السعادات الفاكهي إلى ضيافة مع صاحب له يسمى بابن المجد، وكتب إليه في الاستدعاء هذين البيتين:
أبا السعادات وابن المجد خادمكم ... أخو التضرع عبد النافع الداعي(1/201)
يدعوكم ساعة تلقاء منزله ... وليس يخفى الذي في الشرع للداعي
ورأيت بخط صاحبنا العلامة شهاب الدين ابن الشيخ أحمد بن علي البسكري المكي المغربي المالكي رحمه الله تعالى ما صورته: وجدت في تذكرة مولانا العلامة ذي الكمالات الشيخ أبي السعادات هذين البيتين وهما:
يا أهل تدريس العلوم جميعه ... وذوي عقول قد صفت من ريبة
هل تعلمون محلة معروفة ... جمعت كمكة في عداد فضيلة
فكتبت جوابهما وأنا الفقير إلى عفو الله أحمد البسكري فقلت:
لا والذي برأ الأنام بأسرهم ... ما مثل مكة شرفت من قرية
وكذاك ما مثل الحطيم وزمزم ... والمشعرين وركنها في خطة
وكذا الصفا والحجر والميزاب والبي ... ت الشريف فذاك أعظم نعمة
إلا على قول الهزبر إمامنا ... شيخ الأنام إمام أهل السنة
ان المدينة شرفت بمقام من ... قد حل فيها فهي اشرف بقعة
صلى عليه الله ربي سرمداً ... أبداً دواماً ماتوالت غمضة
وفيها: في ليلة الأحد السابع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام توفي الولي الكبير والقدوة الشهير الذي وقع على ولايته الاجماع والاتفاق وقصد بالزيارة من الآفاق الشيخ أبو بكر ابن سالم باعلوي " بعينات " وكان من المشايخ الأفراد المقصودين بالزيارة من أقصى البلاد، وانتفع ببركته الحاضر والباد وانغمرت بنفحات أنفاسه العباد، واشتهرت كراماته ومناقبه وآياته في الآفاق وسارت به الركبان والرفاق، وحصل له القبول التام عند الخاص والعام. وعينات بكسر المهملة وسكون المثناة من تحت وقبل الألف نون وبعدها مثناة فوقية. قرية بحضرموت على نصف مرحلة من تريم كانت اقامته بها، وقصده إليها الزوار من الأقطار حياً وميتاً: وفيها: توفي الحكيم شهاب الدين محمود شمس الدين السندي، وكان آية في الحكمة والمعالجات، وحكي ان بعض السلاطين اهدى إلى السلطان محمود صاحب كجرات أشياء نفيسة من جملتها جارية وصيفة فأعطاها السلطان لبعض الوزراء فاتفق ان الحكيم المذكور جس نبضها قبل أن يمسها ذلك الوزير فحذره من ذلك وقال: ان من يجامعها سيموت. فأرادوا تجربته في ذلك فجاؤا بعبد وادخلوه عليها فمات لوقته فازداد تعجب الوزير لذلك وسأله عن السبب فيه فقال: انهم اطعموا أمها في حال حملها أشياء أورثت ذلك، وان مهديها قصد هلاك السلطان قلت: فلله دره من طبيب ماهر ما احذقه وقد ذكر القزويني في عجائب البلدان ما يقرب من هذا فقال عند الكلام على عجائب الهند: ومن عجائبها " البيش " وهو نبت لا يوجد إلا في الهند سم قاتل أي حيوان يأكل منه يموت ويتولد تحته حيوان يقال له فارة البيش تأكل منه ولا يضرها، ومما ذكر أن ملوك الهند إذا أرادوا الغدر بأحد عمدوا إلى الجواري إذا ولدن وفرشوا من هذا النبت تحت مهودهن زماناً تحت فراشهن زماناً، ثم تحت ثيابهن زماناً، ثم يطعموهن منه في اللبن حتى تصير الجارية إذا كبرت تتناول منه ولا يضرها، ثم يبعث بها مع الهدايا إلى من أرادوا الغدر به من الملوك فإنه إذا غشيها مات.
سنة ثلاث وتسعين بعد التسعمائة(1/202)
وفي ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين: توفي الأستاذ الأعظم قطب العارفين الشيخ محمد ابن الشيخ أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عوض بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن يعقوب بن نجم الدين بن عيسى بن داود بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه البكري الصديقي الشافعي الأشعري المصري، وأم جده الأعلى أحمد بن محمد بن أحمد فاطمة بنت الشريف تاج الدين القرشي ابن محمد بن عبد الملك بن يرحم بن حسان بن سليمان بن محمد بن علي بن الحسين بن الحسن المثنى بن حسن السبط، وروي أن الشيخ كان يفتخر بهذه النسبة النبوية ويقول: ما أحب أن لي بها كذا ... وكذا...، وكان هذا الشيخ من آيات الله في الدرس والإملاء فكان إذا تكلم فيه تكلم بما يحير العقول ويذهل الأفكار بحيث لا يرتاب سامعه في أن ما يتكلم به ليس من جنس ما ينال بالكسب، وربما كان يتكلم فيه بكلام لا يفهمه أحد من أهل مجلسه مع كون كثير منهم أو أكثرهم على الغاية من التمكن في سائر مراتب العلوم الإسلامية والإحاطة بفنونها فيذكر له ذلك بعد القيام من المجلس فيقول: ليس بأعجب من حال المتكلم به فاني فيه مثلهم، وكان إليه النهاية في العلم حتى كان بعض أئمة العلوم والمعارف هناك ممن أفنى عمره في كسب العلوم الدينية والمعارف الربانية يقول: والله لا ندري من أين هذا الكلام الذي نسمعه من هذا الأستاذ؟ ولا نعلم له أصلاً يؤخذ منه؛ ولولا العلم بسد باب النبوة لا ستدلينا بما نسمعه منه على نبوته. وأما مجالسه في التفسير وما يقرره فيها من المعاني الدقيقة والأبحاث الغامضة مع استيعاب أقول أئمة التفسير من السلف والخلف، وبيان أولاها بالاعتماد عنده، وذكر المناسبات بين السور والآيآت وبين أسمآء الذات المقدسة والصفات ومواضعها وما قاله أئمة الطريق في كل آية من علوم الإشارة فإن القرآن نزل بها أيضاً، فذاك مما يحير العقول ويدهش الخواطر مع كون ما يلقيه من ذلك كله في ألفاظ مخترعة بالغة في الفصاحة والبلاغة والجزالة والإيضاح إلى الغاية التي ليس ورآها غاية. مع كون أكثرها أو جميعها مسجعاً مقفاً معرباً موضوعاً في محله الذي لا أولى منه به، ولم يحفظ له أحد هفوة في لفظ من الفاضة من جهة اعراب أو تصريف أو تقديم أو تأخير أو غير ذلك من هفوات الألسنة في تقرير العلوم، وما من درس من دروسه إلا وهو مفتتح بخطبة بديهية أو غير بدبهية مشتملة على الإشارة إلى كل ما اشتمل عليه ذلك الدرس على طريق براعة الاستهلال. وهكذا كانت مجالسه في الحديث والفقه، وكل علم يتصدى لتقريره لا يظن سامعه المتمكن في ذلك العلم الحافظ لأصوله وفروعه أنه ترك في كل بحث كلمة لأحد من المتكلمين فيه مع ما يبديه هو من اختياراته الشريفه، وكان الشعراء من فضلاء مصر المتمكنين في علوم اللغة وقواعد الشعر ومذاهب الانشاء يقصدون يوم ختمه فيكتبون القصائد البديعة في مدحه، وبيان ما من الله به عليه من سائر النعم الظاهرة والباطنة فتتلى، أو المهم منها على رؤوس الاشهاد في مجلسه الشريف وفيه خلائق من الخاصة والعامة، ويجلس هو نفعنا الله ببركاته لاستماع ما يتلى منها بين يديه، ويجيز على كل منها ويظهر السرور بها لطفاً منه بأصحابها وجبراً لخواطرهم ومقابلة لحسن ظنهم وعقائدهم نفعنا الله ببركاته، وكان إذا قام من كل مجلس جلس فيه للتدريس في الجامع الأزهر أو غيره يتقدم إليه الناس لتقبيل يده والتبرك بدعائه إذ ذاك والقرب من موضعه الشريف الذي هو موضع الرحمة، ويقع بينهم ازدحام عظيم، وربما سقط بعضهم تحت أقدام الناس وحوله إذ ذاك جماعة من جند سلطان الروم وغيرهم قد حلقوا على حضرته بأيديهم خشية عليه من الايذاء بالازدحام، وربما أخذ واحد منهم بيده الشريفة وهي ممدودة لتقبيل الناس لطول زمن مدها لهم إذ كان يقف لهم بعد درسه نحواً من ساعة زمانية، ثم يسير إلى جهة دابته والناس على الغاية في الازدحام عليه إلى أن يصل إليها، ومما يشهد بكونه بالمقام الأعلى من الإحاطة بأنواع العلوم وأصناف المعارف ما كان يتكلم به في مجالسه الخاصة والعامة من منظوم الكلام ومنثوره، ولما مرض والده شيخ الإسلام وفارس ميدان العلوم والمعارف أبو الحسن البكري نفعنا الله ببركاته مرضه الذي مات فيه اختلى بولده المذكور وخصه(1/203)
من مواهب الله بما خصه الله به، ثم استدعى بتلامذته ومريديه من شيوخ الإسلام وكبراء الإعلام ممن أفنوا أعمارهم في الاستفادة منه والأخذ منه والأخذ عنه وأمرهم بالاستفادة منه والأخذ عنه والدخول تحت حكمه، ثم لما انتقل والده إلى دار الكرامة هم بعض من عظماء تلامذته بالجلوس في مجلس والده بالجامع الأزهر ظناً منه أن والده المذكور لم يبلغ رتبة الجلوس في مجلس والده لصغر سنه إذ ذاك. فإن عمره إذ ذاك كان نحواً من إحدى وعشرين سنة مع أنه لم يسبق له قبل ذلك اشتغال بالعلم يترتب عليه التأهل للجلوس في مجلس والده الذي هو بالمقام الأعلى من كل علم ومعرفة وإلا لم يستبعدوا ذلك منه، وقد ذكر اليافعي في تاريخه أن ابن سينا فرغ من العلوم العقلية والنفلية وعمره ثمان عشرة سنة مع ما قيل في ابن سينا من القدح والمدح، فتقرر الأمر على أن يعقدوا للمذكور مجلساً يكون فيه أكثر علماء مصر من سائر المذاهب أو كلهم فحضروا، وشرع المذكور في تقرير العلوم عن ظهر قلب، وفي ظني أن كلامه كان شروعاً في تفسير القرآن، فقرر في ذلك المجلس من أنواع العلوم وأصناف المعارف ما بهر عقولهم وحير البابهم في ألفاظ لم يسمع السامعون في زمانهم أفصح ولا أبلغ ولا أمتن ولا أجزل ولا أجمع منها، فاذعنوا له من ذلك الآن وعرفوا أنه أحق منهم ومن غيرهم من علماء مصر وغيرها بمجلس أبيه، ولم يزل من ذلك الآن الصدر المقدم في كل مجلس جلس فيه من مجالس علماء الإسلام، وعلماء أركان الدولة الإعلام إلى أن توفاه الله تعالى إلى ما منحه الله تعالى، فضاهى أباه في حاله ومقاله وحذا حذوه في العلوم ونسج على منواله وتابعه في أخلاقه الحميدة وآثاره الصالحة حتى قيل " ما أشبه الليلة بالبارحة " وقد أشار رحمه الله إلى ما منحه الله من مراتب الكمال في هذا السن فقال:ن مواهب الله بما خصه الله به، ثم استدعى بتلامذته ومريديه من شيوخ الإسلام وكبراء الإعلام ممن أفنوا أعمارهم في الاستفادة منه والأخذ منه والأخذ عنه وأمرهم بالاستفادة منه والأخذ عنه والدخول تحت حكمه، ثم لما انتقل والده إلى دار الكرامة هم بعض من عظماء تلامذته بالجلوس في مجلس والده بالجامع الأزهر ظناً منه أن والده المذكور لم يبلغ رتبة الجلوس في مجلس والده لصغر سنه إذ ذاك. فإن عمره إذ ذاك كان نحواً من إحدى وعشرين سنة مع أنه لم يسبق له قبل ذلك اشتغال بالعلم يترتب عليه التأهل للجلوس في مجلس والده الذي هو بالمقام الأعلى من كل علم ومعرفة وإلا لم يستبعدوا ذلك منه، وقد ذكر اليافعي في تاريخه أن ابن سينا فرغ من العلوم العقلية والنفلية وعمره ثمان عشرة سنة مع ما قيل في ابن سينا من القدح والمدح، فتقرر الأمر على أن يعقدوا للمذكور مجلساً يكون فيه أكثر علماء مصر من سائر المذاهب أو كلهم فحضروا، وشرع المذكور في تقرير العلوم عن ظهر قلب، وفي ظني أن كلامه كان شروعاً في تفسير القرآن، فقرر في ذلك المجلس من أنواع العلوم وأصناف المعارف ما بهر عقولهم وحير البابهم في ألفاظ لم يسمع السامعون في زمانهم أفصح ولا أبلغ ولا أمتن ولا أجزل ولا أجمع منها، فاذعنوا له من ذلك الآن وعرفوا أنه أحق منهم ومن غيرهم من علماء مصر وغيرها بمجلس أبيه، ولم يزل من ذلك الآن الصدر المقدم في كل مجلس جلس فيه من مجالس علماء الإسلام، وعلماء أركان الدولة الإعلام إلى أن توفاه الله تعالى إلى ما منحه الله تعالى، فضاهى أباه في حاله ومقاله وحذا حذوه في العلوم ونسج على منواله وتابعه في أخلاقه الحميدة وآثاره الصالحة حتى قيل " ما أشبه الليلة بالبارحة " وقد أشار رحمه الله إلى ما منحه الله من مراتب الكمال في هذا السن فقال:
وصلت وسني عشرون ما ... تقاصر عنه فحول الرجال
فما ابن ثمانين إلا الوليد ... ومجدي يزيد بقومي وآلي(1/204)
وله جملة تصانيف. منها: شرح على مختصر أبي شجاع في الفقه، وكتب أيضاً على أوائل منهج شيخ الإسلام زكريا شرحاً ولم نساعد القدرة على اتمامه وله رسائل في أنواع من العلوم والمعارف والآداب كرسالة في الاسم الأعظم، ورسالة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورسالته في آداب الشيخ والمريد ورسالته في الزيارة، وغيرها من الرسائل الجامعية النافعة الدالة على كمال تمكنه في سائر العلوم الإسلامية والمعارف الربانية، وديوان شعر، كبير وكان على ما قيل يقول وقت الوارد، وربما كان بين الناس بمنزله الشريف، أو بين أهله أو وحده فورد عليه الوارد فاستدعى بالدواة والقرطاس وكتبه إذ ذاك، وما من معنى أشار إليه أئمة الطريق مما يتعلق بالذات المقدسة أو الصفات المنزهة أو بالذات المحمدية والصفات النبوية إلا وله فيه القول إلا بلغ واللفظ لافصح، ومن كلامه أقل واجب على الفقير أن يتطهر من نجاسة الذنوب بالتوبة وهي الاقلاع عن المعصية والندم على فعلها، والعزم على تركها، ورد الظلامة إن كانت وقدر، وعليه أن يتدارك فوائت صلوات تركها، وأن يبادر بالنظر والالتفات لاستاذ يخدمه ويمتثل أمره ويؤمره على نفسه ليخرج له خبائها وينقب له عن دسائسها، ويستعين بالله ثم به على طهارته من ذلك فإذا صح ذلك للفقير فهو الغنيمة الكبرى والاكسير الأكبر والكبريت الأحمر، وله بعد استنشاق روائح الوصول آداب منها: أن لا يقف عند مرتبة بل يتخطاها بصدق اليقين، ومنها: أن لا يشهد أنه وصل فذلك حجاب عظيم بل يغيب في شهوده وذلك هو المقام الكريم، ومنها أن لا ينفذ سهم نقمة عن قوس لحد من الخلق ولو بالغ في أذيته، بل يبالغ في معاملته بالرحمة حتى يبلغ الامهال أجله ويفعل الله ما يشاء والسلام. وسئل رضي الله عنه: لم كان في أهل مكة قسوة القلب، وفي أهل المدينة لينها؟ فقال: لأن أهل مكة جاوروا الحجر، وأهل المدينة جاوروا البشر. وأنشد بعضهم بحضور الأستاذ المذكور قول الشاعر:
لله قاموس يطيب وروده ... اغنى الورى عن كل معنى أزهر
نبذ الصحاح بلفظه والبحر من ... عاداته يلقى صحاح الجوهري
فكسر الصاد من صحاح فقال الأستاذ الصحاح لا تكسر. فتعجب كل من كان في المجلس من هذا الجواب مه سهولة اللفظ والتورية، ويروى عن شيخ الإسلام الطبلاوي أنه قال: الصحاح بالفتح أفصح وأكثر استعمالاً، وما ألطف قوله قدس الله روحه إذ يقول:
ما اريض مفتح الأزهار ... وبهيج مشعشع الأنوار
ولآل منظمات عقوداً ... لغوان عرائس ابكار
وشموس تضيء في أفق السع ... د زها ضوءها على الأقمار
وغصون بايكها تسجع ... رق فتنسى ترنم الأوتار
مثل قول الآله في حق جدي ... " ثاني اثنين إذ هما في الغار؟ "
ومن نظمه هذه الوسيلة العظيمة، وهي:
ما أرسل الرحمن أو يرسل ... من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه ... من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده ... نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها واصل لها ... يعلم هذا كل من يعقل
فلذ به في كل ما ترتجي ... فهو شفيع دائماً يقبل
وعذبه من كل ما تختشي ... فإنه المأمن والمعقل
وحط احمال الرجا عنده ... فإنه المرجع والموئل
وناده إن أزمة انشبت ... أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه ... يا خير من فيهم به يسأل
قد مسني الكرب وكم مرة ... فرجت كرباً بعضه يذهل
ولن يرى أعجز مني فما ... لشدة أقوى ولا أحمل
فبالذي خصك بين الورى ... برتبة عنها العلى ينزل
عجل باذهاب الذي اشتكي ... فإن توقفت فمن أسأل
فحيلتي ضاقت وصبري انقضى ... ولست أدري ما الذي أفعل
فأنت باب الله أي امرء ... أتاه من غيرك لا يدخل
صلى الله عليك ما صافحت ... زهر الروابي نسمة شمأل(1/205)
مسلماً ما فاح عطر الحمى ... وطاب منه الند والمندل
والآل والأصحاب ما غردت ... ساجعة املودها مخضد
ومنه هذه الأبيات وأنشدها بين يدي الحضرة النبوية، وحكي أنه سمع المصراع الأخير منها من الحضرة النبوية:
ولما أتينا قبر اشرف مرسل ... ولاح لنا سر العناية ينجلي
وغيب سر الروح في ملكوته ... فصار عن الأكوان في أي معزل
وسار من الجمع المحيط لرتبة ... تعالت بسر الذات عن وصف منزل
عرضت عليه ما أريد فقال لي ... لسان تجلى الحق مني بمقول
مجيباً بما أملته من عطائه ... سمعنا وأعطيناك فوق المؤمل
ومنه
أتينا على النجيب العتاق لطيبة ... وقد ضاق من نفسي فسيح فضائلها
وانزلت حاجاتي بباب محمد ... على ثقة من نجها وقضائها
ومنه
أحس من تنظر العيون فتى ... عرفه الله أنه الله
أبعد عنه حظوظه فغدا ... في حضرة قصده الله
فرغه عن جميع عالمه ... فصار بالحق شغله الله
ادخله خلوه مقدسة ... يذكره فيها وذكره الله
علمه ما يشاء ثم على ... به إليه فعلمه الله
حقق فيه القبول منه له ... فإن دعاه أجابه الله
لطفه فارتقى وزج به ... في النور فضلاً فنوره الله
بلغه المنتهى وأوصله ... فعاد عبداً شهوده الله
ألبسه من ثياب حضرته ... ملابساً رقمها هو الله
وبعد أن صار منفرداً علماً ... قال له انني أنا لله
ومنه
إذا صح صدق العبد في حب مولاه ... الأح له معنى الجمال وابداه
وأغناه عن أوصافه ونعوته ... والجمع في غيب الحقيقة أبقاه
وألبسه تاج المعارف والهدى ... وآنسه بالقرب منه وأدناه
ومنه
إذ يعمر قلب بالاله غدا ... مرآه كل شهود كامل الرتب
واودعت فيه بل له برزت ... كل العلوم فلم يحتج إلى كتب
وصار بيتاً يطوف العارفون به ... ويدركون به المأمول من طلب
ومنه
أي قلب قابل الحق فلم ... ينشرح هذا خلاف الواقع
وأي صدر صار معنى سره ... ثم لم يغن بفضل واسع
أي عين أبصرت أنواره ... ثم تلتاح لابهى ساطع
غير أني ضيق الصدر فما ... ذاك إلا من وجود المانع
ثم لا حجر عليكم سادتي ... إن رحمتم أو قطعتم قاطع
هكذا أبقى كئيباً بائساً ... حاش لله فذلي شافع
انني من تعلمون أنه ... لم يزل في الباب أوفى خاضع
لم يزلى للعفو منكم راجياً ... لم يزل في العفو أقوى طامع
عجلوا بالغوث هذا وقته ... وارحموا ذل كئيب خاشع
عبدكم فقيركم كسيركم ... مالكم عن جبره من دافع
ومنه
إذا خطب ذنب علينا دجا ... انرنا دجاه بنور الدجى
فكم شدة من ذنوب عظام ... لها الله بالعفو قد فرجا
وكم ضقت ذرعاً بجرمي فما ... وجدت سوى العفو لي مخرجا
فلله الجأ ولا تيأسن ... فما خاب عبد إليه التجا
ومنه
ومالي شيء عليه اعتماد ... ولكن إلى فضلك الاستناد
جعلتك ذخري ليوم الخطوب ... وغوثي وعوني يوم المعاد
ومنه
إذا ضاق أمر فلا تيأسن ... وكن راجياً فضل رب مجيب
فكم شدة وأتى بعدها ... من الله نصر وفتح قريب
ومنه
استفتح الفضل بخير الورى ... رسول رب العالمين الحبيب
ولا تخف بالله من حاسد ... فإن مولاك عليه رقيب
واستعن بالحق وخل السوي ... فأنت في حفظ القريب المجيب
واستمنح الجود به واثقاً ... بالله فالرأي بهذا مصيب(1/206)
واجعل جميع العمر في طاعة ... فطاعة الخالق أزكى نصيب
فمن يطع الخالق يولد ... من فيضه الباهر سر عجيب
فابك زماناً مر في غفلة ... بادمع هاطلة كالصبيب
وتب إلى الله وخف قهره ... أو عد إليه عود عبد منيب
عساه بالعفو ينيل الرضا ... ويغفر الذنب وماذا عجيب
ومنه
ليس للعبد سوى الله ... فانتهض واصدق مع الله
واترك الأكوان وارحل ... عن سوى الله إلى الله
واحذر الأغيار واشهد ... كل ذي الأشياء من الله
والزم الآداب واترك ... حاله الخلق إلى الله
هكذا من كان عبداً ... فوض الأمر إلى الله
لست تخشى قط سوء ... إن توكلت على الله
لا ولا صداً وطرداً ... إن توجهت إلى الله
كم عيوب ستر الله ... كم ذنوب غفر الله
ومنه
إذا ضاق فلا تجزعن ... وسلم لمولى به قد حكم
واياك إن تعترض ... فمعترض الحق يلقى للندم
وراض بأحكامه يرتقي ... من المجد فوق معالي القمم
ويؤتيه مطلوبه عاجلاً ... ويسعفه بسجال الكرم
ويذهب عنه بتفريجه ... مضايقه والذي قد أهم
فما ساداها الصفا غيرهم ... سوى الوفاء بعهود الذمم
وتسليمهم للاله العزيز ... وتفويضهم لمعيد النعم
ومنه
أمولاي قل لي هل ترى الدهر باللقى ... يمن؟ فلي شوق إليك شديد
وهل تمتلي العين منك بنظرة ... ويقرب من بعد الفراق بعيد؟
ومنه
أود من الدنيا صديقاً موافياً ... وفياً بما أرضاه يرضى وينشرح
فإن لم أجد أعرضت عن كل كابر ... وقلت لقلبي قد خلا الكون فاسترح
ومنه
إن في الشاروخ معنى ... يظهر العرفان سره
إن تعلى فهو وتر ... أو تدلى فهو كثره
ومنه
قل لمن زاد في ارتكاب عظيم الذنب ... دهراً وللحدود تعدى
ما جميع الذنوب في جنب عفو الله ... إلا أقل من أن تعدا
ومنه
يا قلب إن كنت قلبي لا تمل للغير ... واصبر على حكم من تهواه تلقى الخير
واسلك ولو كنت في الرفعة ضعيف السير ... واصدق مع الله ترزق مثل رزق الطير
ومنه
يا قلب ان كنت قلبي ارض بالأقدار ... وراقب الله في الاعلان والاسرار
واشهد بعين البصيرة بهجة الأنوار ... مستهلكا لجميع الحجب والاستار
ومنه
يا قلب ان كنت قلبي غب عن الأكوان ... وطب بنشوة ما لها ادنان
خمرة قديمة علت عن خير الحدثان ... هي المدام وساقي القوم والندمان
ومنه
ولو افرغوا كل الدنان بباطني ... ولم ابتغ سكراً لما مسني سكري
ولو ابتغي سكراً وقالوا مدامة ... رأيت فتى طاشت بسكرته الخمر
ومنه هذا الفرد، وهو مما انشده الشيخ يحيى الخزاعي وهو تلميذ والده الشيخ أبي الحسن وقال اجز يا يحيى:
ونفسك دع عنك التكلف واطرج ... ولا تلتفت إلا إلى الله تسترح
فقال الشيخ يحيى
ونفسك سر السر ان فقت تسترح ... فجل في مجال الله بالله تسترح
ومنه وهو مما قاله في مرض موته وهو آخر شعر أنشده:
ولقد اقول لطالبي إحسانهم ... إحسانهم يأتيك سعياً بلا طلب
كم فرجوا من كربة عن عبدهم ... وكذاك هم أهل لتفريج الكرب
ووجدت بخط صاحبنا العلامة شهاب الدين الشيخ أحمد ابن العلامة علي البسكري المكي المالكي المغربي. قال انشدنا شيخنا شيخ الإسلام محمد البكري عند نظره إلى الماء وتكسره وتجعده:
انظر إلى الماء الذي ... بيد النسيم تجعدا
قد شبهوه بمبرد ... فلا جل ذا يبري الصدا
وللشيخ عبد العزيز الزمزمي المكي فيه:
وانه قطب هذا الوقت دون مرا ... به الوجود ازدهى عطفا وانتظما(1/207)
سمي خير البرايا سبط عترته ... ونجل صديقه من فضله عظما
قد عنه واسمع به وانظر إليه تجد ... ما قد ملا مسمعاً مع مقله وفما
حدث عن البحران حدثت عنه ولا ... عليك من حرج تخرج به التهما
بحر يفيض علوماً من جوانبه ... بالبحث في كل فن موجه التطما
من حضرة القدس فيضاً حل عن ... الشيخ تلقه إلا بتخصيص له قسما
مواهب باكتساب لا تنال إذا ... ادراكها اعجز الحفاظ والفهما
وما احسن قول الأيب إبراهيم ابن المبلط فيه من قصيدة طويلة:
وكراماته غدت بينات ... ليس تخفى على الناس ظهورا
من أبو بكر الإمام له جد ... وقد كان للنبي نصيرا
ورفيقاً وصاحباً وأنيساً ... من عدو في الغاربات مغيرا
حاز إسناده علواً رفيعاً ... درجات على الأنام وفورا
اخذ العلم عن أبيه عن الصديق ... عن سيد الورى مأثورا
لا تجف عين علمه عين ضد ... فهي عين قد فجرت تفجيرا
وله أيضاً فيه وقد رجع من الحج، ومدح فيها القهوة فقال:
كفى شرفاً لها انها ... تدار في الحجر والحجره
وانها تشرب في حضرة ... الأستاذ شيخ الوقت والحضره
محمد نجل أبي بكر الصديق ... أعلى ربنا قدره
أهلاً به من قدم قد أتى ... بعد تمام الحج والعمره
مسافر طلعته أسفرت ... عن طلعة الشمس يا لها سفره
في كل عامين له حجة ... والحج لم يفرض سوى مره
إذا أراد الحج في عامه ... لا برده يخشى ولا حره
مبارك الطلعة ميمونها ... فمن رأى وجهاً له سره
قلت إمام عارف ذاكر ... لله لا تاخذه فتره
له كرامات غدت للورى ... ظاهرة مظهرة سره
واعجبا من حاسديه فما ... ينالهم شيء سوى الحسره
فليس فيهم من حذا حذوه ... وليس فيهم من فقا أثره
ما منهم إلا قتيل بلا سي ... ف ومذبوح بلا شفره
يعجز عن نيل علاه امرء ... ليس له قدره ولا قدره
ما الليث كالهر ولا الدر ... كالحصى ولا الصارم كالابره
ان كنت ذا جهل بعلم له ... فاسال أولي الأخبار والخبره
وكان الشيخ يحج في كل عامين مرة، ولابن المبلط في تاريخ مجلس بناه الأستاذ.
يا ناظراً صلي على المصطفى ... وآله الغر وأصحابه
واعلم بان العلم كنز الهدى ... قما قوام الدين إلا به
والزم حمى البكري شمس العلى ... ومرغ الخد باعتابه
ابوابه بالسعد مفتوحة ... يا سعد من لاذ بأبوابه
أنشأ بيتاً جاء تاريخه ... " يسلم من يدخل من بابه "(1/208)
وكان شيخ أهل هذا الطريق حالاً وعلماً، وإمام أربابها حقيقةً ورسماً، ومحيي رسوم المعارف فعلا واسماً، عباب لا تكدره الدلاء وسحاب تتقاصر عن الأنواء، مع ما خصه الله به من العلوم والمعارف والأخلاق وجمال الصورة والهيبة والعرفان والسكنية والعفة والصيانة والجود والرحمة والقيام بحقوق الخاصة والعامة ولقد رأيت من أقواله وبلغني من أخلاقه وأحواله ما لا تسعها عبارة، ولا يهتدى إليها بإشارة، وذكروا له كرامات كثيرة. وبالجملة فانه لم يكن له نظير في زمانه، ولم يخلفه بعده مثله رحمه الله، وكان والده من كبار أهل العلم، بل قيل انه كان مجتهد زمانه والمجدد على رأس المائة التاسعة وأحق الناس بالقضاء، وقد عرض عليه فامتنع منه قولا باتاً، وهو المجمع على انه فريد عصره علماً وولاية وحالا افصح أهل زمانه قلماً ومقالاً وأعظمهم سودداً وجلالة ورفعةً وكمالاً، عالم المسلمين دون نزاع وشيخ مشايخ الإسلام الذي انقطعت عن مضاهاته الاطماع وانتشرت مصفاته كالآخذين عنه إلى سائر البقاع، واشتهرت كراماته ومكاشفاته حتى روتها الألسن ووعتها الأسماع، خاتمة المحققين لسان المتكلمين حجة المناظرين بقية السلف الصالحين، وحكي أن أمه رأت في المنام وهي حامل به كأن الشمس أو القمر في سباتها فذهبت إلى عالم بالتعبير وقصتها عليه. فقال لها: حملك هذا ذكر يملأ الشرق والغرب علماً، وكان شيخ الطريقة واحفظ من على وجه الأرض بالحقيقة، وأفصح أهل زمانه على الاطلاق، وأعظمهم نوارنية وانشاءاً بالاتفاق ملك القلوب بعذوبة لفظه وخدم السعد تحت ركائب حظه، تعرف بمن شآء بمعارف فصار من خاصته، واجتنى ثمر صحبته، وتنكر على من شآء فمنعه استجلاء عرائس عرفانه وحجبه عن حضرته، سار في منازل السائرين سير الجنيد وفي منهاج العابدين سير أهل التجريد، أعماله أغلبها قلبية، وعلومه أكثرها وهبية أن تكلم في المعارف أبهر أهل المعرفة، أو سكت خلت من لم يره قبل بأنواره قد عرفه، لا يتكلم في المحبة إلا رأيته ذا شوق شديد ولا يذكر بالله إلا ألآن قلوباً في القساوة كالحديد، تخال من حضر مجلسه من القوم بسماع كلامه سكارى، وقلوبهم في شهود جماله عند تنزل التجليات عليه وآلهة حيارى، لا يرتاب ناظره مع سماع كلامه أنه من أرباب القلوب، وان المتنزل عليه من العلم اللدني قريب عهد بربه بارز من حضرة علام الغيوب، كيف وقد تربى حجر الجلال وارتضع من ثدي الكمال واتصل نسبه بالذروة والصديقية أو الشجرة المحمدية الحسنية باعتبار أنه سبط آل الحسن، وحاز كمال الخلق الحسن والفصاحة أو اللسن، فهو ربيب أهل تلك الحضرة أهل الولاية السابقين بأول نظرة المميز من لدنهم في حال طفوليته تمييز الموعود من قبلهم على لسان بعضهم أن يكون في مملكة العرفان ملكاً عزيزاً، مشاهداً في آخر مرة صدق هذا الوعد وإنجازه تنجيزا، ألا ترى إلى لبسه خلع الرياسة الدينية وحلل العوارف وصون نفسه عن الذلة لأبناء الدنيا مع العلم بأنه ما جنا بل جنى ثمر المعارف قبل جولانه في ميدان الرياضات وقبل أن ترسي سفينة قدسه الجارية في بحار انسه على سواحل الإرشاد لمعالم الديانات، والى ابدائه في مجالس املائه لكلماته الفتحية العطائية وعرائس الحقائق البارزة عن حضرات الفتح المحمدي واللسان الصديقي، ولعمري أن الناظر إليه إذ ذاك يشهد طلعته عند ذلك نوراً محضاً بل ذاته وملابسته كلها كذلك لكنه نور جمال يتمتع النظر إليه، ولا بدع فذلك من أثر التجليات الالهية عليه، وكان ما هو عليه من الاشتغال بالتصنيف والإفتاء لا يزال يتكلم على طريق الاملاء، وكان يجلس بالمسجد الحرام وفي المسجد الحرام وفي المسجد النبوي، وفي المسجد الأقصى، وفي الجامع الأزهر ونل هيك بهذه المواضع التي كان يجلس فيها وكان كأنما يغترف من بحر أعاد الله علينا من بركاته، وحكي أنه كان لا يملي على القرآن والحديث. حتى يطالع المحل الذي يتكلم عليه كعادة غيره. قال: فبينما أنا طالع في الكراس وأنا قاصد إلى الجامع إذ نوديت في سري يا أبا الحسن. أما القرآن والحديث فإلينا، وأما غيره فإليك، فمن ذلك العهد إلى تاريخه ما طالعت لأملاء عليهما فلي على ذلك تسع وثلاثون، أو قال: بضع وعشرون سنة، وإنما اجيء إلى محل الالقاء ولا أدري على لساني فيجري الله تعالى عليه نحو ما تسمعونه وله تصانيف كثيرة لا تحصى. من جملتها(1/209)
تفسير القرآن العظيم واسمه تسهيل السبيل في فهم معاني التنزيل، وشرح العباب الفقهي بشرحين مبسوط ومختصر ، وشرح روض ابن المقري في حجم نصف شرح شيخه زكريا وزاد فيه على شيخه اثنى عشر ألف فرع على كل فرع منها علامة على الحاشيته بصورة " ف " ، وشرح مهاج النووي بخمسة شروح منها الكنز والمغني والمطلب، وشرح النفحة الوردية في النحو، واختصر متن ايسا غوجي في مقدار ورقة صغيرة، وجمع أربعين، أربعين حديثاً كل أربعين منها في نوع منها: أربعون في الطواف، وأربعون في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأربعون في الشيب، وأربعون في السواك. إلى غير ذلك من المؤلفات الجامعة النافعة الدالة على كمال احاطته وعلو شأنه، نفعنا الله ببركاته آمين. ويقال: إن مؤلفاته تنيف على أربعمائة تأليف، وله حزب عظيم يسمى حزب الفتح، وقد شرحه العلامة عبد القادر الفاكهي بثلاثة شروح. ومن كراماته أنه لما نقص بحر النيل في بعض السنين. قال لعبده الحبشي مندل: أنزل يا مندل قل للبحر يقول بك الشيخ أبو الحسن البكري زد أو نحو هذه العبارة فقال العبد كما أمره. فما مضت ساعة يسيرة إلا وقد ظهرت فيه زيادة كثيرة، ومنها ماروي عن الولي الصالح عبد الرحمن بن عمر العمودي أنه له وقع مرتين في صلاته شيء تردد في حكمه، فلما انتهت صلاته وكان بازاء الشيخ التفت إليه الشيخ قلائلاً: يا عبد الرحمن ما تقول فيما لو وقع لأحد في صلاة كذا... مال يظهر لك فيه؟ فقال. فقلت له: ما ظهر لي فيه مع بيان مأخذه من كلامهم فاستحسنه، وعلمت أنه أطلع على ماوقع في ضميره، ومنها ما أخبر به لعض أعيان مكة وقضاتها أنه توجه إلى المدينة الشريفة في قافلة فيها الشيخ. فلما وقع نظر القاضي المذكور على محفة الشيخ وهو فيها بحيث لا يرى كل منهما الآخر وقع في قلب القاضي المذكور انكار على الشيخ في ركوبه المحفة إلى الحضرة الشريفة، وقال في نفسه كان اللائق بالشيخ ان يترك المحفة في توجهه للزيارة قال القاضي المذكور فما انهيت هذا الخاطر إلا والشيخ فاتح باب المحفة متبع بصره نحوي تأيق إلى الخطاب قائلاً: بعد التحية المعذرة اليكم من ركوب المحفة فأني والله لو قدرت على الزيارة ماشياً ما ركبت ولو قدرت على الركوب في نحو الشقذف ما ركبت المحفة علي أعذار كثيرة في ركوب المحفة الله يعلمها، ومنها ما حكاه الشيخ الصالح محمد الظفاري مجاور الحرمين: أنه كان مرة بين يديه بعد المغرب فغلب الأستاذ النوم حتى غط قال: فوقع في نفسي كيف ينام الأستاذ قبل صلاة العشاء وهو مكروه فوالله ما خطر لي ذلك إلا وفتح عينيه قائلاً: كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه فاقشعر جلدي وخدجلت، ومنها ما أخبرت به والدته قدس الله سرها وكانت من الصالحات. أنه لما مضي له حين من ولادته وغفلت مرة في قراءة راتبها رفع بسبابته وطعنها طعنة شديدة قائلاً طلق بلسان فصيح: الله الله مراراً مشيراً بسبابته وطرفه إلى السماء إشارة إلى تذكيرها، قالت بحيث أن الجمال سمع لفظه معجب غاية العجب وقال: ما شأن هذا الرضيع وكم سنة، فقلت له: هذا ولد مجذوب، وتجاهلت عليه، وكان يقول: أني إذا دهمني أمر لا دواء له إلا الالتجاء إلى الله تعالى. ولذا لما عجب بعض أركان الدولة من كثرة توجهي إلى الحضرة الحرمية مع عظيم المشقة والضعف في بنيتي، وعظم المصرف الذي يبلغ كل عام ثلاثة آلاف دينار باعتبار المجاورة، وقال لي سيدي اما تتركوا الاكثار من السفر إلى الحجاز، فقلت له: أنت إذا عرضت لك حاجات في أمر المملكة ماذا تفعل؟ قال أسافر إلى باب السلطان لعرضها، فقلت له: فأنا تعرض لي حاجات فاسافر إلى باب السلطان وهو باب الله تعالى. وما أحسن قوله في كتابه نتائج الذكر في حقائق الفكر، في أثناء كلام له: ألا ترى الحداد إذا ادخل حديدة ليحميها في النار لأنت بعدما كانت قاسية، وبرزت محمرة اللون بعد أن كانت سوداء مظلمة وأضاء نورها، وقوى اشراقها وانقدح شرارها، فالاستغراق في المذكور بالتخلي عن السوي، والتجلي بشهود نعوت ذي الجلال والإكرام. مستغرقاً فيها تذهب أوصاف البشرية ما يكسبه الذاكر من أنوار المعارف القدسية فيتبدل وصفه ويتغير حلاه، وتشرق أنوار علاه فهناك تذهب الرسوم ويتجلى الحي القيوم، وعلى ذلك الإشارة بقولي:ير القرآن العظيم واسمه تسهيل السبيل في فهم معاني التنزيل، وشرح العباب الفقهي بشرحين مبسوط ومختصر ، وشرح روض ابن المقري في حجم نصف شرح شيخه زكريا وزاد فيه على شيخه اثنى عشر ألف فرع على كل فرع منها علامة على الحاشيته بصورة " ف " ، وشرح مهاج النووي بخمسة شروح منها الكنز والمغني والمطلب، وشرح النفحة الوردية في النحو، واختصر متن ايسا غوجي في مقدار ورقة صغيرة، وجمع أربعين، أربعين حديثاً كل أربعين منها في نوع منها: أربعون في الطواف، وأربعون في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأربعون في الشيب، وأربعون في السواك. إلى غير ذلك من المؤلفات الجامعة النافعة الدالة على كمال احاطته وعلو شأنه، نفعنا الله ببركاته آمين. ويقال: إن مؤلفاته تنيف على أربعمائة تأليف، وله حزب عظيم يسمى حزب الفتح، وقد شرحه العلامة عبد القادر الفاكهي بثلاثة شروح. ومن كراماته أنه لما نقص بحر النيل في بعض السنين. قال لعبده الحبشي مندل: أنزل يا مندل قل للبحر يقول بك الشيخ أبو الحسن البكري زد أو نحو هذه العبارة فقال العبد كما أمره. فما مضت ساعة يسيرة إلا وقد ظهرت فيه زيادة كثيرة، ومنها ماروي عن الولي الصالح عبد الرحمن بن عمر العمودي أنه له وقع مرتين في صلاته شيء تردد في حكمه، فلما انتهت صلاته وكان بازاء الشيخ التفت إليه الشيخ قلائلاً: يا عبد الرحمن ما تقول فيما لو وقع لأحد في صلاة كذا... مال يظهر لك فيه؟ فقال. فقلت له: ما ظهر لي فيه مع بيان مأخذه من كلامهم فاستحسنه، وعلمت أنه أطلع على ماوقع في ضميره، ومنها ما أخبر به لعض أعيان مكة وقضاتها أنه توجه إلى المدينة الشريفة في قافلة فيها الشيخ. فلما وقع نظر القاضي المذكور على محفة الشيخ وهو فيها بحيث لا يرى كل منهما الآخر وقع في قلب القاضي المذكور انكار على الشيخ في ركوبه المحفة إلى الحضرة الشريفة، وقال في نفسه كان اللائق بالشيخ ان يترك المحفة في توجهه للزيارة قال القاضي المذكور فما انهيت هذا الخاطر إلا والشيخ فاتح باب المحفة متبع بصره نحوي تأيق إلى الخطاب قائلاً: بعد التحية المعذرة اليكم من ركوب المحفة فأني والله لو قدرت على الزيارة ماشياً ما ركبت ولو قدرت على الركوب في نحو الشقذف ما ركبت المحفة علي أعذار كثيرة في ركوب المحفة الله يعلمها، ومنها ما حكاه الشيخ الصالح محمد الظفاري مجاور الحرمين: أنه كان مرة بين يديه بعد المغرب فغلب الأستاذ النوم حتى غط قال: فوقع في نفسي كيف ينام الأستاذ قبل صلاة العشاء وهو مكروه فوالله ما خطر لي ذلك إلا وفتح عينيه قائلاً: كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه فاقشعر جلدي وخدجلت، ومنها ما أخبرت به والدته قدس الله سرها وكانت من الصالحات. أنه لما مضي له حين من ولادته وغفلت مرة في قراءة راتبها رفع بسبابته وطعنها طعنة شديدة قائلاً طلق بلسان فصيح: الله الله مراراً مشيراً بسبابته وطرفه إلى السماء إشارة إلى تذكيرها، قالت بحيث أن الجمال سمع لفظه معجب غاية العجب وقال: ما شأن هذا الرضيع وكم سنة، فقلت له: هذا ولد مجذوب، وتجاهلت عليه، وكان يقول: أني إذا دهمني أمر لا دواء له إلا الالتجاء إلى الله تعالى. ولذا لما عجب بعض أركان الدولة من كثرة توجهي إلى الحضرة الحرمية مع عظيم المشقة والضعف في بنيتي، وعظم المصرف الذي يبلغ كل عام ثلاثة آلاف دينار باعتبار المجاورة، وقال لي سيدي اما تتركوا الاكثار من السفر إلى الحجاز، فقلت له: أنت إذا عرضت لك حاجات في أمر المملكة ماذا تفعل؟ قال أسافر إلى باب السلطان لعرضها، فقلت له: فأنا تعرض لي حاجات فاسافر إلى باب السلطان وهو باب الله تعالى. وما أحسن قوله في كتابه نتائج الذكر في حقائق الفكر، في أثناء كلام له: ألا ترى الحداد إذا ادخل حديدة ليحميها في النار لأنت بعدما كانت قاسية، وبرزت محمرة اللون بعد أن كانت سوداء مظلمة وأضاء نورها، وقوى اشراقها وانقدح شرارها، فالاستغراق في المذكور بالتخلي عن السوي، والتجلي بشهود نعوت ذي الجلال والإكرام. مستغرقاً فيها تذهب أوصاف البشرية ما يكسبه الذاكر من أنوار المعارف القدسية فيتبدل وصفه ويتغير حلاه، وتشرق أنوار علاه فهناك تذهب الرسوم ويتجلى الحي القيوم، وعلى ذلك الإشارة بقولي:(1/210)
أنوار ذاتك أشرقت ذاتي ... فمحيت عن كوني وكل صفاتي
وخرجت عن كل الوجود حقيقة ... فجمال وجهك فائق اللذات
ومن شعره أيضاً:
قد كان لي ارب قبل الوصول بكم ... فمذ تجليتم صرنا بلا أرب
ادهشتموني عن الاحساس قاطبة ... فصرت فرداً لكم في سائر الرتب
وهو الذي أفتى بحلية القهوة، حتى قال في ذلك من أبيات:
كاللبن الخالص في حله ... ما فارقته بغير السواد
وله أيضاً فيها. هذه الأبيات:
أقول لمن قد ضاق بالهم صدره ... وأصبح من كثر التشاغل في فكر
عليك بشرب الصالحين فإنه ... شراب طهور سامي الذكر والقدر
فمطبوخ قشر البن قد شاع ذكره ... عليك به تنجو من الهم في الصدر
وخل ابن عبد الحق يفتي برأيه ... وخذها بفتوى من أبي الحسن البكري
واجتمع هو وجدي الشريف عبد الله بن شيخ عند الحرم الشريف وتعانقا، وكان مع الأستاذ ولده صاحب الترجمة، فطلب له الدعاء من جدي، وكان والدي مع أبيه حينئذ، فطلب له مثل ذلك من الشيخ أبي الحسن البكري فاستجاب الله دعاؤهما في الاثنين وصارا كلاهما آيتين ففاق كل منهما في عصره الاقران، وصار قدوره لأهل زمانه، وكان مولده سنة تسع وتسعين وثمانمائة ولم اطلع على تاريخ وفاته هذا وهو الذي منعني من ان اترجم له في هذا التاريخ بالاستقلال وإلا فهم حري بذلك اذ هو أوحد زمانه علماً وحالاً ومقاماً ومعرفة رحمه الله. نعم مات رضي الله عنه في عشر الستين بلا خلاف فانه توفي وعمر ولده شيخ الإسلام محمد البكري احد وعشرون سنة، ومات المذكور سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة وعمره نيف وستون سنة فليعلم والله أعلم، وخلف الشيخ محمد أولادا أجلهم الشيخ زين العابدين، مشى على طريقه والده في الإملاء والدرس، والجود والكرم، ومحاسن الأخلاق والشيم، مع الجاه العظيم، والقبول التام عند الخاص والعام، وذكروا عنه كرامات ولم يزل كذلك حتى مات في سنة ثلاث عشرة بعد الألف رحمه الله قتلة بعض باشوات مصر ظلماً لان الشيخ كان اغلظ له بالقول في بعض الأمور فغضب وقتله، ثم أن أهل مصر المحروسة قاموا على ذلك الرجل وقتلوه. ومن شعره:
دار فكري يا رب في كل خلق ... لم أجد محسناً سوك وحقك
فاغثني فانني عبد رقك ... وتعطف وامنن علي برزقك
وفيها: توفي الشيخ العلامة محمد بن عبد الحق العقيلي المالكي بمكة،وكان قد تربى في حجر الشيخ الإمام العلامة علي بن محمد البسكري المالك، واخذ عنه وقرا عليه فهو من اجل تلامذته، ولهذا اوصى إليه وقت وفاته بتربية ولده صاحبنا الشيخ العلامة أحمد بن علي البسكري. فاخذ عنه وقرأ عليه حتى برع، وانتهى إلى ما انتهى إليه رحمه الله آمين، وسمعت صاحبنا الشيخ العلامة أحمد بن علي البسكري. قال: سمعت شيخنا جمال الدين محمد بن عبد الحق المالكي يقول إن الشيخ الكبير الرباني العارف بالله محمد بن عراق أرسل إلى الشيخ العلامة أحمد بن عبد الغفار المالكي أن يترك شرب القهوة فيما بين الناس،ويشربها في خلوة، وان يترك لعب الشطرنج. فقال له الشيخ أحمد بن عبد الغفار: اما ما أمرتني به من ترك شرب القهوة فيما بين الناس وشربها في الخلوه. فكان الأولى أن تأمرني بعكس ذلك، وأما ما أمرتني من ترك السماع فلا سمع ولا طاعة في ذلك، وأما ما أمرتني به من ترك لعب الشطرنج فهو حق وصدق غير أنى قد ابتليت بهذا الداء، فاسأل الله لي تعجيل الدواء والسلام. قلت: وكان تلميذه سيدنا وصاحبنا الشيخ أحمد المذكور من أهل العلم والصلاح، متبعاً للكتاب والسنة، سالكاً على نهج السلف الصالح، متصفاً بالعفاف قانعاً بالكفاف لا يرى في أكثر الأوقات إلا مشغولا بمطالعة أو كتابة مظهراً للجمالة، له جملة مصنفات، منها: رسالة في القهوة مفيدة جداً، وكان كف بصره قبل وفاته بقليل، وكانت وفاته في ليلة السبت ثالث عشر شهر بيع الثاني سنة تسع بعد الألف باحمد اباد، وعمره سبعون سنة رحمه الله ومن شعره:
أقسمت بالله ما حالت مودتكم ... يوماً ولا حلت عن عهدي وميثاقي
ولا تنفست أنفاساً ارددها ... إلا وفي ضمنها دمعي وأشواقي(1/211)
وقد لسعت بحيات الفراق ولم ... أجد لذاتي ترياقاً ولا راقي
غير الدعاء بان الله يجمعنا ... في سوحه كرماً من غير عواق
ومنه أيضاً في صدر رسالة أرسل بها إلى بعض أصحابه بمكة المشرفة:
وحياة من حل الحطيم وزمزما ... والمروتين ومن بذاك الوادي
ما حلت عن حبكم ولو أنني ... حاولت ذاك لما اطاع فؤادي
ومنه
تارك أيها الساقي نفوساً ... ترقت والهموم إلى التراق
بنغمة شادن توحي يداه ... إلى الأوتار آيات اشتياق
فقم نملأ صحائفنا سروراً ... بشرب والتزام واعتناق
ومنه
إذا العشرون من شعبان وافت ... تهيأ للصيام وللقيام
ولا تكسل عن الطاعات فيه ... فهذا وقت الاغتنام
فشهر الصوم قد وافاك حقاً ... بكل المكرمات على الدوام
ومنه
إلا قولوا لمن قد زاد طعناً ... وعدواناً ولا يخشى رقيبه
سهام الليل قد قربت مداها ... تنبه انها تأتي قريبه
تيقظ من منامك واخش منها ... وحقق انها تأتي مصيبه
ومنه
لله مجلس انس ... حاوي جميع المحاسن
قد تم حسناً وظرفاً ... فانظر إليه وعاين
ومنه معارضاً قول من قال مدحاً في صحيح البخاري،
صحيح البخاري ولو انصفوا ... لما خط إلا بماء الذهب
فقال رحمه الله
صحيح البخاري ولو انصفوا ... لما خط إلا بماء البصر
وما ذاك إلا لضبط الأصول ... وعدل الرواة بنقل الخبر
وفيه علوم الورى جمة ... تضمنها قول خير البشر
وقد فاق فضلا على غيره ... فأضحى إماماً لكتب الأثر
هو البحر علماً فان حضته ... ظفرت بكنز الهدى والدرر
فلازمه درساً ولا تبتغي ... به غيره في المسام والبكر
فقد قال قوم لهم خبرة ... هو البرء من امر خطر
لدينا وأخرى وفي كل ما ... ترجي وتبغي به من وطر
لجامعه رحمة دائماً ... كقطر السماء ورمش النظر
وعد الرمال وماء البحار ... وعد الطيور ونبت الشجر
إلى الحشر والنشر الملتقى ... بدار البقاء وحسن المقر
وناظمها يرتجي دعوة ... من الصحب بالخير عند النظر
وصل آلهي على المصطفى ... ومن نوره فاق الضوء القمر
وآل وصحب أتباعهم ... ومن جاء من عبدهم في الأثر
ومنه تخميس على هذه القصيدة العظيمة، وهو هذا:
يا من لديه العبد حقاً يخضع ... والروح منه والجوارح تضرع
يدعوك عند الكرب فضلا تدفع ... " يا من يرى ما في الضمير ويسمع "
" وأنت المعدل لكل ما يتوقع "
أني تعبت من الذنوب وثقلها ... هي كالجبال فلا أطيق لنقلها
فامنن على بمحورها وبغسلها ... " يا من يرى في للشدائد كلها "
" يا من إليه المشتكى والمفزع "
يا رب بالفرقان ثم بلم يكن ... هون علي الحادثات لكي تهن
ها عبدك العاصي تحقق لا يظن ... " يا من خزائن ملكه في قول كن "
" أمنن فإن الخير عندك أجمع "
يا رب طاعاتي إليك قليلة ... يا رب أوزاري علي ثقيلة
مالي ملاذ ولا ولي حيلة ... " مالي سوى فقري إليك وسيلة "
" وبالافتقار إليك فقري أدفع "
كيف السؤال حقيرة وذليلة ... وبضاعة التقوى لدي قليلة
وعوائد الافضال منك جزيلة ... " مالي سوى فقري لك وسيلة "
" فلئن رددت فأي باب أقرع "
يا رب عبدك يشتكي من سقمه ... يا رب من يرجو لشدة غمه
إن أنت لم تدفع عظيم ملمه ... " فمن الذي أدعو وأهتف باسمه "
" إن كان فضلك عن فقيرك يمنع "
يا رب هذا العبد أصبح راجياً ... عفواً عن الماضي وما هو آتياً(1/212)
وتكون عني في القيامة راضيا ... " حاشا لجودك أن تقنط عاصياً "
" لافضل أجزل والمواهب وأسع "
" فائدة " ذكر ابن جماعة وابن عساكر والسهيلي، أن الأبيات السبعة التي أولها " يا من يرى ما في الضمير ويسمع " في خاصيتها الإجابة، زاد ابن جماعة ورأى ذلك منقولاً بخط النووي عن بعض العارفين، ومنه أيضاً تخميس هذه الأبيات المشهورة البركة، وهو هذا:
توسل بالنبي وبالوصي ... وبالحسنين والشهم الزكي
وكم لله من فضل وفي ... " وكم لله من لطف خفي "
" يدق خفاه عن فهم الذكي "
إليه توجهي في كل دهر ... عليه توكلي في كل أمر
فكم من شدة ذهبت وفقر ... " وكم يسر أتى من بعد عسر "
" ففرج كربة القلب الشجي "
فشكراً للذي فلق الصباحا ... فكم من أزمة عنا ازاحا
وكم هم تعاظم ثم راحا ... " وكم أمر تساء به صباحا "
" وتأتيك المسرة بالعشي "
إلى كم يا جهول تزيد لؤماً ... ومالك لا تفيق الدهر نوماً
دع الأوطان يا خلي قومً ... " إذا ضاقت بك الأحوال يوماً "
" فثق بالواحد الفرد العلي "
إذا ضاق الفضاء وكل رحب ... عليك بكل حادثة وخطب
ولم يجد الحبيب وكل صحب ... " توسل بالنبي فكل صعب "
" يهون إذا توسل بالنبي "
إذا لم تلق الأخوان منعاً ... وضاق القلب بالأهوال ذرعاً
توسل النبي تنال نفعاً ... " وبالصديق والفاروق جمعاً "
" وذي النورين والمولى علي "
زمان فيه للأعداء أمر ... وجسم فيه للالآم قهر
فكن يا قلب ثبتاً فيك صبر ... " ولا تحزن إذا ما ضاق صدر "
" فكم لله من لطف خفي "
رويداً يا زمان فكم نعنت ... فروحي نحو وادي الخيف حنت
ونفسي نحو خير الرسل أنت ... " عليه صلاة ربي ما تغنت "
" حمامات على ورق روي "
ومنه تخميس على بيتي شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني:
يا رب كم من نعمة أسديتها ... يا رب كم من رحمة أرسلتها
شكراً لفضلك كم ذنوب غفرتها " يا رب أعضاء السجود عتقها "
" من فضلك الوافي وأنت الواقي "
بشراك أعضاء السجود لك الهنا ... بالعفو والغفران جاء شرعنا
ولقد عتقت البعض منا ربنا ... " والعتق يسري بالغنايا ذا الغنا "
" فأمنن على الفاني بعتق الباقي "
ومنه أيضاً تخميس على هذين البيتين وهما للشيخ عبد المعطي باكثير:
أدعوك يا رب في الأصباح والأشراق ... تمنن علينا من النيران بالاعتاق
وتبسط الرزق يا وهاب يا خلاق ... " يا مالك الملك يا فتاح يا رزاق "
" يا من تكفل لكل الخلق بالأرزاق "
فرج علينا الهي كل أمر ضاق ... وأمنن برزق وسيع فائض دفاق
يا رب عيشاً هنيئاً صافياً قد راق ... " يا رب عطفاً علينا منك بالاشفاق "
وفيه يقول الشيخ الفاضل النحرير عبد اللطيف بن محمد الدبير أدبب عصره وفريد دهره:
وأفا الكتاب من الملاذ البكرى ... أزرى حلاوته بطعم السكري
فغدوت من فرحي به ومسرتي ... نشوان راح في ثياب تبختري
حصلت به إلى النسيم منوراً ... أمنية مثل هذا الصباح المسفر
يا سيدي خلي صديقي قدوتي ... مسدي إلي مواهباً لم تصغر
يا جامعاً للعلم طراً والعلى ... وجميل شيم لا يشنه ممتري
أنت الذي خضعت العلوم باسرها ... وبلغت قصواها وليس بمنكر
يا وارثاً شرف الفضيلة كابراً ... عن كابر حقاً بمثلك مفخري
أعني شهاب الدين من فاق الورى ... بالفضل والأدب الاغر والانور
مذ غبت عني لم أزال لك ذاكراً ... بمناقب لك والثناء الأعطري
هل عطفة منك يا خل برأفة ... فجواي نام والتسلي مزدري
والله اسأل جمع شمل عاجل ... فدعاء ظهر الغيب صاح مؤثر(1/213)
أبقاك ربي للإفادة دائماً ... بالمصطفى الهادي الأمين وحيدر
وللشيخ عبد اللطيف المذكور فيه جملة قصائد منها. قصيدته التي يقول فيها:
أعني به أحمد المختار سيرته ... خلقاً وخلقاً سواه لا يساويه
شهاب نجل علي البسكري بلداً ... المالكي مذهباً من ذا يساميه
قد خصه بجريل الفضل خالقه ... بسر طي معان في معاليه
له بديع بيان في الخطاب يرى ... وجيز لفظ وقد جلت معانيه
فكم جلادرراً تسموا الزراري من أبيات أفكاره المخصوص من فيه
أخباره قد أتت في الحال تخبر عن ... ماض ومستقبل من أمر باريه
حديثه الحسن العالي روايته ... أعلت لسامعه شأنا وراويه
ومنها قصيدته التي يقول فيها:
شيخ الزمان البسكري المقتدى ... فالله يكفيه الصوارف ما بقى
وفيها في ثاني عشر المحرم: توفي الشيخ الفاضل العالم المحدث الفقيه رحمة الله ابن عبد الله السندي الحنفي نزيل المدينة المشرفة بمكة ودفن بها، وكان من العلماء العاملين وعباد الله الصالحين رحمه الله تعالى، وطبق بعض الفضلاء تاريخ موته بحساب الجمل فجاء رحمه الله " قد نال مراده " وزاد في العدد إثنان، وذلك مسامح فيه عند أهل هذا الفن خصوصاً إذا كان التاريخ فيه مناسبة للحال. قلت: وأحسن من هذا ما أتفق لوالدي رحمه الله. فإنه ولد له ولد سماه فضل الله وجاء تاريخه أيضاً " فضل الله " وهذا من غريب الاتفاقات، ولطيف المناسبات قيل ولما فرغوا من دفنه مطروا في تلك الساعة، وقد أشار صاحبنا الشيخ الفاضل محمد ابن الشيخ عبد اللطيف الجامي المكي الشهير بمخدوم زاده إلى هذا في القصيدة التي رثاه بها فقال:
رحمة الله لا تفارق مثوى ... رحمة الله بالحيا والغمام
وكان له أخ أسمه حميد، وكان من أهل العلم والصلاح حسن الاخلاق كثير التواضع وافر العقل ظاهر الفضل جليل القدر، وحصل له في آخر الأمر جاه عظيم، جاور بمكة المشرفة تسع سنين، ومات بها سنة تسع بعد الألف، وقبر عند أخيه صاحب الترجمة وعمره نحو تسعين سنة. وبالجملة فإنه كان بقية السلف الصالح رحمه الله.
وفيها:في ليلة الخامس من المحرم، توفي الخان محمد الغخان بن ياقوت الغخان سلطاني، وكانت ولادته بأحمد أباد في ليلة الخميس خامس شهر صفر سنة اثنين وخمسين وتسعمائة، وكان شاباً صالحاً فاضلاً حسن الأخلاق والشيم، مشهوراً بالسخاء والكرم، وغير ذلك من الصفات الحميدة كالحياء والمرؤة والعفاف والتواضع مفرطاً في السجاعة، وكان محبا لأهل الفضل مقرباً لهم محسناً إليهم مؤلفاً لهم، حسن العقيدة في الاولياء والصالحين عظيم الرأفة بالفقراء والمساكين. وزر بكجرات وخوطب بالغخان بعد موت أبيه فحمدت سيرته، ودام على ذلك برهة من الزمان، ولما استولى السطان اكبر على كجرات سار معه إلى اكره، وولاه كوالير ثم اضاف إليها بهار، وكان من جملة الامراء الذين عينهم على بنكاله، ولم يزل كذلك حتى مات بها رحمه الله.
سنة أربع وتسعين بعد التسعمائة
وفي سنة أربع وتسعين: توفي العبد الصالح اتلخان الحبشي مريد سيدي الشيخ الوالد، وكان مباركاً سليم الصدر، حسن العقيدة في الأولياء والصالحين سيما في شيخه سيدي الوالد فإنه كان فانياً فيه وفي محبته، باذلا روحه وماله في مرضاته، وكان يحفظ له جملة من الكرامات، وكان يتصرف به، وكان يكتب للناس التمائم بخطه فتنفع، وحكي أنه كان لا يحسن الكتابة ولا الاستخراج فذكر ذلك لشيخه المذكور فقدر عليهما بيركته، وكان حسن الأخلاق، لين الجانب، متواضعاً كثير الصدقة والاحسان، عفيفاً رحمه الله تعالى آمين.
وفيها: كان جهز السلطان أكبر عسكر إلى الدكن مدداً لبرهان شاه فانكسروا ورجعوا.
سنة خمس وتسعين بعد التسعمائة
وفي سنة خمس وتسعين: أحدث السلطان مراد ابن السلطان سليم ابن السلطان سليمان على باب الصفا سبيلاً للشرب، فجعل الشيخ الفاضل علي بن عبد الكبير با حميد الحضرمي أصلا المكيً وطناً لذلك تاريخاً لطيفاً، ونظمه في أبيات فقال:
أنا سبيل أشاد مجدي ... مليك كل الورى مراد
مليك كل الملوك طراً ... عجماً وعرباً له تقاد(1/214)
فاق على قيصر وكسرى ... بعدله قرت البلاد
بأمنه عز كل قطر ... الغور والسهل والنجاد
مد على الخلق فيض بر ... فعاش في فضله العباد
صار به للاله جاراً ... وجاره الدهر لا يكاد
يعم كل الأنام نفعاً ... كأنه للورى عهاد
فكان للخلق من نداه ... ماء بام القرى وزاد
له من الله سلسبيل ... وكوثر ماله نفاد
جاء بلا غاية لمجد ... تاريخ بنيانه المشاد
" أسنى بالصفا سبيلا ... لله سلطاننا مراد "
سنة ست وتسعين بعد التسعمائة
وفي ليلة الخميس تاسع المحرم سنة ست وتسعين: توفي الشريف الفاضل محمد بن الحسين السمرقندي الحسيني بالمدينة المشرفة، وكان أهل المدينة إذا أرادوا مكاتبة أحد من الأكابر لا يكتبون ذلك المرسوم إلا بإنشائه، وكان يعرف كثيراً من اللغات مثل العربية والفارسية والرومية والهندية والحبشية، ولما مات أحصيت كتبه فكانت ألفاً وتسعون كتاباً، ووجدت بخطه هذين البيتين:
روحي ائتلفت بحبكم في القدم ... من قبل وجودها في القدم
ما يحمل بي بعد عرفانكم ... أن أنقل عن طرق هواكم قدمي
وذكر أنهما لسيدي الشيخ عبدالقادر الجيلاني قدس الله روحه، وانهما اذا قرئا في اذن المصروع أفاق البتة، واجتمع هو والشيخ عبد الرؤوف الواعظ تجاه الحرم الشريف فحصل غيث فقال السيد محمد السمرقندي:
لله يوماً بفناء مكة ... تجاه بيت الله أقصى الطلب
فقال عبد الرؤوف:
مذ نزل الغيث على سطحه ... وسال من ميزابه وانسكب
فقال السيد محمد:
سئلت أن أفصح عن كنهه ... قلت لجين قد جرى من ذهب
ومن شعره ايضاً هذه القصيدة، وهي في مدح الشريف أحمد سعد الحسيني المدني رئيس الأشراف بالمدينة النبوية وأولها:
عز الديار بطول السمر والقضب ... والأخذ بالثار معدود من الحسب
هذا بسعدك يا ابن الأكرمين أتى ... وإن أردت فقل سعدي وسعد أبي
وفيها: في يوم الخميس السابع والعشرين في شهر ربيع الأول توفيت السيدة سلمى بنت سيدي الشيخ الوالد رحمهما الله، وخلفت ستة من الأولاد الذكور خمسة منهم ابوهم السيد محمد ابن الشيخ أحمد بن حسين العيدروس، وهم: حسين وعلي وعبد الرحمن وأبو بكر وعلوي، والسادس أبوه الهادي بن عبد الرحمن بن شهاب باعلوي واسمه أحمد أصلحهم الله بما أصلح به آباهم العارفين، ورزقهم مارزق أولياءه المقربين.
وفيها: في عصر يوم الأربعاء رابع شهر شعبان توفي الشيخ الإمام والحبر الهمام الرحالة المحقق المعمر العلامة جمال الدين محمد ابن الصديق الخاص الحنفي الزبيدي، ودفن صبيحة الخميس بباب سهام وعمره نحو التسعين، وكان من كبار علماء زبيد، وأعيان المدرسين بها، وبقية المفتين على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة بقطر اليمن، وبالجملة فإنه كان ليس له نظير في زمانه ولم يخلف بعده مثله وكان الباشوات فمن دونهم يعظمونه جداً، ويقبلون كلامه ولا يردون شفاعته غالباً رحمه الله تعالى.
وفيها: وقعت الزلزلة بالمدينة الشريفة، فقال بعض الفضلاء من أهل مكة في ذلك:
إذا زلزلت أرض خير الورى ... فزلزلت الأرض زلزالها
فشمر عن ساقه عارف ... وقال عني ذوو النها مالها
وفيها: خلع مرتضى نظام شاه في يوم سادس عشر رجب، ومات بعد ثلاثة أيام من خلعه، ثم تسلطن ولده حسين عشرة أشهر، وقتل يوم سادس عشر جمادى الأولى قتله الخراسانيون، ثم تسلطن بعده إسماعيل بن برهان شاه فحكم إسماعيل سنتين وشهرين ثم خلع بوصول أبيه برهان.
سنة سبع وتسعين بعد التسعمائة(1/215)
وفي سنة سبع وتسعين: توفيت الولية الصالحة السيدة الخيرة فاطمة بنت السيد، وزوجة السيد، وأم السادات بنت الشيخ عبد الرحمن بن علي، زوجة سيدي الشيخ الوالد، وأم أولاده الكبار وكانت من العابدات الصالحات، وحكي عنها كثير من الكرامات ويكفيها أنه يصدق فيها ما قيل في بنت الشيخ عمر المحضار بنت القطب وزوجة القطب، وأم القطب قلت: وبنت الشيخ عمر المذكور لم يكن لها أحد من الأخوة، وأما هذه فأخوها الشيخ الكبير شهاب الدين ابن عبد الرحمن، وقد قيل فيه أنه قطب فتكون أخت القطب أيضاً. وهذه والله هي المناقب التي لا تدرك بدون الواهب فهنيئاً مريئاً لها ذلك، وطوبى ثم طوبى حيث أنها كذلك رحمها الله تعالى، وكنت التمست من ولدها أخي السيد عبد الله أن يطلب لي منها الدعاء فأخبر أنها تلفظت عند ذلك والحمد لله بألفاظ تشعر بمزيد الاعتناء وكمال السعادة بحضور الولي الكبير والعارف الشهير السيد الجليل جمال الدين محمد بن عقيل باعلوي أرجو من الله تعالى ثمرة ذلك، وما ذلك على الله بعزيز.
وفيها: سافرت من أحمد اباد إلى بروج واقمت بها سنة وشهران، وكتب إلى الشيخ محمد بن عبد اللطيف الشهير بمخدوم زاده في صدر مكتوب شعر:
مذ قدمتم لبروج وحللتم ... برباها غارت جميع النواحي
فلذا أرض سورت في اغتباط ... لم تزل مثل غيرها في نواح
وكتب أيضاً
أنت شمس وبروج لك برج ... وكذا الشمس في أبراجها تتنقل
فعسى سورة بنورك تحظى ... وعلى خلقك العظيم المعول
وفيها: وقع الشروع في عمارة قبة ضريح سيدي الشيخ الوالد شيخ بن عبد الله بن شيخ ابن الشيخ عبد الله العيدروس باعلوي، ووضع أول لبنة فيها صبيحة يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الأولى.
وفيها: في رجب الفرد فرغت من تصنيف كتابي الفتوحات القدوسية في الخرقة العيدروسية ووافق تاريخ ذلك العام بحساب الجمل عدد حروف " لبس خرقة " وكان جعل هذا التاريخ صاحبنا العلامة جمال الدين محمد ابن الشيخ عبد اللطيف الجامي المكي الشهير بمخدوم زاده. قال: ولما كان موضوع هذا الكتاب الشريف، والتأليف المنيف هو لبس الخرقة أتى تاريخ ذلك لبس خرقة وقل أن يتفق مثل هذا التاريخ لكن سرنفس العيدروس سرى فأثر، وعلى مثلهم مثل هذا لا يستكثر ولا يستنكر، وقد نظمت التاريخ:
لمن حلل الكرامة مستحقة ... لمن أدى لباس الفقر حقه
لمحيي الدين نجل شريف شيخ ... ومن حلى بدر اللفظ نطقه
سليل العيدروس أباً وأماً ... ومن بدر السعود أنا رافقه
تفقه في العلوم صغير سن ... لقد نال السعادة من تفقه
حباه الله علماً من لدنه ... بلا كد أتاه ولا مشقه
فيالك عالم علم أمام ... له في العلم تحقيق ودقة
وتأليف له كالبحر وافا ... ابان به لدى الفضلاء حذقه
لما قد نال من خلق وحلم ... له الأحرار قد أضحت أرقه
فصدق ما أقول بلا نزاع ... فقد ابدا لك الرحمن صدقه
ولما كان ذا التأليف فيمن ... تشرف في الأنام بلبس خرقه
فلا عجب ولا بدع إذا ما ... أتى تاريخ ذلك " لبس خرقه "
قلت وعارض هذه القصيدة المباركة صاحبنا الشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن علي البسكري المالكي رحمه الله تعالى:
تبسم فاتنى يوماً ببرقه ... فذابت مهجتي وازددت عشقه
وحيرني وصيرني ذليلاً ... واشعل في الفؤاد وقيد حرقه
فقلت له ترفق بي وسر بي ... طريق اللاء قد أضحوا أرقه
ولا تمنع عبيدك من وصال ... ولا تقطع بفضلك قط رزقه
فألوى معرضاً بيدي دلالا ... على من زاد من جفنيه دفقه
يواصل صده في كل حين ... ويمنع رفده وكذاك نطقه
فلما أن تمادى في صدودي ... وادمى مقلتي والعظم دقه
وصرت مولهاً صباً كئيباً ... حزين القلب من بعد وشقه
ثنيت عنان شكواي إلى من ... حباه الله مغربه وشرقه(1/216)
إمام العصر قطب الوقت حقاً ... واعلمه وأفضله وافقه
هو الحبر الإمام ونجل شيخ ... ومن نال العلوم بلا مشقه
هو الفخر المعظم من تحلى ... بكل المكرمات وحاز سبقه
مرقى السالكين إلى مقام ... بادنى نظرة منه وحدقه
رعاه الله ما أحلى وأغلى ... جواهره وهذا الدر نطقه
فعاينه بتصنيف عظيم ... يسمى الفتح في الباس خرقه
لقد حلى المجالس حين يقرا ... جواهره بلطف ثم رقه
لقوم قد علوا عزاً وشأناً ... بهم يسقى الرحيم الله خلقه
به أبدى كرامات عظام ... وسطرها بمعرفة ودقه
لذا قد قال رب الفضل قبلي ... أبان بد لدى الفضلاء حذقه
وضابط عامه والوصف قد جا ... بقولي الكثير النفع فافقه
فلا زالت دراريه توالي ... علينا سرمداً ما نال افقه
وعبدك أحمد يرجو دواماً ... له وذويه لا ينفك عتقه
لكم ولآلكم بين البرايا ... ويحميه من الاسواء ورفقه
بحق محمد ما نار بدر ... وما لمعت بذاك الخيف برقه
كذاك الآل والأصحاب طراً ... وما ظهر السحاب وجاد ودقه
سنة ثمان وتسعين بعد التسعمائة(1/217)
وفي يوم الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين: توفي الولي السعيد الشريف العلامة ذو الولاية والإمامة الحافظ الضابط مسند الدنيا، مالك أزمة الشرف العليا، محدث الديار اليمنية وفقيهها باجماع البرية الطاهر بن الحسين بن عبد الرحمن الأهدل جمال الدين بركة المسلمين مفيد الطالبين، وصلي عليه بمسجد الأشاعر بعد صلاة العصر، ودفن بمقبرة أهله بباب سهام قريباً من مشهد الشيخ الصياد، ولد سنة أربع عشرة وتسعمائة بقرية المراوغة، وبها نشأ وتعلم القرآن، وقرأ على إمام جامعها الشيخ الصالح الفاضل العلامة فخر الدين أبي بكر المعلم علوم النحو والحساب والفقه وغير ذلك وبه تخرج، ثم انتقل إلى مدينة زبيد، ولازم شيخ الإسلام وعلامة الانام الحافظ أبا الضياء عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني فقرأ عليه وانتفع بع انتفاعاً رقى به إلى درجة الكمال وساد على الأمثال، وله مشايخ كثيرة في الحديث وغيره. منهم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس الطبنداوي، ومولانا علامة الدهر وواحد العصر الشيخ وحيد الدين عبد الرحمن بن زياد، والسيد الشريف العلامة عبد المحسن بن السيد الأهدل، والشيخ إمام المحققين وأستاذ المحدثين شيخ الطريقة وإمام الحقيقة وجيه الدين بركة المسلمين عبد الرحمن بن إبراهيم العلوي، وقرأ على الأستاذ مفتي المسلمين محقق عصره المولى برهان الدين إبراهيم ابن أبي القاسم مطير، وأجاز له وأخذ على العلامة الفقيه الفهامة الشيخ شرف الدين أبي القاسم ابن الطاهر ابن جغمان، وأجاز له أيضاً، وعلى جماعة آخرين من آل جغمان وغيرهم، وكل ممن تقدم ذكره أيضاً أجاز له، وارتحل إلى مكة المشرفة وجاور فيها، واجتمع فيها بجماعة من العلماء. مثل شيخ الإسلام أبي الحسن البكري وقرأ عليه، والشيخ الحافظ الأستاذ أبي السعادات المالكي، وأخذ عليه، غير هؤلاء من المشايخ، ثم أنه أنفرد بعد شيخه ابن الديبع برياسة تدريس الحديث، وأتحد بسودد هذا العلم وأخذ عليه خلق كثير، ورحل إليه للأخذ عنه من كل جهة الأقطار، أخذ عنه جمع كثير من البلد وغيرها. فمنهم العلامة الحافظ الفقيه الفهامة شيخنا محيي الدين عبد القادر أبي الفتح البزاز الشافعي والسيد العلامة الفقيه الأصولي المحدث محمد بن عبد الرحمن بن عبد الحفيظ بن عمر البزاز الشافعي، والشيخ العلامة الأستاذ المفنن مفتي المسلمين الصديق ابن الشيخ محمد الخاص الحنفي، والشيخ الفقيه الأديب النبيه مفتي الحنفية محمد بن أحمد الصابوني، والشيخ العالم العامل الفاضل الكامل مفتي الإسلام شيخنا برهان الدين إبراهيم بن محمد ابن جغمان، وشيخنا الفقيه بن الفقيه العلامة المفتي محمد بن الولي المقرب عبد الرحمن ابن الفقيه شيخ الإسلام أحمد، موسى الضجاعي، والقاضي العلامة الأديب الفهامة الرئيس النفيس أمين الدين ابن القاضي عبد العليم الأحمر الشافعي كاتب الخزانة السلطانية بالمملكة اليمانية، والشيخ الفقيه الأديب العالم الأستاذ الصوفي عبد الله بن محمد المشرع. وخلق كثير من الطلبة، وتخرج به ابن ابنه العلامة السيد الشريف الحسين ابن أبي بكر ابن الطاهر وهو من النجباء أبقاه الله، وهو بحمد الله تعالى مستمر إلى الآن على قراءة البخاري بمسجد جده عبد الرحمن بن حسين الأهدل على سيدي الشيخ العلامة الصديق الخاص مدة شهر رجب وشهر رمضان كل سنة على ما كان زمان السيد الطاهر المذكور من الفقهاء المحدثين الحفاظ وفقه الله وأدام النفع به وحفظ به هذا البيت فإنه لا يخلو من قديم الزمان من ثلاثة أقسام. فقيه ومحدث. ومحدث. وقد ذكر صاحبنا الأديب الفاضل حسين بن عبد الباقي الزاهر الزبيدي هذه الأقسام في قصيدته التي امتدح بها سيدي الشيخ القطب الرباني علي بن عمر الأهدل حين زار ضريحه سنة أربع وتسعين وتسعمائة وأولها:
ما لاح برق القليل ... إلا وأجرى مقل
وشاقني لجيرة ... على الكثيب الأهيل
والأبيات المشار إليها قوله:
فهو أبو الاباء خ ... ير منجب ومنسل
وهو أبو الاشبال ... حيا قبره كل ولي
أولاده الزهر بهم ... يدفع كل معضل
فهم فريقان وجمع ... هم ومن الفرق خلي
أما محدث فقيه ... أو محدث ولي(1/218)
كم فيهم من قطب ... كم فيهم من بدل
وهي طويلة وبالجملة فكان المترجم له أوحد عصره علماً وصلاحاً ومعرفة تامة، ذا حفظ واتقان وضبط ومعرفة بأسماء الرجال وجميع علم الحديث، عمي آخر عمره بعد أن حصل بخطه كتباً كثيرة، وصنف واختصر شرح دعاء أبي حربة تصنيف جده حسين بن عبد الرحمن اختصاراً حسناً نافعاً في نحو خمس وعشرين كراساً خلصه مما كان فيه من الانكارات على أهل الله الصوفية، وسماه مطالب أهل القرية في شرح دعاء الولي أبي حربة، وقرض على الكتاب المذكور العلامة برهان الدين إبراهيم ابن أبي القاسم مطير وقال مخاطباً للمؤلف:
أحسنت في طي ما طالت مسافته ... طي السجل فلم ينقص بل زادا
جزاك ذو العرش خيرات شملن أباً ... وأصلهم ثم أولاداً وأحفادا
وكتب عليه عمر بن عبد الوهاب الناشري:
تأملت مصباح المطالب مرة ... فهان محيط الكشف في نقطة القرب
مدارك عرفان همت بمعارف ... على عارفيها مثل مهمل السحب
فشكراً لمن أتاك ذوقاً وحكمة ... وفصل خطاب يفصل الأمر في الخطب
ورثاه صاحبنا الأديب حسين الزاهر بقصيدة على روي بيت الرسالة القشيرية:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غي نسائها
وأول المرثية:
ما للنفوس تتيه في غلوائها ... لم يثنها التقريع عن أهوائها
وهي طويلة أعاد الله علينا من بركته وبركة تبلغه وعلى المسلمين أجمعين ورحمه رحمة الأبرار، وكتب إليه صاحبنا الفقيه أحمد بن محمد باجابر يطلب منه الإجازة في علم الحديث خصوصاً صحيح البخاري، وذلك بعد أن قرأ عليه نبذة من أوله بهذه الأبيات:
يا ناثر الدر على مسمعي ... بحضرة الانجاب في مجمع
وحافظ العصر وغريره ... الفاضل الجهبذ واللوذعي
السيد الطاهر زاكي الورى ... نجل الحسين الأروع الأورع
اسمع مقالاً راق في اللفظ والمعن ... ى وشاق الأنجب الألمعي
الجابري لزائر مستمسكاً ... بهذه الآثار والأربع
فقد قرا الجامع مستأنساً ... بسوحك المخضر والممرع
وقصده المعظم من فضلكم ... اجازة تحلو على المسمع
بمالكم في ذاك من مسند ... عن كل حبر مفصح مصقع
وما رويتم مسنداً عالياً ... عن الإمام الحافظ الديبع
وما اخذتم عنه من نثره ... ونظمه المعجب والمبدع
أبقاك رب العرض في نعمة ... دائمة في جانب أرفع
ما غنت الورقاء في روضة ... ولعلع الرعد على لعلع
فأجابه باجازة بخط العلامة الفقيه عبد الله بن محمد المشرع أجل تلامذته. قال الفقيه أحمد أنشدني شيخنا الطاهر مسند البخاري ومسند مسلم في هذه الأبيات حال قراءتي عليه البخاري:
لنا مسند عال سماعاً ونسبه ... إلى الحافظ الحبر البخاري بستعدي
فجامعه يرويه عن الزين شيخنا ... عن العلوي البخاري أخي الرشد
عن العرولي وهو موسى فتى مروى ... عن المسند الحجار أحمد ذي السعد
عن ابن الزبيدي عن أبي الوقت شيخه ... عن الداوودي عن ابن حمويه الفرد
عن المسند الحبر الفربري وهو عن ... إمام الورى الثبت البخاري ذي النقد
ومسلم يرويه عن الزين شيخنا ... عن الجزري شمس الهدى صالح القصد
عن المتقن العدل الشهابي ذاك عن ... إمام الهدى الشمس ابن قماح المهدي
عن الواسطي إبراهيم الثبت وهو عن ... أبي الفتح منصور الفراوي عن الجهدي
عن الفارسي المرتضى عبد غافر ... عن ابن الجلودي اضمم له الجيم تستهدي
عن ابن لسفيان الفقيه الذي رواه ... عن مسلم فاحفظه إن كنت ذا جهد(1/219)
وقد كنت طلبت من الفقيه أحمد رحمه الله أن يجيزني بهذا السند فامتنع علي تأدباً معي، ثم أجاز بي ولله الحمد، وطلب مني أن أجيزه بسندي إلى جامع الصحيح ففعلت، وكتبت له ذلك مع الإجازة بلبس الخرقة والإجازة بمصنفاتي ومصنفات والدي وسائر رواياتي. ولا بأس أن أذكر هنا اسنادي المتصل إلى الإمام البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به في الدارين آمين. تتميما للفائدة فأقول: أخبرني الشيخ الإمام المسند المعمر عبد المعطي ابن حسن ابن الشيخ الإمام عبد الله باكثير قال أخبرني به شيخ الإسلام مجدد الدين خاتمة العلماء والمسند ابن أبو يحيى زين الدين زكريا بن محمد بن أحمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري المصري الشافعي قال أخبرنا به حافظ العصر وعلامة الدهر أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني ثم المصري الشافعي. قال أخبرنا به النجم أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الوهاب الحموي المصري قال أخبرنا به الصلاح أبو علي محمد بن محمد الزفتاوي المصري قال أخبرنا به الشيخ المسند المعمر ملحق الأحفاد بالأجداد أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي طالب الحجار قال أخبرنا به أبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزويه القلانسي قال أخبرنا به أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السبحري الهروي قال أخبرنا به أبو الحسن عبد الرحمن بن المظفر الداوودي قال أخبرنا به أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي قال أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري قال أخبرنا به مؤلفه الحافظ الحجة إمام المحدثين أبو عبد الله محمد،بن إسماعيل البخاري سماعاً عليه مرتين مرة بفربر ومرة ببخارى فذكره ولما وفقني الله تعالى وله الحمد من بين أهل زماني لخدمة هذا الكتاب الشريف الذي ماله في فضله ثاني فقريء بحمد الله تعالى على يدي مراراً عديدة في أوقات مباركة ومجالس سعيدة واتخذت ذلك دأبي على مر الشهور والسنين، وبلغ عدد القراءة إلى تاريخ الآن فوق الأربعين، وشاع ذلك في التهائم والنجود، وسارت بذكره الرفاق والوفود، حتى قال بعضهم من قصيدة امتدحني بها:
كم مسلسل يروي صحاح حديثه ... وعليه كم صحيح بخاري
وقال الآخر
هذا البخاري لم يزل تاليه في ... بدء وختم في مقامك شادي
يرويه عنك عن الذين رويته ... عنهم بصحة مقتضى الاسناد
فاشكر آله العرش جل ثناؤه ... لقد اصطفاك فأنت أي مراد
وانشد فضلاء العصر في ذلك القصائد البديعة والخطب البليغة ومن ذلك قصيدة الأديب الفاضل الناظم الناثر العلامة حسين بن عبد الباقي الزاهر الزبيدي وأرسلها إلى الهند من زبيد المحروسة كان الله له آمين:
كأس الحديث عن الأحباب معسول ... أطلق مسلسلة فالشمل مشمول
وهات عن ساكني الجرعاء لي خبراً ... اسناده ما لقلبي عنه تحويل
عمري لقد لذ في سمعي مكرره ... وكل شيء على التكرار مملول
شبب لسمعي بناء عن مواصلتي ... وارفع حديثك عنه فهو موصول
فطالما وصل العذال من طرق ... اسناد عذل لسمعي وهو معلول
قالوا نرى الحب قد أوهاك قلت لهم ... ذا الضعف عند حبيب القلب مقبول
يا فارغي القلب لي عن لومكم شغل ... هل يستوي فارغ منا ومشغول؟
لساكني الجرع من وادي العقيق جرى ... من مطلب العين كنز كله لولو
وشهب دمعي حمراً في الخدود جرت ... وطرف طرفي بقيد النجم مشكول
لكن مسانيد أخباري سترفعها ... نصاً حسان صحيحات مراسيل
سأمتطي في الفلا هوجاً مشرفة ... فيها على الأين ارقال وتبغيل
خفيفة الروح لكن في مسامعها ... وقر إذا قال حادي عيسنا قيلوا
لم تكتحل بمنام في فراسخها ... حتى يلوح لها من طيبة ميل
يا لهف نفسي ضاع العمر في لعب ... وليس عندي إلا القال والقيل
وواعظ الشيب فوق الرأس قال افق ... إلى متى أنت باللذات مشغول؟(1/220)
إلى م يانفس لا تلوي العنان عن ... العصيان غرك من ذي البطش تهيل؟
لوذي بباب رسول الله واعتذري ... فالعذر عند رسول الله مقبول
جاه الرسول عظيم عند خالقه ... به تهون على الخلق التهاويل
أعطى مقاماً شريفاً دونه وقفت ... رسل الآله وروح القدس جبريل
روح من الفيض منشاه يقوم به ... من مطلق النور تقويم وتشكيل
ما كان في ملاء إلا ولاح به ... لمظهر الحق بين الخلق تعديل
فكم تنقل من صلب إلى رحم ... حتى انتهى لابيه الطول والطول
وكم لقس وشق مع سطيح به ... بشائر وتخاويف وتأويل
وانشق ايوان كسرى عند مولده ... وانحط عن رأسه تاج واكليل
وناره خمدت من بعد ما عبدت ... لها قرون وجيل بعده جيل
ونكس الله أصنام الطغام لدى ... البيت الحرام وعرش الشرك مثلول
وباءت اللات والعزى بذلتها ... ونالها بعد ذاك العز تذليل
رد الآله به عن بيته فرقاً ... وافته يقدمها في سيرها الفيل
فلا وربك ما بروا ولا ثبتوا ... وصرعتهم على الأرض الأبابيل
زكم له معجزات كالشموس سناً ... بها لاشراق وجه الحق تهليل
لاحد يحصرها لاعد يضبطها ... وليس يجهلها إلا المجاهيل
ما مس بالكف ذا داء أضر به ... إلا وزند يمين الداء مشلول
ومن يسير سقى جيشاً واطعمه ... وفاض من بعد مشروب ومأكول
والعود أورق والعرجون في يده ... مهند من سيوف الله مسلول
والبدر شق له نصفين أي بمنى ... وأشهد الناس طه وهو مجذول
به شرائع كل الرسل قد نسخت ... وما لشرعته نسخ وتبديل
لذاك لو عاش موسى لم يسعه سوى ... اتباعه عنه هذا القول منقول
بخاتم الرسل صرنا أمة وسطاً ... لنا على الأمم الماضين تفضيل
وفي القيامة من نور الوضوء لنا ... دون الورى غرر زهر وتحجيل
كتابنا احكمت آياته فكذا ... لسان كل بليغ عنه مسلول
هو القديم فلا يبلى محاسنه ... من الجديدين دع ما قال ضليل
أخبار من قبلنا فيه محررة ... وفيه للدين تفريع وتأصيل
به الرسول تحدى كل ذي لسن ... وهل تقوم مع الحق الأباطيل
هل بعث أحمد إلا رحمة شملت؟ ... وظلها أبداً فيه لنا طول
لنا عن البوق والناقوس أي غنى ... إذ جاء آذان وتكبير وتهليل
ومزق الله جيش الملحدين به ... وكل من حجة الإسلام مجذول
بسيفه دمر الأعداء فلم يقهم ... من نسج داود في الهيجاء سرابيل
وقد امد بصحب كالنجوم هم ... السعر المغاوبر والصيد البهاليل
هم الليوث العبوس الشوس ليس لهم ... سوى القنا السمر أو بيض الظياغيل
وبالمليك والرعب العظيم على ... شهير وللريح في الأعداء تنكيل
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي ... فلي عليك غداً في الحشر تعويل
يا أصدق الناطقين الصادقين لدى ... قول وفعل ويا من قيله القيل
يا من علا ورقى السبع الطباق إلى ... مقام قرب تناءى عنه جبريل
كقاب قوسين أدناه وكلمه ... مولاه في حيث لا أين وتمثيل
وهذه رتبة مانالها ملك ... أو مرسل حبله بالله موصول
هذا حديثك يا فتح الجواد قرأ ... ناه ومسك الختام اليوم تكميل(1/221)
الفاظه كربيع زاهر أنق ... زاه بهتان ماء المزن مطلول
به المعاجم تزهو والجوامع في ... عقود أبوابها منه قناديل
وفي صحيح البخاري غنية لك يا ... من سر فكرته كالسين مصقول
فهو الإمام أمير المؤمنين أمين ... المصطفى عنه هذا العلم محمول
الحافظ الثقة العدل الخبير باجما ... ع الثقات صدوق القول مقبول
فانظمه يا رب مع خير الورى فله ... قلب بسنته البيضاء مشغول
وقد سمعناه من لفظ الخبير به ... قراءة زانها في الجمع ترتيل
حتى ختمناه يا ختم المقام فسل ... حسن الختام لنا فالفضل مبذول
واشفع لنا ولقارينا ومقرئنا ... والسامعين ففيك الخير مأمول
وشيخنا القطب محيي الدين من له ... بما يروم فللانسان تأميل
القادري ابن شيخ العيدروس فلي ... عقيدة ووداد فيه مأمول
ولي فؤاد على حسن الولاء لك قد ... طويته وعلى الاخلاص مجبول
صلني عليك صلاة الله يا أملي ... بوصله لي بها في الحشر توصيل
قد قيدتني ذنوبي عنك واظماى ... اليك والقلب بالأشواق مغلول
وإن وردت عليك الحوض خذ بيدي ... فورده العذب ذاك اليوم منهول
وتحت ظل اللواء المعقود قل لي قل ... واشفع فإنك عند الله مقبول
وهاك من مدحي لامية شرفت ... بمجد مدحك في لاماتها طول
تطفلت فلها يا بن الكرام على ... أبيات بانت سعاد اليوم تطفيل
خلعت لابن زهير خلعة فغدا ... له بها من عظيم الجاه تجليل
فهل أرى روض حالي زاهراً بك في ... دار النعيم وشملي تم مشمول؟
صلى وسلم ربي دائماً أبداً ... عليك ما سرحت قوداء شمليل
والآل والصحب والاتباع أجمعهم ... ومن بهديهم المرضي مشغول
تمت فخذ ملحاً من طي عدتها ... والحمد لله تتميم وتكميل
وفيها: توفي الرجل الصالح المشهور والمعمر وجيه الدين الهندي باحمد اباد، وكان من أهل العلم والزهد وحصل له القبول العظيم مع الناس، وانتفع به الطلبة في كثير من الفنون واشتهر أمره جداً.
وفيها: كانت ولادة ولدي شيخ جعله الله من أهل ولايته وتولاه برعايته وحمايته وكلايته آمين، وطبق بعض الفضلاء تاريخ ذلك العام بحساب الجمل على أحرف " سيدي شيخ جاء " ثم نظمه بأبيات فقال:
لله مولود سعد ... عم الوجودسناء
أكرم به من هلال ... فاق البدور ضياء
ونشره مذ تبدى ... قد عبق الأرجاء
تاريخه ان ترمه ... قل " سيدي شيخ جاء "
وكانت ولادته بمدينة بروج من أعمال كجرات.
وفيها: قدم بروج مولانا الشيخ محمد العيدروس من أحمد اباد، وأقام بها أشهراً، ثم رجع إلى أحمد اباد، وفي مدة اقامته ببروج كتب إليه الشيخ محمد بن عبد اللطيف مخدوم زاده بهذه الأبيات وهي:
لقد آنست يا شمس الشموس ... فأهلاً بالشريف العيدروس
بقطب الوقت أهلاً ثم سهلاً ... أيا زين المجالس والدروس
ويا شمس الشموس ومن تحلت ... به الأفواه منا كالطروس
وبروج عندما حليت فيها ... لقد أمست بيمنك كالعروس
وسرت منك ترجو القرب فضلاً ... وإلا فهي في يوم عبوس
فقربك سيدي لا شك فيه ... حياة للقلوب وللنفوس
فطالع من يودك في سعود ... ومن يثناك في نحس الثحوس
ولا زالت بك العلياء تسمو ... وأنت لافقها شمس الشموس(1/222)
وفيها: توفي الرجل الصالح سالم بن علي باموجه. ذكر لي رحمه الله أنه صنع للسيد الولي أحمد بن علوي باجحدب حذاء لطيفاً وقدمه إليه. فقال له: تمن الذي تريد، فقلت له قد وكلتك يا سيدي فاختر لي أنت، وكان ذلك يوم الجمعة بحضرة الناس، ولما كانت الجمعة الاخرى أعاد علي السؤال فذكرت له مثل ذلك الجواب فأراد أن يختبرني وقال لي: عساك تريد صناديق ذهب. فقلت له: لا.
وفيها: فاض وادي عدم بسيل هائل في نجم الثريا من سيل الاكليل فأرخه صاحبنا الفقيه عبد الله بن فلاح كان الله له فقال:
فاض في الأحقاف سيل ... غادر النحل حويا
إن ترد تاريخه قل ... " عم طوفان الثريا "
وفيها : وقعت بسورت زلزلة.
سنة تسع وتسعين بعد التسعمائة
وفي سنة تسع وتسعين كان تمام عمارة قبة سيدي الوالد رحمه الله، وقد جعل صاحبنا الشيخ محمد بن عبد اللطيف مخدوم زاده تاريخ ذلك بعدد حروف " محل الفيض " ثم نظم التاريخ المذكور في أبيات فقال ابقاه الله:
ألا ياقبة ملئت سروراً ... واضحت مقصداً لذوي الصفاء
كأن هلالها لما تبدا ... هلال لاح في كبد السماء
ترى السادات والقادات يسعوا ... إليها بالصباح وبالمساء
يفوح الطيب منها حين تبدو ... لما ضمته من طيب الشذاء
بها قبر الولي شريف شيخ ... سلالة من تسجوا بالعباء
ولي سره في الخلق سار ... فيا لله من حسن السداء
يفيض الفيض منه لطالبيه ... كفيض البحر في سعة الفضاء
فيالك قبة عمرت بفيض ... يكاد يراه منها كل رائي
لكثرة فيضها قد جاء ضبطاً ... " محل الفيض " تاريخ البناء
وناضمها من السادات يرجو ... بأن يصلوه منهم بالدعاء
وفيها: سافرت من سرت إلى جيول بعد أن قمت بسرت سبعة أشهر كاملة لأني كنت دخلتها ثالث شهر رجب سنة ثمان وتسعين، وخرجت منها ثاني شهر صفر الخير، وكنت قدمت إليها من بروج بعد أن مكثت بها مدة كما قدمت، ومدة اقامتي ببندر جيول خمسة أشهر، ثم طلعت منها إلى أحمد نكر، ووصلت إليها في شهر شعبان من تلك السنة، وعزمت منها في شهر القعدة الحرام سنة ألف بعد أن أقمت بها نحواً من سنة وثلاثة أشهر قاصداً إلى أحمد اباد لزيارة الوالد والاجتماع بالوالدة والأولاد، فدخلت أحمد اباد رابع شهر ربيع الثاني سنة إحدى بعد ألف، وكانت طريقي على جيول، وركبت من جيول إلى الديو، ومن الديو إلى قرية تسمى موربي من أعمال جوناقر لأمر اقتضى ذلك، ومنها إلى أحمد اباد، وفي مدة اقامتي بجيول ونواحيها اجتمعت بشيخنا العلامة المحقق محمد مقري ابن العلامة على المقري، وشيخنا العلامة المفنن عبدالقادر بن مخدوم الخطيب الكلياني، وأخذت عنهم واستفدت منهم.وقال صاحبنا الفقيه الفاضل الصالح عفيف الدين عبد الله بن أحمد بن فلاح الحضرمي لما قدمت إلى تلك الديار:
تشرفت البلاد ومن يليها ... بمقدم شيخنا شمس الشموس
وأضحت تزدهي عجباً وتيهاً ... بعبد القادر ابن العيدروس
ومن غريب الاتفاق أن مدة غيبتي من أحمد اباد كانت أربع سنين كاملة، فخرجت منها رابع شهر ربيع الثاني سنة سبع وتسعين، ودخلتها أيضاً رابع شهر ربيع الثاني سنة إحدى بعد الألف، واقمت بها من ذلك التاريخ إلى الان.
وفيها: في يوم الأربعاء رابع عشر رجب زالت الدولة المهدوية باحمد نكر، وقتل الوزير جمال خان، وجيء برأسه إلى أحمد نكر، وطيف به فيها، ثم علق بعد ذلك أياماً، وتسلطن برهان شاه، وقد تقدم أنه قد سار إليها قبل ذلك بعد موت أخيه فرجع خائباً، وكان المذكور منذ هرب من عند أخيه في خدمة السلطان أكبر، وهو الذي أعانه على ذلك، وأمده بالعسكر ونحوه حتى ملك، وكانت سيرته غير مرضية، ومات برهان شاه ثالث شعبان سنة ثلاث بعد الألف. ومن غريب الاتفاق أنه كان في تلك السنة أمر بهدم أحمد نكر فضجت العوالم لذلك، وأمر أن يجعل مكان دورها باغاً وهو اسم البستان بالفارسي. فقال صاحبنا الأديب الفاضل عبد الله بن فلاح لطف الله به مؤرخاً لذلك العام في بيتين. هما:(1/223)
هدم حمد انقر غدا ... فيه للناس معتبر
" باغ " تاريخه وان ... قلت " غاب " فقد حضر
فصح غاب تاريخاً لهدمها، ولموت برهان،ومما جرى في ايامه أنه في سنة إحدى وألف جهز على دنده رازبور ليأخذها من الافرنج فهلكت في تلك الواقعة عوالم لا تحصى، وارخ ذلك بعضهم " في عد ضراً " .
وفيها: توفي السيد عبد الرحيم الحساوي المكي غريباً بكلكتده، وكان حسن الأخلاق كريم النفس رحمه الله.
وفيها: توفي الفقيه الفاضل محمد باشراحيل الحضرمي بكلكتده ايضاً.
وفيها: توفي الشريف يحيى الحوراني المدني بكلكتده ايضاً وكان بارعاً في علم الموسيقى إلا أنه كان منهمكاً في الشهوات منتهكاً للمحرمات رحمه الله وايانا آمين.
وفيها: قرأ صاحبنا الفقيه الصالح عفيف الدين عبد الله بن فلاح الحضرمي علي كتابي الفتوحات القدوسية في الخرقة العيدروسية من أوله إلى آخره، وذلك باحمد نكر من بلاد الدكن، وعمل تاريخ ذلك العام " تجمعه به صح فتوحات " ثم نظمه فقال:
تشرفت أوقاتي ... بمقابلة الفتوحات
وضابط ذاك تجمعه ... به صح فتوح آت
سنة الألف
وفي شهر المحرم سنة ألف: توفي الشيخ الكبير والعلم الشهير الولي الصالح العلامة سراج الدين الشريف عمر بن عبد الله العيدروس بعدن، ودفن بها في قبة جده لأمه سيدي الشيخ أبي بكر العيدروس، ملتصقاً به من الجانب الشرقي، وكان المشايخ العارفين والعلماء العاملين، وكان الشيخ الكبير الشريف صائم الدهر القديمي الحسيني الذي اشتهر عنه أنه قال: من رآني دخل الجنة. يعظمه ويشير إلى أنه بركة ذلك القطر، حكى ذلك عنه صاحبنا الفقيه أحمد ابن الفقيه محمد باجابر، وكان قد اجتمع به، وأمه السيدة مزنة بنت الشيخ أبو بكر العيدروس فهذا الاعتبار يكون الشيخ عبد الله العيدروس رضي الله عنه جده من الطرفين وهو أول من وقع له ذلك فيما علمت، وقد وقع لأولاد اختى سلمى مثل ذلك ولم يكن الآن عقب لسيدي الشيخ أبي بكر الامن أم صاحب الترجمة ولذا تصدر المشار إليه بمسجد جده بعدن بعد أخيه شقيقه السيد محمد المتوفي بمكة المشرفة في سنة ثمان وسبعين وتسعمائة فقام بالمقام أتم قيام، ومشي في ذلك على سنن آبائه الركام، واشتهر بتلك الجبهة شهرة عظيمة، وكثر اعتقاد الناس فيه ومحبتهم له، ولم يزل على السيرة الحميدة إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وكان قد جمله الله تعالى بعقل كامل وزينة بفضل شامل، له أخلاق الطف من نسيم السحر، وأوصاف كالمسك إذا فاح وانتشر ذو علم فائض زخار، وفضل يتدفق تدفق الأنهار قد زاحم في الفضل من تقدم وارتقى فيه إلى المحل الأقوم فصار ممن يشار إليه بالأصابع وممن يعول على رأيه في الأمر الشاسع. أخذ العلوم عن جماعة لا يحصون من المشايخ، ومقروآته كثيرة جداً وبرع في علوم شتى، وحكي انه كانت له في جميع العلوم يد طولى ومهارة تامة، وانما ترك التدريس والتصنيف لشدة خموله وكان متبعاً للكتاب والسنة سالكاً على طريقة السلف الصالح، متسماً بالاستقامة التامة مع كثرة العبادة وداوم الاجتهاد، وكان مع جلالة قدره وعظم جاهه كثير التواضع بل ينسبونه إلى الافراط فيه ، ويميل إلى الخمول الكلي. حتى قيل انه انشد بين يديه بعض المنشدين قصيدة في مدحه فضب، وامر باقامته من ذلك المجلس، إلى غير ذلك من المحاسن التي زينه الله بها وشرفها به وأنعم به عليه، فكان أحق بها وأهلها واجمع على عظم حاله وجلالته وفضله وكماله غير واحد من الأخيار وكافة علماء الأمصار. ونقل عن بعض العارفين انه قال: إذا شاب شعر ذراعيه بلغ رتبة القطبية، وكان له كرامات عديدة واحوال سديدة واوصاف حميدة، وبالجملة فانه كان بقية الشيوخ الذين يقتدى بآثارهم ويهتدى بانوارهم بل ومن عباد الله الذين تستنزل الرحمة بذكرهم، وترجى من الله المغفرة ببركتهم وسرهم وكأنما عناه القائل بقوله:
لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان انت لا شك واحده
ولو أطنبت كل الإطناب واسبهت غاية الإسهاب وأتيت بكل عجاب لعجزت عن وصف شأنه العظيم، وقصرت عن الاحاطة بقدره الجليل، ولله در القائل:
ما في علاه مقالة لمخالف ... فسائل الاجماع فيه تسطر(1/224)
رحمه الله تعالى، واعاد علينا من بركاته آمين، وتاريخ ولادته لم اطلع عليه. غير انه مات وقد أناف على السبعين، وما أظنه بلغ الثمانين، وهكذا كان والده من المعمرين فلم يمت حتى جاوز الثمانين، ثم أخبرني بعض أصحابي إن ولادته كانت في سنة ست وعشرين وتسعمائة فعلى هذا يكون عمره حين مات ستاً وسبعين سنة رحمه الله تعالى ونفع به آمين.
وفيها في ليلة الأحد سابع عشر شهر ربيع الثاني توفي الشيخ الكبير جمال الدين محمد بن على الحشيبري باحمد اباد، وكان من المشايخ المشهورين ورزق القبول في حركاته وسكناته وحصلت له شهرة عظيمة، ورويت عنه كرامات ولا يقدح في جلالته، ذم بعض العلماء له وتنقيصهم إياه بحسب ما يظهر لهم من أموره من غير نظر إلى خصوصيته فقد قيل: المعاصر لا يناصر ولا زالت الأكابر على هذا وفيما يقع منه من التخريقات والشطحات له اسوة بغيره من الصوفية. كماان للمنكرين اسوة بغيرهم من العلماء، وحمل ما يصدر منه من الأحوال الغريبة على احسن المحامل اولى، وحسن الظن اسلم واحسن رحمه الله تعالى. وبنو حشيبر أهل صلاح وولاية ونسبهم في بني ذهل ابن عامر بطن من عك بن عدنان، وهو بفتح الهاء وتشديد اللام كذا ضبطه الجندي. وما خرقتهم فهي تعود إلى الولي الكبير والعلم الشهير قطب الزمن وبهجة اليمن. شمس الشموس أبي الغيث بن جميل اليمني، وذكر منهم الشرجي في الطبقات جماعة، ومنهم علي بن أحمد حشيبر أحد كبار المشايخ المتوفى سنة اثنين وعشرين وثمانمائة، وكان الولي الصالح الفقيه أبو بكر بن أبي حربة يقول: كل المشايخ خلفهم في بركة سلفهم إلا بني حشيبر فان سلفهم في بركة خلفهم، وهو الفقيه علي بن أحمد، ومنهم محمد بن عمر بن أحمد بن حشيبر، كان فقيهاً عالماً عارفاً كاملاً صاحب كرامات عظيمة، ويحكى ان والده ذهب به إلى الشيخ أبي الغيث بن جميل يلتمس من الدعاء، وهو اذ ذاك صبي فكشف له عن عينين للشيخ أبي الغيث في قفاه يبصره بهما فاعلم والده بذلك واعلم والده الشيخ أبي الغيث فقال الشيخ: والله يا ولدي ما رآهما أحد غيرك ثم نوه باسمه وعظمه، ومن كلامه: رأس مال الفقير الثقة بالله تعالى، وافلاسه الركون إلى خلق الله، ومنه. يا اسراء الهمم الارضية وارقاء النفوس التي غير مرضية، هذه الجادة فاين السالكون ابعد العين اين. وكانت وفاته سنة ثمان عشرة وسبعمائة ببلده وهي قريبة من " بيت حسين " المدينة المشهورة قلت: فلما خربت بيت حسين على يد بني حفيص وانتهكت فيها المحارم ونهبت الزوايا التي فيها وقتل جماعة من بني عبيدة على جامع بني حفيص، وذلك في سنة اثنين وستين وثمانمائة انتقل غالب سكانها إلى بيت الفقيه ابن حشيبر، وصارت مدينة عظيمة، وهي محترمة معظمة يأمن بها الخائف، ومنهم محمد بن حسن بن محمد بن عمر بن حشيبر، كان فقيهاً عالماً شيخاً صوفياً كاملا سئل عن قول الشبلي:
اسائل عن ليلى وهل من مخبر؟ ... يكون له علم بها أين تنزل؟
أجابه بقوله:
تحل قلوب العارفين إذا صفت ... وليس لها قلب سواهن منزل
قلت: وقريب من هذا ما حكاه صاحبنا الشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن الولي العلامة محمد بن عبد الرحيم باجابر رحمهم الله قال: كنت سائراً إلى المدينة الشريفة فلما كان في بعض الليالي تذكرت في نفسي الأصحاب وعظمت علي مفارقتهم واشتد علي أمر الاغتراب فتمثلت وانا على تلك الحالة من ترادف الهموم والأحزان، وكنت راكبا علىً الجمل بهذا البيت:
ما في الصحاب اخو وجد نطارحه ... حديث سعد ولا خل نجاريه
فاجابني صوت من ناحية القافلة
ما في الركاب سوى صب أخاً وله ... يروي حديث الهوى حقاً ويدريه
فقلت: من المجيز فقال فلان ابن فلان، وذكر اسمه واسم أبيه وجده الدمشقي واذاً هو من أهل الفضل والادب، وحصلت بيني وبينه معرفة واستأنست(1/225)
به الانس التام. قال: وبقيت أنا واياه في مذاكرة ومطارحة سائر الطريق من من ذلك ان اسم جماله كان قياس واسم جمالي عياش، وكان مع جماله المسمى قياس جمال كثيرة فكان يشتغل بأمرها مع المكارين ويغيب عنه يوماً كاملاً بحيث انه يحتاج إلى الماء فلا يجد من يسقيه، وكان حاراً فيأذى بذلك، ويتغير مزاجه ويرتجل في الحال في هجوه مقطعات. قال: واخذ مرة لحماً ودفعه إلى غلامه ليصلحه فأتى به قبل ان ينضج فانشد عند ذلك ارتجالاً يخاطب غلامه ويومي إلى هجاء الجمال المذكور:
انت لا تحسن شيئاً ... اذ اتيت اللحم نيا
فاسكب القيء عليه ... واعطه الجمال قيا
قال الفقيه أحمد وقلت انا في صاحبي المسمى عياش:
ان عياش قداتت ... من لديه بدائع
راح عني وكنت في ... جملة الركب ضائع
كيف يأتي وقلبه ... في المكارين شائع
قال: واستهلينا شهر المحرم بالزرقاء فلما صلينا المغرب وجلسنا ونحن ننظر إلى الهلال فقال لي: ما تقول في تشبيهه فقلت الذي على بالي من ذلك قول ابن المعتز
والبدر في افق السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقاء
فقال هذا التشبيه لا يحسن فيه إلا عند طلوعه قبيل الفجر حالة نقصه وانتهائه فهات شيئاً في ابتدائه قلت. قوله أيضاً:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد اثقلتله حمولة من عنبر
قال فسكت ساعة خفيفة وانشد لنفسه في ذلك مرتجلا:
قد رأينا الهلال بالزرقاء ... ظاهراً للانام وقت العشاء
قلت للجابرى فهات مثالاً ... فيه تزري بأفصح الشعراء
قال قد قيل زورق من لجين ... قد ترآى للناظرين بماء
ثم سكت نحو نصف ساعة وأنشد أيضاً مرتجلاً:
قال الشهاب الجابري تشيهاً ... يماثل ذا الهلال السافر
فأجبته انظر إلى دورانه ... فلقد حكى في الأرض وقعة حافر
ثم قال الفقيه أحمد لو قال:
هو في السماء مدور ولقد حكى ... دورانه في الأرض وقعة حافر
لكان أحسن. قلت ولبعضهم أيضاً فيه هذا التشبيه الحسن:
والبدر في وسط السماء كأنه ... وجه مضيء تحت قباء أزرق
وفيها: أمر الوزير الكبير حسن باشا بعمارة قبة الشيخ الكبير، والولي الشهير علي بن عمر الشاذلي صاحب المخا بمباشرة على شلبي أمير بندر المخا الحلبي فعمرها عمارة متقنة، وجدد التابوتين وكساهما كسوة حسنة من الصوف الاخضر وكان ابتداء العمارة وختامها في سنة ألف من الهجرة النبوية، ثم أمر الوزير حسن باشا بعمارة جامع كبير شرقي القبة وشاميها فبنى بناء أكيداً وتم، ونصب فيه منبراً من الحجر الأخضر، ثم بنيت له منارة عجيبة في غاية الطول والنحافة واللطف ثم صليت فيه الجمعة واستمرت فيه الخطبة وصلاة الجمعة والجماعة تقبل. الله ذلك منه بمنه وكرمه ويمنه.
ولنختم الكتاب بذكر حبيب الأحباب تاج العابدين على الإطلاق وأويس زمانه بالاتفاق وأسعد السعداء وأكرمهم على ربه المنقذ من الكروب لمن تعلق بسببه، الحري أن تكتب أخباره بماء العيون، وأن ينال كاتبها من الرحمة ما فوق الظنون سعد السويني السعيد، المتصف بكل خلق حميد، الذي يحسن بذكره الختام كما حسن بذكر سيد الرسل الكرام الشروع في الكلام:
ختم هذا الكتاب آن ... وبسعد بحسن الختام
فاختم لنا منك بخير ... وتوفنا على الإسلام
كيف وفي اسمه ما يشعر ببلوغه مرتبة عظيمة من مراتب السعادة مع أن اسمه ثلاثي الحروف، وفضل الثلاثي في اصطلاح أهلها عندهم معروف فطابق اسمه معناه، ووافق فحواه، ولي في المعنى:
يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للمستفيد
فاسمي ووصفي ومريدي ... سعيد في سعيد في سعيد
ولي أيضاً فيه:
ثلاثي به العبد أضحى متصرفاً ... اسم شريف قدره كالمصحفا
فسين السعادة دليل سعادته ... وعين العناية وحسبك ذا كفا
ودال الدلالة على ربه ... فيا سعد من إليه ربه تعرفا(1/226)
هذا وقد قسموا الحروف إلى نورانية، وهي التي جاءت في أوائل السور من القرآن العزيز بعد حذف المكرر يجمعها قولك " من قطعك صله سحيرا " وهي: ا ل رك ه ي ع ص ط س ح م ق ن، وهي أربعة عشر حرفاً ذكروا أن سبعة منها وهي الكبار أشرف من السبعة الأخرى وهي: ا ل ر ه س ع ح، وظلمانية وهي: ب ت ع ح خ ذ د ر ش ر ظ غ ف و،وهي أربعة عشر أيضاً، وذكروا أنها تنقسم كذلك إلى فاضل ومفضول فذكروا في القسم الأول منها: ب ت د ز غ ف و، وما عدا هذه السبعة هي الحروف المفضولة، وهي ج ش رضي الله عنه ظ عثمان ذ، وقد جاء في اسمه الشريف حرفين من أشرف الحروف النورانية وهما: السين والعين وحرف من الحروف الظلمانية، ولكن من القسم الأول منها وهو الدال، وقد وقع هذا الحرف من آخر اسم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وذلك مما يدل على شدة متابعته له وتحقق وراثته منه فهو دال الدلالة على وحدانية الله تعالى، وهو دليل على سابق السعادة بالعناية الأزلية له، ومن نصب له الدلالة على خالقه فعيشه حميد، ومن سبقت له العناية في الأزل فهو سعيد وذكروا أيضاً أن الحروف التي بلا نقط أفضل مما عداها من الحروف بدليل أن الذي جاء في اوايل السور كان أكثره منها، وما كان فيه من الحروف المنقوطة سوى ثلاثة وهي الياء والقاف والنون، وكانت حروف اسمه الشريف من هذه الحروف التي بلا نقط، وقد وقع كذلك في اسم الجلالة واسم النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ولعل في حروف اسمه الثلاثة إشارة إلى ما من الله تعالى به عليه ومنحه من فضله العظيم وجوده العميم فالسين إشارة إلى سعادته، والعين اشارة إلى عناية الله به، والدال اشارة إلى دوام الطاعة له مدة عمره أو إلى الدلالة بالهدية له إلى معرفة الله تعالى، إلى غير ذلك من الأسرار العجيبة والمعاني الغريبة التي لو تتبعنا بعضها لطال بنا الكلام وفيما أوردناه منها مقنع ومرام، وفي الاشارات ما يغني عن التصريح، وفي وصف ذلك المقام ما يحير الفصيح:
كل الذي قلت بعضاً من محاسنه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا
وهذه والله هي المكارم، وهكذا فلتكن في الله العزائم، هكذا وإلا فلا. وأرجو أن أكون بمحبتي له وخدمتي اياه واشتغالي بأخباره مع انتسابي إلى علياه ممن سبقت لهم من ربهم الحسنى وزيادة، وكانت جائزته انشاء الله على ذلك الغفران وكمال السعادة ففضل الله مدرارً، وأولياء الله كالبحار فهم القوم لا يشقى جليسهم، ومن أحب قوماً كان منهم، وإن لم يعمل بعملهم كما جاء في النص الشريف عن صاحب الكرامة والتشريف، وإذا قد رزقنا الله محبتهم ووفقنا لخمتهم فهذا أعظم دليل على الخير انشاء الله تعالى. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ولله در من يقول:
وإذا حلت الهداية قلباً ... نشطت للعبادة الأعضاء
وإذا سخر الاله أناساً ... لسعيد فانهم سعداء
وقلت في المعنى:
يا سعدي إن صح حبي لسعد ... يا بختي ان بذلت فيه جهدي
يا هنائي إن فزت بذاك وحدي ... يا سروري إن بلغت فيه قصدي
يا منائي إذا صدق فيه وجدي ... يا غنائي ان قبل وقال أنت عبدي
وأرجو أن أكون في الدارين بمحبته سعيداً وإن أحشر انشاء الله تعالى ببركته في زمرة السعداء، وأدرك مراتب الشهداء وما ذلك على الله بعزيز، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب. قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم عند الكلام على هذا الحديث ولا يشترط في محبة الصالحين أن يعمل بأعمالهم اذ لو عمل بأعمالهم كان معهم ومنهم؛ وقال البوني إن الله تبارك وتعالى ينظر إلى قلوب أوليائه كل يوم كذا وكذا مرة فإذا وجد في قلوبهم محلا لعبد ورأى همتهم متعلقة بأحد أكرمه وتجاوز عنه وألحقه بهم.(1/227)
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر طرف من أحوال هذا السيد العظيم والولي الكريم ونغترف قطرة من بحره الغزير ليستدل بالقليل من ذلك على الكثير. فكفى بالنفحة دليلاً على طيب الزهر، وبالغرفة معرفة بعذوبة النهر ولأن صاحب النور الذي قسم له نصيب من سعادته إذا ذكر له شيء من صفات الأكابر ولو طرفاً من أخبارهم أو لاح له لامع من بروق أنوارهم هش بقلبه إليها، وأقبل بالود عليها، وذلك لوجود المجانسة الحقيقية كما جاء في الحديث " إلا رواح جنود مجندة فما تعارف منها اتلف. وما تناكر منها اختلف " فأهل السعادة يعرف بعضهم صفات بعض بصفاتهم كما قيل:
يعرفه الباحث من جنسه ... وسائر الناس له منكر
وذلك معلوم عند أهله؛ فهو واحد أهل زمانه علماً وحالاً ومعرفة ومقاماً(1/228)
وورعاً وزهداً واجتهاداً وعبادة، أحد المشايخ الكبار والأولياء الأخيار ترتجى الرحمة بذكره، وتستنزل البركة بحبه؛ويستمطر المسيء سحائب الغفران بالتوسل به. قال العلامة محمد بن عمر بحرق الحضرمي وناهيك بعظيم احواله اعتناء الشيخ العيدروس عبد الله بن أبي بكر بالتصنيف فيها فان العظيم لا يعظم في عينه إلا عظيم، ولا يعرف الفضل لاهل الفضل إلا أهل الفضل، واذا وصف العيدروس في مناقبه الجليلة؛واعتنى باحواله الجميلة فقد اغنى ثناؤه عن كل وصف والشهادة منه خير من شهادة الف الف،وها انا اشير إلى بعض ماذكره رضي الله عنه في ترجمته وسيرته ملخصاً لكلامه فقال؛ومن خطه الكريم نقلت: كان شيخنا العارف بالله تاج الانوار، وقطب الاحوال سعد بن علي بن عبد الله بامدحج الحضرمي التريمي عالماً بالله، وبأمر الله على الشريعة والطريقة والحقيقة ادركناه وصحبناه؛وحفظنا منه كرامات كثيرة، ووقائع عظيمة لم يمكن شرحها وقد أظهرنا بعضها. قال: وتعلم القرآن وحفظه، وقرا في الفقه التنبيه والمنهاج وفي التفسير تفسير الواحدي والبغوي؛ وتأويل القرآن للسلمي، وفي الطريقة بداية الهداية، ومنهاج العابدين والأربعين الأصل؛ واحياء علوم الدين للغزالي وأخذ خرقة الصوفية من الشيخ عبد الرحمن، واكثر مقروآته على والده العارف بالله شيخ بن عبد الرحمن، وكان شيخه يحبه حباً شديداً ويثنى عليه ثناء عظيما، ويشهر أحواله غاية ونهاية؛ وكان يأمره ان يرفق بنفسه في المجاهدة فيعتذر إليه بانه لا يجد لها كلفة ولا مشقة باعانة الله له. قال: وأول شيء بدئ به انه كان نائماً في مسجد سرجيس أي بسين مهملة مكررة بينهما راء ساكنه ثم جيم مكسورة ثم ياء تحتية، فدخل عليه رجال الغيب فأقامه من نومه وقال له: قم ما لهذا خلقت. فشمر بعون الله من وقته في المجاهدات؛ والمكابدات والرياضيات والخلوات. فكان يصوم الدهر ويقوم الليل كله من حين بلغ الحلم وكان ملازماً لتلاوة القرآن؛ وربما قرا ختمة بالليل في صلاة، وختمة بالنهار بالترتيل، وكان متورعاً إلى الغاية والنهاية ملتزماً ان لا يأكل إلا الحلال المحض وان لا يأكل أيضاً منه إلا اليسير وغالب قوته من المطعومات المباحة في الأشجار كالبربر وهو ثمر الاراك. والعشرق وهو ثمر السنا. والنبق وهو ثمر السدر. والصار وهو ثمر النخل المقل. والغاسي وهو ثمر البسر البلح الذابل المتساقط من النخل. واذا سافر إلى الشحر اقتصر على السمك والصرف هذا كله في بدايته ثم كان في آخر عمره يطوي الأربعين فاكثر على الماء وحده ومكث مدة من السنين لا ينام ليلاً ولا نهاراً قال: وكان كثيراً ما يؤثر الخلوة في شعاب تريم. والمجاور عند قبر النبي هود عليه السلام. وكان يظهر له في خلواته ومجاوراته أمور عظيمة. منها: انه يظهر له ابليس وجنوده لعنهم الله فيرمونه ويرجمونه ويهتدونه بالسلاح خصوصاً إذا قام للصلاة. قال: فاستعين بالله عليهم والتجيء إليه فلا يختلج في باطني خوف منهم اصلا فيرجعون خائبين قال: وظهر لي مرة ابليس فصار عني فصرعتنه بمعونة الله تعالى وسبلته سلاحه واسته فاستطاع لي، وانقاذ بان الله تعالى. قال: وظهرت لي صفات النفس المذمومة في صور نساء فذبحتهن بمعونة الله تعالى. قال: ولقيت الخضر عليه السلام مراراً فاسفقدت منه فوائد كثيرة. قال واجتمعت بخلق كثير من رجال الغيب رضي الله عنهم. قال وكنت اسمع في حال تلاوة القرآن هواتف كثيرة تأمرني بترتيل القرآن وتنهاني عن الهذرمة. قال: واذا دعوت قيل لي: اثبتوا عند الأمر والنهي يستجب لكم. قال: وكثيراً ما اسمع الهواتف تقول لي عند التلاوة: قد وهبناك سر هذه السورة، وسر هذه السورة خصوصاً عند قراءة سورة يسين والرحمن والواقعة، ثم قال الشيخ عبد الله رضي الله عنه هذا كله في أول عمره، وأما في آخره قدر نصف عمره فصرنا نحن واياه كما قيل:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا(1/229)
قال الشيخ وكثيراً ما كنت أشاهده في حال التلاوة يذوب بحيث جسده كالماء الجامد فربما فزع إلى مخالطة العوام وأهل الكثافات الطبيعية فسألته هل لك في مخالطتهم من فائدة ؟ قال نعم بل فوائد كثيرة منها: أنه ربما هجم على الحال من وارد المحبة حتى اخشى على جسمي أن يتلف، فاقرب من الناس لتعتدل لطافة الحال بكثافتهم، وأتوله بقضاء حوائجهم ومخاطباتهم.قال الشيخ: وكنت أنظر إليه في غالب أحواله سكران براح المحبة في ليله ونهاره، بل كان في جميع لحظاته ممتلئاً بمحبة ربه. قال: وهو من أهل المقام الرابع في التوحيد لأن الغالب عليه فناء الفناء. قال: وقد سألته عن ذلك في مذاكرة جرت بيني وبينه في توحيد الفعل فأشار إلى نفسه بذلك، وكان للشيخ سعد بن علي معرفة تامة في أحوال القوم، وشرح مقاماتهم، ودقائق معاملاتهم يشرحها شرحاً حسناً شافياً مع كشف وذوق ومشاهدة ووصول وتخلق وتحقق، مع دوام الصفاء بدوام الجوع والسهر والذكر والفكر، وشدة الافتقار والذل والانكسار والتواضع والخمول، وقطع العلائق بالكلية فلم تكن لهَ صبوة في صغره، ولا تزوج في كبره رضي الله عنه حتى توفاه الله تاسع رجب الفرد سنة سبع وخمسين وثمانمائة من الهجرة رحمه الله تعالى، وأعاد علينا من بركاته آمين، ومن غريب الاتفاق أن تاريخ وفاته جاء " منور للجنة " . وقلت في ذلك:
تاريخ فوت سيدي قدوتي ... سعد السويني السعيد قبلتي
نور الأنوار فلا عجب إذا ... ما قيل فيه " منور للجنة "
وقلت أيضاً:
قد أضاءت الأكوان بسعد سيدي ... تاريخه جاء " منور للجنة "
وقد رأيت أن أضيف إلى هذه المناقب الشريفة. مالي في شأنه من الأبيات اللطيفة. فمن ذلك ما قلته فيه مفتخراً بانتسابي إليه، وكوني من محبيه:
نجم سعدي قد طلع ... من أفق السويني ونجم
شرح صدري به بدا ... فيه وجدي ما انكتم
هو روحي وخاطري ... به علق قلبي من قدم
هو شيخي وعمدتي ... هو قصدي من الخيم
بلغت من سره المنا ... وحصل لي العطاء الجم
يا عذولي فيه دعني ... إن السعادة من الله قسم
قد ظفرت أنا بالهنا ... وحظك الصدود والهم
ان عظمت غيره ... استسمنت ذا ورم
ذا مغيث لكل مكروب ... ذا ملجأ الأمم
قطب الأحوال والموا ... هب بينهم كالعلم
ولي فيه أيضاً:
ألا يا سعد أرجو منك اشارة ... فعجل لعبيدك بالبشارة
واسقني من شراب القوم حتى ... أشاهد ذلك النور بلا ستاره
ومن علي وجد لي بمقام ... رفيع تضيق عن شرحه العبارة
ولي أيضاً:
سعد والله من حبه ... سعد طول الآباد
ولي أيضاً:
سعد والله من زاره ... يعطى مناه
سعد والله من حبه ... زاد في عطاه
سعد والله من أمه ... طاب مسعاه
سعد والله من فاز ... بالقرب من مولاه
سعد والله من نظره ... الخلد مأواه
سعد والله من بغضه ... النار مثواه
سعد عاره على العبد ... فقد طال بلواه
سعد والله ما خاب ... من أمله ورجاه
سعد والله جدير ... يجيب من دعاه
سعد قد نال من ربه ... كل ما يشاه
ولي أيضاً:
لو درى العاذلون فرط اكتسابي ... ورأوا حالتي عطفوا ورقوا
ما معي زاداً ليم معادي ... ارجى أعمالي أني لسعدون رق
ومن ذلك مما التزمت فيه بأن يخرج من أوائل السطور اسمه الشريف ويسمى هذا النوع عند أهل هذا الفن المشجر، وفعلت ذلك في مقاطعات عديدة. منها:
" س " سألت اله يغفر زلتي ... بجاه سعد الولي
" ع " عظيم الحال حقاً الزاهد ... الورع التقي
" د " دليل الحيارى للنجاة ... ذاك السويني ابن علي
ومنها(1/230)
سبا فؤادي االرشأ الأشنب ... بمنطق منه يحلو ويعذب
عذب بما شئت غير الهجر يافاتني ... وما عليك فيما فعلت معتب
دمي حلال لك يا أملي ... وغير حبك ليس لي مذهب
ومنها
سلو قلبي محال ... عن حب ليلى وخدرها
عاذلي كف عني ... فلست أميل لغيرها
دعني وشأني ياغبي ... أني شغفت بذكرها
ومنها
سلو عن ودادي يا احباي قلبكم ... فيشهد بما عندي لكم من حبكم
عرفتكم في الذر فكيف انسى عهدكم ... وما منيتي يا سادتي غير قربكم
داوا فؤادي بلذيذ وصالكم ... فحسبي شرفاً أن أكون من حزبكم
ومنها
سروري في هواه ... وبسطي يوم لقاه
عيدي لدى رؤياه ... وقلبي والله مثواه
ديني عقد ولاه ... منيتي والله رضاه
ومنها
سلمى بوصلها علي منت ... فزال عني العنا والصدود
على حالي وضعفي رقت ... بختي بهذا الهنا والورود
درت بسقمي وضنائي وحنت ... يا مرحباً بريم وادي زرود
ومنها
سفكت في الهوى دمي ... غزال من ظبي الحرم
علقت روحي بحبها ... وصبت من سالف القدم
درت أن شغفي بها ... وبهاتيك الخيم
ومنها
سلو قلبي محال ... عن حب سعدا وأختها
على ذكري بفخرها ... طاب وقتي من بختها
دام عزي بسعدها ... ليتني أكون عبدها
ومن ذلك أني لغزت في اسمه الشريف فقلت:
سري قد سرى لخير عرب ... أباح دمي لهم من غير ذنب
وقلت أيضاً في هذا المعنى:
سألت الله العظيم باسمه ... يشفي دائي ويمن بطبه
سر عزيز تمثلت من ذكره ... درى عاذلي أني شغت بحبه
ومن ذلك ما قلت فيه، وفي صاحبه سيدي الشيخ عبد الله العيدروس مفتخراً بانتسابي اليهما، وما ساقه الله لي من الخير بسببهما، وعلى يديهما:
بالشيخ عبد الله وسره ... حصل لي كلما أريد
وسعد السويني ذكره ... حلالي ورده يا مريد
والعبد بهم وان قل قدره ... فهو في الناس سعيد
وكلما قيل نقص أمره ... ما زلت بهم في مزيد
توشيح
اقسم بالله أنهم عوني ... ومذ لذت بهم ما جفوني
وإذا ضاق أمري أنقذوني
وعاد بسعد وفخره ... بحري وربي بسيط مديد
ومثله أيضاً:
بالشيخ عبد الله ومجده ... وفتى قد صار رائق
وسعد السويني وحده ... أزاح عني العوائق
والعبد بهم وأن قل جهده ... فهو في الناس سابق
وكلما قيل قل حده ... ما زال بهم فخري فائق
توشيج
لما انتسب لجنابهم ... جادوا علي بشرابهم
ومن أنا إلا بهم
وعاد وربي بهم أطول ... وأفخر على كل عاشق
ومثله أيضاً:
بالشيخ عبد الله واصله ... نلت المنى والمقصود
وسعد السويني وفضله ... ظاهراً بلا خفاء وجحود
توشيح
مت يا عذولي بالله ... اخسا مالك ولأهل الله
ويلك تريد اطفاء نور الله
ما على ذا من مثلك وجهلك ... ما حظك غير القلا والصدود
ومثله أيضاً:
بالشيخ عبد الله ونصيبه ... حصل لي السعادة
وسعد السويني حبيبه ... حبه أي سيادة
والعبد بهم وإن قل نصيبه ... صحت له الاراده
وكلما قيل هان بخته ... كا زلت والله في زياده
حاشا لا يضام نسيبه ... أو يحرم الراجي الافادة
توشيح
خصصت بذا في الأزل ... ومذ املتهم ما خاب أملي
وأرجو بهم أن يختم الله عملي
ومن ذلك قلت فيهما وفي سيدي حاتم بن أحمد الأهدل أعاد الله علينا من بركاتهم آمين:
لي مطلب ما مثله مطلب ... قرب مولاي وعالي الرتب(1/231)
حال اسلافي وطيب المشرب ... وإن نلت ذا ما هو والله عجب
توشيح
بالعيدروس الجد اعطي السول ... وبسعد وحاله ارتجي القبول
وحتم الفرد الولي ليث الفحول
ما لي سوى حبهم مذهب ... ولا وربي بابهم اذهب
ومما قلت فيهم نفع الله بهم:
سعد حبي وحاتم سيدي ... والعيدروس القطب شيخي وجدي
ليس يعد لهم أحد عندي ... لا وربي إن ذا من جدي
وقلت فيهم أيضاً:
ما خاب من بالعيدروس توسل ... وبحاتم الولي رجا وأمل
ومن من سعد رام الاسعاد
بل حقيق بأن يعطي المنى ... ويفوز بالبشرى والهنا
كذا ويظفر بكل المراد
وقلت فيهما أيضاً:
ما خاب من على الله توكل ... وبالهادي الرسول توسل
أنه الحقيق أن يعطي المراد
ومن بحاتم ترجى الندا ... وألح على العيدروس بالندا
ومن سعدهم رام الاسعاد
ولنختم هذه الترجمة العظيمة بحكاية غريبة حسنة سمعتها من الثقات، وهي جديرة في هذا المحل بالاثبات: حكي: أن الشيخ أبا بكر العيدروس صاحب عدن رضي الله عنه كان اذا ذكر الشيخ سعد ينبسط جداً، وكان أصحابه بعد أن عرفوا ذلك منه إذا رأوه مقبوضاً يذكرونه له فينبسط عند ذلك، ففي بعض الأيام دعى بصندوق وفتحه وأخرج منه شيئاً عليه لفائف كثيرة، كما يجعل على الشيء النفيس مبالغة في حفظه وصونه، فما زال يفتحها بيده الشريفة واحدة بعد واحدة حتى أخرج منها حذائين عتيقين وأخذ يشمهما ويقبلهما، وقال إن هذه من ملبوسات الشيخ سعد رضي الله عنه، ثم ردهما مكانهما فتعجب الحاضرون من ذلك. قلت: وقد وقع لي بحمد الله قريب من هذا: وذلك أن بعض الأصحاب من أهل حضرموت اهدى لي طبيباً فقلت: هلا أهديت لي من تراب قبر سيدي الشيخ سعد بن علي رضي الله عنه ؟ فإن ذلك عندي من أشرف الهدايا، وأفخر أنواع الطيب، ثم انشدت في هذا المعنى:
سألت العرفاء عن طب دائي ... ففالوا تراب ذلك الجناب الأقدس
على الخبير سقطت فاغنم داؤك ... وربي أنه درياق أنفس
داوني يا سعد وأدرك قبل تلافي ... وحقك أنني لك عبد اكيس
فأرسل الي من العام القابل قليلاً من تراب ذلك الضريح الشريف في قارورة زجاج ولله الحمد، وعلمت أن للشيخ نفع الله به بالعبد اعتناء عظيم، وأخبرني شيخنا الفقيه الصالح سراج الدين عمر ين زيد الدوعني قال ومن خطه نقلت: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فيقول العبد الفقير الحقير خويدم العلماء ومحبهم عمر بن زيد وغفر الله ذنوبه وستر عيوبه آمين. لما كان بتاريخ ليلة الجمعة ثامن وعشرين شهر شعبان المكرم سنة خمسة عشر وألف رأيت كأن سيدنا وشيخنا السيد العالم العلامة العارف بالله تعالى وحيد عصره وفريد دهره محيي الدين الشيخ عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروس مد الله في حياته وأعاد علينا من بركاته وبركات علومه ومعافه وأنفاسه آمين في بيت عظيم وعنده جماعة من أصحابه عرفت بعضهم فخرج من ذلك البيت وأشار الي فتبعته، وفهمت منه أنه يطلب الماء فمشى أمامي وأنا وراءه في أماكن معمورة لا أعرفها حتى انتهينا إلى مكان واسع فإذاً بسيدي الشيخ سعد بن علي بامدحج إمام سيدي يدله على الماء الذي يطلبه وإذا بطائر في الهوى فوق رأس سيدي الشيخ سعد نفع الله به فمشى الشيخ إمام سيدي غير بعيد فاعترضنا نهر عظيم فنزلنا في درج إلى النهر وانتبهت قبل أن يصل سيدي إلى النهر وبي من الفرح والسرور ملا عليه مزيد زاده الله من فضله ورقاه إلى أعلى المقامات بمنه وكرمه وفضله. فقصصت رؤياي على سيدي فقال: اكتم ما رأيت ولا تخبر بذلك أحداً. أعاد الله علينا من بركاته وبركات الشيخ الولي سعد بن علي، وبركات الأولياء والصالحين آمين.(1/232)
انتهى كلام سيدي الفقيه بحروفه، وهذا آخر ما يسر الله جمعه من التاريخ المختصر الجامع، وقد احتوى جرمه الصغير على علم كثير، ونكت مفيدة يحتاج إليها ذوو البصائر، ويهتدي بها عند الوقوف عليها كل حائر وذلك بفضل الله وهدايته، وتخصيص من معونته ورعايته، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
قال مؤلفه فسح الله في مدته، وقع الفراغ من تأليف هذا التاريخ اللطيف في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الثاني سنة اثنى عشر بعد الألف باحمد أباد، والحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافي مزيده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ودعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.(1/233)