إلى مكة لمحاربه ابن الزبير بمكة وقد رميت الكعبة بالمنجنيق واحترقت من شرارة هبت بها الريح.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بأن جبارا من جبابرة بني أمية يرعف على منبره فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث عبد الصمد قال: حدثنا حماد قال حدثني على بن زيد قال: أخبرنى من سمع أبا هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية، فيسيل رعافه.
قال: فحدثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى سال رعافه.
وعمرو هذا هو أبو أمية عمرو الأشدق بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي أحد أشراف قريش، ولاه معاوية مكة ثم استعمله يزيد بن معاوية على المدينة في رمضان سنة ستين فباشرها، وكان عظيم الكبر حتى عزله في سنة إحدى وستين في ولايته، رعف على المنبر أول ما خطب، ثم شهد مع مروان بن الحكم مرج راهط [ (2) ] وحرب مصر، فلما قام عبد الملك بن مروان قتله في سنة سبعين أو قبلها، وقد ذكرته ذكرا شافيا في كتاب (التاريخ الكبير المقفى) [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 330، حديث رقم (10385) من مسند أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] مرج راهط: بنواحي دمشق، وهو أشهر المروج في الشعر، فإذا قالوه مفردا فإياه يعنون.
(معجم البلدان) : 5/ 118، موضع (11092) .
[ (3) ] ترجمته في (المقفى الكبير) : 2/ 272، 273، 276، 3/ 156، 279، 577، 580، 607، 615، 4/ 333، 457، 358، 613، 6/ 290.(12/272)
ولما رعف وهو يخطب قال: أعرابي جاء بالدم، وناوله إنسان عمامة فمسحه بها فقال أعرابي: عمّ الناس الدم، ثم ناوله إنسان عصا ذات شعبتين فقال أعرابي: شعب بين الناس [ (1) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بتمليك بني أمية
فخرج الإمام أحمد [ (2) ] والحاكم [ (3) ] من حديث حجاج بن محمد، حدثنا شعبة عن أبي حمزة قال: سمعت حميد بن هلال يحدث عن عبد اللَّه بن مطرف، عن أبي برزة الأسلمي، قال: كان أبغض الأحياء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج الحاكم [ (4) ] من حديث أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي مؤذن المسجد الحرام، قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إني رأيت في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص ينزون على
__________
[ (1) ]
وخرج الحاكم من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إني رأيت في منامي كأن بنى الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة. قال: فما رئي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى توفى.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم. كتاب الفتن والملاحم (المستدرك) :
4/ 527، حديث رقم (8481) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 579، حديث رقم (19276) . من حديث أبي بردة الأسلمي، ولفظه:
كان أبغض الناس- أو أبغض الأحياء- إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثقيف وبنو حنيفة.
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 528، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8482) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (4) ] راجع التعليق رقم (1) .(12/273)
منبري كما تنزو القرود، قال: فما رئي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى توفى.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث أبي داود الطيالسي حدثنا: القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما بعد ما بويع معاوية رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال:
سوّدت وجوه المؤمنين! قال: لا تؤنبنى رحمك اللَّه، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أرى بنو أمية على منبره فساءه ذلك، فزلت: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] يا محمد يعنى نهرا في الجنة، ونزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ (3) ] تملكها بعدك بنو أمية يا محمد، قال القاسم:
فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والقاسم بن الفضل الحداني هو ثقة، وثقه يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ويوسف بن سعد مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
وقد خرج هذا الحديث البيهقي [ (4) ] من طريق أحمد بن زهير بن حرب حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا القاسم بن الفضل الحدانى.
ومن طريق أبي داود يعنى الطيالسي حدثنا القاسم بن الفضل قال حدثنا يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجل إلى الحسن بن علي فقال: يا مسوّد وجه المؤمنين! فقال الحسن: لا تؤنبني رحمك اللَّه.
الحديث.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 414، كتاب تفسير القرآن، باب (85) تفسير سورة القدر، حديث رقم (3350) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] الكوثر: 1.
[ (3) ] القدر: 1- 3.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 509- 510، باب ما جاء في رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلم في ملك بنى أمية.(12/274)
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد اللَّه خولا، ومال اللَّه نحلا، وكتاب اللَّه دغلا.
وخرجه [ (2) ] من حديث بقية وعبد القدوس بن الحجاج قالا: حدثنا: أبو بكر ابن أبي مريم عن راشد بن سعد عن أبي ذر قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد اللَّه خولا، ومال اللَّه نحلا، وكتاب اللَّه دغلا.
قال أبو بكر بن أبي مريم: وحدثني عمار بن أبي عمار أنه سمع أبا هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [يقول] هلاك هذه الأمة على يدي أغيلمة من قريش.
[قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين] ، قال: ولهذا الحديث توابع وشواهد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وصحابته والأئمة من التابعين، لم يسعني إلا ذكرها، فذكرت بعض ما حضرني منها.
فذكر من طريق عبد الرزاق بن همام [ (3) ] قال: حدثني أبي عن مينا مولى عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فدعا له فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: هو الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] الملعون.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 525- 526، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8475) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على ضعف رواته منقطع.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8476) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8477) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : لا واللَّه، وميناء كذبه أبو حاتم.(12/275)
وذكر أيضا من طريق إسحاق بن يوسف [ (1) ] ، حدثنا شريك بن عبد اللَّه، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن حلام بن جزل الغفاريّ قال: سمعت أبا ذر جندب بن جنادة الغفاريّ يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال اللَّه دولا، وعباد اللَّه خولا ودين اللَّه دغلا، قال حلام: فأنكرت ذلك على أبي ذر، فشهد عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنى سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وأشهد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قاله.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وشاهده حديث أبي سعيد الخدريّ،
فذكر عن طريق أبي صالح بن عمر [ (2) ] ، حدثنا مطرف بن طريف عن عطية عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا دين اللَّه دغلا، وعباد اللَّه خولا، ومال اللَّه دولا.
قال وهكذا رواه الأعمش عن عطية، فذكره من طريق محمد بن حميد [ (3) ] حدثنا جرير عن الأعمش، عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال اللَّه دولا، ودين اللَّه دغلا، وعباد اللَّه خولا.
قال كاتبه: وقد خرج هذا الحديث من طريق أبي بكر بن أبي إدريس، قال: حدثني سليمان بن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا دين اللَّه دغلا، وعباد اللَّه خولا، ومال اللَّه دولا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8478) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8479) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : ورواه محمد بن حميد عن جرير عن الأعمش عن عطية.
[ (3) ] (المرجع السابق) حديث رقم (8480) .(12/276)
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث أمية بن خالد عن شعبة، عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سنّة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر، سنّة كسرى وقيصر، قال مروان: هو الّذي أنزل فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [ (2) ] الآية. قال: فبلغ عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، فقالت كذب واللَّه ما هو به، ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان قصص من لعنة اللَّه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج من طريق مسلم بن إبراهيم [ (3) ] ، حدثنا: جعفر بن سليمان الضبعي، حدثنا على بن الحكم البناني، عن أبي الحسن الجزري، عن عمرو ابن مرة الجهنيّ، وكانت له صحبة، أن الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فعرف صوته وكلامه، فقال: ائذنوا له، عليه لعنة اللَّه، وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم، يشرفون في الدنيا، ويوضعون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. [ولم يخرجاه] .
وخرجه البيهقي [ (4) ] من حديث مسلم بن إبراهيم، حدثنا سعيد بن زيد أخو حمّاد بن يزيد، عن علي بن الحكم عن أبي الحسن، عن عمرو بن مرة،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 528، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8483) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : فيه انقطاع، محمد لم يسمع من عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) ، وفيه «هرقل وقيصر» .
[ (2) ] الأحقاف: 17.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8484) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : لا واللَّه، فأبو الحسن من المجاهيل، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 512، باب ما جاء في رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلم في ملك بنى أمية، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، ثم قال في آخره قال الدارميّ: عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبو الحسن هذا حمصىّ.(12/277)
وكانت له صحبة، قال: جاء الحكم بن أبي العاص يستأذن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فعرف كلامه، فقال: ائذنوا له، حية أو ولد حية، فذكره بنحو منه.
قال الحاكم [ (1) ] : وشاهده، فذكر من حديث أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين، حدثنا إبراهيم بن منصور الخراساني حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن سوقة، عن الشعبي، عن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعن الحكم وولده. قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد، وقال الحاكم [ (2) ] : ليعلم طالب العلم أن هذا باب لم أذكر فيه ثلث ما روى، وأن أول الفتن في هذه الأمة فتنتهم، ولم يسعني فيما بيني وبين اللَّه تعالى أن أخلى الكتاب من ذكرهم.
وخرج البيهقي [ (3) ] من حديث كامل بن طلحة، حدثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل أن ابن موهب أخبره أنه كان عند معاوية بن أبي سفيان، فدخل عليه مروان، فكلمه في حاجته، فقال: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فو اللَّه إن مئونتي لعظيمة، وإني أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، فلما أدبر مروان وابن عباس جالس [مع] [ (4) ] معاوية، على السرير،
قال معاوية: أنشدك اللَّه [ (5) ] يا ابن عباس [ (6) ] ألم تعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال اللَّه بينهم دولا، وعباد اللَّه خولا، وكتاب اللَّه دغلا،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 528- 529، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8485) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : الرشدينى ضعفه ابن عدىّ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 4/ 529.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 507- 508، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بصفة بنى عبد الحكم بن أبي العاص، إذا كثروا، فكانوا كما أخبر.
[ (4) ] في (الأصل) : «عند» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (5) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «أشهد باللَّه» .
[ (6) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «أما تعلم» .(12/278)
فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة؟ فقال [ابن عباس] [ (1) ] : اللَّهمّ نعم [ (2) ] .
وذكر مروان حاجة له، فرد مروان عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها،
فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: أنشدك اللَّه يا ابن عباس! أما تعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذكر هذا؟ فقال: أبو الجبابرة الأربعة؟ فقال ابن عباس: اللَّهمّ نعم.
وخرج من حديث سفيان [ (3) ] عن على بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بني أمية على منابرهم فساءه ذلك، فأوحى اللَّه إليه إنما هي دنيا أعطوها، فقرت عينه، وهي قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ (4) ] يعنى بلاء الناس.
وخرج الحاكم [ (5) ] من حديث الفرياني حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مر عن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قال: هم الأفخران من قريش، بنو أمية، وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقد قطع اللَّه دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين،
قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] .
ولأبى بكر بن أبي شيبة [ (6) ] من حديث هوذة بن خليفة عن أبي خلدة عن عوف، عن أبي العالية، عن أبي ذر، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (2) ] قال ابن كثير: فيه غرابة ونكارة شديدة.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 509، باب ما جاء في رؤياه ملك بنى أميه.
[ (4) ] الإسراء: 60
[ (5) ] (المستدرك) : 2/ 383، كتاب التفسير، تفسير سورة إبراهيم، حديث رقم (3343) :
قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (6) ] (المصنف) : 7/ 259، حديث رقم (35866) .(12/279)
وأما إخباره عليه الصلاة والسلام بالوليد وذمّه له
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال حدثني الزهري، قال: حدثني سعيد بن المسيب، قال: ولد لأخي أم سلمة من أمها غلام فسموه [ (2) ] الوليد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تسمون بأسماء فراعنتكم؟
غيروا اسمه، فسموه عبد اللَّه، فإنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، هو شر لأمتي من فرعون وقومه قال البيهقي: هذا مرسل حسن.
وخرجه الحافظ أبو نعيم [ (3) ] من حديث إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي بنحوه وزاد، قال الأوزاعي: قلت له: أيّ الوليد هو؟ إن استحلف الوليد بن يزيد فهو هو، وإلا فالوليد بن عبد الملك.
وقد خرجه الإمام أحمد [ (4) ] من حديث الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 505، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم برجل يكون في أمته يقال له:
الوليد صاحب ضرر، فكان كما أخبر.
[ (2) ] في (الأصل) : «فسمته» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] أخرجه أيضا الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 271، باب الإخبار عن الوليد بما فيه له من الوعيد الشديد، وإن صحّ فهو الوليد بن يزيد، لا الوليد بن عبد الملك، ثم قال:
قال أبو عمرو الأوزاعي: فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد، لفتنة الناس به، حتى خرجوا عليه فقتلوه، وانفتحت على الأمة الفتنة والهرج.
وقد رواه نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم به، وعنده قال الزهريّ: إن استخلف الوليد ابن يزيد، فهو هو، وإلا فهو الوليد بن عبد الملك.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا هشيم عن أبي حمزة عن الحسن، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سيكون رجل اسمه الوليد، يسدّ به ركن من أركان جهنم وزاوية من زواياها،
وهذا مرسل أيضا.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 1/ 32، حديث رقم (110) ، من مسند عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/280)
وخرجه الحاكم [ (1) ] من حديث الأوزاعي عن الزهري عن ابن المسيب.
عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، [قال الحاكم:] وهو الوليد بن يزيد بلا شكّ ولا مرية.
وخرجه البيهقي [ (2) ] أيضا من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا أبو عمر الأوزاعي بنحوه
وزاد في آخره: قال الأوزاعي: وكان الناس يرون أنه الوليد ابن عبد الملك بن مروان ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه، ففتحت الفتن على الأمة والهرج.
قال كاتبه: كان الوليد بن عبد الملك بن مروان جبارا عنيدا قال: كنتم تسمون الخلفاء ومن سماني قتلته، قال: فكف الناس عن تسمية الخلفاء، وسمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته: يا ليتها كانت القاضية [ (3) ] ، فقال:
عليك وأراحتنا منك، وكان الوليد بن يزيد بن عبد الملك ماجنا، فاسقا، معلنا بالفسق، واقع جارية، ثم دعي إلى الصلاة، فأمرها فخرجت متلثمة فصلت بالناس، وأخذ القوس، ورمى المصحف، وخرقه، وقال: إذا لاقيت ربك يوم حشر فقل يا رب خرقني الوليد [ (4) ] ويقال: إنه كان يقول مقالة التنويه.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 539، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8509) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 505- 506.
[ (3) ] الحاقة: 27.
[ (4) ] حياة الحيوان الكبرى) : 1/ 66- 67، خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، قال الدميري:
فأقام في الخلافة سنة واحدة، ثم أجمع أهل دمشق على خلعه وقتله، لاشتهاره بالمنكرات، وتظاهره بالكفر والزندقة. قال الحافظ ابن عساكر وغيره: انهمك الوليد في شربه الخمر ولذاته، ورفض الآخرة وراء ظهره، وأقبل على القصف واللهو، والتلذذ مع الندماء والمغنين، وكان يضرب بالعود، ويوقع بالطبل، ويمشى بالدف، وكان قد انتهك محارم اللَّه تعالى، حتى قيل له: الفاسق.(12/281)
وأما إشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى خلافة عمر بن عبد العزيز رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث عفان بن مسلم قال: حدثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرة بنت أسماء، عن نافع، قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شين يلي، فيملأ الأرض عدلا، قال نافع من قبله: لا أحسبه إلا عمر بن العزيز.
__________
[ () ] وكان أكمل بنى أمية أدبا، وفصاحة، وظرفا، وأعرفهم بالنحو واللغة والحديث، وكان جوادا مفضالا. ومع ذلك لم يكن في بنى أمية أكثر إدمانا للشراب والسماع، ولا أشدّ مجونا، وتهتكا، واستخفافا بأمر الأمة من الوليد بن يزيد.
يقال: إنه واقع جارية له وهو سكران، وجاء المؤذنون يؤذنون بالصلاة، فحلف أن لا يصلى بالناس إلا هي، فلبست ثيابه، وتنكرت، وصلت بالمسلمين، وهي جنب سكرى.
ويقال: إنه اصطنع بركة من خمر، وكان إذا طرب ألقى نفسه فيها، وشرب منها، حتى يبين النقص في أطرافها. وحكى الماوردي في كتاب (أدب الدين والدنيا) عنه أنه تفاءل يوما في المصحف، فخرج له قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، [إبراهيم: 15] فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتوعد كلّ جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل: يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى قتل شرّ قتله، وصلب رأسه على قصره، ثم على أعلى سور بلده.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 492، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالشر الّذي يكون بعد الخير الّذي يكون بعد ذلك، ثم بالشر الّذي يكون بعده، وما يستدل به على إخباره بعمر بن عبد العزيز رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. وإشارته إلى ما ظهر من عدله وإنصافه في ولايته.
وأخرجه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 286، نقلا عن البيهقي في (الدلائل) .(12/282)
ومن طريق عثمان بن طالوت [ (1) ] ، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، حدثنا مبارك بن فضالة عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول كثيرا: ليت شعرى! من هذا الّذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا؟ [فأمر ابن أيوب بالحديث] .
ومن حديث عبد العزيز بن عبد اللَّه [ (2) ] بن أبي سلمة، قال: أخبرنا عبد اللَّه بن دينار، قال: قال عمر: يا عجبا كيف يزعم الناس أن الدنيا لن تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر؟ قال: فكانوا يرونه بلال بن عبد اللَّه بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر قال: فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمه ابنة عاصم بن الخطاب.
ومن طريق أصبغ بن الفرج، قال: أخبرنى عبد الرحمن بن القاسم، قال:
حدثني مالك عن سعيد بن المسيب أنه وجد نشطة، فقال لرجل: من الخلفاء؟
قال الرجل: أبو بكر، وعمر وعثمان، فقال سعيد: الخلفاء أبو بكر، والعمران، فقال: أبو بكر، وعمر، قد عرفناهما فمن عمر الآخر؟ قال يوشك إن عشت أن تعرفه، يريد عمر بن عبد العزيز، قال محمد بن أصبغ: الرجل عبد الرحمن بن حرملة [ (3) ] .
قال البيهقي [ (4) ] : عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم عن مالك، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، وابن المسيب مات قبل عمر بن عبد العزيز بسنتين، ولا يقول إلا توقيفا.
وخرج أيضا من حديث ابن وهب [ (5) ] قال: حدثني أسامه بن زيد، عن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: إنما ولى عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول اجعلوا هذا، كيف ترون
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) 6/ 493، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (4) ] (المرجع السابق) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (5) ] (المرجع السابق) .(12/283)
في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس.
قال البيهقي [ (1) ] : وفي هذه الحكاية تصديق ما روينا في حديث عدي بن حاتم، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من قوله: ولئن طالت بك حياة لترى الرجل يخرج ملء كفه ذهبا أو فضة فيلتمس من يقبله ولا يجد أحدا يقبله.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بأحوال وهب بن منبّه وغيلان القدري
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث هشام بن عمار، والهيثم بن خارجة، قالا:
حدثنا الوليد بن مسلم عن مروان بن سالم القرقساني، قال: حدثنا الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يكون في أمتي [رجل يقال له وهب يهب اللَّه له الحكمة، ورجل يقال له غيلان، هو أضر على أمتي من إبليس] .
قال البيهقي: تفرد به مروان بن سالم الجزري وكان ضعيفا في الحديث.
قال كاتبه: هو مروان بن سالم بن عبد اللَّه البغدادي الشامي سكن قرقيسياء [ (3) ] من الجزيرة، وروى عن عبد الملك بن أبي سليمان والأعمش وابن
__________
[ (1) ] المرجع السابق) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 496، باب ما روي من إخباره بحال وهب بن منبه، وغيلان القدريّ، إن صح هذا الحديث ولا أراه صحيحا، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] قرقيسياء: بالفتح ثم سكون، وقاف أخرى، وياء ساكنة، وسين مكسورة، وياء أخرى، وألف ممدودة، ويقال بياء واحدة.
قال حمزة الأصبهاني: قرقسياء معرب كركسيا، وهو مأخوذ من كركيس، واسم معرب لأرسال الخيل، المسمى بالعربية بالحلبة، وكثيرا ما يجيء في الشعر مكسورا.
وهي بلد على نهر الهابور، وعندها مصب الخابور في الفرات، فهي مثلث بين الخابور والفرات. وإليها فرّ زفر بن الحارث العامرىّ ثم الكلابيّ بعد وقعة مرج راهط. (معجم البلدان) : 4/ 373، موضع رقم (9543) .(12/284)
جريج وأبى حنيفة وجماعة، وروى عنه بقية وعبد الصمد بن عبد الوارث وعبد المجيد بن أبي داود ونعيم بن حماد، وطائفة البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: ليس بثقة، وقال النسائي متروك الحديث، وقال: أبو حاتم: منكر الحديث جدا، وقال ابن عدي: ومروان هذا قريب من مروان بن نهيك، وليس بالمعروف [ (1) ] .
وقال البيهقي [ (2) ] : وروى ذلك من وجه آخر أضعف من هذا، فذكره من حديث أحمد بن العباس، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ينعق الشيطان بالشام نعقة يكذب ثلثاهم بالقدر.
قال البيهقي: وهذا إن صح، فيه إشارة إلى غيلان القدري، وما ظهر بالشام بسببه من التكذيب بالقدر حتى قتل [ (3) ] .
قال كاتبه: وقد خرج ابن عساكر من حديث عبد بن حميد، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني الوليد بن مسلم، وعبد المجيد بن أبي داود، عن مروان بن سالم، عن خالد بن معدان، عن عبادة، فذكره، ثم قال: وقد أسقط من إسناده الأحوص بن حكيم، فذكره من طريق أحمد بن زهير ابن حرب ويعقوب بن كعب الأنطاكي، حدثنا الوليد بن مسلم، عن مروان بن سالم، حدثنا الأحوض عن خالد عن عباده، فذكره ثم قال: وروى من وجه آخر عن خالد بن معدان، فذكره من حديث حسان بن إبراهيم بن يحيى بن زيان عن عبد اللَّه بن راشد، عن خالد بن معدان، عن عبادة، فذكره. قال: ورواه عليّ ابن المديني عن حسان فزاد في إسناده رجلا غير مسمى فأورد من حديث ابن المديني حسان بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن زيان أخبرنا عبد اللَّه بن راشد، عن مولى لسعيد بن عبد الملك، قال: سمعت خالد بن معدان يحدث عن عبادة، فذكره. قال: وروي من وجه آخر مرسلا، فأورده من طريق أبي الجهم
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (ميزان الاعتدال) : 4/ 90، ترجمة رقم (8425) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 496- 497.
[ (3) ] (المرجع السابق) .(12/285)
أحمد بن الحسين بن طلاب حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الخلال، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا محمد بن عبد اللَّه الشعيتي، قال: كنت جالسا عند مكحول، قال: ومعه غيلان، قال: إذ أقبل شيخ من أهل البصرة، قال:
فجلس إلى مكحول، قال: فسلم عليه ثم قال له مكحول: كيف سمعت الحسن يقول في آية كذا أو كذا؟ فأخبره بشيء لم أحفظه، قال: ثم أقبل عليه ودع هذا عنك، فغضب مكحول، وكان شديد الغضب، ثم قال له: ويلك يا غيلان إنه قد بلغني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: سيكون في أمتي رجل يقال له غيلان هو أضرّ عليها من إبليس،
فإياك أن تكون هو! ثم قام وتركه.
قال المؤلف: فقد وجد لحديث مروان متابعات. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.(12/286)
وأما إشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى حال محمد بن كعب القرظي [ (1) ]
فخرج البيهقي [ (2) ] وغيره من حديث ابن وهب قال: أخبرني أبو صخر، عن عبد اللَّه بن مغيث بن أبي بردة الظفري، عن جده، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: يخرج في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون من بعده.
ومن حديث يعقوب بن سفيان [ (3) ] حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا نافع ابن يزيد، حدثنا أبو صخر، عن عبد اللَّه بن معتب أن معتب بن أبي بردة.
فذكره بإسناده نحوه.
ومن حديث ابن وهب [ (4) ] ، قال: حدثني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يكون في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد غيره، قال: وكانوا يرون أنه محمد بن كعب القرظي [قال أبو ثابت: الكاهنان قريظة والنضير] ، قال البيهقي: هذا مرسل، وروى من وجه آخر مرسلا، فذكره من طريق موسى ابن عقبة [ (5) ] قال: بلغني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يخرج من الكاهنين رجل أعلم الناس بكتاب اللَّه.
قال سفيان: يرون أنه محمد بن كعب القرظي [ (6) ] .
__________
[ (1) ] هو محمد بن كعب بن سليم القرظيّ المدنيّ، من أئمة التفسير، ثقة، عالم، متبحر، وفاته سنة (108) ، وولادته قيل: في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولم يصح، وقيل: أنه كان مجاب الدعوة، كبير القدر. له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 1/ 216، (حلية الأولياء) : 3/ 212، (شذرات الذهب) : 1/ 136.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 458، باب ما روى في إشارته إلى من يكون بعده من قريظة يدرس القرآن.
[ (3) ] (المرجع السابق) .
[ (4) ] (المرجع السابق) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (5) ] (المرجع السابق) .
[ (6) ] (المرجع السابق) .(12/287)
وقال عون بن عبد اللَّه: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من محمد بن كعب القرظي.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بانخرام قرنه الّذي كان فيه على رأس مائة سنة، فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج البخاري في كتاب العلم [ (1) ] ، في باب السمر بالعلم، من حديث الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن سالم وأبي بكر بن سليمان، عن أبي حثمة.
وخرج في كتاب الصلاة [ (2) ] في باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء، من حديث شعيب، عن الزهري، قال: حدثني سالم بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد.
فوهل الناس في مقالة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث على مائة سنة، وإنما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يبقى ممن هو اليوم عن ظهر الأرض.
يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن. هذا لفظ حديث شعيب. وانتهى ابن مسافر إلى قوله: أحد [ (3) ] وقال فيه صلّى صلّى اللَّه عليه وسلم العشاء، وقال:
فإن رأس مائة سنة منها.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 281- 282، كتاب العلم، باب (41) السمر في العلم، حديث رقم (116) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 2/ 93، كتاب مواقيت الصلاة، باب (40) السمر في الفقه والخير بعد العشاء، حديث رقم (601) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (20) ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعا، حديث رقم (564) .(12/288)
وخرج مسلم [ (1) ] في كتاب المناقب من حديث عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر عن الزهري، قال أخبرنى سالم بن عبد اللَّه، وأبو بكر بن سليمان، أن عبد اللَّه بن عمر، قال: صلى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد
قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما
قال رسول صلّى اللَّه عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد،
يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن.
وخرجه أبو داود [ (2) ] في كتاب الملاحم من حديث عبد الرزاق. وخرج مسلم [ (3) ] من حديث ابن جريح أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول:
سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر تسألونى عن الساعة وإنما علمها عند اللَّه، وأقسم باللَّه ما على الأرض من نفس منفوسة يأتى عليها مائة سنة.
ومن حديث معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي قال: حدثنا نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال ذلك وقبل موته بشهر أو نحو
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 323، كتاب فضائل الصحابة، باب (53)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تأتى مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم،
حديث رقم (2537) . قال الإمام النووي:
لكن قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك لما رجع من تبوك هذه الأحاديث، وقد فسر بعضها بعضا، وفيها علم من أعلام النبوة، والمراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض، لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة.. وليس فيه نفى عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، ومعنى نفس منفوسة أي مولودة. وفيه احتراز من الملائكة، وقد احتج بهذه الأحاديث من شذ من المحدثين، فقال: الخضر عليه السلام ميت! والجمهور على حياته، ويتألون هذه الأحاديث على أنه أي الخضر كان على البحر لا على الأرض، أو أنها عام مخصوص. (شرح النووي) . وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 4/ 516، كتاب الملاحم، باب (18) قيام الساعة، حديث رقم (4348) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 324، كتاب فضائل الصحابة، باب (53)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تأتى مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة،
حديث رقم (2538) .(12/289)
ذلك: ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة، وهي حية يومئذ [وعن عبد الرحمن صاحب السقاية عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمثل ذلك،
وفسرها عبد الرحمن قال: نقص العمر] .
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا سليمان [ (1) ] بن حيان عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: لما رجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة فقال: لا تأتى مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم.
ومن حديث أبي عوانة، عن حصين، عن سالم، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة:
فقال سالم: تذاكرنا ذلك عنده إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ [ (2) ] .
وخرج مسلم [ (3) ] من حديث الجريريّ، قال: كنت أطوف مع الطفيل فقال لي: لم يبق أحد ممن لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غيري.... الحديث.
قال البيهقي [ (4) ] وأبو الطفيل ولد عام أحد، ومات بعد المائة من الهجرة وقيل من وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فيكون موته على رأس المائة من إخباره النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بما أخبر.
وقال الإمام أحمد [ (5) ] : حدثنا ثابت بن الوليد بن عبد اللَّه بن جميع قال:
حدثني أبي قال: حدثنا أبو الطفيل، أدركت ثماني سنين من حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وولدت عام أحد.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (2539) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (202) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : كتاب الفضائل، باب (28) كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أبيض، مليح الوجه، حديث رقم (98) ، عن الجريريّ، عن أبي الطفيل قال: قلت له: أرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: نعم كان أبيض مليح الوجه. قال مسلم بن الحجاج: مات أبو الطفيل سنة مائة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 501، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بانخرام قرنه الّذي كان فيه على رأس مائة سنة فكان كما أخبر.(12/290)
وقال أبو عيسى الترمذي [ (1) ] : سمعت الحسن بن على الحلواني يقول:
آخر من مات من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبو الطفيل، مات بعد المائة. قال البيهقي: يريد بعد المائة من الهجرة.
قال كاتبه: ويؤيده أنه صلّى اللَّه عليه وسلم أراد بذلك انخرام قرنه الّذي هو فيه، ما
خرجه البخاري [ (2) ] في كتاب الرقاق من حديث عبدة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يسألونه متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم.
قال هشام: يعني موتهم.
وخرجه مسلم [ (3) ] في آخر كتاب الفتن من حديث أبي أسامه، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سألوه عن الساعة، متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم.
__________
[ () ] (5) (مسند أحمد) : 5/ 635، حديث رقم (23287) من حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) 6/ 502.
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 439- 440، كتاب الرقاق، باب (42) سكرات الموت، حديث رقم (6511) ، سكرات الموت بفتح المهملة والكاف: جمع سكرة، قال الراغب وغيره:
السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر، ومطلق في الغضب، والعشق، والألم، والنعاس، والغشي الناشئ عن الألم، وهو المراد هنا. قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء: الساعة الكبرى: وهي بعث الناس للمحاسبة، والوسطى: وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما
روى أنه صلّى اللَّه عليه وسلم رأى عبد اللَّه بن أنيس فقال: إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة،
فقيل: إنه آخر من مات من الصحابة. والصغرى: موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته. (فتح الباري) مختصرا.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 301- 302، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (27) قرب الساعة، حديث رقم (136) .(12/291)
وخرجه من حديث يونس بن محمد [ (1) ] عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا سأل رسول صلّى اللَّه عليه وسلم متى تقوم الساعة؟ وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن يعش هذا الغلام لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة.
ومن طريق سليمان بن حرب [ (2) ] قال: حدثنا حماد يعنى ابن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي عن أنس بن مالك، أن رجلا سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: متى تقوم الساعة؟ قال: فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هنية ثم نظر إلى غلام بين يديه من زد شنوءة، فقال: إن عمّر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة.
قال أنس:
ذلك الغلام من أترابى يومئذ.
ومن حديث عفان بن مسلم [ (3) ] قال: حدثنا همام عن قتادة، عن أنس قال: مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أقرانى فقال النبي: إن يؤخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة.
وخرجه البخاري [ (4) ] في كتاب الأدب من حديث عمرو بن عاصم، قال:
حدثنا همام عن قتادة، عن أنس، أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا رسول متى الساعة قائمة؟ قال: ويلك وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أنى أحب اللَّه ورسوله، قال: إنك مع من أحببت، فقلنا: ونحن كذلك؟
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (137) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (138) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (139) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 10/ 677، كتاب الأدب، باب (95) ما جاء في قول الرجل: «ويلك» ، حديث رقم (6167) . ثم قال في آخره: واختصره شعبة عن قتادة: «سمعت أنسا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ... » ، قال الحافظ: وصله مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة، ولم يسق لفظه، بل أحال به على رواية سالم بن أبي الجعد عن أنس، وساقها أحمد في (مسندة) ... فكأن مراد البخاري بالاختصار ما زاده همام في آخر الحديث من قوله: «فقلنا: ونحن كذلك؟ قال:
نعم، ففرحنا يومئذ فرحا شديدا، فمرّ غلام إلخ» . (فتح الباري) مختصرا.(12/292)
قال: نعم ففرحنا يومئذ فرحا شديدا، فمر غلام للمغيرة- وكان من أقراني- فقال: إن أخّر هذا فلم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة.
قال المؤلف: ولم يبق بعد سنة مائة من الهجرة أحد رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في إخباره بعمر سماه لغلام وهلاك آخر أنذره سرعة هلاكه
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث حيوة بن شريح [بن يزيد الحضرميّ] [ (2) ] عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه، عن عبد اللَّه بن بسر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال له: يعيش هذا الغلام قرنا، فعاش مائة سنة.
ومن طريق البخاري وأبى حاتم الرازيّ حدثني داود بن رشيد حدثنا أبو حيوة عن إبراهيم بن محمد عن أبيه، عن عبد اللَّه بن بسر فذكره.
ومن طريق الواقدي حدثني شريح بن يزيد عن إبراهيم بن محمد بن زياد، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن بسر قال: وضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده على رأسي فقال: هذا الغلام يعيش [قرنا فعاش] [ (2) ] مائة سنة.
قال الواقدي: يقول اللَّه عز وجل: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [ (3) ] فكان بين نوح وآدم عشرة قرون، وبين إبراهيم ونوح عشرة قرون، فولد إبراهيم عليه السلام على رأس ألفي سنة من خلق آدم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 503، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بعمر من سماه فعاش إليه، وبهلاك من ذكره فهلك سريعا كما قال. قال البيهقي: زاد فيه غيره وكان في وجهه ثألول.
قال: لا يموت هذا حتى يذهب الثالول من وجهه، فلم يمت حتى ذهب الثالول من وجهه. ثم قال: أنبأنيه أبو عبد اللَّه الحافظ إجازة أخبرنا الحسين بن أيوب، حدثنا أبو حاتم الرازيّ، حدثنا داود بن رشيد، فذكره بإسناده وزيادته.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] الفرقان: 38.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 504.(12/293)
ولابن مندة من طريق أحمد بن سليمان بن داود بن حذلم، حدثنا موسى بن أبي عوف، حدثنا سلمة بن جواس، حدثنا محمد بن القاسم الطائي، أن عبد اللَّه بن بسر كان معهم في قريته، فقال: هاجر أبي وأمي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مسح رأسي بيده، وقال: ليعيش هذا الغلام قرنا، فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه! وكم القرن؟ قال: مائة سنة،
قال عبد اللَّه: فلقد عشت خمسا وتسعين سنة وبقيت خمس سنين إلى أن أتم قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال محمد: فحسبنا بعد ذلك خمس سنين ثم مات.
وخرج البيهقي [ (1) ] من طريق إبراهيم بن محمد الشافعيّ قال: قرأت على داود بن عبد الرحمن عن ابن أبي مليكة، عن حبيب بن سلمة الفهري أنه أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو بالمدينة ليراه، فأدركه أبوه، فقال: يا رسول اللَّه، يدي ورجلي، فقال له: ارجع معه فإنه يوشك أن يهلك فهلك في تلك السنة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 504.(12/294)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بتملك بنى العباس [ابن عبد المطلب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه]
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث حماد عن عطاء بن السائب قال: سمعت عبد الرحمن بن العلاء الحضرميّ، قال: حدثني من سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، يقاتلون أهل الفتن.
ومن حديث الوليد بن مسلم [ (2) ] ، قال: حدثني أبو عبد اللَّه، عن الوليد بن هشام المعيطي، عن أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قال: قدم عبد اللَّه بن عباس على معاوية، وأنا حاضر، فأجازه فأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس، هل يكون لكم دولة؟ قال اعفنى يا أمير المؤمنين، قال:
لتخبرني، قال: نعم، قال: فمن أنصاركم؟ قال أهل خراسان، ولبني أمية من بنى هاشم بطحات.
ومن طريق يعقوب بن سفيان [ (3) ] قال: حدثني إبراهيم بن أيوب حدثنا الوليد حدثنا عبد الملك بن حميد بن أبي غنية، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سمعت عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ونحن نقول: اثنى عشر أميرا، ثم لا أمير، واثنى عشر أميرا، ثم هي الساعة، فقال ابن عباس: ما أحمقكم إن منا أهل البيت بعد ذلك المنصور والسفاح والمهدي، يدفعها إلى عيسى ابن مريم.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 513، باب ما جاء في الإخبار عن ملك بنى العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 513- 514.(12/295)
ومن حديث أبي خيثمة [ (1) ] ، قال: حدثنا ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال كنت عند ابن العباس، فتذاكروا المهدي، فقال: يكون منا ثلاثة أهل البيت: سفاح، ومنصور، ومهديّ.
ومن حديث أبي عوانة [ (2) ] ، عن الأعمش، عن الضحاك، عن ابن عباس يرويه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: منا السفاح، والمنصور، والمهدي.
ومن حديث أحمد بن عبد الجبار [ (3) ] ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان، وظهور من الفتن، يقال له: السفاح يكون عطاؤه حثيا
[ (4) ] .
ومن طريق عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ولد خليفة، ولا يصير إلى واحد منهم، ثم تقبل الرايات السود من خراسان، فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم، ثم يجيء خليفة اللَّه المهدي. وفي رواية: فإذا رأيتموهم فبايعوهم ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة اللَّه المهدي.
قال البيهقي: تفرد به عبد الرزاق عن الثوري، وروى من وجه آخر عن أبي قلابة وليس بالقوي، فذكره من حديث كثير بن يحيى، حدثنا شريك، عن عليّ بن زيد عن أبي قلابة عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا أقبلوا برايات سود من عقب خراسان فأتوها ولو حبوا فإن فيها خليفة اللَّه المهدي.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 514.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 514 قال ابن كثير: موقوف ورواه البيهقي مرفوعا، وهو ضعيف.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 514.
[ (4) ] قال ابن كثير: هذا الإسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.(12/296)
ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان موقوفا، قال: إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها فإن فيها خليفة اللَّه المهدي [ (1) ] .
وخرجه الحاكم [ (2) ] بهذا السند موقوفا، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج البيهقي [ (3) ] من حديث عبد اللَّه بن يوسف، حدثنا رشد بن رشدين ابن سعد، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: تخرج رايات سود من خراسان لا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء.
قال البيهقي [ (4) ] : تفرد رشدين بن سعد [ (5) ] ، عن يونس بن يزيد، ويروى قريب من هذا اللفظ عن كعب الأحبار، ولعله أشبه، فذكره من طريق يعقوب بن سفيان، حدثنا محدث عن أبي المغيرة، عبد القدوس، عن ابن عياش عمن حدثه عن كعب، قال: تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا الشام ويقتل اللَّه على أيديهم كل جبار وعدوّ لهم.
وروى في ذلك عن ابن عباس من قوله بإسناد ضعيف، فذكره من طريق أحمد بن المظفر البكري [ (6) ] ، حدثنا ابن أبي خثيمة حدثنا يحيى بن معين،
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 547، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8531) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وهذا الحديث ساقط من (التلخيص) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 516.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 517.
[ (5) ] رشدين بن سعد المهريّ المصري، قال الإمام أحمد: لا يبالي عمن روى، وقال ابن معين:
ليس بشيء، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال الجوزجاني: عنده مناكر كثيرة، وقال النسائي:
متروك، وقال ابن حبان: يقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه. له ترجمة في:
(الضعفاء الكبير للعقيليّ) ، (المجروحين لابن حبان) ، (الميزان للذهبي) .
[ (6) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 517.(12/297)
حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن أبي معبد، قال: قال ابن عباس: كما فتح اللَّه بأولنا أرجو أن يختمه بنا [ (1) ] .
ومن حديث ابن أبي أويس، عن محمد بن إسماعيل بن دينار أبي فديك عن محمد بن عبد الرحمن العامري عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فيكم النبوة والمملكة [ (2) ] .
قال البيهقي: تفرد به محمد بن عبد الرحمن العامري، عن سهيل وليس بالقوى.
ومن حديث عبد اللَّه بن أحمد، قال: حدثني يحيى بن معين حدثنا عبيد ابن أبي قرة، حدثنا الليث بن سعد، عن أبي قبيل، عن أبي ميسرة، مولى العباس، قال: سمعت العباس يقول: كنت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ذات ليلة فقال: انظر هل ترى في السماء من شيء؟ قلت: نعم، قال: ما ترى؟ قلت: الثريا، فقال:
إنه يملك هذه الأمة بعددها من صلبك [ (3) ] .
قال ابن عدي: سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: عن عبيد بن قرة سمع الليث بن سعد، بغدادي، لا يتابع في حديثه في قصة العباس.
ومن طريق الحافظ أبي أحمد بن عدي، قال: حدثنا محمد بن عبدة بن حرب، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا حجاج بن تميم، عن ميمون بن مروان، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: مررت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وإذا معه جبريل عليه السلام، وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم إنه لوسخ الثياب، وسيلبس ولده من بعده السواد، فقلت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: مررت وكان معك
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) : هذا إسناد جيد، وهو موقوف على ابن عباس من كلامه.
[ (2) ] (المرجع السابق) ، وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) : محمد بن عبد الرحمن [العامري] :
ضعيف.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 518، قال البخاري: عبيد اللَّه بن أبي قرة لا يتابع على حديثه في قصة العباس.(12/298)
دحية، قال: فذكره، وذكر قصة ذهاب بصره وردها عليه عند موته [ (1) ] . تفرد به حجاج بن تميم وليس بالقوى [ (2) ] .
وخرج الحافظ أبو نعيم [ (3) ] من حديث ابن وهب قال: حدثنا ابن لهيعة، قال حدثني واهب بن عبد اللَّه المعافري، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهنيّ، يقول: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخذ بيد عمه العباس، ثم قال: يا عباس إنه لا تكون نبوة إلا كانت بعدها خلافه، وسيلي من ولدك في آخر الزمان سبعة عشر:
منهم السفاح، ومنهم المنصور، ومنهم المهدي، وليس بمهدي، ومنهم الجموح، ومنهم العاقب، ومنهم الراهن من ولدك، وويل لأمتي منه، كيف يعقدها ويهلكها، ويذهب بأمرها.
ومن حديث محمد بن جابر عن الأعمش، عن أبي الوداك عن أبي سعيد، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: منا القائم، ومنا المنصور، ومنا السفاح، ومنا المهدي، فأما القائم فتأتيه الخلافة ولم يهرق فيها محجمة دم.
وأما المنصور فلا ترد له راية، وأما السفاح فهو يسفح المال والدم، والمهدي يملأها عدلا كما ملئت ظلما.
قال ابن جابر حسبت المنصور أبا جعفر، والسفاح المهدي.
قال أبو نعيم رواه الأعمش عن الضحاك عن ابن عباس نحوه، فذكره من حديث أبي عوانة عن الأعمش عن الضحاك، عن ابن عباس نحوه.
ومن طريق حفص بن عبد اللَّه بن الشخير قال: دخلنا على إسحاق بن عيسى بن على بن عبد اللَّه بن عباس داره، فحدثنا عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أقبل العباس يوما فنظر إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم أقبل على أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه متبسما، فقال: هذا العباس، قد أقبل وعليه ثياب بياض، وسيلبس ولده من بعده السواد، ويملك منهم اثنا عشر رجلا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (حجاج بن تميم: ذكره الذهبي في (الميزان) ، وقال: أحاديثه تدل على أنه واه.
[ (3) ] راجع رأى المقريزي في هذه الأحاديث في آخر هذا الباب.(12/299)
ومن حديث أحمد بن عمر بن يونس اليمامي، قال: حدثنا محمد بن شروين الصفاتى، حدثنا عبد الرحمن بن مينا، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لن تذهب الدنيا حتى يملك من ولدك يا عم في آخر الزمان عند انقطاع دولتهم، وهو الثامن عشر يكون معه فتنه عمياء صماء يقتل من كل عشرة آلاف تسعه آلاف وتسعمائة، لا ينجو منها إلا اليسير، ويكون قتالهم بموضع من العراق.
ومن حديث أحمد بن [راشد] بن خيثم، حدثنا عمى سعيد بن خيثم، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: حدثتني أم الفضل، قالت: مررت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال إنك حامل بغلام، فإذا ولدت فأتينى به، قالت:
يا رسول اللَّه، أنى ذلك؟ وقد تحالفت قريش أن لا يأتوا، النساء، قال: هو ما أخبرتك، قالت: فلما ولدته أتيت به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، والبأه [ (1) ] من ريقه، وسماه عبد اللَّه، وقال: اذهبي بأبي الخلفاء، فأخبرت العباس وكان رجلا لباسا فلبس ثيابه، ثم أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلما بصر به قام، فقيل بين عينيه ثم قال: هذا عمي، فمن شاء فليباهي بعمه، قال: قلت:
يا رسول اللَّه، أو بعض القول؟ قال: ولم لا؟ وأنت عمي وصنو أبي، قال ما شيء أخبرتني به أم الفضل؟ قال: هو ما أخبرتك، وهذا أبو الخلفاء، يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم [ (2) ] .
قال المصنف رحمه اللَّه: هذا الحديث ينادي على نفسه، أنه موضوع، وذلك لأنه لا خلاف بين علماء الأخبار، ونقلة الحديث، وأهل الآثار، أن عبد اللَّه بن عباس ولد بمكة، وأن الأذان إنما ابتدئ به بالمدينة، فكانت ولادة عبد اللَّه في الشعب قبل خروج بنى هاشم منه، وذلك قبل الهجرة
__________
[ (1) ] ألبأه: أي صب ريقه في فمه كما يصب اللبأ في فم الصبي. واللبأ: أول ما يحلب في الولادة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 550- 551، حديث رقم (487) . قال الذهبي في (الميزان) هذا خبر باطل اختلقه بجهله أحمد بن راشد بن خيثم، وفي (الأصل) : «أحمد بن رشيد» ، وصوبناه من (الميزان) .(12/300)
بثلاث سنين وقيل: غير ذلك، والأذان إنما أريه عبد اللَّه بن زيد بالمدينة بلا خلاف، وكان في السنة الأولى من الهجرة، فكيف يمكن أن تكون ولادة عبد اللَّه بمكة قبل الهجرة؟ ويؤذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في أذنه لما ولد، والأذان إنما كان بعد ولادته بأربع سنين أو نحوها، واللَّه الموفق، وهكذا عامة أحاديثه لا تكاد تثبت صحتها عند الانتقاد.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بما نزل بأهل بيته من البلاء
فخرج الحاكم [ (1) ] من حديث نعيم بن حماد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن أبي رافع إسماعيل بن رافع، عن أبي نضرة، قال: قال: أبو سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتى قتلا وتشديدا، إن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن خالد بن عبد اللَّه، قال: حدثني أبي عن يزيد بن زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: بينما نحن نجلس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، إذ أقبل فتية من قريش فتغير لونه، فقلنا: ما لنا نرى في وجهك أمرا تكرهه؟ قال: إنا أهل بيت اختار اللَّه لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتطريدا وتشديدا، حتى يأتى قوم من هاهنا- وأومأ بيده نحو المشرق- وأصحاب رايات سود، فيسألون الحق فلا يعطونه مرتين أو ثلاثا، فيقاتلون، فيضربون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها عدلا، كما ملئت ظلما، فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبوا على الثلج.
قال أبو نعيم: رواه على بن صالح ومحمد بن فضيل عن يزيد نحوه.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 534، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8500) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : لا واللَّه! كيف؟ وإسماعيل متروك، ثم لم يصح السند إليه.(12/301)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بقيام اثنى عشر خليفة وبظهور الجور والمنكرات فكان كما أخبرنا صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث جرير، عن حصين، عن جابر بن سمرة قال:
سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول، ومن حديث خالد بن عبد اللَّه الطحان، عن حصين، عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفىّ عليّ، قال: فقلت لأبي ما كان؟ قال: قال: كلهم من قريش.
ومن حديث سفيان عن عبد الملك بن عمير [ (2) ] ، عن جابر بن سمرة، قال:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثم تكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: كلهم من قريش.
ومن حديث أبي عوانة عن سماك [ (3) ] ، عن جابر بن سمرة بهذا الحديث، ولم يذكر: لا يزال أمر الناس ماضيا.
ومن حديث حماد بن سلمة عن سماك بن حرب [ (4) ] قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش.
وخرجه أيضا من حديث أبي معاوية عن داود [ (5) ] ، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يزال الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة، قال: ثم تكلم بشيء لم أفهمه فقلت لأبى: فقال: كلهم من قريش.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 442، كتاب الإمارة، باب (1) الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، حديث رقم (5) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم.
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حيث رقم (8) .(12/302)
ومن حديث ابن عون عن الشعبي [ (1) ] ، عن جابر بن سمرة قال: انطلقت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومعى أبي فسمعته يقول لا يزال هذا [الدين] [ (2) ] عزيزا منيعا إلى اثنى عشر خليفة فقال كلمة صمنيها [ (3) ] الناس فقلت لأبى: ما قال؟ قال:
كلهم من قريش.
قال البيهقي [ (4) ] : وليس في إثباته هذا العدد نفى الزيادة عليه، وقد قيل:
أراد اثنى عشر أميرا كلهم يجتمع عليه الأمة، ثم يكون الهرج، واستدل لذلك بما خرجه من
حديث مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم يجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاما من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لم أفهمه، فقلت لأبى: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش.
وبما
رواه زهير بن معاوية [ (5) ] قال: حدثنا زياد بن خيثمة حدثنا الأسود بن سعيد الهمدانيّ، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تزال هذه الأمة مستقيم أمرها، ظاهرة على عدوها، أو على غيرها، حتى يمضى منهم اثنا عشر خليفة، قال: فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟
قال: ثم يكون الهرج.
قال البيهقي [ (6) ] : ففي الرواية الأولى بيان العدد، وفي هذه الرواية الثانية بيان المراد بالعدد، وفي الرواية الثالثة بيان وقوع الهرج وهو القتل بعدهم،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (9) .
[ (2) ] في (الأصل) : «الأمر» ، وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] صمنيها: هو بفتح الصاد وتشديد الميم المفتوحة، أي أصمونى عنها. فلم أسمعها لكثرة الكلام، ووقع في بعض النسخ «صمنيها الناس» أي سكتونى عن السؤال عنها.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 519- 520، وأخرجه أبو داود في أول كتاب المهدي،، والإمام أحمد في (مسندة) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : 520.
[ (6) ] (المرجع السابق) .(12/303)
وقد وجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقع الهرج والفتنة العظيمة، كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهر ملك العباسيين كما أشار إليه في الباب قبله [وإنما] [ (1) ] يزيدون على العدد المذكور في الخبر إذا تركت الصفة المذكورة فيه. أو وعدّ معهم من كان بعد الهرج المذكور فيه.
وقد قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان [ (2) ] .
فذكره من حديث عثمان بن سعيد الدارميّ، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا عاصم بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وذكر حديث البخاري [ (3) ] من طريق الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن معاوية، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه [ (4) ] اللَّه على وجهه ما أقاموا الدين،
قال: والمراد بإقامة الدين- واللَّه تبارك وتعالى أعلم- إقامة معالمه، وإن كان بعضهم يتعاطى بعد ذلك ما لا يحل.
واستدل بحديث
الأوزاعي عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سيكون بعدي خلفاء يعملون ما يعلمون، ويفعلون ما يؤمرون وسيكون بعدهم خلفاء يعلمون بما لا يعلمون، ويفعلون ما لا يؤمرون،، فمن أنكر عليهم بريء، ومن أمسك يده سلم، ولكن من رضى وبايع [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «فإنما به، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 143، كتاب الأحكام، باب (2) الأمراء من قريش، حديث رقم (7140) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7139) .
[ (4) ] في (الأصل) : «أكبه» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 521، وفيه: «من رضى وتابع» .(12/304)
وبحديث
الإمام أحمد [ (1) ] قال: حدثني عبد الرزاق قال: [أخبرنا معمر عن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم] ، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد اللَّه قال: حدثنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يا كعب بن عجرة، أعيذك باللَّه من إرادة السفهاء، قال: وما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: أمراء سيكونون من بعدي، من دخل عليهم فصدقهم بحديثهم وأعانهم على ظلمهم فليسوا منى ولست منهم، وما يردوا على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بحديثهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منى وأنا منهم، وأولئك يردون على الحوض.
يا كعب بن عجرة، الصلاة قربان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة، لا يدخل الجنة من نبت لحمه من سحت، النار أولى به، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان: فغاد بائع نفسه وموبق رقبته، وغاد مبتاع نفسه ومعتق رقبته.
وخرجه الحاكم [ (2) ] وقال: حديث صحيح الإسناد.
وبحديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إنه ستكون بعدي أثره وأمور تكرهوها، فقالوا: فما يصنع من أدرك منا
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 396- 397، حديث رقم (14860) من مسند جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وما بين الحاصرتين تصويب للمسند من (المسند) ، وباقي الحديث سياقه مضرب في (الأصل) ، وصوبناه من (المسند) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 456، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب كعب بن عجرة الأنصاري رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (6030) ، ورواية الإمام أحمد في (المسند) أتم.
وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
وخرج الحاكم أيضا في كتاب الإيمان، حديث رقم (262) بنحوه مختصرا، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وشاهده الحديث المشهور عن الشعبي، عن كعب ابن عجرة مع الخلاف عليه فيه، وهذا الحديث رقم (263) وقال في آخره: رواه مسعر بن كدام، وسفيان الثوري، عن أبي حصين، عن عاصم العدوي، عن كعب بن عجرة. والحديث رقم (264) بنحوه أو قريب منه، وقال في آخره: وقد شهد جابر بن عبد اللَّه قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هذا لكعب بن عجرة.(12/305)
يا رسول اللَّه؟ قال: أدوا الحق الّذي عليكم، وسلوا اللَّه الّذي لكم. وخرجاه في الصحيح [ (1) ] .
قال البيهقي [ (2) ] : وقد قيل إنه أراد اثنا عشر خليفة كلهم يعمل ثم يكونون متفرقين في الأمراء، فمن عدل منهم وعمل بالهدى ودين الحق فهو من جملة الاثني عشر، وقد قال أبو الجلد وكان ينظر في الكتب-: إن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، فمنهم رجلان من أهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحدهما يعيش أربعين والآخر ثلاثين سنة.
قال البيهقي [ (3) ] : معقول لكن من خوطب بما روينا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في اثنى عشر خليفة، وفي بعض الروايات اثنى عشر أميرا، أنه أراد خلفاء أو أمراء تكون لهم ولاية، وعدة، وقوة، وسلطة، والناس يطيعونهم وتجرى أحكامهم عليهم، فأما أناس لم تقم لهم راية، ولم تجز لهم على الناس ولاية، وإن كانوا
__________
[ (1) ] رواه الترمذي برقم (614) في الصلاة، باب ما ذكر في فضل الصلاة، والنسائي 7/ 160 في البيعة، باب الوعيد لمن أعان أميرا على الظلم، وباب من لم يعن أميرا على الظلم، من حديث عبيد اللَّه بن موسى، عن غالب بن نجيح القطان، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن كعب بن عجرة.
وغالب بن نجيح القطان، لم يوثقه غير ابن حبان وباقي رجاله ثقات. وقال الترمذي:
هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد اللَّه بن موسى، قال:
وسألت محمدا- يعنى البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث عبيد اللَّه بن موسى واستغربه جدا، وقال محمد- يعنى البخاري-: حدثنا ابن نمير عن عبيد اللَّه بن موسى، عن غالب بهذا.
وأورد المنذري في (الترغيب والترهيب) : 3/ 15 قطعة منه، ونسبه لابن حبان في (صحيحه) ، وقد ورد هذا الحديث بإسناد آخر مختصرا، رواه الترمذي في الفتن من طريق مسعر عن أبي حصين. عن الشعبيّ، عن عاصم العدوي، عن كعب بن عجرة، وقال:
صحيح غريب. فالحديث أقل أحواله أن يكون حسنا. (جامع الأصول) : 4/ 76 هامش.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 523.
[ (3) ] (المرجع السابق) : باختلاف يسير في بعض الألفاظ، والمعنى واحد.(12/306)
يستحقون الإمارة بما كان لهم من حق القرابة، والكفاية، فلا يتناولهم الخبر، ولا يجوز أن يكون المخبر بخلاف الخبر. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: يشير الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه اللَّه بهذا إلى ما زعمته الفرقة الإمامية من فرق الرافضة [ (1) ] ، الأئمة اثنا عشر، وهو مذهب محدث، ابتداء حدوثة بعد موسى بن جعفر الصادق.
خرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث يحيى بن أبي بكير، حدثنا مطرف عن أبي الجهم مولى البراء، عن خالد بن وهبان، - أو وهبان- عن أبي ذر قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: كيف أنت وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟ فقلت إذا والّذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى ألقاك أو ألحق بك، قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني.
__________
[ (1) ] هؤلاء الإمامية المخالفة الزيدية والكيسانية والغلاة: خمس عشرة فرقة: الكاملية، والمحمدية، والباقرية، والناووسية، والشميطية، والعمارية، والإسماعيلية، والمباركية، والموسوية، والقطعية، والاثنا عشرية، والهاشمية، والزرارية، واليونسية، والشيطانية. (الفرق بين الفرق) : 53، (مقالات الإسلاميين) : 1/ 98، (الملل والنحل) : 1/ 162.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 228- 229، حديث رقم (21048) ، من حديث أبي ذر الغفاريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/307)
وأما إشارته صلّى اللَّه عليه وسلم بأن قريشا إذا أحدثت في دين اللَّه الأحداث سلط اللَّه عليها شرار خلقه فنزعوهم من الملك ونزعوا الملك منهم حتى لم يبقوا لهم شيئا فكان كما أخبر، وصارت العرب بعد الملك همجا ورعاعا لا يعبأ اللَّه بهم
فخرج البخاري من حديث شعيب عن الزهريّ قال: سمعت محمد بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهم عنده في وفد من قريش- أن عبد اللَّه بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام، فأثنى على اللَّه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون بأحاديث ليست في كتاب اللَّه، ولا تؤثر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها
فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه اللَّه في النار على وجهه ما أقاموا الدين. تابعه أبو نعيم، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير، ذكره في أول كتاب الأحكام [ (1) ] ، وفي مناقب قريش [ (2) ] بهذا الإسناد وقال فيه: إن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة [ (3) ] من حديث أبي أسامة، عن عوف، عن زياد بن مخراف، عن أبي موسى، قال: قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على باب فيه نفر من قريش، وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: هل في البيت إلا قريش؟ قالوا:
يا رسول اللَّه، غير فلان ابن أختنا، فقال: ابن أخت القوم منهم، ثم قال إن هذا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 142- 143، كتاب الأحكام، باب (2) باب الأمراء من قريش، حديث رقم (7139) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 661، كتاب المناقب، باب (2) مناقب قريش حديث رقم (3500) .
[ (3) ] (المصنف) : 5/ 319، باب (181) من قال: ابن أخت القوم منهم، حديث رقم (26473) ، (26474) ، (26475) بألفاظ متقاربة والمعنى قريب من (الأصل) .(12/308)
الأمر في قريش، ما داموا، إذا ما استرحموا رحموا، وإذا ما حكموا عدلوا، وإذا ما قسموا أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم صرف ولا عدل.
وخرج أيضا من حديث الفضل بن دكين، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن الحارث بن القاسم، عن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي مسعود قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لقريش: إن هذا الأمر لا يزال فيكم وأنتم ولاته، ما لم تحدثوا، فإذا فعلتم ذلك سلط اللَّه عليكم شرار خلفه يلتحونكم كما يلتحى القضيب [ (1) ] .
وخرجه الحاكم [ (2) ] من طريق الحسين بن حفص قال: حدثنا سفيان بن أبي ثابت، عن القاسم بن الحارث، عن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر فيكم، وأنتم ولاته ما لم تحدثوا أعمالا تنزعه، فإذا فعلتم ذلك سلط اللَّه عليكم شرار خلفه، فالتحوكم كما يلتحى القضيب.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
وخرج الإمام أحمد [ (3) ] من حديث هشام، عن قتادة، عن أبي الطفيل، قال: انطلقت أنا وعمرو بن صليع حتى أتينا حذيفة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إن هذا الحي من مضر لا تدع للَّه في الأرض عبدا صالحا إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها اللَّه بجنود من عباده فيذلها حتى لا تمنع ذنب تلعه.
وله عنده طرق.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 548، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8534) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 540، حديث رقم (22805) ، من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/309)
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث محمد بن المثنى قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن عبد اللَّه بن بريدة، عن سلمان بن ربيعة قال:
انطلقت في نفر من أصحابى حتى قدمنا مكة، فطلبنا عبد اللَّه بن عمرو فلم نوافقه، فإذا قريب من ثلاثمائة راحل، فرجعناه فلقيناه في المسجد، فإذا شيخ عليه بردان قطريان، وعمامة ليس عليه قميص، فقال: ممن أنتم؟ قلنا: من أهل العراق، قال: أنتم يا أهل العراق تكذبون وتكذبون وتسخرون، قلنا لا نكذب ولا نكذب ولا نسخر، قال: كم بينكم وبين الأيلة [ (2) ] ؟ قلنا: أربعة فراسخ، قال: يوشك بنو قنطوراء بن كركر أن يسوقكم من خراسان وسجستان سوقا عنيفا، ثم يخرجون حتى يربطوا ويربطون خيولهم بنهر دجلة، قوم صغار الأعين خنس الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم [ولم يخرجاه] .
وخرج أبو نعيم الحافظ والإمام أحمد والحاكم [ (3) ] وصححه من حديث موسى بن إسماعيل وابن عائشة قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس بن
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 547، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8532) وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وهذا الحديث ساقط من (التلخيص) .
[ (2) ] الأبلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام. (معجم البلدان) : 1/ 347، موضع رقم (1196) .
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 564، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8583) ، قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) بل محمد بن زيد بن سنان واه كأبيه.
ولفظ الحاكم: «يوشك اللَّه أن يملأ أيديكم من العجم، ويجعلكم أسدا لا يفرون فيضربون رقابكم ويأكلون فيئكم» .
وللإمام أحمد من حديث سمرة بن جندب، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «يوشك أن يملأ اللَّه عز وجل أيديكم من العجم، ثم يكونون أسدا لا يفرون، فيقتلون مقاتلتكم، ويأكلون فيئكم. حديث رقم (19615) ، وحديث (19734) ، (19735) ، (19736) كلهم من حديث سمرة بن جندب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/310)
عبيد، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يوشك اللَّه أن يملأ أيديكم من العجم يجعلهم أسد لا يفرون، فيضربون رقابكم، ويأكلون فيئكم.
وخرج أيضا من حديث ابن أبي داود عن مروان بن سالم عن الأعمش، عن زيد بن وهب وأبى وائل شقيق بن سلمة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اتركوا الحبشة ما تركوكم فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة [ (1) ] .
قال: أبو نعيم: رواه إبراهيم بن قتيبة، عن أبي داود فقال: زيد بن وهب عن حذيفة.
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعد بن إياس الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: يوشك أهل العراق أن لا يجيء إليهم درهم ولا قفيز، قالوا: مما ذاك يا أبا عبد اللَّه؟ قال من قبل العجم يمنعون ذاك [ (3) ] . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 500، باب الفتن والملاحم، حديث رقم (8396) ، ولفظه: «اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة» . وقال الحاكم:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح، واتفق البخاري ومسلم على حديث أبي هريرة: «يخرب الكعبة ذو السويقتين» .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 501، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8400) .
[ (3) ] هذا آخر الحديث في (الأصل) ، ثم زاد في (المستدرك) : «ثم سكت هنية، ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجيء إليهم دينار ولا مدّ، قالوا: مم ذاك؟ قال: من قبل الروم يمنعون ذلك....» . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة ...
وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .(12/311)
وخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث بشير بن بكر قال: حدثنا جابر قال:
حدثني أبو عبد [السلام] [ (2) ] عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء [ (3) ] كغثاء السيل، ولينزعن اللَّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن اللَّه في قلوبكم الوهن [ (4) ] ، فقال قائل:
يا رسول اللَّه وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت.
وخرجه الإمام أحمد [ (5) ] من حديث عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه، عن شبيل بن عوف، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بنحوه أو قريب منه.
وخرج البخاري [ (6) ] تعليقا من حديث سعيد بن عمر عن أبي هريرة قال: كيف أنتم إذ لم تجيبوا دينار أو درهما؟ فقيل وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟. قال: إي والّذي نفس أبي هريرة بيده، عن قول الصادق المصدوق صلّى اللَّه عليه وسلم قال: عمّ ذاك؟ قال: تنتهك ذمة اللَّه وذمة رسوله، فيشدّ اللَّه قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 4/ 483- 484، كتاب الملاحم، باب (5) في تداعي الأمم على الإسلام، حديث رقم (4297) .
[ (2) ] في (الأصل) : «أبو عبد اللَّه» وصوبناه من (سنن أبي داود) ، وأبو عبد السلام هذا هو صالح بن رستم الهاشمي، مولاهم الدمشقيّ، سئل عنه أبو حاتم الرازيّ فقال: مجهول لا نعرفه.
[ (3) ] الغثاء- بضم الغين-: ما يحمله السيل من وسخ، شبههم به لقلة غنائهم.
[ (4) ] الوهن: الضعف، فاستعمله هنا في دواعيه وأسبابه.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 4/ 375، حديث رقم (21891) ، من حديث ثوبان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 344، كتاب الجزية والموادعة، باب (17) إثم من عاهد ثم غدر، وقول اللَّه تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ [الأنفال: 56] حديث رقم (3180) .(12/312)
وخرج مسلم [ (1) ] معنى هذا الحديث بلفظ آخر، أوجب تفريقه وإلا فهو في المعنى متفق عليه، وهو الحادي والتسعون من أفراد مسلم، وأوله: منعت العراق درهمها وقفيزها. قاله أبو نصر الحميدي.
وخرج مسلم من حديث زهير عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبّها، ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه [ (2) ] .
وخرج مسلم [ (3) ] من حديث الجريريّ عن أبي نضرة، قال: كنا عند جابر بن عبد اللَّه فقال: يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا من أين ذاك؟ قال من قبل العجم، يمنعون ذلك، قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى اليهم دينار ولمدّ، قلنا من أين ذاك؟ قال من قبل الروم، ثم سكت هنية، ثم
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يكون في آخر أمتى خليفة يحثي المال حثيا، لا يعده عددا،
قال: قلت لأبي نضرة، وأبي العلاء: أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا.
قال المؤلف رحمه اللَّه: هذا الحديث موقوف على جابر، ومثله لا يقال بالرأي، فيحمل على أنه سمعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكذا رواية الحاكم لهذا الحديث، فإنّها موقوفة أيضا على جابر، وقد منعت العجم جباية خراج
__________
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 8/ 237، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (8) لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، حديث رقم (2896) ، ولفظه: «حدثنا زهير عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 254- 255، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (2913) .(12/313)
العراق، وتغلبوا عليه منذ عهد بني العباس، لما خرجت الديلم سنة بضع وعشرين وثلاثمائة.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث أبي بكر بن داود عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أقبل سعد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلما رآه قال: إن في وجه سعد خيرا، قال: قتل كسرى: قال: يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لعن اللَّه كسرى إن أول الناس هلاكا العرب، ثم أهل فارس.
وخرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث عبد اللَّه حدثني أبي حدثنا موسى بن داود قال حدثنا عبد اللَّه بن المؤمل: عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: «قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا عائشة أن أول من يهلك من الناس قومك، قالت: قلت: جعلني اللَّه فداءك، ابني تيم؟ قال لا، ولكن هذا الحي من قريش تستحليهم المنايا وتنفس عنهم أول الناس هلاكا، قلت: فما بقاء الناس بعدهم؟ قال: هم صلب الناس فإذا هلكوا هلك الناس» .
ومن حديث إسحاق بن سعيد [ (3) ] عن أبيه عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يقول: يا عائشة قومك أسرع أمتي بي لحاقا، قالت: فلما جلس، قلت: يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداءك لقد دخلت وأنت تقول كلام ذعرني، قال: وما هو؟ قالت: تزعم أن قومي أسرع أمتك بك لحاقا، قال:
نعم. قالت: ومم ذاك؟ قال: تستحليهم المنايا، وتنفس عليهم أمتهم، قالت:
فقلت: فكيف الناس بعد ذلك؟ - أو عند ذلك- قال: دبي يأكل شداده ضعافه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 314، حديث رقم (10277) ، من مسند أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 109، حديث رقم (23936) من حديث السيدة عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 7/ 119، حديث رقم (23998) من حديث السيدة عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها. وزاد في آخره: قال أبو عبد الرحمن: فسره رجل هو الجنادب التي لم تنبت أجنحتها.(12/314)
حتى تقوم عليهم الساعة،
قال أبو عبد الرحمن: فسره رجل هو الجنادب التي لم تنبت أجنحتها» .
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: ويؤيد ذلك كله ما خرجه البخاري [ (1) ] في باب أيام الجاهلية من آخر المناقب من حديث أبي عوانة عن بيان بن بشر أبي بشر عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا:
حجت مصمته قال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الّذي جاء اللَّه به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس.
وخرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن طارق عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أسرع قبائل العرب فناء قريش، أن تمر المرأة بالنعل فتقول: هذا نعل قرشي.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: قد صدق اللَّه ورسوله فقد كان من بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خلفاء قضوا بالهدى ودين الحق، ثم قامت خلفاء خلطوا وبدلوا سنن الهدى، فسلط اللَّه عليهم أولا شيعة بنى العباس، وهم العجم أهل خراسان، فاجتاحوا بنى أمية الذين بدلوا نعمه اللَّه كفرا، واتخذوا دين اللَّه دغلا، ومال اللَّه دولا، وعبيد اللَّه خولا، حتى أفنوهم إلا قليلا مشردين في أقطار الأرض، جزاء بما كسبوا، فلما ملك بنو العباس عتوا وتجبروا وطغوا فسلط اللَّه تعالى عليهم مماليكهم الأتراك، فقتلوا المتوكل جعفر بن محمد، ثم قتلوا المستعين
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 186- 187، كتاب مناقب الأنصار، (26) أيام الجاهلية، حديث رقم (3834) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 2/ 643، حديث رقم (8232) .(12/315)
أحمد بن محمد، وتحكموا في الدولة، وتلاعبوا بدين اللَّه، ثم بعث اللَّه على بني العباس الديلم بنو بويه، فتغلبوا على البلاد وساموا الناس بعتوهم سوء العذاب، وتحكموا في بني العباس، تحكم المالك في مماليكه، يقتلونهم ويسملون أعينهم، وأظهروا مع ذلك مذاهب رديئة، حتى أخرج اللَّه الأتراك فبطشت السلجوقية بطش الجبابرة، وتحكمت تحكم الفراعنة، إلى أن يأذن اللَّه بانقراض تحكم العرب، وأدال اللَّه العجم عليها، فقتل عدو اللَّه جنكيزخان وأشياعه الناس، حتى محوهم من المشرق، وأزالو كلمة الإسلام وشرائعه من تلك الجهات بأسرها، ثم قام حفيده عدو اللَّه هولاكو، فشمل قتله عامة أهل بغداد، والجزيرة، ودمر المعتصم باللَّه فلم يقم بعده قائم من قريش، وصار ممالك العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، بأيدي العجم، ففي المشرق من حدود الصين إلى الجزيرة أشياع جنكيزخان، وفي المغرب بأسره البرابر في الشمال، والروم ثم الفرنجة إلا قليلا مع بنى عثمان وبنى فرمان، وهم أروام في مصر والشام، والحجاز، المماليك الأتراك، ثم المماليك الحراكسة، وفي اليمن بنو على بن عمر بن رسول الأكراد إلا قليلا مع الشريف الرضى صاحب صنعاء، والهند كله بأيدي العجم وأكثر الشمال بيد الفرنج، ومعظم الجنوب بأيدي الحبشة وكلا الفريقين نصارى، يأسرون من المسلمين ويعذبونهم أشد العذاب، فتحت أيديهم في الأسر، من المسلمين والمسلمات، عشرات الألوف، ويمر بهم من أنواع البلاء ما لا يمكن وصفه، ومع ذلك فأن جميع قبائل العرب، قيسها وتميمها، رعاع غوغاء لا يملكون دنيا، ولا يقيمون دينا، دأب ملوك الأرض يقتلونهم ويأسرونهم، جزاء بما كسبت أيديهم، وما ربك بظلام للعبيد، ولا يعترض بخلفاء مصر فإنّهم منذ أولهم الحاكم أحمد وإلى يومنا هذا ليس لأحد منهم أمر ولا نهى ولا نفوذ كلمة، وإنما هو واحد من عرض الناس، والسلاطين مع هذا تسجنهم وتنفيهم عن المدينة إلى الأطراف إذا تنكروا لهم، قد رضي الخليفة منهم من دينهم ودنياهم أن يقال له أمير المؤمنين، وحكم الملوك(12/316)
الأقطار في رعاياهم، قد تساوى الناس في معرفتهم، فلا حاجة بنا إلى وصفه وتبيينه، وللَّه در أبي دعبل وهب بن ربيعة الجمحيّ [ (1) ] . حيث يقول:
تبيت النشاوى منت أمية ... وبالطف قتلى ما ينام حميمها
وما أهلك الإسلام إلا قلة ... تأمّر نوماها ودام نعيمها
وصارت قناة الدين في كف ظالم ... إذا مال منها ظالم لا يقيمها
واللَّه الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هو وهب بن ربيعة الجمحيّ، من جميح، وكان شاعرا محسنا، وأكثر أشعاره في عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأزرقي والي اليمن. (الشعر والشعراء) : 408.
[ (2) ] هذه العبارة في (الأصل) قبل الأبيات، وما أثبتناه أجود للسياق.(12/317)
وأما إخباره عليه الصلاة والسلام باتساع الدنيا على أمته حتى يلبسوا الذهب والحرير ويتنافسوا فيها ويقتل بعضهم بعضا
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث سليمان بن حيان قال: حدثنا داود بن أبي هند عن أبي حرب، عن أبي الأسود الدؤلي، عن طلحة البصري قال: قدمت المدينة مهاجرا وكان الرجل إذا قدم المدينة فإن كان له عريف نزل عليه وإن لم يكن عريف نزل الصفة فقدمتها وليس لي بها عريف فنزلت الصفة وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرافق بين الرجلين ويقسم بينها مدا من تمر، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم في صلاته إذا ناداه رجل فقال: يا رسول اللَّه أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الخنف قال: وإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حمد اللَّه وأثنى عليه وذكر ما لقي من قومه ثم قال: لقد رأيتني وصاحبي مكثنا بضع عشرة ليلة ما لنا طعام غير البرير- والبرير تمر الأراك- حتى أتينا إخواننا من الأنصار فآسونا من طعامهم وكان جلّ طعامهم التمر- والّذي لا إله إلا هو لو قدرت لكم على الخبز واللحم لأطعمتكموه سيأتي عليكم زمان- أو من أدركه منكم يلبسون مثل أستار الكعبة ويغدا ويراح عليكم بالجفان قالوا: يا رسول اللَّه أنحن يومئذ خير أو اليوم قال: بل أنتم اليوم خير، أنتم اليوم إخوان، وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض.
ومن حديث سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي موسى يحنس قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض» ورواه أبو الربيع قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 524، باب ما جاء في إخباره باتساع الدنيا على أمته حتى يلبسوا أمثال أستار الكعبة ويغدا ويراح عليهم بالجفان ويتنافسوا فيها حتى يضرب بعضهم رقاب بعض.(12/318)
موسى بن عبيدة، حدثنا عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نحوه
[ (1) ] .
وخرجه الحافظ [ (2) ] أبو نعيم من حديث أبي معاوية الضرير، عن يحيى بن سعيد، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا مشت أمتى المطيطاء، وخدمتها أبناء الملوك، أبناء فارس والروم، سلط شرارهم على خيارهم.
ومن حديث بقية [ (3) ] ، عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك قال: «قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أصحابه فقال:
الفقر تخافون؟ أو تهمكم الدنيا؟ فإن اللَّه فاتح لكم أرض فارس والروم ويصب عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغكم بعدي إن زعمتم إلا هي.»
__________
[ (1) ] وخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) 6/ 525 باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم باتساع الدنيا على أمته حتى يلبسوا أمثال أستار الكعبة ويغدا ويراح عليهم بالجفان ويتنافسوا فيها حتى يضرب بعضهم رقاب بعض.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 539، ما أخبر به صلّى اللَّه عليه وسلم من الغيوب فتحقق ذلك على ما أخبر به في حياته وبعد موته، حديث رقم (466) .
وأخرجه أيضا الترمذي في (السنن) : 4/ 456، باب (74) بدون ترجمة، حديث رقم (2261) ، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وقد رواه أبو معاوية عن يحيى بن سعيد الأنصاري. والمطيطاء رواها ابن الأثير المطيطا، وذكر أنها بالمد والقصر، وهي مشية فيها تبختر ومد اليدين.
وقد روى مالك بن أنس هذا الحديث عن يحيى بن سعيد مرسلا، ولم يذكر فيه عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر. ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لكنه قال في آخره: «سلط بعضهم على بعض» وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) :
1/ 237: إسناده حسن.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (467) ، وأخرجه الطبراني وفي إسناده بقية- انظر المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 181- وهو بقية بن الوليد الكلاعي، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب: صدوق كثير التدليس عن الضعفاء.(12/319)
ومن حديث الحرث [ (1) ] بن أبي أسامة حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائد، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن يزيد بن وهب، عن أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أكلتنا الضبع- يعنى السنة- فقال: أنا لغير الضبع أخوف عليكم، أن تصب الدنيا على أمتي صبا، فليت أمتى لا يلبسون الذهب.
ومن حديث هشام عن عبيدة، عن ربيع، عن حذيفة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أكلتنا الضبع فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن الدنيا ستفتح عليكم فيا ليت أمتي لا تلبس الذهب.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بوقوع بأس أمته بينهم وأن السيف لا يرتفع عنها بعد وضعه فيها فيهلك بعضها بعضا
فقد قال اللَّه تعالى: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [ (2) ] عذابا من فوقكم كالصواعق، وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة. وأدخل على قوم نوح الطوفان، ومن تحت أرجلكم كالزلازل، ونبع الماء المهلك، وكما خسف بقارون.
وقال السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير: من فوقكم أو من تحت أرجلكم، الرجم والخسف، وقال ابن عباس: مِنْ فَوْقِكُمْ، ولاة الجور، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، سفلة السوء وخدمته. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة من مشايعة لأخرى، ومعنى انسياب خلطهم: انتساب القتال بينهم، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (468) .
[ (2) ] الأنعام: 65.(12/320)
وقال ابن عباس ومجاهد: يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقا، وقيل: المعنى يقوى عدوكم حتى يخالطوكم وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ البأس: الشدة من قبله، والإذاقة: الإنالة والإصابة به.
وهذا إخبار يتضمن الوعيد، وقد اختلف فيه، فذهب الطبري إلى أنه خطاب للكفار، وقال أبيّ وأبو العالية وجماعة: الآية خطاب للمؤمنين [ويؤيد قول من ذهب إلى ذلك] ما
خرجه البخاري [ (1) ] في كتاب التوحيد، من حديث حماد بن زيد، عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه زوى [لي] الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ملكها.
قال أبو داود: وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها فأعطيت الكنزين:
الأحمر والأبيض وأنى سألت ربي لأمتى أن لا يهلكها بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 229، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (5) هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، حديث رقم (19) ، وله من حديث ثوبان أن الكنزين: الأحمر والأبيض، ثم ذكر نحو حديث أيوب عن أبي قلابة، وفي (الأصل) : البخاري والصواب ما أثبتناه، أما زوى، فمعناه جمع، وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة وقد وقعت كلها بحمد اللَّه كما أخبر به صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال العلماء: المراد بالكنزين: الذهب والفضة، والمراد كنزي كسرى وقيصر ملكي العراق والشام، فيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب وصلوات اللَّه وسلامه على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم الصادق الّذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. (شرح النووي) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 450- 452، كتاب الفتن والملاحم، باب (1) ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4252) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1304، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن، حديث رقم (3952) .(12/321)
إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمعت عليهم من بين أقطارها، أو قال: بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حنى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتى الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق. قال أبو عيسى: «ظاهرين» ثم اتفقا «لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر اللَّه» .
وخرجه الترمذي [ (1) ] إلى قوله: ويسبي بعضهم بعضا. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وبهذا الإسناد أيضا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا وضع السيف في أمتي لا يرفع عنها إلى يوم القيامة
وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وبهذا الإسناد أيضا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتى بالمشركين، وحتى يعبدوا الأوثان وإنه سيكون في أمتى ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي [ (3) ] . وسألت ربي أن لا تهلك أمتى بالغرق فأعطانيها، وسألت أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.
وخرج الترمذي [ (4) ] من حديث الزهري، عن عبد اللَّه بن الحرث، عن عبد اللَّه بن خباب بن الأرت، عن أبيه، قال: صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلاة
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 410، كتاب الفتن، باب (14) ما جاء في سؤال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثة في أمته، حديث رقم (2176) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2202) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2219) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 4/ 409 حديث رقم (2175) ، باب (14) ما جاء في سؤال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثا في أمته، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) 2/ 1030، باب (9) ما يكون من الفتن، حديث رقم (3591) بسياقة أتم، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) 6/ 613، حديث رقم (10277) ،(12/322)
فأطالها، قالوا: يا رسول اللَّه صليت صلاة لم تكن تصليها! قال: أجل إنها صلاة رغبة ورهبة، إني سألت اللَّه فيها ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
وخرج الدمشقيّ من حديث حماد بن سلمة، عن يونس وثابت وحميد وحبيب، عن الحسن، عن خطاب بن عبد اللَّه، عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: بين يدي الساعة الهرج، قالوا: يا رسول اللَّه! وما الهرج؟ قال: القتل، قالوا: أكثر مما يقتل؟
أن يقتل في العام الواحد أكثر من كذا ألفا، قال: إنه ليس يقتلكم المشركون ولكن يقتل بعضكم بعضا، قالوا: ومعنا يومئذ عقولنا؟ قال: إنه ينتزع عقول أكثر أهل ذلك [الزمان] ويخلصوا له من الناس، يحسب أكثرهم أنه على شيء وليسوا على شيء.
قال أبو موسى: والّذي نفسي بيده ولا أجد لي ولكم وإن أدركنا إلا أن نخرج منها كما دخلناها. لم يصب فيها دما ولا مالا.
ومن حديث بشر بن شعيب، عن أبيه، عن الزهري قال: أخبرنى عروة بن الزبير أن كرز بن علقمة الخزاعي قال: بينا أنا جالس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جاءه رجل من أعراب نجد، قال: يا رسول اللَّه. هل للإسلام من منتهى؟
قال: نعم، أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد اللَّه بهم خيرا أو دخل عليهم الإسلام، قال الأعرابي: ثم ماذا يا رسول اللَّه؟ قال: ثم تجمع الفتن كأنها الظلل، قال الأعرابي: كلا يا رسول اللَّه، قال: والّذي نفس محمد بيده لتعودن فيها أساود ضبا بضرب بعضهم رقاب بعض.
وخرجه الإمام أحمد من حديث الزهري.
__________
[ () ] وحديث رقم (12179) ، كلاهما من مسند أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، 6/ 328، حديث رقم (21620) ، كلاهما من حديث معاذ بن جبل رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وأخرجه النسائي في (السنن) 3/ 239- 240 باب (16) إحياء الليل، حديث رقم (1637) .(12/323)
وخرجه أبو نعيم [ (1) ] من طريق أبي داود والحميدي وسعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلهم من حديث سفيان بن عيينة، حدثنا الزهري بنحوه
وزاد في آخره: قال الزهري: والأسود الحية إذا أراد أن ينهس ينتصب هكذا ورفع الحميدي يده ثم انصبّ.
وخرج من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال:
أبو نعيم: رواه عقيل وابن يسار ومعاوية بن يحيى عن الزهري مثله، ورواه عبد الواحد بن قيس عن عروة بن الزبير وأكثر من طريق يحيى وعبد اللَّه، قال: حدثني عبد الواحد بن قيس، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: حدثني كرز الخزاعي قال: أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال يا رسول اللَّه هل للإسلام منتهى؟ قال: نعم، فمن أراد اللَّه به خيرا من العرب والعجم أدخله عليه، ثم تقع الفتن كالظلل قال:
كلا واللَّه يا رسول اللَّه [قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] : بلى والّذي نفسي بيده [ (2) ] لتعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأفضل الناس يومئذ معتزل في شعب من الشعاب يتقى ربه ويدع الناس من شره [ (3) ] .
ومن حديث الوليد بن مسلم حدثنا بن جابر قال: حدثني سليمان بن حبيب عن كرز الخزاعي أن أعرابيا قال: يا رسول اللَّه جاءنا اللَّه بهذا الإسلام فجعل له من منتهى؟ قال: نعم، فمن يرد اللَّه قال: خيرا يدخله عليه، ثم ماذا يا رسول اللَّه؟ قال: ثم تقع فتن كالظلل قال: كلا يا رسول اللَّه، قال: بلي، والّذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض، فخير الناس [ (4) ] يومئذ هو من يعتزل.
وخرج أيضا من حديث الدمشقيّ، قال: قال أبو اليمان بن شعيب عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن أم حبيبة أن
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 548، حديث رقم (481) ، وفيه: «إذا أراد أن ينهس ارتفع» وما أثبتناه من (الأصل) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (482) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «وأفضل الناس»(12/324)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أرأيت ما تلقى أمتى من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان ذلك سابقا من اللَّه فسألته أن يوليني بشفاعة فيهم ففعل.
وخرجه أبو محمد بن أحمد بن حماد والدولابي من حديث محمد بن عوف بن سفيان الطائي قال أبو اليمان: قال الزهري: قال أنس بن مالك: عن أم حبيبة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: أرأيت ما تلقى أمتى من بعدي؟ سفك بعضهم دماء بعض فأحزنني وشق ذلك عليّ، وسبق ذلك من اللَّه كما سبق الأمم قبلها فسألته أن يوليني الشفاعة فيهم يوم القيامة ففعل.
وخرجه ابن موسى عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن أم سلمة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: قد أريت ما تلقى أمتي من بعدي فأخرت لهم شفاعتي إلى يوم القيامة.
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرنى عمرو بن الحرث، عن سعيد بن هلال، عن أبان بن صالح، عن الشعبي، عن عون بن مالك الأشجعي قال: [بينا] نحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تبوك ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قبة من أدم إذ مررت فسمع صوتي فقال: «يا عوف بن مالك ادخل» فقلت: يا رسول اللَّه أكلي أم بعضي؟ فقال: «بل كلك» قال: فدخلت، فقال:
«يا عوف اعدد ستا بين يدي الساعة» فقلت: ما هن يا رسول اللَّه؟ قال: موت رسول اللَّه» فبكى عوف، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «قل: إحدى» قلت: إحدى، ثم قال: «وفتح بيت المقدس قل اثنتين» قلت اثنين، قال: «وموت يكون في أمتى كعقاص الغنم، قل: ثلاث، «قلت: ثلاث، قال: وتفتح لهم الدنيا حتى يعطى الرجل المائة فيسخطها، قل: أربع» وفتنه لا يبقى أحد من المسلمين إلا دخلت عليه بيته قل خمس «قلت: خمس» وهدنة تكون بينكم وبين بنى الأصفر يأتونكم على ثمانين غاية، كل غاية اثنا عشر ألفا ثم يغدرون بكم حتى حمل امرأة» ،
فلما كان عام عمواس زعموا أن عوف بن مالك قال لمعاذ بن جبل: إن
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 469، كتاب الفتن والملاحم، باب (49) ، حديث رقم (8303) ، وفي (الأصل) : «بهذا الإسناد» بدلا من: «بهذه السياقة» .(12/325)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لي: اعدد ستا بين يدي الساعة فقد كان منهن الثلاث وبقي الثلاث فقال معاذ: إن لهذا مدة ولكن خمس أظللنكم من أدرك منهن شيئا ثم استطاع أن يموت فليمت [قبل] أن يظهر التلاعن على المنابر، ويعطى مال اللَّه على الكذب والبهتان، وسفك الدماء بغير حق، وتقطع الأرحام، ويصح العبد لا يدرى أضال هو أم مهتد.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث وكيع حدثنا أبو جعفر عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ [ (2) ] الآية، قال من أربع وكلهن رفع لا محالة مضت اثنتان بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعا، وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت هنا فقال: لا محالة الحيف والرجم.
وخرج الحاكم [ (3) ] من حديث أنس، عن الأعمش فإنّي برءوس خوارج فكلما مروا عليه برأس، قال: إلى النار، فقال له عبد بن يزيد: أولا تدري، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: عذاب هذه الأمة جعل بأيديها في دنياها.
قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، إنما
أخرج مسلم وحده حديث طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسي: أمتى أمة مرحومة.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 278، حديث رقم (1469) ، 3/ 309، حديث رقم (13903) ، 6/ 161 حديث رقم (20721)
[ (2) ] الأنعام: 65.
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 283، كتاب التوبة والإنابة، باب (40) حديث رقم (7650) .(12/326)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بظهور المعادن فيكون فيها شرار الناس فكان كما أخبر
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث عاصم بن يوسف، قال سعير بن الخمس، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بقطعة من ذهب وكانت أول صدقة قد جاءت به بنو سليم من معدن لهم فقالوا: يا رسول اللَّه هذه من معدن لنا فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تكون معادن ويكون فيها شرار خلق اللَّه.
رواه محمد بن يوسف الفريابي قال: ذكر سفيان، عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى سليم، عن جده، قال أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بشيء من فضة، من معدن لنا فقال أما إنه ستظهر معادن وسيحضرها شرار الناس.
قال البيهقي: وهكذا رواه قبيصة بن عقبة، عن سفيان وقال أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن زيد بن أسلم عن رجل من بني سليم عن أبيه أنه أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بفضة فقال هذا معدن لنا. فقال النبي: إنها ستكون معادن يحضرها شرار الناس. قال البيهقي: هذا هو المحفوظ من حديث زيد بن أسلم.
وخرجه [ (2) ] الإمام أحمد من حديث سفيان، عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى سليم، عن جده، أنه أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بفضة، فقال: هذه من معدن لنا فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ستكون معادن يحضرها شرار الناس.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) 6/ 530- 531، باب ما جاء في إخباره بكون المعادن وأنه يكون فيها من شرار خلق اللَّه عز وجل فكان كما أخبر.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 598، حديث رقم (23133) .(12/327)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بمجيء قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات فكان كما أخبر
فخرج مسلم [ (1) ] في آخر كتاب اللباس، وفي آخر كتاب بدء الخلق، من حديث جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
وخرجه من حديث زيد بن حباب، حدثنا أفلح بن سعيد: حدثنا عبد اللَّه ابن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 356- 357، باب (34) النساء الكاسيات والعاريات المائلات المميلات، حديث رقم (2128) ، قال في (جامع الأصول) : «كاسيات عاريات» المعنى: أنهن كاسيات من نعم اللَّه عز وجل، عاريات من شكره. المعنى: أنهن يكشفن بعض أجسامهن، ويسدلن الخمر من ورائهن، فيكشفن صدروهن، فهن كاسيات عاريات، إذ بعض ذلك مكشوف، وقيل هو أن تلبس ثيابا رقاقا تصف ما تحتها فهن كاسيات في ظاهر الأمر، عاريات في الحقيقة.
«مائلات مميلات» مائلات، أي: زائغات عن طاعة اللَّه وعما يلزمهن من حفظ الفروج، ومميلات يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن، وقيل: مائلات، أي: يمتشطن المشطة الميلاء، وهي التي جاءت كراهيتها في بعض الحديث، وهي مشطة البغايا، والمميلات:
اللاتي يمشطن غيرهن المشطة الميلاء، وقيل: مائلات إلى الشر، مميلات للرجال إلى الفتنة.
«رءوسهن كأسنمة البخت» أراد تشبه رءوسهن بأسنمة البخت بما يكبرن رءوسهن به من المقانع والخمر والعمائم، أو بصلة الشعور، وخرجه البيهقي في (الدلائل) : 6/ 532.
وأخرجه مسلم أيضا في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب (13) النار يدخلها الجبارون والجنة بدخلها الضعفاء حديث رقم (52) .(12/328)
يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب اللَّه، ويروحون في سخط اللَّه
[ (1) ] .
ومن حديث أبي عامر العقدي قال أفلح بن سعيد قال: حدثني عبد اللَّه بن رافع مولى أم سلمة، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إن طالت به مدة أوشكت أن ترى قوما يغدون في سخط اللَّه، ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر [ (2) ] .
وخرجه الحاكم في (المستدرك) [ (3) ] من حديث أبى عبد اللَّه محمد بن يعقوب الشيباني، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي حدثنا مسدد من حديث بشر بن المفضل حدثنا عبد اللَّه بن بجير حدثنا سيار بن سلامة عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخرج في هذه الأمة في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر يغدون في سخط اللَّه ويروحون في غضبه،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وخرج من حديث ابن وهب قال: أخبرنى عبد اللَّه بن عياش القتباني عن أبيه، عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: سيكون في هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم ونساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كاسنمة البخت العجاف العنوهن فإنّهنّ ملعونات لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمهم كما خدمكم نساء الأمم السابقة.
فقلت لأبى: وما المياثر؟ قال سروجا عظاما.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 196، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب (13) ، حديث رقم (53) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (54) .
[ (3) ] المرجع السابق: 4/ 483، كتاب الفتن، حديث رقم (8347) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/329)
قال سروح: قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (1) ] .
قال الحافظ أبو نعيم [ (2) ] النساء المذكورات في هذا الحديث قيل: إنهن المغنيات بالعراق يتعممن بكارات كبار على رءوسهن ثم يتجلببن فوقهن.
وأما إشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى أن بغداد تبنى ثم تخرب [ (3) ] فكان كما أشار وأخبر صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث عمار بن سيف، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان المتعلج، عن جابر، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول تبنى مدينة بين دجلة، ودجيل وقطربُّل، والصراة، تجبى إليها خزائن الأرض وجبابرتها، لهى أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة [ (4) ] .
ومن حديث محمد بن جابر، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي جرير قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تبنى مدينة بين دجلة، ودجيل، والصراة،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 483، كتاب الفتن، حديث رقم (8346) . ثم قال: فقلت لأبي: وما المياثر؟ قال: سروجا عظاما. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عبد اللَّه بن عياش وإن كان قد احتج به مسلم فقد عافاه أبو داود والنسائي، وقال أبو حاتم هو قريب من ابن لهيعة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 547، حديث رقم (480) ، وأخرجه مسلم في (صحيحه) في كتاب (الجنة وصفة نعيمها وأهلها) باب (13) النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء حديث رقم (2128) .
[ (3) ] ذكر الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) : 27/ 38 جميع أحاديث الباب ثم أوردها تحت عنوان ذكر أحاديث رويت في السلب لبغداد والطعن على أهلها، وبيان فسادها وعللها، وشرح أحوال رواتها وناقليها، فلتراجع هناك.
[ (4) ] (تاريخ بغداد) : 1/ 32.(12/330)
وقطربُّل يجتمع فيها خزائن الأرض، يخسف بها فلهى أسرع خسفا بأهلها من التيه في الأرض الصبخة والخوراة [ (1) ] .
ومن حديث إسماعيل، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ستبنى مدائن بين نهرين من المشرق، وتحشر إليها خزائن الأرض وسروها، يسكنها أشر خلق اللَّه وخبأت أمتى يخسف اللَّه بها [ (2) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عن البصرة ومصير أمرها [ (3) ]
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث محمد بن عبد اللَّه الخزاعي قال:
حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص يوم جمعة فجلسنا إليه فقال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: والشام، تكون المسلمين بلدة أمصار ومقر بملتقى البحرين، ومقر بالحيرة، ومصر، بالشام فيخرج للمسلمين ثلاث فزعات.
ومن حديث صالح المري عن المغيرة بن حبيب صهر مالك قال: قلت لمالك بن دينار: يا أبا يحيى لو ذهبت بنا إلى بعض جزائر البحر كنا فيها حتى تسكن بأمر الناس فقال: ما كنت بالذي أفعل.
حدثني الأحنف بن قيس، عن أبي ذر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إني لأعرف أرضا يقال لها: البصرة أقوفها قبلة، وأكثر مساجد ومؤذنين، يدفع عنها من البلاء ما يدفع عن سائر البلاد.
ومن حديث صالح المري عن سعيد الريعي، عن صالح عن مالك بن دينار، عن الأحنف بن قيس، عن أبي ذر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ذكر أهل الكوفة فذكر أنهم سينزل بهم بلايا عظام، وذكر أهل البصرة وذكر أنهم أفضل من الأمصار.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 33.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 33، انظر (معجم البلدان) : 1/ 541 وما بعدها.
[ (3) ] راجع تعليقات الفصل السابق، وانظر (معجم البلدان) 1/ 510 وما بعدها.(12/331)
ومن حديث إسماعيل بن أبي إسماعيل قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن جرهم بن الحارث، عن العوام بن حوشب، عن سعيد بن جهمان، عن أبي بكرة قال: ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن أرضا تسمى البصرة أو البصيرة فنزلها أناس من المسلمين فبينما هم على ذلك إذا جاءهم بنو قنطور حتى ينزلوا بين دحلمة ذي نخل فنتصرف الناس عن ذلك ثلاث فرق فأما فرقة فتلحق بأصلها فتهلكها فتأخذ على نفسها وكفروا، وفرقة تقاتل قتالا شديدا فيفتح اللَّه عليهم.
ومن حديث داود بن سعيد بن حيان، عن مسلم، عن أبي بكرة، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن ناسا من أمتى ينزلون بغائط موته البصرة عندهم نهر يقال له دجلة يكون لهم عليها جسر ويكون أهلها وتكون من أنصار المهاجرين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطور عراض الوجوه صفن الأعين حتى ينزلوا على شاطئ البصرة فيضيق أهلها على ثلاث فذكر قتله.
ومن حديث عبد الرحمن بن أبي غياث قال الحرث بن سليمان الكوفي، عن سالم بن أبي الجعد، قال: لما فرغ على بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من قتال أهل البصرة دخل المسجد فاستنزل حائط القبلة ثم أمر مناد ينادى: الصلاة جامعة وبرئت الذمة من رجل يحلق.(12/332)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بما يكون في هذه الأمة من الفجور وتناول المال الحرام والتسرع إلى القتل [ (1) ]
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث على بن عاصم، عن داود بن أبي هند، قال: نزلت الجديلة جديلة قيس فسمعت شيخا أعمى يقال له، أبو عمر يقول:
سمعت أبا هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليأتين على الناس زمان يخير الرجل فيه بين العجز أو الفجور فمن أدرك ذلك الزمان منكم فليختر العجز على الفجور.
وخرجه أحمد [ (3) ] والحاكم [ (4) ] من حديث سفيان عن داود بن أبي هند قال:
أخبرني شيخ سمع أبا هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأتى على الناس زمان يخير الرجل فيه بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور.
قال الحاكم [ (5) ] هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأن الشيخ الّذي لم يسم سفيان الثوري عن داود بن أبي هند هو سعيد بن أبي جبيرة، رواه من حديث عباد بن العوام، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن أبي جبيرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فذكره.
وخرج الحاكم [ (6) ] من حديث معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه، عن كعب بن عياض رضي اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ (1) ] هذا العنوان في (دلائل البيهقي) هكذا: باب ما جاء في إخباره بزمان يخير الرجل فيه بين العجز والفجور وبزمان لا يبالي المرء بما أخذ المال بحلال أو بحرام فكان كما أخبر.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 535.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 543 حديث رقم (7686) .
[ (4) ] (المستدرك) : 4/ 485 حديث رقم (8353) ، (كتاب الفتن) .
[ (5) ] (المستدرك) : 4/ 484- 485 حديث رقم (8352) (كتاب الفتن) .
[ (6) ] (المستدرك) : 4/ 354، (كتاب الرقاق) حديث رقم (7896) .(12/333)
عنه قال سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال»
قال: هذا حديث صحيح الإسناد.
وخرجه الحاكم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن صالح قال: أخبرنى معاوية بن صالح قال: حدثني أبو الزاهرية، عن كثير بن مرة عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل.
قال [ (2) ] الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ومن حديث ابن أبي وهب قال أخبرني عمرو بن الحرث وابن لهيعة عن زيد أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: «بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل» .
وخرج الحاكم [ (3) ] من حديث عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا عمر بن حفص، حدثنا عاصم بن عليّ، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن النعمان بن بشير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: صحبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فسمعناه يقول: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام خلاقهم فيها بعرض من الدنيا يسير» .
قال الحسن: واللَّه لقد رأيناهم صورا بلا عقول أجساما بلا أحلام فراش نار وذبان طمع يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين يبيع أحدهم دينة بثمن العنز.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 4/ 485، (كتاب الفتن) حديث رقم (8354) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 4/ 485، (كتاب الفتن) حديث رقم (8355) .
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 611، كتاب (معرفة الصحابة) حديث رقم (6263) .(12/334)
وخرجه أبو نعيم من حديث عاصم بن على قال: المبارك بن فضالة عن الحسن، عن النعمان بن بشير قال: صحبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وسمعناه يقول: إن من بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا ويبيع أقوام أخلاقهم في عرض أو بعرض من الدنيا [ (1) ] يسير،
ومن حديث [ (2) ] حفص بن عمر، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن النعمان بن بشير أنه كتب إلى قيس بن سعد [أما بعد فإنكم إخواننا أسقافا وأما شهدنا ولم يشهدوا وسمعنا ولم يسمعوا] وإني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إن بين يديّ فتنا كقطع الدخان يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع الرجل دينه بثمن عرض.
قال الحسن: قد رأيناهم واللَّه.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة حدثنا يونس عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر أو قال:
على الشوك قال حسن في حديثه: [ (3) ] خبط الشوك.
ومن حديث شعبه عن محمد بن يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلّى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وأن عمالها في النار إلا من اتقى اللَّه وأدى الأمانة [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6263) .
[ (3) ] (مسند أحمد) 3/ 97- 98، حديث رقم (8831) .
[ (4) ] (مسند الإمام أحمد) : 6/ 504- 505، حديث رقم (22599) .(12/335)
وخرج [ (1) ] مسلم من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والّذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتى على الناس يوم لا يدرى القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عن حال بقعة من الأرض فظهر صدق ما أخبر به
فخرج الحافظ أبو نعيم [ (2) ] من حديث الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مهندب، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد اللَّه، عن عبيد مولى أبي، رهم، عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نظر إلى بقعة من بقاع المدينة فقال: رب يمين لا يصعد إلى اللَّه بهذه البقعة فرأيت فيها النخاسين بعد.
وخرجه الإمام أحمد [ (3) ] في (المسند) من حديث عبد الرحمن ولفظه:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول رب يمين لا تصعد إلى اللَّه بهذه البقعة فرأيت فيها النخاسين بعد.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 251- 252، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (56) .
[ (2) ] راجع التعليق التالي:
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 585، حديث رقم (7963) .
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 140- 141 كتاب الطهارة، باب (12) حديث رقم (39) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 581 حديث رقم (7933) .(12/336)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عن قوم يؤمنون به ولم يروه
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن جعفر قال: أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول اللَّه؟ قال:
أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول اللَّه؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول اللَّه، قال: فإنّهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألّا ليزادن رجال من حوضي كما يزاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال أنهم قد بدلوا بعدك فأقول: سحقا سحقا.
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث عبد العزيز الدراوَرْديّ، حدثنا مالك، جميعا عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون. بمثل حديث إسماعيل بن جعفر غير أن حديث مالك: فليذادن رجال عن حوضي.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 140- 141، كتاب الطهارة، باب (12) ، حديث رقم (39) .
[ (2) ] (راجع التعليق السابق) .(12/337)
وأخرجه النسائي [ (1) ] من حديث مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، وددت أنى قد رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول اللَّه، ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي وإخواني الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول اللَّه، كيف تعرف من يأتى بعدك من أمتك قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلين في خيل بهم دهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإنّهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض.
وذكر ابن عبد البر من حديث عمرو بن خالد حدثنا ابن لهيعة عن يزيد عن أبي حبيب عن بكير بن عبد اللَّه بن الأشج، عن عبد الرحمن بن أبي عمر عن أبيه قال: قلت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أرأيت من آمن بك ولم يرك؟ فقال: أولئك إخواننا معنا، طوبى لهم، طوبى لهم.
ومن حديث ابن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجاءه عمر فقال: يا عمر إني لمشتاق إلى إخواني، قال: عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ألسنا بإخوانك يا رسول اللَّه؟ قال: لا، ولكنكم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني.
هكذا أورده ابن عبد البر بغير إسناد.
وذكر من طريق موسى بن داود، عن همام، عن قتادة، عن أنس عن أبي أمامة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرّات لمن لم يرني وآمن بي. قال: ورواه أبو داود الطيالسي عن همام، عن قتادة به مثله.
ومن مسند أبي داود الطيالسي، عن محمد بن أبي حميد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا؟ قلنا: الملائكة، قال: فحق لهم بل غربتم، قلنا: الأنبياء، قال: حق لهم بل غربتم، ثم قال رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 1/ 101- 102، كتاب الطهارة، باب (110) ، حلية الوضوء حديث رقم (150) .(12/338)
صلّى اللَّه عليه وسلم: أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيتعلمون فيه فهم أفضل الخلق إيمانا.
وذكره ابن عبد البر من طريق زكريا بن يحيى الشامي، عن محمد بن المثنى بن أبي عدي، عن ابن أبي حميد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر ابن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول ائتوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا قلنا الملائكة....
وذكر الحديث كما تقدم.
قال المؤلف عفى اللَّه عنه وغفر ذنوبه:
وقد خرجه [ (1) ] الحاكم من حديث أبي عامر العقدي، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم جالسا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم «أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيمانا؟» قالوا: يا رسول اللَّه الملائكة؟ قال: هم كذلك ويحق ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم اللَّه المنزلة التي أنزلهم بها غيرهم، قالوا: يا رسول اللَّه فالأنبياء الذين أكرمهم اللَّه تعالى بالنّبوّة والرسالة؟ قال: «هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم اللَّه المنزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم» قال: قلنا فمن هم يا رسول اللَّه؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» ،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
وقال ابن عبد البر: [ (2) ] وذكر سنين عن خلف بن خليفة عن عطاء بن السائب قال: قال ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لأصحابه يوما: أي الناس أعجب إيمانا قالوا: الملائكة، قال: وكيف لا تؤمن الملائكة والأمر فوقهم يرونه؟ قالوا: الأنبياء، قال: وكيف لا تؤمن الأنبياء والأمر منزل إليهم غدوة وعشية؟ قال: فنحن؟ قال: وكيف لا تؤمنون وأنتم ترون من رسول اللَّه ما ترون؟ ثم
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أعجب الناس إيمانا قوم يأتون بعدي
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 96، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6993) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل محمد [بن أبي حميد] ضعفوه.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 2/ 689، ترجمة رقم (1147) .(12/339)
يؤمنون بي ولم يروني، أولئك إخواني حقا،
وكان سفيان بن عيينة يقول: تفسير هذا الحديث وما كان مثله بين في كتاب اللَّه تعالى وهو قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: وروى مالك عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري في الأفق من المشرق أو المغرب لا يتفاضل بينهم، قيل: يا رسول اللَّه تلك منازل الأنبياء لا يلقاها غيرهم؟ قال: بلى والّذي نفسي بيده، رجال آمنوا باللَّه وصدقوا المرسلين [ (2) ] .
وروى فليح بن سليمان عن هلال بن على عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مثله،
وقال: محمد بن يحيى كلاما غير مرفوع وذكر من حديث قاسم بن أصبغ، عن أحمد بن زهير، عن مروان بن عزوف، حدثنا عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن حنز، عن أبي جمعة قال: قلنا: يا رسول اللَّه هل أحد خير منا؟ قال: نعم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين يؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني [ (3) ] .
قال جامعه- رحمه اللَّه وعفى عنه-:
وقد خرج الحاكم [ (4) ] هذا الحديث من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عوف بن سفيان الطائي بحمص، حدثنا عبد القدوس بن الحجاج، حدثنا الأوزاعي، حدثنا أسيد ابن عبد الرحمن، حدثني صالح بن محمد، عن أبي جمعة قال: تغدينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، قال: فقلنا: يا رسول اللَّه أحد خير
__________
[ (1) ] آل عمران: 101.
[ (2) ] باقي هذا الحديث مطموس في الأصل.
[ (3) ] المرجع التالي مع اختلاف يسير في اللفظ.
[ (4) ] (المستدرك) : 4/ 95- 96، كتاب معرفة الصحابة حديث رقم (6992) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/340)
منا معك أسلمنا معنا وجاهدنا معك؟ قال: نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى.
قال الحاكم [ (1) ] هذا حديث صحيح الإسناد.
قال ابن عبد البر: قد عارض قوم هذه الأحاديث بما
جاء عنه صلّى اللَّه عليه وسلم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم،
وهو حديث حسن المخرج، جيد الأسانيد، وليس ذلك عندي بمعارض لأن
قوله: خير الناس قرني
ليس على عمومه، بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه من السابقين من المهاجرين والأنصار جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحد، ردّ وقال: أنتم ما تقولون في الشارب والسارق والزاني
وقال صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه.
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ (2) ] قال: من فعل منكم فعلها كان مثلها وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه: في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبيّة وهذا كله يشهد أن خير قومه فضلاء أصحابه وقد قيل في قول اللَّه- عز وجل-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم يعنى الصالحين منهم وأهل الفضل وكنتم شهداء على الناس يوم القيامة، قالوا: إنما صار أول هذه الأمة خير القرون لأنهم آمنوا به حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبه الناس، وعزروه، ونصروه، وآووه وواسوه بأموالهم وأنفسهم وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوه في الإسلام.
وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب مع قوله خير الناس قرني في قوته إنما قيل: لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبروا على إيذائهم وتمسكهم، وأن آخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والكبائر، كانوا عند ذلك أيضا
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] سورة آل عمران: 110.(12/341)
غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمن، كما زكت أعمال من قبلهم، ومما يشهد لهذا
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء،
ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره.
هذا حديث خرجه الإمام أحمد [ (2) ] من حديث رماد عن أبي عمرو عن الحسين عن عمار بن ياسر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره.
وقد ذكر البخاري- رحمه اللَّه- قال: محمد بن بشار بن أبي عدي عن حميد، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة على أحد يقول في الأرض اللَّه
[ (3) ] . قال ابن عبد البر: فما ظنك بعبادة اللَّه وإظهار دينه في ذلك الوقت ليس هو كالعاص على الجمر، لصبره على الذل والفاقة وإقامة الدين والسنة.
وروينا أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد اللَّه ابن عمر أن أكتب إليّ سيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم أن عملت بسيرة عمر، وأنت أفضل من عمر، لأن لا زمانك كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب إليه بمثل قول
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 536، كتاب الإيمان باب (64) رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب حديث رقم (232) في (الأصل) : «الدين» وما أثبتناه من سائر المراجع (سلسلة الأحاديث الصحيحة) : 3/ 267، حديث رقم (1273) ، وتمامه:
قيل: من هم يا رسول اللَّه؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، قال الألباني: وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، رجال الصحيح، غير محمد بن آدم المصيصي وهو ثقة كما قال النسائي وغيره.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5: 417، حديث رقم (18402) .
[ (3) ] (جامع الأصول) : 10/ 394، حديث رقم (7902) .(12/342)
سالم وقد عدل عن بعض الجملة من العلماء
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] «خير الناس قرني
بقوله: خير الناس من طال عمره وحسن عمله» ،
قال: وهذه الأحاديث تقتضي مع مواثر [صحة] طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها، [والمقنع] في ذلك ما قدمنا ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمن الفاسد الّذي يرفع فيه من أهله العلم والدين، وبكثر الهرج والفسق، ويذل المؤمن، ويعز الفاجر، ويعود الدين غريبا كما بدأ ويكون القائم فيه بدينه كالقابض على الجمر فيستوي أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبيّة واللَّه يؤتى فضله من يشاء.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بأن أقصى أماني من جاء بعده من أمته أن يروه فكان كما أخبر
فخرج البخاري من حديث شعيب عن أبي حمزه عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر حتى تقابلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة وتجدون خير الناس أشدهم كراهة لهذا الأمر، حتى يقع فيه، والناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله.
__________
[ (1) ] (إحياء علوم الدين) : 4/ 626، باب المجاهدة «حديث خير الناس من طال عمره وحسن عمله، أخرجه الطبراني من حديث عبد اللَّه بن بشر وفيه بقية وهو مدلس. وللترمذي من حديث أبي بكر «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» وقال: حسن صحيح.(12/343)
وأخرجه أيضا من حديث صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمثل حديث شعيب دون الزيادة مع تقديم وتأخير [ (1) ] .
وخرج البخاري [ (2) ] ومسلم من حديث شعيب عن أبي جمرة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله.
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 10/ 375- 376، الفصل الرابع في الفتن والاختلاف أمام القيامة، حديث رقم (7870) ، وقال: قال سفيان: زاد فيه رواية «صغار الأعين» ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة» .
وفي رواية قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تقاتلون بين يدي الساعة قوما فعالهم الشعر، كان وجوههم المجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين، أخرجه البخاري ومسلم.
وللبخاريّ عن قيس بن أبى حازم قال: أتينا أبا هريرة، فقال: صحبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاث سنين، لم أكن في سنى أحرص على أن أعي الحديث منهيّ فيهن، سمعته يقول: وقال هكذا بيده: بين يدي الساعة تقاتلون قوما نعالهم الشعر، وهو هذا البارز
قال سفيان مرة: وهم أهل البارز ويعنى بأهل البارز فارس، كذا هو بلغتهم» .
وللبخاريّ أيضا: وزاد في آخره، وتجدون خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر، حتى يقع فيه، والناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا، وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبّ إليه من أن يكون له مثل أهله وماله» .
وله أيضا: قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلون خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر
«ولمسلم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوما وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر» .
وأخرج أبو داود الأولى والآخرة، وأخرج الترمذي الأولى، وأخرج [أبو داود] والنسائي الآخرة، إلا أن أبا داود لم يذكر «يمشون في الشعر» [شرح الغريب] » ذلف الأنوف» الذلف في الأنف- بالذال المعجمة- استواء في طرفه وليس بالغليظ الكبير.
[ (2) ] (جامع الأصول) : 10/ 375- 377، حديث رقم (7870) .(12/344)
وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والّذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم.
قال أبو نصر الحميدي: تأولوه على أنه نعى مصيبة إليهم وعن فهم بما يحدث لهم بعده من تمنى لقائه عند فقدهم ما كانوا يشاهدون من بركاته صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، حدثنا أبو هريرة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: والّذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله
معهم قال أبو إسحاق: المعنى فيه عندي لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله وهو عندي يقدم ويؤخر.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي خالد الأجوري عن يحيى بن سعيد، عن أبي صالح، عن رجل من بني أسد، عن أبي ذر رضي اللَّه عنه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) 8/ 543، حديث رقم (6349) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 127، كتاب الفضائل، باب (39) فضل النظر إليه صلّى اللَّه عليه وسلم حديث رقم (142)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم والّذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني ثم لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله وهو عندي مقدم ومؤخر،
هذا الّذي قال أبو إسحاق هو الّذي قاله القاضي عياض واقتصر عليه قال تقديره لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله ثم لا يراني وكذا جاء في مسند سعيد بن منصور ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله ثم لا يراني أي رؤيته إياي أفضل عنده وأخطر من أهله وماله. هذا كلام القاضي والظاهر أن قوله في تقديم لأن يراني وتأخير من أهله لا يراني كما قال وأما لفظة معهم فعلى ظاهرها وفي موضعها وتقدير الكلام يأتى على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة ثم لا يراني بعدها أحب إليه من أهله وماله جميعا ومقصود الحديث حثهم على ملازمة مجالسة الكريم ومشاهدته حضرا وسفرا للتأدب بآدابه، وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته.(12/345)
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن من أشد أمتي حبا إليّ مؤمنين يأتون من بعدي يود أحدهم لو رآني أحب إليه من أهله كأنه يراني.
وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي صالح.
وخرجه الحاكم من حديث عبد اللَّه بن مسلمة، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن ناسا من أمتى يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله.
قال الحاكم هذا صحيح الإسناد.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بتبليغ أصحابه ما سمعوا منه حديثهم من بعده وخطبه من بعدهم فكان كما أخبر
فخرج أبو داود [ (1) ] من حديث جرير، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم.
وخرجه الحرث عن أبي أسامة من حديث فضيل عن الأعمش به مثله.
وخرج أبو نعيم [ (2) ] من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ثابت بن قيس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم.
وخرج الترمذي [ (3) ] من حديث أبي داود الطيالسي قال: عن سماك بن حرب قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود يتحدث عن أبيه قال:
سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: نضر اللَّه امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وبه رواه عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 4/ 68، كتاب العلم، باب (10) فضل نشر العلم، حديث رقم (3659) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (جامع الأصول) : 8/ 18، حديث رقم (5849) .(12/346)
قال المؤلف- رحمه اللَّه تعالى-: ووقع هذا الحديث في سنن أبي داود الطيالسي، عن شعبة وحماد بن سلمة، عن سماك بن حرب إلى آخره بمثله.
وروى غافر بن مجد الدوري، عن يحيى بن معين أن عبد الرحمن بن عبد اللَّه وأخاه أبا عبيد لم يسمعا من أخيهم شيئا مما يحدث.
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث أبي داود عن شعبة أخبرني عمر بن سليمان عن ولد عمر بن الخطاب قال: سمعت عبد الرحمن بن عثمان يحدث عن أبيه قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان نصف النهار، قلنا ما بعث إليه في هذه الساعة إلا لشيء فسألاه عنه، فقمنا فسألناه فقال: نعم، سألنا عن أشياء سمعناها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: «نضر اللَّه امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» .
وخرجه أبو داود [ (2) ] في باب نشر العلم من كتاب العلم من حديث يحيى عن شعبة إلى آخره مثله.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث محمد بن إسحاق، عن عبد السلام، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: «نضر اللَّه عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهم صدر مسلم: إخلاص العمل للَّه- عز وجل-، ومناصحة أولى الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 8/ 17، حديث رقم (5848) أخرجه الترمذي، وأخرج أبو داود في (السنن) وحده قوله: (نضر اللَّه امرأ) دعاء له بالنضارة، وهي النعمة والبهجة، يقال:
نضره اللَّه ونضره- مثقلا ومخففا- وأجودهما التخفيف.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 4/ 68، كتاب العلم، باب (10) فضل نشر العلم، حديث رقم (3660) ، قوله «نضر اللَّه» معناه: الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة، يقال:(12/347)
وخرج الترمذي من حديث سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: نضّر اللَّه امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهنّ قلب مسلم: إخلاص العمل للَّه، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم [ (1) ] .
وخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] والنسائي من حديث عبد اللَّه بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، ذكر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه- أو بزمامه- قال: أي يوم هذا؟
فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى.
قال: فأى شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه.
__________
[ () ] بتخفيف الضاد وتثقيلها، وأجودهما: التخفيف وفي قوله «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» دليل على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهى في الفقه، لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهم، وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث واستخراج المكنون من سره (معالم السنن) .
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 209، كتاب العلم، باب (9) حديث رقم (67) وفي هذا الحديث من الفوائد الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطا في الأداء، وأنه قد يأتى في الآخرة من يكون الأهم ممن تقدمه لكن بقلة، واستنبط ابن المنير من تعليل كون المتأخر أرجح نظرا من المتقدم أن تفسير الراوي أرجح من تفسير غيره. وفيه جواز القعود على ظهر الدواب وهي وافقه إذا احتيج إلى ذلك، وحمل النهى الوارد في ذلك على ما إذا كان لغير ضرورة وفيه الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في إسماعه للناس ورؤيتهم إياه.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 181- 182، كتاب القسامة باب (9) حديث رقم (30) .(12/348)
قال: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما، وإلى جذيعة من الغنم فقسمها بيننا اللفظ لمسلم وهو أتم وزاد البخاري بعد قوله: ليبلغ الشاهد الغائب:
فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه.
وقال النسائي [ (1) ] : فليدعه أن يبلغ الشاهد من هو أوعى له منه ولم يذكر هو ولا البخاري قوله: ثم انكفأ إلى كبشين إلى آخره.
وذكره مسلم في كتاب الديات وذكره البخاري والنسائي في كتاب العلم وقال فيه البخاري أي يوم هذا؟ وهكذا فسكتا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه وكذلك قال: في التفسير ولم يقل فيه: قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.
وأخرجاه من حديث أبي عامر العقدي عن قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين. ذكره البخاري في كتاب الحج، وفي كتاب الفتن وأخرجاه من حديث أيوب، عن ابن سيرين ذكره البخاري في الأضاحي، وذكره مسلم في الديات.
وخرجه البيهقي من حديث عباد بن العوام، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: مرحبا بوصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوصينا بكم.
وأما إنذاره عليه الصلاة والسلام بظهور الاختلاف في أمته
فخرج أبو داود [ (2) ] من حديث صفوان، قال حدثني أزهر بن عبد اللَّه الجرازى، عن أبي عامر الهوزني، عن معاوية بن أبي سفيان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قام فقال: ألا إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة.
__________
[ (1) ] لم أجده في (المجتبى) ولعله في (الكبرى) .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 5/ 4، كتاب السنة، باب (1) شرح السنة، حديث رقم (4597) .(12/349)
وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم الأهواء كما يتجاري الكلب لصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله.
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: تفرقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتى على ثلاثة وسبعين فرقة.
قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرج من حديث سفيان [الثوري] عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبد اللَّه بن يزيد، عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول اللَّه؟
قال: ما أنا عليه وأصحابى [ (3) ] .
قال: أبو عيسى هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.
قال الترمذي: الإفريقي ضعيف عند أهل الحديث ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره. قال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 25، كتاب الإيمان، باب (18) ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث رقم (2640) .
[ (2) ] ثم قال: وفي الباب عن سعد وعبد اللَّه بن عمرو، وعوف بن مالك.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2641) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 1/ 16، المقدمة، باب (6) اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم (2642) ، (2643) بسياقه أتم. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 109، حديث رقم (16692) ، (16694) ، (16695) ، ثلاثتهم من حديث العرباض بن سارية رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/350)
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث نعيم بن حماد، عن عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنه على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال.
وخرج البيهقي [ (2) ] من حديث بقية عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن أبي عمر السلمي، عن العرباض بن سارية. أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وعظهم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول اللَّه هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ فقال:
أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين [من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ] [ (3) ] . حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان.
قال المؤلف- رحمه اللَّه تعالى-: خرج أبو داود [ (4) ] هذا الحديث، قال:
حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [ (5) ] فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلّى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 631، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عوف بن مالك الأشجعي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (6325) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 541، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بظهور الاختلاف في أمته، وإشارته عليهم بملازمة سنته وسنة الخلفاء الراشدين من أمته.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 5/ 13- 15، كتاب السنة باب (6) في لزوم السنة، حديث رقم (4607) .
[ (5) ] التوبة: 92.(12/351)
القلوب فقال قائل: يا رسول اللَّه كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟
قال: أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا [ (1) ] ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ [ (2) ] ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة [ (3) ] وكل بدعة ضلالة.
وأخرجه الترمذي [ (4) ] من حديث بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد ابن معدان، عن عبد الرحمن بن معن السلمي عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما بعد العصر موعظة بليغة إلى آخره بنحوه. وحديث
__________
[ (1) ]
قوله: «وإن عبدا حبشيا»
يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم، وإن كان عبدا حبشيا.
وقد ثبت عنه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: «الأئمة من قريش» ،
وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح منه الوجود،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «من بنى للَّه مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى اللَّه له بيتا في الجنة»
وقدر مفحص قطاة لا يكون مسجدا لشخص آدمي.
وكقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «لو سرقت فاطمة لقطعتها»
هي رضوان اللَّه عليها وسلامه لا يتوهم عليها السرقة.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلم: «لعن اللَّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده»
ونظائر هذا في الكلام كثير. (معالم السنن) .
[ (2) ] النواجذ: «آخر الأضراس، واحدها ناجذ، وإنما أراد بذلك الحد في لزوم السنة، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعض عليها منعا له أن ينتزع، وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء، إذ كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب تناولا وأسهل انتزاعا.
[ (3) ] قوله: «كل محدثة بدعة» فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنيا على قواعد الأصول ومردودا إليها، فليس ببدعة ولا ضلالة.
قال الخطابي: وفي قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا، وخالفه فيه غيره من الصحابة، كان المصير إلى قول الخليفة أولى. (معالم السنن) . والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى رضوان اللَّه تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
[ (4) ] سبق تخريجه.(12/352)
أبي داود أتم، وقال الترمذي: إياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي. قال الترمذي رحمه اللَّه: هذا حديث حسن صحيح.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم باتباع أمته سنن من قبلهم من الأمم فكان كما أخبر
فخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، «عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب اتبعتموهم قلنا: يا رسول اللَّه اليهود والنصارى» قال: فمن؟ هذا لفظ مسلم.
ولفظ البخاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول اللَّه اليهود والنصارى! قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فمن؟.
وخرج بقي بن مخلد عن أنس، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم باعا بباع وذراعا بذراع وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول اللَّه اليهود والنصارى! قال فمن؟.
وخرجه ابن ماجة [ (3) ] عن شيخ، عن يزيد، عن محمد بن عمرو.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 371، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (14) ، حديث رقم (7320) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 459- 460، كتاب العلم، باب (3) اتباع سنة اليهود والنصارى، حديث رقم (2669) .
[ (3) ] (سنن ابن ماجة) : 2/ 1322، كتاب الفتن، باب (17) افتراق الأمم، حديث رقم (3994) ، قال في (الزوائد) : إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال في (هامشه) : الجماعة، أي الموافقون لجماعة الصحابة الآخذون بعقائدهم المتمسكون برأيهم.(12/353)
وخرج البخاري [ (1) ] في كتاب الاعتصام من حديث محمد بن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل: يا رسول اللَّه كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟.
قال المؤلف- رحمه اللَّه تعالى-: قد صدق اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم فيها أخبره من أنباء الغيب التي يوجهها سبحانه إليه فاتفقوا في الخلافة الإسلامية كما اتفق في الملة الموسوية حذو القدوة بالقدوة، وذلك أن العرب كلها ترجع إلى قحطان وعدنان، فيقال لسائر قحطان: اليمن، ويقال لسائر بني عدنان المضرية والنزارية وهي قيس، والعرب كلها على طبقات شعوب وقبائل وعمائر وبطون وما بينها من الآباء يعرفها أهلها، وكما أن اللَّه تعالى جعل العرب شعوبا وقبائل فقد جعل بني إسرائيل قوم موسى عليه السلام أسباطا، فالسبط من بني إسرائيل كالقبيلة من العرب، وبنو إسرائيل بأسرهم اثنا عشر سبطا وهم: يوسف النبي، وبنيامين، وكاد، ويهوذا، وثعتالى، وزبولون، وشمعون، وروبيل، وبستاخار، ولاوى، وذان، وياشير، فكل واحد من هؤلاء الاثني عشر يقال له سبط ومنهم كلهم سائر بني إسرائيل، وجميع هؤلاء الاثني عشر سبطا هم أولاد يعقوب، وهو إسرائيل لصلبه، ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل، سلام اللَّه عليهم، فموسى عليه السلام هو ابن عمران بن قاهث ابن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فهو من سبط لاوى، وقد قام عليه السلام بأمر بني إسرائيل حتى مات فلم يخلفه على بني إسرائيل بعد موته أحد من سبط لاوى الذين هم قرابته القريبة، وإنما خلفه يوشع ابن نون بن أليشاماع ابن عم يهود بن لغدان بن تالخ بن راشف بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، فيوشع من سبط أفرايم بن يوسف وهو بعيد بن سبط لاوى، وهكذا وقع في الإسلام، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سيد بني هاشم هو محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 371، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (14)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم،
حديث رقم (7319) .(12/354)
ابن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، قام صلّى اللَّه عليه وسلم بأمر الأمة حتى توفاه اللَّه تعالى، فلم يخلفه في أمته أحد من بني هاشم الذين هم أعرب العرب إليه وإنما خلفه في أمته أبو بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو من تيم بن مرة بن كعب فإنه أبو بكر، واسمه عبد اللَّه بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن كعب. فانظر، كيف كان كان أبو بكر خليفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في البعد من جذر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مرة بن كعب بن لؤيّ بعد عدة آباء، وكذلك يوشع إنما يلتقى مع موسى في يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكما أنه قام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع خلف موسى جماعة مختلفو الأنساب بعضهم من سبط يهوذا، أو بعضهم من سبط يلخار وبعضهم من سبط بنيامين وبعضهم من منشّا بن يوسف وبعضهم من سبط عاش وبعضهم من سبط دان.
وكذلك قام في الخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه جماعة مختلفة أنسابهم بعضهم من بني عدي وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد اللَّه بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب.
وبعضهم من بني أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وهو أمير المؤمنين عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية.
وبعضهم من بني هاشم، [وهو] أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وابنه أبو عبد اللَّه الحسن بن علي ابن أبي طالب رضوان عليهم.
وبعضهم من بني حرب بن أمية بن عبد شمس وهو معاوية بن أبي سفيان ابن صخر بن حرب بن أمية وابنه يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وبعضهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب وهو عبد اللَّه بن الزبير بن العوام بن أسد بن عبد العزى.(12/355)
وبعضهم من بني الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ثم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك بن مروان بن الحكم وبنوه.
وكما أن بني إسرائيل استقر أمرهم بعد من ذكرنا في القائمين من بني يهودا، كذلك استقرت الخلافة في بني العباس بعد من ذكرنا، وكما أن يهوذا عم موسى عليه السلام، كذلك العباس بن عبد المطلب بن هاشم هو عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وكما أن يهوذا قدمه يعقوب على إخوانه وبشر هو مدحه كما هو مذكور في التوراة، كذلك العباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يجله ويكرمه ويثنى عليه كما هو مذكور في الأحاديث الصحيحة، وكما أن أمر بني إسرائيل افترق في دولة بنى يهودا فصاروا بعد موت سليمان بن داود عليه السلام فرقة بالقدس مع ابنه رحبعم بن سليمان بن داود وهم سبط يهوذا سبط بنيامين وفرقة بشمرون مع يربعام بن نياط وهم بقية الأسباط لذلك لما صارت الخلافة في بنى العباس افترق أمر الأمة المحمدية فصار في الأنبار، ثم في بغداد بنو العباس، وفي الأندلس عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم وبنوه من بعده فلم تدخل الأندلس تحت طاعة بني العباس كما لم تدخل شمرون تحت حكم سبط يهوذا.
وكما أن مدينة القدس التي هي دار ملك بنى يهوذا كان تدعى بالعبرانية أورشليم، ومعناه دار السلام، كذلك بغداد دار ملك بني العباس كان يقال لها دار السلام، وكما أن دولة بربغام ومن معه بشمرون التي عرفت اليوم بنابلس انقرضت قبل دولة يهوذا بالقدس ذاتها لم يقم سوى مائتي سنة وإحدى وستين سنة، وكذلك دولة بني أمية بالأندلس انقرضت قبل انقراض دولة بني العباس فكانت دولتهم كدولة أصحاب شمرون وكما أن دولة بني يهوذا أقيمت بالقدس من عهد داود عليه السلام وهو أول من ملك منهم إلى أن انقرضت مدة تزيد على خمسمائة سنة، كذلك بنو العباس أقامت خلافتهم منذ أبي العباس عبد اللَّه السفاح أول قائم منهم إلى أن انقرضت أيامهم خمسمائة سنة وثلاثا وعشرين سنة، وكما أن يهوذا تميزوا بألقاب تخصهم لا تكون لأحد من رعيتهم، كذلك بنو العباس كانت لهم ألقاب يخص بها الخليفة كالسفاح، والمنصور، والمهدي، ونحو ذلك، وكما أن دولة بني بربغام بشمرون إذا لقي قوم من غير جنسهم،(12/356)
ولا يتكلمون بلغتهم كذلك أزال بني أمية من الأندلس البربر وليسوا من جنسهم، ولغتهم تخالف لغة العرب وكما أن دولة بني يهوذا انقرضت من القدس على يد بخت نصّر فإنه صار إليهم من بلاد المشرق حتى قتلهم وهدم مدينة القدس دار ملكهم، وقتل رجاله بني إسرائيل، وسبي نساءهم وذرياتهم، وانتهبت أموالهم فكذلك زالت خلافتهم بالقدس من بعده، وكما أن بني إسرائيل قوم قطعهم اللَّه في الأرض أمما، وكذلك قريش قوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تفرقوا في أقطار الأرض وصاروا رعية رعاعا ليس لهم ملك ولا دولة، وكما أن أنساب بني إسرائيل بأسرهم جهلت بينهم إلا بعض بنى يهوذا فإن نسبهم يصل عندهم بداود عليه السلام، كذلك قريش قد جهلت في هذه الأيام أنساب جميع بطونها إلا ما كان في بني حسن وحسين ابني على بن أبي طالب وبني جعفر بن أبي طالب فإن أنساب كثيرة منهم متصلة على مقالات في كثير منهم عند النساء بيّن، فانظر- أعزك اللَّه- كيف تشابه أمر هذه الأمة المحمدية بأمر الأمة الموسوية تصديقا لما أنذر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من اتباع أمته سنن من كان قبلها، وهذا فضل اللَّه [منّ] به عليّ في كتابي (النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم) ولم أره لأحد قبلي، واللَّه يختص برحمته من يشاء من عباده، واللَّه ذو الفضل العظيم.(12/357)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بذهاب العلم وظهور الجهل فظهر في ديننا مصداق ذلك في غالب الأقطار
فخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث عبد الوارث، عن قتادة، عن أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر. ولفظها في المتن سواء. ذكره في العلم.
وخرج البخاري من حديث يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: «لأحدثتكم حديثا سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يحدثتكم به أحد غيري، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» .
وخرجه مسلم [ (3) ] من حديث محمد بن جعفر قال شعبة: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت منه: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا، ويشرب الخمر ويذهب الرجال وتبقي النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد.
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 9/ 412، كتاب النكاح، باب (111) يقل الرجال ويكثر النساء، وقال أبو موسى: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون نسوة يلذن به من قلة الرجال، وكثرة النساء، حديث رقم (5231) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 462، كتاب العلم، باب (5) رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن، في آخر الزمان، حديث رقم (9) .
[ (3) ] (سبق تخريجه) .(12/358)
وأخرجه مسلم [ (1) ] أيضا من حديث سعيد، بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وفي حديث ابن بشر وعبدة لا يحدثكموه أحد بعدي، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فذكر مثله.
وأخرجه البخاري [ (2) ] أيضا في آخر كتاب النكاح من حديث هشام الدستواني وهمام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس، وأخرجه في كتاب الأشربة [ (3) ] وفي كتاب الحدود [ (4) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث وكيع عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم قال: فقلت يا رسول اللَّه وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ العلم وتقرأه أبناؤنا وأبناؤهم إلى يوم القيامة قال: ثكلتك أمك زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجال المدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا يعملون بشيء مما فيها.
وخرجه الحاكم [ (5) ] من حديث أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل القاري، وأبو الحسن أحمد بن محمد العنبري، قالا: حدثنا عثمان بن سعيد الدرامي، حدثنا عبد اللَّه بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير ابن نفير، عن أبيه جبير، عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء «قال: فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول اللَّه، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فو اللَّه لنقرأنه ولتقرأنه نساؤنا وأبناؤنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد، إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه
__________
[ (1) ] (سبق تخريجه) .
[ (2) ] (سبق تخريجه) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 37، كتاب الأشربة، باب (1) قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ حديث رقم (5577) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 12/ 136، كتاب الحدود، باب (20) إثم الزناة، حديث رقم (6808) .
[ (5) ] (المستدرك) : 1/ 179، كتاب العلم، حديث رقم (338) .(12/359)
التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا يغنى عنهم ذلك؟
«قال جبير:
فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟
وأخبرته بالذي قال. قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلا خاشعا. هذا إسناد صحيح من حديث البصريين.
فيه شاهد رابع على صحة الحديث، وهو عبادة بن الصامت، ولعل متوهما أن جبير بن نفير رواه مرة عن عوف بن مالك الأشجعي، ومرة عن أبي الدرداء، فيصير به الحديث مطولا، وليس كذلك، فإن رواة الإسنادين جميعا ثقات، وجبير بن نفير الحضرميّ من أكابر تابعي الشام، فإذا صح الحديث عنه بالإسنادين جميعا فقد ظهر أنه سمعه من الصحابيين جميعا، والدليل الواضح على ما ذكرته أن الحديث قد روى بإسناد صحيح، عن زياد بن لبيد الأنصاري الّذي ذكر مراجعته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الحديثين.
ومعاوية بن صالح له عند أهل الحديث ولا نعلم أحدا يتكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان.
وخرج البخاري [ (1) ] من حديث مالك، وخرج مسلم [ (2) ] من حديث جرير كلاما عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا، بغير علم فضلوا، وأضلوا.
وقال البخاري: ينتزعه من العباد، وقال: حتى إذا لم يبق عالما. وله عندهما طرق أخر.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 258، كتاب العلم باب (34) كيف يقبض العلم حديث رقم (100) ، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (7) ما يذكر من قول الرأى متكلف القياس، حديث رقم (7307) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 465، كتاب العلم، باب (5) رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن، في آخر الزمان، 16/ 465 حديث رقم (2673) .(12/360)
وخرجه الحاكم [ (1) ] من حديث محمد بن مقاتل المروزي عن يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان علماء جهال وقراء فسقة» .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم باتباع أهل الزيغ ما تشابه من القرآن
فخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] وأبو داود [ (4) ] من حديث عبد اللَّه بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: تلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [ (5) ] .
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى اللَّه فاحذروهم.
وقال أبو داود [ (6) ] : وقرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هذه الآية ولم يقل مسلم ذكره البخاري في (التفسير) [ (7) ] وذكره مسلم [ (8) ] في كتاب القدر وذكره أبو داود [ (9) ] في
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 351، كتاب الرقاق، حديث رقم (7883) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) يوسف بن عطية هالك.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 265، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب (1) حديث رقم (4547) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) 16/ 457، كتاب العلم، باب (1) النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعه، والنهى عن الاختلاف في القرآن، حديث رقم (2665) ، في (الأصل) كتاب القدر وصوابه كتاب العلم.
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 5/ 6، كتاب السنة، باب (2) النهى عن الجدل واتباع المتشابه من القرآن، حديث رقم (4598) .
[ (5) ] آل عمران: 7.
[ (6) ] (سبق تخريجه) .
[ (7) ] (سبق تخريجه) .
[ (8) ] (سبق تخريجه) .
[ (9) ] (سبق تخريجه) .(12/361)
شرح السنة،
قال أيوب: لا أعلم أحدا من أصحاب الأهواء إلا وهو تعلل بالتشابه.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم باكتفاء قوم بما في القرآن وردهم سنته صلّى اللَّه عليه وسلم فكان كما أخبر
فخرج بقي بن مخلد من حديث زائد بن الخباب قال: حدثني الحسن عن جابر أنه سمع المقدام بن معديكرب يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب اللَّه، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرّمناه، وإن ما حرّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كما حرم اللَّه عز وجل [ (1) ] .
وخرجه الترمذي [ (2) ] أيضا من حديث معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر اللخمي، عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب اللَّه فما وجدنا فيه حلالا أحلناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كما حرم اللَّه.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 5/ 12، كتاب السنة، باب (6) لزوم السنة، حديث رقم (4605) ، وفي (مسند أحمد) : 7/ 16، حديث رقم (23349) ، (سنن ابن ماجة) : 1/ 6- 7، باب (2) تعظيم حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والتغليظ من معارضته حديث رقم (13) ، في (المستدرك) : 1/ 190، 191، كتاب العلم حديث رقم (368) ، بسياق مختلف.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 37، كتاب العلم، باب (10) ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (2664) .(12/362)
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، والأريكة السرير، يريد صلّى اللَّه عليه وسلم أهل الترف والدعة، الذين لزموا بيوتهم، ولم يطلبوا العلم من مظانه يحذر بذلك من مخالفة السنن التي سنها صلّى اللَّه عليه وسلم بما ليس له في القرآن ذكر. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بظهور الروافض والقدرية
فخرج البيهقي [ (1) ] وأبو عبد اللَّه بن الحافظ من حديث الأسود بن عامر قال:
أخبرني أبو سهل قال: أخبرني كثير النواء قال: أخبرنا إبراهيم بن الحسن عن أبيه، عن جده قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يخرج قبل قيام الساعة قوم يقال لهم:
الرافضة برءاء من الإسلام.
ومن حديث المتوكل [ (2) ] عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبى طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يكون في أمتي قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الإسلام.
قال البيهقي تفرد به كثير النواء وكان من الشيعة.
وروي من وجه آخر ضعيف فذكره من حديث الحجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه فاقتلوهم فإنّهم مشركون.
يقال وروي في معناه من وجوه أخر كلها ضعيفة.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 547، باب (1) ما جاء في إخباره بظهور الروافض والقدرية إن صح الحديث فيه فظهروا.
[ (2) ] (المرجع السابق) .(12/363)
وقال الحافظ [ (1) ] أبو نعيم: غريب تفرد به الحجاج بن تميم عن ميمون، ورواه يوسف بن عدي، عن الحجاج بن تميم نحوه.
وخرج من حديث سعيد بن أبي أيوب قال: أخبرنا أبو صخر، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إنه سيكون في أمتى أقوام يكذبون بالقدر.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالكذب عليه فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج مسلم [ (2) ] من حديث سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني أبو هانئ عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم.
ومن طريق ابن وهب [ (3) ] قال: حدثني أبو شريح أنه سمع شراحيل بن يزيد يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم.
ومن حديث أبي عوانة عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إن بين يدي الساعة كذابين.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 397، كتاب القدر، باب (16) بدون ترجمة، حديث رقم (2152) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 192، كتاب مقدمه الصحيح، باب (4) النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط من تحملها حديث رقم (6) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 1/ 193 حديث رقم (7) .(12/364)
وعن عامر بن عبدة قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتى القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون» [ (1) ] فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أحرقوا وجهه ولا أدرى اسمه يحدث.
وقال مسلم عن معمر، عن ابن طاوس، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا [ (2) ] .
قال البيهقي [ (3) ] : وقد روى ذلك عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعا.
وخرج البيهقي [ (4) ] من حديث عبد اللَّه بن يزيد المقري، عن سعيد بن أبي أيوب، عن ابن عجلان، عن عبد الواحد النصري، عن واثلة بن الأسقع قال:
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يطوف إبليس في الأسواق ويقول حدثنا:
فلان بن فلان بكذا وكذا.
وقال ابن المبارك، عن سفيان حدثنا من رأى قاصا يقص في مسجد الخيف أو نحوه قال: فطلبته فإذا هو شيطان [ (5) ] .
وقال الحافظ [ (6) ] أبو أحمد بن عدي، عن عمران بن موسى، عن محمد بن يوسف السراج، عن عيسى بن أبي فاطمة الفزاري يقول: كنت جالسا عند شيخ في المسجد الحرام أكتب عنه، فقال الشيخ الشيبانيّ: فقال رجل: حدثني الشيبانيّ فقال عن الشعبي فقال: حدثني الشعبي فقال: عن الحارث قد واللَّه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 550، باب ما جاء في إخباره عما يكون في آخر أمته من الكذابين والشياطين الذين يكذبون في الحديث فكان كما أخبر.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 194، مقدمة الصحيح، باب (4) النهى عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط من تحملها، حديث رقم (7) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 550، باب ما جاء في إخباره عما يكون في آخر أمته من الكذابين والشياطين الذين يكذبون في الحديث فكان كما أخبر.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 551.
[ (5) ] (المرجع السابق) .
[ (6) ] (المرجع السابق) .(12/365)
رأيت الحارث وسمعت منه قال عن علي قال: قد واللَّه رأيت عليا وسمعت منه وشهدت معه صفين فلما رأيت ذلك قرأت آية الكرسي فلما قلت: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما التفت فلم أر شيئا.
وأما ظهور صدقة فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام من تغير الناس بعد خيار القرون
فخرج البخاري في كتاب الشهادات [ (1) ] وفي الفضائل [ (2) ] من حديث سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء أقوام يسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» .
قال إبراهيم: «وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد» .
وخرجه مسلم [ (3) ] في كتاب المناقب من حديث أبي الأحوص عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة السلماني، عن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: ثم يتخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته.
وخرج البخاري [ (4) ] من حديث يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني أبو حمزة، عن زهدم بن مضرب، سمعت عمران بن حصين يحدث عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم-
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 324، كتاب الشهادات، باب (9) لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 3، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم باب (1) فضائل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومن صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، حديث رقم (3652) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 320، كتاب فضائل الصحابة، باب (52) فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم حديث رقم (212) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 5/ 324، كتاب الشهادات، باب (9) لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، حديث رقم (2651) .(12/366)
قال عمران: لا أدرى أذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة- قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» .
وخرجه في المناقب [ (1) ] وفي الشهادات [ (2) ] وفي الرقاق [ (3) ] كلها من حديث شعبة عن أبي حمزة. وخرجه مسلم من طرق عن شعبة، عن أبي حمزة.
وخرج الترمذي [ (4) ] من حديث محمد بن فضل، عن الأعمش عن على بن مدرك، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: «خير أمتي القرن الّذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم. قال: ولا أعلم ذكر الثالث أم لا، ثم ينشأ أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمون ويفشو فيهم السمن» .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، من حديث الأعمش، عن على بن مدرك، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فذكر نحوه،
وقال: هذا أصح عندي من حديث محمد بن فضيل، قال: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها إنما يعنى شهادة الزور يقول: يشهد أحدهم من غير أن يستشهد، وبيان هذا في
حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يشهد، ويحلف الرجل ولا يستحلف،
ومعنى حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خير الشهداء
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 7/ 3، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب (1) فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومن صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، حديث رقم (3650) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : كتاب الشهادات حديث رقم (2651) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 11/ 293، كتاب الرقاق، باب (7) ما يحذر من زهرة الدنيا، والتنافس فيها، حديث رقم (6428) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 4/ 433- 434، كتاب الفتن باب (45) ما جاء في القرن الثالث، حديث رقم (2222) .(12/367)
الّذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها هو عندنا إذا أشهد الرجل على الشيء أن يؤدى شهادته ولا يمنع من الشهادة، واللَّه أعلم [ (1) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بأن طائفة من أمته متمسكة بالدين إلى قيام الساعة
فخرج البخاري في كتاب [المناقب] [ (2) ] وفي كتاب التوحيد [ (3) ] من حديث الوليد بن مسلم، [قال] ابن جابر حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية يقول: «لا تزال طائفة من أمتي أمة قائمة بدين اللَّه لا يضرهم من كذبهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك» .
قال عمير: فقال مالك بن عامر سمعت معاذا يقول وهم بالشام: فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذا يقول: وهم بالشام
وخرجه مسلم [ (4) ] من حديث يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن عمير بن هانئ حدثه قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللَّه لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم ظاهرون على الناس.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 4/ 476، كتاب الشهادات، باب (4) ما جاء في شهادة الزور، حديث رقم (2303) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 363، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب (109)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق وهم أهل العلم»
حديث رقم (7311) ، وما بين الحاصرتين في (الأصل) فقط.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 542، كتاب التوحيد، باب (29) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ حديث رقم (7460) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 71، كتاب الإمارة، باب (53)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم»
حديث رقم (174) .(12/368)
وخرج البخاري في كتاب المناقب [ (1) ] من حديث يحيى، عن إسماعيل، عن قيس، سمعت المغيرة بن شعبة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «لا يزال ناس من أمتى ظاهرين، حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم ظاهرين» وخرجه في كتاب الاعتصام [ (2) ] من حديث عبيد اللَّه بن موسى، عن إسماعيل عن قيس، عن المغيرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم ظاهرين.»
وخرجه في كتاب التوحيد [ (3) ] من حديث إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس عن المغيرة قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: «لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر اللَّه» .
وخرجه مسلم [ (4) ] من حديث وكيع عن ابن نمير حدثنا وكيع وعبدة كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أبي عمر «واللفظ له» : حدثنا مروان «يعنى الفزاري» عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم ظاهرين» .
وخرج مسلم [ (5) ] من حديث شعبة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 784، كتاب المناقب، باب (28) بدون ترجمة حديث رقم (3640) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 363، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (10)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل العام» ،
حديث رقم (7311) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 542، كتاب التوحيد، باب (29) قول اللَّه تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ. حديث رقم (7459) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 70، كتاب الإمارة، باب (53)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» .
حديث رقم (171) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 71، كتاب الإمارة، باب (53)
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» .
حديث رقم (172) .(12/369)
حتى تقوم الساعة.
ومن حديث ابن جريح [ (1) ] أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر ابن عبد اللَّه يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» .
وخرج من حديث عبد اللَّه [ (2) ] بن وهب قال: حدثنا عمرو بن الحرث حدثني يزيد بن أبي حبيب حدثني عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، فقال عبد اللَّه: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم من أهل الجاهلية، لا يدعون اللَّه بشيء إلا رده عليهم فبينما هم على ذلك إذ أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد اللَّه
فقال عقبة: هو أعلم وأما أنا فسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر اللَّه قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك فقال عبد اللَّه: أجل ثم يبعث اللَّه ريحا كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة» .
وخرج من حديث داود [ (3) ] بن أبي هند، عن أبي عثمان، عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» .
وخرجه البزار من حديث داود بهذا الإسناد ولفظه: لأقوام أهل الغرب ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة» .
قال وخرج مسلم [ (4) ] من حديث حماد بن زيد عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم كذلك.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (173) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 13/ 72، حديث رقم (176) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 72- 73، حديث رقم (177) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 13/ 70، حديث رقم (170) .(12/370)
قال المؤلف- رحمه اللَّه تعالى وعفا عنه-: هذا جزء من حديث فيه طول وقد جاء مسلم بجملة منه في كتاب الفتن، وجاء به أبو داود بكماله، وأوردته في وقوع بأس الأمة بينهم.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث حماد، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيخ الدجال» .
وخرج الترمذي [ (2) ] من حديث قتيبة بن سعيد، عن حماد بن يزيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبيّ، عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين قال: وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر اللَّه» .
قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت على بن المديني يقول وذكر هذا الحديث، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. فقال علي: هم أهل الحديث، وذكره في الفتن.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 11، كتاب الجهاد، باب (4) دوام الجهاد، حديث رقم (2484) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 437- 438، كتاب الفتن، باب (51) ، ما جاء في الأئمة المضلين، حديث رقم (2229) .(12/371)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بما يرويه بعده فوقع ما أنذرهم به
فخرج البخاري في باب علامات النبوة [ (1) ] من حديث أبي نعيم، عن عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: «خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم فكان آخر مجلس جلس فيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. وخرجه في المناقب [ (2) ] وفي كتاب الجمعة [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث زهير عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أنس ابن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دعا الأنصار ليكتب لهم بالبحرين، قالوا: لا واللَّه حتى تكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فقال: ذاك لهم ما شاء اللَّه على ذلك يقولون له، قال: فإنكم سترون بعدي أثره فاصبروا حتى تلقوني على الحوض [ (4) ] . ترجم عليه باب ما أقطع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من البحرين. وخرجه في آخر كتاب الشرب من حديث حماد بن زيد عن يحيى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 779، كتاب المناقب، باب (25) ، علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3628) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 152، كتاب مناقب الأنصار، باب (11)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم «أقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» ،
حديث رقم (3799) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 2/ 513، كتاب الجمعة، باب (29) من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، حديث رقم (927) وخرجه الترمذي برقم (3900) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 329، كتاب الجزية والموادعة، باب (4) ما أقطع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من البحرين وما وعد من مال البحرين والجزية ولمن يقسم الفيء والجزية؟، حديث رقم (3163) ، في الأصل كتاب الأشربة وصوابه، (كتاب الجزية والموادعة) .(12/372)
بنحوه ولم يقل على الحوض، ترجم عليه باب القطائع، وخرجه في باب كتابة القطائع تعليقا وقال الليث، عن يحيى بن سعيد ووصله قاسم بن أصبغ فقال:
مطلب بن شعيب، عن صالح قال: حدثني الليث عن يحيى، عن أنس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دعا الأنصار. والحديث كما ذكره البخاري عن الليث.
وأما إخباره عليه الصلاة والسلام بخروج نار بالحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى فكان كما أخبر
وخرج من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي، عن حذيفة عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال:
حدثني أبي عن جدي قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني ابن المسيب أخبرني أبو هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى [ (1) ] .
وقال الحاكم [ (2) ] : وقد روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في أشراط الساعة خروج النار من أرض الحجاز عاصم بن عدي الأنصاري، وأبو هريرة، وأبو ذر الغفاريّ وذكر ذلك بأسانيده وصححها.
وروى أبو البداح بن عاصم الأنصاري، عن أبيه أنه قال: سألنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حدثان ما قدم فقال: «أين حبس سيل» [ (3) ] ؟ قلنا: لا ندري فمر بي رجل من بني سليم فقلت: من أين جئت؟ فقال: من حبس سيل، فدعوت بنعلي
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 98، كتاب الفتن، باب (24) خروج النار، حديث رقم (7188) ، وأخرجه أيضا في (مسلم بشرح النووي) : 18/ 246، كتاب الفتن، باب (14) لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، حديث (42) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 489- 490، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8367) .
[ (3) ] حبس سيل: إحدى حرّتي بنى سليم، وقال الأصمعي: الحبس جبل مشرف على السلماء (معجم البلدان) : 2/ 246، موضع رقم (3480) .(12/373)
فانحدرت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه سألتنا عن حبس سيل وأنه لم يكن لنا به علم وأنه مر بي هذا الرجل فسألته فزعم أن به أهله فسأله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: «أين أهلك» ؟ قال: بحبس سيل، فقال: «أخر أهلك فإنه يوشك أن تخرج منه نار تضيء أعناق الإبل ببصرى» .
قال المؤلف [ (1) ]- رحمه اللَّه-: قد صدق اللَّه تعالى ما أنذر به رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك فظهرت بأرض الحجاز إلى خامس جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة من سنن الهجرة واستمرت شهرا شرقي المدينة النبويّة بناحية وادي شظا تلقاء جبل أحد حتى امتلأت تلك الأودية منها وصار يخرج منها شرر يأكل الحجارة وزلزلت المدينة بسببها وسمع الناس أصواتا مزعجة قبل ظهورها بخمسة أيام أولها يوم الإثنين أول الشهر فلم تزل الأصوات ليلا ونهارا حتى ظهرت النار يوم الجمعة خامسه وقد انتجت الأرض عن نار عظيمة عند وادي شظا وامتدت أربعة فراسخ في أربعة أميال وعمق قامة ونصف فسال الصخر منها ثم صار فحما أسود وأضاءت بيوت المدينة منها في الليل حتى كأن في كل بيت مصباح ورأى الناس سناها بمكة وذكر غير واحد من الأعراب الذين كانوا بحاضرة بصرى من أرض الشام أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء النار المذكورة فالتجأ الناس بالمدينة النبويّة إلى قبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ودعوا واستغفروا اللَّه تعالى وأعتقوا عبيدهم وإماءهم وتصدقوا في هذه النار يقول:
يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا ونحن بها حقا أحقاء
زلزال تخشع الصم الصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شماء
[أقام سبعا يرج الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء]
بحر من النار تجرى فوقه سفن ... من الهضاب لها في الأرض أرساء
كأنما فوقه الأجبال طافية ... موج عليه لفرط اليهج وعثاء
ترمى لها شررا كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصب هطلاء.
__________
[ (1) ] يراجع في ذلك (مرآة الجنان) لليافعي: 4/ 130- 131، ويراجع أيضا في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) : 3/ 263- 264، (البداية والنهاية) : 13/ 219- 225.(12/374)
[تنشق منها قلوب الصخر إن زفت ... رعبا وترعد مثل السعف أضواء]
منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سفعة في البدر لفحتها ... فليلة التيم بعد النور ليلاء
تحدثت النيران السبع ألسنتها ... بما يلاقى بها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ... إن كاد يلحقها بالأرض إهواء
فيا لها آية من معجزات رسول ... اللَّه يعقلها القوم الألباء
[فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء]
فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الجهل خطاء
[فقوم يونس لما آمنوا كشف العذاب ... عنهم وعم القوم نعماء]
[ونحن أمة هذا المصطفى ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعاء]
[هذا الرسول الّذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل اللَّه بيضاء]
[فارحم وصلّ على المختار ما خطبت ... على علا منبر الأوراق ورقاء] .(12/375)
وأما أخباره عليه أفضل الصلاة والسلام بغرق أحجار الزيت بالدم فكان كذلك
فخرج أبو داود [ (1) ] لحديث حماد بن يزيد، عن أبي عمران الجوني، عن المشعث بن طريف، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول اللَّه وسعديك، فذكر الحديث، قال فيه: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟ [يعنى القبر] قلت: اللَّه ورسوله أعلم، أو قال: من خار اللَّه لي ورسوله، قال:
عليك بالصبر، أو قال: تصبر، ثم قال لي: يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك.
قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار اللَّه لي ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه، قلت: يا رسول اللَّه أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذن، قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك، قلت: فإن دخل عليّ بيتي قال: فإذا خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه.
وخرجه ابن ماجة [ (2) ] بنحوه في الفتن.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 4/ 458- 459، كتاب الفتن، باب (2) النهي عن السعي في الفتنة، حديث رقم (4261) .
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 2/ 1308، كتاب الفتن، باب (10) التثبت في الفتنة، حديث رقم (3958) «حتى تقوم» من التقويم، أي يقوم البيت بالوصيف. «بالوصيف» المراد بالبيت القبر، وبالوصيف الخادم والعبد، أي يكون العبد قيمة القبر بسبب كثرة الأموات. وقيل: المراد بالبيت المتعارف. والمعنى أن البيوت تصير رخيصة لكثرة الموت وقلة من يسكنها.
فيباع البيت بعبد. «حجارة الزيت» موضع بالمدينة في الحرة سمي بها لسواد الحجارة، كأنها طليت بالزيت، أي الدم يعلو حجارة الزيت ويسترها لكثرة القتلى وهذا إشارة إلى وقعة الحرة التي كانت زمن يزيد. «بمن أنت منه» أي بأهلك وعشيرتك.(12/376)
وخرجه الحاكم [ (1) ] من حديث معمر وحماد بن سلمة قالا: حدثنا أبو عمران الجولى، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذر فذكره بمعنى حديث أبي داود، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وقد خرجه البخاري [ (2) ] من حديث همام عن أبي عمران وقد زاد حماد بن زيد في إسناده بين أبي عمران الجوفى وعبد اللَّه بن الصامت المشعث بن طريق بزيادة في المتن وحماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة.
قال المؤلف- رحمة اللَّه تعالى-: أحجار الزيت بالمدينة النبويّة [ (3) ] وعندها قيل محمد الملقب بالمهديّ وبالنفس الزكية ابن عبد اللَّه بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رضوان اللَّه عليهم وذلك أن أبا جعفر عبد اللَّه بن المنصور بن على بن عبد اللَّه بن عباس ثانى خلفاء بنى العباس ألح في طلبه فطلب أخيه إبراهيم بن عبد اللَّه فقام محمد بالمدينة ليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة فلما بلغ المنصور ترك بالكوفة وسرح عيسى بن موسى بن محمد بن عبد اللَّه بن عباس لقتال محمد، فخندق محمد على المدينة ونزل عيسى الأعوض فتفرق أكثر الناس عن محمد وبقي في شرذمة قليلة فقاتل عيسى لأيام مضت من شهر رمضان إلى أن قتل عند أحجار الزيت في يوم الإثنين لأربع عشرة خلت منه وقتل معه كثير وأخذ عيسى المدينة وصلب من أهلها عالما كثيرا وبسبب محمد هذا ضرب موسى بن عيسى الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه.
وقد قال كعب الأحبار: إني أجد أحجار الزيت في كتاب اللَّه تعالى وإنها ستكون بالمدينة ملحمة عندها.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 470، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8305) وقال الحافظ الذهبي:
في (التلخيص) صحيح على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] ذكر ابن الأثير في (جامع الأصول) أن هذا الحديث لأبي داود فقط.
[ (3) ] موضع بالمدينة قريب من الزوراء، وهو موضع صلاة الاستسقاء. (معجم البلدان) : 1/ 135 موضع رقم (270) .(12/377)
وقال محمد بن عبد اللَّه لعبد اللَّه بن عامر السلمي: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت، قال:
فو اللَّه لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا وتجاوزتنا إلى عيسى بن موسى وأصحابه فظفروا وقتلوا محمدا ورأيت دمه عند أحجار الزيت.
وأما إخباره عليه أفضل الصلاة والسلام بالخسف الّذي يكون من بعده فكان كما أخبر
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث سفيان بن عيينة عن فرات القزاز عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ قال: اطلع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، قال: ما تذكرون؟ قالوا تذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.
وخرجه من حديث شعبة عن فرات بنحوه وخرجه الحاكم [ (2) ] من حديث صدقة بن المنتصر الشعبانيّ عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرميّ حدثتني واثلة بن الأسقع رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدجال، والدخان، ونزول عيسى ابن مريم، فيأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر وتحشر الذر والنمل،
وقال الحاكم هذا حديث صحيح
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 243، كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (13) الآيات التي تكون قبل الساعة، حديث رقم (39) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 474، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8317) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/378)
الإسناد،
وخرج من حديث يزيد بن هارون قال: أنبأنا سعيد بن إياس الجريريّ، عن أبي العلاء بن الشخير عن عبد الرحمن بن صحار العبديّ، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل من العرب»
فيقال من بقي من بني فلان؟ قال: فعرفت حتى قال: قبائل أنها العرب لأن العجم تنسب إلى قراها [ (1) ] . قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد.
ومن حديث عبد اللَّه بن نمير قال: الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي الزبير عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «في أمتي خسف ومسخ وقذف
[ (2) ] قال الحاكم إن كان أبو الزبير سمع من عبد اللَّه بن عمر فإنه صحيح على شرط مسلم.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن يعنى بن زبالة، عن محمد ابن يعقوب بن عتبة، عن عبد اللَّه بن عكرمة بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير [أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] قال: يكون في آخر أمتي مسخ وخسف وقذف، وذلك عند ظهور شيء من عمل لوط.
قال المؤلف- رحمه اللَّه تعالى-: أما الخسف الّذي بالمغرب فذكر الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتاب (شذور العقود في تاريخ اليهود) أن في سنة سبع وثلاثين ومائة ورجعت للكتب من المغرب إن ثلاث عشرة قرن من صف بها فلم ينفج منها إلا اثنان وأربعون رجلا سود الوجوه وأن في سنة اثنين وأربعين ومائتين رجمت قرية السويداء بناحية مضر بخمسة أحجار وقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، ووزن منها حجر فكال عشرة أرطال. وذكر أنه سنة خمس وعشرين وأربع مائة هدم نحو من نصف رملة لدى فلسطين بالزلزلة وخسف بقرى، وسقط بعض حائط بيت المقدس.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 4/ 492، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8375) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) على شرط مسلم وإن كان أبو الزبير سمع من عبد اللَّه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8376) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح، وخرجه أيضا في (الترمذي) : 4/ 429، كتاب الفتن، باب (38) ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، حديث رقم (2212) .(12/379)
انتهى. وفي سنة إحدى وتسعين وسبعمائة خسف بمدينة نشاور من خراسان وهلك. وأنه في صفر هبت عندهم ريح عاصفة ارتجت الأرض من شدة هبوبها ثم زلزلت زلزلة مهولة اشتد اضطراب الأرض لها بحيث كان الإنسان والحيوان في غير ذلك يرتفع عن الأرض أكثر من عشرة أذرع وصارت الأرض تنقل من موضع إلى موضع حتى جميع مباني المدينة بأسرها اهتزت اهتزازا شديدا.
أقامت كذلك أربعة أيام ثم سكتت في اليوم الرابع فاطمأن الناس قليلا وغدا بريح عاتية تعتعت كل ما هنالك تعتعه عنيفة جدا فانقلبت المدينة حتى صار عاليها سافلها وابتلعت الأرض ما كان بها من المباني على اختلافها فخسف بها وبأهاليها عن آخرهم فلم يسلم من الناس مع كثرتهم إلا النادر، وقد بسطت خبر هذا الخسف في كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) .
وفي سنة أربع وثلاثين وثمان مائة خسف بثلاث بلاد كبيرة في مرج مدينة أشجرباطه من جزيرة الأندلس وذلك أنه كانت زلزلة شديدة في شعبان منها بمرج غرناطة سقط بها مباني كثيرة جدا على سكانها فهلكوا بأجمعهم وابتلعت الأرض البلاد الثلاثة بأناسها وحيوانها وهي همدان. قال لورة ودارما وخسف أيضا بعدة مواضع من البلاد المجاورة تعليقا وأقامت الأرض عندهم بعد ذلك خمسة وأربعون يوما تعثر حتى يسكن الناس الصخر، ولهذه الحادثة مبسط في كتاب (السلوك) .(12/380)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بولاية أمر الناس غير أهلها وما يترقب من مقت اللَّه عند ذلك
فخرج البخاري [ (1) ] في كتاب العلم من حديث محمد بن فليح، عن أبي قال:
حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابى فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول اللَّه قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» . قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» .
وذكره أيضا في الرقاق [ (2) ] مختصرا، فخرج في باب الأمانة من حديث فليح بن سليمان، عن هلال بن على، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول اللَّه؟ قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» .
وخرج الترمذي [ (3) ] من حديث المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 188- 189، كتاب العلم، باب (2) من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، حديث رقم (59) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 11/ 404، كتاب الرقاق، باب (35) رفع الأمانة، حديث رقم (6496) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 428- 429، كتاب الفتن، باب (38) ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، حديث رقم (2211) .(12/381)
وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء، وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظم قطع سلكه فتتابع.
قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وخرج من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي عن حذيفة بن اليمان رضي اللَّه وتبارك عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن عمرو [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث وكيع عن الوليد بن عبد اللَّه بن جميع عن الجهم بن أبي الجهم عن ابن نيار قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول «لا تذهب الدنيا حتى تكون للكع بن لكع» .
وخرج ابن حبان في (صحيحه) [ (3) ] من حديث أشهل، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني زفر بن عبد الرحمن ابن أردك، عن محمد بن سليمان بن والبة، عن سعيد ابن جبير، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: «والّذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل، ويخون الأمين، ويؤتمن الخائن، ويهلك الوعول، وتظهر التحوت» قالوا: يا رسول اللَّه، وما الوعول والتحوت؟ قال «الوعول:
وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 427- 428، كتاب الفتن، باب (37) حديث رقم (2209) وخرجه أيضا في (مسند أحمد) : 6/ 538، حديث رقم (538) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 506، حديث رقم (15404) .
[ (3) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 258، حديث رقم (6844) ، وقال في هامشه إسماعيل بن أبى أويس فيه لين كمال قال الذهبي. ومحمد بن سليمان لم يوثقه أحد غير المؤلف، وأخرجه البخاري في (تاريخه) : 1/ 98 لإسماعيل بن أبى أويس بهذا الإسناد، وأخرجه الحاكم عن أبي عبد اللَّه بن محمد بن يعقوب الحافظ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى الشهيد، والفضل بن محمد بن المسير الشعراني، قالا: حدثنا إسماعيل ابن أبي أويس به، وقال هذا حديث رواته كلهم مدنيون مما لم ينسبوا إلى نوع من الجرح، وأقره الذهبي.(12/382)
وخرج الترمذي [ (1) ] أيضا من حديث عمرو بن أبي عمرو بهذا السند أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «والّذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم» .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن، إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمرو.
وخرج الإمام [ (2) ] أحمد من حديث عبد الملك بن عمرو حدثنا كثير بن زيد، عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما، فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله.
ومن حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد وحميد في آخرين عن الحسن، عن أبي بكرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إنه قال: «إن اللَّه تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر [ (3) ] .
وروى أبو سعيد بن يونس. من حديث ابن وهب قال: حدثني ابن لهيعة، بكر بن سوادة عمن حدثه ابني خثيم قدموا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال لهم:
ما رأيتم؟ قالوا: لا شيء، قال لتخبروني، وفي رواية: قالوا رأينا حمارا قد علته قوائمه قال: فماذا قلتم؟ قالوا قلنا تعلو سفلة الناس ويتضع سراتهم فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: فإنه كذلك.
ومن طريق وهب قال: أخبرني أبو شريح عبد الرحمن بن شريح، عن إسماعيل بن قاسم الرعينيّ أن عبد اللَّه بن مسعود قال: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 407، كتاب الفتن، باب (9) ما جاء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حديث رقم (2170) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 587، حديث رقم (23074) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 2/ 596، حديث رقم (8029) .(12/383)
ومن طريق ابن وهب قال: حدثني عبد اللَّه الرحمن بن شريح أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدث عن طلحة الخولانيّ، عن أبي ذر قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ستبتلى هذه الأمة رجلا وفي رواية تبلى هذه الأمة شرها رجلا
قال: ابن يونس ما أعرف هذا إلا من حديث أبي شريح عبد الرحمن ابن شريح.
وروى بن عباس وأبو بكر يعنى ابن عياش وجرير، عن عبد اللَّه بن العزيز بن رفيع، عن شداد بن معقل، قال: سمعت عبد اللَّه بن مسعود يقول:
أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما يبقى الصلاة وسيصلي قوم لا دين لهم.(12/384)
أما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بكثرة أولاد الزنا
فخرج الحاكم [ (1) ] من طريق ابن وهب قال: أخبرنى يحيى بن أيوب عن زبان بن فائد عن سهيل بن معاذ بن أنس عن أبيه رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تزال الأمة على شريعة ما لم تظهر فيهم ثلاث: ما لم يقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الخبث ويظهر فيهم السقارون قالوا: وما السقارون يا رسول اللَّه؟ قال بشر يكونون في آخر الزمان تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن.
قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد اللَّه ابن عثمان عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن عبد اللَّه بن أبي رافع، عن ميمونة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لا تزال أمتى بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذ فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم اللَّه عز وجل بعقاب.
وقد ظهر ولا قوة إلا باللَّه مع قلة العلم كثرة أولاد الزنا فإن تيمور لما أخذ بلاد فارس، وعراقي العجم، والعرب، وبلاد الجزيرة، وأرض الروم، والهند، وبلاد الشام، عاشت رجاله في نساء هذه الممالك وسبوهن فلم تكد ينج منهم إلا القليل الأقل من النساء فمعظم من في تلك البلاد إنما هم أولاد تلك النساء اللاتي زنى بهن التيمورية وقد قدم إلى مصر والحجاز واليمن من هؤلاء عالم كبير ما بين من تسمى بفقيه، ومظهر زي التصوف وتاجر واختلطوا بالناس، ونكحوا من نسائهم، فدلت أخلاقهم وطرائقهم في دينهم ودنياهم على خبث أصولهم وللَّه الأمر من قبل ومن بعد،
وقد قالت أم سليم: يا رسول اللَّه أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
فسّره أهل العلم بأولاد الزنا فيا لها بطشة من اللَّه بعباده وأشنعها. توفاني اللَّه قبلها.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 491، كتاب الفتن والملاحم باب (50) حديث رقم (8371) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : منكر، وزبان لم يخرجا له.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 469، حديث رقم (26290) .(12/385)
وأما إخباره عليه الصلاة وأتم التسليم بعود الإسلام إلى الغربة كما بدأ، وأنه تنقض عراه
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث مروان عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.
ومن حديث عاصم بن محمد العمري، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن الإسلام بدأ غريبا فطوبى للغرباء.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن مسعود إنما نعرفه من حديث حفص بن خباب، عن الأعمش. وأبو
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 1/ 275- حديث رقم (62) ، (63) .
قال النووي في شرح مسلم:
«بدأ الإسلام غريبا»
كذا ضبطناه: «بدأ» بالهمزة من الابتداء و «طوبى» فعلى من الطيب. قال الفراء: وإنما جاءت الواو لضمة الطاء، قال: وفيها لغتان.
تقول العرب: طوباك، وطوبى لك.
وأما معنى «طوب» فاختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: طُوبى لَهُمْ [الرعد: 29] فروى عن ابن عباس أن معناه: فرح وقرة عين، وقال عكرمة: نعمى لهم، وقال الضحاك: غبطة لهم وقال قتادة: حسنى لهم، وعن قتادة أيضا معناه: أصابوا خيرا، وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة. وقال عجلان: دوام الخير، وقيل: الجنة، وقيل: شجرة في الجنة، وكل هذه الأقوال محتملة الحديث.
وقال القاضي عياض: روى ابن أبي أويس عن مالك: معنى بدأ غريبا، أي بدأ الإسلام غريبا في المدينة، وسيعود إليها.
وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر، ثم سيلحق أهله النقص والاختلاف، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا بدأ.
وجاء في الحديث تفسير الغرباء «هم النزاع من القبائل» قال الهروي: أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى اللَّه تعالى.
نقول وللحافظ ابن رجب الحنبلي رسالة قيمة استوفى فيها شرح هذا الحديث سماها «كشف الكربة في وصف أهل الغربة» .(12/386)
الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نصله الجشمي تفرد به حفص.
ومن حديث إسماعيل بن أبي فديك حدثني كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف بن يزيد بن مسلخه، عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «إن [ (1) ] الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل إن الدين بدأ غريبا، وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس [من بعدي] من سنتي. قال ابو عيسى: هذا حديث حسن، وخرجه أبو بكر الآجري من حديث حفص بن غياث عن الأعمش، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء. قيل ومن هم يا رسول اللَّه؟ قال الذين يصلحون إذا فسد الناس.
وخرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث محمد بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل، والّذي نفس أبي القاسم بيده ليأرزن الإسلام بين هذين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها.
ومن حديث ابن لهيعة، عن الحرث بن يزيد، عن جندب بن عبد اللَّه أنه سمع سفيان بن وهب يقول: سمعت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال:
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: طوبى للغرباء فقيل من الغرباء يا رسول
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 9/ 341، حديث رقم (6974) .
«قوله» : ليعقلن أي: لبعضهم ويلتجئ ويحتمي.
«وقوله» : (الأروية) : الشاة الواحدة من شياه الجبل، وجمعها: أروى.
«قوله» : (طوبى) :
اسم الجنة، أي: فالجنة لأولئك المسلمين الذين كانوا غرباء في أول الإسلام والذين يصيرون غرباء بين الكفار في آخره لصبرهم على أذى الكفار أولا وآخرا، أو لزومهم الإسلام.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 657- 658، حديث رقم (3775) باختلاف يسير في اللفظ.(12/387)
اللَّه؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم [ (1) ] .
وقال عبد اللَّه بن أبي فروة، عن يوسف بن سليمان، عن جدته ميمونة، عن عبد اللَّه الرحمن بن شيته الأسلمي أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: بدأ الإسلام غريبا ثم يعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل يا رسول اللَّه ومن الغرباء؟ قال الذين يصلحون إذ أفسد الناس، والّذي نفسي بيده ليأرزن الإسلام بين هذين المسجدين كما تأرز الحية إلى حجرها.
قال ابن عبد الرحمن بن شيبة الأسلمي روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الإسلام بدأ غريبا
الحديث وفي الإسناد عنه ضعف.
وخرج [أبو عبد اللَّه الحاكم] [ (2) ] من حديث الوليد بن مسلم، حدثني عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد اللَّه أن سليمان بن حبيب حدثهم عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لتنتقض عري الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبثت بالتي تليها، وأول نقضها الحكم، وآخرها الصلاة.
قال الحاكم: والإسناد كله صحيح.
ومن حديث هيثم بن خارجة، عن ضمرة، عن يحيى بن أبي عمرو، عن ابن هزور اليلمي، عن ابنه قال: قال صلّى اللَّه عليه وسلم: لتنقضوا [ (3) ] الإسلام عروة كما ينقض الحبل فوة فوة
ومن حديث الأوزاعي حدثني أبو عمار قال حدثني جابر ابن عبد اللَّه قال: قدمت من سفر فجاءني جابر يسلم عليّ فجعلت أحدثه بافتراق الناس وما أحدثوا فجعل جابر يبكي ثم قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن الناس دخلوا في دين اللَّه أفواجا وسيخرجون منه أفواجا والحمد للَّه رب العالمين على كل حال.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 2/ 370، حديث رقم (6612) .
[ (2) ] في (الأصل) : «الإمام أحمد» ، والصواب ما أثبتناه. (المستدرك) : 4/ 104، كتاب الأحكام حديث رقم (7022) .
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(12/388)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بتغلب الترك على أهل الإسلام فكان كما أخبر
فخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث بشير بن المهاجر قال: حدثني عبد اللَّه ابن بريدة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فسمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه، صغار الأعين كأن وجوههم مثل الحجف ثلاث مرات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب أما السابقة الأولى: فينجو من هرب منهم، وأما الثانية: فينجو بعض ويهلك بعض، وأما الثالثة: فيصطلون كلهم من بقي منهم، قالوا: يا رسول اللَّه من هم؟ قال: هم الترك، قال أما والّذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين قال: وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من البلاء من أمراء الترك.
وخرجه الحاكم بنحو أو قريب منه وقال هذا حديث صحيح الإسناد.
قال المؤلف عفا اللَّه عنه: وله شواهد تقدمت، وقد أوضح صحة هذا الحديث ما كان من خروج جنكيزخان وأولاده واستيلائهم من سنة بضع عشرة وستمائة على ممالك الشرق وعراقي العرب والعجم إلى حدود جزيرة العرب واصطلامهم أهل الإسلام من تلك الممالك.
وذكر الحاكم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال: كأني بالروم قد أتتكم على براذين محدمة الأذان حتى تربطها بشط الفرات. ومن طريق قتادة، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: يوشك [ (2) ] بنو قنطوراء بن كركر أن يخرجوا أهل العراق من أرضهم. قلت: ثم يعودون؟
قال: إنك لتشتهي ذلك! قال: ويكون لهم سلوة من عيش.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 478، حديث رقم (22442) ، (المستدرك) 4/ 521، كتاب الفتن، باب (50) ، حديث رقم (8463) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 522، كتاب الفتن والملاحم باب (50) حديث رقم (8466، 8467) .(12/389)
قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، وبنو قنطور هم الترك.
قال المؤلف- عفا اللَّه عنه-: قد أخرج الترك أهل العراق ونزلوا شاطئ الفرات في سنة ست وخمسين وستمائة.
وذكر عبد اللَّه بن قتيبة من حديث عبد اللَّه بن وهب، عن حمزه بن عبد اللَّه، عن محمد بن حلجة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عبد اللَّه بن صفوان، عن حفصة أم المؤمنين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا سمعتم بناس يأتون من قبل المشرق إلى زهاء يعجب الناس من زيهم، فقد أظلت الساعة.
قوله إلى زهاء يريد إلى عدد كثير وهو من قولك هم زهاء ألف أي قدر ألف ويقال: كم زهاء القوم؟ أي كم حرزهم وقدرهم [ (1) ] واللَّه أعلم.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالزلازل
فاعلم أنه لم يأت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من وجه صحيح، أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنّة، وأول زلزلة كانت في الإسلام في عهد عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأنكرها.
روى سفيان بن عيينة، عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن نافع، عن صفية رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قال: زلزلت المدينة على عهد عمر رضي اللَّه وتبارك وتعالى عنه حتى اصطكت البيوت، فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: ما أسرع ما أحدثتم! واللَّه لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم.
وخرج ابن حبان في [صحيحه] من حديث أرطاة بن المنذر قال:
حدثني ضمرة بن حبيب قال: سمعت سلمة بن نفيل الكوفي قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يوحي إليه فقال: إني غير لابث فيكم ولستم لابثين بعدي إلا
__________
[ (1) ] (جمع الجوامع للسيوطي) : حديث رقم (2008) .(12/390)
قليلا وستأتوني أفنادا، يفني بعضكم بعضا، وبين يدي الساعة موتان شديد وبعده سنوات الزلازل [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث أرطاة من المنذر قال: حدثني ضمرة ابن حبيب قال: سمعت سلمة بن نفيل السكونيّ قال: قال قائل: يا رسول اللَّه هل أثبت بطعام من السماء؟ قال: نعم، قال: وبماذا؟ قال بسخنة، قالوا:
فهل كان فيها فضل عنك؟ قال: نعم، قال: فما فعل به؟ قال رفع وهو يوحى إلى أني مكفوت غير لابث فيكم ولستم لابثين بعدي إلا قليلا، بل تلبثون حتى تقولوا متى، وستأتون أفنادا يفني بعضكم بعضا، وبين يدي الساعة موتان شديد وبعده سنوات الزلازل.
وخرج الحاكم من حديث محمد بن فضل بن غزوان حديثا صدقه ابن المثنى، عن رباح بن المثنى، عن أبي بردة قال: بينا أنا واقف في السوق في إمارة زياد إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى تعجبا! فقال رجل من الأنصار قد كانت لوالدي صحبة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مما تعجب يا أبا بردة؟ قلت: أعجب من قوم دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، ويستحل بعضهم! قتل بعض قال: فلا تعجب
فإنّي سمعت والدي أخبرني
__________
[ (1) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 180، كتاب التاريخ، باب (10) إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، حديث رقم (6777) وإسناد صحيح. أبو المغيرة:
هو عبد القدوس بن الحجاج الخولانيّ.
وأخرجه أحمد: 5/ 74، حديث رقم (16516) عن أبي المغيرة، بهذا الإسناد. وقال في أوله: «كنا جلوسا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم! إذ قال له قائل: يا رسول اللَّه، هل أتيت بطعام من السماء؟ قال: «نعم» ، قال: وبماذا؟ قال: بمسخنة في (المسند) «بسخنة» ، والمسخنة:
قدر يسحن فيها الطعام، قال: فهل كان فيها فضل عنك؟ قال: نعم «، قال: فما فعل به؟
قال: رفع، وهو يوحي إلى أني مكفوت غير لابث..»
فذكره. والأفناد: الفرق المختلفين، الواحد فند. والموتان بوزن البطلان: الموت الكثير الوقوع.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 74، حديث رقم (16516) .(12/391)
أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة حساب ولا عذاب إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن [ (1) ] .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وخرجه أبو داود كما تقدم.
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث نعيم بن حماد، حدثنا بقية بن الوليد، عن يزيد بن عبد اللَّه الجهمي، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: دخلت على عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها ورجل معها، فقال الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة، فأعرضت عنه بوجهها. قال أنس: فقلت لها حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة. فقالت: يا أنس، إن حدثتك عنها عشت حزينا وبعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك، فقلت: يا أماه حدثينا. فقالت:
إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين اللَّه عز وجل من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها نارا وشنارا، فإذا استحلوا الزنا، وشربوا الخمور بعد هذا، وضربوا المعازف، غار اللَّه في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم.
وفي الحديث قصة تركتها، وأول زلزلة كانت في الإسلام سنة عشرين على عهد عمر رضى اللَّه وتبارك عنه فأنكرها، وقال: أحدثتم، واللَّه لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم. رواه سفيان بن عيينة عن عبد اللَّه بن عمر عن صفية قال: زلزلت المدينة على عهد عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى اصطكت البيوت، فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: ما أسمع ما أحدثتم، واللَّه لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم.
قال المؤلف- رحمه اللَّه تعالى-: وفي سنة أربع وتسعين دامت الزلازل في الدنيا أربعين يوما فوقعت الأبنية الشاهقة وتهدمت أنطاكية.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 283، كتاب التوبة والإنابة، حديث رقم (7649) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 561، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8575) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل أحسبه موضوعا على أنس، ونعيم منكر الحديث إلى الغاية مع أن البخاري روى عنه.(12/392)
وفي سنة أربع وعشرين ومائتين من الهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحيات، وأجل الإكرام زلزلت فرغانة فمات منها خمسة عشر الفا.
وفي سنة عشرين ومائتين جفت الأهواز فتصدعت الجبال ودامت ستة عشر يوما.
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين من الهجرة النبويّة رجفت دمشق رجفة انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها، فمات خلائق كثيرة من ذلك، وانكفأت قرية بالغوطة على أهلها فلم ينج منهم سوى رجل واحد، وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفا.
وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين زلزلت جرجار، وطبرستان، ونيسابور، وأصبهان، وقم، وقاشان، في وقت واحد، وزلزلت الافغان فهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفا وتقطعت الجبال ودنا بعضها من بعض وسمع للسماء والأرض أصوات عالية، وسار جبل لم يكن عليه مزارع حتى أتى مزارع قوم آخرين، ووقع طائر أبيض دون الرخمة وفوق الغراب على دابة بحلب لسبع سنين من شهر رمضان المعظم فصاح بصوت عال يسمعه الناس:
يا معشر الناس اتقوا اللَّه، اللَّه، اللَّه، حتى صاح أربعين صوتا فكتب صاحب البريد بذلك إلى الخليفة ببغداد وأشهد على ذلك خمسمائة إنسان ممن سمعوه، وكتب أسماءهم إلى الخليفة.
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين من الهجرة النبويّة على صاحبها الصلاة والسلام وأزكى التحيات وأجلّ الاكرام، زلزلت أنطاكية فسقط منها ألف وخمسمائة دار ووقع من سورها بضع وتسعون برجا وسمعت أصوات هائلة من كبرى المنازل، وسمع بمدينة نبتيس صيحة هائلة دامت مدة فمات منها خلق كثير، وذهب جبلة بأهلها، وفي سنة ثمان وثمانين ومائتين من الهجرة والنبويّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحيات وأجل الإكرام، زلزلت دبيل ليلا ولم يبق منهم إلا اليسير، فأخرج من تحت الهدم من مات تحت الأماكن الساقطة بالزلزلة المذكورة خمسون ومائة ألف ميت.(12/393)
وفي سنة أربع وثلاثين وأربع مائة من الهجرة النبويّة وقعت زلزلة بتبريز فهدمت قلعتها وأسواقها، ودورها، فهلك تحت الهدم نحو من خمسين الفا.
وفي سنة أربع وأربعين أربع مائة كانت بأرّجان زلازل انقلعت منها الحيطان وانفرج إيوان دار، حتى رئيت السماء من وسطه ثم عاد إلى حاله الأول والتأم كما كان.
وفي سنة ستين وأربعمائة زلزلت فلسطين، فهلك فيها خمسة عشر ألفا وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت والتأمت، وغار البحر مسيرة يوم، فساخ في الأرض، ثم رجع، فهلك به خلق كثير.
وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة، خسف بأيلة من زلزلة كانت بها.
وفي سنة سبع وخمسمائة، زلزلت نواحي الشام فوقع ثلاثة عشر برجا من سور الزها، وخسف بسميساط وقلب بنصف القلعة.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، كانت زلزلة بحرة أتت علي مائة ألف وثلاثين ألف، فأهلكتهم، وكانت في مقدار عشرة فراسخ، ثم خسفت في سنة أربع وثلاثين فصار موضع البلد ماء أسود، وفيها زلزلت حلوان، فتقطع الجبل وهلك خلائق بها.
وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت بالشام زلازل، هلك منها خلائق كثيرة، إلى غير ذلك من الأهوال.
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر وأوله: وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بغلبة المسلمين على الأعمال الدنيوية(12/394)
[المجلد الثالث عشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرّحمنِ الرّحِيم
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلبة المسلمين على الأعمال الدنيوية
خرّج ابن يونس من طريق ابن وهب قال: حدثني عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن بكر بن سوادة أن موسى بن الشعب حدثهم أن الوليد بن عتبة حدثه أنه انطلق هو وأبيض [رجل من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] إلى رجل يعوده قال: فدخلت المسجد، فرأيت الناس يصلون، فقلت: الحمد للَّه، جمع اللَّه بالإسلام بين الأحمر، والأبيض، والأسود، فقال: الأبيض والأسود فقال الأبيض: بصلاتكم وتجلسون مجالسكم وهو معكم في سوادكم، ولكل أمة منكم نصيب.
قال المؤلف: مثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يعلم بخبر الصادق والمصدوق، فيحمل على السماع، ويفسره ما خرجه ابن يونس من طريق ابن وهب، قال: حدثني موسى بن أبي الغافقي، عن سليط بن معية، عن أبيه أنه كان مع تبيع بن عامر الكلاعي بالإسكندرية مقفله من رءوس فقال: يا معشر العرب إذا اعتدت مسلمة الأرض على أربعة آباء فعليكم بالهرب قالوا: يا أبا عطيف إلى أين الهرب؟ قال: إلى الآخرة، فإن مسلمة الأرض سيغلبون على الدنيا وأعمالها.
وذكر ابن يونس أن معاوية بن خديج وفد على معاوية بن أبي سفيان فجعل يسأله عن أهل مصر ويخبره عنهم، فقال معاوية بن خديج: إني وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف، فثلث ناس، وثلث أشبه بالناس، وثلث لا ناس فقال ابن خديج: فسر لنا يا أمير المؤمنين هذا، قال: أما الثلث الذين هم الناس العرب، والثلث الذين يشبهون الناس الموالي، والثلث الذين هم لا ناس فالمسالمة.
قال المؤلف: قد ظهر مصداق ما يقدم من غلبة المسلمة فإن الشرق بات إنما يليه حقطاي، وهم تيمور، وهم حديثو عهد بالإسلام، والمغرب بأيدي البربر، ولمصر والشام الجراكسة، وقد حكموا بأرض مصر القبط، وأنه ليذكر فيما أراه وأسمعه قول ابن بسام:
__________
[ (1) ] هو أبيض بن حمال.(13/3)
إذا حكم النصارى إلى الفروج ... وباهت بالخيول والسروج
وزالت دولة الأحرار طرا ... وصار الملك في ولد العلوج
فقل للأعور والدجال هذا ... أوانك إن عزمت على الخروج
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتنة السفياني من الشام
فخرّج الحاكم [ (1) ] من طريق نعيم بن حماد، عن يحيى بن سعيد عن الوليد ابن عياش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحذركم سبع فتن تكون بعدي، فتنة تقبل من المدينة، وفتنة بمكة، وفتنة تقبل من اليمن، وفتنة تقبل من الشام، وفتنة تقبل من المشرق، وفتنة تقبل من المغرب، وفتنة من بطن الشام وهي السفياني.
قال: فقال ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: منكم من يدرك أولها، ومن هذه الأمة من يدرك آخرها، قال الوليد بن عياش: فكانت فتنة المدينة من قبل طلحة والزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وفتنة مكة فتنة عبد اللَّه بن الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وفتنة الشام من قبل بني أمية، وفتنة المشرق من قبل هؤلاء.
قال الحاكم- رحمه اللَّه-: هذا حديث صحيح الإسناد واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 515، كتاب الفتن والملاحم باب (50) ، حديث رقم (8447) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) هذا من أو أيد نعيم مهدي.(13/4)
وأما تأويله صلّى اللَّه عليه وسلّم رؤيا زرارة فوقع كما قال
فقال محمد بن سعد: زرارة بن قيس بن الحارث بن عداء بن الحارث بن عوف بن جشم بن كعب بن قيس بن سعد بن مالك بن النخع، وفد إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في وفد النخع، وهم مائتا رجل وكانوا آخر وفد قدموا من اليمن، فقدموا لنصف من المحرم سنة إحدى عشرة وهم مائتا رجل فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقرين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن [ (1) ] فقال رجل منهم يقال له زرارة: يا رسول اللَّه، إني رأيت في سفري هذا عجبا فقال له: وما رأيت؟ قال: رأيت أتانا خلقها في أهلي ولدت جديا أسفع أحوى، وأريت النعمان بن المنذر عليه قرطان، ودملجان، ومسكتان، قال: ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته.
قال: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورأيت عجوزا خرجت من الأرض! قال: تلك بقية الدنيا، قال: وأريت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له: عمرو، وهي تقول: لظى لظى بصير وأعمى، أطعموني أكلكم وما لكم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تلك فتنة تكون في آخر الزمان، قال: يا رسول اللَّه وما الفتنة؟ قال: يقتل الناس إمامهم، ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، وخالف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصابعه، يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن أحل من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، فقال: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن لا أدركها فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللَّهمّ لا تدركها، فمات،
وبقي عمرو بن زرارة وكان أول خلق اللَّه خلع عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالكوفة وبايع عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
__________
[ (1) ] إلى هنا آخر القصة في (طبقات ابن سعد) : 1/ 346، وباقي القصة في (الإصابة) :
2/ 560- 561، وترجمة رقم (2797) .(13/5)
فصل في ذكر خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التي لم يشركه فيها غيره
اعلم أنه يقال: خصه بالشيء يخصه خصا وخصوصا وخصصه واختصه أفرده به دون غيره، والاسم الخصوصية، والخصية، والخاصة، والخصيصي، وهي تمد وتقصر، وفعلت به خصية، وخاصة، وخصوصية، والخاصة من تخصه لنفسك، والخصتان كالخاصة، وخاصّه بكذا أعطاه شيئا كثيرا. قاله أبو الحسن على بن سيده في (المحكم) [ (1) ] .
اعلم أن أصحابنا- رحمهم اللَّه- قد أكثروا من ذكر هذا الفصل في أوائل كتب النكاح من مصنفاتهم، تأسيا، بالإمام أبي عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فإنه ذكر طرفا من ذلك هنالك فقال:
إن اللَّه- تعالى- لما خص به رسوله من وجد وأبان بينه وبين خلقه، بينما فرض عليهم من طاعته افترض علينا أشياء خففها عن خلقه، ليزيده بها إن شاء اللَّه حظها على خلقه زيادة في كرامته، وتنبيها لفضيلته صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: اقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي- رحمه اللَّه تعالى- بعد إيراده هذا في كتاب (الحاوي) : هذا فصل نقله المزني مع بقية الباب من أحكام القرآن للشافعي، فأنكر بعض المعترضين عليه إيراد ذلك في مختصره، لسقوط التكليف عنا فيما خص به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، من تخفيف وتغليظ، ولوفاة زوجاته المخصوصات بالأحكام، فلم يكن فيه إلا التشاغل بما يلزم، عما يجب ويلزم، فصوب أصحابنا ما أورده المزني على هذا المعترض بما ذكروه من غرض المزني من وجهين:
أحدهما: أنه قدم مناكح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تبركا بها، والتبرك في المناكح مقصود كالتبرك بالخطب.
__________
[ (1) ] كذا قاله ابن منظور في (اللسان) : 7/ 24- 25، نقلا عن (المحكم) لابن سيده.(13/6)
والثاني: أن يسبق العلم بأن الأمة لا تساوى نبيها صلّى اللَّه عليه وسلّم في مناكحه، وإن كانت تساويه في غيرها من الأحكام، حتى لا يقدم أحد على ما خطر عليه اقتداء به انتهى.
وقد حكى الصيمري عن أبي علي بن خيران أنه منع من الكلام في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أحكام النكاح وكذا في الإمامة، كما حكاه الماورديّ، وأطلق في (الروضة) [ (1) ] الحكاية، عن الصيمريّ عنه، ووجهه أن ذلك قد انقضى، فلا عمل يتعلق به، فلا معنى للكلام فيه، وإنما يسوغ الاجتهاد في النوازل التي تقع، أو نتوقع، ومال إلى هذا الشيخ أبو حامد الغزالي ونسبه إلى المحققين تبعا لإمامه، فقال: وليس يسوغ إثبات خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأقيسة التي تناط بها الأحكام العامة في الناس، ولكن الوجه ما جاء به الشرع من غير مزيد عليه.
وقال إمام الحرمين: قال المحققون: وذكر الخلاف في مسائل الخصائص خبط غير مفيد، فإنه لا تعلق به حكم ناجز، تمس الحاجة إليه، وإنما يجزي الخلاف فيما [لا] [ (2) ] نجد بدا من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها في ذلك، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، ما لم ينقل فيه فالخلاف فيه هجوم على غيب من غير فائدة.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بعد حكاية ذلك: وهذا غريب بلبح، وقال: إنه قد انقضى فلا عمل يتعلق به، وليس فيه من دقيق العلم ما يقع به التدريب، فلا وجه لتضييع الزمان برجم الظنون فيه، وأما الجمهور فإنّهم جوّزوا ذلك لما فيه من العلم.
وقال الثوري: وجه الصواب الجزم بجواز ذلك بل باستحبابه، ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدا أن لم يمنع منه إجماع، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا في الصحيح فيعمل به أخذا بأصل الناس، فوجب بيانها لتعرف،
__________
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 362، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(13/7)
ولا يشاركه فيها أحد، وأي فائدة أعظم من هذه؟ وأما ما يقع في أثناء الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل جدا، لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدرب، ومعرفة الأدلة، وتحقيق الشيء على ما هو عليه.
وقال ابن الرفعة في (المطلب) : قد يقال بالتوسط، فيتكلم فيما جرى في الصدر الأول من ذلك دون ما لم يجز منه، قال: وكلام الوسيط يرشد إليه، وأما جمهور الأصحاب فلم يعرجوا على ما ذكره ابن جبران وإمام الحرمين، بل ذكروا ذلك مستقصيا لزيادة العلم، لا سيما الإمام أبو العباس أحمد بن أحمد ابن القاضي الطبريّ صاحب كتاب (التلخيص) . وقد جاء في السنة ما بينه، وهو
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح: إن اللَّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد رتب الحافظ أبو بكر البيهقيّ كلامه في ذلك في (سننه الكبير) [ (1) ]
ولكن فرعوا كثيرا من ذلك على أحاديث فيها نظر، سيرد ذكرها إن شاء اللَّه- تعالى-، وقد رتبوا الكلام فيها على أربعه أنحاء:
الأول: ما وجب عليه دون غيره.
الثاني: ما حرم عليه دون غيره.
الثالث: ما أبيح له دون غيره.
الرابع: ما اختص به من الفضائل دون غيره.
فذكروا في كل منها أحكام النكاح وغيرها ورتبها بعضهم على قسمين:
أحدهما: ما اختص به عن سائر إخوانه من الأنبياء صلوات اللَّه عليه وعليهم أجمعين.
الثاني: ما اختص به من الأحكام دون أمته.
__________
[ (1) ] (سنن البيهقيّ) : 7/ 36، كتاب النكاح.(13/8)
النوع الأول: في الواجبات والحكمة في اختصاصه عليه السلام عن ازدياده الدرجات
لما خرّج البخاريّ في كتاب (الرقاق) من- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ترفعه وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى من ما افترضته عليه الحديث ... ، وذكر الرافعي منه عبارة ولم يسنده، وعلم اللَّه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقوم بها، وأصبر عليها من غيره، قال إمام الحرمين: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النافلة سبعين درجة، واستأنس بما خرجه ابن خزيمة في (صحيحه) وعلق القول بصحته فقال: إن صح الحديث.
وخرّجه البيهقيّ [ (1) ] في (شعب الإيمان) من حديث سلمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في رمضان: من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيما كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، فقال: النفل فيه كالفرض في غيره، وقال:
الفرض بسبعين فرضا في غيره
فأشعر هذا بأن الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة من طريق النحويّ. هذا كلام إمام الحرمين في (النهاية) .
وتعقب بأنه لا يلزم وما ذكر، لأن هذه خصوصية لشهر رمضان لا يلزم منها أن كل فرض مفعول في غيره يزيد ثوابه على ثواب النافلة بسبعين درجة، وهذا النوع ينقسم إلى متعلق بالنكاح، وإلى غيره. وفي القسم الثاني مسائل:
__________
[ (1) ] (شعب الإيمان) : 3/ 305، باب (23) في الصيام، فضائل شهر رمضان حديث رقم (6308) باختلاف يسير في اللفظ، وعزاه السيوطي إلى ابن خزيمة وقال: ان صح الخبر، والمصنف والأصبهاني في (الراغب) عن سلمان، وقال الحافظ ابن حجر في (أطرافه) :
مداره على عليّ بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ويوسف بن زياد الراويّ عنه ضعيف جدا، وتابعه إياس بن عبد الغفار عن علي بن زيد عند البيهقي في (الشعب) قال ابن حجر: واياس ما عرفته. (صحيح ابن خزيمة) : 3/ 191- 192 باب (8) فضائل شهر رمضان إن صح الخبر حديث رقم (1887) .(13/9)
المسألة الأولى: صلاة الضحى
المسألة الثانية: صلاة الأضحى
المسألة الثالثة: صلاة الوتر
واستدل أصحابنا لذلك بما خرّجه الإمام أحمد في (مسندة) [ (1) ] والبيهقيّ في (سننه) [ (2) ] من حديث أبي جناب الكلبي واسمه يحيى بن أبي حبة عن عكرمة عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ثلاث هنّ على فرائض وهي لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى.
وخرجه الدار الدّارقطنيّ وقال: ركعتا الفجر بدل الضحى [ (3) ] .
وخرّجه الحافظ أبو حامد بن عدي [ (4) ] ولفظه: ثلاث عليّ فريضة ولكم تطوع: الوتر والأضحى وركعتا الفجر.
وخرجه الحاكم في (المستدرك) [ (5) ] شاهدا بلفظ ثلاث هي على فريضة ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر.
ومدار هذا الحديث على أبي جناب
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 383، حديث رقم (2015) ، من مسند عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] (سنن البيهقيّ) : 2/ 468، كتاب الصلاة، باب ذكر البيان أن لا فرض في اليوم والليلة من الصلوات أكثر من خمس صلوات، وأن الوتر تطوع، ثم قال: أبو جناب الكلبيّ اسمه يحيى ابن أبي حية، ضعيف، وكان يزيد بن هارون يصدقه ويرميه بالتدليس.
وله أيضا في (المرجع السابق) : 9/ 264، كتاب الضحايا، باب الأضحية سنة، نحب لزومها، ونكره تركها.
[ (3) ] (سنن الدار الدّارقطنيّ) : 2/ 21، من حديث ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (4) ] (الكامل لابن عدي) : 7/ 213، من حديث ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (5) ]
(المستدرك) : 1/ 441- 442، كتاب الوتر، حديث رقم (1119) ، قال الحاكم: الأصل في هذا حديث الإيمان، وسؤال الأعرابيّ النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الصلوات الخمس، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع.
ومن حديث سعيد بن يسار، عن ابن عمر في الوتر على(13/10)
يحيى بن أبي حية الكلبي الكوفيّ قال يحيى القطان: لو استحللت، أن أروى عن جناب لرويت حديث عليّ في تكبيرات العيدين.
وقال أبو نعيم: أبو جباب يدلس، وقال البخاريّ: كان يحيى القطان يضعفه، يقول: مات سنة خمسين ومائة. وقال السعديّ: يضعف حديثه، وقال ابن المثنى: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن تحدثا عن ابن حبان بشيء.
وقال ابن معين: ليس به بأس إلا أنه كان يدلس، مرة قال: هو صدوق، وقال الدارميّ: هو ضعيف، وقال الفلاس: متروك الحديث، وقال النسائيّ:
ضعيف، وقال ابن عديّ: هو من جمله المتشيعين بالكوفة.
وقد اختلف كلام ابن حبان فيه، فذكره في (ثقاته) (وضعفائه) ، وقال الإمام أحمد: أحاديثه مناكير.
وقال البيهقيّ في (خلافياته) : أبو جناب هذا ليس بالقوى. وقال في (سننه) : ضعيف. وقال ابن الصلاح: هذا حديث غير ثابت، ضعفه البيهقي في (خلافياته) ، فظهر من كلام الأئمة أن أبا جناب هذا ضعيف مدلّس وقد عنعن [ (1) ] .
ولهذا الحديث طريق ثان من حديث جابر الجعفيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا: أمرت بركعتي الفجر والوتر وليس عليكم. رواه البزار:
وجابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث بن الجعفيّ الكوفيّ أبو عبد اللَّه.
وخرّجه الإمام أحمد ولم يذكر لفظة «عليكم» وقال بدلها: «ولم تكتب» ،
وفي رواية له: «أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها، وأمرت بالضحى ولم تكتب عليكم» [ (2) ] .
__________
[ () ] الراحلة، وقد اتفق الشيخان على إخراجهما في (الصحيح) . وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : ما تكلم الحاكم عليه، وهو غريب منكر، ويحيى ضعفه النسائيّ والدار الدّارقطنيّ.
[ (1) ] له ترجمة في: (الثقات) : 7/ 597، (المغني في الضعفاء) : 2/ 733- 734، ترجمة رقم (6954) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 387، حديث رقم (2082) ، من مسند عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(13/11)
وقيل أبو يزيد وقيل أبو محمد يروى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الشعبي، ومجاهد وأبي الضحى، وعكرمة، وطائفة، ويروى عنه شعبة والسفيانان، وإسرائيل، وشريك، وأبو عوانة، وخلق، وكان من كبار علماء الشيعة. قال سلام بن أبي مطيع: حدثنا جابر الجعفيّ: عندي خمسون ألف باب من العلم ما حدثت به أحد فذكرت لأيوب ذلك فقال: أما الآن فهو كذاب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: قال الشعبي: يا جابر، ما تموت حتى تكذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال إسماعيل: مضت الأيام والليالي حتى أتهم بالكذب، وقال أبو حنيفة- رحمه اللَّه-: ما رأيت فيمن رأيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء قط من رآني إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لم يظهرها.
وقال جرير عن ثعلبة: أردت جابر الجعفي فقال لي: كتب ابن أبي سليم لا تأته فإنه كذاب، وقال النسائي: جابر الجعفي متروك الحديث، قال جرير:
أدركت جابر الجعفي وطلب الحديث وتوصي فلم أستحل أن أسمع منه حديثا، قال زائدة: كان كذابا يؤمن بالرجعة. وقال ابن معين: وكان جابر الجعفي كذابا لا يكتب حديثه ولا كرامة، ليس بشيء.
قال أبو الأحوص: كنت إذا مررت بجابر الجعفي سألت ربي العافية، وكلام الأئمة فيه كثير، قد أورده ابن عدي، وله أيضا طريق ثالث
من حديث وضاح بن يحيى عن مندل بن علي العتري، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا: ثلاث على فريضة وهن لكم تطوع الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى،
ويترك أسوأ حالا ممن تقدم. وله أحاديث أفراد وغرائب، ضعفه يحيى ووقع فيه شريك، وقال السعدي: واهي الحديث، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال ابن حبان: لا يحتج بالوضّاح، كان يروى عن الثقات الأحاديث المقلوبة التي كأنها معمولة، وضعفه ابن الجوزي في (علله) وقال:
هذا حديث لا يصح، وقال في (الأعلام) : إنه حديث لا يثبت. فتبين من هذا ضعف الحديث من جميع طرقه.(13/12)
ومع ذلك ففي ثبوت خصوصية هذه الثلاثة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظر، فإن الّذي ينفي ولا يعدل قد جاء ما يعارض هذا الحديث، وما
أخرجه الدار الدّارقطنيّ [ (1) ] من حديث قتادة عن أنس مرفوعا: أمرت بالوتر والأضحى، ولم يعزم عليّ.
ورواه ابن شاهين في (ناسخه ومنسوخه) وقال: ولم يعرض عليّ
ولكنه حديث ضعيف أيضا فيه عبد اللَّه بن مجرد العامريّ الجزريّ، قاضي الجزيرة لأبي جعفر المنصور، يروى عن نافع، والزهريّ، وقتادة، والحكم بن عيينة، وجماعة، ويروى عنه بقية، وأبو يوسف القاضي، وعبد الرزاق، وأبو نعيم وجماعة، وهو ضعيف بإجماعهم. قال ابن معين: ضعيف، ومره قال: ليس بتفة، وقال السعدي: هالك، وقال الفلاس: متروك الحديث، وقال البخاريّ:
منكر الحديث، وقال ابن عديّ: ورواياته عمن يرويه غير محفوظه، وذكر ابن شاهين في (الناسخ والمنسوخ) حديث ابن عباس المتقدم من طريق الوضاح، وحديث أنس هذا، ثم قال: الحديث الأول أقرب إلى الصواب من الثاني، لأن فيه عبد اللَّه بن مجرد وليس بمرض عندهم، وقال: ولا أعلم الناتج منهما لصاحبه قال: ولكن الّذي عندي يشبه ان يكون حديث عبد اللَّه بن مجرد على ما فيه ناسخا للأول، لأنه ليس يثبت أن هذه الصلوات فرض وهذا كله كلام عجيب، فلا ناسخ ولا منسوخ، لأن النسخ أيضا يصار إليه عند تعارض الأدلة الصحيحة، ولا معارضة، إذا تم هاهنا أمور:
أحدها: ما حكاه بعض الأصحاب عن أبي العباس الروياني أن الأضحية والوتر لم تجبا عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد شهد للوتر فقط ما
ثبت في الصحيحين من حديث عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يوتر على البعير،
وهذا من حجتنا على الحنفية في عدم وجوبه، لأنه لو كان واجبا لما فعله على الراحلة، فدل على أنه سنة في حقه شأن المندوب، لكن قال النوويّ في (شرح المهذب) :
إنه كان من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم جواز هذا الواجب الخاص به على الراحلة.
__________
[ (1) ] (سنن الدار الدّارقطنيّ) : 2/ 21.(13/13)
وقال العوفيّ المالكي: فعل الوتر في السفر على الراحلة، والوتر لم يكن واجبا عليه إلا في الحضر، صرح به في (شرح المحصول) و (شرح التنقيح) وعز الدين في (القواعد) .
وقال الشيخ تقيّ الدين بن الصلاح: تردد الأصحاب في وجوب الضحى والأضحى والوتر عليه، مع أن مسند الحديث الّذي ذكرنا ضعّفه، ولو تمكنوا فقطعوا بوجوب السؤال عليه، وتردد في الأمور الثلاثة لكان أقرب، ويكون مستند التردد فيها أن ضعفه من جهة، ولو أنه ابن جناب الكلبيّ، وفي ضعفه خلاف بين أئمة الحديث، وقد وثقه بعضهم، واللَّه أعلم بأنها الضحى.
وخرّج البخاري [ (1) ] من حديث مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: إن كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
وخرّجه أبو دواد [ (2) ] من حديث وما يسبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسبحه الضحى قط وإني لأسبحها. ذكره في باب تحريض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب.
وخرّجه في باب من لم يصلّ الضحى ورآه واسعا، من حديث ابن ذؤيب عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبّح سبحة الضحى وإني لأسبحها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 12، كتاب التهجد، باب (15) تحريض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، وطرق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فاطمة وعليا- عليهما السلام- ليلة للصلاة، حديث رقم (1128) .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 2/ 64، كتاب الصلاة، باب (301) صلاة الضحى، حديث رقم (1293) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 3/ 71، كتاب التهجد، باب (32) من لم يصلّ الضحى ورآه واسعا، حديث رقم (1177) .
قال الحافظ في (الفتح) : حديث عائشة يدل على ضعف ما روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، وعدها لذلك جماعة من العلماء من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يثبت في(13/14)
وخرّجه مسلم من حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلى بسبحة الضحى قط وإني لأسبحها وإن كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليدع العمل وهو يجب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
وخرّجه أبو داود [ (1) ] من حديث مالك بهذا الإسناد كما قال البخاريّ.
وخرّج مسلم [ (2) ] من حديث سعيد الجريريّ، عن عبد اللَّه بن شفيق قال: قلت لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- هل كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه.
__________
[ () ] ذلك خبر صحيح، وقول الماوردي في (الحاوي) : إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات، يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ: أنه لم يصلها قبل ولا بعد.
ولا يقال: إن نفى أم هانئ لذلك يلزم منه العدم، لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا يستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه.
ثم قال الحافظ: ومن فوائد ركعتي الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا، كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر، وقال فيه: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى. وحكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في (شرح الترمذيّ) : أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثير من الناس يتركونها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الكثير، لا سيما ما وقع في حديث أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-. (فتح الباري) .
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 237، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (13) استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات أو ست، والحث على المحافظة عليها، حديث رقم (717) .(13/15)
وخرّج الترمذيّ [ (1) ] من حديث عطية العوفيّ [ (2) ] عن أبي سعيد الخدريّ قال:
كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول:
لا يصليها، ثم قال: حسن غريب.
__________
[ () ] قال الإمام النووي: هذه الأحاديث كلها متفقة لا اختلاف بينها عند أهل التحقيق، وحاصلها أن الضحى سنة مؤكدة، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وبينهما أربع أو ست، كلاهما أكمل من ركعتين ودون ثمان.
وأما الجمع بين حديثي عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- في نفي صلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم الضحى وإثباتها، فهو أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصليها بعض الأوقات لفضلها، ويتركها في بعض خشية أن تفرض كما ذكرته عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-. ويتأول قولها: «ما كان يصليها إلا أن يجئ من مغيبه» على أن معناه ما رأيته، كما قالت في الرواية الثانية: «ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي سبحة الضحى» وسببه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، فإنه قد يكون في ذلك مسافرا، وقد يكون حاضرا، ولكنه في المسجد أو في موضع آخر، وإذا كان عند نسائه، فإنما كان لها يوم من تسعة، فيصح قولها: ما رأيته يصليها، وتكون قد علمت بخبره أو خبر غيره، أنه صلاها، أو يقال:
قولها: «ما كان يصليها» ، أي ما يداوم عليها، فيكون نفيا للمداومة، لا لأصلها، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
وأما ما صح عن ابن عمر أنه قال في الضحى: «هي بدعة» ، فمحمول على أن صلاتها في المسجد، والتظاهر بها كما كانوا يفعلونه بدعة، لأن أصلها في البيوت ونحوها مذموم. أو يقال: قوله: «بدعة» أي المواظبة عليها لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يواظب عليها خشية أن تفرض، وهذا في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد ثبت استحباب المحافظة في حقنا بحديث أبي الدرداء وأبي ذر، أو يقال:
إن ابن عمر لم يبلغه فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الضحى، وأمره بها، وكيف كان؟ فجمهور العلماء على استحباب الضحى، وإنما نقل التوقف فيها عن ابن مسعود، وابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 2/ 342، كتاب أبواب الصلاة، باب (346) ما جاء في صلاة الضحى، حديث رقم (477) ، وقال: هذا حديث حسن غريب وأخرجه الطمام أحمد في (المسند) برقم (11172) ، (11332) ، من طريق فضيل ابن مرزوق.
[ (2) ] هو عطية بن سعد بن جنادة- بضم الجيم وتخفيف النون- وعطية هذا قد تكلموا فيه كثيرا، وهو صدوق، وفي حفظه شيء، وعندي أن حديثه لا يقل عن درجة الحسن، وقد حسّن له الترمذيّ كثيرا، كما في هذا الحديث. (هامش سنن الترمذيّ) .(13/16)
وهذا الحديث ظاهره مقتضى عدم الوجوب، وكذا حديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فلو كانت واجبة في حقه لكان مداومته عليها أشهر من أن تخفى.
ونقل النووي في (شرح المهذب) أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على الأمة فيعجزوا عنها، وكان ينفلها في بعض الأوقات، وذكر في (الروضة) أنها واجبة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر الماوردي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما صلاها يوم الفتح واظب عليها إلى أن مات، وفيه نظر، ففي البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى إلا أم هانئ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فإنّها حدثت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود.
وخرّجه الترمذي [ (3) ] وقال: فسبح ثماني ركعات.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 66، كتاب التهجد، باب (31) صلاة الضحى في السفر، حديث رقم (1176) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 238- 339، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (13) استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات أو ست، والحث على المحافظة عليها، حديث رقم (80) .
[ (3) ] (سنن الترمذيّ) : 2/ 338، كتاب أبواب الصلاة، باب (346) ما جاء في صلاة الضحى، حديث رقم (474) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وكأنّ أحمد رأى أصح شيء في هذا الباب حديث أم هانئ، واختلفوا في نعيم، فقال بعضهم: «نعيم بن خمّار» ، وقال(13/17)
وخرّج البخاريّ في باب صلاة الضحى في الحضر [ (1) ] ، من حديث شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: سمعت أنس بن مالك [الأنصاري] قال: قال رجل من الأنصار- وكان ضخما- للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لا أستطيع الصلاة معك، فصنع للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم طعاما فدعاه إلى بيته ونضح له طرف حصير بماء، فصلى عليه ركعتين وقال: فلان بن فلان بن الجارود لأنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى؟ فقال: ما رأيته صلى غير ذلك اليوم.
فلذلك اختلف الناس في صلاة الضحى، فذهبت طائفة من السلف إلى حديث عائشة المتقدم ولم يروا صلاة الضحى، حكاه ابن بطال، وأبعد بعضهم فقال: إنها بدعة كما يحكى عن ابن عمر.
خرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث مسدد قال: حدثنا يحيى عن شعبة، عن توبة، عن مورّق قال: قلت لابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
أتصلي الضحى؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال لا إخاله.
وخرّج الفرياني من حديث سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: صلاة الضحى في السفر بدعة.
__________
[ () ] بعضهم: «ابن همّار» ، وقال بعضهم: «نعيم بن هبّار» ، وقال بعضهم: «ابن همام» ، والصحيح: «ابن همّار» ، وأبو نعيم وهم فيه فقال: «ابن حماز» ، وأخطأ فيه، ثم ترك فقال:
«نعيم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» . قال أبو عيسى: وأخبرني بذلك عبد بن حميد عن أبي نعيم.
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 72، كتاب التهجد، باب (33) صلاة الضحى في الحضر، حديث رقم (1179) .
قوله: «يصلي الضحى» قال ابن رشيد: هذا يدل على أن ذلك كان كالمتعارف عندهم، وإلا فصلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت الأنصاري، وإن كانت في وقت صلاة الضحى، ولا يلزم نسبتها لصلاة الضحى، قال الحافظ: إلا أنا قدمنا أن القصة لعتبان بن مالك، وقد تقدم في صدر الباب أن عتبان سماها صلاة الضحى، فاستقام مراد المصنف، وتقييده ذلك بالحضر ظاهر لكونه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى في بيته.
[ (2) ] (المرجع السابق) ، باب (31) صلاة الضحى في السفر، حديث رقم (1175) .(13/18)
وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن إسماعيل، عن الشعبي، قال سمعت ابن عمر يقول: ما صليت الضحى منذ أسلمت. وقال طاووس: أول من صلاها الأعراب.
وروى عثمان: وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئا أحب إليّ منها.
وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن جماعة استحباب فعلها، وهو رواية عن أحمد.
وخرّج الفريابي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يديموا صلاة الضحى كهيئة المكتوبة، كانوا يصلون ويدعون، وذهبت طائفة إلى أنها إنما تفعل بسبب، وإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما فعلها لأجل الفتح، وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قول عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: ما سبح رسول اللَّه سبحة الضحى قط، فما قلت لك إن من علم السنن علما خاصا يوجد عند بعض أهل العلم دون بعض، وليس أحد من الصحابة إلا وقد فاته من الحديث ما أحصاه غيره، إلا خاصة ممتنعة، وهذا ما لا يجهله إلا من لا عناية له بالعلم، وإنما حصل المتأخرون على علم داخله فليسوا في الحفظ كالمتقدمين، وإن كانوا قد حصل في كتب المقل منهم علم جماعة من العلماء، واللَّه ينور بالعلم قلب من يشاء.
وقد روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أثار كثيرة حسان في صلاة الضحى منها حديث أم هانئ،
فذكره من حديث أم هانئ بنت أبي طالب، ومن حديث ابن طهمان، عن أبي الزبير، عن عكرمة بن خالد، عن أم هانئ، وذكره من حديث أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت: قدم [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الفتح- فتح مكة- فنزل بأعلى مكة، فصلى ثماني ركعات فقلت: يا رسول اللَّه! ما هذه الصلاة؟ قال: الضحى.
قال أبو عمر الأسدي: إن أم هانئ قد علمت من صلاة الضحى ما لم تعلم عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، من الأمور ما يقضي وعليه المداد، وهو الأصل.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 478، حديث رقم (26347- 26348) . باختلاف في اللفظ.(13/19)
وقد روى إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، عن أم هانئ قالت:
لما كان يوم الفتح اغتسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلى ثماني ركعات فلم ير أحد صلاهن بعد، فهذه أم هانئ لم تعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاهن بعد.
وذكر من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، قال:
ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة اغتسل في بيتها وصلى ثماني ركعات فلم يره أحد صلاها من بعد، وابن ليلى من كبار التابعين.
وذكر من حديث إسحاق بن راشد عن الزهريّ، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه ابن الحارث، عن أبيه قال: سمعته يقول: سألت وحرصت على أحد يحدثني أنه رآه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلى الضحى، فلم أجد غير أم هانئ، حدثتني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل عليها يوم فتح مكة، فأمر بماء فوضع له، فاغتسل ثم صلى في بيتها ثماني ركعات، تقول أم هانئ: لا أدري أقيامه أطول أم ركوعه؟ ولا أدري أركوعه أطول أم سجوده؟ غير أن ذلك مقارب يشبه بعضه بعضا.
ورواه ابن عيينة، وعبد الكريم بن أبي أمية ويزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحارث قال: سألت عن صلاة الضحى في إمارة عثمان وأصحاب رسول اللَّه متوافرون، فلم أجد أحدا أثبت لي صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضحى إلا أم هانئ، وذكر الحديث.
قال: فهذه الآثار كلها حجة لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، في قولها [ (1) ] : ما سبح رسول اللَّه سبحة الضحى قط، لأن كثيرا من الصحابة قد شركها في علم ذلك، ومما يؤيد ذلك أيضا حديث سماك، قلت لجابر بن سمرة:
أكنت [ (2) ] تجالس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: نعم كثيرا، فكان لا يقوم من مصلاه الّذي صلى فيه الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 71، كتاب التهجد، باب (32) من لم يصل الضحى ورآه واسعا، حديث رقم (1177) .
[ (2) ] (سبق تخريجه) .(13/20)
وهذا حديث صحيح،
رواه الترمذيّ وجماعة عن سماك، وذكر حديث عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهد يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى ركعتين وأربعا أو ستا. هذا حديث مرسل.
وذكر حديث أحمد بن عبد اللَّه بن صالح، قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهريّ، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى في بيته بسبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا [ (1) ] قال: وهذا حديث إنما حدث به عثمان بن عمر بن فارس، أو يونس بن يزيد على المعنى بتأويل تأوله، وإنما الحديث على حسب ما رواه مالك وغيره عن ابن شهاب.
قال: والدليل على أنه لا يعرف في هذا الحديث ذكر صلاة الضحى، إنكار ابن شهاب لصلاة الضحى، فقد كان الزهريّ يعتنى بحديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- هذا، ويقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يصل الضحى قط، قال: وإنما كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلونها بالهواجر، أو قال: بالهجير، ولم يكن عبد الرحمن بن عوف، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عمر، يصلون الضحى ولا يعرفونها.
قال الواقدي: عن عائشة في صلاة الضحى حديث منكر، رواه معمر عن قتادة عن معاذة العدوية، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: سألت عائشة كم كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما يشاء، وهذا عندي غير صحيح، وهو مردود بحديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب. قال مؤلفه: وقد خرّج مسلم هذا الحديث من طريق يزيد الرشاقي، قال: حدثتني معاذة أنها سألت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: كم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 72، كتاب التهجد، باب (33) صلاة الضحى في الحضر، قاله عتبان بن مالك عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (1179) .(13/21)
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الضحى؟ فقالت: أربع ركعات ويزيد ما يشاء [ (1) ] ، وفي لفظ: ويزيد ما يشاء.
وخرّجه من حديث معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة بهذا الإسناد مثله [ (2) ] فهو إذا حديث صحيح، ونحوه حمله حينئذ على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصليها كذلك إذا صلاها، وقد قدم من مغيبه، جمعا بين الحديثين واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
وخرّجه البيهقي [ (3) ] من حديث على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سلمة بن رجاء عن الشعثاء امرأة من بنى أسد، قال: دخلت على عبد اللَّه بن أبي أوفى فرأيته صلى الضحى ركعتين، فقالت له امرأته: إنك صليت ركعتين! فقال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى الضحى ركعتين حين بشر بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل.
ثالثها: هل كان الواجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قلنا به أقل الضحى أو أكثرها؟
ففي رواية لأحمد: أمرت بركعتي الضحى، ولم تؤمروا بها؟.
رابعها: هل كان الواجب عليه في الوتر أكثره أو أقله؟.
خامسها: الأضحية في الحديث السالف وكلام أصحابنا المراد به الضحى كما قاله ابن الصلاح.
وقال ابن سيده: وضحى بالشاة: ذبحها ضحى النحر، هذا هو الأصل، وقد تستعمل التضحية في جميع أوقات أيام النحر، والضحية ما ضحيت به، وهي الأضحى وجمعها أضاحي، يذكر ويؤنث، وقال يعقوب: سمى اليوم أضحى بجمع الأضحاء التي الشاة، والأضحية، كالضحية. انتهى.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 173، حديث رقم (24368) ، (مسلم بشرح النووي) : 5/ 238، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (13) استحباب صلاة الضحى، الحديث الّذي يلي الحديث رقم (79) . كلاهما بدون رقم.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 89، باب إجابة اللَّه عز وجل دعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كل من كان يؤذيه بمكة من كفار قريش حتى قتلوا مع إخوانهم من الكفرة ببدر.(13/22)
فإذا يقال: أضحى في الواحد والجمع، ويقال أيضا: وضحايا، وأضحية، وأضاحىّ وبالتشديد.
وهذا التقرير قد يفهم منه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان الواجب عليه ضحايا في كل سنة، وتقل الإشادة به إلى وجوب ذلك في العوام.
وفي قوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ [ (1) ] دليل على وجوب الأضحية على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأن الإشارة في قوله- تعالى-: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ إلى ما سبق من الصلاة، والنسك، والأضحية من النسك، فاقتضت الآية أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يؤديها، والأمر على الوجوب فهو خاص به، لا يتعدى إلى الأمة، وهذا أقعد من الاستدلال بالآية على وجوب الأضحية على الأمة فتأمله.
وقد خرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث شعبة قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، سمعت أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يضحى بكبشين وأنا أضحي بكبشين.
وله من حديث شعبة حدثنا قتادة عن أنس، قال: ضحى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بكبشين أملحين فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده [ (3) ] .
وخرّجه مسلم [ (4) ] ، ولفظه: ضحى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما.
وخرّج النسائي [ (5) ] من حديث حفص عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: ضحى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكبش أقرن فحيل يمشي في سواد، ويأكل في سواد، وينظر في سواد.
__________
[ (1) ] الأنعام: 162.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 22، كتاب الأضاحي، باب (9) من ذبح الأضاحي بيده، حديث رقم (5553) .
[ (3) ] المرجع السابق: حديث رقم (5558) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 35، كتاب الأضاحي باب (3) استحباب الضحية، وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير، حديث رقم (1966) .
[ (5) ] (سنن النسائي) : 7/ 252، كتاب الضحايا، باب (43) حديث رقم (4402) .(13/23)
وخرّجه الترمذيّ بهذا الإسناد مثله، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حفص بن غياث.
وخرّجه أبو داود [ (1) ] من حديث حفص ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يضحى بكبش أقرن فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد.
وخرّج أبو بكر البزار من حديث أبي عامر، قال: حدثنا زهير بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن على بن حسين عن أبي رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ضحى اشترى كبشين، سمينين، أقرنين، أملحين، فإذا صلى وخطب أتى بأحدهما وهو في مصلاه فذبحه، ثم يقول: اللَّهمّ هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله ... الحديث.
سادسها: أن الآمديّ وابن الحاجب، عدّا ركعتي الفجر من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا خلاف كما في ذلك، ويشهد ما في حديث ابن عباس المتقدم، إلا أنه ضعيف.
__________
[ (1) ] (عون المعبود بشرح سنن أبي داود) : 4/ 352، كتاب الضحايا، باب (4) ما يستحب من الضحايا، حديث رقم (2793) .
(فحيل) بوزن كريم. قال الخطابي: هو الكريم المختار للفحولة، وأما الفحل فهو عام في الذكورة منها، وقالوا: في ذكورة النخل فحال فرقا بينه وبين سائر الفحول من الحيوان. انتهى.
قال في (النيل) : فيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ضحى بالفحيل كما ضحى بالخصي «ينظر في سواد إلخ»
معناه أن ما حول عينيه وقوائمه وفمه أسود.(13/24)
المسألة الرابعة: التهجد كان واجبا عليه
فقال القفال: هو ما يصلى بالليل وإن قل، قال اللَّه- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [ (1) ] أو زيادة على ثواب الفرائض بخلاف تهجد غيره، فإنه جائز للنقصان المتطرق إلى الفرائض، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم معصوم من تطرق الخلل إلى مفروضاته، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. حكاه إمام الحرمين.
وذكر البغويّ في (تفسيره) نحوه، وقال الحسن وغيره: ليس لأحد نافلة.
إلا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأن فرائضه كاملة، وأما غيره فلا يخلو عن نقص، فنوافله تكمل فرائضه، وأسنده البيهقيّ في (دلائل النبوة) عن مجاهد وكذا ابن المنذر في (تفسيره) ، وحكى ابن المنذر أيضا عن الضحاك نحوه، وذكره سليمان بن حبان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، وذكر محمد بن نصر المروزي، عن أبي إسحاق أنه- تعالى- قال: نافِلَةً لَكَ قال: ليس هي نافلة لأحد إلا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وعن مجاهد قال: النافلة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو له نافلة، من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل له وزيادة، فالناس يعملون ما سوى المكتوبات لذنوبهم في كفارتها، فليس للناس نوافل وإنما هي للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة.
وعن الحسن: لا تكون نافلة الليل إلا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وعن قتادة: نافِلَةً لَكَ قال: تطوعا وفضيلة لك.
وخرّج من طريق وكيع: يعنى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ قال محمد بن نصر: قد سمى ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- التطوع نوافل من الناس كلهم، لم يخص بذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دون غيره، وهذا المعروف في اللغة، أن كل تطوع نافلة من الناس كلهم.
واستدل الرافعي وغيره بحديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الإسراء: 79.(13/25)
قال: ثلاث هن على فرض، وهن لكم سنة: الوتر، والسواك، وقيام الليل [ (1) ] .
وهو حديث ضعيف، أخرجه البيهقي في (السنن) و (الخلافيات) من حديث موسى بن عبد الرحمن الصنعاني عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ثلاث هن عليّ فرض وهن لكم سنّة: الوتر، والسواك، وقيام الليل.
وموسى هذا هو موسى ابن عبد الرحمن الثقفي الصنعاني أبو محمد المفسّر. قال ابن عدي: منكر الحديث، وقد يقبل بابن جريح، عن عطاء، عن ابن عياش، وهذه الأحاديث بواطيل.
وقال البيهقيّ: موسى هذا ضعيف جدا ولم يثبت في هذا إسناد.
وقال الشيخ أبو حامد: إن الشافعيّ نص على أنه نسخ وجوب قيام الليل في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كما نسخ في حق الأمة فإنه كان واجبا في ابتداء الإسلام على الأمة كافة.
قال ابن الصلاح، والنووي في (الروضة) : وهذا هو الصحيح تشهد له الأحاديث.
قال مؤلفه: قال الشافعيّ: سمعت من أثق خبره وعمله، يذكر أن اللَّه- عز وجل- أنزل فرضا في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس، قال: كأنه يعنى قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [ (2) ] ، ثم نسخه في [آخر] السورة بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [ (3) ] فينسخ قيام الليل، أو نصفه، أو أقل، أو أكثر بما تقدم.
قال: ويقال: نسخ ما وصفت في المزمل بقول اللَّه- تعالى-: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً
__________
[ (1) ] (سبق تخريجه) . وموسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعاني منكر الحديث، ترجمته في (الكامل في ضعفاء الرجال) : 6/ 349، ترجمة رقم (210/ 1831) .
[ (2) ] المزمل: 1- 4.
[ (3) ] المزمل: 20.(13/26)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [ (1) ] فأعلمه أن صلاة الليل نافلة لا فريضة، والفرائض فيما ذكر من ليل ونهار، وقال: ففرائض الصلوات خمس، وما سواها تطوع. انتهى، فهذا ما أشار إليه الشيخ أبو حامد من نصّ الشافعيّ.
وقال محمد بن نصير المروزي في كتاب (قيام الليل) وقد حكاها عن الشافعيّ: فذهب الشافعيّ في الحكاية التي حكاها وغيره، إلى أن اللَّه- تعالى- افترض قيام الليل في أول سورة المزمل على المقادير التي ذكرها، ثم نسخ ذلك في آخر السورة، وأوجب قراءة ما تيسر في قيام الليل فرضا، ثم نسخ فرض قراءة ما تيسر بالصلوات الخمس.
__________
[ (1) ] الإسراء: 78- 79.(13/27)
وأما سائر الأخبار التي ذكرناها عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها وابن عباس وغيرهما فإنّها دلت على أن آخر السورة نسخ أولها فصار قيام الليل تطوعا بعد فرضيته بنزول آخر السورة
فذهبوا إلى أن قوله- تعالى-: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [ (1) ] اختيار لا إيجاب فرض. قال محمد بن نصر: وهذا أولى القولين عندي بالصواب، وكيف يجوز أن تكون الصلوات الخمس مفروضات في أول الإسلام، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة، فرضت عليه ليلة أسرى به، والأخبار التي ذكرناها تدل على أن قوله- تعالى-: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إنما نزل بالمدينة، ونفس الآية تدل على ذلك؟
قوله: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ (2) ] والقتال في سبيل اللَّه إنما كان بالمدينة، وكذلك قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ* والزكاة إنما فرضت بالمدينة.
وفي حديث جابر: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثهم في الجيش وقد كان كتب عليهم قيام الليل، وبعثه الجيوش لم يكن إلا بعد قدوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، قال- تعالى-:
ما تَيَسَّرَ*، يدل على أنه ندب واختيار وليس بفرض. انتهى.
قال مؤلفه: وقال عمر بن نصر: لم يخف على الشافعيّ شيء مما قلت، وإنما أرادوا- واللَّه أعلم- أن هذه الآية نسخت بنزولها قيام الليل، أو بقول اللَّه- تعالى- فيها: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، فتأمله تجده كذلك.
__________
[ (1) ] المزمل: 20.
[ (2) ] المزمل: 20.(13/28)
وخرّج مسلم [ (1) ] من حديث سعيد، عن قتادة، عن زرارة، أن سعيد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل اللَّه فقدم المدينة، فأراد أن يبيع عقارا بها، فيجعله في السلاح والكراع، ويجاهد الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة أتى أناسا من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنهاهم نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أليس لكم فيّ أسوة؟.
فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها، وأشهد على رجعتها، فأتى ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فسأله عن وتر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟
قال: من؟ قال: عائشة، فأتها فاسألها، ثم ائتني فأخبرني بردها عليك، فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستخلفته إليها، فقال: ما أنا بمقاربها لأني نهيتها إلى أن تقول في هاتين الشعبتين شيئا، فأبت فيهما إلا مضيا.
قال: فأقسمت عليه، فجاء، فانطلقنا إلى عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، فأستأذنا عليها، فأذنت لنا، فدخلنا عليها، فقالت: أحكيم؟
فعرفته، فقال: نعم، فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام، ثم قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر، فترحمت عليه، وقالت: خيرا، قال قتادة: وكان أصيب يوم أحد، فقلت: [يا] أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان القرآن، فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء من أمره [ (2) ] ، ثم بدا لي، فقلت:
أنبئيني عن قيام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: ألست تقرأ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (3) ] ؟
قلت: بلى، قالت: فإن اللَّه- عز وجل- افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه حولا، وأمسك اللَّه- عز وجل- خاتمتها
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 271- 273، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (28) جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، حديث رقم (139) .
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (صحيح مسلم) : «عن شيء حتى أموت» .
[ (3) ] المزمل: 1.(13/29)
اثنى عشر شهرا في السماء، حتى أنزل اللَّه [عز وجل] في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة.
قال: قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه اللَّه ما يشاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس إلا في الثامنة، فيذكر اللَّه، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر اللَّه- عز وجل- ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان.
قال: فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت، لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به، قال: قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها.
وخرّجه أيضا من حديث هشام، عن أبيه، عن قتادة، من حديث معمر عن قتادة، وأخرجه النسائي [ (1) ] من حديث سعيد عن قتادة مختصرا.
وخرّج أبو داود [ (2) ] من طريق يزيد النحويّ عن عكرمة، عن ابن عباس، قال في المزمل: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ [ (3) ] نسختها الآية التي فيها: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [ (4) ] وناشئة الليل:
__________
[ (1) ] (سبق تخريجه) .
[ (2) ] قال المنذري: صح من حديث عائشة أنها قالت: «وأمسك اللَّه خاتمتها- تريد سورة المزمل- أثنى عشر شهرا في السماء. (هامش سنن أبي داود) .
[ (3) ] المزمل: 2، 3.
[ (4) ] المزمل: 20.(13/30)
أوله، كانت صلاتهم أول الليل، يقول: هو أجدر أن تحصوا ما فرض اللَّه عليكم من قيامكم، وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ.
وقوله- تعالى-: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [ (1) ] هو أجدر أن يفقه القول، وقوله- تعالى-: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [ (2) ] يقول فراغا طويلا.
وخرّج من طريق وكيع [ (3) ] ، عن مسعود، عن سماك الخثعميّ عن ابن عباس، قال: لما نزلت أول المزمل، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها سنة. ترجم عليه باب نسخ قيام الليل والتيسير فيه.
وذهب بعضهم إلى أن الناسخ قوله- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ وقوله- تعالى-: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ الآية، وأن ذلك ناسخ لقيام الليل في حق الأمة فقط، وفي هذا نظر، فإن الخطاب في أول السورة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد شركته الأمة في ذلك، فالخطاب في آخرها يتوجه لمن يتوجه إليه الخطاب في أولها، وقد قيل: إنّ المنسوخ من قيام الليل ما كان مقدرا، وأما الواجب فهو باق لقوله- تعالى-: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وهذا بناء على أن المراد بالقراءة الصلاة، فسماها- تعالى- ببعض أجزائها، فتكون الآية كقوله- تعالى-: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إذ لا بد من الهدى، فكذلك لا بد من صلاة الليل.
وحديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، المخرج في (الصحيحين) [ (4) ] كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت
__________
[ (1) ] المزمل: 2.
[ (2) ] المزمل: 7.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 2/ 72، كتاب الصلاة، أبواب قيام الليل، باب (306) نسخ قيام الليل والتيسير فيه، حديث رقم (1305) ، (تفسير ابن كثير) : 4/ 465، سورة المزمل.
[ (4) ] (فتح الباري) : 3/ 18، كتاب التهجد، باب (6) قيام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الليل، وقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: كان يقوم حتى تفطر قدماه.(13/31)
__________
[ () ] والفطور: الشقوق، انفطرت: انشقت، حديث رقم (1130) ، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، وأما الصبر فواضح، وأما الشكر فالقيام بحق اللَّه- تعالى- عليه في تلك البلية، فإن للَّه على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء.
ثم الصبر على ثلاثة أقسام: صبر المعصية فلا يرتكبها، وصبر على الطاعة حتى يؤديها، وصبر على البلية فلا يشكو ربه فيها. والمرء لا بد له من واحدة من هذه الثلاث، فالصبر لازم له أبدا لا خروج له عنه، والصبر سبب في حصول كل كمال، وإلى ذلك
أشار صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله في الحديث الأول: «إن الصبر خير ما أعطيه العبد» .
وقال بعضهم: الصبر تارة يكون للَّه، وتارة يكون باللَّه، فالأول: الصابر لأمر اللَّه طلبا لمرضاته، فيصير على الطاعة، ويصير على المعصية، والثاني: المفوض للَّه بأن يبرأ من الحول والقوة، ويضيف ذلك إلى ربه.
وزاد بعضهم: الصبر على اللَّه، وهو الرضا بالمقدور، فالصبر للَّه يتعلق بإلهيته ومحبته، والصبر به يتعلق بمشيئته وإرادته، والثالث: يرجع إلى القسمين الأولين عند التحقيق، فإنه لا يخرج عن الصبر على أحكامه الدينية، وهي أوامره ونواهيه، والصبر على ابتلائه وهو أحكامه الكونية. واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (فتح الباري) .
وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (18) إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم (79) ، (80) ، (81) . قال القاضي: الشكر معرفة إحسان المحسن والتحدث به، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرا لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد للَّه- تعالى- اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته.
وأما شكر اللَّه- تعالى- أفعال عباده فمجازاته إياهم عليها، وتضعيف ثوابها، وثناؤه بما أنعم به عليهم، فهو المعطي والمثنى سبحانه، والشكور من أسمائه مواظبته- سبحانه وتعالى- بهذا المعنى، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (شرح النووي) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 167، حديث رقم (24323) ، من حديث السيدة عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- (5) ، (6) راجع التعليق السابق. وفيه مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال- تعالى-: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً قال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما يعبد اللَّه خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى(13/32)
عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: يا رسول اللَّه! أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة! أفلا أكون عبدا شكورا؟.
وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن صخر، عن أبي قسيط، عن عروة وأخرجاه من وجه آخر عن المغيرة بن شعبة،
وهو من جملة ما يدل على عدم وجوب قيام الليل عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) : وأوجب بعض التابعين قيام الليل فرضا، ولو كان كقدر حلب شاة، وهو عبيدة السلماني، وهو قول شاذ متروك لإجماع العلماء على أن قيام الليل منسوخ عن الناس بقوله- عز وجل-:
__________
[ () ] ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لم لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك.
والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، ومن ثم قال- سبحانه وتعالى-: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وفيه ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه من الاجتهاد في العبادة والخشية من ربه.
قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة اللَّه- تعالى- عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق اللَّه أعظم من أن يقوم بها العباد. واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
وقيل: أخرج البخاري هذا الحديث لينبه على أن قيام جميع الليل غير مكروه، ولا تعارضه الأحاديث الآتية بخلافه، لأنه يجمع بينها بأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يداوم على قيام جميع الليل، بل كان يقوم وينام، كما أخبر عن نفسه، وأخبرت عنه عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وأخرجه البخاريّ أيضا في كتاب التفسير، باب (2) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً حديث رقم (4836) ، (4837) ، وفي كتاب الرقاق، باب (20) الصبر على محارم اللَّه إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ، حديث رقم (6471) .
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : ووجه مناسبته للترجمة أن الشكر واجب، وترك الواجب حرام، وفي شغل النفس بفعل الواجب صبر عن فعل الحرام، والحاصل أن الشكر يتضمن الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية.(13/33)
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ... فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ والفرائض لا تثبت إلا بتقدير وتحصيل.
وذكر محمد بن نصر المروزي في كتاب (قيام الليل) بسنده إلى أبي رجاء، قلت للحسن: ما تقول في رجل حدثنا القرآن كله عن ظهر قلب، ولا يقول به، إنما يصلي المكتوبة؟ فقال: لعن اللَّه ذاك إنما [القيام] للقرآن، قلت:
قال اللَّه تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: نعم ولو خمسين آية، ونقل أبو محمد بن حزم في (المحلى) [ (1) ] أن الخمسين [آية] تقول: إن الوتر فرض وإن تهجد الليل فرض.
__________
[ (1) ] (المحلى) : 2/ 93، كتاب الصلاة، مسألة رقم (292) ، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول، عن أبي مجاز، أن أبا موسى الأشعري كان بين مكة والمدينة، فصلى العشاء ركعتين، ثم قام فصلى ركعة أوترها، وقرأ فيها بمائة آية من سورة النساء، وقال: ما ألوت أن وضعت قدمي حيث وضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأن أقرأ ما قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(13/34)
تنبيهات
الأول: أن قبل قوله- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [ (1) ] يقتضي أن التهجد غير واجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن النافلة غير الواجب. قال ابن سيده:
العطية عن بدء، والنفل ما يفعله الإنسان مما لا يجب عليه. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ قلنا بها أن النافلة فيها بمعنى الزيادة.
ومنه قوله- تعالى-: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [ (2) ] ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [ (3) ] أن إسحاق ويعقوب زيادة، لأن إبراهيم عليه السلام لما سأل اللَّه- سبحانه- ولدا بقوله: هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [ (4) ] استحباب دعاءه ووهب له إسحاق، وزاده يعقوب بن إسحاق، من غير زيادة، فكان يعقوب نافلة لإبراهيم، عند الولد، قال ابن سيده: النافلة ولد، وهو من ذلك يعني من العطية امتدادا، فإذا تقرر أن النافلة الزيادة، ولا يأتونكم منا غير واجبة.
وخرّج مسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل المزني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: هو خليل على جابر بن عبد اللَّه ... فذكر حديث جابر الطويل في الحج إلى أن قال جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد صلى بنا المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينها شيئا، ثم اضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى طلع الفجر فصلى حين تبين له الصبح. الحديث،
وهذا يدل على عدم وجوب الوتر والتهجد لأن الظاهر أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يفعلها تلك الليلة.
وقد يجاب عن التهجد بأنه لعله إذ ذاك صار منسوخا في هذا الحديث وعلى ما جزم به الدارميّ.
__________
[ (1) ] الاسراء: 79.
[ (2) ] الأنبياء: 72.
[ (3) ] مريم: 49.
[ (4) ] الصافات: 100.(13/35)
والّذي نص عليه الشافعيّ في (الأم) وغيره: أن السنة ترك التنفل بعد العشاء. كما يسن تركه بعد المغرب، وصرح به الماوردي، والقاضي حسين، وغيرهما، وأبعد البحلي فقال: إنه يأتي بسنة المغرب بعد العشاء ثم بسنة العشاء، ثم بالوتر، وهو مصادم للنص.
الثاني: قال الرافعيّ: مقتضى الحديث المروي عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- الّذي سلف، وكلام الأئمة هنا كون الوتر غير التهجد المأمور به، وذلك مخالف لما مرّ في باب صلاة التطوع أنه يشبه أن يكون الوتر هو التهجد، ويعتضد به الوجه المذكور هناك عن رواية الروياني. قال وكان التغاير أظهر، وكذا قال في (تذييله على الشرح) : من أنه الأظهر وتبعه صاحب (الحاوي) .
لكن خرّج البخاريّ [ (1) ] ومسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] والترمذي [ (4) ] من حديث مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سأل
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 41، كتاب التهجد، باب (16) قيام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل في رمضان وغيره، حديث رقم (1147) ، وذكره في كتاب صلاة التراويح، باب (1) فضل من قام في رمضان، حديث رقم (2013) ، وفي كتاب المناقب، باب (24) كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تنام عينه ولا ينام قلبه، رواه سعيد بن ميناء، عن جابر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 263، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (17) صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الليل، وأن الوتر ركعة، وأن الركعة صلاة صحيحة، حديث رقم (738) .
قوله: «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي»
هذا من خصائص الأنبياء- صلوات اللَّه وسلامه عليهم-. وسبق في حديث نومه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الوادي، فلم يعلم بفوات وقت الصبح حتى طلعت الشمس، وأن طلوع الفجر والشمس متعلق بالعين لا بالقلب. وأما أمر الحدث ونحوه فمتعلق بالقلب، وأنه قيل أنه في وقت ينام قلبه، وفي وقت لا ينام، فصادف الوادي نومه. والصواب الأول. (شرح النووي) .
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 2/ 86- 87، كتاب الصلاة، باب (316) في صلاة الليل، حديث رقم (1341) .(13/36)
عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، كيف كانت صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلى ثلاثا، قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: فقلت: يا رسول اللَّه أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي. وهذا يدل على أن التهجد هو غير الوتر.
وما خرّجه مسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] والترمذي [ (3) ] والنسائي [ (4) ] من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كان
__________
[ () ] (4) (سنن الترمذي) : 2/ 302- 303، أبواب الصلاة، باب (325) ما جاء في وصف صلاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل، حديث رقم (439) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 262، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (17) صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الليل، وأن الوتر ركعة، وأن الركعة صلاة صحيحة، حديث رقم (737) .
قال القاضي: قال العلماء: في هذه الأحاديث أخبار كل واحد من ابن العباس، وزيد، وعائشة، بما شاهد، وأما الاختلاف في حديث عائشة: فقيل: هو منها، وقيل: من الرواة عنها، فيحتمل أن إخبارها بأحد عشرة هو الأغلب، وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات، فأكثره خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه، بطول قراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود، أو لنوم، أو عذر أو مرض، أو غيره في بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت: فلما أسن صلى سبع ركعات، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل، كما رواه زيد بن خالد، وروتها عائشة بعدها، هذا في مسلم، وتعد ركعتي الفجر تارة، وتحذفهما تارة، أو تعد إحداهما، وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة.
قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات، التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما اختاره لنفسه، واللَّه- تعالى- أعلم.(13/37)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها. يقابل الحديث الأول، والّذي يلزم من كلامهم أن يكون كل وتر تهجدا، مأمورا به.
ولفظ الشافعيّ- رحمه اللَّه-: وأوكد النوافل الوتر ويشبه أن يكون صلاة التهجد، والظاهر أن الوتر والتهجد يفرقان، فالوتر لا يعتبر في حقيقته أن يكون بعد النوم، بخلاف التهجد.
قال ابن سيده: هجد يهجد هجودا، وأهجد نام، والهاجد والهجود المصلي بالليل، والجمع هجود وهجد. قال: وتهجد القوم، واستيقظوا للصلاة أو لغيرها، وقال الأزهري: المتهجد القائم لصلاة الليل من النوم، فكأنه قيل له متهجد لإلقائه الهجود عن نفسه، كما يقال للعابد: متحنث لإلقائه الحنث عن نفسه، فيمكن تأويل كلام الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على أن يقال: إن الّذي يتبع الوتر في التأكيد هو التهجد.
وذكر محمد بن نصر المزروي، عن الحجاج بن عمر بن غزية الأنصاري أنه قال: يحسب أحدكم أنه إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح، أنه قد تهجد؟ إنما التهجد الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، ثم الصلاة بعد رقدة، قال: فتلك كانت صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] (2) (سنن أبي داود) : 2/ 96، كتاب الصلاة، باب (316) في صلاة الليل، حديث رقم (1359) .
[ (3) ] (سنن الترمذيّ) : 2/ 304، أبواب الصلاة، باب (326) بدون ترجمة، حديث رقم (442) ، من حديث وكيع، عن شعبة، عن أبي جمرة الضبعيّ، عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
[ (4) ] (سنن النسائي) : 3/ 266- 267، كتاب قيام الليل، باب (41) كيف الوتر بخمس، حديث رقم (1716) ، وقد انفراد به النسائي.(13/38)
المسألة الخامسة: صلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل
وكانت ثمانية أنواع:
النوع الأول: أن يصلي ثنتي عشرة ركعة يسلم في كل ركعتين، ثم يصلي ركعة واحدة، ويسلم.
وخرّج أبو داود [ (1) ] من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.
النوع الثاني: أن يصلي ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين، ثم يصلي خمس ركعات متصلات لا يجلس إلا في آخرهن [ (2) ] .
خرّج النسائي [ (3) ] وغيره من طريق عبدة بن سليمان، قال: حدثنا هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر بينهن بخمس ركعات لا يجلس في شيء من الخمس إلا في آخرهن، ثم يجلس ويسلم.
النوع الثالث:
أن يصلي عشر ركعات يسلم في آخر كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة.
خرّج مسلم [ (4) ] من طريق ابن وهب قال: أخبرني وهب، أخبرني عمرو ابن الحارث عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 96- 97، كتاب الصلاة، باب (316) في صلاة الليل، حديث رقم (1360) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (1358) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 3/ 266- 267، كتاب قيام الليل، باب (41) كيف الوتر بخمس، حديث رقم (1716) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 262، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (17) صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الليل، وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، حديث رقم (122) .(13/39)
- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي في ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء- وهي التي تدعو الناس العتمة- إلى الفجر، إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين، ويوتر لواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر، وجاء المؤذن، قام، فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
النوع الرابع: أن يصلي ثماني ركعات لا يجلس في شيء منهن جلوس تشهد إلا في آخرها، فإذا جلس في آخرهن وتشهد قام دون أن يسلم، فأتى بركعة واحدة، ثم يجلس ويتشهد ويسلم.
خرّج مسلم [ (1) ] من حديث سعد بن هشام المتقدم، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فيذكر اللَّه ويحمده، ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد، فيذكر اللَّه- عز وجل-، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض، ثم يسلم. الحديث.
وخرّج النسائي [ (2) ] من طريق حماد عن أبي حمزه، عن الحسن، عن سعد ابن هشام، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يوتر بتسع ركعات يقعد في الثامنة، ثم يقوم فيركع ركعة.
النوع الخامس: أن يصلي سبع ركعات لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخر السادسة منهن، ثم يقوم دون تسليم، فيأتي بالسابعة، ثم يجلس ويتشهد ويسلم.
خرّج النسائي [ (3) ] من طريق معاذ بن هشام الدستوائي، حدثنا أبي عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام بن عامر، عن عائشة- رضي
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 3/ 67- 68، كتاب السهو، باب (67) أقل ما يجزئ من عمل الصلاة، حديث رقم (1314) ، باب (43) كيف الوتر بتسع، حديث رقم (1719) ، (1920) ، وأخرجه ابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع، حديث رقم (1191) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 3/ 67، كتاب قيام الليل، باب (42) كيف الوتر بسبع، حديث رقم (1718) .(13/40)
اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما كبر وضعف، أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض، ولا يسلم، فيصلي السابعة، ثم يسلم تسليمة ... الحديث.
النوع السادس: أن يصلي سبع ركعات لا يجلس جلوس تشهد إلا في آخرهن، جلس وتشهد وسلم.
خرّج النسائي [ (1) ] من طريق سعيد، حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أن عائشة أم المؤمنين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما أسنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذه اللحم، صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن، ثم يصلي ركعتين بعد أن يسلم.
النوع السابع: أن يصلي خمس ركعات متصلات، لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخرهن.
خرّج النسائي [ (2) ] من حديث سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن.
النوع الثامن: أن يصلي ثلاث ركعات يجلس في الثانية، ثم يقوم دون أن يسلم، ويأتي بالثالثة، ثم يجلس، ويتشهد، ويسلم كصلاة المغرب.
خرّج النسائي [ (3) ] من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعد بن هشام، أن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- حدثته أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يسلم في ركعتي الوتر.
قال محمد بن نصر المروزي: فأما الوتر بثلاث ركعات فإنا لم نجد عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرا ثابتا مفسرا أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن كما وجدنا عنه أخبارا أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوتر بثلاث، لا ذكر التسليم فيها.
فذكر من طريق يونس عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يوتر بثلاث،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : باب (42) كيف الوتر بسبع، حديث رقم (1717) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (41) كيف الوتر بخمس، حديث رقم (1713) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (36) كيف الوتر بثلاث؟ حديث رقم (1697) .(13/41)
يقرأ في الأولى ب- سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [ (1) ] وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [ (2) ] وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ (3) ] .
قال مؤلفه: وذكر في الباب عن عمران بن حصين وعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، وعبد الرحمن بن أبزى، وأنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أسند ذلك محمد بن نصر عنهم من طريق عديدة، ثم قال:
فهذه أخبار منهم، تحتمل أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد سلم في الركعتين من هذه التي روى أنه أوتر بها، جائز أن يقال لمن صلى عشر ركعات يسلم بين كل ركعتين: فلا نصلي عشر ركعات، وكذلك إن لم يسلم إلا في آخرهن، جاز أن يقال: يصلي عشر ركعات، والأخبار المفسرة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا أولى أن تتبع، ويحتج بها، غير أنا روينا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه خيّر الموتر بين أن يوتر بخمس أو بثلاث، أو بواحدة.
وروينا عن بعض أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، فالعمل بذلك جائز عندنا، والاختيار ما بينا.
فأما الحديث الّذي حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يسلم في ركعتي الوتر.
وفي رواية قد أسندها أيضا: كان لا يسلم في الركعتين الأولين من الوتر قال: فهذا عندنا قد اختصره سعيد من الحديث الطويل الّذي ذكرناه، ولم يقل في هذا الحديث أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أوتر بثلاث لم يسلم في الركعتين الوتر، وصدق في ذلك الحديث، فكان يكون حجة لمن أوتر بثلاث بلا تسليمة في الركعتين، إنما قال: لم يسلم في ركعتي الوتر، وصدق في ذلك الحديث، أنه لم يسلم في
__________
[ (1) ] الأعلى: 1.
[ (2) ] الكافرون: 1.
[ (3) ]
الإخلاص: 1، ثم زاد في آخره «ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، يطيل في آخرهن» . المرجع السابق: باب (37) ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبيّ بن كعب في الوتر، حديث رقم (1698) ، (1699) ، (1700) .(13/42)
الركعتين، ولا في الست، ولم يجلس أيضا في الركعتين، كما لم يسلم فيهما، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
وقال ابن عبد البر: وأهل العلم يقولون: إن الاضطراب عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- في أحاديثها في الحج، وأحاديثها في الرضاع، وأحاديثها في صلاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل، وأحاديثها في قصر صلاة المسافر، ولم يأت ذلك إلا منها، لأن الذين يروون ذلك عنها حفاظ أثبات:
القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، والأسود بن يزيد، ومسروق، ونظراؤهم، وقد أجمع العلماء على أن لا حد ولا شيئا مقدرا في صلاة الليل، وأنها نافلة، فمن شاء أطال فيها القيام، وقلت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.(13/43)
المسألة السادسة: في السواك وكان واجبا عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصحيح
واستدل له بحديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- المتقدم، وقد تبين ضعفه لكن خرّج أبو داود [ (1) ] والبيهقي [ (2) ] في (سننهما) ، وابن خزيمة [ (3) ] من حديث عبد اللَّه بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شقّ ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرنا بالسواك لكل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 41- 42، كتاب الطهارة، باب (25) السواك، حديث رقم (48) ، ثم قال: فكان ابن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يرى أن به قوة، فكان لا يدع الوضوء لكل صلاة. قال أبو داود: إبراهيم بن سعد رواه عن محمد بن إسحاق، قال:
عبيد اللَّه بن عبد اللَّه.
قال الخطّابيّ: يحتج بهذا الحديث من يرى أن المتيمم لا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، وأن عليه أن يتيمم لكل صلاة فريضة.
قال: وذلك لأن الطهارة بالماء كانت مفروضة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم لكل صلاة، وكان معلوما أن حكم التيمم الّذي جعل بدلا عنها مثلها في الوجوب، فلما وقع التخفيف بالعفو عن الأصل ولم يذكر سقوط التيمم، كان باقيا على حكمه الأول، وهو قول عليّ بن أبي طالب، وابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، والنخعيّ، وقتادة، وإليه ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. (معالم السنن) .
[ (2) ]
(سنن البيهقيّ) : 7/ 49، كتاب النكاح، باب ما روى عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قوله: «أمرت بالسواك حتى خفت أن يدردني» ، يدردني أي يذهب بأسناني.
[ (3) ] (صحيح ابن خزيمة) : 1/ 71- 72، باب (106) الأمر بالسواك عند كل صلاة أمر ندب وفضيلة، لا أمر وجوب وفريضة، حديث رقم (138) .(13/44)
وأخرجه الحاكم [ (1) ] في (مستدركه) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه.
وقد اختلف في هذا الحديث على ابن إسحاق، فقيل: عنه عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، وقيل: عن محمد بن طلحة، عن محمد بن يحيى، عن بن إسحاق، فالظاهر من هذا الحديث أنه أوجب عليه السواك، وهو الصحيح عند الأصحاب قاله النووي: ومال إلى قوله ابن الصلاح، ويؤيده ما
خرّجه البيهقيّ [ (2) ] من حديث أم سلمة مرفوعا: ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خشيت على أضراسي.
قال البخاريّ: هذا حديث حسن [ (3) ] .
قال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا يحيى بن عبد اللَّه بن سالم، عن عمرو مولى المطلب، عن المطلب بن عبد اللَّه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لقد لزمت السواك حتى تخوفت يتدردني. رواه البيهقي [ (4) ] وفيه انقطاع بين المطلب وعائشة.
وقال محمد بن يوسف الفريابي: قال ابن عيينة: سمعت أبا الحويرث الدرقي يذكر عن نافع بن جبير بن مطعم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد أمرت بالسواك حتى خفت أن يدردني.
هكذا ذكره مرسلا، وحدثنا إسرائيل، وحدثنا
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 1/ 58، كتاب الطهارة، حديث رقم (556) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه، إنما اتفقا على حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، وله شاهد في الكتابين من حديث بريدة.
[ (2) ]
(سنن البيهقيّ) : 7/ 49، كتاب النكاح، باب ما روى عنه من قوله: «أمرت بالسواك حتى خفت أن يدردني» .
[ (3) ] المرجع السابق.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 7/ 50.(13/45)
أبو إسحاق عن التميمي واسمه أربدة قال: قلت لابن عباس: أرأيت السواك؟
فقال: ما زال يذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ظن أنه سينزل عليه فيه شيء.
وخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من طريق ليث عن أبي بردة عن أبي المليح بن أسامة عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب عليّ.
وخرّجه الطبراني في (المعجم الكبير) من طريقين مدارهما على ليث بن أبي سليم بن زنيم أبي بكر القرشي مولاهم. ضعفه ابن معين والنسائي.
وخرّجه ابن ماجة [ (2) ] من حديث أبي أمامة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك حتى خشيت أن يفرض عليّ وعلى أمتي، ولولا خشيت أن أشق على أمتي لفرضته عليهم، وإني لأستاك حتى أني تخشيت أن يدرد مقادم فمي
إلا أن في سنده من تكلم فيه.
وخرّج الإمام أحمد [ (3) ] من طريق شريك عن أبي إسحاق عن التميمي، عن ابن عباس قال: قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر السواك حتى رأينا أو خشينا أنه ينزل عليه.
وخرّج الطبراني في (الأوسط) من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- بلفظ غير هذا.
وخرّج البزار من طريق عمران بن خالد الخياط، عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أمرت بالسواك حتى خشيت ادرادا وحتى خشيت على أمتي وأسناني.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 544، حديث رقم (15577) من حديث واثلة بن الأسقع.
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 106، كتاب الطهارة وسننها، باب (7) السواك، حديث رقم (289) باختلاف يسير في اللفظ.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 1/ 469، حديث رقم (2568) ، من مسند عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.(13/46)
واستدل من رأى أن السواك لم يكن واجبا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنما كان مستحبا برواية
أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب عليّ،
وطرقها كلها معلولة فتأملها.
تنبيه
هل المراد بوجوب السواك في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنسبة إلى الصلاة المفروضة؟
أو في النافلة أيضا؟ أو في الأحوال التي أكدها في حقنا؟ أو ما هو أعم من ذلك؟ وساق حديث عبد اللَّه بن حنظلة المتقدم أولا، يقول بوجوبه عليه مطلقا، وقال ابن الرفعة في (الكفاية) : إنه لم يصح أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعل السواك إلا عند القيام إلى الصلاة، وعند تغيير الفم، ثم قال: فإن قلت: قد روى مسلم عن شريح بن هانئ سألت عائشة عن أي شيء كان يبدأ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل بيته؟ قالت:
بالسواك [ (1) ] ولفظه كان يؤذن بالدوام، ثم أجاب يحتمل أن يكون فعل ذلك لأجل تغيير حصل في فمه، ثم استبعده بأن في رواية النسائي عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي ركعتين، ثم ينصرف فيستاك.
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 7/ 177، حديث رقم (5175) ، ورواه أبو داود برقم (51) ، (56) ، (57) في الطهارة، باب في الرجل يستاك بسواك غيره، وباب السواك لمن قام الليل، ومسلم برقم (253) في الطهارة، باب السواك، والنسائي في الطهارة، باب السواك في كل حين.(13/47)
المسألة السابعة: مشاورة ذوي الأحلام في الأمور
قال ابن سيده: وأشار عليه بأمر كذا، أمره به، وهي الشورى، والمشورة مفعلة، ولا تكون مفعولة لأنها مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال مفعول، وإن جاءت على مثال مفعول، وكذلك المشورة، وشاور مشاورة وشوارا، واستشاره طلب منه المشورة.
وقال الراغب [ (1) ] : والمشاورة واستخراج صائب الرأي عن الغير، واشتقاقه من شرت العسل وشورته إذا أظهرت ماله من الجري.
قلت اختلف في مشاورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، هل كانت واجبة عليه، أو مستحبة؟ فالصحيح عند أصحابنا أنها كانت واجبة عليه لقوله- تعالى-:
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [ (2) ] وظاهر الأمر الوجوب وذهب قوم إلى أنها كانت مستحبة، وقاسوا ذلك على غيره، وقالوا: الأمر للاستحباب من أجل استمالة قلوب أصحابه وحكى ذلك ابن القشيري عن نص الشافعيّ- رحمه اللَّه-، وأنه جعله
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: والبكر تستأمر تطبيبا لقلبها، إلا أنه واجب،
وهو قول الحسن، فإنه قال: قد [فعله حتى] يستن به من بعده.
وفي رواية: لقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غنيا عن المشاورة، ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده.
وقال الشافعيّ- رحمه اللَّه-: أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهريّ، قال: قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ما رأيت أحدا أكثر
__________
[ (1) ] لفظ الراغب: التشاور، والمشاورة، والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من قولهم: شرت العسل إذا اتخذته من موضعه، واستخرجته منه، قال- تعالى-:
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، والشورى: الأمر الّذي يتشاور فيه، قال- تعالى-: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ. (المفردات في غريب القرآن) : 270.
[ (2) ] آل عمران: 159.(13/48)
مشورة لأصحابه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] . ورواه الإمام أحمد وعبد الرزاق، وفي (سنن البيهقيّ) ، وفي إسناده انقطاع.
وروى أبو عبد الرحمن السلمي، من طريق محمد بن يزيد بن عبادة بن كثير، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، قال: لما نزلت هذه الآية: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [ (2) ] ، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه ورسوله غنيان عنها، ولكن جعلها رحمة في أمتي، فمن شاور منهم لم يعدم رشدا، ومن ترك المشورة منهم لم يعدم غيا،
فعلى هذا لا تبقى المشورة من الخصائص.
وقال الراغب: وقيل: كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم، قال- تعالى-: فَإِذا عَزَمْتَ [ (3) ] أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فتوكل على اللَّه في إمضاء أمرك وقرئ: فَإِذا عَزَمْتَ [ (4) ] بضم التاء أي عزمت لك على شيء فتوكل عليّ ولا تشاور بعد ذلك أحدا، والعزم ثبات الرأي على الأمر، نحو اجتماع الرأي، والتوكل على اللَّه الثقة به، والوقوف حيثما وقف، ونبه- تعالى- بقوله: فَبِما رَحْمَةٍ [ (5) ] على نعمته علي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أولا، وعلى أمته ثانيا، وأمر بالعفو عن تقصيرهم فيما يلزمهم له، وأن يستغفر لهم من ذلك، ثم أمره بإجراء نفسه أحدهم في الرأي، الّذي هو خاص بالإنسان، وقال- تعالى-: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [ (6) ] أي فإن قاربتهم هذه المقاربة فليكن اعتمادك على اللَّه [وتوكلك عليه] ، ومشاورته صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه ليقتدي به غيره، وقيل: تطيبا لقلوبهم.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] آل عمران: 159.
[ (3) ] آل عمران: 159.
[ (4) ] آل عمران: 159.
[ (5) ] آل عمران: 159.
[ (6) ] آل عمران: 159.(13/49)
وأما ما استشار فيه فهو الأمور الممكنات المتقاربة باختيار الفاعل
قال جامعه: قال الماورديّ: واختلف فيما يشاور فيه، فقال قوم: في الحروب ومكايدة العدوّ خاصة، وقال آخرون: في أمور الدنيا دون الدين، وقال آخرون: في أمور الدين بينها لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد، وقال الثعلبي: اختلف في المعنى الّذي أمر اللَّه- تعالى- نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمشاورة لهم فيه، مع كمال عقله، وجزالة رأيه، وتتابع الوحي عليه، ووجوب طاعته على أمته، فيما أحبوا أو كرهوا.
فقيل: هو خاص في المعنى، وإن كان عاما في اللفظ، ومعنى الآية:
ومشاورتهم فيما ليس عندك فيه من اللَّه- تعالى- عهد، يدل عليه قراءة ابن مسعود: «وشاورهم في بعض الأمر» ، وقال ابن الكلبي: ناظرهم لقاء العدو، ومكايد الحروب عند الغزو، وقال الراغب: وأما القصد بالاستشارة فتارة لاستضاءة المستشير برأي المستشار، أو لئلا يلزم إن استبد فيتفق وقوعه بخلاف إيراده، ولهذا قيل: الاستشارة حصن من الندامة، وأمن من الملامة، وتارة طلبا لهداية المستشار، إما لأن يبين له خطأ رأيه إن كان له رأي خطأ في ذلك الأمر، وإما أن لا يعتقد هو أو غيره أن الاستبداد فضيلة فيستبد رأيه فيما ربما يؤدي إلى فساد، وإما لإكرامه وتعظيمه، فإذا تقرر هذا فأمور النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تنفعك من أن يكون شيئا دنياويا، أو كان دينيا فمعلوم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غير محتاج إلى الاستضاءة برأي غيره من البشر، لما أمده اللَّه- تعالى- به من النور الإلهي، وما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يستشيرهم في شيء من أصول الشريعة، ولكن ربما كان يستشيرهم في بعض فروعها، التي هي مسائل الاجتهاد، نحو ما روي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم استشارهم في شعار يرفع للصلاة، ومثل ذلك تشريف لهم أولا، وتنبيه على أن ما سبيله الاجتهاد فحقه الاستعانة فيه بالآراء الكثيرة الصحيحة، لينقدح منها الصواب.(13/50)
وأما ما كان من الأمور الدنياوية كالمساحة، والكتاب، والحساب
فمعلوم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مستعينا بغيره في كثير منها، بل صرح في ذلك بكونهم أعرف بها منه، فيما
روى أنه لما ورد المدينة وجد أهلها يأبرون نخيلهم فقال: ما أرى أن ذلك ينفع فتركوه، فتبين نقص ثمارهم في تركه، فعاودوه، فقال: ما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وأنا أعلم بأمور آخرتكم [ (1) ] .
واعترض العلامة شرف الدين أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن محمد المرسي، على الراغب في هذا المثال، فقال: هذا الأمر من الأمور التي لا يستشار فيها، لأنها راجعة إلى ما أجرى اللَّه- تعالى- العادة فيها، فمن لم يعلم جري العادة في أن الثمار إذ لم تؤبر يسقط ثمرها، فإن الإبار لا ينفع، ومن علم جري العادة فيها قال: إن ذلك نافع، وإذا كان كذلك فلا معنى للاستشارة في ذلك، وإنما صلّى اللَّه عليه وسلّم لما لم يعلم جري العادة في ذلك
قال: ما أرى أن ذلك ينفع، ثم قال لهم: أنتم أعلم بأمر دنياكم،
قلت: والراغب يبعد من الصواب، فإن منعه لهم من الثابت، إن لم يكن رأيا أشار به فإنه في معناه، بدليل أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجع عن قوله الأول في المنع، وأقرهم على التأبير ولو لم يكن منعه لهم أشار به، لما رجع عنه.
قال الراغب: وعلى هذا ما يتعلق بأمر الحرب، مثل تهييجها تارة، وتليينها أخرى، والمن والافتداء تارة [ (2) ] ، ولذلك لما هم صلّى اللَّه عليه وسلّم بمصالحة عيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة، قيل له: إن كان ذلك بوحي فسمعا وطاعة، وإن
__________
[ (1) ] أبر النخل والزرع يأبره ويأبره أبرا وإبارا وإبارة. وأبره أصلحه، وتأبير النخل تلقيحه، ويقال: نخلة مؤبرة مثل مأبورة، والاسم منه الإبار على وزن الإزار. (لسان العرب) :
4/ 4- 3 مختصرا.
[ (2) ] إشارة إلى قوله- تعالى-: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد: 4] .(13/51)
كان برأي رأيته فليس ذلك بصواب، فترك رأيه لرأيهم، فثبت أن ما يتعلق بالأمور الدنيوية، فحال الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وغيره فيه، سواء، والمشاورة فيه مستحسنة له ولغيره.
قال المرسي: الأمور الممكنة على ضربين، منها ما جعل اللَّه- تعالى- فيه عادة مطردة تنخرم، فهذا مما لا يستشار فيه، بل من علم العادة كان أعلم ممن لا يعلمها.
والضرب الثاني: ما كانت العادة فيه أكثر، ورأيه فيها أصوب، ألا ترى أن من حاول التجارة علم وقت رخصها، وغلائها، وما يصلح، فيستشار فيها لعلمه بالأكثر وقوعا من الصلاح فيها، ولهذا ينبغي أن يستشار أرباب كل فن في فنهم، والاستشارة لا تعدو هذا، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
قلت: صحيح ما أورده المرسيّ، ومع صحته فلا يمنع كون مصالحة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيينة أو همّه بمصالحته، كان رأيا من عند نفسه، بحسب ما رآه من مصلحة الناس، وهو مأخوذ من المشورة، فكأنه أشاد بهذا، بل الحديث مصرح به فتأمله [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال الحافظ ابن كثير: قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيرة بين مفاداة الأسير والمنّ عليه منسوخة بقوله- تعالى-: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ رواه العوفيّ عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، وقاله الضّحاك، وقتادة، والسديّ، وابن جريح: وقال الآخرون- وهم الأكثرون-: ليست بمنسوخة.
ثم قال بعضهم: إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله.
وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء، لحديث قتل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم النضر بن الحارث، وعقبة ابن أبي معيط من أسارى بدر، وقال ثمامة بن آثال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين
قال له: «ما عندك يا ثمامة؟ فقال: إن تقتل، تقتل ذا دم، وإن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت.
وزاد الشافعيّ- رحمة اللَّه عليه- فقال: الإمام مخير بين قتله، أو المن عليه، أو مفاداته، أو استرقاقه أيضا. (تفسير ابن كثير) : 4/ 186، سورة محمد.(13/52)
المسألة الثامنة: كان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصابرة العدو وإن كثر عددهم، والأمة إنما يلزمهم الثبات إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف
ولم يبوب البيهقيّ- رحمه اللَّه- على هذه الخصوصية في (سننه) ، ولكن يستدل لذلك
بقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لعروة في جملة كلامه لما خرج إليه يوم الحديبيّة:
فإن أبوا فو اللَّه لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي، يريد صلّى اللَّه عليه وسلّم قريشا.
ويستدل أيضا بما وقع في يوم أحد فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفرد في اثنى عشر رجلا أو نحوهم، والعدو إذ ذاك نحو ثلاثة آلاف، ومثل ذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفرد يوم حنين كما هو مشهور في السير ومرّ ذكره، وسيمر إن شاء اللَّه- تعالى-.
ومن ذلك ما
ذكره الماورديّ في كتاب (الحاوي) أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا بارز رجلا في الحرب لم يكفّ عنه قبل قتله.
ومنه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم ينفر من الزحف وثبت بإزاء عدوّه وإن كثروا، ويمكن أن يستدل لذلك بأن الفرار والتولي من الزحف إنما هو تخوف القتل، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم معصوم من ذلك.(13/53)
المسألة التاسعة: كان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا رأى منكرا أن ينكره ويغيّره إنما يلزمه ذلك عند الإمكان
ووجهه أن اللَّه- تعالى- وعده بالعصمة والحفظ، فقال- سبحانه-:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (1) ] الآية. وقد ثبت في (الصحيحين) [ (2) ] وغيرهما من حديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت:
ما خيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمرين إلا أحب أيسرهما ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه، فينتقم للَّه بها.
ووجوب تغيير المنكر سببه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرّ عليه يظن جوازه، وقد قرر الآمديّ ذلك، فقال: وفرق ما إذا كان الفعل الصادر من كافر أو مسلم، فإن كان من كافر لم يدل على الجواز لما تقرر من كفره، وإن كان من مسلم فإن كان سبق منه تحريم ذلك الفعل، فسكوته يدل على النسخ، وإن لم يسبق، فيدلّ على الجواز، وأورد النووي في (الروضة) [ (3) ] سؤالا، فقال: قد يقال: هذا ليس من الخصائص، بل كل مكلف يتمكن من إزالة المنكر يلزمه تغييره، ثم أجاب
__________
[ (1) ] المائدة: 67.
[ (2) ] رواه البخاريّ في الأنبياء، باب صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي الأدب، باب
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يسروا ولا تعسروا»
وفي الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات اللَّه، وفي المحاربين، باب كم التعزيز والأدب، ومسلم رقم (2327) في الفضائل، باب مباعدته صلّى اللَّه عليه وسلّم للآثام، والموطّأ 2/ 903 في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، وأبو داود رقم (4785) في الأدب، باب التجاوز في الأمر. (جامع الأصول) : 11/ 248- 249.
[ (3) ] (روضة الطالبين) : 5/ 347، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.(13/54)
بأن المراد أنه لا يسقط عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم للخوف، فإن معصوم بخلاف غيره، واللَّه- تعالى- أعلم.
المسألة العاشرة: كان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم قضاء دين من مات من المسلمين معسرا عند اتساع المال [ (1) ]
خرّج البخاريّ في آخر كتاب الكفالة [ (2) ] ، وفي آخر كتاب النفقات [ (3) ] ، من طريق يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب.
وخرّج مسلم في آخر كتاب الفرائض [ (4) ] من طريق ابن وهب، قال:
أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي في (المرجع السابق) : وكان عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم قضاء دين من مات من المسلمين معسرا. وقيل: كان يقضيه تكرما. وقال في هامشه: وقيد الإمام محل الوجهين بما إذا صدر منه مطل ظلم به ومات، قال: فأما إذا لم يملك في حياته ما يؤديه ولم ينسب إلى المطل والتسويف لم يقض دينه من بيت المال، لأنه لقي اللَّه- تعالى- ولا مظلمة عليه، قال:
وحيث أوجبناه فشرطه اتساع المال، وفضله عن مصالح الأحياء.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 597- 598، كتاب الكفالة، باب (3) من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن، حديث رقم (2295) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 643- 644، كتاب النفقات، باب (15)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من ترك كلا أو ضياعا فإلي» ، حديث رقم (5371) ، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 65- 66، كتاب الفرائض، باب (4)
من ترك مالا فلورثته، حديث رقم (1619) .
قال الإمام النوويّ: إنما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يترك الصلاة عليه ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما فتح اللَّه عليه عاد يصلي عليهم، ويقضي دين من لم يخلف وفاء.(13/55)
- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يؤتى بالرجل عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح اللَّه- تعالى- الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلى قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته،
قال البخاريّ: فمن توفى من المؤمنين فترك دينا فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته.
وخرّج البخاريّ في كتاب الفرائض [ (1) ] من طريق يونس عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته.
وخرّجه في باب الاستقراض [ (2) ] ، ولفظه: ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ (3) ] فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا
__________
[ () ] وفيه الأمر بصلاة الجنازة، وهي فرض كفاية، وقد قيل: إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقضيه من مال مصالح المؤمنين، وقيل: من خالص مال نفسه، وقيل: كان هذا القضاء واجبا عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: تبرع منه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم.
واختلف أصحابنا في قضاء دين من مات وعليه دين، فقيل: يجب قضاؤه من بيت المال، وقيل: لا يجب. ومعنى هذا الحديث:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا قائم بمصالحكم حياة أحدكم وموته، وأنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته، لا أخذ منه شيئا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم. (شرح مسلم) مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 8- 9، كتاب الفرائض، باب (4)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من ترك مالا فلأهله» ،
حديث رقم (6731) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس باب (11) الصلاة على من ترك دنيا، حديث رقم (2399) .
[ (3) ] الأحزاب: 6.(13/56)
فليأتني فأنا مولاه. وخرّجاه من طريق آخر، وحكى الإمام وجها أنه لم يكن واجبا عليه، بل كان يفعله تكرما. وبه جزم الماورديّ.
وقال النووي في (شرح مسلم) [ (1) ] كان يقضيه من مال المصالح وقيل:
من خالص ماله، وقال الإمام في (النهاية) : أشعر
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: من ترك ضياعا، أو دينا فعليّ بالوجوب عليه،
ومن قال: كان ذلك تكرما فهو غير سديد، لأن وعده صلّى اللَّه عليه وسلّم حق وصدق، فلا يجوز تقدير خلافه. انتهى، على القول الأول: هل يجب ذلك على الأئمة بعده فيقومون به من مال المصالح؟ وجهان،
وقد جاء في رواية قيل: يا رسول اللَّه وعلى كل إمام بعدك؟ قال: وعلى كل إمام بعدي
حكاية الوجهين وفي الإطلاق نظر، لأن من استدان وبقي معسرا حتى مات، لم يقض دينه من بيت المال. واللَّه- تعالى- أعلم.
المسألة الحادية عشر:
كان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا رأى شيئا يعجبه أن يقول:
لبيك إن العيش عيش الآخرة
[ (2) ]
ذكره الرافعي بصيغة قيل، وجزم به ابن القاصّ في (تلخيصه) لكن لفظه فيه: كان إذا رأى شيئا يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة.
وقال البيهقيّ في كتاب (السنن) [ (3) ] كان إذا رأى شيئا يعجبه، ثم قال:
هذه كلمة صدرت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أنعم حاله يوم حجه بعرفة، ثم ساقه بإسناده، وفي أشد حاله يوم الخندق، ثم ساقه بإسناده.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 348، كتاب النكاح، باب خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
[ (3) ] (سنن البيهقيّ) : 7/ 48، كتاب النكاح، باب
كان إذا رأى شيئا يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة.(13/57)
خرّج البخاريّ من طريق قتيبة، حدثنا عبد العزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب على أكتافنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار. ذكره في غزوة الخندق [ (1) ] كذلك، وذكره في كتاب المناقب [ (2) ] ، وفي أول كتاب الرقاق [ (3) ] ، ولفظه فيهما: اللَّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.
وخرّجه مسلم [ (4) ] من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعيد قال: جاءنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار. وأخرجاه من حديث أنس، وفيه زيادة.
وقال الشافعيّ: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يظهر التلبية: لبيك اللَّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال: حتى إذا كان ذات يوم والناس منصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيها: لبيك إن العيش عيش الآخرة. قال ابن جريج: وأحسب أن ذلك كان يوم عرفة.
قال مؤلفه: ليس في هذين الحديثين ما يقتضي الوجوب، وغاية ما فيهما استحباب مثل ذلك، وقد قيل به في حق المكلفين، ومع هذا الحديث فقول مجاهد مرسل، وقول ابن جريج منقطع.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 498- 499، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، حديث رقم (4098) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 149، كتاب مناقب الأنصار، باب (9) دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أصلح الأنصار والمهاجرة، حديث رقم (3797) .
[ (3) ]
(المرجع السابق) : 11/ 275، كتاب الرقاق، باب (1) ما جاء في الرقاق، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، حديث رقم (6414) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 414، كتاب الجهاد والسير، باب (44) غزوة الأحزاب وهي (الخندق) ، حديث رقم (126) ، (127) .(13/58)
المسألة الثانية عشر: كان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا فرض الصلاة [صلاها] كاملة لا خلل فيها
قاله القاضي الماوردي.
المسألة الثالثة عشر: كان يلزمه صلّى اللَّه عليه وسلّم إتمام كل تطوع يبتدأ به
حكاه البغوي عن بعضهم.
المسألة الرابعة عشر: أنه كان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يدفع بالتي هي أحسن
قاله ابن القاصّ، ودليله قوله- تعالى-: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ (1) ] قال ابن عطية: آية جمعت مكارم الأخلاق، وأنواع الحلم، والمعنى: ادفع أمورك وما يعرضك مع الناس ومخالطتك لهم بالفعلة، أو باليسيرة التي هي أحسن السير والفعلات. فمن ذلك السلام، وحسن الأدب، وكظم الغيظ، والسماحة في العطاء، والاقتضاء وغير ذلك.
قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-: إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه اللَّه من الشيطان، وخضع له عدوه. وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء، ولا شك أن السلام مبدأ الدفع بالتي هي أحسن، وهو جزء منه.
__________
[ (1) ] فصلت: 34.(13/59)
المسألة الخامسة عشر: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلف وحده من العلم ما كلف الناس بأجمعهم
ذكره ابن القاصّ، واستشهد له بما خرّجه البيهقيّ من طريق يونس، عن الزهريّ قال: أخبرني حمزة بن عمر، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه، حتى أني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر قال: فما أولته يا رسول اللَّه؟ قال:
العلم [ (1) ] ،
وسيأتي بطرقه إن شاء اللَّه- تعالى- في المنامات النبويّه.
المسألة السادسة عشر: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يغان على قلبه فيستغفر اللَّه ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة
خرّج مسلم [ (2) ] من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي بردة، عن الأغر، وكانت له صحبة- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللَّه في اليوم مائة مرة.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء اللَّه- تعالى-.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 26- 27، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (12) استحباب الاستغفار والاستكثار منه، حديث رقم (41) .
قال القاضي: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الّذي كان شأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم الدوام عليه، فإذا فتر أو غفل عدّ ذلك ذنبا، واستغفر منه، قال: وقيل هو همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم، وقيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو، ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك فيشتغل بذلك من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهي نزول عن أعالي درجته ورفيع مقامه من حضوره مع اللَّه- تعالى-، ومشاهدته، ومراقبته وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك.(13/60)
قال أبو زكريا النووي: والمراد به هنا ما يتغشى القلب. قال القاضي يعني أبا الفضل عياض-: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الّذي شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه، قال:
وقيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته، وأمورهم، ومحاربة العدوّ ومداراته، وتألف المؤلفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك عن عظيم مقامه، فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه، في حضوره مع اللَّه- تعالى-، ومشاهدته، ومراقبته وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك.
وقيل: إن هذا الغين هي السكينة التي تغشي قلبه لقوله- تعالى-: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [ (1) ] ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والانقياد، وملازمة الخضوع، وشكرا لما أولاه، وقد قال المحاسبي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام، وإن كانوا آمنين من عذاب اللَّه.
وقيل: يحتمل أن هذا الغين حال خشية وإعظام، تغشي القلب، ويكون استغفاره شكرا كما سبق، وهو شيء يعتري القلوب الصافية، كما تتحدث به النفس فهو يشبهها.
__________
[ () ] وقيل يحتمل أن هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه لقوله- تعالى-: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [الفتح: 18] . ويكون استغفاره إظهار للعبودية والافتقار، وملازمة الخشوع، وشكرا لما أولاه، وقد قال المحاسبي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام، وإن كانوا آمنين عذاب اللَّه- تعالى-، وقيل يحتمل أن هذا الغين حال إعظام يغشي القلب ويكون استغفاره شكرا كما سبق، وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به النفس، فهو شأنها واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (1) ] الفتح: 18.(13/61)
المسألة السابعة عشر: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يؤخذ عن الدنيا عند تلقى الوحي وهو مطالب بأحكامها عند الأخذ عنها [ (1) ]
وقد تقدم الكلام في كيفية تلقي الوحي.
المسألة الثامنة عشر: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مطالبا برؤية مشاهدة الحق مع معاشرة الناس بالنفس والكلام [ (2) ]
__________
[ (1) ] (السنن الكبرى للبيهقي) : 7/ 52، كتاب النكاح، باب كان يؤخذ عن الدنيا عند تلقى الوحي، وهو مطالب بأحكامها عند الأخذ عنها.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 51، كتاب النكاح باب ما كان مطالبا برؤية مشاهدة الحق مع معاشرة الناس بالنفس والكلام.(13/62)
وأما الواجب المتعلق بالنكاح وهو القسم الأول من الواجبات فكان يجب عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم تخيير زوجاته بين اختيار زينة الدنيا ومفارقته وبين اختيار الآخرة والبقاء في عصمته ولا يجب ذلك على غيره
قال اللَّه- جل جلاله-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [ (1) ] .
ومعنى الآية: أن اللَّه- تعالى- يقول لنبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا محمد قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن، يقول: فإنّي أمتعكن ما أوجب اللَّه على الرجال لنسائهم، من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، بقوله- تعالى-: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [ (2) ] وقوله- تعالى-: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [ (3) ] يقول: وأطلقكن على ما أذن اللَّه به، وأدّب به عباده بقوله- تعالى-: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ (4) ] ، إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (5) ] ، وإن كنتن تردن طاعة اللَّه وطاعة رسوله، ورضى اللَّه، ورضى رسوله، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الأحزاب: 28- 29.
[ (2) ] البقرة: 236.
[ (3) ] الأحزاب: 28.
[ (4) ] الطلاق: 1.
[ (5) ] الأحزاب: 29.
[ (6) ] الأحزاب: 29.(13/63)
وقد اختلف سلف الأمة في سبب نزول هذه الآية على أقوال تسعة:
إحداها: أن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا من عرض الدنيا إما زيادة في النفقة أو غير ذلك فاعتزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نساءه شهرا فيما ذكر
ثم أخبره اللَّه تعالى أن يخيرهن بين الصبر عليه والرضي بما قسم لهن، والعمل بطاعة اللَّه تعالى وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن
خرّج محمد بن جرير الطبريّ من طريق ابن علية عن أيوب عن أبي الزبير أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يخرج صلوات فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أي شيء أكلم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعله ينبسط أو كلمة نحوها؟ فقلت: يا رسول اللَّه! لو رأيت فلانة وسألتني النفقة وصككتها صكة، فقال: ذاك حبسني عنكم،
قال:
فأتى حفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقال: لا تسألي رسول اللَّه شيئا، ما كانت لك من حاجة فإليّ، ثم تتبع نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعل يكلمهن، فقال لعائشة:
أيغرك أنك امرأة حسناء وأن زوجك يحبك؟ لتنتهينّ أو لينزلنّ اللَّه فيكنّ القرآن.
قال: فقالت له أم سلمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: يا ابن الخطاب: أو ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين نسائه؟ فمن تسأل المرأة إلا زوجها؟ قال: ونزل القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [ (1) ]
__________
[ (1) ] الأحزاب: 28- 29 وتمامها: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً.(13/64)
إلى قوله- تعالى-: أَجْراً عَظِيماً قال: فبدأ بعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: لا، قالت: فإنّي أختار اللَّه ورسول والدار الآخرة، ولا تخيرهن بذلك، قال: ثم تتبعهن، فجعل يخبرهن ويقرأ عليهنّ القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة، فتتابعن على ذلك.
وخرّج من طريق سعيد عن قتادة قال: قال الحسن وقتادة: خيرهن بين الدنيا والآخرة، والجنة والنار، في كل شيء كن أردنه من الدنيا.
ثانيها: في غيرة كانت غارتها عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وقال عكرمة: في غيرة كانت غارتها عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة ابنة أبي سفيان، وسودة ابنة زمعة، وأم سلمة ابنة أبي أمية، وكانت تحته صفية ابنة حيي الخيبرية، وميمونة ابنة الحارث الهلالية، وزينب ابنة جحش الأسدية، وجويرية ابنة الحارث، فاختارت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- اللَّه ورسوله والدار الآخرة، رئي الفرج في وجهه، فتتابعن كلهن على ذلك، واخترن اللَّه ورسوله والدار الآخرة.
وخرّج من طريق عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن وهو قول قتادة قالا: أمره أن يخيرهن بين الدنيا، والآخرة، والجنة، والنار قال قتادة: وهي غيرة من عائشة في شيء أرادته من الدنيا وكانت تحته تسع نسوة، فذكرهن.
قال: فبدأ بعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وكانت أحبهن إليه، فلما اختارت اللَّه ورسوله والدار الآخرة، رئي الفرج في وجهه فتتابعن على ذلك.(13/65)
ثالثها: أن نسائه يغايرن عليه
خرّج أبو جعفر من طريق ابن وهب، قال: قال ابن زيد كان أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد تغايرن عليه [ (1) ] فهجرهن شهرا، ثم نزل التخيير من اللَّه فيهن، فخيرهن بين أن يخترن أن يخلي سبيلهن ويسرحهن، وبين أن يخترن إن أردن اللَّه ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين لا نتكحن [بعده] أبدا، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن لمن وهبت نفسها له، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل، فلا جناح عليه، ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ [ (2) ] .
قال: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ [ (3) ] من ابتغى أصابه، ومن عزل لم يصبه، فخيرهن بين أن يرضين بهذا أو يفارقهن، فاخترن اللَّه ورسوله، إلا امرأة. شرط اللَّه له هذا الشرط ما زال يعدل بينهن حتى لقي اللَّه، قال الغزالي:
لأن الغيرة توغر الصدور، وتنفر القلب، وتوهن الاعتقاد.
رابعها: أنهن أجمعن وقلن: نريد كما تريد النساء من الحلي والثياب
فطالبنه بذلك، وليس عنده فتأذى، والزامهنّ الصبر على الفقر يؤذيهن، ومطالبتهن له بذلك يؤذيه، فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بإلقاء زمام الأمر إليهن ليفعلن ما يخترنه، ونزه اللَّه- تعالى- منصبه العالي عن التأذي والإيذاء.
خامسها: أن بعض نسائه التمست منه خاتما من ذهب فاتخذ لها خاتم فضة وصفّره بالزعفران فتسخّطت
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «كان أزواجه قد تغايرن على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما أثبتناه أجود للسياق.
[ (2) ] الأحزاب: 51.
[ (3) ] الأحزاب: 51.(13/66)
سادسها: أن اللَّه سبحانه امتحنهن بالتخيير ليكون لرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم خير النساء
سابعها: أن اللَّه تعالى خيره صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الغنى والفقر فأمره تعالى بتخيير نسائه لتكون من اختارته موافقة لاختياره
وعبارة الرافعي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم آثر لنفسه الفقر والصبر عليه، فأمر بتخييرهن لئلا يكون مكرها لهن على الفقر والصبر.
وقال الشافعيّ [ (1) ] : إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يخير نساءه فاخترنه، وحمله ذلك أن اللَّه- تعالى- خير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أن يكون نبيا ملكا، وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبرئيل، فأشار عليه بالمسكنة، فاختارها فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، وأمره اللَّه- تعالى- أن يخير زوجاته فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له.
ثامنها: أن سبب نزول الآية قصة مارية في بيت حفصة
__________
[ (1) ] ونحوه في (البحر المحيط في التفسير) : 8/ 461- 474.(13/67)
تاسعها: أن سبب شربه صلّى اللَّه عليه وسلّم العسل في بيت زينب بنت جحش
وتواطؤ عائشة وحفصة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما على أن يقولا له: إنا نجد منك ريح مغافير ونزل فيهما إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [ (1) ]
ويترجح من هذه الأقوال ما خرّجه مسلم [ (2) ] من طريق روح بن عبادة قال:
حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال: دخل أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يستأذن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوجد الناس جلوسا ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فدخل، ثم أقبل عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا حوله نساؤه، واجما، ساكنا، فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
يا رسول اللَّه لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة: فقمت إليها فوجأت عنقها!! فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة.
فقام أبو بكر إلى عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- يجأ عنقها، وقام عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى حفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- يجأ عنقها، يقول: تسألن رسول اللَّه ما ليس عنده؟ قلن: لا واللَّه لا نسأل رسول اللَّه شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا، أو تسعا وعشرين يوما، ثم نزلت عليه هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَ
__________
[ (1) ] التحريم: 4.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) 10/ 335- 336، كتاب الطلاق، باب (4) بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، حديث رقم (1478) . قوله: «لأقولن شيئا يضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي بعض النسخ: «أضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، فيه استحباب مثل هذا، وأن الإنسان إذا رأى صاحبه مهموما حزينا، يستحب له أن يحدثه بما يضحكه ويطيب نفسه، وفيه فضيلة لأبى بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(13/68)
تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [ (1) ] .
قال: فبدأ بعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا، أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول اللَّه؟ فتلا عليها الآية، فقالت: أفيك يا رسول اللَّه أستشير أبوي؟ بل اختار اللَّه ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبره امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن اللَّه- عز وجل- لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا.
قال مؤلفه: في هذا الحديث دليل على أن نساء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طلبن منه عرض الدنيا وإن تغير عليهنّ لذلك، فنزلت آية التخيير [ (2) ] ، وحكى الحناطيّ وجها: أن التخيير لم يكن واجبا عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنما كان مندوبا.
وفي آية التخيير [ (1) ] فوائد: وهي أن الزوج إن اعتبر بالنفقة، كان لها خيار الفسخ، وأن المتعة تجب للمدخول بها إذا طلقت، وجواز تعجيلها قبل الطلاق، وأن السراح صريح في الطلاق، وأن المتعة غير مقدرة شرعا، حكى هذه القواعد الخمس الماوردي، وزاد أبو بكر الخفاف في كتاب (الأقسام والخصال) : أن التخيير ليس بطلاق، وأنها متى اختارت فراقه وجب عليه الطلاق، وأن الخيار على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دون سائر أمته، وأنه غير جائز أن يتزوج صلّى اللَّه عليه وسلّم كافرة، وأن أزواجه محرمات على التأبيد، إلا أن تكون مطلقة غير مدخول بها.
وهنا فوائد أخر:
__________
[ (1) ] الأحزاب: 28- 29.
[ (2) ] الأحزاب: 28- 29.(13/69)
أحدها: من اختارت من أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الحياة الدنيا هل كان يحصل الفراق بنفس الاختيار؟
وفيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: يحصل، كما لو خير غيره زوجته، ونوى تفويض الطلاق إليها، فاختارت نفسها، وأصحهما: لا يحصل، لقوله- تعالى-: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [ (1) ] ولو حصل الفراق باختيارها لما كان للتسريج معنى، لأنه تخيير بين الدنيا والآخرة، فلا يحصل الفراق باختيار الدنيا، كما لو خير واحد من الأمة زوجته فاختارت الفراق.
وفي السراح الجميل تأويلات: أحدها: أن تطلق دون الثلاث، والثاني:
أن يوفي فيه المهر والمتعة، والثالث: أنه الصريح من الطلاق دون الكناية، والرابع: حكاه ابن القشيري في (تفسيره) ، وهو أن يكون في مستقبل العدة في طهر لم يجامع فيه.
قال الماوردي: هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة؟ أو بين الطلاق والمقام؟ فيه قولان للعلماء، أشبههما بقول الشافعيّ الثاني، ثم قال: إنه الصحيح، فعلى الأول لا شيء حتى تطلق، وعلى الثاني فيه وجهان: أحدهما:
أن تخييره كتخيير غيره، يرجع فيه إلى نيته ونيتها، وثانيها: أنه صريح في الطلاق لخروجه مخرج التغليظ.
وعن أبي عباس الروياني حكاية وجهين، في أن قولها: اخترت نفسي، هل يكون صريحا في الطلاق؟ حكاهما الرافعي عنه، والظاهر أنه ما حكاه الماوردي، فإن قلنا: تحصل الفرقة بالاختيار أو بوقوع الطلاق فطلقها دون الثلاث، ففي كونه رجعيا كما في حق غيره، أو بائنا تغليظا، لأن اللَّه- تعالى- غلظ عليه في التخيير، فيغلظ عليه الطلاق، وجهان: أحدهما: لا يكون السراح جميلا، وثانيهما: نعم لاختيارها الدنيا على الآخرة، فلم تكن من
__________
[ (1) ] الأحزاب: 28.(13/70)
أزواجه في الآخرة، حكاهما الرافعي عن أبي العباس الروياني أيضا، وهما في (الحاوي) لأبي الحسن الماوردي.
ثانيهما: هل يعتبر أن يكون جوابهن على الفور؟
فيه وجهان: أصحهما في أصل (الروضة) [ (1) ] ، لا يجوز فيه التراخي، وبه قطع القاضي ابن كج، ونقل ابن الرفعة في (المطلب) تصحيحه عن (النهاية) ولم يتردد فيه، ودليل ذلك
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: لا تعجلي حتى تستأمري أبويك،
واعترض الشيخ أبو حامد بأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم صرح بتراخي خيارها إلى مراجعة أبويها، والكلام في التخيير المطلق.
قال الرافعي: وحكاه الإمام عن الأصحاب وهما مبنيان على الوجهين في حصول الفراق، وبنفس الاختيار، فإن قلنا به، وجب على الفور، وإن قلنا:
لا، جاز فيه التراخي.
قال الإمام: لا يجوز كما لو قال الواحد منا لزوجته: طلقي نفسك، ففي كون جوابها على الفور أو على التراخي قولان. قال الإمام: وبناء هذا الخلاف السابق عندنا في غاية الضعف، لأجل الخبر، وإن قال متكلف: ما جرى من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- تخييرا ناجزا في حقها، قلنا: نعم، فلم اكتفي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم باختيارها اللَّه ورسوله، ورآه جوابا عن التخيير، فلا حاصل فيه لذكر الخلاف.
وحكى النوراني، والماورديّ، الخلاف في اعتبار الفور وعدمه مع جزمه بحصول الفراق بالاختيار، لكنه بناه على أن الفرقة فرقة طلاق أو فسخ، فيه وجهان، فإن قلنا: فرقة طلاق فهو على الفور، وإلا فعلى التراخي، فإن
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي: وهل كان جوابهن مشروطا بالفور؟ وجهان: أصحهما: لا، فإن قلنا بالفور فهل كان يمتد بامتداد المجلس، أم المعتبر ما يعد جوابا في العرف؟ وجهان. وهل كان قولها: اخترت نفسي، صريحا في الفراق؟ فيه وجهان.(13/71)
فعلناه على الفور فيمتد بامتداد المجلس، أو يعتبر فيه الفورية المعتبرة في الإيجاب والقبول؟ فيه وجهان، حكاهما الرافعي عن الهرويّ.
ثالثها: هل كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم طلاق من اختارته؟
فيه وجهان لأصحابنا، أحدهما: وبه قطع الماوردي ونص عليه الشافعيّ في (الأم) نعم، كما يحرم إمساكها لو رغبت عنه، ومكافأة لهن على صبرهن، وبه يشعر قوله- تعالى-: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [ (1) ] فإن التبدل فراقهن، وتزوج غيرهن، ففي تحريمه تحريم مفارقتهن، وأظهرها ما عند الإمام والرافعي في (الشرح الصغير) ، والنووي في (أصل الروضة) [ (2) ] ، لا كما لو أراد واحد من الأمة طلاق زوجته لا يمنع منه، وإن رغبت فيه، ولأن التبدل معناه مفارقتهن أولا، والتزويج بأمثالهن بدلا عنهن، وذلك مجموع أمرين، فلا يقتضي المنع من أولهما.
قال الإمام: وادعاء الحجر على الشارع في الطلاق بعيد، وفيه وجه ثالث، أنه يحرم عقب اختيارهن، ولا يحرم إذا انفصل عنه.
فإن قلت: يستدل للوجه الأظهر بأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم طلق حفصة وراجعها، وعزم على طلاق سودة، فوهبت يومها لعائشة، قلنا: ذكر الماورديّ أن ذلك كان قبل التخيير، وكذا قصة الإفك،
وقول عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لما استشاره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فراق أهله: لم يضيق اللَّه عليك، النساء كثير سواها،
لعله كان قبل نزول آية التخيير.
وقد قال ابن الجوزي: كان إيلاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهن سنة تسع، والتخيير بعدها، لكن اصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم صفية بنت حيي من سبي خيبر سنة سبع وتزوجها.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 52.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.(13/72)
ونقل الماوردي أن تزويجها كان بعد نزول آية التخيير ولا يصح ذلك، لأن التخيير كان بعد الفتح،
ففي (صحيح البخاريّ) من طريق مروان بن معاوية قال: حدثنا أبو يعفور، قال: تذكرنا عند أبي الضحى، قال: حدثنا عبد اللَّه بن عباس، قال: أصبحنا يوما ونساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يبكين وعند كل امرأة منهن أهلها، فخرجت إلى المسجد فإذا هو ملآن من الناس، فجاء عمر بن الخطاب فصعد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في غرفة له، فسلم، فلم يجبه أحد، ثم سلم، فلم يجبه أحد، ثم سلم، فلم يجبه أحد، فناداه، فدخل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
أطلقت نساءك؟ فقال: لا، ولكن آليت منهن شهرا، فمكث تسعا وعشرين [ليلة] ، ثم دخل على نسائه.
ترجم عليه باب هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نساءه في غير بيوتهن [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 374- 375، كتاب النكاح، باب (93) هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نساءه في غير بيوتهن، ويذكر عن معاوية بن حيدة رفعه: «غير أن لا تهجر إلا في البيت» والأول أصح، حديث رقم (5203) .
قوله: «باب هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نساءه في غير بيوتهن» كأنه يشير إلى أن قوله:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ لا مفهوم له، وأنه تجوز الهجرة فيما زاد على ذلك، كما وقع للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من هجره لأزواجه في المشربة، وللعلماء في ذلك اختلاف.
قوله: «تذاكرنا عند أبي الضحى فقال: حدثنا ابن عباس «لم يذكر ما تذاكروا به، وقد أخرجه النسائي عن أحمد بن عبد الحكم، عن مروان بن معاوية، بالإسناد الّذي أخرجه البخاريّ فأوضحه، ولفظه: «تذاكر الشهر، فقال بعضنا: ثلاثين، وقال بعضنا تسعا وعشرين، فقال أبو الضحى: ابن عباس» . وكذا أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن مروان بن معاوية، وقال فيه: «تذاكرنا الشهر عند أبي الضحى» .
قوله: «دخلت المسجد، فإذا هو ملأن من الناس» هذا ظاهر في حضور ابن عباس هذه القصة، وحديثه الطويل، بل الّذي مضى قريبا يشعر بأنه ما عرف القصة إلا من عمر، لكن يحتمل أن يكون عرفها مجملة ففصلها عمر له، لما سأله عن المتظاهرتين. (فتح الباري) مختصرا.(13/73)
فتأمل هذا الحديث تجده دليلا على أن هجره عليه السلام نساءه وإيلاءه منهن كان بعد الفتح، وبيان ذلك أن ابن عباس لم يقدم المدينة إلا مع أبيه بعد الفتح، وقد صرح في هذا الحديث بحضوره القصة.
رابعها: لما خير صلّى اللَّه عليه وسلّم زوجاته فاخترنه كافأهن اللَّه تعالى على حسن صنيعهن بالجنة
فقال: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [ (1) ] أي في الجنة، وبأن حرم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التزويج عليهنّ، والاستبدال بهن، فقال- تعالى-: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ لكن نسخ ذلك لتكون المنّة لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بترك التزويج عليهنّ بقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] .
الآية.
وذهب محمد بن جرير الطبريّ إلى أنه كان لرسول اللَّه أن يتزوج من شاء من النساء اللاتي أحلهن اللَّه له على نسائه اللاتي كنّ عنده، ثم نزلت عليه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [ (3) ] فلم ينهه فيها، إلا أن يفارق من كان عنده منهن بطلاق، إرادة استبدال غيرها لها، ولإعجاب بحسن المستبدلة بها إياه، إذ كان اللَّه- تعالى- قد جعلهن أمهات المؤمنين، وخيرهن فاخترن اللَّه ورسوله، فحرمن على غيره، ومنع من فراقهن بطلاق.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 29.
[ (2) ] الأحزاب: 50.
[ (3) ] الأحزاب: 52.(13/74)
وأما نكاح غيرهن: فلم يمنع منه بل أحله اللَّه له على ما بيّن في كتابه
وقد روى أبو عاصم عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ما مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحل له النساء، يعنى أهل الأرض.
وقال سفيان: عن عمرو عن عطاء، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ما مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحل له النساء [ (1) ] .
وقال وهيب: عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد اللَّه بن عمير الليثي، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ما توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحلّ اللَّه له أن يتزوج من النساء ما شاء [ (2) ] .
وقال عمر بن شيبة: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: أحسب عبيد بن عمير حدثني، قال أبو زيد عمر بن شبة، وقال أبو عاصم مرة: عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ما مات
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 6/ 364، كتاب النكاح، باب (2) ما افترض اللَّه- عزّ وجل- على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وحرمه على خلقه، ليزيد إن شاء اللَّه قربه إليه، حديث رقم (3204) ، وأخرجه الترمذيّ في تفسير القرآن، باب ومن سورة الأحزاب، حديث رقم (3216) ، قال الحافظ السنديّ في (حاشيته على سنن النسائي) : قوله: «حتى أحل له النساء» أي بقوله- تعالى-:
إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية، فهي ناسخة لقوله- تعالى-: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 6/ 364، حديث رقم (3205) ، وهذا الحديث انفرد به النسائي، قال في (جامع الأصول) : وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم من طريق ابن جرير عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، وله شاهد عند ابن أبي حاتم من حديث أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحل اللَّه أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم. (جامع الأصول) : 2/ 321، حديث رقم (769) .(13/75)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحلّ له النساء [ (1) ] ، قال: وقال أبو الزبير: شهدت رجلا يحدثه عن عطاء، وقال: الآية، ولأن قوله- تعالى-: إِنَّا أَحْلَلْنا يقتضي تقدم لحظر، والثاني أنه قال فيها: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ ولم يكن في المخيرات أحد من هؤلاء، كما قاله الشافعيّ- رحمه اللَّه- في الآية.
وأجيب بأن الإحلال يقتضي تقدم حظر، وزوجاته اللاتي اخترنه لم يكنّ محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه أن يتزوج بالأجنبيات، فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية: وَبَناتِ عَمِّكَ الآية، ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء.
خامسها: إذا ثبت أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحل له التزويج فهل ذلك عام في جميع النساء؟
فيه وجهان، حكاهما الماورديّ وغيره:
أحدهما: أن ذلك يختص ببنات الأعمام والعمات، وبنات الأخوال والخالات، المهاجرات معه لظاهر الآية.
وقد روى البيهقي [ (2) ] وغيره من طريق السدي، عن أبي صالح، عن أم هانئ قالت: خطبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاعتذرت إليه، فعذرني، ثم أنزل اللَّه- تعالى- عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ
__________
[ (1) ] راجع التعليق رقم (1) .
[ (2) ] (سنن البيهقيّ) : 7/ 54، كتاب النكاح، باب كان يجوز له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبدل من أزواجه أحدا ثم نسخ، قال الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنزل اللَّه- تبارك وتعالى- عليه:
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، قال بعض أهل العلم: نزلت عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد تخييره أزواجه.(13/76)
إلى قوله- تعالى-: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ [ (1) ] ، قالت: فلم أكن أحلّ له، لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وخرّجه الترمذيّ [ (2) ] وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وخرّجه الحاكم [ (3) ] وقال: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه، وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك بواو.
وقال الضحاك في هذه القراءة: يعنى بذلك كل شيء هاجر معه، ليس من بنات العم والعمة، ولا من بنات الخال والخالة، وردّ ذلك بأن السدي ضعيف.
وقال ابن [العربيّ] : هو ضعيف جدا، ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] (سنن الترمذيّ) : كتاب التفسير، باب ومن سورة الأحزاب، حديث رقم (3211) ، وقال:
هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي.
قال الشيخ عبد القادر الأرنائوط: والسدي هذا هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكبير، وأبو محمد الكوفيّ، وهو صدوق بهم كما قال الحافظ في (التقريب) ، وفي سنده أيضا أبو صالح باذام، مولى أم هانئ، وهو ضعيف مدلس، ومع ذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.
قال الحافظ في (تخريج الكشاف) : رواه الترمذيّ، والحاكم، وابن أبي شيبة، وإسحاق، والطبريّ، والطبرانيّ، وابن أبي حاتم، كلهم من رواية السّدّي، عن أبي صالح، عن أم هانئ. (جامع الأصول) : 2/ 319، حديث رقم (767) .
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 185، كتاب النكاح، حديث رقم (2754) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح، وأخرجه أيضا في كتاب معرفة الصحابة من (المستدرك) : 4/ 58، ذكر أم هانئ فأخته بنت أبي طالب بن عبد المطلب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- حديث رقم (6782) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) .(13/77)
وقراءة ابن مسعود لا تعارض ما ثبت بالتواتر، ومع هذا فإنه جائز أن يكون بمعنى القراءة المتواترة، فإن العرب تدخل الواو في نعت من تقدم ذكره أحيانا، كما قال الشاعر:
فإن رشيدا وابن مروان لم يكن ... يفعل حتى يصدر الأمر مصدرا
ورشيد هو ابن مروان.
والثاني: وهو الأظهر، أنه عام في جميع النساء لأن الإباحة رفعت ما تقدم في الحظر، فاستباح ما كان يستبيح قبلها، ولأنه في استباحة النساء أوسع من أمته، فلم يجز أن ينقص عنهم.
وقال القاضي حسين: إن تحريم النسوة عليه، هل بقي مؤبدا أم ارتفع؟
فيه وجهان.
سادسها: قال الماوردي: تحريم طلاق من اختارته صلّى اللَّه عليه وسلّم منهن إذا قلنا به كما سلف لم ينسخ بل بقي إلى الموت
وبه استدل أبو حنيفة- رحمه اللَّه- على بقاء تحريم نكاح غيرهن أيضا، وكلام الإمام يشير إلى خلافه.
سابعها: هل كان يجوز له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجعل الاختيار لهن قبل المشاورة معهن؟
فيه وجهان، حكاهما الرافعي في (الجرجانيات) لأبي العباس الروياني، ولم يذكرهما في (الروضة) .(13/78)
النوع الثاني: ما اختص به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من المحرمات
وذلك تكرمة له صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن تأخير ترك المحرم، أكثر من تأخير ترك المكروه، وفعل المندوب، إذ الحرام في المنهيات كالواجب في المأمورات، وهو أيضا قسمان:
القسم الأول: المحرمات في غير النكاح
وفيه مسائل:
الأولى: الزكاة، فإنّها حرام عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تحل له بإجماع العلماء على ذلك
وشاركه في ذلك ذو القربى بسببه أيضا، فالخاصة عائدة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنّها أوساخ الناس، وتحريم ذلك عليه وعلى آله، أشهر عند أهل العلم من أن يحتاج فيه إلى إكثار.
كما
خرّجه مسلم من طريق مالك، عن الزهريّ أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث، حدثه فذكر الحديث إلى أن قال: ثم قال: - يعنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس [ (1) ] وذكره أيضا من طريق
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 167- 168، كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصدقة، حديث رقم (167) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن الصدقة لا تتبغي لآل محمد»
دليل على أنها محرمة سواء كانت بسبب العمل، أو بسبب الفقر والمسكنة، وغيرهما من الأسباب الثمانية، وهذا هو الصحيح عند(13/79)
يونس بن يزيد، عن ابن شهاب ولفظه: إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لا لمحمد، ولا آل محمد [ (1) ] .
وخرّج ابن أبي شيبة [ (2) ] من طريق سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن موسى بن أبي رزين، عن عليّ قال: قلت للعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: سل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يستعملك على الصدقة، فسأله، فقال: ما كنت لأستعملك على غسالات ذنوب الناس.
واعلم أن منصب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منزه عن ذلك، وأيضا فإن الزكاة تعطى على سبيل التكرم، المبني على ذلّ الآخذ، فأبدلوا عنها بالغنيمة المأخوذة بطريق العز والشرف، والمبني على عزّ الآخذ وذلّ المأخوذ منه.
وقد اختلف علماء السلف، هل الأنبياء عليهم السلام تشارك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك؟ أم يختص به صلّى اللَّه عليه وسلّم دونهم؟ فذهب الحسن إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك، وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك دونهم.
__________
[ () ] أصحابنا، وجوز بعض أصحابنا لبني هاشم وعبد المطلب العمل عليها بسهم العامل، لأنه أجاره، وهذا ضعيف أو باطل، وهذا الحديث صريح في رده.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إنما هي أوساخ الناس»
تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني عبد المطلب، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال- تعالى-: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فهي كغسالة الأوساخ. (شرح النووي) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (168) .
[ (2) ] راجع التعليقات السابقة.(13/80)
وأما صدقة التطوع ففي تحريمها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتحريمها على آله أربعة أقوال:
أحدها: تحرم، حكاه الشيخ أبو حامد، والقفال، قال ابن الصلاح:
وخفي على إمام الحرمين، والغزاليّ، والصحيح الأول.
والثاني: لا تحرم، إنما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يمتنع منها ترفعا.
والثالث: تحرم عليه دونهم، وهذا القول أصحهما، قال ابن عبد البر:
الّذي عليه جمهور أهل العلم وهو الصحيح عندنا: أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم، ومما يدل على صحة ذلك، أن عليا والعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وغيرهما تصدقوا، وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة، لا خلاف بين العلماء، أن بني هاشم وغيرهم، في قبول الهدايا والمعروف سواء،
وقد قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: كل معروف صدقة.
والرابع: محرم عليهم الجهة الخاصة دون العامة، كالمساجد، ومياه الآبار، وأبدى الماوردي وجها آخر اختاره: أن ما كان منها أموالا متقومة كانت محرمة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم دون ما كان منها غير متقوم، فتخرج صلاته في المساجد، وشربه ماء زمزم، وبئر رومة، ويخرج من هذا الوجه أنه كان يحرم عليه أن يوقف عليه معينا، لأن الوقف صدقة تطوع.
وحكى الرافعي في هذا الخلاف وجهين، فقال: وفي المحرمات الصدقة في أظهر الوجهين على ما سبق في قسم الصدقات، وتبع في حكاية الخلاف لذلك الإمام هنا، والطبري صاحب (العدة) وكذا حكاه العجليّ في شرح (الوسيط) والجرجاني في (الشافي) .(13/81)
ولكن الّذي سبق في كلام الرافعي: أن في الخلاف قولان، وهو الصواب في بعض نسخ الرافعي، و (الروضة) [ (1) ] ، أيضا فقد قال الماوردي في كتاب (الوقف) : إنها منصوصة في (الأم) [ (2) ] .
وقد ثبت ما يقوي تحريم الصدقة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم مطلقا، زكاة مفروضة كانت أو تطوعا، وهو قول أكثر أهل العلم.
خرّج البخاريّ في آخر كتاب الجهاد [ (3) ] ، في باب من تكلم بالفارسية والرطانة من طريق شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة- رضي اللَّه
__________
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 348، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره، الضرب الثاني، ما اختص به صلّى اللَّه عليه وسلّم من المحرمات، وهي قسمان، أحدهما المحرمات في غير النكاح، فمنها الزكاة، وكذا الصدقة على الأظهر.
[ (2) ] قال الإمام الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأما آل محمد، الذين جعل لهم الخمس عوضا من الصدقة، فلا يعطون من الصدقات المفروضات شيئا- قل أو كثر- لا يحل لهم أن يأخذوها، ولا يجزئ عمن يعطيهموها إذا عرفهم، وإن كانوا محتاجين، وغارمين، ومن أهل السهمان، وإن حبس عنهم الخمس، وليس منعهم حقهم في الخمس يحل لهم ما حرم عليهم من الصدقة.
قال: وآل محمد الذين تحرم عليهم الصدقة المفروضة أهل الخمس، وهم أهل الشعب، وهم صليبة بني هاشم وبني عبد المطلب، ولا يحرم على آل محمد صدقة التطوع، إنما يحرم عليهم الصدقة المفروضة.
أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أنه كان يشرب من سقايات الناس بمكة والمدينة! فقلت له: أتشرب من الصدقة وهي لا تحل لك؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة.
قال الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وتصدق عليّ وفاطمة على بني هاشم وبني المطلب بأموالهما، وذلك أن هذا تطوع. وقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الهدية من صدقة تصدّق بها على بريرة، وذلك أنها من بريرة تطوع لا صدقة. (الأم) : 2/ 69 كتاب الزكاة، باب العلة في القسم.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 226، كتاب الجهاد والسير، باب (188) من متكلم بالفارسية والرطانة، وقول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22] ، وقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] ، حديث رقم (3072) .(13/82)
تبارك وتعالى عنه- أن الحسن بن عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كخ، كخ! أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة؟ وخرّجه في كتاب الزكاة [ (1) ] ، وترجم عليه باب ما يذكر في الصدقة للنّبيّ وآله.
وخرّجه مسلم في آخر كتاب الزكاة به، ولفظه عن محمد- وهو ابن زياد، سمع أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: أخذ الحسن بن عليّ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كخ، كخ! ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة [ (2) ] ؟ وفي لفظ له قال: إنا لا تحل لنا الصدقة [ (3) ] ،
وفي لفظ البخاريّ: إن آل محمد لا يأكلون الصدقة.
وخرّجاه أيضا من حديث معمر عن همام بن أمية، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها، ذكره البخاريّ في كتاب اللقطة في باب إذا وجد تمرة في الطريق [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 451، كتاب الزكاة، باب (60) ما يذكر في الصدقة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1491) . وفي حديث دفع الصدمات إلى الإمام، والانتفاع بالمسجد في الأمور العامة، وجواز إدخال الأطفال المساجد وتأديبهم بما ينفعهم، ومنعهم مما يضرهم، ومن تناول المحرمات، وإن كانوا غير مكلفين ليتدربوا بذلك.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 181، كتاب الزكاة، باب (50) تحريم الزكاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعلى آله، وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب دون غيرهم، حديث رقم (161) .
[ (3) ] (المرجع السابق) ، الحديث الّذي يلي الحديث السابق، بدون رقم.
[ (4) ] (فتح الباري) : 5/ 108، كتاب اللقطة، باب (7) إذا وجد تمرة في الطريق، حديث رقم (2432) .(13/83)
وخرّجه مسلم في الزكاة [ (1) ] ، وخرجاه من حديث سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: مر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بتمرة في الطريق فقال: لولا أنني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها.
ذكره البخاريّ في البيوع [ (2) ] ولفظة، عن أنس قال: مرّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بتمرة مسقوطة، فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها، وقال همام عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: أجد تمرة ساقطة على فراشي، هكذا ذكر هذا متصلا بحديث أنس، وترجم عليهما باب ما يتنزه عنه من الشبهات.
وخرّجه مسلم [ (3) ] وأبو داود [ (4) ] وخرّج البخاريّ [ (5) ] في كتاب الهبة في باب قبول الهدية من طريق معن قال: حدثني إبراهيم بن طهمان، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتى بطعام سأل عنه:
أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، فإن قيل: هدية ضرب بيده صلّى اللَّه عليه وسلّم فأكل معهم.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 182، كتاب الزكاة، باب (50) تحريم الزكاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعلى آله، وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، حديث رقم (162) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 368، كتاب البيوع، باب (4) ما يتنزه عن الشبهات، رقم (2055) .
قال المهلب: إنما تركها صلّى اللَّه عليه وسلّم تورعا وليس بواجب، لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة، حتى يقوم دليل على التحريم، وفيه تحريم قليل الصدقة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويؤخذ منه تحريم كثيرها من باب أولى. (فتح الباري) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 190، كتاب الزكاة، باب (53) باب قبول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الهدية ورده الصدقة، حديث رقم (175) . وفيه استعمال الورع والفحص عن أصل المآكل والمشارب.
(شرح النووي) .
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 2/ 300، كتاب الزكاة، باب (29) الصدقة على بني هاشم، حديث رقم (1652) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 5/ 254، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (6) قبول الهدية، حديث رقم (2576) .(13/84)
وخرّجه مسلم [ (1) ] في كتاب (الزكاة) من طريق الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل: هدية أكل منها، وإن قيل: صدقة لم يأكل منها.
وخرّجه النسائي [ (2) ] من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتي بشيء سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة لم يأكل، وإن قيل هديه بسط يده. ذكره في آخر كتاب الزكاة.
وفي حديث سليمان: إنها لا تحل لنا الصدقة.
وترجم عليه الهدية للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم.
واستبعد إمام الحرمين ثبوت الخلافة في جواز أخذه صلّى اللَّه عليه وسلّم صدقة التطوع لنفسه، وحكى ابن الصلاح عن (أمالي أبي الفرج السرخسي) ، أن في صرف الكفارة والنذر إلى الهاشمي قولين، والظاهر جريانهما في المطلبيّ أيضا لأنه في معناه.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 190، كتاب الزكاة، باب (53) قبول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الهدية ورده الصدقة، حديث رقم (175) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 5/ 112- 113، كتاب الزكاة، باب (98) الصدقة لا تحل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2612) .(13/85)
الثانية: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يأكل البصل، والثوم، والكراث، وما له رائحة كريهة من البقول
خرّج البخاري [ (1) ] من طريق يونس عن ابن شهاب، زعم عطاء أن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، زعم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من أكل ثوما، أو بصلا، فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته، وأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى بقدر فيه خضروات من بقول فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيه من البقول، فقال: قربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه أكلها، وقال: كل، فإنّي أناجي من لا تناجي.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 717- 718، كتاب الأطعمة، باب (49) ما يكره من الثوم والبقول، حديث رقم (5452) .
قوله: (باب ما يكره من الثوم والبقول) أي التي لها رائحة كريهة، وهل النهي عن دخول المسجد لأكلها على التعميم أو على من أكل النيء منها دون المطبوخ؟ وفي هذه الأحاديث بيان جواز أكل الثوم والبصل والكرات، إلا أن من أكلها يكره له حضور المسجد، وقد ألحق بها الفقهاء ما في معناها من البقول الكريهة الرائحة كالفجل، وقد ورد فيه حديث في الطبراني وقيده عياض بمن يتجشى منه، وألحق به بعض الشافعية الشديد البخر ومن به جراحة تفوح منها رائحتها، واختلف في الكراهية: فالجمهور على التنزيه، وعن الظاهرية التحريم، وأغرب عياض فنقل عن أهل الظاهر تحريم تناول هذه الأشياء مطلقا لأنها تمنع حضور الجماعة، والجماعة فرض عين، ولكن صرح ابن حزم بالجواز، ثم يحرم على من يتعاطى ذلك حضور المسجد، وهو أعلم بمذهبه من غيره.(13/86)
وخرّجه مسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] ، وقال مالك: عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يأكل الثوم، ولا الكراث، ولا البصل، من أجل الملائكة، ومن أجل أنه يكلم جبريل- عليه السلام-.
قال ابن عبد البر: في هذا الحديث من الفقه إباحة أكل الثوم لسائر الناس، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما امتنع من أكل الثوم والبصل والكراث لعلة ليست موجودة في غيره، فصار ذلك خصوصا له.
وقد اختلف هل كان ذلك حراما عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: يحرم، وبه جزم الماوردي كيلا يتأذى به الملك، وأشبههما لا يحرم عليه، بل كان أكل ذلك مكروها في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنما كان يمتنع منه ترفعا.
والدليل على ذلك ما
خرّجه مسلم من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، عن أبي أيوب الأنصاريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتى بطعام أكل منه، وبعث بفضلة إليّ، وأنه بعث إليّ يوما بفضلة لم يأكل منها، لأن فيها ثوما فسألته: أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه، قال: فإنّي أكره ما كرهت.
وخرّجه الترمذيّ [ (3) ] وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وخرّجه مسلم [ (4) ] أيضا من طريق عاصم، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب، وفيه قصة، وفي آخره: وكان
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 52- 53، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (17) نهي من آكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها، حديث رقم (72) .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 4/ 170) ، كتاب الأطعمة، باب (41) أكل الثوم، حديث رقم (3822) ، وقوله: «فليعتزل مسجدنا» إنما أمره باعتزال المسجد عقوبة له وليس هذا كالمطر والريح العاصف ونحوهما من الأمور، وقد رأيت بعض الناس صنف في الأعذار المانعة عن حضور الجماعة بابا ووضع فيها أكل الثوم والبصل وليس هذا من ذاك في شيء، واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (3) ] (سنن الترمذيّ) : 4/ 299- 230، كتاب الأطعمة، باب (13) ما جاء في كراهية أكل الثوم والبصل، حديث رقم (1806) .
[ (4) ] (سبق تخريجه) .(13/87)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يؤتي- يعني مجيء الملك
- وهذا صريح في نفي التحريم، وإثبات الكراهة، وعلى هذا الجادة، قال ابن الصلاح: وهذا يبطل وجه التحريم.
وخرّج أبو داود [ (1) ] من حديث بقية عن بجير، عن خالد، عن أبي زياد، عن خيار بن سلمة أنه سأل عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- عن البصل، فقالت: إن آخر طعام أكله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طعام فيه بصل.
وخرّجه أحمد [ (2) ] أيضا وهو سند صالح واعترض صاحب (المطلب) بأن حديث أبي أيوب كان في ابتداء الهجرة، والنهي عن أكل الثوم كان عام خيبر كما رواه البخاريّ في (صحيحه) .
وأجيب بما
خرّجه مسلم [ (3) ] من طريق إسماعيل بن علية، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك البقلة، الثوم، والناس جياع، فأكلنا منها أكلا شديدا، ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الريح فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد، فقال الناس: حرمت! حرمت! فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا أيها الناس! إنه ليس لي تحريم ما أحل اللَّه لي، ولكنها شجرة أكره ريحها.
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 173، كتاب الأطعمة، باب (41) في أكل الثوم حديث رقم (3829) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 130، حديث رقم (24064) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 5/ 54، حديث رقم (76) .(13/88)
الثالثة: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يأكل متكئا
خرّج البخاريّ [ (1) ] من طريق مسعر عن عليّ بن الأقمر، سمعت أبا جحيفه قال: كنت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لرجل: لا آكل متكئا.
وخرّجه ابن أبي خيثمة بهذا الإسناد مثله، وخرّجه أبو داود [ (2) ] من طريق سفيان، عن عليّ بن الأقمر بهذا الإسناد مثله سواء.
وخرّج البخاريّ [ (3) ] من طريق جرير بن منصور، عن عليّ بن الأقمر، عن أبي جحيفة، قال: كنت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لرجل عنده: لا آكل وأنا متكئ.
وخرّجه النسائي من طريق شريك عن عليّ بن الأقمر، عن أبي جحيفة، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما أنا فلا آكل متكئا.
وخرّج عبد الرزاق عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد، وخرّجه البيهقي في (شعب الإيمان) [ (4) ] وفي (دلائل النبوة) .
وخرّج ابن سعد [ (5) ] ، عن أبي النضر، عن أبي معشر، عن سعيد [المقبري] ، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها: يا عائشة إن شئت لسارت معي جبال الذهب، أتاني ملك وإن حجزته لتساوي الكعبة، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 675، كتاب الأطعمة، باب (13) ، حديث رقم (5398) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 140- 141، كتاب الأطعمة، باب (17) ما جاء في الأكل متكئا، حديث رقم (3769) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 675، كتاب الأطعمة، باب (13) الأكل متكئا، حديث رقم (5399) .
[ (4) ] (شعب الإيمان) : 5/ 107، باب (39) في المطاعم والمشارب، الأكل متكئا، حديث رقم (5975) .
[ (5) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 381، ذكر صفة مأكله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(13/89)
[كنت] [ (1) ] نبيا [مليكا] [ (2) ] ، وإن شئت [نبيا] عبدا، فأشار إليّ جبريل [أن] ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا، فكان بعد ذلك لا يأكل متكئا، ويقول: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد.
وخرّج النسائي من طريق بقية الزبيدي قال: حدثني الزهريّ، عن محمد بن عبد اللَّه بن عباس قال: كان ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يحدث أن اللَّه- تعالى- أرسل إلى بيته صلّى اللَّه عليه وسلّم ملكا من الملائكة، ومعه جبريل- عليه السلام-، فقال له الملك: إن اللَّه يخيّرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جبريل كالمستشير، فأشار جبريل بيده أن تواضع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا بل أكون عبدا نبيا، فما أكل بعد هذه الكلمة طعاما متكئا.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، قال: جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ملك لم يأته قبلها ولا بعدها، فقال: إن اللَّه يخيرك بين أن تكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا ... الحديث بنحوه.
وعن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد. خرّجه البزار
وقال: لا نعلمه يروي بإسناد متصل إلا من هذا الوجه، ولا نعلم رواه عن ابن عمر إلا نافعا، ولا عنه إلا عبيد اللَّه، ولا عنه إلا مبارك، تفرد به حفص وقال: ومبارك كان مدلسا، وقد اختلف في ذلك، هل كان حراما عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو مكروها؟ فيه وجهان:
أشبههما كما قال الرافعي وغيره: أنه كان مكروها فإنه لم يثبت فيه ما يقتضي
__________
[ (1) ] من (الأصل) فقط.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (الطبقات) : «ملكا» ، وله من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب بن عبد اللَّه بن عمرو، قال إسحاق بن عيسى في حديثه عن أبيه قال: ما رئي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأكل متكئا قط، ولا يطأ عقبه رجلان.
ومن حديث الفضل بن دكين، أخبرنا مسعر، كلاهما عن عليّ بن الأقمر، قال: سمعت أبا جحيفة يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا آكل متكئا. (المرجع السابق) : 1/ 380.(13/90)
التحريم واجتناب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الشيء واختياره غيره، لا يدل على كونه محرما عنده.
وقال النووي [ (1) ] : والصحيح أنه كان مكروها في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا حراما، وقال ابن شاهين: لم يكن محرما عليه وإنما هو أدب من الآداب.
والثاني: أنه كان حراما عليه وجزم به صاحب (التلخيص) لما فيه من الكبر والعجب، فعلى أنه ليس بحرام لا يبقى من باب الخصائص، فإنه يكره لغيره أيضا الأكل متكئا على كل من تفسيريه، وإذا تقرر ذلك فما المراد بالمتكئ؟ فيه خلاف، قال ابن سيده: توكأ على الشيء واتكأ تحمل واعتمد، والتكأة العصا يتكأ عليها في المشي، واتكأ الرجل جعل له متكأ، وضربه فاتكأه، ألقاه على جانبه الأيسر [ (2) ] ، وفسر الخطّابيّ المتكئ هنا بالمتمكن في جلوسه من التربع، وشبهه المعتمد على الوطاء تحته، قال: وكل من استوى
__________
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 348- 349، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره، وقال في هامشه: لم يبين المصنف المراد بالاتكاء، وعن الخطابي: المراد به الجالس المعتمد على وطاء تحته، وعن ابن الجوزي: أن المراد به المائل على جنب، وفسره القاضي عياض في (الشفاء) بما ذكره الخطّابيّ.
[ (2) ] قال الزجاج: هو ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث، وقال المفسرون في قوله- تعالى-:
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أي طعاما، وقيل للطعام متكأ لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكئوا، وقد نهيت هذه الأمة عن ذلك،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: آكل كما يأكل العبد، وفي الحديث: لا آكل متكئا.
المتكئ في العربية كل من استوى قاعدا، على وطاء متمكنا، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه، والتاء فيه بدل من الواو، وأصله من الوكاء، وهو ما يشد به الكيس وغيره، كأنه أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الّذي تحته.
قال ابن الأثير: ومعنى الحديث: أني إذا أكلت لم أقعد متمكنا فعل من يريد الاستكثار منه، ولكن آكل بلغة، فيكون قعودي له مستوفزا. قال: ومن حمل الاتكاء على الميل إلى أحد الشقين، تأوله على مذهب الطب، فإنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا، ولا يسيغه هنيئا، وربما تأذى به. (لسان العرب) : 1/ 200- 201 مختصرا.(13/91)
قاعدا على وطئ فهو متكئ، ومعناه لا آكل أكل من يريد الاستكثار من الطعام ويقعد له متكئا بل أقعد مستوفزا [ (1) ] ، وآكل قليلا، فيكون الاتكاء على هذا التفسير التربع، ورجحه جماعة لما فيه من التجبّر والتعاظم، وأنكر ابن الجوزي هذا التفسير، وقال: المراد به المائل على جنب، فيكون الاتكاء على هذا التفسير الاضطجاع، وهو المتبادر إلى أفهام كثيرين، لما قد يحصل به من الأذى كما نهى عن الشرب قائما.
وقال القاضي عياض [ (2) ] : وليس هو الميل على شق عند المحققين، واختيار ما فسره الخطابي وإليه ذهب ابن دحية أيضا فقال: الاتكاء في اللغة هو التمكن في الأكل.
الرابعة: تعليم الشّعر
قال اللَّه تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (3) ] يقول- تعالى-: وما علمنا محمدا الشعر وما ينبغي له أن يكون شاعرا، فجعل اللَّه- تعالى- ذلك علما من أعلام نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليهم، فيظن به أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر.
قال سعيد: عن قتادة، قيل لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه غير أنه كان يتمثل بيت أخي بني قيس فيجعل آخره أوله، وأوله آخره،
فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنه ليس هكذا، فقال نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني واللَّه ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي.
__________
[ (1) ] (معالم السنن) : 4/ 141، شرح الحديث رقم (3769) باب ما جاء في الأكل متكئا من (سنن أبي داود) .
[ (2) ] (الشفا) : 1/ 51، فصل وأما ما تدعو ضرورة الحياة إليه مما فصلناه ... إلخ.
[ (3) ] ياسين: 69.(13/92)
وقال الزجّاج: معنى وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] أي ما يتسهل له.
وخرّج أبو داود [ (2) ] من حديث ابن عمرو- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي.
فلهذا قال أصحابنا: إنه كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم تعلم الشعر. قال الرافعي:
وإنما يتجه القول بتحريمهما- يعنى الشعر والخط- ممن يقول: إنه كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يحسنها، وقد اختلف فيه، فقيل: يحسنهما ويمتنع منهما، والأصحّ أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يحسنهما. قال النووي في (الروضة) [ (3) ] : ولا يمتنع تحريمهما وإن لم
__________
[ (1) ] ياسين: 69.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 4/ 201- 202، كتاب الطب، باب (10) في الترياق، حديث رقم (3869) ، ثم قال أبو داود: هذا كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، وقد رخّص فيه قوم، يعني الترياق.
قال الشيخ: ليس شرب الترياق مكروها من أجل أن التداوي محظور، وقد أباح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التداوي والعلاج في عدة أحاديث، ولكن من أجل أن يقع فيه من لحوم الأفاعي وهي محرمة. والترياق أنواع: فإذا لم يكن فيه لحوم الأفاعي فلا بأس بتناوله واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
والتميمة، يقال: إنها خرزة كانوا يتعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، واعتقاد هذا الرأي جهل وضلال، إذا لا مانع ولا دافع غير اللَّه- سبحانه-، ولا يدخل في هذا التعوذ بالقرآن، والتبرك والاستشفاء به، لأنه كلام اللَّه- سبحانه-، والاستعاذة به ترجع إلى الاستعاذة باللَّه- سبحانه-، ويقال: بل التميمة قلادة تعلق فيها العوذ، قال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وقال آخر:
بلاد بها عقّ الشباب تميمتي ... وأول أرض مسّ جلدي ترابها
وقد قيل: إن المكروه من العوذ هو ما كان بغير لسان العرب فلا يفهم معناه، ولعله قد يكون فيه سحر أو نحوه من المحظور، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (معالم السنن) .
[ (3) ] (روضة الطالبين) : 5/ 349، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره، وقال في هامشه: قال في (الخادم) قال في: (البيان) : ذكر النقاش أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم(13/93)
يحسنهما، ويكون المراد تحريم التوصل إليهما، ودليل التحريم أن اللَّه- تعالى- أخبر عن حال نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وردّ قول من قال من الكفار: إنه شاعر، وأن القرآن شعر بقوله- تعالى-: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] .
ولذلك كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يقول الشعر، ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاء بيت قديم متمثلا به كسر وزنه، وإنما كان يحرر المعاني فقط، من ذلك أنه انشد بيت طرفة [ (2) ] :
__________
[ () ] ما مات حتى كتب. قال: والأول أي عدم الكتابة هو المشهور. قال صاحب (الخادم) : يشهد للنقاش ما
رواه البخاريّ في عمرة القضاء أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صالح سهيل بن عمرو، فكتب عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- الصحيفة: هذا ما قاضي عليه محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال سهيل: اكتب محمد بن عبد اللَّه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
امحه، فقال عليّ: لا أمحوك أبدا، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الكتاب فكتب: هذا ما قاضي محمد بن عبد اللَّه،
وفي هذه الكتابة وجوه:
أحدها: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب وهو لا يعلم ما يكتب فانتظم مراده.
ثانيها: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوحى إليه فكتبه عن علم بالكتابة.
ثالثها: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لكثرة كتابة اسمه بين يديه فعلم ذلك، وهذا أضعف الأوجه.
رابعها: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر من كتب ونسب الفعل إليه تجوزا، ولم يبين الشيخ هل المراد بالشعر إنشاده أو روايته أو أعم من ذلك؟ قال في (الخادم) : وجعل الماورديّ والرويانيّ قول الشعر، وتعلمه، وروايته، سواء في التحريم.
[ (1) ] ياسين: 69.
[ (2) ] هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن عباد بن صعصعة بن قيس بن ثعلبة، ويقال:
إن اسمه عمرو، وأمه وردة، من رهط أبيه، وكان أحدث الشعراء سنا، وأقلهم عمرا، قتل وهو ابن عشرين سنة، فيقال له: ابن العشرين، وكان حسب من قومه، جريئا على هجائهم وهجاء غيرهم، ومما سبق إليه قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وقال غيره:
ويأتيك بالأنبياء من لم تبع له ... بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
(الشعر والشعراء) : 103- 108 مختصرا.(13/94)
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزوره بالأخبار
وأنشد يوما، وقد قيل له: من أشعر الناس؟ فقال: الّذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقا* وجدت بها وإن لم تطبني طبيبا وأنشد يوما:
أتجعل نهبي ونهب العب ... يد بين الأقرع وعيينة [ (1) ]
وربما أنشد صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت المستقيم في النادر.
__________
[ (1) ] كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطى في العرب الأقرع بن حابس التميميّ مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن بدر الفزاريّ مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس السلميّ أربعا من الإبل، فعاتب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في شعر قاله:
كانت نهابا تلافيتها ... بكري على القوم في الأجرع
وحثّى الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وقد كنت في الحرب ذا تدرا ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فرفع أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للعباس:
أنت الّذي تقول:
أصبح نهبي ونهب العب ... يد بين الأقرع وعيينة؟
فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، ليس هكذا قال! قال: كيف؟ فأنشده أبو بكر كما قال عباس، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سواء، ما يضرك بدأت بالأقرع أم عيينة! فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: بأبي أنت وأمي، ما أنت بشاعر ولا رواية، ولا ينبغي لك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقطعوا لسانه عني، فأعطوه مائة من الإبل، ويقال: خمسين من الإبل. (مغازي الواقدي) : 3/ 946- 947.
والأجرع:
المكان السهل. والعبيد: فرس عباس بن مرداس. أفائل: جمع أفيل، وهي الصغار من الإبل.
ذا تدرإ: أي ذا دفع، من قولك: درأه أي دفعه.(13/95)
وروى البيهقيّ من طريق عليّ بن عمرو الأنصاري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ما سمعت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا:
تفاءل بما تهوى يكن ... فلقل ما يقال بشيء كان ألّا يحقق
وثبت في الصحيح أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الخندق تمثل شعر عبد الله بن رواحة:
اللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
الشعر بتمامه لكن قال أبو الحجاج المزني في حديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: هذا حديث منكر.
وأما بشعر ابن رواحة فإنه تارة يروى برحاف، وتارة بغير رحاف، فاللَّه أعلم كيف قاله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر الأمويّ في (مغازيه) أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يوم بدر يدور بين القتلى يقول:
فعلق هاما من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وقال الحربي: ولم يبلغني أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنشد بيتا تاما على وزنه، بل الصدر، كقول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل
أو العجز كقوله طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فإن أنشد بيتا كاملا غيّره، قال يوما:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين الأقرع وعيينة [ (1) ]
فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول اللَّه، ثم قرأ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [ (2) ] :
الآية، وقال عمر بن شبّة [ (3) ] في كتاب (أخبار مكة) : حدثنا أبو داود، حدثنا
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق، ففيه البيت بدون تغيير.
[ (2) ] ياسين: 69.
[ (3) ] هو عمرو بن شبة يزيد بن عبيدة بن رابطة النميري أبو يزيد البصريّ، ثم البغداديّ، الأديب الأخباريّ الشهير بابن شبة. ولد سنة (173) وتوفي بسر من رأى سنة(13/96)
شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت رجلا اسمه سعد قال مرة، عن سعد ولم يذكر مرة سعدا، قال: ذكرت بنو ناجية عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإما أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: عين، فأبكى أسامة بن لؤيّ فقال رجل: علقت بأسامة العلاقة، وإما أن يكون الرجل قال، فأتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت.
وذكر السهيليّ أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للعباس بن مرادس: أنت القائل:
أتجعل نهبي العب ... يد بين الأقرع وعيينة
وتكلم السهيليّ على ما تقدم الأقرع على عيينة بمناسبات غريبة، وتكلموا على قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين وهو في وجوه العدو:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
بما حاصله أنه لم يخرج مخرج الشعر، وإنما وقع سجعا من غير قصد.
وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
كفي بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه إنما قال الشاعر:
هريرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفي بالشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-: أشهد أنك رسول اللَّه، يقول اللَّه عز وجل: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] ، وقال الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كثير الكلام، ولكن لا يأتي له.
واعلم أن إصابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وزن الشعر أحيانا لا يوجب أنه لا يعلم الشعر وكذلك ما يأتي له أحيانا من نثر كلامه مما يدخل في وزن الشعر كقوله:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل اللَّه ما لقيت؟
وقوله:
__________
[ () ] (262) ، وله من التصانيف: أخبار أمراء البصرة، أخبار أمراء الكوفة، أخبار أمراء المدينة، أخبار مكة، أخبار بني نمير، أخبار الكوفة، وغير ذلك. (كشف الظنون) : 5/ 622.
[ (1) ] ياسين: 69.(13/97)
أنا النبي لا كذب ... أن ابن عبد المطلب
فقد تأتى مثل ذلك في آيات القرآن الكريم، بل في كل كلام، وليس كل ذلك بشعر، ولا في معناه، كقوله- تعالى-: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ (1) ] ، وقوله- تعالى-: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] وقوله- تعالى-: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [ (3) ] ، إلى غير ذلك من الآيات، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به الشعر، ليس بشعر، إذ لو كان شعرا لكان كل من نطق بكلام موزون من عامة الناس الذين لا يعرفون الوزن، يصدق عليه أنه شاعر، ولم يقل بهذا أحد من العقلاء.
وقال أبو حسن الأخفش في قوله- عليه السلام-:
أنا النبي لا كذب
ليس بشعر، وقال في كتاب (العين) : ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا، وروى عن الأصمعي أنه من منهوك الرجز، وقد قيل: لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقوف على الباء من قوله: «لا كذب» ، ومن قوله: «عبد المطلب» ، ولم يعلم كيف قاله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ثابت: قال الخليل: المشطور ليس من الشعر، وكذلك المنهوك، قيل: فما هما؟ قال أنصاف مسجعة، فرد ذلك عليه، فقال: لأحتجن عليهم بحجة، إن لم يقرءوا بها كفروا، لو كان شعرا ما جرى على لسان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن اللَّه- تعالى- يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] آل عمران: 92، قال الشاعر:
يا عباد اللَّه هبوا ... ليس غير اللَّه ربّ
إن في القرآن آية ... ذكرها للقلب طب
لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبّوا
[ (2) ] الصف: 13.
[ (3) ] سبأ: 13.
[ (4) ] ياسين: 69.(13/98)
وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: الأظهر من حاله صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «لا كذب» ، الباء مرفوعة، ويخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة.
وقال النحاس عن بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا، لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول، أو ضمها، أو نونها، وكسر الباء من البيت الثاني، خرج على وزن الشعر.
وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر، ورد بأن أشعار العرب على هذا الوزن، قد رواها الخليل وغيره، وأما
قوله- عليه السلام-:
هل أنت إلا إصبع دميت ... [وفي سبيل اللَّه ما لقيت] ؟ [ (1) ]
فإنه من بحر السريع، إذا كسرت التاء من دميت، فإن سكنت لم يكن شعرا، لأن ما بين الكلمتين على هذه الصفة لا يكون فعولن، ويصير فعلن، ولا مدخل لفعلن في بحر السريع.
فلعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالها ساكنة، أو متحركة التاء، من غير إشباع، وعلى تسليم أنه شعر لا يلزم منه أن يكون صلّى اللَّه عليه وسلّم عالما بالشعر، ولا شاعرا، لأن التمثل بالبيت النادر وإضافة القافيتين من الرجز وغيره لا يوجب أن يكون قائل ذلك عالما بالشعر، ولا يسمى شاعرا باتفاق العقلاء، كما أن من خاط مرة لا يكون خياطا.
وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [ (2) ] وما علمناه أن يشعر، أي ما جعلناه شاعرا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر.
وقد قيل: إنما أخبر اللَّه- تعالى- أنه ما علمه الشعر ولم يخبر أنه لا ينشد شعرا، وقالوا مع ذلك: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به الشعر فإنه ليس بشعر، وإنما وافق الشعر، فالذي نفاه اللَّه- تعالى- عن نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إنما هو العلم بالشعر، وأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن صلّى اللَّه عليه وسلّم موصوفا بذلك من أحد بالاتفاق، ألا ترى أن قريشا لما تراوضت فيما تقول العرب فيه إذا قدموا عليهم في الموسم، فلما قال بعضهم: نقول: إنه
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق.
[ (2) ] ياسين: 96.(13/99)
شاعر، قال أهل الفطنة منهم: واللَّه لتكيدنكم العرب، فإنّهم يعرفون أصناف الشعر، فو اللَّه ما يشبهه شيئا منها، وما قوله بشعر.
وقال أنيس أخو أبي ذر: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلم يلتئم أنه شعرا. وقال: عتبة بن ربيعة لما كلمه: واللَّه ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر. وقد سقت هذه كلها بأسانيدها في موضعها من هذا الكتاب.
الخامسة: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يحسن الكتابة
قالوا: وكان يحرم عليه ذلك، قال اللَّه- تعالى-: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [ (1) ] قال ابن كيسان: واحد الآيتين أميّ، كان منسوبا إلى أمة، والأمة لا تكتب بالجملة، إنما يكتب بعضها، وقيل نسب إلى أمه، لأن الكتاب كان في الرجال، ولم يكن في النساء [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الأعراف: 157، وتمامها: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
[ (2) ] قال ابن حديدة الأنصاري (783 هـ) : روينا عن الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد اللَّه الخثعميّ ثم السهيليّ- رحمه اللَّه- في (الروض الألف) - وقد تكلم على كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلح الحديبيّة-: وأنه محا اسمه وهو «رسول اللَّه» حين قال له سهيل بن عمرو:
ولو شهدت أنك رسول اللَّه لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فكتب: «هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللَّه» لأنه قول حق كله، فظن بعض الناس أنه كتب بيده، وفي البخاريّ:
كتب وهو لا يحسن الكتابة، فتوهم أن اللَّه- تعالى- أطلق يده بالكتابة في تلك الساعة خاصة.
وقال: هي آية، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر، لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهو كونه أميا لا يكتب، وبكونه أميا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق اللَّه- عز وجلّ- يده فيكتب لتكون آية؟ وإنما معنى «كتب» أمر أن يكتب، وكان الكاتب في ذلك اليوم عليّ بن أبي طالب- رضوان اللَّه عليه-، وقد كتب له عدة من(13/100)
__________
[ () ] أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم الخلفاء الأربعة [وغيرهم] ، ذكرهم عمر بن شبة في كتاب (الكتّاب) له، فجميعهم ثلاثة وعشرون، وقد تتبعت ما أغفله ابن شبّة- رحمه اللَّه- فبلغت بهم نحوا من أربعة وأربعين كاتبا مع الذين ذكرهم، خرجتهم من مصنفات علماء هذا الشأن. (المصباح المضيء) : 1/ 27- 28، باب في ذكر من كتب له من الصحابة، والكلام على كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلح الحديبيّة، مختصرا.
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ولأن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم اشتهر بوصف النبي الأميّ، فصار هذا المركب كاللقب له، فلذلك لا يغيره عن شهرته، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن الكريم.
والأميّ: الّذي لا يعرف الكتابة والقراءة، قيل: هو منسوب إلى الإمام، أي هو أشبه بأمه منه لأبيه، لأن النساء في العرب ما كنّ يعرفن القراءة والكتابة، وما تعلمنها إلا في الإسلام، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء، كما قال عبيد الراعي- وهو إسلاميّ-:
هنّ الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسّور.
أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب.
وقيل: منسوب للأمة، أي الّذي جاء حاله معظم الأمة، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلا النادر منهم، ولذلك يصفهم أهل الكتاب بالأميين، لما حكى اللَّه- تعالى- عنهم في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75] .
والأمية وصف خص اللَّه- تعالى- به من رسله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم إتماما للإعجاز العلميّ والعقلي الّذي أيده اللَّه به، فجعل الأمية وصفا ذاتيا له، ليتم بها وصفه الذاتي، وهو الرسالة، لكي يظهر أن كماله النفسانيّ كمال لدنيّ إلهي، لا وساطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان، لأنه لما حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينه من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنما هو من فيوضات إلهية. (تفسير التحرير والتنوير) : 9/ 133.(13/101)
وقال ابن النحاس: منسوب إلى أمه كما ولد، وقيل: نسب إلى أم القرى، وقال- تعالى-: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [ (1) ] يقول اللَّه- جل ذكره-: وما كنت يا محمد تتلو يعنى تقرأ قبله يعني من قبل هذا القرآن الّذي أنزلته إليك من كتاب ولا تخطه بيمينك يقول: ولم تكن تكتب بيمينك، ولكنك كنت أميا، إذا لارتاب المبطلون، يقول:
ولو كنت من قبل أن يوحى إليك تقرأ الكتب أو تخطها بيمينك، إذا لارتاب، يقول: إذا لشكّ بسبب ذلك في أمرك وما جئتهم به من عند ربك من هذا الكتاب الّذي تتلوه عليهم المبطلون القائلون: أنه سجع وكهانة، وأنه أساطير الأولين.
قال ابن عباس: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أميا لا يقرأ شيئا ولا يكتب. وقال سعيد عن قتادة: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يقرأ كتابا قبله، ولا يخطه بيمينه، ظقال: كان أميا، والأمي الّذي لا يكتب، وقال أبو إدريس الأوردي، عن الحكم، عن مجاهد:
كان أميا، والأميّ الّذي لا يكتب، قال: وكان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يخط، ولا يقرأ كتابا، فنزلت هذه الآية: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [ (2) ] قال سعيد: إذا لقالوا: إنما هذا شيء تعلمه محمد وكتبه.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: المبطلون قريش، وقد زعم بعضهم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يمت حتى تعلم الكتابة، وهذا قول لا دليل عليه، فهو مردود.
وتمسك القائل بأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحسن الكتابة بما خرّجه البيهقيّ من طريق أبي عقيل يحيى بن المتوكل، عن مجاهد، عن عون بن عبد اللَّه، عن أبيه، قال: لم يمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كتب وقرأ.
وقال مجاهد: فذكرت ذلك للشعبي، فقال: قد صدق، قد سمعت من بعض أصحابنا يذكرون ذلك.
__________
[ (1) ] العنكبوت: 48.
[ (2) ] العنكبوت: 48.(13/102)
قال البيهقيّ: إنه حديث منقطع، وفي روايته جماعة من الضعفاء والمجهولين [ (1) ] .
قال مؤلفه: يحيي بن المتوكل أبو عقيل المدني الحذاء الضرير [ (2) ] مولى آل عمر وصاحب بهيمة، روى عنهما، وعن محمد بن المنكدر، والقاسم بن عبد اللَّه العمري، وجماعة، وروى عنه ابن المبارك، ووكيع، وجماعة.
قال ابن معين: ليس بشيء، ومرة قال: ليس به بأس، ومرة قال:
ضعيف، وقال الدارميّ: هو ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: أحاديثه عن بهيمة، عن عائشة منكرة، لم يرو عن بهيمة شيء وما روى عنها إلا هو واهي الحديث، ومرة قال: يروي عن قوم لا أعرف منهم واحدا، ولم يحل عنهم.
وقال الفلاس: هو ضعيف، ومرة قال: فيه ضعيف، وقال السعديّ:
أحاديثه منكرة، وقال النسائي: ضعيف وقال ابن عدي: وعامة أحاديثه غير محفوظة، ومجالد بن سعيد بن عمير بن ذي يزن، أبو عمير الهمدانيّ، الكوفي، ضعفه يحيى القطان، وابن معين، والسعديّ، والنسائي، وقال ابن عدي: وعامة ما يروونه غير محفوظ.
وذكر النقاش في (تفسيره) عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كتب، وأسند من حديث أبي كبشة السلوليّ أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ صحيفة لعيينة بن حصن.
قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وتمسك أيضا بما
خرّجه البخاري [ (3) ] في كتاب الصلح في عمرة القضاء من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن
__________
[ (1) ] (سنن البيهقيّ) : 7/ 42- 43، كتاب النكاح، باب لم يكن له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتعلم شعرا ولا يكتب.
[ (2) ] يحيى بن المتوكل العمري أبو عقيل المدنيّ، ويقال: الكوفيّ الحذاء الضرير، صاحب بهية، مولى العمريين، روى عن أبيه، وأمه أم يحيى وبهية ويحيى بن سعيد الأنصاريّ وغيرهم، عن يحيى بن معين وهو ضعيف، وليس حديثه بشيء، وعن عليّ بن المديني كذلك، كما ضعفه النسائي وغيره، قال ابن قانع: مات سنة (167) . له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
11/ 237، (تاريخ بغداد) : 14/ 108، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 7/ 206- 208.(13/103)
__________
[ () ] (3) (فتح الباري) : 5/ 380، كتاب الصلح، باب (6) كيف يكتب «هذا ما صالح فلان بن فلان فلان ابن فلان» وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه، حديث رقم (2699) .
قال الحافظ: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي، فادعى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الّذي قاله يخالف القرآن، حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول اللَّه قد كتبا
فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، فقال: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى.
وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهرويّ، وأبو الفتوح النيسابوريّ، وآخرون من علماء إفريقية وغيرها، واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة، وعمر بن شبة، من طريق مجاهد عن عون بن عبد اللَّه قال: «ما مات رسول اللَّه حتى كتب وقرأ» قال مجاهد: فذكرته للشعبيّ فقال: صدق، قد سمعت من يذكر ذلك.
ومن طريق يونس بن ميسرة على أبي كبشة السلوليّ، عن سهل بن الحنظلية» أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس؟ فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصحيفة فنظر فيها فقال: قد كتب لك بما أمر لك» . قال يونس: فنرى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب بعد ما أنزل إليه.
قال عياض: وردت آثار تدل على معرفة حروف الخط وحسن تصويرها،
كقوله لكاتبه:
«ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك» ،
وقوله لمعاوية: «ألق الدواة وحرف القلم، وأقم الباء، وفرق السين ولا تعور الميم» ،
وقوله: «لا تمد بسم اللَّه» .
قال: وهذا وإن لم يثبت أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب، فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتى من كل شيء.
وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبيّة بأن القصة واحدة، والكاتب فيها عليّ، وقد صرح في حديث المسور بأن عليا هو الّذي كتب، فيحمل على أن النكتة في(13/104)
البراء، قال: اعتمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذي القعدة، فأبي أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللَّه، فقالوا: لا نقرّبها، فلو نعلم أنك رسول اللَّه ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد اللَّه، فقال: أنا رسول اللَّه، وأنا محمد بن عبد اللَّه، ثم قال لعليّ بن أبي طالب: امح رسول اللَّه، قال: لا واللَّه لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكتاب
- وليس بحسن يكتب- فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللَّه. وذكر الحديث.
ووقع في (أطراف أبي مسعود الدمشقيّ) أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب،
فكتب: مكان «رسول اللَّه» : «محمدا» وكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد» .
وأخرجه الإسماعيلي، وقال ابن دحية في كتاب (التنوير) بعد أن عزاها إلى أبي مسعود: هي زيادة متلوّة ليست في (الصحيحين) ، وغفل- رحمه اللَّه- عن وقوعها في (صحيح البخاريّ) ، كما بيّنا، وليس في هذه الزيادة
__________
[ () ] قوله: «فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب» لبيان أن
قوله: «أرني إياها»
أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها، إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك: «فكتب» فيه حذف، تقديره: فمحاها، فأعادها لعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكتب، وبهذا جزم ابن التين، وأطلق كتب بمعنى أمر الكتابة، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر، وكتب إلى كسرى، وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالما بالكتابة ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات ويحسن وضعها وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني- أحد أئمة الأصول من الأشاعرة- وتبعه ابن الجوزي، وتعقب ذلك السهيليّ وغيره، بأن هذا وإن كان ممكنا ويكون آية أخرى، لكنه يناقض كونه أميا لا أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة. (فتح الباري) :
7/ 641- 642، كتاب المغازي، باب (44) عمرة القضاء، حديث رقم (4251) .(13/105)
دليل، فقد تقرر في موضعه أن المقيد يقضي على المطلق،
ففي الرواية الأخرى: فأمر عليا فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللَّه، وله طرق عديدة في (الصحيحين) وغيرهما.
قال ابن دحية: وذكر عمر بن شبة في كتاب (الكتاب) له، أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب يوم الحديبيّة بيده، ونحى في قوله إلى أنه قصر الكتاب عالما به في ذلك الوقت، ولم يعلمه قبله، وإن ذلك من معجزاته صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن تعلم الكتاب في وقته، لأن ذلك خرق للعادة.
وقال بهذا القول بعض المحدثين، منهم أبو ذرّ الهروي، وأبو الفتح النيسابورىّ، والقاضي أبو الوليد الباجي، وصنف في ذلك كتابا، وقيل: إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب ذلك اليوم غير عالم بالكتابة، ولا مميز لحروفها، لكنه أخذ العلم بيده، فخط به ما لم يميزه هو فإذا هو كتاب ظاهر بين على حسب المراد.
قال: وذهب إلى ذلك القاضي أبو جعفر السمنانيّ الأصوليّ، قال الباجي:
كان من أوكد معجزاته صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكتب من غير تعلم، قال ابن دحية: وهذا كله ليس بشيء، وقد ردّ على الباجي فيما ذهب إليه من ذلك ابن معوذ، وسمّع عليه بسبب المقالة، وتبعه كثير من فقهاء الأندلس وغيرهم بموافقته، منهم.
محمد بن إبراهيم الكناني، وأجاد فيما كتب، وبين أن ذلك لا يبطل المعجزة، واستأنس بمفهوم وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ وحكى في أثناء ذلك عن بعض أهل الأدب أنه زعم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحسن الشعر ولكنه كان لا يتعاطاه، قال: وإن ذلك أتم وأكمل مما لو قلنا إنه كان لا يحسنه.
وحكى البغوي في (التهذيب) الخلاف، فقال: وقيل: كان يحسن الخط ولا يكتب، ويحسن الشعر ولا يقوله، والأصح أنه كان لا يحسنهما، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئة.
وقال القضاعي في (عيون المعارف) : أن من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لم يكن له أن يقول شعرا، ولا أن ينقله، وألحق الماوردي بقول الشعر روايته وبالكتابة والقراءة أي في كتاب لقوله- تعالى-: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ قال موسعة والصواب أن اللَّه- تعالى- إنما سأل نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما فضّل به ملائكته(13/106)
مع إعلاء ذكره وما خصّه به من بين أنبيائه إلا لما هو أفضل منه وأقوم بحجته على الكافرين به، وهو أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث في زمن الفصاحة والبلاغة، فلو كان ممن يقرأ ويكتب لتوجه للطاعن الطعن مع أنه مع شدة فصاحة أهل بيته وتميزهم فيها على فصاحة قريش كلها وإتقان المعرفة بالكتابة والخط أن يأتي بما أتى به من القرآن فيتبع لقريش الحجة بذلك، وحاش له معرفة الكتابة ليكون له ذلك معجزا يبطل به دعواهم، ويحصن، حجتهم ويكذب أقوالهم، إذ كان قد أتى العرب من رجل أي ما أنجزه، ومنعهم عن الإتيان بمثله.(13/107)
السادسة: كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو
ويقاتله لحديث يوم أحد
لما أشار عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم جماعة من المؤمنين بالخروج إلى عدوه إلى أحد فدخل فلبس لأمته فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول اللَّه إن أبيت أن ترجع فقال: ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل
هكذا في رواية يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن شهاب وغيره، وفي رواية موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل.
وقال الواقدي [ (1) ] في روايته: عن الزهريّ عن عروة، عن المستورد بن مخرمة: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه، [وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه] [ (2) ] .
وفي سنن البيهقيّ مرسلا [ (3) ] : لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وأذن في الناس بالخروج إلى العدوّ أن يرجع حتى يقاتل، ثم قال: وقد كتبناه موصولا
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 214، في سياق حوادث غزوة أحد، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] وعلى ذلك لا تكون خصوصية له صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما دامت كانت للأنبياء قبله.
[ (3) ] (سنن البيهقيّ) : 7/ 40- 41، كتاب النكاح، باب لم يكن له إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدوّ ولو بنفسه، ثم قال: وهكذا ذكره موسى بن عقبة عن الزهريّ، وكذلك ذكره محمد بن إسحاق عن يسار عن شيوخه من أهل المغازي، وهو عام في أهل المغازي وإن كان منقطعا، وكتبناه موصولا بإسناد حسن.(13/108)
بإسناد حسن، فذكره من رواية ابن عباس وأخرجه الإمام أحمد [ (1) ] من حديث أبي الزبير عن جابر.
وذكره البخاريّ في (صحيحه) [ (2) ] في باب المشاورة بغير إسناد. وقوله في الحديث: لأمته هو بالمحركة قيده صاحب (المشارق) ، وقال أبو الخطاب ابن دحية في كتاب (نهاية السؤول في خصائص الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم) كذا سمعته.
قال ابن فارس في (المحل) اللأمة مهمون الزرع قال: كذا قيدتها بالتمييز في كتاب (فقه اللغة) إلا أنه جعلها الزرع التام وكذا قيده في (كفاية المتحفظ) وقال ابن سيدة في مادة لأم: أو اللأمة الزرع وجمعها لأم وهذا على غير قياس وإسلام لأمته وتلاءم منها لبسها وجاء ملاء ما عليه لأمة والأمة سلاح كلها، عن بن الأعرابيّ وقد استلأم بها، وقد اختلف في هذه المسألة فاشتهر الجمهور بأنه كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم التسرع حتى يقاتل ويمكن تقرير دليله بأن نزع اللأمة بعد لبسها يشعر بالجبن وهو من ضعف النفس وذلك ممتنع على الأنبياء غير جائز عليهم، وعن رواية الشيخ أبي على: إن ذلك كان مكروها لا محرما، وقال الإمام: وهذا بعيد غير موثوق به قال: وقد قيل بناء عليه:
إنه كان لا يبتدي تطوعا إلا لزمه إتمامه، فإذا كان ذلك في القتال الّذي هو
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 317، حديث رقم (14373) ، من مسند جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 419، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28) قول اللَّه- تعالى-:
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وأن المشاورة قبل العزم والتبين لقوله- تعالى-: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الحديث الّذي بين رقمي (7368) ، (7369) بدون إسناد أو رقم. وذلك
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما جاءه المشركون يوم أحد كان رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكون شهدوا ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لبس لأمته، فلما لبسها ندموا وقالوا: يا رسول اللَّه أقم، فالرأي رأيك، فقال: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم اللَّه بينه وبين عدوه، وكان قد ذكر لهم قبل أن يلبس الأداة: إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة. (فتح الباري) .(13/109)
فرض وهذا التفريع ضعيف لما قام من أكله صلّى اللَّه عليه وسلّم الحيس بعد ما أصبح صائما وقد ضعف هذا التفريع النووي- رحمه اللَّه-.
السابعة: كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم خائنة الأعين أي لم يكن له أن يومئ بطرفه خلاف ما يظهره بكلامه
وقد اختلف في المراد بخائنة الأعين فقيل: نفى الإيماء بالعين وقيل:
مقاربة النظر. وقال الرافعي: هي الإيماء إلى مباح من ضرب أو قتل وغيره على خلاف ما يظهره وما يشعر به الحال [ (1) ] دائما، قيل لها: خائنة الأعين، تشبهها بالخيانة من حيث أنه يخفى خلاف ما يظهر، ولا يحرم ذلك على غير الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
خرّج النسائي [ (2) ] من حديث أسباط بن نصر قال: زعم السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة بن أبي جهل، وعبد اللَّه بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد اللَّه بن سعد بن أبي السرح،
فأما عبد اللَّه بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارا وكان أشبه الرجلين فقتله، وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: واللَّه لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره، اللَّهمّ إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه
__________
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 350، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 7/ 122، كتاب التحريم، باب (14) الحكم في المرتد، حديث رقم (4078) .(13/110)
عفوّا كريما، فجاء فأسلم،
وأما عبد اللَّه بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فلما دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس إلى البيعة جاء حتى أوقفه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: يا رسول اللَّه بايع عبد اللَّه، قال: فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا: وما يدرينا يا رسول اللَّه ما في نفسك؟ هل أومأت إلينا بعينك، قال: إنه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة أعين.
وخرّجه أبو داود [ (1) ] بهذا الإسناد يوم كان فتح مكة: اختبأ عبد اللَّه بن سعد ابن أبي السرح عند عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فجاء به حتى أوقفه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللَّه بايع عبد اللَّه، الحديث ... إلى آخره ولم يذكر أوله، ذكره في الحدود.
أخرجه الحاكم [ (2) ] وقال حديث صحيح على شرط مسلم، وروى بن سعد [ (3) ] من طريق سعيد بن المسيب، قال: أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتل ابن أبي السرح ومقيس بن صبابة والحويرث بن نقيذ وعبد اللَّه [بن هلال] بن خطل، فأما ابن خطل [الأدرمي] وهو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي السرح أن يقتله، فجاء عثمان- وكان أخا لابن أبي السرح من الرضاعة- فشفع له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أخذ الأنصاريّ يقلم السيف ينتظر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم متى ينوي إليه أن يقتله فشفع له عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حتى تركه، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للأنصاريّ قد انتظرتك أن توفي بنذرك، قال: يا رسول اللَّه هبتك، أفلا أومأت إليّ؟ قال: إنه ليس لنبي أن يومئ. رواه
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 133، كتاب الجهاد، باب (127) باب قتل الأسير ولا يفرض عليه الإسلام حديث رقم (2683) .
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 62، كتاب البيوع، باب (19) حديث رقم (2329) وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 136، غزوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح.(13/111)
البيهقيّ في دلائل النبوة [ (1) ] من طريق قتادة، عن أنس نحوه في قصة ابن أبي السرح، قد حكى سبط بن الجوزي في (مرآة الزمان) أن هذا الأنصاريّ عباد بن بشر، واستدل صاحب (التلخيص) بهذا على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن له أن يجزع في الحرب.
قال الرافعي: احتج بما خرّجه البخاريّ من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن ابن مالك أن عبد اللَّه بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يكن يريد رسول اللَّه غزوة إلا ورّى بغيرها، ومن طريق عبد اللَّه بن المبارك، عن الزهريّ قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: سمعت كعب بن مالك يقول كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قل ما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا واستقبل غزو عدو كبير فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الّذي يريد.
وعن يونس، عن الزهريّ، أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك كان يقول: لقل ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس. هكذا وقع هذا الحديث في صحيح البخاريّ [ (2) ] ، عن يونس،
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 5/ 60، باب من أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتله يوم فتح مكة ولم يدخل فيما عقد من الأمان.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 140، كتاب الجهاد والسير، باب (103) من أراد غزوة فورّى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس، حديث رقم (2949) .
وأخرجه أبو داود في الجهاد، باب (84) في أي يوم يستحب السفر، حديث رقم (2605) ، وأخرجه الدارميّ في السير، باب في الخروج يوم الخميس. من حديث عثمان بن عمر، عن يونس عن الزهريّ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 491، حديث رقم (15352) من حديث كعب بن مالك الأنصاري، ولفظه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك» ، ورقم (15354) من حديث كعب بن مالك الأنصاري أيضا، ولفظه: «أقل ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج إذا أراد سفرا إلا يوم الخميس» ، وحديث رقم (26637) بنحوه.(13/112)
عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال سمعت كعب بن مالك يقول، وإن كعب بن مالك كان يقول، والحديث منقطع لأنه لم يسمع عبد الرحمن بن عبد اللَّه من عمه عبيد اللَّه عن ابنهما كعب بن المبارك وعدد ذلك من أوهام عبد اللَّه بن المبارك، لأن ابن سعد وعبد اللَّه بن وهب.
روياه عن يونس، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده كعب بن مالك، ورواه الليث عن عقيل عن الزهريّ بهذا الإسناد أيضا متصلا، وروى مسلم قوله: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قل ما يريد غزوة إلا ورّى [بغيرها] [ (1) ] ، من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، ومن حديث محمد ابن عبد اللَّه ابن أخى بن شهاب، عن عمه، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك وهو حديث طويل وله طرق عديدة.
واحتجوا أيضا بما
خرّجه البخاريّ ومسلم وغيرهما من حديث معمر، عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الحرب خدعة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] أخرجه الجماعة إلا (الموطأ) ، و (النسائي) .
فقد أخرجه البخاريّ في الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام، وفي الجهاد، باب الحرب خدعة،
وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحلت لكم الغنائم،
وفي الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومسلم في الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (2918) ، والترمذي في الفتن، باب ما جاء في الفتن، حديث رقم (2127) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الحرب خدعة»
تروى بفتح الخاء، وهي اللغة الفصحى، وهي المرة الواحدة من الخداع، يعني أن الحرب بمرة واحدة من الخداع، يبلغ فيها الغرض، لأن الخصم متى انخدع غلب وقهر، وتروى بضم الخاء، وهي الاسم من الخداع، وقد روى بضم الخاء وفتح الدال- بوزن همزة- أي: إن الحرب تخدع الرجال كثيرا. (جامع الأصول) : 11/ 312، شرح الحديث رقم (8875) .
قال الخطابيّ: هذا الحرف يروى بفتح الخاء وسكون الدال، وهو أفصحها، وبضم الخاء وسكون الدال، وبضم الخاء وفتح الدال، فمعنى الأولى: المرة الواحدة من الخداع: أي أن(13/113)
وبما
خرّجاه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الحرب خدعة،
وبما
خرّجه أبو بكر بن أبي شيبة [ (1) ] من حديث زكريا عن أبي إسحاق، عن سعد بن ذي حدان، عن عليّ قال: إن اللَّه سمّي على لسان نبيه إن الحرب خدعة.
واحتجوا بما فعله صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحزاب من أمره نعيم بن مسعود أن يوقع بين قريش وقريظة وفعل ما فعل، حتى فرق اللَّه شملهم على يديه، وألقى بينهم العداوة، وقلل اللَّه جمعهم بذلك وبغيره، وسيرد خبر نعيم في ذكر رسله عليهم السلام، والفرق بين الرّنو بالعين والخداع بالحرب: أن الرّنو يزرى بالرامز بخلاف الإبهام في الأمور العظام فإنه يدل على الحزم واللَّه أعلم.
__________
[ () ] المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم يكن لها إقالة، ومعنى الثانية: الاسم من الخداع، ومعنى الثالثة:
أراد أن الحرب تخدع الرجال، وتمنيهم، ولا تفي لهم، كما يقال: فلان رجل لعبة: إذا كان يكثر اللعب، وضحكة: إذا كان يكثر الضحك. (المرجع السابق) : 2/ 575- 576، شرح الحديث رقم (1054) .
وأخرجه مسلم في الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب، حديث رقم (1740) ، وأخرجه أبو داود في الجهاد، باب المكر في الحرب، حديث رقم (2637) ، وإسناده صحيح.
[ (1) ]
(المصنف) : 6/ 453، باب (185) في المكر والخدعة في الحرب، حديث رقم (33650) ، وحديث رقم (33651) : «إن اللَّه قضى على لسان نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن الحرب خدعة، وإني محارب أتكلم في الحرب، قال: ولكن إذا قلت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فو اللَّه لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أقول على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما لم يقل.(13/114)
الثامنة: اختلف أصحابنا هل كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يصلي على من عليه دين؟ على وجهين، وفي جوازه مع وجود الضامن على طريقتين
حكاهما أبو العباس في (الجرجانيات) ، يثاب على ما حكاه الرافعي عنه، قال النووي في (الروضة) [ (1) ] بعد أن حكى الخلاف في الثانية وجهين على خلاف الرافعي، من كونه طريقتين: والصواب الجزم بجوازه مع الضامن نسخ التحريم، فكان صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك يصلي على من عليه دين ولا ضامن له ويوفيه من عنده والأحاديث الصحيحة [مصرحة بما ذكرته] ، ففي الباب حديث أبي سلمى، عن أبي هريرة في (الصحيحين) ، وعن سلمة بن الأكوع، في البخاريّ، وعن أبي قتادة في الترمذيّ، وعن جابر عند أبي داود، وعن أبي سعيد، عند البيهقيّ، وعن ابن عمر، عند الطبراني، قال في (الأوسط) : عن أبي أمامة وأسماء بنت يزيد وعنده في (الكبير) ، وعن ابن عياش في (الناسخ) للبخاريّ.
وفي حديث سلمة يعني الضامن أنه قتادة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وفي حديث أبي سعيد أن الضامن عليّ فتكون القصة تكررت وكل ذلك لا يدل على التحريم فقيل في امتناعة صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه تأديب للأحياء لئلا يأكلوا أموال
__________
[ (1) ]
(روضة الطالبين) : 5/ 350، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره، وقال في (هامشه) : كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يؤتي بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل:
هل ترك لدينه قضاء؟ فإن حدّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإن قيل: لا، قال للمسلمين:
صلوا على صاحبكم، فلما فتح عليه الفتوح قام فقال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى من المؤمنين فترك دينا فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته. [متفق عليه] .
وأخرجه البيهقيّ في (السنن الكبرى) : 7/ 44، كتاب النكاح، باب كان عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم قضاء دين من مات من المسلمين، وقال: رواه مسلم في الصحيح، عن حرملة بن وهب، وأخرجه البخاريّ من وجه آخر عن يونس، 7/ 53 كتاب النكاح، باب كان لا يصلي على من عليه دين ثم نسخ، بنحوه.(13/115)
الناس وقيل: هي عقوبة في أمور الدين أصلها المال، وحديث سلمة عند البخاريّ مصرح بمسألة الصلاة إذا وجد الضامن.
التاسعة: كان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يستكثر ومعناها: أن يعطي شيئا ليأخذ أكثر منه
وقد اختلف في تأويل ذلك، فعن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لا يعطي عطية يلتمس بها أفضل منها. وقال أرطاة عن ضمرة بن حبيب وأبي الأحوص: لا يعطي شيئا له معطي أكثر منه. وقال أبو دجانة عن عكرمة: لا يعطي شيئا لأن يعطى أكثر منه، وعنه أيضا قال: لا تعطي العطية لتريد أن تأخذ أكثر منها، وقال منصور عن إبراهيم: لا تعطي فيما يزداد، وقال مغيرة عن إبراهيم: لا تعطي شيئا تأخذ أكثر منه، وفي رواية عنه: لا تعطي شيئا ليزداد، وفي رواية: لا تعط أكثر منه، وقال سلمة عن الضحاك: لا تعطى وتعطي أكثر منه، وقال وكيع عن أبي داود عن الضحاك قال: هو الربا الحلال، قال: للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة.
وفي رواية: هما ربا، إن حلال أو حرام، وقلنا: الحلال فالهدايا، وأما الحرام فالربا، وقال سعيد عن قتادة: قال: لا تعط شيئا لشيء أكثر منه، وقاله أيضا طاووس، قال: ونقل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لا تعط مالا مصانعة رجاء أفضل من الثواب في الدنيا. وقال سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: لا تعط لتزداد، قال سفيان عن رجل عن الضحاك بن مزاحم:
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [ (1) ] قال: للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، وللناس عامة موسع عليهم.
__________
[ (1) ] المدثر: 6، وقرأ الجمهور: وَلا تَمْنُنْ، بفك التضعيف، والحسن وأبو السمال: بشد النون. قال ابن عباس وغيره: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، كأنه من قولهم: من إذا أعطى. قال الضحاك: هذا خاص به صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومباح ذلك لأمته، لكنه لا أجر لهم. (البحر المحيط) : 10/ 326- 327.(13/116)
قال سفيان بن حسين، عن الحسن قال: لا تمنن عملك تستكثره على ربك
وفي رواية لا تمنن تستكثر عملك الصالح،
وعن الربيع بن أنس قال لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم اللَّه عليك وأعطاك قليل، وقال حصبة عن مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال: لا تمنن في كلام العرب تضعف من قولهم حبل متين إذا كان ضعيفا، وقال ابن وهب عن أبي زيد قال:
لا تمنن بالنّبوّة والقرآن الّذي أرسلناك به تستكثرهم به لتأخذ عليه عرضا من الدنيا. واختار أبو جعفر محمد بن جرير الطبري من هذه الأقوال: ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح لأنه في سياق آيات فيه أمره- تعالى- عليه السلام للجد في الدعاء إليه والصبر على ما يلقاه من الأذى في فكانت أشبه بذلك من غيرها، واختار القرطبي: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال.
وقال: يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته، ويقال: العطية المن، فكأنه أمر بأن يكون عطاياه صلّى اللَّه عليه وسلّم للَّه- عز وجل- لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها
لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: ما لي مما أفاء اللَّه عليكم إلا هذا الخمس، والخمس مردود فيكم كان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين،
ولهذا لم يورث لأنه كان لا يدخر، ولا يقتني، وقد عصمه اللَّه- تعالى- عن الرغبة في شيء من الدنيا، ولهذا حرمت عليه الصدقة، وأبيحت له الهدية، فكان يتقبلها ويثيب عليها،
وقال: لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو دعيت إلى كراع لقبلت،
قال ابن العربيّ: وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يقبلها سنّة، ولا يستكثرها شريعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب، لأنها باب من أبواب المذلة، وذكر قول من قال: معناه لا تعط عطية تنتظر ثوابها فإن الانتظار يعلق الأطماع، وذلك في حيرة بحكم الامتناع وقد قال اللَّه- تعالى-: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ(13/117)
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [ (1) ] وذلك جائز لسائر الخلق، لأنه متاع الدنيا، وطلب الكسب، والتكاثر بها [ (2) ] .
قال القرطبي: وأما من قال: أنه أراد به العمل، أي لا تمنن على اللَّه بعملك فتستكثر فهو صحيح، فإن ابن آدم لو أطاع اللَّه عمره من غير معصية لم يبلغ نعم اللَّه بعد شكرها.
خرّج البيهقي [ (3) ] من طريق زكريا بن عدي حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعيّ، عن عطاء، وقال زكريا: أراه عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [ (4) ] قال: هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه فلا أجر فيه ولا وزر، ونهي عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ.
__________
[ (1) ] طه: 131.
[ (2) ] قال أبو حيان الأندلسي: وعن ابن عباس أيضا: لا تقل دعوت فلم أجب، وعن قتادة: لا تدل بعملك، وعن ابن زيد: لا تمنن بنبوتك تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم. وقال الحسن: تمنن على اللَّه بجدّك، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها.
وقال مجاهد: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ما حملناك من أعباء الرسالة، أو تستكثر من الخير، من قولهم: حبل متين: أي ضعيف.
وقيل: ولا تعط مستكثرا رائيا لما تعطيه. وقرأ الجمهور: تَسْتَكْثِرُ برفع الراء، والجملة حالية، أي مستكثرا. وقال الزمخشريّ: ويجوز في الرفع أن تحذف «أن» ويبطل عملها. (المرجع السابق) .
[ (3) ] (سنن البيهقيّ) : 7/ 51، كتاب النكاح، باب ما نهاه اللَّه- عز وجلّ- عنه بقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، ثم قال البيهقيّ: وأخبرنا أبو عبد اللَّه، وأبو بكر بن الحسن، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد حدثنا أبو نعيم، حدثنا سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال: لا تعطي رجلا ليعطيك أكثر منه.
[ (4) ] الروم: 39.(13/118)
العاشرة: أمره اللَّه- تعالى- أن يختار الآخرة عن الأولى
فكان يحرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يمد عينيه إلى ما متع به المترفون من إقبال الدنيا قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [ (1) ] .
__________
[ (1) ] طه: 131،
قال البيهقيّ: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب، وأعطيت الخزائن، وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل.
وأخبرنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسديّ قال: سمعت الشعبيّ يحدث عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: إن جبريل- عليه السلام- أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا. (سنن البيهقيّ) : 7/ 46- 48، كتاب النكاح باب ما أمره اللَّه- تعالى- به من اختياره الآخرة على الأولى، ولا يمد عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا، فقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 131] .(13/119)
القسم الثاني: المحرمات المتعلقة بالنكاح
وفيه مسائل:
الأولى: إمساك من كرهت نكاحه ورغبت عنه محرم عليه على الصحيح
بخلاف غيره من يخير امرأته فإنّها لو اختارت فراقه لما وجب عليه فراقا، وقال بعضهم: بل كان يفارقها تكرما. [وهو] [ (1) ] حديث غريب كما قاله الرافعي [ (2) ] .
واستند من قال بالتحريم بما
خرّجه البخاريّ من طريق الأوزاعي [ (3) ] ، سألت الزهريّ: أي أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استعاذت منه؟ قال: أخبرني عروة عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ودنا منها، قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك.
وخرّج أيضا من طريق حمزة بن أبي أسيد [ (4) ] ، عن أبي أسيد [- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-] [ (5) ] قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلسوا ها هنا ودخل، وقد أتى بالجونية فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 350، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 455، كتاب الطلاق، باب (3) من طلق، هل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، حديث رقم (5254) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5255) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(13/120)
النعمان بن شراحبيل ومعها دايتها حاضنة لها فلما دخل عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
هبي نفسك لي قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن فقالت: أعوذ باللَّه منك قال: قد عذت بمعاذ ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد، اكسها رازقين وألحقها بأهلها.
وقال الحسين بن الوليد النيسابورىّ: عن عبد الرحمن، عن عباس، عن سهل عن أبيه وأبي أسيد قالا: تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أميمة بنت شراحيل فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقين.
ترجم عليه البخاريّ باب [باب من طلق] [ (1) ] ، هل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
والسوقة بضم السين المهملة، يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقيّ. قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوق عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، ولم يؤاخذها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها. وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال.
وسيأتي في الحديث التالي من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: «ذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعديّ أن يرسل إليها، فقدمت، فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاء بها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ باللَّه منك، قال: لقد اعذت مني.
فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جاء ليخطبك، قالت: كنت أشقى من ذلك» . فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب:
«ألحقها بأهلها» ،
ولا قوله في حديث عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
«الحقي بأهلك»
تطليقا، ويتعين أنها لم تعرفه.
وإن كانت القصة متعددة- ولا مانع من ذلك- فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب.(13/121)
__________
[ () ] وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العزرميّ الضعيف، عن ابن عمر، قال: «كان في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث أبا سعيد الساعديّ يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد: اختلف علينا اسم الكلابية فقيل: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل: سنا بنت سفيان بن عوف، وقيل: العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف» .
«فقال بعضهم: هي واحدة اختلف في اسمها، وقال بعضهم: بل كن جميعا، ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها» ، ثم ترجم الجونية فقال: أسماء بنت النعمان.
ثم
أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون قال: «قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسلما، فقال: يا رسول اللَّه، ألا أزوجك أجمل أيم في العرب، كانت تحت ابن عم لها فتوفى، وقد رغبت فيك؟ قال: نعم، قال: فابعث من يحملها إليك، فبعث معه أبا أسيد الساعديّ،
قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت معي في محفة، فأقبلت بها حتى قدمت المدينة، فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته «الحديث. قال ابن عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع، ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم، عن أبي أسيد، قال: «بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الجونية فحملتها حتى نزلت بها في أطم بني ساعدة، ثم جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها «الحديث» .
ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: اسم الجونية أسماء بنت النعمان بن أبي الجون، قيل لها: استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، وخدعت لما رئي من جمالها، وذكر لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من حملها على ما قالت،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إنهن صواحب يوسف وكيدهن» .
فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد.
وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة، فيمكن أن تنزل على هذه أيضا، فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوى أن التي في حديث أبي أسيد اسمها أميمة، والتي في حديث سهل اسمها أسماء، بل جاء ليخطبها فقط.(13/122)
__________
[ () ] قوله: «فأهوى بيده» أي أمالها إليها. ووقع في رواية ابن سعد: «فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى وقبّل» وفي رواية لابن سعد: «فدخل عليها داخل من النساء وكانت من أجمل النساء فقالت: إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا جاءك فاستعيذي منه» ، ووقع عنده عن هشام بن محمد عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب: «أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ باللَّه منك» .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد عذت بمعاذ»
هو بفتح الميم ما يستعاذ به، أو اسم مكان العوذ، والتنوين فيه للتعظيم. وفي رواية ابن سعد: «فقال بمكة على وجهه
وقال: عذت معاذا ثلاث مرات
»
وفي أخرى له: «فقال: أمن عائذ اللَّه» .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا أبا أسيد اكسها رازقين»
براء ثم زاي ثم قاف بالتثنية صفة موصوف محذوف للعلم به. والرازقية ثياب من كتان بيض طوال. قاله أبو عبيدة وقال غيره: يكون في داخل بياضها زرقه، والرازقي الصفيق. قال ابن التين: متعها بذلك إما وجوبا وإما تفضلا.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وألحقها بأهلها»
قال ابن بطال: ليس في هذا أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم واجهها بالطلاق، وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة [أول أحاديث الباب] ، فيحمل على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها:
الحقي بأهلك،
ثم
لما خرج إلى أبي أسيد قال له: ألحقها بأهلها،
فلا منافاة، فالأول قصد بالطلاق، والثاني أراد به حقيقة اللفظ، وهو أن يعيدها إلى أهلها، لأن أبا أسيد هو الّذي كان أحضرها كما ذكرناه.
ووقع في رواية لابن سعد، عن أبي أسيد قال: «فأمرني فرددتها إلى قومها» وفي أخرى له: «فلما وصلت بها تصايحوا وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خدعت. قال:
فتوفيت في خلافة عثمان» . قال: «وحدثني هشام بن محمد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا «ثم روى بسند فيه الكلبيّ» أن المهاجر بن أبي أمية تزوجها، فأراد عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- معاقبتها، فقالت: ما ضرب عليّ الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكفّ عنها» .
وعن الواقديّ: سمعت من يقول: إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها، قال: وليس ذلك بثبت. ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق. وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك إليه يسأله، فكتب إليه: ما تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم(13/123)
وخرّج البخاريّ في كتاب الأشربة في باب الشرب من قدح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وآنيته، من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: ذكر لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم امرأة من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها، فأرسل إليها فقدمت، فأنزلت في أجم بني ساعدة فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاءها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها فلما كلمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال: قد أعذتك مني،
فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا فقالوا: هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جاءك ليخطبك فقالت: كنت أنا أشقى من ذلك. قال سهيل: فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: اسقنا يا سهل، فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه، قال أبو حازم: فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا فيه [ (1) ] ، قال: ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز فوهبه له [ (2) ] .
وخرّجه مسلم وهذه سياقته [ (3) ] .
__________
[ () ] كندية إلا أخت بني الجون فملكها. فلما قدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يبن بها. فقوله:
فطلقها، يحتمل أن يكون باللفظ المذكور قبل، ويحتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق، ولعل هذا هو السرّ في إيراد الترجمة بلفظ الاستفهام دون بت الحكم. واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها فكيف يطلقها؟.
والجواب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها، وإحضارها، ورغبته فيها كان كافيا في ذلك، ويكون
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «هبي لي نفسك»
تطييبا لخاطرها، واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد: «أنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك وخطبت إليك» .
وفي الحديث أن من قال لأمرأته: الحقي بأهلك وأراد الطلاق طلقت، فإن لم يرد الطلاق لم تطلق، على ما وقع
في حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أرسل إليه أن يعتزل امرأته قال لها: الحقي بأهلك فكوني حتى يقضي اللَّه هذا الأمر» . (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] كذا في (الأصل) وفي (صحيح البخاريّ) : «فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه. فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه» .(13/124)
وقال البخاريّ: اسقنا يا سهل، وقد قيل: إنّ بين القصتين تغاير فلعلهما قضيتان لامرأتين إحداهما مخطوبة، والأخرى نزولها معقود عليها، وفيه بعد، وفي رواية لابن سعد: علمها نساؤه ذلك وإسناده ضعيف.
وذكره الحاكم في المستدرك [ (1) ] وسيأتي في ذكر أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مزيد بيان لذلك، وفيها مما ذكرنا أنه حرم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم نكاح كل امرأة كرهت صحبته، وجدير أن يكون الأمر كذلك لما فيه من الإيذاء، ويشهد لذلك إيجاب التخيير كما تقدم، وينبغي أن يفرق بالكراهة فإن كانت كراهة المرأة لذاته صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنّها تكفر بذلك، وإن كانت كراهتها لأجل الغيرة فلا.
وقد قال بعضهم: ينبغي أن ينظر في التاريخ، وعلى تقدير أن تكون قصة المستعيذة بعد آية التخيير. ففي سبب نزول آية التخيير أقوال منها: تغاير نسائه عليه. يقول: لم يكرهن صحبته وإنما رغبتهن فيه أوجبت تغايرهن عليه،
__________
[ () ] (2) (فتح الباري) : 10/ 121، كتاب الأشربة، باب (30) الشرب من قدح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وآنيته، وقال أبو بردة: قال لي عبد اللَّه بن سلام: «ألا أسقيك في قدح شرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه؟ «حديث رقم (5637) .
قوله: «قالت: أنا كنت أشقى من ذلك» ليس أفعل التفضيل فيه على ظاهره، بل مرادها إثبات الشقاء لها لما فاتها من التزوج برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، «وسقيفة بني ساعدة» هو المكان الّذي وقعت فيه البيعة لأبي بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالخلافة.
وفي الحديث: التبسط على الصاحب، واستدعاء ما عنده من مأكول ومشروب، وتعظيمه بدعائه بكنيته، والتبرك بآثار الصالحين، واستيهاب الصديق ما لا يشق عليه هبته.
(فتح الباري) : مختصرا.
[ (3) ] لم أجده في (صحيح مسلم) .
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 38، كتاب معرفة الصحابة، ذكر الكلابية أو الكندية، حديث رقم (6813) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) ، وحديث رقم (6816) ، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : سنده واه، ويروي عن زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا، ويذكر عن هشام ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: خلف عن أسماء ... الخبر.(13/125)
وحصل بذلك ضيق، فأنزل اللَّه- تعالى- الآية، فعلى هذا ونحوه لا تحريم، وهذا قويّ ودليل التحريم غير منهض قائله.
الثانية: نكاح الحرة الكتابية حرام عليه
قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه، قال ابن العربيّ [ (1) ] : والصحيح عندي تحريمها عليه، وبهذا يتميز علينا فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أظهر فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات وقصر هو صلّى اللَّه عليه وسلّم لجلالته على المؤمنات، وإذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة، فأحرى ألا تحل له الكتابية الكافرة لنقصان الكفر. انتهى [ (2) ] .
وخرّج الحاكم [ (3) ] من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: سألت ربي- عز وجل- أن لا أزوج أحدا من أمتي ولا أتزوج إلا كان معي في الجنة فأعطاني،
قال الحاكم صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] .
__________
[ (1) ] قال ابن العربيّ في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة: 22] ، قال فيها ثلاث أقوال:
الأول: لا يجوز العقد بنكاح على مشركة كانت كتابية أو غير كتابية، قال عمر في إحدى روايتيه، وهو اختيار مالك والشافعيّ إذا كانت أمة.
الثاني: المراد به وطء من لا كتاب له من المجوس والعرب، قاله قتادة.
الثالث: أنه منسوخ بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] . (أحكام القرآن) : 1/ 156.
[ (2) ] (أحكام القرآن) : 3/ 1559.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 148، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4667) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه. وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح.(13/126)
خرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال لامرأته: أن سرّك أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا، فلذلك حرم على أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة.
وإذا تقرر ذلك، فالجنة محرمة على الكافرين ولأن الكافرة تكره صحبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، قال القاضي حسين:
لا يجوز له أن ينزع ماؤه في رحمها، خالفه أبو إسحاق من أصحابنا فقال: لا يحرم عليه نكاحها كما في موالاته وحكمه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح إن سعى من حكم أمته وهي حلال لهم وله أولى وهذا القائل يقول: لو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له، وفي (الحاوي) للماورديّ أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم استمتع بأمته ريحانة بنت عمر بملك اليمين وكانت يهودية من بني قريظة بعد أن عرض عليها الإسلام فأبت ثم أسلمت بعد ذلك، وهذا دليل القائل على الأمة الكتابية كما سيأتي إن شاء اللَّه- تعالى-.
قال مؤلفه فيما نقله الماورديّ نظر،
فقد نقل الواقدي [ (2) ] أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أخذها من سبي بني قريظة لنفسه صفية عرض عليها الإسلام فأبت فعزلها
__________
[ (1) ] (السنن الكبرى) : 7/ 69- 70، كتاب النكاح، باب ما خص به من أن أزواجه أمهات المؤمنين، وأنه يحرم نكاحهن من بعده على جميع العالمين.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 520- 521، باب غزوة بني قريظة.
وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن أبي حرملة، عن أخته أم عبد اللَّه ... [قالت صفية] : فسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلينا قبل الكتيبة، فسبيت في النزار قبل أن ينتهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الكتيبة، فأرسل بي إلى رحله، ثم جاءنا حين أمسى فدعاني، فجئت وأنا مقنعة حييّة، فجلست بين يديه فقال: إن أقمت على دينك لم أكرهك، وإن اخترت اللَّه ورسوله فهو خير لك، قالت:
أختار اللَّه ورسوله والإسلام، فأعتقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتزوجني وجعل عنقي مهري،
فلما أراد أن يخرج إلى المدينة قال أصحابه: اليوم نعلم أزوجة أم سرية، فإن كانت امرأته فسيحجبها وإلا فهي سرية. فلما خرج أمر بستر فسترت به فعرف أني زوجة، ثم قدّم إلى البعير وقدّم فخذه لأضع رجلي، فأعظمت ذلك، ووضعت فخذي على فخذه، ثم ركبت. وكنت ألقى(13/127)
حتى أسلمت، فسر بذلك ثم قال: فحدثني عبد الملك بن سليمان، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أيوب بن بشير المعاوي، قال: أرسل بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضتها فجاءت أم المنذر فأخبرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن أحببت إن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت، فقالت: يا رسول اللَّه إني أخفّ عليك وعليّ أن أكون في ملكك، فكانت في ملك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطؤها حتى ماتت عنده.
وحدثني بن أبي ذئب قال: سألت الزهريّ عن ريحانة فقال: كانت أمة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعتقها وتزوجها فكانت تحتجب في أهلها وتقول: لا يراني أحد بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال الواقدي [ (1) ] : فهذا أثبت الحديثين عندنا.
فتبين أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يطأ ريحانة إلا بعد أن أسلمت ويظل الاستدلال على جواز التسري بالأمة الكتابية وقد خرجوا على القول بجواز ذلك هل عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها أم تقيم على دينها فيفارقها؟ فيه وجهان حكاهما الماورديّ أحدهما: عليه تخييرها لتصبح من أزواجه في الآخرة، والثاني ليس ذلك عليه لأنه لما خير ريحانة وقد عرض عليها الإسلام فأقام على الاستمتاع بها.
__________
[ () ] أزواجه، يفخرن عليّ يقلن: يا بنت اليهوديّ
وكنت أرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلطف بي ويكرمني، فدخل عليّ يوما وأنا أبكي فقال: مالك؟ فقلت: أزواجك يفخرن عليّ ويقلن: يا بنت اليهوديّ.
قالت: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد غضب ثم قال: إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبي هارون وعمي موسى. (مغازي الواقدي) : 2/ 674- 675، باب غزوة خيبر مختصرا.
[ (1) ] راجع التعليق السابق.(13/128)
الثالثة: في تسريه بالأمة الكتابية
وفيه الخلاف المذكور قبله، وقال الرافعيّ: الأظهر هنا أجل، وبه أجاب الشيخ أبو حامد، وهو اختيار الماورديّ في ريحانة، ولا ينهض دليل ذلك عنه إلا التعقب والابتعاد [ (1) ] .
الرابعة: في تحريم نكاحه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأمة المسلمة
اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين:
أحدهما: عن أبي هريرة: لا يحرم عليه نكاحها كما في حق أبيه وأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوسع نكاحا من أمته، وأصحهما، يحرم لأن جواز نكاح الأمة مشروط بخوف العنت، وكونه صلّى اللَّه عليه وسلّم معصوم ويفقد أن طول الحرة ونكاحه صلّى اللَّه عليه وسلّم غير مفتقر إلى المهر، ولأن من نكح أمة كان ولده رقيقا، ومنصبه صلّى اللَّه عليه وسلّم منزه عن ذلك
__________
[ (1) ] قال الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: لأنها داخلة في معنى من حرم من المشركات وغير حلال، منصوصة بالإحلال كما نص حرائر أهل الكتاب في النكاح، واللَّه- تعالى- إنما أحل نكاح إماء أهل الإسلام بمعنيين، وفي ذلك دلالة على تحريم من خالفهن من إماء المشركين، واللَّه أعلم، لأن الإسلام شرط ثالث.
وأخبرنا أبو منصور النصروي، حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا سفيان عن ابن نجيح عن مجاهد، قال: لا يصلح نكاح إماء أهل الكتاب، لأن اللَّه تعالى يقول:
مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وعن الحسن في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلى قوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ قال: فلم يرخص لنا في إماء أهل الكتاب.
وعمن أدرك من فقهائهم الذين ينتهي إلى قولهم، منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد اللَّه، وسليمان بن يسار، قال: وكانوا يقولون: لا يصلح للمسلم نكاح الأمة اليهودية ولا النصرانية، إنما أحل اللَّه المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وليست الأمة بمحصنة. (سنن البيهقيّ) :
7/ 177، كتاب النكاح، باب لا يحل نكاح أمة كتابية لمسلم بحال.(13/129)
وبهذا قطع جماعة، وجمع الماورديّ هذه المسألة مفرعة على جواز الاجتهاد في الخصائص، وذهب الجمهور إلى الجواز ليتوصل به إلى معرفة الأحكام، ثم ذكر الماورديّ اختلافهم في نكاح الكتابية، ثم قال: وأما الأمة فلم يختلف أنه لم يكن له أن يتزوجها.
قال الرافعي: لكن من جوز ذلك قال: خوف العنت إنما يشترط في حق الأمة وفي اشتراط فقدان الطول تردد عن الشيخ أبي محمد وغيره على وجه الجواز.
قال الإمام فإن شرطناه لم تجز الزيادة على أمة واحدة وإلا جازت وقد فرعوا على القول بأن نكاح الأمة جائز فروعا منها إذا أتت بولد هل يكون رقيقا أم لا؟ وفي لزوم قيمة هذا الولد لسيدها وجهان، وهل يقدر في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم نكاح غرر؟ وكل هذا مما يجب أن يصان جانبه العليّ عنه، والإمساك في حقه إضرار إلى نكاح الأمة لأنه لو أعجبته أمة وجب على مالكها بذلها له هبة قياسا على ما ذكروه في الطعام. واللَّه اعلم.(13/130)
النوع الثالث: ما اختص به من المباحات والتخفيفات توسعة وتنبيها على [أنّ] ما اختص به صلّى اللَّه عليه وسلّم من الإباحة لا يلهيه عن طاعة اللَّه تعالى وهذا النوع قسمان أيضا: متعلق بغير النكاح ومتعلق به
واعلم أن معظم المباحات لم يفعلها مع إباحتها له، وليس المراد المباح هنا ما استوى طرفاه بل ما لم يحرج في فعله ولا في تركه فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم واصل، [وكان له] [ (1) ] الاستبداد بالخمس، قد يكون راجحا لفعل يصرفه في المصالح، وقد يكون راجح الترك لفقد هذا المعنى، ودخوله مكة بغير إحرام قد يترجح فعله، وقد يترجح تركه، وكذا الزيادة على الأربع لا يساوي فيه فإن أفعاله صلّى اللَّه عليه وسلّم وأقواله كلها راجحة مثاب عليها، حتى في أكله وشربه، لأن كل واحد من أمته يكون له أن يقصد وجه اللَّه- تعالى- بذلك، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم أولى بذلك.
القسم الأول: المباحات له صلّى اللَّه عليه وسلّم في غير النكاح
وفيه مسائل:
الأولى: الوصال في الصوم أبيح له صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال القضاعي: أبيح له دون غيره من الأنبياء، وقد اختلف في ذلك، فقيل: يكره فيما قاله الشافعيّ، وعند الجمهور أنه من المباحات، وأحاديث وصال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والنهي عنه لغيره ثابتة في الصحيحين،
من حديث أنس
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.(13/131)
ابن مالك [ (1) ] ، وفي البخاريّ من حديث أبي سعيد [ (2) ] ، وفي الصحيحين أيضا من حديث عبد اللَّه بن عمر [ (3) ] ، ومن حديث أبي هريرة [ (4) ] ، ومن حديث عائشة [ (5) ]
__________
[ (1) ]
أخرجه البخاريّ ومسلم والترمذي، ولفظه «عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: واصل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في آخر شهر رمضان، فواصل ناس «من المسلمين، فبلغه ذلك، فقال: لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي- أو قال:
لست مثلكم- إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» .
وفي رواية قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل؟ قال: لست كأحد منكم، إني أبيت أطعم وأسقى» . أخرجه البخاريّ ومسلم،
وأخرج الترمذيّ الرواية الثانية، وقال: إن ربي يطعمني ويسقيني.
والمتعمق في الأمر: المبالغ فيه المجاوز للحد. (جامع الأصول) : 6/ 380، ترك الوصال، حديث رقم (4563) .
[ (2) ]
أخرجه البخاريّ وأبو داود، ولفظه:» عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول اللَّه؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني» (جامع الأصول) : 6/ 382 حديث رقم (45566) .
[ (3) ]
أخرجه البخاريّ ومسلم ومالك وأبو داود: ولفظه: «عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى» وفي رواية: «لست مثلكم» .
وللبخاريّ أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واصل، فواصل الناس، فشق عليهم، فنهاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل؟ قال: لست كهيئتكم، إني أظل أطعم وأسقى، وأخرج الموطأ وأبو داود الرواية الأولى. (جامع الأصول) : 6/ 379، حديث رقم (4562) .
[ (4) ]
أخرجه البخاريّ ومسلم ومالك، ولفظه: «عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول اللَّه؟ قال: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما، ثم يوما، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا «أخرجه البخاريّ ومسلم.(13/132)
رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، ولأحمد [ (1) ] من وجهين صحيحين: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.
__________
[ () ] وللبخاريّ: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إياكم والوصال- مرتين- فقيل: إنك تواصل؟ قال:
إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من الأعمال ما تطيقون» . ولمسلم نحوه، ولم يقل:
«مرتين» وقال: «إنكم لستم في ذلك مثلي» . وله في أخرى مثله، وقال: «واكفلوا ما لكم به طاقة» . وأخرج الموطأ رواية البخاريّ إلى قوله: «ويسقيني» . والتنكيل، نكل به: إذا جعله عبرة لغيرة، وقيل: هو العقوبة. (جامع الأصول) : 6/ 381- 382، حديث رقم (4565) .
[ (5) ]
أخرجه البخاريّ ومسلم ولفظه: «عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قالت: نهاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني، إلا أن البخاريّ قال: «نهى» ولم يقل: «نهاهم» (جامع الأصول) : 6/ 381، حديث رقم (4564) .
[ (1) ]
(مسند أحمد) : 2/ 461، حديث رقم (7122) من مسند أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه: «قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إياكم والوصال، قالها ثلاث مرار، قالها ثلاث مرار، قالوا: فإنك تواصل يا رسول اللَّه، قال: إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون» .
وحديث رقم (7188) من مسند أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إياكم والوصال كذاك علمي، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
وحديث رقم (7495) من مسند أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه:
«نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إنكم لستم كهيئتي، إن اللَّه حبي يطعمني ويسقيني» وقال يزيد: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
وحديث رقم (7728) من مسند أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه:
«قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تواصلوا، قالوا: يا رسول اللَّه إنك تواصل؟ قال: إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، قال: فلم ينتهوا عن الوصال، فواصل بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومين أو ليلتين ثم رأوا الهلال، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل بهم» .(13/133)
حدثنا أمية به بتخصيصه بأنه ليس كهيئاتهم، إن اللَّه يطعمه ويسقيه، قال النووي [ (1) ] : قوله يطعمني ويسقيني: معناه يجعل اللَّه لي قوة الطاعم والشارب، وقيل هو على ظاهره أنه يطعم من طعام الجنة كرامة له، والأول أصح، لأنه لو أكل حفيفة لم يكن مواصلا،
وقد قال في رواية ابن عمر: إني في الظل
__________
[ () ] وحديث رقم (8053) من مسند أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه:
«إياكم والوصال، إياكم والوصال، قالوا: إنك تواصل يا رسول اللَّه، قال: إني لست في ذاكم مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فأكلفوا من العمل ما لكم به طاقة» .
وحديث رقم (10671) من مسند أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، فقالوا: إنك تواصل؟
قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقيني» .
وحديث رقم « (13666) من مسند أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى عن الوصال، قال: قيل له: إنك تواصل؟ قال: إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
وحديث رقم (13170) من مسند أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولفظه: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى عن الوصال، قال فقيل: إنك تواصل؟ قال: إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
وحديث رقم (25680) من حديث السيدة عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى عن الوصال، فقيل: يا رسول اللَّه فإنك تواصل؟ قال: إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
وأخرجه البيهقيّ في (السنن الكبرى) : 7/ 61- 62، كتاب النكاح، باب الوصال له مباح ليس لغيره، وقال: أخرجه البخاريّ ومسلم في الصحيحين من حديث مالك، وثبت معناه من حديث أبي هريرة، وأنس بن مالك، وعائشة بنت الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم جميعا-، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 220، شرح الحديث رقم (1103) من باب (11) النهي عن الوصال في الصوم.(13/134)
يطعمني ربي ويسقيني،
ولنفسه ظل لا يكون إلا في النهار، ولا يجوز الأكل الحقيقي في النهار بلا شك فثبت ما قلناه.
وأجيب بأنه لو أكل من طعام الجنة لم يفطر أو بأن طعام اللَّه- تعالى- لا يفطر بدليل القاضي وقد علل بقوله: إنما أطعمه اللَّه وسقاه وقيل: يعان على الصوم ويقوى عليه فكأنه أطعم أو يخلق له اللَّه من الشبع الّذي كالطاعم والشارب.
وقيل: كان الإطعام والإسقاء حقيقة في المنام وقال الإمام: الوصال قربة في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنما يثبت خصوصية الوصال للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قلنا بأنه حرام على الأمة. وقد نص الشافعيّ- رحمه اللَّه- على كراهيته، وفي ذلك وجهان، قيل: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه، أصحهما أنه كراهة تحريم في النهي عنه. قال جمهور العلماء: قاله النووي واستدل به على تحريم الوصال بما
خرّجه البخاريّ من حديث أبي حازم، عن يزيد بن الهاد، عن عبد اللَّه بن حباب، عن أبي سعيد الخدريّ أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا تواصلوا فأيكم إذا كان يواصل فليواصل حتى السحر. قالوا: فإنك تواصل يا رسول؟ اللَّه قال:
لست كهيئتكم إني أبيت مطعم يطعمني وساق يسقيني [ (1) ] .
والنهي يقتضي التحريم، وقال القاضي عياض: قيل: النهي عنه رحمه وتخفيف فمن قدر فلا حرج، وقد واصل جماعة من السلف لأيام، وأجازه ابن وهب وأحمد وإسحاق إلى السحر ثم حكى عن الأكثرين كراهته.
وقد كانت أخت أبي سعيد تواصل وهي صحابية، وكان عبد اللَّه بن الزبير يواصل سبعة أيام، فإذا كان الليلة السابعة دعي بإناء من سمن فشربه ثم يأتي بثريدة فيها عرقان ويؤتي الناس بالجنان فيقول: هذا من خالص مالي، وهذا من بيت مالكم، وكان ابن وضاح يواصل أربعة أيام.
وقال عطاء وأبيّ وغيرهم من أصحابنا: هو من الخصائص التي أبيحت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحرمت على الأمة واحتج لمن أباحه بقوله في بعض طرق مسلم: نهاهم عن الوصال- رحمه اللَّه-.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.(13/135)
وفي طرق بعضهم: لما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم زاد الهلال فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم. وفي بعضها لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم [ (1) ] .
ولو كان حراما ما فعله صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه، وقد اشتهر عن كثير من الصلحاء الوصال، فلعل وصالهم جاء من غير قصد إليه، بل اتفق ترك تناولهم المفطر بفعله عنهم، أو لاشتغاله بالاستغراق بالمعارف، ونحن نشاهد الترك عند اشتغال القلب بما يسرّ أو يحزن فكيف بذاك؟ وعلى هذا تكون الخصوصية له صلّى اللَّه عليه وسلّم على كل أمته لا على أحد من أفرادها.
الثانية: اصطفاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما يختاره من الغنيمة قبل قسمها من جارية أو غيرها بشيء ما اختاره من ذلك الصفيّ والجمع الصّفايا
خرّج أبو داود [ (2) ] من طريق سفيان بن مسروق [حدثنا محمود بن خالد السلمي، حدثنا عمر- يعني ابن عبد الواحد- عن سعيد- يعني ابن بشير، عن قتادة، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 221، كتاب الصيام، باب (11) النهي عن الوصال في الصوم، حديث رقم (1104) قال الإمام النووي: وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهي الملل من العبادة والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين: من إتمام الصلاة بخشوعها، وأذكارها، وآدابها، وملازمة الأذكار، وسائر الوظائف المشروعة في نهاره وليلة. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 3/ 397، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (21) ما جاء في سهم الصفتين حديث رقم (2993) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وهو حديث مرسل، وفيه سعيد بن بشير وهو ضعيف.(13/136)
شاء، فكانت صفية من ذلك السهم وكان إذا لم يغز [بنفسه] ضرب له بسهم ولم يخير.
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كانت صفية من الصّفي [ (1) ] .
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث وكيع، حدثنا قرة بن خالد، عن أبي العلام يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير قال: كنا جلوسا بهذا المربد بالبصرة فجاء أعرابي معه قطعة من أديم أو قطعة جراب فقال: هذا كتاب كتبه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذته فقرأته على القوم فإذا فيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، كتاب من محمد رسول اللَّه لبني زهير بن أقيش، إنكم إن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغنم الخمس، وسهم النبي والصفيّ فإنكم آمنون بأمان اللَّه وأمان الرسول، قال: قلنا للأعرابي: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال:
نعم يقول صوم شهر الصبر- يعني رمضان- وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن من حرّ الصدر، تم انصاع مدبرا، فقال: تروني أكذب على رسول اللَّه؟.
وخرّجه أبو محمد بن داود من حديث وكيع، عن قرة بن خالد بنحوه إلى قوله: وأمان رسول اللَّه، وبعد هذا قال: قلنا له: هل سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: شيئا؟ قال: سمعته يقول صوم شهر الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن في حرّ الصدر قال: قلت: إنك سمعت رسول اللَّه؟ قال: أتروني أكذب على رسول اللَّه؟ ثم أخذ العتاب وانصاع مدبرا.
وخرّجه أبو داود [ (2) ] من حديث مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا قرة قال:
سمعت يزيد بن عبد اللَّه [ (3) ] قال: كنا بالمربد [ (4) ] ، فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر، فقلنا: كأنك من أهل البادية، فقال: أجل، قلنا: ناولنا هذه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2994) ، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 3/ 400، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (21) ما جاء في سهم الصفيّ، حديث رقم (2999) .
[ (3) ] يزيد بن عبد اللَّه: هو ابن الشّخير.
[ (4) ] المربد: محلة بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها.(13/137)
القطعة الأديم التي في يدك، فناولناها [فقرأناها] [ (1) ] ، فإذا فيها: من محمد رسول اللَّه إلى بني زهير بن أقيش، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه، وأقم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصّفيّ فأنتم آمنون بأمان اللَّه ورسوله، فقلنا: من كتب لك هذا الكتاب؟ قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، خرّجه قاسم بن أصبغ من طريق مسلم بن إبراهيم، عن قرة إلى آخره نحوه [ (3) ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: سهم الصّفيّ مشهود في صحيح الآثار.
معروف عند أهل العلم، ولا يختلف أهل السير في أن صفيّ من الصّفا، وأجمع العلماء على أن سهم الصّفيّ ليس لأحد بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وخرّج البخاريّ ومسلم من طريق حماد بن يزيد، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، وقصة صفية. خرجها البخاريّ من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، قدمنا خيبر فلما فتحنا الحصن ذكر له جمال صفية، وقد قتل زوجها وكانت عروسا، فاصطفاها لنفسه [ (4) ] ، الحديث.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن أبي داود) ، وأقيش، بضم الهمزة وفتح القاف، ثم ياء مثناة ساكنة وآخره شين معجمة، هم حيّ من بني عكل.
[ (2) ] قال الخطابيّ: أما سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنه كان يسهم له كسهم رجل ممن شهد الوقعة، حضرها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو غاب عنها. وأما الصفيّ فهو ما يصطفيه من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس- عبد، أو جارية، أو فرس، أو سيف، أو غيرها- وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مخصوصا بذلك، مع الخمس الّذي كان له خاصة. (معالم السنن) .
[ (3) ] ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد اللَّه، وسمى الرجل النمر بن تولب الشاعر، صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويقال: إنه ما مدح أحدا، ولا هجا أحدا، وكان جوادا لا يكاد يمسك شيئا، وأدرك الإسلام وهو كبير، ويسمى الكيس لحسن شعره، ترجمته في (الشعر والشعراء) : 191- 192.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 608، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4211) .(13/138)
وله من حديث ثابت عن أنس كان في السبي صفية، فصارت إلى دحية، ثم صارت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
خرّج البخاريّ ومسلم من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس في قصة خيبر، فجمع السبي، فجاء دحية فقال: أعطنى جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية، فجاء رجل فقال: يا نبيّ اللَّه! أأعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، قال: أدعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها [النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] قال: خذ جارية من السبي غيرها، الحديث [ (2) ] .
وعن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أنه اشتراها من دحية بسبعة أرؤس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4200) ، (4201) ، قال الحافظ في (الفتح) : فلما قيل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، إنها بنت ملك من ملوكهم، ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 632، كتاب الصلاة، باب (12) ما يذكر في الفخذ، حديث رقم (371) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «خذ جارية من السبي غيرها
«ذكر الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في (الأم) عن (سير الواقدي) أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطاه أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان كنانة زوج صفية، فكأنه طيب خاطره لما استرجع منه صفية بأن أعطاه أخت زوجها، واسترجاع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صفية منه محمول على أنه إنما أذن له في أخذ جارية من حشو السبي لا في أخذ أفضلهن فجاز استرجاعها مننه لئلا يتميز بها على باقي الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه.
ووقع في رواية لمسلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس، وإطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، وليس في قوله: «سبعة أرؤس» ما ينافي قوله هنا: «خذ جارية» إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة (فتح الباري) .
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(13/139)
وذكر الرافعي أن ذا الفقار [ (1) ] كان من الصفيّ، واعترض عليه بأن غنائم بدر كانت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم كلها لأنها كانت قبل فرض الخمس، والكلام في الصفيّ بعد فرض الخمس وعلى هذا المعنى يحمل ما خرّجه الترمذيّ، وابن ماجة، والحاكم، عن ابن عباس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر.
وخرّجه الواقدي عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، وعن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس قال: تنفّل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سيفه ذا الفقار يومئذ، وكان لمنبه بن الحجاج، ومعناه أخذه لنفسه لم يعطيه أحدا.
تتمّة
قد عد الإمام أبو حامد الغزالي- رحمه اللَّه- إعطاءه [تميم] الداريّ بنت ميمونة فتجرى من الخصائص النبويّة، وجعل ذلك من الصفايا المختصة به صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلا يكون لأحد من الأئمة بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقطع أحدا من الرعية شيئا لم يدخل في ملك المسلمين.
وتردد القاضي أبو الحسن الماوردي في ما أخذ الإقطاع الّذي وقع لتميم الداريّ، وجوز أن تكون من الخصائص بعد أن حكى الخلاف، هل لغير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفعل ذلك؟ وسيرد كلامه في ذلك إن شاء- اللَّه تعالى-.
قال القاضي أبو بكر أبو محمد بن العربيّ المعافري الإشبيلي المالكي في شرح (الموطأ) لما تكلم على حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال في (صحيحه) : وإنما تركها من تركها لقولهم: إنها غير مسموعة، وهذا لا يمنع من الاحتجاج، وقد كان عند أولاد تميم الداريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قطعة أديم [ (2) ] : بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا
__________
[ (1) ] ذو الفقار: اسم سيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ]
وفد عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم الداريون مرتين، مرة قبل الهجرة، ومرة بعدها، وفي المرة الأولى سألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرضا فدعا بقطعة من أدم، وكتب كتابا نسخته:(13/140)
ما أنطى [ (1) ] محمد رسول اللَّه تميما الدارميّ قطعة قرية حبرون وبيت عينون بلد الخليل،
فبقي ذلك في يده ويد أهله إلى أن غلب الفرنجة على القدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، قال: ولقد اعترض بعض الولاة على تميم الداريّ أيام كان بالشام وأراد انتزاعها فحضر القاضي حامد الهرويّ الحنفي، فاحتج الدارميّ بالكتاب، فقال القاضي: هذا الكتاب ليس بلازم لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع تميما ما لم يملك، فاستدعى الوالي الفقهاء، وكانت الرواية التي رويت إلى الأرض كلها، وكان يقطع الجنة فيقول: قصر كذا لفلان، فوعده صدق، وعطاؤه حق، قال:
فحضره القاضي والوالي، وأبقي الدارميين على ما في أيديهم.
__________
[ () ] بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول اللَّه للداريين. إذ أعطاه اللَّه الأرض وهب لهم بيت عينون، وحبرون، والمرطوم، وبيت إبراهيم ومن فهيم إلى الأبد، شهد عباس بن عبد المطلب، وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنة وكتب. فلما هاجر صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة قدموا عليه وسألوه أن يجدد لهم الكتاب فكتب ما نسخته:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لتميم بن أوس الداريّ: أنّ له قرية حبرون، وبين عينون، قريتهما كلهما، وسهلهما، وجبلهما، وماءهما، وحرثهما، وأنباطهما، وبقرهما، ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيهما أحد، ولا يلجها عليهم أحد بظلم، فمن ظلم وأخذ منهم شيئا فإن عليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين. وكتب عليّ. (مجموعة الوثائق السياسة) : 531، وثيقة رقم (43) الإقطاع للداريين وهم من لخم، ووثيقة رقم (44) تجديد الكتاب السابق.
ثم رواية أخرى عن النص السابق، وثيقة (45) : بسم اللَّه الرحمن الرحيم.
هذا ما أنطى محمد رسول اللَّه لتميم الداريّ وإخوته وحبرون، ومرطوم، وبيت إبراهيم وما فيهن، نطية بت بذمتهم، ونفّذت وسلّمت ذلك لهم ولأعقابهم. فمن آذاهم آذاه اللَّه، ومن أذاهم لعنه اللَّه. شهد عتيق بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكتب عليّ بن أبي طالب وشهد.
[ (1) ] في بعض الروايات: «أنطى» ، «أعطى» وما أثبتناه من (الأصل) .(13/141)
وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربيّ- رحمه اللَّه- هذه القصة في كتاب سماه (قانون التأويل) [ (1) ] وهو كان جمعة من قوام يد الشيخ أبي حامد محمد بن محمد الغزالي- رحمه اللَّه- ونصه ما قوله أدام اللَّه علوه:
فما أقطع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تميم الداريّ من الشام قبل أن يملكه أهل الإسلام ما وجه صحته مع أنه جرى قبل الملك، ولم يتصل به القدر، ولم يجر تحديد محل الإقطاع، هل يجوز لإمام أن ينزع ذلك من يد تميم؟ ومتى يحصل الملك للمقطع؟ فأجاب على ذلك بأن الإقطاع صحيح لتميم ومنتقل إلى أعقابه وقت حصول الملك عند تسليم الإمام المستولى على تلك الأرض له ذلك، ووجه صحته أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مختصا بالصفايا من المغنم حتى كان يختار من المغنم ما يريد، ويدفع ملك المسلمين عنه بعد استيلائهم عليه، فلذلك كان له أن يستثنى تبعة من ذيلة الكفر عن ملك المسلمين ويعينها لبعض المسلمين فتصير ملكا له، ويكون سبب الملك تسليم الإمام وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويستثنى من التخصيصات، وليس ذلك لغيره من الأئمة، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مطلعا بالوحي على من سيملك في المستقبل، وعلى وجه المصلحة في التخصيص والاستثناء وغير ذلك ولا يطلع غيره عليه.
وأما قول من قال لا يصح إقطاعه لأنه قبل الملك، فهو كفر محض، لأنه يقال له: هل حل لرسول اللَّه ما فعل أو كان ظالما بتصرفه ذلك؟ فإن جعله ظالما كفر، وإن قال بل حل له ذلك، قيل له: أتعلم أن ذلك يحصل أو لا فإن جهله كفر، وإن قال: إنه علم، لكن علم أنه لا يحصل، قيل له: فلا يبقى إلا أنه قد قدم عليه مع علمه مبطلاته [ (2) ] .
هذا كلام الشيخ أبي حامد الغزالي، كما ترى أن عطاء ذلك لتميم الداريّ منن الخصائص النبويّة وجعله من الصفايا المختصة به صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا يكون لأحد من
__________
[ (1) ] (قانون التأويل) ، للقاضي أبي بكر محمد بن عبد اللَّه الإشبيليّ المالكي، المعروف بابن العربيّ، الحافظ، المتوفى سنة (546 هـ-) ، ذكر حاجي خليفة في (كشف الظنون) : 2/ 281
[ (2) ] بعد هذه العبارة طمس في (الأصل) لم أجد له توجيها بقدر سطرين ونصف.(13/142)
الأئمة بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقطع أحدا من الرعية [شيئا] لم يملكه المسلمون واختلف كلام القاضي أبي الحسن على الماورديّ، فجزم في (الأحكام السلطانية) بجواز ذلك عموما.
وقال في كتاب (الحاوي) : وأما الإقطاع فإنه لا يصح إلا في ما لم يستقر عليه ملك، وعلى هذا كانت قطائع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر قال: فعلى هذا كانت قطائع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا ما كان من شأن تميم الداريّ، وأبى ثعلبة، فذكرها احتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك إقطاع تقليد لا إقطاع تمليك، ويجوز أن يكونا مخصوصين بتصديق إخبار وتحقيق إعجاز، وأما الأئمة بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن أبا بكر، وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- لم يقطعا الأموات لم يجز عليه ملك واصطفى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من أرض سواد أموال كسرى لأهل بيته، وما وهب عنه أربابه أو تملكوا، وكان مبلغ ذلك تسعة آلاف ألف، وكان ينفقها في مصالح المسلمين، ولم يقطع شيئا منها، ثم إن عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أقطعها لأنه رأى إقطاعها أوفر لعلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه حق ألف، فكان ذلك منه إقطاع إجارة، قال بذلك الماورديّ، هذا، وقال في قوله: إقطاع إجارة إلى أمرائهم أن يؤجروها بأجرة معلومة ينتفعوا بها مع بقاء الرقبة. انتهى. وقد جمع الفقهاء الخصائص، ولم يعدوا منها ما ذكره الغزاليّ.(13/143)
الثالثة: كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم الاستبداد بخمس خمس الفيء والغنيمة وبأربعة أخماس الفيء فينفرد صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك
قال ابن سيده: والغنم والغنيمة والمغنم، الفيء، وغنم الشيء غنما، فاز به وتغنمه واغتنمه، وانتهز غنمه واغتنمه الشيء جعله له غنيمة [ (1) ] ، قال:
والفيء الغنيمة، وقد فيئت فيئا واستفأت.
وكانت الغنيمة لغة: ما يناله الرجل والجماعة بسعي، غير أنهم جعلوا على أن المراد بقوله- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فإنما هو مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، وهذا التخصيص لا تقتضيه اللغة [ (2) ] ، لكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع، وسمى الشرع ما يصل من أموال الكفار باسمين: هما الغنيمة، والفيء ما ناله المسلمون من عدوهم بسعي كما تجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفيا، وكل مال دخل على المسلمين من غير حرب، ولا إيجاف، فخراج الأرضين وجزية الجماجم، وخمس الغنيمة، ونحو ذلك مما يؤخذ من المشركين عفوا يسمى فيئا.
__________
[ (1) ] (لسان العرب) : 12/ 445- 446.
[ (2) ] قال الأزهري: الغنيمة ما أوجف عليه المسلمون بخيلهم وركابهم من أموال المشركين، ويجب الخمس لمن قسمه اللَّه له، ويقسم أربعة أخماسها بين الموجفين: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد. وأما الفيء فهو ما أفاء اللَّه من أموال المشركين على المسلمين بلا حرب ولا إيجاف عليه، مثل جزية الرءوس وما صولحوا عليه فيجب فيه الخمس أيضا لمن قسمه اللَّه، والباقي بصرف فيما يسدّ الثغور من خيل، وسلاح وعده، وفي أرزاق أهل الفيء، وأرزاق القضاة، ومن غيرهم، ومن يجري مجراهم.
وقد تكرر في الحديث ذكر الغنيمة، والمغنم، والغنائم، وهو ما أصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون الخيل والركاب. (لسان العرب) : 12/ 446.(13/144)
وقال عطاء بن السائب: الغنيمة ما ظهر عليها من أموال المشركين والفيء ما ظهر عليه من الأرضين، والأصل في الغنيمة قول اللَّه- تعالى-:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ (1) ] والأصل في الفيء قوله- تعالى-:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ (2) ] وقد كانت الغنيمة محرمة على الأنبياء وأحلها اللَّه- تعالى- لرسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعلها اللَّه- تعالى- ملكا له صلّى اللَّه عليه وسلّم خالصا دون غيره لقوله- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ (3) ] والأنفال هي الغنائم، والنفل هو الزيادة من الخير، فسميت الغنائم أنفالا لأنها زيادة، ثم نسخ اللَّه- تعالى- هذه الآية بقوله- تعالى-:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [ (4) ] الآية. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأجمع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [ (5) ] وإن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وعن قوله- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [ (6) ] نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر، انتهى.
فلما أضاف- تعالى- مال الغنيمة إلى الغانمين، ثم استثنى منه خمسه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومن سمى معه من أهل الخمس بقوله- تعالى-: لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ دل على أن الباقي من بعد أخماسه ملك الغانمين، فصار مال الغانمين مقسوما على خمسة وعشرين سهما منها لأهل الخمس، وهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذي القربى،
__________
[ (1) ] الأنفال: 41.
[ (2) ] الحشر: 7.
[ (3) ] الأنفال: 1.
[ (4) ] الأنفال: 41.
[ (5) ] الأنفال: 1.
[ (6) ] الأنفال: 1.(13/145)
واليتامى، والمساكين وابن السبيل، وفيه خلاف ذكر في موضعه، وصار أربعة أخماس، وهو عشرون سهما تقسم بين الغانمين لا يشاركهم فيها غيرها.
وأما مال الفيء وهي الأموال الواصلة من المشركين بغير قتال ولا إيجاف بخيل ولا ركاب
كالذي أجلى عنه المشركون خوفا ورغبا، والأموال التي يضحون بها عن أنفسهم، ودمائهم وأموالهم، المأخوذ من عشور أموالهم إذا دخلوا تجارا، والجزية التي تقربهم بها إلى دارنا، ومال الخراج المقربون على أراضيهم، والأرضين المأخوذة عفوا منهم، ومال من مات في دارنا ولا وارث له منهم، كل ذلك فيء لأنه واصل بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، هذا هو المنصوص من مذهب الشافعيّ في الجديد.
وقوله في القديم: أن الفيء من جميع ذلك ما انجلى عنه المشركون خوفا ورعبا، وما سواه من الجزية، والخراج، وعشور التجارة، ومال من مات ولا وارث له، ليس بفيء ولا يخمس والأول أصح، وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدر الإسلام يملك جميع الفيء كما ملك جميع الغنيمة، لذلك ملك أموال بني النضير، فكانت مما أفاء اللَّه- تعالى- لم يشاركه فيها أحد، وصارت من صدقاته التي تصدق بها إلى أن أنزل اللَّه- تعالى- في الفيء قوله- تعالى-:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فاختلف الناس حينئذ فيما استقر حكم الفيء عليه على ثلاثة مذاهب:
أحدها: إن مال الفيء مصروف في وجوه المصالح لا يخمس، وهو قول أبي حنيفة.
الثاني: إن مال الفيء مقسوم على خمسة أسهم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منها سهم كأحد أهل الخمس وهو قول مالك.
الثالث: أن خمسه مقسوم على خمسة، منها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سهم، وأربعة أخماس الفيء له أيضا خاصة، فيكون جميع مال الفيء مقسوما على(13/146)
خمسة وعشرين سهما منها واحد وعشرين سهما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأربعة أسهم هي لأربعة أصناف هم ذوو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وهذا هو مذهب الشافعيّ، ولكل على قوله دليل إذا تكرر ما وصفنا، فالذي ملك اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم مال الغنيمة، ومال الفيء، خمس الخمس من الفيء والغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، ذلك سوى الصفيء من الغنيمة، فصار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مالكا لأربعة أموال: مالين من الغنيمة هما خمس الخمس، والصفيّ، ومالين من الفيء هما خمس الخمس، وأربعة أخماسه، واستدل أصحابنا على ذلك بقوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فأضاف اللَّه- تعالى- الفيء إلى رسوله، كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم من استثناه في سهم الغانمين، فوجب أن يكون إطلاق ما جعل لهم من الفيء محمول على المقدار المحصول من الغنيمة، ويكون الخمس، ويكون الباقي بعده لمن أضاف المال إليه وهو الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كما كان الباقي من الغنيمة لما أضافها إليه وهم الغانمون.
وقال الشافعيّ: سمعت ابن عيينة يحدث عن الزهريّ أنه سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر بن الخطاب، والعباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- يختصمان إليه في أموال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر: كانت أموال بنى النضير مما أفاء اللَّه على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل، ولا ركاب، فكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دون المسلمين، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينفق منها على أهله نفقة سنة، فما فضل منها جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل اللَّه، ثم توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوليها أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بمثل ما وليها به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم وليها عمر بمثل ما ولى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ثم سألها في أن أوليكما هذا على أن تعملانها بمثل ما وليهما به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم وليها أبو بكر، ثم وليتها، ثم حينما تختصمان تريدان أن أدفع إلى كل واحد منكما نصفا، أتريدان منى قضاء غير ما قضيت بينكما أولا(13/147)
والّذي بإذنه تقوم السموات والأرض لا أقضي بينكما قضاء غير هذا، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ أكفيكماها.
وهذا الحديث خرّجه البخاريّ [ (1) ] ، ومسلم [ (2) ] من حديث جويرية، عن معمر، عن الزهريّ، وعن عقيل، عن ابن شهاب، وعن شعيب عن الزهريّ.
وخرّجه مسلم [ (3) ] وأبو داود [ (4) ] ، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهريّ. وخرّجه أبو داود [ (5) ] عن أسامة بن زيد، عن الزهريّ، عن مالك بن أوس، وفي بعضها طول، وفي بعضها اختصار.
ووجه الدلالة أن هذا الخبر اقتضى ظاهره الفيء جميعه ملك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، واقتضى ظاهر الآية أن الفيء كله يقسم على خمسة، فوجب الجمع بينهما على وجه لا تنافي فيه ليستويا جميعا، وهو أن يكون معنى الخبر أن أربعة
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 242- 243، كتاب فرض الخمس، باب (1) حديث رقم (3094) مطولا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 315- 319، كتاب الجهاد والسير، حديث رقم (49) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (1757) .
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 3/ 371- 372، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (19) في صفايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأموال، حديث رقم (2965) .
وأخرجه الترمذيّ في الجهاد، في باب الفيء، حديث رقم (1719) ، وأخرجه النسائي في كتاب قسم الفيء، حديث رقم (4145) .
[ (5) ]
(المرجع السابق) : حديث رقم (2967) ، وفيه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن مسك بشيء من هذا الفيء فإن له به علينا ست فرائض من أول شيء يفيئه اللَّه علينا «ثم دنا- يعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- من بعير- فأخذ وبرة من سنامه، ثم قال: «يا أيها الناس، إنه ليس لي من هذا الفيء شيء، ولا هذا» ورفع إصبعيه «إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط» ، فقام رجل في يده كبة من شعر، فقال: أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك» .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 282- 283، حديث رقم (6690) من مسند عبد اللَّه بن عمرو- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.(13/148)
أخماس الفيء خالص لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومعنى الآية أن خمسه مقسوم على خمسة. واللَّه أعلم.
وخرّج أبو داود [ (1) ] والحاكم [ (2) ] من حديث عمرو بن عبسة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم.
قال الحاكم: وهو على شرط البخاريّ، ولنا وجه يشير إليه كلام الفورانى أن الخمس من الخمس يصرف بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خليفة الزمان [ (3) ] .
قال الإمام: ولم يصح عندي نسبته إلى أحد من الأصحاب، وعلى هذا الوجه إن صح لا تبقى خصوصية [ (4) ] .
قال مؤلفه: نقل ابن عبد البر أن مذهب أبي بكر، وعمر، في سهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفيما كان له خاصة من صفاياه، وما لم يوجف عليه بخيل، ولا ركاب، كأموال بني النضير، وفدك، وخيبر، أن ذلك في سبيل اللَّه على حسب ما كان سبيله في حياته، كان ينفق منه على عياله، وعامله سنة، ثم يجعل باقيه عدة في سبيل اللَّه، وأن هذا مذهب جمهور أهل الحديث والرأى، ومذهب عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن ذلك لقيامهم بأمر المسلمين يصرفه فيما وليّ من مصالح المسلمين، ولذلك أقطعه مروان، وهو قول قتادة، والحسن.
__________
[ (1) ] راجع التعليقات السابقة.
[ (2) ]
(المستدرك) : 3/ 714، كتاب معرفة الصحابة، ذكر عمرو بن عبسة السلمي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (6583) ، ولفظه: صلى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير فقال: «إنه لا يحل لي من هذا المغنم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» . وقد حذفه الحافظ الذهبيّ من (التلخيص) .
[ (3) ] قال الحنفية: سقط سهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بموته، لأنه كان يأخذه بوصف الرسالة لا يوصف الإمامة، وهذا مخالف لجمهور الأئمة (الفقه الإسلامي وأدلته) : 6/ 461، الفصل الثالث، حكم الأنفال والغنائم.
[ (4) ] راجع التعليق السابق.(13/149)
الرابعة: دخوله صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة بلا إحرام
نقله صاحب (التلخيص) وغيره: أنه كان مباحا له صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي جوازه لغيره من غير غدر خلاف، ودليل ذلك ما خرّجه مسلم من حديث ابن الزبير، عن جابر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، وفي رواية دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء.
وذكر ابن عبد البر في (الكفاية) : أنه من دخل مكة مقاتلا لباغ أو قاطع طريق أو خائفا من ظالم يلزمه الإحرام.
واستدل بدخوله صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، لو كان محرما لم يلبسه، وقد كان خائفا من غدر الكفار، وعدم قبولهم الصلح الواقع بينه وبين أبي سفيان، وقد علمت ما في هذا الاستدلال؟ فإن دخوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بغير إحرام خاص به، وقوله: «لو كان محرما لم يلبسه، وقد كان خائفا من غدرهم» كلام غير مستقيم لأن المحرم الخائف يباح له اللبس قطعا، وكيف يقال: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يومئذ خائفا من غدر قريش؟ واللَّه- تعالى- قد وعده بأن يعصمه منهم، ومن غيرهم بقوله- تعالى-: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، ويترك الخوض عند ذلك فيما بينه.(13/150)
الخامسة: أبيحت له مكة يوما واحدا
ودخلها كما تقدم بغير إحرام، وقتل من أهلها يومئذ نحو عشرين، منهم:
ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة [ (1) ] ، وقال القضاعي: إنه خصّ به سائر الأنبياء.
وخرّج البخاريّ ومسلم من حديث جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا، وقال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللَّه، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة. الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(السنن الكبرى للبيهقيّ) : 7/ 59- 60، كتاب النكاح، باب دخول الحرم بغير إحرام والقتل فيه، من حديث ابن شهاب عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل عام الفتح، وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: يا رسول اللَّه! ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقتلوه. رواه مسلم في الصحيح عن يحيى، وأخرجه البخاريّ من أوجه عن مالك.
[ (2) ]
(جامع الأصول) : 9/ 288- 290، النوع الثالث: في مكة وحرمها، حديث رقم (6900) ، وتمامه: «.. لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباس: يا رسول اللَّه! إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إلا الإذخر» أخرجه البخاريّ في الحج، باب لا ينفر صيد الحرم، وباب فضل الحرم، وفي الجنائز، باب الحشيش في القبر، وفي البيوع، باب ما قيل في الصواغ، وفي المغازي، باب مقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة زمن الفتح.
وأخرجه مسلم في الحج، باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، والنسائي في الحج، باب حرمة مكة، وباب تحريم القتال فيها، وباب النهي أن ينفر صيد الحرم، وأخرجه أيضا أبو داود في المناسك، باب تحريم حرم مكة، حديث رقم (2018) ، وإسناده صحيح.(13/151)
وللبخاريّ من حديث خالد عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن اللَّه حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار، والحديث له طرف آخر [ (1) ] ، وهذا صريح في اختصاصه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك دون من قبله من الأنبياء عليهم السلام.
السادسة: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يورث وأن ما تركه صدقة
وبه قطع أبو العباس الروياني، وقال الرافعي في (الشرح الصغير) :
أنه المشهور، وعلى هذا هل يكون وقفا على ورثته؟ فيه وجهان: حكاهما الروياني في أيضا، فإن جعلناه وفقا، فهل هو الواقف؟ فيه وجهان
لقوله عليه السلام: ما تركنا صدقة.
وأصحهما عند الإمام أنه باق على ملكه، ينفق منه على أهله كما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم ينفقه في حياته، ووجه الإمام بأن الأنبياء- عليهم السلام- أحياء، قال: وكذلك كان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ينفق منه على أهله، وخدمه، ويصرفه فيما كان يصرفه في حياته.
قال النووي في (الروضة) [ (2) ] : وهذا ضعيف، والصواب الجزم بأنه زال ملكه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه، وأن ما تركه فهو صدقه على المسلمين لا يختص به الورثة، وكيف يصح غير [ما ذكرته مع
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة] [ (3) ]
فإنه نص على زوال الملك. ثم إن الرافعي ذكر في قسم الفيء والقسمة، أن خمس الفيء كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم ينفق منه على نفسه، وأهله، وفي مصالحه، ولم يكن يملكه، ولا ينقل منه إلى غيره أبدا، وهذا حكم منه بأن جهة الإنفاق غير مملوكة، خلاف ما ذكر هنا، ومن الغريب ما ذكره صاحب
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 351، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (روضة الطالبين) ، وفي (الأصل) : «غير ذلك مع الحديث الصحيح» .(13/152)
(البيان) في آخر (إحياء الموات) عن الشيخ أبي حامد أن بعضهم قال: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان يملك شيئا ولا يأتي منه الملك، وإنما أبيح له ما يأكله، وما يحتاج إليه، وغلطه أبو حامد لقوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الآية، وقد أعتق صلّى اللَّه عليه وسلّم صفيه، واستولد مارية، وقد عد الغزالي- رحمه اللَّه- هذه الخصلة من هذا الضرب.
قال الرافعي: كان المعنى فيه إن جعلها صدقة تورث زيادة القربة، ورفع الدرجات، وعدها الأكثرون من المكرمات، وعلى هذا يجوز له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتصدق بجميع ماله بعد موته بخلاف أمته، وهذا ليس خاصا به صلّى اللَّه عليه وسلّم بل الأنبياء- عليهم السلام- لا تورث، لكنه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمتاز به من بين أمته، ولما ذكر القضاعيّ ما اختص به- عليه السلام- من بين الأنبياء. قال: ومنها أن ماله كان بعد موته قائما على نفقته وملكه، فجعل الخصوصية، من هذه الحيثية.
واعلم أن ما ملكه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حياته كأموال بني النضير، والنصف من فدك، والثلث من وادي القرى، وثلاثة حصون من خيبر، [وأطم] الكتيبة، و [حصن] الوطيح، و [حصن] السّلالم فإنّها بعد وفاته كلها صدقة تصدق بها في حياته لا تورث عنه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] خرّج البيهقيّ في (السنن الكبرى) : 7/ 64- 65، كتاب النكاح، باب كان ماله صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد موته قائما على نفقته وملكه، من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة- زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أنها- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أخبرته أن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، أرسلت إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- تسأله ميراثها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مما أفاء اللَّه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر،
قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا نورث، ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني واللَّه لا أغير شيئا من صدقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ... وذكر الحديث. رواه البخاري في الصحيح عن ابن بكير، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن الليث.(13/153)
وأما سهمه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خمس الخمس من الفيء والغنيمة
فإنه مصروف بعده في المصالح، من الكراع، والسلاح، وأرزاق المقاتلة، والقضاة، والأئمة، وعمارة المساجد، وقناطر السابلة.
وأما سهمه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أربعة أخماس الفيء [ (1) ]
__________
[ () ] وعن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة. رواه مسلم في الصحيح عن ابن أبي عمر، وأخرجه البخاريّ من حديث مالك عن أبي الزناد. وما بين الحاصرتين في هذه الفقرة زيادة لبيان أسماء الأماكن من (مغازي الواقدي) .
[ (1) ] خرّج البيهقيّ في (السنن الكبرى) : 7/ 58- 59، من حديث سفيان عن عمرو بن دينار، عن الزهريّ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إليّ عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فدعاني فدخلت عليه وهو على رمال فقال: يا ملك، إنه قد نزل علينا دواف من قومك، فخذ هذا المال فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين! ول ذلك غيري، فقال: خذها عنك أيها الرجل، فجلست، فجاء يرفا، فقال: هل لك في عبد الرحمن، وطلحة، والزبير، وسعد؟
قال: قل لهم: فليدخلوا، فدخلوا، فقال: هل لك في عليّ وعباس؟ قال: قل لهما: فليدخلا، فدخلوا، وكل واحد منهما يكلم صاحبه، فلما جلسوا قالوا: يا أمير المؤمنين، أقضي بينهما وأرحهما، قال: أنشدكما اللَّه الّذي بإذنه تقوم السموات والأرض، هل علمتما
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إنا لا نورث، ما تركناه صدقة،
يعني فقالا: نعم، ثم قال ذلك للآخرين، فقال القوم: نعم، قال: وقال إن أموال بني النضير كاتب مما أفاء اللَّه على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل اللَّه، ثم هي للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة. وأخرجاه من حديث سفيان مختصرا. كتاب النكاح من (السنن الكبرى) : 7/ 58- 59، باب ما أبيح له صلّى اللَّه عليه وسلّم من أربعة أخماس الفيء وخمس خمس الفيء والغنيمة.(13/154)
ففي تصرفه قولان:
أحدهما: في المقاتلة، فعلى هذا يصرف جميعه فيهم خاصة.
ثانيهما: أنه يصرف جميعه في المصالح كلها.
وأما الصفيّ فقد سقط حكمه فلا يستحقه أحد بعده صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقد خرّج البخاري ومسلم وأبو داود من حديث مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: إن أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يسألنه ميراثهن من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقالت عائشة لهن: أليس قد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا نورث ما تركنا صدقة؟ [ (1) ] .
__________
[ () ] ومن حديث صفوان بن عيسى، عن أسامة بن زيد عن الزهريّ، عن مالك بن أوس، قال: كان فيما احتج به عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: كانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير، فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لابن السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، جزأين بين المسلمين، وجزءا لنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المسلمين.
قال الشيخ- رحمه اللَّه-: وأما الخمس فالآية ناطقة به مع ما روينا في كتاب قسم الفيء، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (المرجع السابق) .
[ (1) ] أخرجه البخاريّ في الفرائض، باب
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا نورث ما تركناه صدقة،
وفي الجهاد، باب المجن ومن يتترس بترس صاحبه وفرض الخمس، وفي المغازي باب حديث بني النضير، ومخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم في دية الرجلين، وفي تفسير سورة الحشر، باب قوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وفي النفقات، باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وفي الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبدع.(13/155)
__________
[ () ] ومسلم في الجهاد، باب حكم الفيء، حديث رقم (1757) ، والترمذيّ في السير، باب ما جاء في تركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (1610) ، وأبو داود، حديث رقم (2963) وإسناده صحيح، و (2964) وإسناده صحيح، و (2965) وإسناده صحيح، وفي الخراج والإمارة، باب في صفايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأموال، والنسائي: 7/ 136- 137 في قسم الفيء، وإسناده صحيح.
قال القاضي عياض: وقد تأول قوم طلب فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- ميراثها من أبيها على أنها تأولت الحديث- إن كان بلغها- قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا نورث» على الأموال التي لها بال، فهي التي لا تورث.. لا ما يتركوه من طعام، وأناث، وسلاح. وهذا التأويل خلاف ما ذهب إليه أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، وسائر الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم أجمعين-.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي»
فليس معناه: إرثهن منه، بل لكونهن محبوسات عن الأزواج لسببه، أو لعظم حقهن في بيت المال لفظلهن، وقدم هجرتهن، وكونهن أمهات المؤمنين. وكذلك اختصصن بمساكنهن لم يرثها ورثتهن.
قال القاضي: وفي ترك فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- منازعة أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بعد احتجاجه عليها بالحديث: التسليم للإجماع على القضية، وأنها لما بلغها الحديث، وبين لها التأويل، تركت رأيها، ثم لم يكن منها ولا من أحد من ذريتها بعد ذلك طلب الميراث. ثم لما ولى عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- الخلافة لم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فدل على أن طلب عليّ والعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- إنما كان طلب تولى القيام بها بأنفسهما، وقسمتها بينهما كما سبق.
قال: وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، فمعناه: انقباضتها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الّذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته.
قال العلماء: وفي هذا الحديث: أنه ينبغي أن يولي أمر كل قبيلة سيدهم، ويفوض إليه مصلحتهم، لأنه أعرف بهم وأرفق بحالهم، وأبعد من أن يأنفوا من الانقياد له. ولهذا قال اللَّه- سبحانه وتعالى-: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النساء: 35] .(13/156)
ولأبي داود من حديث أسامة بن زيد عن ابن شهاب بإسناده نحوه قالت: قلت ألا تتقين اللَّه؟ ألم تسمعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا نورث ما تركنا فهو صدقة؟ وإنما هو المال لآل محمد، لنا بينهم ولضيفهم، فإذا مت فإلى من يلي الأمر من بعدي. ذكره في كتاب الفيء [ (1) ] .
وخرّج البخاريّ ومسلم من طريق معمر عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة والعباس آتيا أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يلتمسان ميراثهما عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر،
فقال أبو بكر: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال.
قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- واللَّه لا أدع أمرا رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصنعة فيه إلا صنعته، قال: فهجرته فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فلم تكلمه حتى ماتت [ (2) ] .
اللفظ للبخاريّ، خرّجه في الفرائض، وخرجه في المغازي في حديث بني النضير من طريق معمر بهذا الإسناد بمعناه وقال في آخره: إنما يأكل آل محمد في هذا المال واللَّه لقرابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحب إليّ أن أصل من قرابتي.
وخرّجه من حديث عقيل وصالح بن كيسان ومعمر بأطول من هذا وأشبع، وهي كلها مما اتفق عليه. ولهما أيضا
من حديث ابن المبارك عن يونس، عن الزهري، عن الذهبيّ، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا نورث ما تركنا صدقة.
__________
[ () ] وفيه جواز نداء الرجل باسمه من غير كنية، وفيه جواز احتجاب المتولي في وقت الحاجة لطعامه أو وضوئه، ونحو ذلك، وفيه قبول خبر الواحد، وفيه استشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين العدول لتقوى حجته في إقامة الحق، وقمع الخصم. واللَّه- تعالى- أعلم.
(جامع الأصول) : 2/ 702- 703، هامش، 9/ 636- 640، الأحاديث.
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.(13/157)
ومن حديث سفيان الثوري، عن أبي الزياد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مثله سواء.
ومن حديث حماد بن سلمة [ (1) ] ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلي أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي قالت: فما لي لإرث أبي؟ فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا نورث،
ولكني أعول من كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوله، وأنفق على من كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينفق عليه. قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة، حديث حسن غريب من هذا الوجه، إنما أسنده حماد بن سلمة وعبد الوهاب بن عطاء بن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وسألت محمدا عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدا رواه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، إلا حماد بن سلمة،
قال أبو عيسى: وروى عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحو حديث حماد بن سلمة فذكره، ولفظه: أن فاطمة جاءت أبا بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- تسأل ميراثها من رسول اللَّه فقالا: سمعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
إني لا أورث، قالت: واللَّه لا أكلمكما أبدا فماتت ولم تكلمهما.
قال علي بن عيسى: معنى لا أكلمكما: يعني في هذا الميراث أنتما صادقان.
قال مؤلفه: تأويل عليّ بن عيسى بن يزيد البغدادي هذا غير موافق عليه، فقد روي الليث، عن عقيل، عن أبي شهاب، عن عروة، عن عائشة
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذيّ في السير، باب ما جاء في تركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1608) وهو حديث حسن، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، إنما أسنده حماد بن سلمة وعبد الوهاب بن عطاء بن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي بكر الصديق، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال الترمذيّ: وفي الباب عن عمر وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم-. (جامع الأصول) : 9/ 639 الحديث رقم (7439) .(13/158)
طلبت فاطمة ميراثها في أبيها من أبي بكر، وفي الحديث: فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت. اتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث وهذه اللفظة فيه.
وروى إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب هذا الحديث بهذا الإسناد وفيه: فغضبت فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، واتفقا أيضا على هذا الحديث وانفرد البخاريّ بهذا اللفظ دون مسلم.
وخرّج البخاريّ [ (1) ] في فرض الخمس والوصايا في الفرائض. وخرج مسلم [ (2) ] في الجهاد وأبو داود في كتاب الفيء من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا تقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة، فقال أبو داود: ومؤنة عاملي يعني اكرة الأرض.
وخرّجه مسلم أيضا من حديث سفيان عن أبي الزناد بهذا الإسناد نحوه [ (3) ] ،
وخرّج أبو عمر يوسف بن عبد البر حديث لا نورث من طرق عديدة، ثم قال:
فإن قال قائل لو سلمت فاطمة وعلي والعباس ذلك لقول أبي بكر ما أتى على والعباس في ذلك عمر بن الخطاب في خلافته يسألانه ذلك، وقد علمت أنهما أتيا عمر يسألانه ذلك وذلك معلوم.
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 9/ 636، ميراث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما خلّفه، حديث رقم (7437) ثم قال في هامشه: رواه البخاريّ في الفرائض، باب
قول النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا نورث ما تركنا صدقة،
وفي الوصايا، باب نفقة القيم للوقف، وفي الجهاد، باب نفقة نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد وفاته.
وأخرجه مسلم في الجهاد، باب
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا نورث ما تركناه صدقة،
حديث رقم (1760) ، (1761) ، والموطأ: 2/ 993، في الكلام باب ما جاء في تركة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو داود في الخراج والإمارة، باب صفايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2974) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(13/159)
قيل له: أما تشاجر علي والعباس وإقبالهما إلى عمر فمشهود، ولكنهما لم يسألا ذلك ميراثا، إنما سألا ذلك عن عمد ليكون بأيديهما منه ما كان بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه أيام حياته، ليعملا في ذلك بالذي كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعمل به في حياته، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأخذ منه قوت عامه ثم يجعل ما فضل في الكراع، والسلاح، عدة في سبيل اللَّه، وكذلك صنع أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأراد عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ذلك لأنه موضع يسوغ فيه الاختلاف، وأما الميراث والتمليك فلا يقوله أحد إلا الروافض، وأما علماء الإسلام فعلى قولين:
أحدهما: وهو الأكثر، وعليه الجمهور، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يورث وما ترك صدقة.
والآخر: أن بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يورث، لأنه خصه اللَّه- عز وجل- بأن جعل ما له صدقه زيادة في فضله.
كما خصه في النكاح بأشياء حرمها عليه أباحها لغيره، وأشياء أباحها له حرمها على غيره، وهذا القول قاله بعض أهل البصرة، منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول. وأما الروافض فليس قولهم مما يشتغل به، ولا يحكى مثله، لما فيه من الطعن على السلف، والمخالفة لسبيل المؤمنين.
وخرج أيضا من حديث عبد اللَّه بن أبي أمية قال: قرئ على مالك، عن ابن شهاب، عن ابن مالك بن أوس بن الحدثان قال: سمعت عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: حدثنا أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول إنا معشر الأنبياء ما تركنا صدقة،
ومن حديث الحميدي [ (1) ] ، حدثنا سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي.
__________
[ (1) ]
(جامع الأصول) : 9/ 636، حديث رقم (7437) ، ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة» .(13/160)
وقد خرّج هذا الحديث أبو عبد الرحمن النسائي في (السنن الكبير) من حديث الزبير وغيره.
السابعة: كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقضي بعلمه وفي غير خلاف مشهود حاصله ثلاثة أقوال لجواز المنع، وفي غير الحدود، وشاهد حكمه عليه السلام بعلمه حديث هند بنت عتبة
خرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى
__________
[ (1) ] رواه البخاريّ في البيوع، باب من أجرى أمر الأنصار على ما يتعارفون بينهم، وفي المظالم، باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، وفي النفقات، باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد، وباب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، وباب وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ، وفي الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي الأحكام، باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، وباب القضاء على الغائب.
[ (2) ] ومسلم في الأقضية، باب قضية هند، حديث رقم (1714) ، وأبو داود في البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث رقم (3532) ، والنسائي في القضاة، باب قضاء الحاكم على الغائب إذا عرفه، 8/ 246.
قال الإمام النووي: في هذا الحديث فوائد، منها: وجوب نفقة الزوجية، ومنها وجوب نفقة الأولاد الفقراء الصغار، ومنها أن النفقة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد، ومذهب أصحابنا أن نفقة القريب مقدرة بالكفاية كما هو ظاهر هذا الحديث، ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد: على الموسر كل يوم مدّان، وعلى المعسر مدّ، وعلى المتوسط مدّ ونصف، وهذا الحديث يرد على أصحابنا.
ومنها جواز سماع الأجنبية عند الإفتاء والحكم، وكذا ما في معناه، ومنها جواز ذكر الإنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والشكوي، ونحوهما، ومنها أن من له على غير حق وهو(13/161)
__________
[ () ] عاجز عن استيفائه، يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهذا مذهبنا، ومنع ذلك أبو حنيفة ومالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.
ومنها جواز إطلاق الفتوى، ويكون المراد تعليقا بثبوت ما يقوله المستفتي، ولا يحتاج المفتي أن يقول: إن ثبت كان الحكم كذا وكذا، بل يجوز له الإطلاق كما أطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن قال ذلك فلا بأس.
ومنها أن للمرأة مدخلا في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم. قال أصحابنا: إذا امتنع الأب من الإنفاق على الصغير، أو كان غائبا، أذن القاضي لأمة في الأخذ من آل الأب أو الاستقراض عليه، والإنفاق على الصغير، بشرط أهليتها، وهل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إذن القاضي؟ فيه وجهان مبنيان على وجهين لأصحابنا في أن إذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لهند امرأة أبي سفيان إفتاء أم قضاء، والأصح أنه كان إفتاء، وأن هذا يجري في كل امرأة أشبهتها فيجوز، والثاني: كان قضاء، فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي، واللَّه- تعالى- أعلم.
ومنها اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعيّ، ومنها جواز خروج المزوجة من بيتها لحاجتها إذا أذن لها زوجها في ذلك أو علمت رضاه.
واستدل به جماعات من أصحابنا وغيرهم على جواز القضاء على الغائب، وفي المسألة خلاف للعلماء، قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين لا يقضي عليه بشيء. وقال الشافعيّ والجمهور:
يقضي عليه في حقوق الآدميين، ولا يقضي في حقوق اللَّه- تعالى-.
ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث للمسألة، لأن هذه القضية كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد، أو مستترا لا يقدر عليه، أو متعذرا، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودا، فلا يكون قضاء على الغائب، بل هو إفتاء كما سبق واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (شرح مسلم) .
قال القاضي عياض- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أرادت بقولها: أهل خباء، نفسه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكنت عنه بأهل الخباء إجلالا له صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: ويحتمل أنها تريد بأهل الخباء أهل بيته، والخباء يعبر عن مسكن الرجل وداره.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأيضا والّذي نفسي بيده،
فمعناه وستزيدين من ذلك، ويتمكن الإيمان من قلبك، ويزيد حبك للَّه ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويقوى رجوعك عن بعضه، وأصل هذه اللفظة: آض يئض أيضا إذا رجع. ورجل مسيك، أي شحيح وبخيل.(13/162)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: واللَّه يا رسول اللَّه ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ من أن يذلهم اللَّه، وقال البخاريّ: أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزهم اللَّه من أهل خبائك، وقال البخاريّ: إن يعزوا من أهل خبائك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأيضا والّذي نفسي بيده، ثم قالت: يا رسول اللَّه إن أبا سفيان رجل ممسك، وقال البخاريّ:
مسيك، فهل عليّ من حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف.
وقال البخاريّ: فهل عليّ من حرج من أن أطعم من الّذي له عيالنا؟ قال لها: لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف ولم يقل في الحديث: وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأيضا والّذي نفسي بيده.
وخرّجه البخاريّ في الأحكام، وترجم عليه باب القضاء على الغائب وحكم القاضي بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهمة، كما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وذلك إذا كان مشهودا.
وخرّجه في كتاب النذور والإيمان وفي كتاب المناقب وذكره في كتاب النفقات [ (1) ] مختصرا. وخرّجاه أيضا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
وخرّجه النسائي أيضا [ (2) ] ، واستدل به البيهقيّ [ (3) ] قد اختلف في قوله عليه السلام خذي من ماله ما يكفيك بالمعروف
وهل هو قضاء أو إفتاء جزم الرافعي والنووي في (الروضة) [ (4) ] على أنه قضاء، ذكره النووي في القضاء على
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (السنن الكبرى) : 7/ 66- 67، كتاب النكاح، باب ما أبيح له صلّى اللَّه عليه وسلّم من القضاء، بعلمه، وفي قضاء غيره بعلم نفسه قولان.
[ (4) ] (روضة الطالبين) : 5/ 352، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.(13/163)
الغائب، وذكره في نفقة الأقارب أنه إفتاء وهو مبني على أنه كان أبو سفيان حاضرا أو غائبا وفيه قولان [ (1) ] .
قال الخطابي [ (2) ] وقد ذكر الحديث: وفيه جواز الحكم بعلمه وذلك أنه لم يكلفها البينة فيما ادعته من ذلك، إذ كان قد علم صلّى اللَّه عليه وسلّم ما بينهما من الزوجية، وأنه كان كالمستفيض عندهم بخل أبي سفيان، وما كان ينسب إليه من الشح، وظاهر إطلاق الأصحاب أن له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقضي بعلمه مطلقا سواء الحدود وغيرها.
__________
[ (1) ] سبق أن أشرنا إليه مستفيضا.
[ (2) ] (معالم السنن) : 3/ 803، كتاب البيوع والإجارات، باب (81) في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، شرح الحديث رقم (3532) ، ثم قال: وفيه جواز أن يقضي الرجل حقه من مال عنده لرجل له عليه حق يمعنه منه، وسواء كان ذلك من جنس حقه أو من غير جنس حقه، وذلك لأن معلوما أن منزل الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم، ثم أطلق إذنها في أخذ كفايتها وكفاية أولادها من ماله، ويدل على صحة ذلك قولها في غير هذه الرواية: «إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يدخل عليّ بيتي ما يكفيني وولدي» .
قال الشيخ: وقد استدل بعضهم من معنى هذا الحديث على وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج، قال: وذلك أن أبا سفيان رجل رئيس في قومه، ويبعد أن يتوهم عليه أن يمنع زوجته نفقتها، ويشبه أن يكون ذلك منه في نفقة خادمها، فوقعت الإضافة في ذلك إليها، إذا كانت الخادم داخلة في ضمنها، ومعدودة في جملتها. واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (معالم السنن) .(13/164)
الثامنة: كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحكم لنفسه ولولده على الأصح لأنه معصوم وفي من عداه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجه في حكمه لولده
حكاه الماوردي وحكى معه وجها آخر أنه يجوز، وجعل القضاعي هذا الخصوصية والآتية بعدها مما خصّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بهما من بين سائر الأنبياء، ويستدل لذلك بقوله- تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] فإنه يشمل قضاءه لنفسه، ولولده، ومن ذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يكره له الفتوى والحكم في حال الغضب، لأنه لا يخاف عليه من الغضب ما يخاف علينا، ذكره النووي في (شرح مسلم) في كتاب اللقطة [ (2) ] .
التاسعة: كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يقبل شهادة من يشهد له
خرَّج أبو داود [ (3) ] من حديث أبي اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهري، عن عمارة بن خزيمة أنّ عمه حدثه- وهو من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أن النبي
__________
[ (1) ] النساء: 65.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 268، كتاب اللقطة، شرح الحديث رقم (1723) ، حيث قال:
وفيه جواز الفتوى والحكم في حال الغضب، وأنه نافذ، لكن يكره ذلك في حقنا، ولا يكره في حق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف علينا، واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 4/ 31- 32، كتاب الأقضية، باب (20) إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد، يجوز له أن يحكم به، حديث رقم (3607) ، قال الشيخ: هذا حديث يضعه كثير من الناس غير موضعه، وقد تذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عنده بالصدق على كل شيء ادعاه، وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما حكم على الأعرابي بعلمه إذ كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صادقا بارا في قوله، وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد(13/165)
صلّى اللَّه عليه وسلّم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليقضيه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ابتاعه، فنادى الأعرابي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته؟ فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين سمع نداء الأعرابي.
فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ قال: لا واللَّه ما بعتكه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
بلى قد ابتعته منك، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا، فقال خزيمة بن ثابت:
أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال:
بتصديقك يا رسول اللَّه، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. ترجم عليه باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يقضي به.
وفي صحيح البخاريّ ما يؤيد قصة خزيمة هذه، قال في تفسير سورة الأحزاب [ (1) ] : حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب، عن الزهريّ قال: أخبرني
__________
[ () ] لقوله، والاستظهار بها على خصمه، فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا. (معالم السنن) .
وأخرجه النسائي في البيوع، باب (81) التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، حديث رقم (4661) .
قال الحافظ المنذري: وهذا الأعرابي: هو سواء بن الحارث، وقيل: سواء بن قيس المحاربي، ذكره غير واحد من الصحابة، وقيل: إنه جحد البيع بأمر بعض المنافقين، وقيل:
إن هذا الفرس هو «المرتجز» المذكور في أفراس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الحافظ السندي في (حاشيته على سنن النسائي) : والمشهور أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رد الفرس بعد ذلك على الأعرابي فمات من ليلته عنده. واللَّه- تعالى- أعلم.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 282- 283، حديث رقم (21376) من حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري، بسياقة أتم.
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 644- 645، كتاب التفسير، باب (3) فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، حديث رقم (4784) .(13/166)
خارجة بن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيرا أسمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأها، لم أجدها عند أحد إلا مع خزيمة الأنصاريّ الّذي جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شهادته شهادة رجلين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وفي هذا الحديث التصريح بأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل شهادة من شهد له. ومقتضى إطلاق صاحب (الحاوي الصغير) أن من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا قبول شهادة من شهد لولده أيضا وبه صرح المروذيّ في (توضيحه الكبير) وله أيضا أن يشهد لنفسه ولولده [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلو قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لفلان على فلان كذا، فيه وجهان.
__________
[ () ] قال الحافظ في (الفتح) : هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه، ولا يقتصر على حفظه، لكن فيه إشكال، لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده والقرآن إنما يثبت بالواتر، والّذي يظهر في الجواب أن الّذي أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة، لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن: «فأخذت أتتبعه في الرقاع والعسب» .
وفي هذا الحديث فضيلة الفطنة في الأمور، وأنها ترفع منزلة صاحبها، لأن السبب الّذي أبداه خزيمة حاصل في نفس الأمر يعرفه غيره من الصحابة، وإنما هو لما اختصّ بتفطنه لما غفل عنه غيره، مع وضوحه، جوزي على ذلك بأن خصّ بفضيلة من شهد له خزيمة أو عليه فحسبه.
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 352، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره. وأخرجه أيضا البيهقيّ في (السنن الكبرى) : 7/ 66، كتاب النكاح، باب ما أبيح له من الحكم لنفسه، وقبول شهادة من شهد له بقوله، وإن جاز ذلك جاز أن يحكم لولده، وولد ولده.(13/167)
العاشرة: كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحمي لنفسه ولم يقع ذلك وليس للأئمة بعده ولا لغيره أن يحموا لأنفسهم
ذكر القضاعي هذه الخصيصة بما خص به صلّى اللَّه عليه وسلّم دون من قبله من الأنبياء، وقد اختلف فيما حماه صلّى اللَّه عليه وسلّم للمسلمين، فالصحيح أنه لا ينقض بحال لأنه نص، وقيل إن بقيت الجماعة التي حمى لها لم ينقض، وإن زالت فوجهان: أصحهما المنع أيضا، لأنه تغيير للمقطوع بصحته باجتهاد محتمل للخطإ، وأما الإمام بعده فله نقض ما حماه للحاجة على الأصح [ (1) ] .
__________
[ (1) ] خرّج البيهقيّ من حديث يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، حدثني يونس بن زيد عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، أن الصعب بن جثامة قال: قال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: لا حمى إلا للَّه ورسوله، قال:
وبلغنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حمى البقيع [أو النقيع] ، وأن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حمى الشرف والرَّبَذَة. ثم قال: رواه البخاريّ عن يحيى بن بكير في (السنن الكبرى) : 7/ 59، كتاب النكاح، باب الحمى له خاصة في أحد القولين، ثم قال في باب دوام الحمى له صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة: قد روينا في كتاب الحج مرفوعا وموقوفا في حمى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لا يخبط، ولا يعضد، ولكن يهش هشا. (المرجع السابق) .
قال في هامش (جامع الأصول) : أخرجه البخاريّ في الحرث والمزارعة، باب لا حمى إلا للَّه- تعالى- ورسوله، وفي الجهاد، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الوالدان والذراري، وأبو داود في الخراج والإمارة، باب في الأرض يحميها الإمام أو الرجل، حديث رقم (3083) ، (3084) .(13/168)
الحادية عشر: له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهما وعلى مالكهما البذل ويفدي مهجة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بمهجته صيانة لمهجة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ووقاية لنفسه الكريمة بالأموال والأرواح
قال اللَّه- جل جلاله-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ (1) ] قال ابن قتيبة: يريد إذا دعاهم إلى أمر ودعتهم أنفسهم إلى خلاف ذلك الأمر كانت طاعته أولى بهم من طاعتهم لأنفسهم.
وذكر الفورانيّ وإبراهيم المروذيّ وغيرهما، أنه لو قصده صلّى اللَّه عليه وسلّم ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، ودليله وقاية طلحة بن عبيد اللَّه له بنفسه يوم أحد، وعد القضاعيّ هذه الخصوصية مما خصّ به دون غيره من الأنبياء، وفي هذه المسألة نظر فإن قاصد نفس المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم إما كافر، وإما مسلم، فإن كان كافرا فذلك ليس من الخصوصيات، إلا على طريقه ذكرها الإمام عن الأصوليين، هي أضعف الطرق، وإن كان مسلما فهو بنفس هذا القصد كافر، فتأمله.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 6.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 352، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.(13/169)
المسألة الثانية عشر: أنه يجب على أمته صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحبوه
قال اللَّه- تعالى-: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [ (1) ] ، قال القاضي عياض: يكفي بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ قرّع تعالى من كان ماله، وأهله، وولده، أحب إليه من اللَّه ورسوله، وأوعدهم بقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثم [فسقهم] [ (2) ] بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده اللَّه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] التوبة: 24.
[ (2) ] في (الأصل) : «خشعهم» وصوبناها من (الشفا) .
[ (3) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 2/ 14- 15، الباب الثاني في لزوم محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم. قال الملا على القاري في (شرح الشفا) : واعلم أن المراد بالحب هنا ليس الحب الطبيعي التابع لهوى النفس، فإن محبة الإنسان لنفسه من حيث الطبع أشد من محبة غيره، وكذا محبة ولده ووالده أشد من محبة غيرهما، وهذا الحب ليس بداخل تحت اختيار الشخص، بل خارج عن حد الاستطاعة، فلا مؤاخذة به لقوله- تعالى-: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بل المراد الحب العقلي الاختياري، الّذي هو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه، وإن كان على خلاف الطبع، ألا ترى أن المريض يكره الدواء المر بطبعه، ومع ذلك يميل إليه باختياره ويهوى تناوله بمقتضى عقله، لما علم أو ظنّ أن صلاحه فيه؟.
وكذلك المؤمن إذا علم أن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح دينه، ودنياه، وآخرته، وعقباه، وتيقن أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشفق الناس عليه وألطفهم إليه، وحينئذ يرجح جانب أمره بمقتضى عقله على أمر غيره، وهذا أول درجات الإيمان.
وأما كماله: فهو أن يصير طبعه تابعا لعقله في حبه صلّى اللَّه عليه وسلّم. قيل: ومن محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم نصر سنته، والذب عن شريعته، والاقتداء بسيرته صلّى اللَّه عليه وسلّم. (شرح الشفا) : 2/ 34.(13/170)
خرّج مسلم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن علية، وعبد الوارث كلاهما عن عبد العزيز، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يؤمن عبد، وفي حديث عبد الوارث: الرجل، حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين.
وخرّج من حديث شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 374- 375، كتاب الإيمان، باب (16) وجوب محبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر من الأهل، والولد، والوالد، والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، حديث رقم (69) .
[ (2) ] (المرجع السابق) حديث رقم (70) . قال الإمام أبو سليمان الخطابي: لم يرد به حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان نفسه طبع، ولا سبيل إلى قلبه. قال: فمعناه: لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك.
هذا كلام الخطابيّ.
وقال ابن بطال، والقاضي عياض، وغيرهما- رحمة اللَّه عليهم-: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام، كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع أصناف المحبة في محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن بطال- رحمه اللَّه-: ومعنى الحديث: أن كل من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن به صلّى اللَّه عليه وسلّم استنقذنا من النار، وهدينا من الضلال.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه-: ومن محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمنى حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. قال: وإذا تبين ما ذكرناه، تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومنزلته على كل والد، وولد، ومحسن، ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه، فليس بمؤمن، هذا كلام القاضي عياض- رحمه اللَّه- واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .(13/171)
وخرّج البخاريّ من حديث ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين [ (1) ] .
ذكره في باب حب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من الإيمان، وخرّج فيه من طريق شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: والّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 80، كتاب الإيمان، باب (8) حب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من الإيمان، حديث رقم (15) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (14) ، وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب. وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما، على وجوهه المختلف حالا ومالا، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة، وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبديّ، في النعيم السرمديّ، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره. لأن النفع الّذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه.
ولا شك أن حظ الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- من هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، واللَّه الموفق.
وقال القرطبيّ: كل من آمن بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون. فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحد الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات، محجوبا في الغفلات، أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اشتاق إلى رؤيته، بحيث لا يؤثرها على أهله، وولده، وماله، ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما(13/172)
وخرّج في كتاب الأيمان والنذور [ (1) ] من طريق ابن وهب قال: أخبرني حيوة قال: حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد اللَّه بن هشام، قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال عمر: يا رسول اللَّه، لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا نفسي، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا والّذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن واللَّه لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الآن يا عمر.
وذكره أيضا بهذا الإسناد في مناقب عمر [ (2) ] ، وفي كتاب الاستئذان [ (3) ] ، وانتهى منه إلى قوله: بيد عمر بن الخطاب.
وخرّج البخاريّ ومسلم من حديث عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان اللَّه ورسوله أحب عليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا
__________
[ () ] ذكر، لما وقر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، واللَّه المستعان. (فتح الباري) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 641- 642، كتاب الإيمان والنذور، باب (3) كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟
وقال سعد: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «والّذي نفسي بيده» ،
وقال أبو قتادة: قال أبو بكر عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لاها اللَّه إذا. يقال: واللَّه، باللَّه، وتاللَّه، حديث رقم (6632) .
قال الخطابيّ: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد- عليه السلام- حب الاختيار، إذا لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه.
قال الحافظ: فعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الآن يا عمر» أي الآن عرفت فنطقت بما يحب. (فتح الباري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 53، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشيّ العدويّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (3694) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 64، كتاب الاستئذان، باب (27) المصافحة، حديث رقم (6264) .(13/173)
يحبه إلا للَّه، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه، كما يكره أن يقذف في النار [ (1) ] .
وقال البخاريّ [ (2) ] : أن يكون اللَّه ورسوله، ولم يقل: بعد أن أنقذه اللَّه منه.
وأخرجاه من حديث شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان، من كان يحب المرء لا يحبه إلا للَّه، ومن كان اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواها، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه [ (3) ] .
وقال البخاريّ: وجد حلاوة الإيمان، ومن كان اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا اللَّه، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه اللَّه كما يكره أن يلقى في النار.
ترجم عليه باب من كره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يلقى في النار، في كتاب الإيمان [ (4) ] .
وخرّجه في كتاب الأدب، في باب الحب في اللَّه من حديث شعبة [ (5) ] ، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يجد أحد حلاوة
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 372، كتاب الإيمان، باب (15) بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث رقم (67) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 82، باب (9) حلاوة الإيمان، حديث رقم (16) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 373، كتاب الإيمان، باب (15) بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث رقم (68) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 1/ 98، باب (14) ، حديث رقم (21) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 10/ 567- 568، كتاب الأدب، باب (42) الحب في اللَّه، حديث رقم (6041) ، وأخرجه أيضا في كتاب الإكراه، باب (1) من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، حديث رقم (6941) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ... »
هذا حديث عظيم، أصل من أصول الإسلام، قال العلماء- رحمهم اللَّه تعالى-: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ(13/174)
الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا اللَّه، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه اللَّه، وحتى يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما.
ولمسلم من حديث النضر بن شميل قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنحو حديثهم غير أنه قال من رجع يهوديا أو
__________
[ () ] الطاعات، وتحمل المشقات، في رضي اللَّه- عزّ وجل ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا ومحبة العبد ربه- سبحانه وتعالى- بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال القاضي- رحمه اللَّه-: هذا الحديث بمعنى الحديث المتقدم، ذاق طعم الإيمان، من رضي باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وذلك أنه لا يصح المحبة للَّه ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم حقيقة، وحب الآدميّ في اللَّه ورسوله، وكراهة الرجوع إلى الكفر، إلا لمن قوى بالإيمان يقينه، واطمأنت به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، وهذا الّذي وجد حلاوته.
قال: والحب في اللَّه ثمرات حب اللَّه، قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب سبحانه، فيحب ما أخب، ويكره ما كره. واختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف إلا في اللفظ، وبالجملة: أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة، والصوت، والطعام، ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين، والعلماء، وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه إليه، ودفعه المضار والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما جمع من جمال المظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسائه إلى جميع المسلمين، بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد.
وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق اللَّه- تعالى-، فإن الخير كله منه- سبحانه وتعالى-.
قال مالك وغيره: المحبة في اللَّه من واجبات الإسلام، هذا كلام القاضي- رحمه اللَّه-. واما قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: يعود أو يرجع، فمعناه يصير، وقد جاء العود، والرجوع بمعنى الصيرورة.
(شرح النووي) .(13/175)
نصرانيا، وقال سهل بن عبد اللَّه: من لم ير ولاية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في جميع الأحوال، ويرى نفسه في ملكه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يذوق حلاوة سنته
لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه.
وخرّج البخاريّ من حديث شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: المرء مع من أحب [ (1) ] .
وخرّجاه من حديث جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه كيف ترى رجلا؟ [ (2) ] .
وقال البخاريّ: كيف تقول في رجل أحب قوما، ولم يلحق بهم؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: المرء مع من أحب [ (3) ] .
وخرّج أبو داود من حديث يونس بن عبيد، عن ثابت، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ما رأيت أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرحوا بشيء أشد منه، قال رجل: يا رسول اللَّه الرجل يحب العمل من الخير يعمل به، ولا يعمل مثله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: المرء مع من أحب.
ولمسلم [ (4) ] من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن أعرابيا قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: متى الساعة؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أعددت لها؟ قال: أحب اللَّه ورسوله، قال: أنت مع من أحببت.
وخرّجه البخاريّ [ (5) ] من طرق.
وقد أجمع الحافظ أبو نعيم طرق هذا الحديث، وسماه كتاب (المحبين مع المحبوبين) ، عدّ الصحابة فيه نحو العشرين، وقد قال بعض الحفاظ
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: المرء مع من أحب،
أو ما هذا معناه
__________
[ (1) ] أخرجه البخاريّ في الأدب، باب علامة حب اللَّه عزّ وجلّ، ومسلم في البر والصلة، باب المرء مع من أحب، حديث رقم (2640) ، (2641) والترمذيّ في الزهد، باب ما جاء أن المرء مع من أحب، وإسناده حسن، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.
[ (4) ] (جامع الأصول) : 6/ 555- 557، حديث رقم (4785) .
[ (5) ] راجع التعليق السابق.(13/176)
مشهور جدا يكاد يبلغ درجة التواتر، رواه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو موسي الأشعريّ، وعليّ بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو ذر الغفاريّ، وصفوان بن عسال، والبراء بن عازب، وأبو أمامة الباهليّ، وأبو هريرة، ومعاذ بن جبل، وأبو قتادة الأنصاري، وعبادة الصامت، وجابر بن عبد اللَّه، وأم المؤمنين عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قال مؤلفه: فانظر ما أعظم أجر محبة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ كل محب مع محبوبه، وانظر إلى سيرة السلف في محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف كانت؟ فعن عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول اللَّه. وعن عبدة بنت خالد بن سعد، أنها قالت: ما كان خالد يأوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار، ويقول: هم أصلي، وفصلي، وهم بحق قلبي، طال شوقي إليهم فعجّل ربّ قبضي إليك، حتى يغلبه النوم.
وروى عن أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم:
والّذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه، يعنى أباه أبا قحافة، ذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك، وعن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال للعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب لأن ذاك أحب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وعن هند بنت عمرو بن حرام [ (1) ]- وقد قتل زوجها عمرو بن الجموح وابنها خلاد بن عمرو بن الجموح، وأخوها عبد اللَّه بن عمرو بن حرام- فحملتهم على بعير تريد خيم المدينة فلقيتها عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وقد خرجت تستروح الخبر-[فقالت] : فما وراءك؟ قالت هند: أما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصالح، وكل مصيبة بعده جلل واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء
__________
[ (1) ] هي هند بن عمرو بن حرام الأنصارية، قال ابن مندة: روى حديثها الواقديّ عن أيوب بن النعمان عن أبيها عنها (الإصابة) : 8/ 157، ترجمة رقم (11680) .(13/177)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (1) ] .
وسئل عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كيف كان حبكم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: كان واللَّه أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وأبنائنا، وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
وقيل لزيد بن الدّثنّة [ (2) ] لما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه، قالوا:
أيسرك أن محمدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمدا أشيك بشوكة وأني في بيتي، قال: يقول سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حبا من أصحاب محمد بمحمد [ (3) ] .
وقال القاضي حسين: يجب على المرء أن يكون حزنه على فراق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الدنيا أكثر من حزنه على فراق أبويه، كما يجب عليه أن يكون عنده أحب إليه من نفسه، وأهله، وماله، والآثار في هذا عن السلف كثيرة جدا.
وقال القاضي عياض: من أحب شيئا آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه، وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من تظهر علامات [ (4) ] ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله،
__________
[ (1) ] الأحزاب: 25، والخبر في (مغازي الواقدي) : 1/ 265.
[ (2) ] هو زيد بن الدّثنّة، بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون، ابن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضيّ. شهد بدرا واحدا، وكان في غزوة بئر معونة، فأسره المشركون، وقتلته قريش بالتنعيم.
قال ابن إسحاق في (المغازي) : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، أن نفرا من عضل والقارة قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد أحد، فقالوا: إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوا بنا في الدين، فبعث معهم خبيب بن عديّ، وزيد بن الدينة ... فذكر القصة بطولها، وهي في صحيح البخاريّ من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 362، وغزوة الرجيع.
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (الشفا) : «علامة» .(13/178)
وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره، ويسره، ومنشطه ومكرهه.
وشاهد هذا قوله- تعالى-: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ (1) ] . وإيثار ما شرعه، وحض عليه على هوى نفسه، وموافقة شهوته، قال اللَّه- تعالى-: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [ (2) ] . وإسخاط العباد في رضي اللَّه قال، فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة للَّه، ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن اسمها، ودليله
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم للذي حده في الخمر، فلعنه بعضهم، وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تلعنه فإنه يحب اللَّه ورسوله،
ومن علامات محبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كثرة ذكره له، فمن أحب شيئا أكثر ذكره، ومنها كثرة شوقه إلى لقائه، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ومن علامات ذلك كثرة ذكره وتعظيمه له، وتوقيره عند ذكره، وإظهار الخشوع، والانكسار مع سماع اسمه [ (3) ] .
قال إسحاق التجيبيّ: كان أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم، وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، منهم من يفعل ذلك محبة له، وشوقا إليه، ومنهم من يفعله تهيبا، وتوقيرا، ومنها محبته لمن أحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومن هو بسببه من آل بيته، وصحابته من المهاجرين، والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم، وسبهم، فمن أحب شيئا أحب من يحب، ومن قال أحب شيئا، أحب كل شيء يحبه، ومنها بغض من أبغض اللَّه ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته، وابتدع في دينه، واستقالة كل أمر يخالف شريعته، قال- تعالى-:
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] الحشر: 9.
[ (3) ] (الشفا) : 2/ 20.(13/179)
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (1) ] وهؤلاء أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قد قتلوا أحبّاءهم، وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته.
وقال له عبد اللَّه بن أبيّ: لو شئت لأتيتك برأسه يعني أباه، ومنها أن يحب القرآن ويحب تلاوته والعمل به، وتفهمه، ويحب سنته، ويقف عند حدودها، ومن علامة حبه للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم شفقته على أمته، ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ودفع المضار عنهم، كما كان عليه السلام بالمؤمنين رءوفا رحيما.
ومن علامة تمام محبته زهد مدّعيها في الدنيا، وإيثاره الفقر، وإنصافه به.
قال: اختلف الناس في تفسير محبة اللَّه، ومحبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال سفيان:
المحبة اتباع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذّب عن سنته والانقياد لها، وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب يحب ما أحب، ويكره ما كره.
وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه [بذكره] [ (2) ] بإدراكه كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة، والأشربة اللذيذة، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله، وقلبه معاني باطنة شريفة كمحبة الصالحين، والعلماء، وأهل المعروف، والمأثور عنهم السير الجميلة، والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء، حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم، والتشيّع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان، وهتك الحرم، واخترام النفوس، أو يكون حبه إياه لموافقة له من جهة إحسانه له، وإنعامه عليه، فقد جبلت النفوس على حب
__________
[ (1) ] المجادلة: 22.
[ (2) ] من (الأصل) فقط، وليست في (الشفا) .(13/180)
من أحسن إليها، فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعلمت أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة [ (1) ] .
أما جمال الصورة والظاهر، وكمال الأخلاق والباطن
فقد قررنا منها قبل فيما مر من الكتاب ما لا يحتاج إلى زيادة [ (2) ] .
وأما إحسانه وإنعامه على أمته
فكذلك قد مر منه في أوصاف اللَّه- تعالى- من رأفته بهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، وشفقته عليهم، واستنقاذهم به من النار، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، ورحمة للعالمين، مبشرا، ونذيرا، وداعيا إلى اللَّه بإذنه، ويتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجل قدرا، وأعظم خطرا، من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعم منفعة، وأكثر فائدة، من إنعامه على كافة المؤمنين، وداعيهم إلى الفلاح، والكرامة، ووسيلتهم إلى ربهم، وشفيعهم، والمتكلم عنهم، والشاهد لهم، والموجب لهم البقاء الدائم، والنعيم السرمد، فقد استبان لك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعا، بما قدمناه من صحيح الآثار، وعادة وجبله، بما ذكرناه آنفا لإفاضة الإحسان، وعمومة الإجمال، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفا، أو استنقذه من هلكه أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع، فمن منحه ما لا يغني من عذاب الجحيم أولى بالحب [ (3) ] ، وإذا كان يحب بالطبع ملكا لحسن سيرته، أو حاكما لما يؤثر من قوام طريقته، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه، أو كرم
__________
[ (1) ] (الشفا) : 2/ 23- 24، فصل في معنى المحبة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وحقيقتها، مختصرا.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (الأصل) وفي (الشفا) : «فمن منحه ما لا يبيد من النعيم، ووقاه ما لا يغني من عذاب الجحيم» .(13/181)
شيمته [ (1) ] ، فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب، وأولى بالميل [ (2) ] .
المسألة الثالثة عشر: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينقض وضوؤه بالنوم بخلاف غيره
ودليله ما خرّجه البخاريّ من حديث سفيان، عن عمرو قال: أخبرنى كريب، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نام حتى نفخ، ثم صلى، وربما قال: اضطجع حتى نفخ، ثم قام فصلى، ثم حدثنا به سفيان مرة بعد مرة، عن معمر، عن كريب، عن ابن عباس قال: بتّ عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليل، فلما كان في بعض الليل قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتوضأ من شنّ معلقة وضوءا خفيفا يخففه عمرو، ويقلله، وقام يصلي، فتوضأت نحوا مما توضأ، ثم جئت، فقمت عن يساره، وربما قال سفيان: عن شماله، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء اللَّه، ثم اضطجع، فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي، فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة، فصلى ولم يتوضأ، قلنا لعمرو: إنّ أناسا يقولون: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تنام عينيه، ولا ينام قلبه، قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «شيمه» ، وما أثبتناه من (الشفا) .
[ (2) ] (الشفا) : 2/ 24- 25، فصل في معنى المحبة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وحقيقتها، ثم قال: وقد قال عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في صفته صلّى اللَّه عليه وسلّم: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، وذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لا يصرف بصره عنه محبة فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] الصافات: 102.(13/182)
ذكره البخاريّ في أول الوضوء، وترجم عليه باب التخفيف في الوضوء [ (1) ] .
وذكره في كتاب [الآذان] في باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل، والطهور [ (2) ] .
وخرّجه مسلم في كتاب الصلاة به مثله أو نحوا منه، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه بلال فأذنه بالصلاة، فخرج، فصلى الصبح، ولم يتوضأ، قال سفيان: وهذا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة لأنه بلغنا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تنام عيناه، ولا ينام قلبه [ (3) ] . وخرّجه البخاريّ ومسلم من طرق عديدة.
وخرّج الترمذي [ (4) ] من حديث مالك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: قلت: يا رسول اللَّه أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي.
قال ابن عبد البر: وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إن عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي،
فتلك من علياء مراتب الأنبياء
[قال:] تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا. واللَّه أعلم.
قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- رؤيا الأنبياء وحي لأن الأنبياء يفارقون سائر البشر في نوم القلب، ويساوونهم في نوم العين، فلو سلط النوم على قلوبهم كما يصنع بغيرهم، لم تكن رؤياهم أكثر من سواهم، وقد خصهم اللَّه- تعالى- من فضله بما شاء أن يخصهم به، ومن هنا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينام حتى ينفخ، ثم يصلي ولا يتوضأ، لأن الوضوء إنما يجب بغلبة
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 317 ن كتاب الوضوء، باب (5) التخفيف في الوضوء، حديث رقم (138) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 438، كتاب الأذان، باب (161) وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور؟ وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم، حديث رقم (859) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 294- 295، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (26) الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث رقم (186) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 2/ 302- 303، أبواب الصلاة، باب (208) ما جاء في وصف صلاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل، حديث رقم (439) .(13/183)
النوم على القلب لا على العين، فكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يساوي أمته في الوضوء من الحدث، ولا يساويهم في الوضوء من النوم، كما لم يساويهم في وصال الصوم وغيره مما جرت عادتهم به، فإن قيل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوضأ، قيل له:
كان يتوضأ لكل صلاة وما جاء عنه قط أنه قال: وضوئي هذا من النوم، وليس ببعيد أن يتوضأ إذا خامر النوم قلبه، وذلك نادر، كنومة في سفره عن صلاة الصبح، ليس لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت، وإن كان مغلوبا بنوم، أو نسيان، وهذا واضح.
روى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ [ (1) ] .
قال عكرمة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محفوظا، وإن ذلك منه كان نادرا ليس لأمته كما سنّ في من نام، أو نسي كما
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأسن.
وذكر عند عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قيل لي: لتنم عينك، ولتغفل،
فقال: يا أمير المؤمنين ما يذكر من شأن ذاك أو ذاك، فقال عمر: هبلتك أمك أدركه! مرتين، أو ثلاثا،
وقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لنا: إن رجلا يقال له أويس من قرن من أمره كذا،
فلما قدم الرجل لم يبدأ بأحد قبله، فدخل عليه، قال: استغفر لي، فقال:
ما بدا لك، قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما [أنا] بمستغفر لك حتى تجعل لي ثلاثا، قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر بما قال لك عمر أحدا من الناس، ونسي الثالثة.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: وقد روى من وجوه أن أويسا [ (2) ] قتل بصفين مع على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 242- 243، كتاب الأذان، باب (57) يوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين، حديث رقم (697) من حديث شعبة عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما
[ (2) ] هو أويس القرني، القدوة، الزاهد، سيد التابعين في زمانه، أبو عمرو، أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرادي اليمانيّ، وقرن بطن من مراد، وفد على عمر، وروى قليلا عنه، وعن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.
عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم:
أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال:
من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال:
نعم، قال: ألك والدة؟ قال: نعم،
قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على اللَّه لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي. قال:
فاستغفر له.
وجد في قتلى صفين مع أصحاب علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 161، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1044) ، (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) : 2/ 79، (لسان الميزان) : 1/ 471، (سير الأعلام) :
4/ 19- 33. وأحاديث صلاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل، ونومه ولا يتوضأ، وتنام عيناه ولا ينام قلبه المقدس. ذكرها البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 62، باب كان ينام ولا يتوضأ.(13/184)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بصلة بن أشيم [ (1) ]
فخرّج البيهقيّ [ (2) ] من حديث ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: بلغنا أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: يكون في أمتي رجل يقال له: صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو أبو الصهباء، صلة بن أشيم العدويّ، له ترجمة في (التاريخ الكبير) : 4/ 321، (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) : 2/ 237- 243، ترجمة رقم (184) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 379، باب ما روي في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه يكون في أمته رجل يقال له:
صلة بن أشيم، فكان بعد وفاته على صفته.
[ (3) ] (حلية الأولياء) : 2/ 241، وفيه: قال رجل لصلة بن أشيم: ادع اللَّه لي. فقال: رغبك اللَّه فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الّذي لا يسكن إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه، وله فيه كرامات لا يتسع المقام لسردها، فلتراجع هناك.(13/185)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بولادة غلام له يسميه باسمه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (1) ] من طريق عون بن سلام، قال قيس: عن ليث، عن محمد بن بشر، عن محمد ابن الحنيفة، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سيولد لك بعدي غلام قد نحلته اسمي وكنيتي [ (2) ] .
وخرّجه الحافظ أبو نعيم أحمد من طريق عبد العزيز بن الخطاب عن قيس ابن الربيع، عن ليث، عن محمد بن بشر عن محمد ابن الحنفية، عن عليّ قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سيولد لك ولد قد نحلته اسمي وكنيتي [ (3) ] .
وفي رواية: حدثنا عليّ: سيولد لك،
وخالفهما غيرهما، عن قيس،
فقال محمد بن الأشعث: خرّجه الحافظ أبو بكر الخطيب من طريق الحسن بن بشر، عن قيس، عن ليث، عن محمد بن الأشعث، عن ابن الحنفية، عن عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يولد لك ابن قد نحلته اسمي
قال: وكلا الحديثين غريب.
والمحفوظ عن ابن الحنفية، فذكر حديث وكيع، حدثنا فطر عن
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 380، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بولادة غلام لعليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وإذنه إياه في أن يسميه باسمه، ويكنيه بكنيته، فكان ذلك في محمد ابن الحنفية.
[ (2) ] هو محمد ابن الحنفية، السيد الإمام أبو القاسم وأبو عبد اللَّه محمد بن الإمام علي بن أبي طالب القرشي الهاشميّ، ولد في العام الّذي مات فيه أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، وكان ورعا كثير العلم، وتوفى سنة إحدى وثمانين، له ترجمة في (التاريخ الكبير) : 1/ 1/ 182، (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) : 3/ 174، (العقد الثمين) : 2/ 157، (شذرات الذهب) :
1/ 88، (طبقات ابن سعد) : 5/ 91.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(13/186)
منذر، عن ابن الحنفية قال: قال على: يا رسول اللَّه أرأيت إن ولد لي بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم، فكانت رخصة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ورواه أيوب بن واقد عن فطر، عن منذر الثوريّ، عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن ولد لك غلام فسمه باسمي، وكنه بكنيتي، وهو رخصة لك دون الناس.
ورواه يحيى بن سعيد، عن فطر، عن منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية، عن علي أنه استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن ولد له بعده أن يسميه باسمه، ويكنيه بكنيته، قال: وكانت رخصة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وسماني محمدا وكنيته أبو القاسم.
ورواه أبو نعيم، عن فطر هو ابن خليفة، عن منذر الثوري، قال:
سمعت ابن الحنفية يقول: كانت رخصة لعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: يا رسول اللَّه إن ولد لي بعدك أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك، قال: نعم وكذا رواه على بن قادم، عن فطر.
وروى ابن عساكر من طريق محمد بن الصلت الأسدي، قال ربيع بن منذر الثوري، عن أبيه أظنه عن ابن الحنفية، قال: وقع بين طلحة، وبين عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- كلام، قال: فقال لعليّ: إنك تسمى باسمه، وتكنى بكنيته، وقد نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك أن يجمعا لأحد من أمته، فقال على إن الجريء من اجترأ على اللَّه، وعلى رسوله، يا فلان ادع له فلانا وفلانا، فجاء نفر من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قريش فشهدوا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رخص لعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يجمعهما، وحرمهما على أمته من بعده.
ومن طريق محمد بن سعد [ (1) ] أن محمد بن الصلت، وخالد بن مخلد قالا:
عن الربيع بن المنذر، والثوري، عن أبيه قال: وقع بين عليّ وطلحة كلام، فقال له طلحة: ما أجرأك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سميت باسمه، وكنيت بكنيته، وقد نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجمعهما أحد من أمته بعده، فقال عليّ: إن الجرى
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 8/ 464.(13/187)
من اجترأ على اللَّه وعلى رسوله، اذهب يا فلان فادع لي فلانا وفلانا لنفر من قريش، قال: فجاءوا، فقال: بم تشهدوا؟ قالوا: نشهد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
إنه سيولد لك بعدي غلام، فقد نحلته اسمي وكنيتي، ولا يحل لأحد من أمتي بعده.
ومن حديث ابن أبي خثيمة، عن محمد بن الصلت الأسديّ، عن الربيع ابن منذر، عن أبيه قال: كان بين عليّ وطلحة كلام، فقال عليّ: إن الجريء من افترى على اللَّه، وعلى رسوله، يا فلان ادع لي فلانا وفلانا، فدعا نفرا من قريش، فقال: بم تشهدون؟ قالوا: نشهد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: سمّ يا عليّ [باسمي] وكن بكنيتي، ولا تحل لأحد بعدك.
وأما إخباره عليه الصلاة والسلام أمّ ورقة [ (1) ] بأنها ستدرك الشهادة فكان كما أخبر
فخرّج البيهقيّ [ (2) ] وغيره من طريق أبي نعيم، قال الوليد بن جميع: قال حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] هي أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث بن عويمر بن نوفل الأنصارية، ويقال لها: أم ورقة بنت نوفل، فنسبت إلى جدها الأعلى.
أخرج حديثها أبو داود من حديث وكيع بن الجراح، عن الوليد بن عبد اللَّه بن جميع، حدثتني جدتي، وعبد اللَّه بن خلاد الأنصاري، عن أم ورقة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما غزا بدرا ...
وذكر الحديث. ومن طريق محمد بن فضيل، عن الوليد، عن عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت عبيد اللَّه بن الحارث بهذا، والأول أتم.
وأخرجه ابن السكن، من طريق محمد بن فضيل، وأخرجه ابن السكن أيضا من طريق عبد اللَّه بن داود عن الوليد، عن ليلى بنت مالك، عن أمها، عن أم ورقة، وهو عند ابن مندة بعلو عن عبد اللَّه بن داود، وكذا قيل بين عبد الرحمن بن خلاد وأم ورقة واسطة.
وأخرجه أبو نعيم من رواية أبي نعيم، عن الوليد، حدثتني جدتي عن أمها أم ورقة، وساق الحديث كرواية وكيع. (الإصابة) : 8/ 321- 322، ترجمة رقم (12294) مختصرا.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 381- 382، باب في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم أم ورقة بأنها تدرك الشهادة فاستشهدت في عهد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(13/188)
يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين غزا بدرا قالت: تأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم، وأمرّض مرضاكم لعل اللَّه- تعالى- يهدي لي شهادة، قال: إن اللَّه- تعالى- مهد لك شهادة، فكان يسميها الشهيدة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وأنها غمتها جارية لها، وغلام كانت قد دبرتهما فقتلاها في إمارة عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقيل: إن أم ورقة قتلتها جاريتها، وغلامها، وأنهما هربا، فأتى بهما فصلبهما، فكانا أول مصلوبين بالمدينة، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: صدق رسول اللَّه كان يقول: انطلقوا نزور الشهيدة [ (1) ] .
وخرّجه أبو داود [ (2) ] من حديث وكيع بن الجراح، حدثنا الوليد بن عبد اللَّه ابن جميع، قال: حدثتني جدتي، وعبد الرحمن بن خلاد الأنصاريّ، عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما غزا بدرا قالت له: يا رسول اللَّه ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم لعل اللَّه أن يرزقني شهادة، قال: قري في بيتك، فإن اللَّه يرزقك الشهادة،
قال: فكانت تسمى الشهيدة، فاستأذنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتخذ في دارها مؤذنا، فأذن لها، قال: وكانت دبرت غلاما لها، وجارية، فقاما إليها بالليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت ودفناها، فأصبح عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فقام في الناس، فقال: من عنده من هذين علم أو من رآهما فليجئ بهما فجيء بهما فصلبا، فكانا أول مصلوب بالمدينة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، والمدبّر هو العبد أو الجارية الّذي أعتقه سيده بحيث ينال حريته بعد موت سيده.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 1/ 396- 397، كتاب الصلاة، باب (62) إمامة النساء، حديث رقم (591) .(13/189)
قال أبو عمر بن عبد البر [ (1) ] : أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث بن عويمر الأنصاريّ، وقيل: أم ورقة بنت نوفل وهي مشهورة بكنيتها، واضطرب أهل الخبر في نسبها.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالطاعون الّذي يأتي بعده
فخرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث بسر بن عبيد اللَّه أنه سمع أبا إدريس الخولانيّ قال: سمعت عوف بن مالك قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال: اعدد ستا بين يدي الساعة: موتى، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كعقاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من بيوت المدينة إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم، وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا.
__________
[ (1) ]
(الاستيعاب) : 4/ 1965، ترجمة رقم (4224) ، وذكر حديثها وزاد فيه وقال: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين كان يقول: انطلقوا بنا نزور الشهيدة.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 340، كتاب الجزية والموادعة، باب ما يحذر من الغدر وقول اللَّه- تعالى-: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال: 62] ، حديث رقم (3176) ، وفيه أشياء من علامات النبوة قد ظهر أكثرها، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه.
ووقع في رواية للحاكم من طريق الشعبيّ عن عوف بن مالك في هذا الحديث «ان عوف بن مالك قال لمعاذ في طاعون عمواس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي: اعدد ستا بين يدي الساعة، فقد وقع منهن ثلاث، يعني موته صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفتح بيت المقدس والطاعون، قال: وبقي ثلاث، فقال له معاذ: إن لهذه أهلا» .
ووقع في (الفتن) لنعيم بن حماد أن هذه القصة تكون في زمن المهدي على يد ملك من آل هرقل. (فتح الباري) مختصرا. وبنو الأصفر: الروم.
وأخرجه ابن ماجة في الفتن، باب (25) أشراط الساعة، حديث رقم (4042) ، وبعضه في الأدب من (سنن أبى داود) .(13/190)
ذكره في كتاب الجزية والموادعة، في باب ما يحذر من الغدر.
وخرّجه البيهقي [ (1) ] بهذا السند، ولفظه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في خباء من أدم، فجلست بفناء الخباء فسلمت، فرد وقال:
ادخل يا عوف، فقلت: أكلي أم بعضي؟ قال: كلك، فدخلت، فرأيته يتوضأ وضوءا مكيثا، ثم قال: يا عوف احفظ خلالا ستا بين يدي الساعة: إحداهن موتى، قال عوف: فوجمت عندها وجمة شديدة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قل إحدى، فقلت: إحدى، ثم قال: فتح بيت المقدس، أظنه قال: ثم موتان يظهر فيكم يستشهد اللَّه به ذراريكم، وأنفسكم، ويزكى به أموالكم، ثم استفاضة المال بينكم، وذكر الحديث.
وهذه الستة قد وقع بعضها، فمات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفتح بيت المقدس في خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ووقع الطاعون، ثم استفاض المال في خلافة عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال الوليد بن مسلم، قال سعيد بن عبد العزيز: زاد عثمان الناس عامة مائة دينار، ومائة دينار في عطياتهم، قالوا: وكانت الفتنة الرابعة من الآيات الستة مقتل بالشام، والعراق، وخرسان بين الفرق والعصبية، ولا نزال متتابعة حتى تقع فتنة الروم.
ومن طريق ابن وهب قال [ (2) ] : أخبرني ابن لهيعة، عن عبد اللَّه بن حبان أنه سمع سليمان بن موسى يذكر أن الطاعون وقع بالناس يوم جسر عموسة، فقام عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: يا أيها الناس إنما هذا الوجه رجس فتنحوا منه، فقال شرحبيل بن حسنة: يا أيها الناس إني قد سمعت قول صاحبكم، وإني واللَّه لقد أسلمت، وصليت وإن عمرا لأضلّ من بعير أهله، وإنما هو بلاء أنزله اللَّه فاصبروا، فقام معاذ بن جبل، فقال: يا أيها الناس إني قد سمعت قول صاحبيكم هذين، وإن هذا الطاعون رحمة ربكم،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 383- 385، باب ما جاء في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالطاعون الّذي وقع بالشام في أصحابه في عهد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 385.(13/191)
ودعوة بينكم،
وإني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنكم ستقدمون الشام، فتنزلون أرضا يقال لها جسر عموسة [ (1) ] ، فتخرج لكم فيها جرجان لها ذباب كذباب الدمل يستشهد اللَّه به أنفسكم، وذراريكم، ويزكى به أموالكم، اللَّهمّ إن كنت تعلم أني سمعت هذا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فارزق معاذا، وآل معاذ من ذلك الحظ الأوفى، ولا تعافه منه، قال: فطعن في السبابة، فجعل ينظر إليها ويقول: اللَّهمّ بارك فيها فإنك إذا باركت في الصغير كان كبيرا، ثم طعن ابنه، فدخل عليه، فقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (2) ] ، قال:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ (3) ] .
قال المؤلف- رحمة اللَّه عليه-: وقوله في هذا الحديث: وأن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم،
يشير إلى حديث يحيى بن أبي بكير، قال: عن أبي بكر النهشلي، عن رماد بن علابة عن أسامة بن شريك، قال: خرجنا في اثنى عشر من بني ثعلبة، فبلغنا أن أبا موسى نزل منزلا، فأتيناه، فسمعناه يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: اللَّهمّ اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون، قلنا: يا رسول اللَّه هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال:
وخز أعدائكم وذراريكم من الجن، وفي كل شهداء [ (4) ] .
وخرج ابن عساكر من طريق هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحي، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن بشر بن مرة، عن معاذ بن جبل،
__________
[ (1) ] لم أجد لهذا الموضع ذكر فيما بين يديّ من معاجم البلدان.
[ (2) ] البقرة: 147.
[ (3) ] الصافات: 102، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 218- 219، حديث رقم (17299) ، من حديث شرحبيل بن حسنة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 5/ 537، حديث رقم (19034) ، من حديث أبي موسى الأشعريّ. وفي (الفتوح) لابن أعثم الكوفي: واشتدّ الطاعون بالشام، وفشا الموت في الناس، فقال عمرو بن العاص: أيها الناس! إنّ هذا الوباء قد وقع فيكم، إنما هو وخز من الجن فمن أقام به هوى، ومن انحاز عنه نجا. (الفتوح) : 1/ 313، ذكر الطاعون الّذي وقع بالشام، ومن مات هنالك من المسلمين.(13/192)
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تنزلون منزلا يقال له: الجاثية، يصيبكم فيه ذباب مثل عدة الجمل يستشهد اللَّه به أنفسكم، ودراركم، ويزكى أبدانكم.
وخرجه الطبراني إلا أنه قال: كما يستشهد اللَّه به أنفسكم ودراركم، ويزكى به أعمالكم.
وقال سيف بن عمر: قالوا: ووقع الطاعون بالشام، ومصر، والعراق، واستقر في الشام، ومات فيه الناس الذين هم في أهل الأمصار، وفي المحرم، وصفر، يعني سنة سبع عشرة وارتفع عن الناس، وكتبوا إلى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بإخلاء الشام، قالوا: وكان ذلك الطاعون موتانا لم ير مثيله طمع له العدو في [الناس] وتخوفت له قلوب المسلمين [لما] كثر موته، وطال مكثه، حتى [ما] تكلم في ذلك اثنان فاختلفوا، فأمر معاذ بن جبل- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالصبر حتى ينجلي، وأمر عمر بن عبسة بالتنحي، ثم ذكر سيف كلامهم في ذلك.(13/193)
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتن تموج كموج البحر وأنها تكون بعد قتل عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرج البخاريّ من حديث حفص بن غياث، عن الأعمش، عن شقيق سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذ فقال: * يكم يحفظ قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، يكفرها الصلاة، والصدقة والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر،
قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، فقال:
ليس عليك منها يا أمير المؤمنين بأس، إن بينك وبينها بابا مغلقا.
قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر، قال عمر: إذن لا يغلق الباب أبدا، قلت: أجل، قلت لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: من الباب؟ قال عمر [ (1) ] .
وخرّجه مسلم من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الفتنة كما قال؟ قال: قلت: أنا، قال: إنك لجريء، وكيف قال؟ قلت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده وجاره، يكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر
فقال عمر: ليس هذا أريد إنما أريد، التي تموج كموج البحر، قال: فقلت:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 60، كتاب الفتن، باب (17) الفتنة التي تموج كموج البحر، وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتغلت وشب ضرامها ... ولت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء ينكسر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل(13/194)
مالك، ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أفيكسر الباب، أو يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا، قال:
فقلنا لحذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: هل كان عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: عمر [ (1) ] .
وخرّجه من حديث وكيع، وجرير، وعيسى بن يونس، ويحيى بن عيسى كلهم، عن الأعمش، بهذا الإسناد نحو حديث أبي معاوية، وفي حديث عيسى، عن الأعمش، عن شقيق، قال: سمعت حذيفة يقول [ (2) ] .
وخرّجه من حديث سفيان، عن جامع بن أبي راشد والأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: قال عمر: من يحدثنا عن الفتنة، واقتص بنحو حديثهم [ (3) ] .
وخرّجه البخاريّ في كتاب الصلاة، وفي كتاب الزكاة، وفي أول المناقب، وفي أبواب علاماتها النبويّة.
وخرّج الإمام أحمد [ (4) ] حديث أبي عوانة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عزرة بن قيس، عن خالد بن الوليد، قال: كتب إليّ أمير المؤمنين حين ألقى الشام، بوانية بثينة وعسلا- وشك عفان، مرة قال: حين ألقى الشام كذا وكذا- فأمرني أن أسير إلى الهند والهند، في أنفسنا يومئذ البصرة، قال: وأنا لذلك كاره، قال: فقام رجل فقال لي: يا أبا سليمان، اتّق اللَّه فإن الفتن قد
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 233- 234، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (7) في الفتنة التي تموج كموج البحر، حديث رقم (26) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (27) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم، وأخرجه مسلم مطولا في كتاب الإيمان، باب (65) بيان أن الإسلام بدا غريبا وسيعود غريبا وأنه ليزار بين المسجدين، حديث رقم (231) .
[ (4) ] (مسند أحمد) : 5/ 51، حديث رقم (16379) من حديث زيد بن العوام.(13/195)
ظهرت، قال: فقال: وابن الخطاب حيّ؟! إنما تكون بعده، والناس بذي بليان- أو بذي بليان- بمكان كذا وكذا، فينظر الرجل فيتفكر، هل يجد مكانا لم ينزل به ما نزل بمكانه الّذي هو فيه من الفتنة والشر، فلا يجده، قال: وتلك الأيام التي ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين يدي الساعة أيام الهرج، فنعوذ باللَّه أن تدركنا وإياكم تلك الأيام.(13/196)
وأما إنذاره عثمان بن عفان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بالبلوى التي أصابته فقتل فيها
خرّج البخاريّ [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نمر، عن سعيد بن المسيب قال: أخبرنى أبو موسى الأشعريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه توضأ في بيته، ثم خرج، فقلت: لألزمنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأكوننّ معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: خرج ووجه هاهنا.
قال: فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، قال: فجلست عند الباب- وبابها من جريد- حتى قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاجته، وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اليوم، فجاء أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك،
قال: فذهبت، فقلت: يا رسول اللَّه هذا أبو بكر يستأذن، قال: ائذن له وبشره بالجنة.
قال: فأقبلت حتى قلت لأبى بكر: ادخل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد اللَّه بفلان يريد أخاه خيرا يأت
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 25، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (5) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو كنت متخذا خليلا، حديث رقم (3674) . وأخرجه أيضا في كتاب الأدب، باب (119) من نكت العود في الماء والطين، حديث رقم (6216) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 180- 181، كتاب فضائل الصحابة، باب (3) من فضائل عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (29) .(13/197)
به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب فقلت:
على رسلك، ثم جئت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسلمت عليه، وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فقلت له ادخل ويبشرك رسول اللَّه بالجنة، قال: فدخل، فجلس مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد اللَّه بفلان خيرا يعنى أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه.
وقال البخاريّ: على بلوى تصيبه، قال: فجئت، فقلت: ادخل ويبشرك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل، فوجد القفّ قد مليء، فجلس، وجاههم من الشقّ الآخر، قال شريك: قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم [ (1) ] ، ذكره البخاريّ في مناقب أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وخرّجه مسلم [ (2) ] من حديث سليمان بن بلال، قال: أخبرني شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر قال: سمعت سعيد بن المسيب بنحوه أو قريب منه.
وخرّجاه من حديث محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن شريك، وخرجاه أيضا من حديث عثمان بن غياث، قال: حدثني أبو النهدي، عن أبي موسى، ومن حديث حماد، عن أيوب، عن أبي عثمان النهديّ [ (3) ] .
وخرّجه الترمذيّ [ (4) ] من طريق حماد به، وقال: هذا حديث صحيح، وقد روى من غير وجه، عن أبي عثمان النهديّ، وقال الحافظ أبو القاسم بن
__________
[ (1) ] هذه رواية مسلم، والقف: حافة البئر. رقم (29) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي قبل الحديث رقم (9) بدون رقم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي قبل الحديث رقم (29) بدون رقم.
[ (4) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 589- 590، كتاب المناقب، باب (19) ، مناقب عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (3710) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن أبي عثمان النهديّ، وفي الباب عن جابر وابن عمران- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.(13/198)
عساكر: والحديث محفوظ من مسند أبي موسى، رواه عن صفية، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهديّ وابنه أبو بردة.
وخرّجه البيهقيّ [ (1) ] من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور، عن إبراهيم بن محمد بن حاطب، عن عبد الرحمن بن بجير، عن زيد بن أرقم قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: انطلق حتى تأتي أبا بكر، فتجده في داره جالسا محتبيا، فقل: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أبشر بالجنة، ثم انطلق حتى تأتي الثنية، فتلقى عمر راكبا على حمار تلوح صلعته، فقل إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر بالجنة، ثم انصرف حتى تأتي عثمان فتجده في السوق، وهو يبيع ويبتاع، فقل: إن النبي يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر بالجنة بعد بلاء شديد، قال: فانطلقت حتى أتيت أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فوجدته في داره جالسا محتبيا كما قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت:
إن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر بالجنة، قال: فأين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلت: في مكان كذا وكذا قال: فقام، فانطلق إليه، قال: ثم أتيت الثنية، فإذا عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- راكب على حمار [ (2) ] تلوح صلعته كما قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقلت: إن نبي اللَّه يقرأ عليك السلام ويقول أبشر بالجنة، قال: فأين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقلت: في مكان كذا وكذا، فانطلق له قال: ثم انطلقت إلى السوق فأجد عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فيها يبيع ويبتاع كما قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقلت: إن نبي اللَّه يقرأ عليك السلام ويقول أبشر بالجنة بعد بلاء شديد، قال: فأين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقلت:
في مكان كذا وكذا، قال: فأخذ بيدي وأقبلنا جميعا حتى أتينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا نبيّ اللَّه إن زيدا أتاني فقال: إن نبي اللَّه يقرأ عليك السلام ويقول:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 389- 390، باب ما جاء في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبلوى التي أصابت عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- والفتنة التي ظهرت في أيامه، والعلامة التي دلت على قبره وقبر صاحبيه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «على جمله» ، وما أثبتناه أجود للسياق، وهو مطابق لصدر الحديث.(13/199)
أبشر بالجنة بعد بلاء شديد! وأي بلاء يصيبني يا رسول اللَّه؟ والّذي بعثك بالحق ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك، فأيّ بلاء يصيبني؟ فقال: هو ذاك.
قال البيهقيّ: عبد الأعلى [ (1) ] بن أبي المساور ضعيف في الحديث، فإن كان حفظ هذا فيحتمل أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث زيد بن أرقم وأبو موسى لم يعلمه فقعد على الباب، فلما جاءوا راسلهم على لسان أبي موسى بمثل ذلك.
قال المؤلف- رحمه اللَّه وعفى عنه- قد خرّج ابن عساكر حديث البئر من طريق بكر بن المختار ومن طريق عبد الأعلى عن أبي المساور وكلاهما عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
ومن طريق المبارك بن فلفل أخي المختار عن أنس، ومن طريق أبي معاوية، عن عمرو بن سلمة، عن أبي حازم، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وخرّج معناه من حديث إسماعيل بن قيس، عن أبيه قيس بن زيد بن ثابت، ومن حديث زيد بن أبي أنيسة، عن محمد بن عبد اللَّه، عن المطلب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وخرّج البيهقيّ [ (2) ] من من حديث يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي سهلة مولى عثمان بن عفان، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ادع لي أو ليت عندي رجل من أصحابي، قالت: قلت: أبو بكر؟ قال: لا، قالت:
__________
[ (1) ] عبد الأعلى بن أبي المساور، قال البخاريّ: منكر الحديث، وقال يحيى بن معين وأبو داود:
ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وقال الدار الدّارقطنيّ: متروك، وذكره العقيلي في (الضعفاء الكبير) ، وابن حبان في (المجروحين) وقال: كان ممن يروي عن الأثبات ما لا يشبه حديث الثقات حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معمولة.
وهو الّذي روي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أتى منكم الجمعة فليغتسل فإنه كفارة من الجمعة إلى الجمعة.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 391.(13/200)
قلت: عمر؟ قال: لا، قلت: ابن عمك علي؟ قال: لا، قلت: فعثمان؟ قال:
نعم، قال: فجاء عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: قومي، قال:
فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار [ (1) ] قلنا:
ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عهد إليّ أمرا فأنا صابر نفسي عليه [ (2) ] .
وخرّجه الترمذيّ من حديث يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن خالد، عن قيس [بن أبي حازم] حدثني أبو سهلة قال: قال عثمان يوم الدار: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عهد إليّ عهدا فأنا صابر عليه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد [ (3) ] .
وللبيهقي من حديث إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمر مولى المطلب [ (4) ] ، عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم ويرث دنياكم شراركم» [ (5) ] .
وقد خرّجه أبو عيسى من حديث عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد اللَّه وهو ابن عبد الرحمن الأنصاري الأشهليّ، عن حذيفة بن اليمان أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمثله،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمرو [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الدار التي حصر فيها عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) ، حديث رقم (409) ، من مسند عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقال قيس: فكانوا يرونه ذلك اليوم أي يوم الدار.
[ (3) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 590، كتاب المناقب، باب (19) من مناقب عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (3711) . وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، حديث رقم (113) .
[ (4) ] في (دلائل البيهقيّ) : «عبد المطلب- هكذا قال أبو داود- عن حذيفة» .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 319.
[ (6) ] (سنن الترمذيّ) : 4/ 407، كتاب الفتن، باب (9) ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث رقم (2170) . وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1342، كتاب الفتن،(13/201)
وخرج البيهقيّ من طريق عبد اللَّه بن الحكم [المصري] وشعيب بن الليث، قالا: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط التجيبيّ، عن عبد اللَّه بن حوالة [الأسديّ] ، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من نجا من ثلاث فقد نجا، قالوا: ماذا يا رسول اللَّه؟ قال: موتى، وقتل خليفة مصطبر بالحق يعطيه، ومن الدجال [ (1) ] .
وخرّج الترمذيّ من طريق حجين بن المثنى، عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الملك بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: يا عثمان إنه لعل اللَّه يقمّصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم.
قال: وفي الحديث قصة طويلة. قال: هذا حديث حسن غريب [ (2) ] .
وخرّجه البيهقيّ من حديث عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني الليث قال:
حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف أنه حدثه أنه جلس يوما مع شفيّ الأصبحي فقال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: سيكون فيكم اثنا عشر خليفة:
أبو بكر الصديق لا يلبث خلفي [ (3) ] إلا قليلا، وصاحب رحى دار العرب يعيش حميدا ويموت شهيدا، فقال رجل: يا رسول اللَّه! ومن هو؟ قال:
عمر بن الخطاب، ثم التفت إلى عثمان فقال: وأنت يسألك الناس أن تخلع
__________
[ () ] باب (25) أشراط الساعة، حديث رقم (4043) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) :
6/ 537، حديث رقم (22791) ، من حديث حذيفة بن اليمان.
[ (1) ] (سنن البيهقيّ) : 6/ 392.
[ (2) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 587، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حديث رقم (3705) .
[ (3) ] في (الأصل) : «بعدي» وما أثبتناه من (دلائل البيهقيّ) .(13/202)
قميصا كساكه اللَّه- عز وجل- والّذي بعثني بالحق لئن خلعته لا تدخل الجنة حتى بلج الجمل في سمّ الخياط [ (1) ] .
وخرّجه الطبراني من طريق بقية عن صفوان بن عمرو بن يزيد عن النعمان بن بشير قال: حججت فأتيت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: من أنت فقلت أنا النعمان فقالت ابن بشير؟ فقلت: نعم
فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوما لعثمان: إن كساك اللَّه ثوبا فأرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه.
قال النعمان: فقلت: غفر اللَّه لك يا أم المؤمنين ألا ذكرت هذا حين جعلوا يختلفون إليك؟ فقالت فقلت: أنسيته حتى بلغ اللَّه فيه أمره.
وخرّجه الإمام أحمد من طريق الوليد بن سليمان قال: حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد اللَّه بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة قالت: أرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عثمان بن عفان فأقبل عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما رأينا رسول اللَّه أقبلت إحدانا على الأخرى فكان من آخر كلام كلمه، أن ضرب منكبه وقال: يا عثمان إن اللَّه- عز وجل- عسى أن يلبسك قميصا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثا
فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: أنسيته واللَّه فما ذكرته، قال فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بما أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين، أن اكتبى إليّ به، فكتبت به إليه كتابا [ (2) ] .
قال المؤلف- رحمه اللَّه- ورواه فرج بن فضالة عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهريّ، عن عروة عن عائشة.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 392- 393، وسمّ الخياط: خرق الإبرة، وهو كناية على الاستحالة، اقتباسا من قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 40] .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 126- 127، حديث رقم (24045) ، من حديث السيدة عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-.(13/203)
ورواه محمد بن عبد الأعلى بن كناسة الأسدي أبو يحيى، عن إسحاق بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، عن ابنه قال: بلغني أن عائشة قالت:
ورواه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وحماد بن سلمة كلاهما عن هشام بن عروة، عن ابنه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-.
ورواه يحيى بن سعيد عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي سلمة، عن عائشة.
ورواه أبو معاوية محمد بن حازم الضرير، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن أبي سهلة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-.
ورواه سفيان بن عيينة وزيد بن أبي أنيسة، عن إسماعيل بن أبي خالد، فجعله من مسند عثمان.
وخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث أرطاة بن المنذر، أخبرني أبو عون الأنصاري أن عثمان بن عفان قال لابن مسعود: هل أنت منته عما بلغني عنك؟
فاعتذر إليه بعض العذر، فقال عثمان: ويحك! إني قد سمعت وحفظت وليس كما سمعت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إنه سيقتل أمير وينتزى منتز
وإني أنا المقتول، وليس عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنما قتل عمر واحد وإنه يجتمع عليّ.
وقال موسى بن عقبة [ (2) ] : حدثني جدي أبو أمي أبو حبيبة أنه دخل الدار وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يستأذن عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في الكلام، فأذن له، فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنكم ستلقون بعدي فتنة، واختلافا، أو قال: اختلافا وفتنة، فقال قائل من الناس: فمن لنا يا رسول اللَّه؟ أو ما تأمرنا به؟ قال:
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 107، حديث رقم (481) ، من مسند عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 393.(13/204)
عليكم بالأمين، وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بذلك.
وقال يعقوب بن سفيان عن عبيد اللَّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن منصور عن ربعيّ بن خراش عن البراء بن ناجية الكاهليّ، عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تدور رحى الإسلام عند رأس خمس، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإلا تروحى عنهم سبعين سنة، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أمن هذا؟ أو من مستقبله؟ قال: من مستقبله. قال البيهقيّ:
تابعه الأعمش، وسفيان الثوريّ، عن منصور [ (1) ] .
وخرّج الحاكم من حديث قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن ربعيّ، عن البراء بن ناجية، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: تدور رحى الإسلام على خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن بقي لهم دينهم سبعين عاما، فقال عمر: يا رسول اللَّه بما بقي؟ أو بما مضى؟ قال: بما بقي،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) من حديث مسدد، عن يزيد بن مروان، عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي عبلة، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: تدور رحى
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 393- 394.
[ (2) ] (المستدرك) 3/ 123، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4593) . وأخرجه الحاكم أيضا في (المستدرك) : 4/ 566، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8589) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، حديث إسناده خارج عن الكتب الثلاث، أخرجته تعجبا إذ هو قريب مما نحن فيه. وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح.(13/205)
الإسلام على خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن بقوا بقي لهم دينهم سبعين سنة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 46، كتاب التاريخ، باب (10) إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، ذكر خبر شنع به بعض المعطلة وأهل البدع على أصحاب الحديث حيث حرموا توفيق الإصابة لمعناه، حديث رقم (6664) وقال: في هامشه:
إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح. سليمان بن أبي سليمان: هو أبو إسحاق الشيبانيّ، والقاسم بن عبد الرحمن: هو القاسم بن عبد اللَّه بن مسعود الهذليّ.
ثم قال بعقب هذا الحديث: هذا خبر شنع به أهل البدع على أئمتنا، وزعموا أن أصحاب الحديث حشوية، يروون ما يدفعه العيان والحسّ، ويصححونه، فإن سئلوا عن وصف ذلك قالوا: نؤمن به ولا نفسّره.
ولسنا بحمد اللَّه ومنه مما رمينا في شيء، بل نقول: إن المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ما خاطب أمته قط بشيء لم يعقل عنه، ولا في سننه شيء لا يعلم معناه، ومن زعم أن السنن إذا صحت يجب أن تروى ويؤمن بها من غير أن تفسر ويعقل معناها، فقد قدح في الرسالة، اللَّهمّ إلا أن تكون في السنن الأخبار التي فيها صفات اللَّه جلّ وعلا، التي يقع فيها التكييف، بل على الناس الإيمان بها.
ومعنى هذا الخبر عندنا مما نقول في كتبنا: إن العرب تطلق اسم الشيء بالكلية على بعض أجزائه، وتطلق العرب في لغتها اسم النهاية على بدايتها، واسم البداية على نهايتها، أراد صلّى اللَّه عليه وسلّم
بقوله: تدور رحى الإسلام على خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين،
زوال الأمر عن بني هاشم إلى بني أمية، لأن الحكمين كان في آخر سنة ست وثلاثين، فلما تلعثم الأمر على بني هاشم وشاركهم فيه بنو أمية، أطلق صلّى اللَّه عليه وسلّم اسم نهاية أمرهم على بدايته، وقد ذكرنا استخلافهم واحدا واحدا إلى أن مات عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وبايع الناس في ذلك يزيد بن عبد الملك، وتوفى يزيد بن عبد الملك ببلقاء من أرض الشام [وهي اليوم إحدى محافظات المملكة الأردنية الهاشمية] يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وبايع الناس هشام بن عبد الملك أخاه في ذلك اليوم، فولّى هشام خالد بن عبد اللَّه القسري العراق، وعزل عمر بن هبيرة في أول سنة ست ومائة، وظهرت الدعاة بخراسان لبني العباس، وبايعوا سليمان بن كثير الخزاعي الداعي إلى بني هاشم، فخرج في سنة ست ومائة إلى مكة، وبايعه(13/206)
قال البيهقيّ: وبلغني أن في هذا إشارة إلى الفتنة التي كان فيها قتل عثمان سنة خمس وثلاثين، ثم إلى الفتن التي كانت في أيام على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأراد بالسبعين- واللَّه أعلم- ملك بني أمية، فإنه بقي ما بين أن استقر لهم الملك إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان، وضعف أمر بنى أمية، ودخل الوهن فيه نحوا من سبعين سنة [ (1) ] .
وخرّج البيهقيّ من حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة أن رجلا حدثه، عن عبد الرحمن بن عديس [ (2) ] أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يخرج أناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون في جبل لبان، أو الجليل، أو جبل لبنان [ (3) ] .
وخرّجه ابن يونس من حديث ابن لهيعة، عن عياش بن عياش، عن الهيثم بن شفيّ، عن عبد الرحمن بن عديس قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يخرج ناس من أمتي يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون في جبل لبنان والخليل [ (4) ] .
ومن حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أخذ ابن عديس في زمن أهل مصر، فجعله في بعلبكّ، فهرب منه، فطلب سفيان بن مجيب فأدركه رجل رام من قريش،
__________
[ () ] الناس لبني هاشم، فكان ذلك تلعثم أمور بني أمية، حيث شاركهم فيه بنو هاشم، فأطلق اسم نهاية أمرهم على بدايته، وقال: وإن بقوا بقي لهم دينهم سبعين سنة، يريد على ما كانوا عليه.
(الإحسان) : 15/ 47- 49.
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 394.
[ (2) ] عبد الرحمن بن عديس بن عمرو بن كلاب البلوي، صحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وسمع منه، وشهد فتح مصر، وكان فيمن سار إلى عثمان.
[ (3) ] أخرجه يعقوب بن سفيان، والبغوي، وابن مندة، وابن السكن، وغيرهم، وهو في (كنز العمال) رقم (31243) وعزاه إلى ابن مندة والطبرانيّ والبيهقيّ وابن عساكر عن عبد الرحمن بن عديس.
[ (4) ] راجع التعليق السابق.(13/207)
فأشار إليه بنشابة، فقال ابن عديس: أنشدك اللَّه في دمي، فإنّي ممن بايع تحت الشجرة، فقال: إن الشجر كثير في الجبل، أو قال: الجليل فقتله، قال ابن لهيعة: كان عبد الرحمن بن عديس البلويّ سار بأهل مصر إلى عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقتلوه، ثم قتل ابن عديس بعد ذلك [ (1) ] [بعام أو اثنين بجبل لبنان أو بالجليل] [ (2) ] .
قال البيهقيّ: ورواه عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن عياش بن عياش، عن أبي الحصين، عن عبد الرحمن بن عديس بمعنى الحديث المرفوع ثمّ في قتله، ورواه عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بمعنى الحديث المرفوع [ (3) ] .
قال البيهقيّ: وبلغني عن محمد بن يحيى الذّهليّ أنه قال: عبد الرحمن البلويّ هو رأس الفتنة لا يحل أن يحدّث عنه بشيء،
وبلغني عن أبي حامد بن الشرقي أنه قال: حدثونا أن عبد الرحمن البلويّ هذا خطب حين حصر عثمان، فقال ابن مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: عثمان أضلّ عيبة بفلاة عليها قفل ضل مفتاحها،
فبلغ ذلك عثمان فقال: كذب البلويّ ما سمعها من عبد اللَّه بن مسعود، ولا سمعها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: قد روى الشاميون عدة أحاديث في مقتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أورد منها الحافظ أبو القاسم بن عساكر جملة في تاريخ دمشق، ولما كلم على عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عند ما بدأ الناس يعينونه، كان مما قاله لعثمان: وإني أحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 394- 395.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 395.
[ (4) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 395.(13/208)
وقال عبد اللَّه بن محمد بن عقيل: قتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سنة خمس وثلاثين، فكانت الفتنة خمس سنين منها أربعة أشهر للحسن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-. قاله الإمام أحمد في (المسند) [ (1) ] .
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأقوام يؤخرون الصلاة
فخرّج مسلم [ (2) ] عن حماد بن زيد، عن أبي عمران الجونيّ، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ، فإنّها لك نافلة.
وخرّج مسلم [ (3) ] والترمذي [ (4) ] من حديث جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال لي رسول
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 119، حديث رقم (551) من مسند عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 152- 153، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (41) كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار، وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام، حديث رقم (238) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (239) .
[ (4) ] (سنن الترمذيّ) : 1/ 332- 333، أبواب الصلاة، باب (129) ما جاء في تعجيل الصلاة إذا أخرها الإمام، حديث رقم (176) .
قال الإمام النووي في (شرح مسلم) : معنى يميتون الصلاة: يؤخرنها فيجعلونها كالميت الّذي خرجت روحه، والمراد بتأخيرها عن وقتها، أي وقتها المختار، لا عن جميع وقتها، فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار، ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها، فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع.
وقال الحافظ في (الفتح) : قال المهلب: المراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب، لا أنهم أخرجوها عن الوقت. كذا قال: وتبعه جماعة، وهو مخالف للواقع، فقد صح أن(13/209)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا ذر إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة، فصلّ الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة وإلا كنت قد أحرزت صلاتك.
وخرّج مسلم [ (1) ] والنسائي [ (2) ] من حديث يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا شعبة، عن بديل قال: سمعت أبا العالية يحدث عن عبد اللَّه بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضرب فخذي: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: فما تأمر؟
قال: صلّ الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد، فصل.
__________
[ () ] الحجاج وأميره الوليد وغيرهما، كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، منها: ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريح عن عطاء قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس، ثم صليت العصر وأنا جالس ايماء وهو يخطب. وإنما فعل ذلك عطاء خوفا على نفسه من القتل.
ومنها ما رواه أبو نعيم- شيخ البخاريّ- في كتاب الصلاة من طريق أبي بكر بن عتبة، قال: صليت إلى جنب أبي جحيفة، فمسي الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة فصلى.
ومن طريق ابن عمر: أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة ترك أن يشهدها معه، فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماء وهما قاعدان.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن عبد اللَّه بن مسعود، وعبادة بن الصامت، قال: وحديث أبي ذر حديث حسن [بل هو حديث صحيح، رواه مسلم، وأبو داود، والدارميّ، ونسبه إلى المنذريّ أيضا وابن ماجة] .
قال أبو عيسى: وهو قول غير واحد من أهل العلم: يستحبون أن يصلي الرجل الصلاة لميقاتها إذا أخرها الإمام، ثم يصلى مع الإمام، والصلاة الأولى المكتوبة عند أكثر أهل العلم.
وأبو عمران الجونيّ اسمه: عبد الملك بن حبيب.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 155، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (41) كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار، وما يفعله المأموم إذا أخرها، حديث رقم (241) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 2/ 409- 410، كتاب الإمامة، باب (2) الصلاة مع أئمة الجور، حديث رقم (777) .(13/210)
وخرّجاه [ (1) ] من حديث إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن أبي العالية البراء قال: أخر ابن زياد الصلاة، فجاءني عبد اللَّه بن الصامت، فألقيت له كرسيا، فجلس عليه، فذكرت له صنيع ابن زياد، فعض على شفته وضرب على فخذي وقال: إني سألت أبا ذرّ كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك، وقال: إني سألت رسول اللَّه ص كما سألتني، فضرب فخذي كما ضربت فخذك، وقال: صلّ الصلاة لوقتها فإن أدركتك الصلاة معهم فصلّ ولا تقل: إني قد صليت، فلا أصلي.
وخرّجاه [ (2) ] من حديث خالد بن الحارث قال: عن شعبة، عن أبي نعامة، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذر قال: كيف أنتم؟ أو قال: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ فصلّ الصلاة لوقتها، ثم إن أقيمت الصلاة فصلّ معهم فإنّها زيادة خير.
وخرّج مسلم [ (3) ] من طريق مطر، عن أبي العالية البراء قال: قلت لعبد اللَّه بن الصامت: نصلي يوم الجمعة خلف أمراء، فيؤخرون الصلاة، قال:
فضرب فخذي ضربة أوجعتني وقال: سألت أبا ذر عن ذلك، فضرب فخذي، وقال: سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك، فقال: صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة.
ولابن الجارود من حديث أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لعلكم تدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم، فصلوا في بيوتكم الوقت الّذي تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها تسبيح.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : حديث رقم (242) ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : حديث رقم (243) ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : حديث رقم (244) ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ثم قال بعقبة:
قال: وقال عبد اللَّه: ذكر لي أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرب فخذ أبي ذر.(13/211)
وقال ابن عبد البر: وقد روى الخبر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عبادة بن الصامت، وعامر بن ربيعة، وقبيصة بن وقاص، ومعاذ بن جبل، كما رواه أبو ذر، وابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- وهي آثار صحاح كلها ثابتة.
خرّج البيهقيّ من طريق عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه سيلي أمركم قوم يطفئون السنة، ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها.
قال ابن مسعود: فكيف أصنع يا رسول اللَّه إن أدركتهم؟ قال: يا ابن أم عبد لا طاعة لمن عصى اللَّه، قالها ثلاثا [ (1) ] .
ومن طريق ابن خثيم، عن القاسم بن عبد الرحمن أن أباه أخبره أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة بالكوفة وأنا جالس مع أبي في المسجد، فقام عبد اللَّه بن مسعود، فثوب بالصلاة، فصلى بالناس، فأرسل الوليد إليه: ما حملك على ما صنعت، أجاءك من أمير المؤمنين أمر؟ فسمع وطاعة، أم ابتدعت الّذي صنعت؟ قال: لم يأتنا من أمير المؤمنين أمر، ومعاذ اللَّه أن أكون ابتدعت أبى اللَّه علينا ورسوله أن ننتظرك في صلاتنا ونتبع حاجتك [ (2) ] .
وروى ابن يونس من طريق عيسى بن حماد، عن ابن وهب، عن عمرو بن مالك، وحيوة بن شريح، عن ابن الهاد، قال: خرجت أنا وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن القاسم، فقال ربيعة: سأل رجل القاسم بن محمد وأنا وعبد الرحمن معه، وذلك في إمرة ابن حبان، وكان ابن حبان يؤخر الصلاة، وكان الناس يومئذ لا يصلون الصلاة معهم حتى يذهب وقتها، فقال له رجل: يا أبا محمد صليت قبله؟ - يعني ابن حبان- قال: نعم، قال:
وتصلي معهم أيضا؟ قال: نعم، قال: تصلي مرتين؟ فقال القاسم: نعم أصلى مرتين أحب إليّ من أن لا أصلي.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 396، باب ما جاء في في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن مسعود وغيره بأنهم يدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، وما ظهر من صدقة فيما قال. وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجهاد، باب (40) لا طاعة في معصية اللَّه، حديث رقم (2865) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 397.(13/212)
وقال عيسى بن حماد: قلت لعبد اللَّه بن وهب: فما كان يمنعهم أن يصلوا في منازلهم، ولا يحضروا معهم؟ قال: لم يكن يمكنهم ذلك، كان من تخلف عنهم عوقب أشد العقوبة.
قال ابن وهب: حدثني الحارث بن نبهان، عن سليمان بن عمرو عن محمد بن إسماعيل قال: كنت بين عطاء، وسعيد بن جبير، والحجاج بن يوسف يخطب، وقد أخر الصلاة حتى كادت تفوت، قال: فرأيت عطاء، وسعيد بن جبير يصليان إيماء.
وذكر ابن عبد البر من حديث حفص بن غياث، عن عقبة بن معتب، قال: كنا نصلي مع الحجاج الجمعة، ثم ننصرف فنبادر مسجد سماك نصلي العصر.
وعن ابن جريح، عن عطاء قال: أخّر الوليد مرة الجمعة حتى أمسى، قال: فصلينا الظهر قبل أن أجلس، ثم صليت العصر وأنا جالس وهو يخطب، قال أضع يدي على ركبتي، وأومى إيماء برأسي.
وعن الثوري، عن محمد بن إسماعيل قال: رأيت سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، أخّر الوليد بن عبد الملك الصلاة، فرأيتهما يومئان إيماء وهما قاعدان.
وعن الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق وأبى عبيدة أنهما كانا يصليان الظهر إذا حانت الظهر، وإذا حانت العصر صليا العصر في المسجد مكانهما، وكان ابن زياد يؤخر الظهر والعصر.
وعن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق قال: كان يأمرنا أن نصلي الجمعة في بيوتنا، ثم نأتي المسجد وذلك أن الحجاج كان يؤخر الصلاة.
وقال أبو زرعة عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز قال: كانوا يؤخرون الصلاة في أيام الوليد بن عبد الملك، ويستحلون الناس أنهم ما صلوا، فأتى عبد اللَّه بن أبي زكريا، فاستحلف أنه ما صلى، وقد كان صلى، وأتى مكحول، فقال: فلما جئنا إذن؟ فترك.
قال ابن عبد البر: وكانت ملوك بنى أمية على تأخير الصلاة، كان ذلك شأنهم قديما من زمن عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقد كان الوليد(13/213)
ابن عقبة يؤخرها في زمن عثمان، وكان ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ينكر ذلك عليه، ومن أجل ذلك حدث ابن مسعود بالحديث في ذلك، وكانت وفاة ابن مسعود في خلافة عثمان، قال: وإنما صلّى من صلّى إيماء وقاعدا لخوف خروج الوقت، وللخوف على نفسه القتل والضرب، ومن كان شأنه التأخير لم يؤمن عليه فوات الوقت من المدينة والشام إلا على إنكاره عليهم تأخير الصلاة، ولا يصح عندي إخراجه من المدينة ذلك، وإنما حمل العلماء- واللَّه أعلم- الصلاة معهم أمره صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك، وحضه على لزوم الجماعة،
وفي قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي ذر: كيف بك يا أبا ذر إذا كان عليك أمراء؟
ويقوله لكبار الصحابة الذين رووا الحديث: يكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة، دليل على تأخير الصلاة عن وقتها، وقد كان قبل زمن الوليد بن عبد الملك لأن أبا ذر توفى في خلافة عثمان بالربذة [ (1) ] ، ودفن بها على قارعة الطريق، وصلّى عليه ابن مسعود منصرفه من الكوفة إلى المدينة، وتوفى ابن مسعود بالمدينة بعد ذلك بيسير، وفي
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث أبي ذر وغيره: سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها،
ولم يقل: خلفا، دليل على أن عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لم يكن يؤخر الصلاة، ولا يظن ذلك مسلم به لأن عثمان من الخلفاء لا من الأمراء،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، فسماهم خلفاء، وقال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم إمارة، وملكا، وجبروتا،
فتضمنت الخلافة هذه الأربعة.
__________
[ (1) ] الرَّبَذَة: من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، وبهذا الموضع قبر أبي ذرّ الغفاريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- واسمه جندب بن جنادة. (معجم البلدان) : / 27، موضع رقم (5353) مختصرا.(13/214)
وأما ظهور صدقة صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما قال لعقبة بن أبي معيط في صبيته
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم قال: أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقا، فقال له عمارة بن عقبة: عن أبي معيط تستعمل رجلا من بقايا قتله عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-،
فقال له مسروق: عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، وكان في أنفسنا موثوق الحديث، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أراد قتل أبيك قال: من للصبية قال: النار، فقد رضيت لك ما رضي لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال الإمام أحمد [ (2) ] : عن فياض بن محمد الرقى، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي، عن عبد اللَّه الهمدانيّ، عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رءوسهم، ويدعو لهم، فجيء بي إليه وإني مطيب بالخلوق فلم يمسح على رأسي ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني بالخلوق فلم يمسني من أجل الخلوق.
قال الإمام أحمد [ (3) ] وقد روي أنه مسح يومئذ فقذره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يمسه ولم يدع له الخلوق ولا يمنع من الدعاء لطفل في فعل غيره لكنه منع بركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسابق علم اللَّه فيه.
قال المؤلف- رحمه اللَّه وعفى عنه-: عبد اللَّه الهمزاني على الشك أبو موسى قال ابن عدي: لا يصح حديثه، قال البخاريّ [ (4) ] : قال ابن عدي
__________
[ (1) ] (سنن البيهقيّ) : 9/ 65، كتاب السير، باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 615- 616، حديث رقم (15944) . من حديث الوليد بن عقبة بن أبي معيط- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(13/215)
وعبد اللَّه الهمدانيّ: لم ينسب ولم أعرفه إلا هكذا، وقال ابن عبد البر وأبو موسى: هذا محمول والحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقا في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صبيا يوم الفتح، ويدل أيضا على فساد ما رواه أبو موسى مجهول، إن الزبير وغيره من أهل العلم اليسير والخبر، ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة وكانت هجرتها في الهدنة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبين أهل مكة ومن كان غلاما مخلقا يوم الفتح يجيء منه مثل هذا وذلك واضح والحمد للَّه.
__________
[ () ] (4) (جامع الأصول) : 4/ 746، حديث رقم (2879) ، أخرجه أبو داود رقم (4181) في الترجل، باب في الخلوق للرجال، ومن حديث جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد اللَّه الهمدانيّ، عن الوليد بن عقبة، وقال فيه غيره: عن أبي موسى الهمدانيّ، عن الوليد ابن عقبة، ويقال: الهمدانيّ، قاله جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، ولا يصح حديثه. وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقيّ: إن عبد اللَّه الهمدانيّ هو أبو موسى. وقال الحاكم أبو أحمد: الكرابيسي وليس يعرف أبو موسى الهمدانيّ، ولا عبد اللَّه الهمدانيّ، وقد خولف في هذا الإسناد. وقال ابن أبي خثيمة: أبو موسى الهمدانيّ اسمه عبد اللَّه، وهذا حديث مضطرب الإسناد، ولا يستقيم عن أصحاب التواريخ أن الوليد بن عقبة كان يوم فتح مكة صغيرا، وقد روي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثه ساعيا إلى بني المصطلق، وشكته زوجته إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وروي أنه قدم في فداء من أسر يوم بدر.
وقال أبو عمر النمري: وهذا الحديث رواه جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن أبي موسى الهمدانيّ، ويقال: الهمدانيّ، كذلك ذكره البخاريّ على الشك، عن الوليد بن عقبة.
قالوا: وأبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقا في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صبيا يوم الفتح، وبدل على فساد ما رواه أبو موسى المجهول:
أن الزبير بن بكار وغيره ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، وكانت هجرتها في الهدنة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين أهل مكة. ومن كان غلاما مخلقا يوم الفتح ليس يجيء منه مثل هذا، ثم قال: وله أخبار فيها نكارة وشناعة. وقال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : عبد اللَّه الهمدانيّ أو أبو موسى مجهول، وخبره منكر، قاله ابن عبد البر.(13/216)
وقال عبد الرزاق [ (1) ] : عن معمر، عن قتادة في قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [ (2) ] قال: بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الوليد بن عقبة إلى بنى المصطلق، فأتاهم الوليد بن عقبة فخرجوا يتلقونه، ففرقهم فرجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ارتدوا، فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد، فلما دنا منهم، بعث عيونا ليلا فإذا هم يصلون وينادون فأتاهم خالد، فلم ير منهم إلا طاعة وخيرا، فرجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فأنزل اللَّه الآية- وقال ابن عبد البر: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله- عز وجل- إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ نزلت في الوليد بن عقبة وذكر ذلك عن مجاهد وقتادة وابن أبي ليلى.
ومن حديث الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة في قصة ذكرها أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [ (3) ] .
قال ابن عبد البر [ (4) ] : وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون: كان الوليد بن عقبة فاسقا شريب خمر وكان شاعرا كريما [تجاوز اللَّه عنا وعنه] قال أبو عمر بن عبد البر: أخباره في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة يسمج بنا ذكرها هنا، وله أخبار فيها نكارة وشناعة بقطع على سوء حاله، وقبح أفعاله، غفر اللَّه لنا وله، فلقد كان من رجالات قريش ظرفا وحلما وشجاعة وأدبا وكان من الشعراء المطبوعين، وتذكر منها طرفا: ذكر عمر بن شبة قال: عن هارون بن معروف عن ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب قال: صلى الوليد [ابن عقبة] بأهل الكوفة الصبح أربع ركعات، ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ فقال عبد اللَّه بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم.
__________
[ (1) ] (تفسير عبد الرزاق) : 2/ 188، تفسير سورة الحجرات، مسألة رقم (2929) .
[ (2) ] الحجرات: 6.
[ (3) ] السجدة: 18.
[ (4) ] (الإستيعاب) : 4/ 1552- 1557، ترجمة رقم (2721) .(13/217)
قال: وحدثنا محمد بن حميد، عن جرير، عن الأجلح، عن الشعبي في حديث الوليد بن عقبة حين شهدوا عليه فقال الخطيئة: في ذلك:
شهد الخطيئة يوم يلقي ربه ... أن الوليد أحق بالغدر
نادي وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم سكرا وما يدري
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كفّوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
وقال أيضا:
تكلم في الصلاة وزاد فيها ... علانية وجاهر بالنفاق
ومج الخمر في سنن المصلي ... ونادي والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني ... فما لكم وما لي من خلاق
قال ابن عبد البر: وخبر صلاته بهم وهو سكران، وقوله لهم: أزيدكم بعد أن صلى الصبح أربعا، مشهورة من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الإخبار.
وقد روى فيما ذكر الطبري: أنه تعصب عليه قوم من أهل الكوفة بغيا وحسدا وشهدوا عليه زورا أنه تقيأ الخمر، وذكر القصة، قال ابن عبد البر:
وهذا الخبر من نقل أهل الأخبار لا يصح عند أهل الحديث: ولا له عند أهل العلم أصل، والصحيح عندهم في ذلك ما رواه عبد العزيز بن المختار وسعيد بن أبي عروبة، عن عبد اللَّه الداناج، عن حصين بن المنذر أبي ساسان، أنه ركب إلى عثمان فأخبره بقصة الوليد، وقدم على عثمان رجلان فشهدا عليه بشرب الخمر، وأنه صلى صلاة الغداة بالكوفة أربعا، ثم قال:
أزيدكم؟ فقال أحدهما: رأيته يشربها، وقال الآخر: رأيته يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها. وقال لعلي: أقم عليه الحد،
فقال عليّ لابن أخيه عبد اللَّه بن جعفر أقم عبد اللَّه بن جعفر أقم عليه الحد، فأخذ السوط، فجلده وعثمان يعد، حتى بلغ أربعين، فقال عليّ: أمسك، جلد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة.
قال ابن عبد البر: وكان معاوية لا يرضاه، وهو الّذي حرضه على قتال عليّ، فرب حريص محروم.(13/218)
وذكر له ابن عبد البر [ (1) ] في تحريضه معاوية على قتال عليّ أتركها طلبا للاختيار.
وقد سمع أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- رحمه اللَّه- فيما ذكر من تعصب القوم، قال الوليد: وإنهم شهدوا عليه بالزور، سيف بن عمر فإنه أورد ذلك في كتاب (الردة) له، ولولا خوف الإطالة لنقلت ما رواه من ذلك.
وقد خرّج البيهقيّ حديث عبد اللَّه الداناج من طريق سعيد بن أيوب قال يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد اللَّه الداناج فذكره.
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفتن من بعده فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم ووقعت الفتنة في آخر أيام عثمان وفي أيام علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما
فخرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث ابن عيينة أنه سمع الزهريّ، عن عروة، عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من النوم محمرا وجهه يقول: لا إله إلا اللَّه ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه- وعقد سفيان تسعين أو مائة- قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 4/ 1555، ترجمة رقم (2721) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 470، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (7) قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم (3346) ، وفي كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3598) . وأخرجه في كتاب الفتن، باب (4) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويل للعرب من شر قد اقترب، حديث رقم (7059) .(13/219)
وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث سفيان بهذا الإسناد ولفظه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استيقظ من نومه وهو يقول لا إله إلا اللَّه ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه- وعقد سفيان بيده عشرة- قلت: يا رسول اللَّه أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
وخرّجه مسلم [ (2) ] من حديث يونس عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أن زينب بنت جحش قالت: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما فزعا محمرا وجهه يقول لا إله إلا اللَّه ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها فقلت: يا رسول اللَّه أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: نعم إذا كثر الخبث.
وخرّجه من حديث الليث [ (3) ] قال: حدثني عقيل بن خالد، ومن حديث إبراهيم بن سعد قال أبي: عن صالح كلاهما عن ابن شهاب بمثل حديث يونس، عن الزهريّ بإسناده.
وخرّجه البخاريّ في كتاب الأنبياء [ (4) ] من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 219- 220، كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (1) اقتران الفتن، وفتح ردم يأجوج ومأجوج، حديث رقم (1) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2) .
قال الإمام النووي: هذا الإسناد اجتمع فيه أربع صحابيات: زوجتان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وربيبتان له بعضهن عن بعض، ولا يعلم حديث اجتمع فيه أربع صحابيات بعضهن عن بعض غيره.
قوله (أنهلك وفينا الصالحون؟) قال: إذا كثر الخبث
هو بفتح الخاء والباء وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنا خاصة، وقيل أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقا ويهلك بكسر اللام على اللغة الفصيجة المشهورة وحكى فتحها وهو ضعيف، أو فاسق ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون.
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي بين (2) ، (3) بدون رقم.
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 470، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (7) قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم (3346) وأطرافه في (3598) ، (7050) ، (7135) .(13/220)
وخرّجه في كتاب الفتن [ (1) ] من حديث محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن عروة مثل حديث عقيل.
وخرّجه في باب علامات النبوة [ (2) ] في الإسلام من حديث شعيب، عن الزهريّ قال: أخبرني عروة نحو حديث عقيل، ولأبي داود [ (3) ] من حديث عقيل، ولأبي داود من حديث سلام بن سلام بن سليم، عن منصور، عن هلال بن سياف، عن سعيد بن زيد، قال: كنا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر فتنة فعظم أمرها أو قالوا: يا رسول اللَّه لئن أدركتنا هذه لتهلكنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا، إن بحسبكم القتل، قال سعيد: فرأيت إخواني قتلوا.
وله من حديث الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم.
وخرّج الحاكم [ (4) ] من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ويل للعرب من شر قد اقترب، على رأس الستين تصير الأمانة غنيمة، والصدقة غرامة، والشهادة بالمعرفة، والحكم بالهوى [ (5) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 4/ 468، كتاب الفتن والملاحم، باب (7) ما يرجى في القتل، حديث رقم (4277) .
[ (4) ] (المستدرك) : 4/ 486، كتاب الفتن والملاحم، باب (50) حديث رقم (8357) قال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : على شرط مسلم.
[ (5) ] (المرجع السابق) : 4/ 530، حديث رقم (8489) . وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) :
على شرط البخاريّ ومسلم.(13/221)
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه بهذه الزيادات.
وقال سليمان بن حرب عن يزيد بن إبراهيم التستري قال: سمعت الحسن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: قال الزبير: لما نزلت وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [ (1) ] ما كنا نشعر أنها وقعت. ولأبي داود الطيالسي من حديث الصلت بن دينار قال: حدثنا عقبة بن صهبان وأبو رجاء العطاردي قالا: سمعنا الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو يتلو هذه الآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً قال: وقعت حيث وقعت [ (2) ] .
وقال الإمام أحمد [ (3) ] : حدثنا أبو سعيد- مولى بني هاشم، عن شداد يعني ابن سعيد، عن غيلان بن جرير، عن مطرف قال: قلنا للزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا أبا عبد اللَّه ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟، قال الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: إنا قرأناها على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً قال: لقد تلوت هذه الآية زمانا وما أراني من أهلها فأصبحنا من أهلها.
وخرّجه من حديث أسود بن عامر حدثنا جرير سمعت الحسن قال: قال الزبير: فذكر معناه.
وخرّج البخاريّ [ (4) ] من حديث شعيب عن الإمام، ومن حديث محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب، عن هند بنت الحارث الرواسية أن أم سلمة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة فزعا يقول سبحان اللَّه ماذا أنزل
__________
[ (1) ] الأنفال: 25.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 406- 407.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 1/ 267، حديث رقم (1417) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 759، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3599) .(13/222)
اللَّه من الخزائن وماذا أنزل من الفتن [ (1) ] ؟ من يوقظ صواحب الحجرات- يريد أزواجه- لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة.
ذكره في الفتن، وذكره في كتاب الأدب من حديث شعيب عن الزهريّ، حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: استيقظ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال سبحان اللَّه ماذا أنزل من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن؟
من يوقظ صواحب الحجر- يريد أزواجه- حتى يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، وخرّجه في كتاب (العلم) [ (2) ] وفي كتاب (اللباس) [ (3) ] من حديث معمر عن الزهريّ.
وخرّج البخاريّ [ (4) ] ومسلم [ (5) ] كلاهما من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عروة، عن أسامة بن زيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-
__________
[ (1) ] إلى هنا آخر الحديث في المناقب، وسياقته في كتاب الفتن أتم.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 280، كتاب العلم، باب (40) العلم والعظة بالليل، حديث رقم (115) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 10/ 372، كتاب اللباس، باب (31) ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتجوز من اللباس والبسط، حديث رقم (5844) .
[ (4) ] المرجع السابق 13/ 14، كتاب الفتن، باب (4) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويل للعرب، من شر قد اقترب. حديث رقم (7060) .
قال الحافظ: وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق وهي من جهة المشرق فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي: إن الفتنة من قبل المشرق، وحسن التشبيه بالمطر لإرادة التعميم لأنه إذا وقع في أرض معينة عمها ولو في بعض حباتها، قال ابن بطال: أنذر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث زينب بقرب قيام الساعة كي يتوبوا قبل أن تهجم عليهم، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج قرب قيام الساعة فإذا فتح من ردمهم ذلك القدر في زمنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يزل الفتح يتسع على مر الأوقات،
وقد جاء في حديث أبي هريرة رفعه «ويل» للعرب من شر(13/223)
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أشرف على أطم من آطام المدينة فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا:
لا، قال: فإنّي لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كوقع القطر. وقال البخاريّ:
على أطم من الآطام وقال: إني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر.
وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث معمر عن الزهريّ بهذا الإسناد نحوه.
وخرّج البخاريّ [ (2) ] في آخر كتاب الحج من حديث سفيان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة قال سمعت أسامة قال: أشرف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أطم من آطام المدينة فقال: هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر،
قال الحافظ أبو نعيم: فكان تحقيق هذا الخبر ما وقع بالمدينة وقتل عثمان وما وقع يوم الحرة في أيام يزيد بن معاوية.
وخرّج مسلم [ (3) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب أن أبا إدريس الخولانيّ كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: واللَّه إني لأعلم الناس بكل فتنة فهي كائنة فيما بيني وبين الساعة وما بي إلا أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرّ إلى في ذلك شيئا لم يحدثه غيري ولكن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
__________
[ () ] قد اقترب، موتوا إن استطعتم
قال: وهذا غاية في التحذير من الفتن والخوض فيها حيث جعل الموت خيرا من مباشرتها، وأخبر في حديث أسامة بوقوع الفتن خلال البيوت ليتأهّبوا لها فلا يخوضوا فيها ويسألوا اللَّه الصبر والنجاة من شرها. (فتح الباري) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 224، كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (3) نزول الفتن كمواقع القطر، حديث رقم (9) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي رقم (9) بدون رقم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 117، كتاب فضائل المدينة، باب (8) آطام المدينة، حديث رقم (1878) ، وأخرجه أيضا في كتاب المظالم، باب (25) الفرقة والعلية المشرقة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، حديث رقم (2467) .
وأخرجه أيضا ف كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3597) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 231، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (6) إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما يكون إلى قيام الساعة، حديث رقم (22) .(13/224)
وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يعد الفتن: منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار
قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري.
قال البيهقيّ [ (1) ] : ومات حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بعد الفتنة الأولى يقتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقيل الفتنتين الأخريين في أيام علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فهن ثلاث لم يكدن يذرن شيئا وهن المراد بالمذكورات في الخبر فيما نعلم. واللَّه أعلم.
وله من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: عن إبراهيم بن سعد عن سالم بن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة أنه قال: يا رسول اللَّه كيف أصنع إذا اختلف المصلون قال: تخرج بسيفك إلى الحرة ونفر فتضرب بها ثم تدخل بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة.
ولأبي داود [ (2) ] من حديث عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبي بردة، عن ثعلبة بن ضبيعة، قال: دخلنا على حذيفة، فقال: إني لأعرف رجلا لا تضره الفتن شيئا، فخرجنا، فإذا فسطاط مضروب، فإذا فيه محمد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل على شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت.
حدثنا مسدد [ (3) ] ، عن أبي عوانه، عن أشعث بن سليم، عن أبي بردة عن ضبيعة بن حصين الثعلبي، بمعناه.
خرّج مسلم [ (4) ] من حديث حماد بن زيد قال عثمان السحام: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه فدخلنا عليه فقلنا: هل
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 406، (السنن الكبرى للبيهقيّ) 8/ 191، كتاب قتال أهل البغي.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 5/ 50، كتاب السنة، باب (13) ما يدل على ترك الكلام في الفتنة، حديث رقم (4664) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4665) .(13/225)
سمعت أباك يحدث، قال: سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل: يا رسول اللَّه أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللَّهمّ هل بلغت، اللَّهمّ هل بلغت، اللَّهمّ هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول اللَّه أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار.
وخرّجه من حديث وكيع [ (1) ] وابن أبي عدي كلاهما، عن عثمان الشحام بهذا الإسناد حديث ابن أبي عدي نحو حديث حماد إلى آخره، وانتهى حديث وكيع عند قوله إن استطاع النجاء. ولم يذكر ما بعده.
__________
[ () ] (4) (مسلم بشرح النووي) : 18/ 225، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (3) نزول الفتن كمواقع القطر، حديث رقم (13) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي رقم (13) بدون رقم.(13/226)
وأما صدق إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن إحدى نسائه تنبح عليها كلاب الحوأب [ (1) ]
وماء الحوأب ينسب إلى الحوأب ابنة كلب بن وبرة أم ثعلبة وهو ظاعنه ومحارب بن مر بن أو بن طابخة بن إلياس بن نضر بن نزار بن معد بن عدنان.
خرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث محمد بن جعفر قال: عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس أن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لنا: أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟
فقال الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ترجعين عسى اللَّه أن يصلح بك بين الناس.
__________
[ (1) ] الحوأب: بالفتح ثم السكون، همزة مفتوحة، وباء موحدة، وأصله في اللغة، يقال: حافر حوأب وأب صعب، والحوأبة: العلبة الضخمة، والحوأب: الوادي الوسيع في هذه.
والحوأب: موضع في طريق البصرة محاذي البقرة ماءة أيضا من مياهم، قال أبو زياد:
ومن مياه أبي بكر بن كلاب الحوأب، وهو من المياه الأعداد، قديم جاهلي، وقال نصر:
الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة، والحوأب والغناب والحزيز: جبال سود أظنها في ديار عوف بن عبد بن أبي بكر بن كلاب أخي قريط بن عبد، وقيل: سمي الحوأب بالحوأب بنت كلب بن وبرة، وهي أم تميم وبكر المعروف بالشعيراء والغوث وهو الربيط، وهو صوفة وثعلبة، وهو ظاعنة وغيرهم من ولد مر بن أد بن طابخة، وفي الحديث: أن عائشة لما أرادت المضي إلى البصرة في وقعة الجمل مرت بهذا الموضع فسمعت نباح الكلاب فقالت: ما هذا الموضع؟ فقيل لها: هذا موضع يقال له الحوأب، فقالت: إنا للَّه! ما أراني إلا صاحبة القصة، فقيل لها: وأي قصة؟
قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب
سائرة إلى الشرق في كتيبة! وهمت بالرجوع فغالطوها وحلفوا لها أنه ليس بالحوأب. (معجم البلدان) : 2/ 360- 361، موضع رقم (3972) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 140، حديث رقم (24133) .(13/227)
وخرّجه أيضا من حديث يحيى عن إسماعيل عن قيس قال: لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا:
الحوأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح اللَّه- عز وجل- ذات بينهم،
قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب [ (1) ] .
وخرّجه بقي بن مخلد من حديث أبي أسامة عن إسماعيل، عن قيس قال لما بلغت عائشة بعض مياه بني عامر ليلا نبحت عليها الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا أني راجعة سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لنا ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب [ (2) ] .
وخرّج البيهقيّ [ (3) ] من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين قال: عن عبد الجبار بن الورد، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد عن أم سلمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خروج بعض نسائه أمهات المؤمنين فضحكت عائشة وقال: انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ثم التفت إلى علي فقال: يا علي وليت من أمرها شيئا فأرفق بها.
قال المؤلف- رحمه اللَّه- عمار الدهني هو عمار بن معاوية ويقال:
ابن أبي معاوية ويقال: ابن صالح ويقال: ابن حبان البجلي الكوفيّ مولى الحكم بن نفيل وأحمد وابن معين وأبو حاتم: ثقة، إلا أنه كان شيعيا، قطع بشر بن مروان عن عرقوبيه في التشيّع [ (4) ] .
وقال البيهقيّ [ (5) ] وحذيفة بن اليمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- توفى قبل مسير عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-، وقد أخبرنا الطفيل
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 7/ 78، حديث رقم (23732) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 411.
[ (4) ] (تهذيب التهذيب) : 7/ 355- 356، ترجمة رقم (662) .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 411.(13/228)
وعمرو بن ضليع بمسير إحدى أمهات المؤمنين في كتيبة ولا يقوله إلا عن سماع.
وذكر من حديث عبد اللَّه بن رجاء قال: عن همام بن يحيى قال: عن قتادة، عن أبي الطفيل قال: انطلقت أنا وعمرو إلى حذيفة فذكر الحديث وقال فيه: لو حدثتكم أن أم أحدكم تغزوه في كتيبة تضربه بالسيف ما صدقتموني، قال: رواه أيضا أبو الزاهرية عن حذيفة [ (1) ] .
وخرّج الحاكم [ (2) ] من حديث هلال بن العلاء الرقي، عن عبد اللَّه بن جعفر، عن عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: كنا عند حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: بعضنا حدثنا يا أبا عبد اللَّه ما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لو فعلت لرجمتموني، قال: قلنا: سبحان اللَّه أنحن نفعل ذلك؟ قال: أرأيتكم لو حدثتكم أن بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها، شديد بأسها، صدقتم به؟
قالوا: سبحان اللَّه! ومن يصدق بهذا، ثم قال حذيفة: أتتكم الحميراء في كتيبة يسوقها أعلاجها حيث تسوء وجوهكم ثم قام فدخل مخدعا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. [ولم يخرجاه] .
وقال البيهقيّ [ (3) ] عن جعفر بن عون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت:
وددت أني ثكلتك عشرة مثل ولد الحارث بن هشام وأني لم أسر مسيري الّذي سرت.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 411.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 517- 518، كتاب الفتن والملاحم باب (50) الفتن والملاحم، حديث رقم (8453) وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : على شرط البخاريّ ومسلم. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 411- 412، باب ما جاء في إخباره وما روى في إشارته على عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بأن يرفق بها، وما روى في توبتها منن خروجها، وتلهفها على ما خفي عليها من ذلك، وكونها منن أهل الجنة مع زوجها صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورضي عنها.(13/229)
وقال حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا محمد بن يوسف، قال: ذكر سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لوددت إذا مت وكنت نسيا منسيا [ (1) ] .
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، قال حدثنا أبي، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، قال: سمعت وائلا قال: لما بعث عليّ عمارا والحسن إلى الكوفة يستنفرهم خطب عمار، فقال: أني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ولكن اللَّه- تبارك وتعالى- ابتلاكم لتتبعوه أو إياها [ (2) ] .
وخرّجه البخاريّ في كتاب الفتن [ (3) ] من حديث أبي بكر، عن عياش، عن ابن عباس، عن ابن حصين، عن أبي مريم عبد اللَّه بن زياد الأسدي قال: لما صار طلحة، والزبير، وعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- إلى البصرة بعث عليّ عمار بن ياسر والحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه، فسمعت عمارا يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة واللَّه إنها لزوجة نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم في الدنيا والآخرة ولكن اللَّه ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي.
وذكره في كتاب (الفتن) من حديث ابن أبي غنيّة، عن الحكم، عن أبي وائل قال: قام عمّار على منبر الكوفة، فذكر عائشة وذكر مسيرها وقال: إنها زوجة نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم في الدنيا الآخرة، ولكنها مما ابتليتم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 412، وأخرجه البخاريّ في كتاب التفسير، باب (8) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، حديث رقم (4754) ، وفي (مسند أحمد) : 1/ 455، وهو جزء من حديث طويل رقم (2492) من حديث عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 67، كتاب الفتن، باب (18) حديث رقم (7100) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7101) .(13/230)
وخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق أبي نعيم قال: عن عبد الجبار بن العباس الشامي الكوفي، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن الهجنع، عن أبي بكرة، قال: قيل له: ما يمنعك ألا تكون قاتلت على بصيرتك يوم الجمل؟
قال:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يخرج قوم هلكى لا يفلحون، قائدهم امرأة قادئهم في الجنة.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: قد وقع حديث أبو بكرة في البخاريّ من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: لقد نفعني اللَّه بكلمة سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أيام الجمل بعد ما كدت ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم.
قال: لما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يصلح قوم ولّوا أمرهم امرأة. ذكره في آخر كتاب المغازي [ (2) ] وفي كتاب الفتن [ (3) ] .
ذكر خبر وقعة الجمل تصديقا للفقرة السابقة
[خرجت [ (4) ] عائشة ومن معها من مكة وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم، فكان يسمى يوم النحيب، فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم.
فقالوا: نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا. فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال: إن
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 413، وعبد الجبار الشبامي: قال أبو نعيم: لم يكن بالكوفة أكذب منه.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 160، كتاب المغازي، باب (83) كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى كسرى وقيصر، حديث رقم (4425) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 67، كتاب الفتن، باب (18) حديث رقم (7099) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين مضطرب في الأصل وبه طمس وبياض وأثبتناه من (الكامل لابن الأثير) .(13/231)
ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ أصدقاني. قالا: نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس، قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد اللَّه بن خالد بن أسيد، وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان هاهنا من ثقيف فليرجع. فرجع ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان، وأعطى يعلي بن منية عائشة جملا اسمه عسكر اشتراه بثمانين دينارا فركبته، وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة.
قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بألف درهم، قال: أمجنون أنت؟.
قلت: ولم؟ واللَّه ما طلبت عليه أحدا إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد إلا فته، قال: لو تعلم لمن نريده! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة! فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم، قال:
فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة، وقالوا لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا، فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء، فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ فقلت هذا ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها
وقالت: إن للَّه وإن إليه راجعون، إني لهيه، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب،
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا واللَّه صاحبة ماء الحوأب، فأناخوا حولها يوما وليلة، فقال لها عبد اللَّه بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم عليّ بن أبي طالب، فارتحلوا نحو البصرة، ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة، وألزّه بأبي الأسود الدئلي، وكان رجل خاصة، وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها، وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير، فأذنت لهما، فدخلا وسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: واللَّه ما مثلي يعطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأحدثوا فيه(13/232)
وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة اللَّه ولعنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه، وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتي هؤلاء وما الناس فيه وراءنا، وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت:
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ [ (1) ] الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به، ومنكر ننهاكم عنه.
فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا: ما أقدمك؟
فقال: الطلب بدم عثمان، فقالا: ألم تبايع عليا؟ فقال: بلى والسيف على عنقي وما أستقيل عليا البيعة إن هو لم يحل بيننا وبينا قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فقالا:
له مثل قولهما لطلحة، وقال لهما مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل.
فقال عثمان: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف، فقال عمران: إي واللَّه لتعركنكم عركا طويلا قال:
فأشر عليّ يا عمران، قال: اعتزل فإنّي قاعد، قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح، فاجتمعوا إلى المسجد وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلا دسه إلى الناس خدعا كوفيا قيسيا فقام فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان، فأطيعوني وردوهم من حيث جاءوا. فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم بالمربد، فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد، وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر عثمان وفضله وما استحل منه، ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه وكذلك الزبير، فتكلمت عائشة، وكانت جهورية الصوت، فحمدت اللَّه وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون
__________
[ (1) ] النساء: 114.(13/233)
على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبرونا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريئا تقيا وفيا، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا كاثروه، واقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والشهر الحرام، والبلد الحرام، بلا ترة ولا عذر، إلا أن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب اللَّه، وقرأت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ [ (1) ] الآية، فافترق أصحاب عثمان فرقتين، فرقة قالت: صدقت وبرت، وقال الآخرون: كذبتم واللَّه ما نعرف ما جئتم به! وأقيل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين واللَّه لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من اللَّه ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس وأقبل حكيم بن جبلة العبديّ وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم، وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه، فلم ينته وقاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيمانوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم ورجع عثمان إلى القصر، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم، واجتمعوا بساحة دار الرزق، فغاداهم حكيم بن جبلة العبديّ وهو يسب وبيده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الّذي تسبه؟ قال: عائشة، قال:
يا ابن الخبيثة ألأمّ المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه حكيم فقتله، ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضا، فقالت له: الأمّ المؤمنين تقول هذا يا ابن الخبيثة؟ فطعنها فقتلها، ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالا شديدا إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين، فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا، فكتبوا بينهم كتابا على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة يسأل أهلها، فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان بن حنيف عن
__________
[ (1) ] آل عمران: 23.(13/234)
البصرة وأخلاها لهما، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير، وكتبوا بينهم كتابا بذلك وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم.
فقدم الكتاب على عثمان، وقدم كعب بن سور، فأرسلوا إلى عثمان ليخرج، فاحتج بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه، فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر، ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها، فأبطأ عثمان، فقدّما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح، ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا، وهم أربعون رجلا، فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما، فلما وصل إليهما توطئوه وما بقيت في وجهه شعرة، فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر، فأرسلت إليهما أن خلو سبيله.
وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن عليّ، فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك.
وقال زيد: رحم اللَّه أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه، وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال: لست أخاف اللَّه إن لم أنصره! فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق، وبها طعامه أراد عبد اللَّه بن الزبير أن يرزقه أصحابه! فقال له عبد اللَّه: ما لك يا حكيم؟ قال:
نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم عليّ، وأيم اللَّه لو أجد أعوانا عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم، أما تخافون اللَّه؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال: بدم عثمان، قال: فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان، أما تخافوا مقت اللَّه؟ فقال له عبد اللَّه: لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع عليا. فقال حكيم: اللَّهمّ إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك(13/235)
فلينصرف. وتقدم فقاتلهم. فقال طلحة والزبير: الحمد للَّه الّذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللَّهمّ لا تبق منهم أحدا فاقتتلوا قتالا شديدا، ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلاثمائة، فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه، فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه، فأتى عليه رجل وهو رثيث رأسه على آخر، فقال: ما لك يا حكيم؟ قال: قتلت، قال: من قتلك؟ قال: وسادتي، فاحتمله وضمه في سبعين من أصحابه، وقيل: قتله رجل فقال له ضخيم وقتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة، ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف، فقال لهم: أما إن سهلا بالمدينة فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله، فقصد عليا. وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه، فلجئوا إلى قومهم، فنادى منادى طلحة والزبير: من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير، فإن عشيرته بني سعد منعوه، وكان منهم، فنالهم من ذلك أمر شديد، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي وتحثهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضا، وسيرت الكتب، وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
قال الشعبي: ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة نفر بدريون ما لهم سابع، وقال سعيد بن زيد: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لخير يعلمونه إلا وعليّ أحدهم، قيل: وقال أبو قتادة الأنصاري لعلي: يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قلدني هذا السيف وقد أغمدته زمانا وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لا يألون الأمة غشا وقد أحببت أن تقدمني فقدمني: وقالت أم مسلمة: يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي اللَّه وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابن عمي، وهو واللَّه أعز عليّ من نفسي، يخرج معك ويشهد مشاهدك، فخرج معه وهو لم يزل معه، واستعمله عليّ على البحرين، ثم عزله، واستعمله النعمان بن عجلان الزرقيّ، فلما أراد عليّ المسير إلى(13/236)
البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما، فلما سار أستخلف على المدينة تمّام بن العباس، وعلى مكة قثم ابن العباس، وقيل: أمر على المدينة سهل بن حنيف، وسار علي من المدينة في تعبئته التي تعبأها لأهل الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة، وسار حتى انتهى إلى الرَّبَذَة، فلما انتهى إليها أتاه خبر سبقهم، فأقام بها يأتمر ما يفعل،
وأتاه ابنه الحسن في الطريق، فقال له: لقد أمرتك فعصيتني فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك.
فقال له علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية، وما الّذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كلّ مصر فإنّهم لن يقطعوا أمرا دونك، فأبيت عليّ، وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يد غيرك، فعصيتني في ذلك كله.
ولما قدم الرَّبَذَة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين اللَّه أعوانا وأنصارا وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا، فمضيا وبقي عليّ بالربذة، وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم وقال: إن اللَّه- تبارك وتعالى- أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخوانا بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء اللَّه، الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزع بين هذه الأمة! ألا إن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ باللَّه من شر ما هو كائن.
فلما أراد المسير من الرَّبَذَة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع فقال:
أمير المؤمنين، أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الّذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم(13/237)
بعذرهم ونعطيهم الحقّ ونصبر، قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذا.
وسار علي من الرَّبَذَة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح، والراية مع محمد بن الحنفية، وعليّ على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا، فلما انتهى إلى ذي قار أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة،
وقيل: أتاه بالربذة، وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته، على ما ذكرناه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد، فقال: أصبحت أجرا وخيرا، إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتي وألبّا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما عليّ، واللَّه إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم، اللَّهمّ فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا! وأقام بذي قار ينتظر محمدا ومحمدا، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس.
وقيل: إن عليا أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمار إلى الكوفة فدخل والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم والحسن وعمار معه في منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة الناس، فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له:
اعتزل عملنا لا أم لك! وتنح عن منبرنا! وعمار ينازعه، فأخرج الأشقر غلمان أبي موسى من القصر،
فخرجوا يعدون وينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج لا أم لك أخرج اللَّه نفسك! فقال: أجلني هذه العشية فقال:
هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة، ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر وقال: أنا له جار، فكفوا عنه. فنفر الناس في العدد المذكور، وقيل: إن عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل، قال أبو الطفيل: سمعت عليا يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا. وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار(13/238)
الرياحي، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي، وكان على مذحج والأشعرين حجر بن عدي، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي،
فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الّذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا أثرناه على ما فيه الفساد إن شاء اللَّه.
وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو، وسعد بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النفار: زيد بن صوحان، والأشتر، وعدي بن حاتم، والمسيب بن نجبة، ويزيد بن قيس، وأمثال لهم ليسوا دونهم، إلا أنهم لم يؤمروا، منهم حجر بن عدي،
فلما نزلوا بذي قار دعا علي القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين، وكان القعقاع من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة، وقال له: كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة [مني] ؟ قال:
نلقاهم بالذي أمرت به، فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأى اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى أنه ينبغي قال: أنت لها.
فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة فسلم عليها وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني الإصلاح بين الناس. قال:
فأبعثني إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامها، فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها، فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذه الإصلاح؟ فو اللَّه لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح. قال: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن. قال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم(13/239)
حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم، فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحديث العظيم والذنب الكبير.
قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول: إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، ودرك بثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر، وذهاب هذا المال، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم، وأيم اللَّه إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه! وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ اللَّه حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الّذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل، قالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع إلى عليّ فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه، وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو عليّ بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا إليهم وليعلموهم أن الّذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتالهم على بال.
فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقاتلهم وأدخلوهم على عليّ فأخبروه بخبرهم، وسأل على جرير بن شرس، عن طلحة والزبير، فأخبره بدقيق أمرهما وجليله وقال له: أما الزبير فيقول: بايعنا كرها.
وأما طلحة فيتمثل الأشعار، فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير.
وأما عليّ فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأى الناس فينا واحد، فإن يصطلحوا مع علي فعلى دمائنا، فهلموا بنا نثب على عليّ فنلحقه بعثمان فتعود فتنة، يرضى منا فيها بالسكون، فقال عبد اللَّه بن السوداء: بئس الرأي رأيت،(13/240)
أنتم يا قتلة عثمان بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظلية، يعني طلحة، وأصحابه في نحو من خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا، فقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تقوون به وامتنعوا من الناس، فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، ودّ واللَّه الناس أنكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطفكم الناس كل شيء، وأصبح عليّ على ظهر ومضى، ومضى معه الناس حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه، وسار من هناك فنزل الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة، فالتفوا عند موضع قصر عبيد اللَّه بن زياد، فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبديّ أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل فعدلوا إلى عسكر عليّ، فقال الناس: من كان هؤلاء معه غلب، وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، فكان يرسل عليّ إليهم يكلمهم ويدعوهم، وكان نزولهم في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ونزل بهم عليّ وقد سبق أصحابه وهم يتلاحقون به،
وقام عليّ فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له عليّ: على الإصلاح وإطفاء النائرة [ (1) ] لعل اللَّه يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم من هذا مثل الّذي عليهم؟ قال: نعم، وقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا اللَّه بذلك؟ قال: نعم، قال: أفترى لك حجة بتأخير ذلك؟ قال: نعم، إن الشيء إذا كان لا يدرك فإن الحكم فيه أحوطه وأعمه نفعا، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ قال:
إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه للَّه إلا أدخله اللَّه الجنة، فلما قدم علي أتاه الأحنف فقال له: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم
__________
[ (1) ] النائرة: العداوة والشحناء.(13/241)
غدا قتلت رجالهم وسبيت نساءهم، قال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا لمن تولى وكفر، وهم قوم مسلمون؟ قال: اختر مني واحدة من اثنتين، إما أن أقاتل معك، وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف، قال فكيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال؟ قال: إن من الوفاء للَّه قتالهم، قال: فاكفف عنا عشرة آلاف سيف:
فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود ونادى: يا آل خندف! فأجابه ناس، ونادى: يا آل تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يا آل سعد! فلم يبق سعدي إلا أجابه، فاعتزل بهم ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علي دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين، فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح،
فقيل لعلي: هذا الزبير، فقال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذكر باللَّه- تعالى- أن يذكر.
وخرج طلحة فخرج إليهما عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال عليّ:
لعمري قد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند اللَّه عذرا فاتقيا اللَّه ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [ (1) ] ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حدث أحل لكما دمي؟ قال طلحة:
ألبت على عثمان، قال علي: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ (2) ] يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن اللَّه قتلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعرس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي، فقال عليّ للزبير: يا زبير ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منا، فقال له عليّ: ألست له أهلا بعد عثمان؟ قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك السوء ففرق بيننا، وذكره أشياء،
وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال، منهم الأحنف وعمران بن حصين وغيرهما، وجاءت عائشة فنزلت في مسجد الحدان في الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إن الجموع إذا تراءت لم
__________
[ (1) ] النحل: 92.
[ (2) ] النور: 25.(13/242)
تستطع، إنما هو بحور تدفق فأطعني ولا تشهدهم واعتزل بقومك فإنّي أخاف أن لا يكون صلح، ودع مضر وربيعة فهما أخوان، فإن اصطلحا فالصلح أردنا وإن اقتتلا كنا حكاما عليهم غدا.
ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعا وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح، وعائشة في الحدان، والناس بالزابوقة على رؤسائهم هؤلاء، وهم ثلاثون ألفا، وردّوا حكيما ومالكا إلى عليّ إننا على ما فارقنا عليه القعقاع، ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن، فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح، وكان أصحاب علي عشرين ألفا، وخرج علي وطلحة والزبير فتواقفوا فلم يروا أمر أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك، وبعث علي من العشي عبد اللَّه بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثا هما محمد بن أبي طلحة إلى عليّ، وأرسل عليّ إلى رؤساء أصحابه، وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما بذلك، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم، فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبعث طلحة والزبير إلى الميمنة، وهم ربيعة، أميرا عليها عبد الرحمن بن الحارث، وإلى الميسرة عبد الرحمن ابن عتّاب، وثبتا في القلب وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا، فقالا: قد علمنا أن عليا غير منته حتى يسفك الدماء وأنه لن يطاوعنا، فرد أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم، وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: أدركي فقد أبى القوم إلا القتال لعل اللَّه أن يصلح بك.
فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهي على الجمل بحيث تسمع الغوغاء وقفت واقتتل الناس وقاتل الزبير فحمل عليه عمار بن ياسر فجعل يحوزه بالرمح والزبير كاف عنه يقول: أتقتلني يا أبا اليقظان؟(13/243)
فيقول: لا يا أبا عبد اللَّه، وإنما كف الزبير عنه
لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تقتل عمارا الفئة الباغية،
ولولا ذلك لقتله، وبينما عائشة واقفة إذ سمعت ضجة شديدة فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر، قالت: بخير أو بشر؟ قالوا:
بشر، فما فجأها إلا الهزيمة، فمضى الزبير من وجهه إلى وادي السباع، وإنما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيرا لما ذكر له عليّ، وأما طلحة فأتاه سهم غرب فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي: إليّ، إليّ عباد اللَّه! الصبر الصبر! فقال له القعقاع بن عمرو: يا أبا محمد إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل، فأدخل البيوت، فدخل ودمه يسيل وهو يقول: اللَّهمّ خذ لعثمان مني حتى ترضى، فلما امتلأ خفه دما وثقل قال لغلامه: أردفني وأمسكني وأبلغني مكانا أنزل فيه. فدخل البصرة، فأنزله في دار خربة فمات فيها، وكان الّذي رمى طلحة مروان بن الحكم وقيل: غيره. وقالت عائشة: لما انجلت الوقعة وانهزم الناس لكعب بن سور: خلّ عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه.
وناولته مصحفا، فاستقبل القوم والسبئية أمامهم، فرموه رشقا واحدا فقتلوه، ورموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي: البقية البقية يا بنيّ! ويعلو صوتها كثرة: اللَّه اللَّه! اذكروا اللَّه والحساب! فيأبون إلا إقداما، فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن
قالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم وأقبلت تدعو، وضج الناس بالدعاء. فسمع عليّ فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعوا على قتلة عثمان وأشياعهم، فقال عليّ: اللَّهمّ العن قتلة عثمان! فأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن أثبتا مكانكما، وحرضت الناس حين رأت القوم يريدونها ولا يكفون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت مضر الكوفة حتى زحم عليّ فنخس قفا ابنه محمد، وكانت الراية معه، وقال له: أحمل! فتقدم حتى لم يجد متقدما إلا على سنان رمح، فأخذ عليّ الراية من يده وقال: يا بني بين يدي، وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوا قدام الجمل حتى ضرسوا والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئا، ومع علي قوم من غير مضر، منهم زيد بن صوحان طلبوا ذلك منه، فقال له رجل: تنح إلى قومك، مالك ولهذا الموقف؟ ألست تعلم أن مضر بحيالك والجمل بين يديك وأن الموت دونه؟ فقال: الموت خير من الحياة، الموت أريد،
فأصيب هو(13/244)
وأخوه سيحان وارتث صعصعة أخوهما واشتدت الحرب، فلما رأى علي ذلك بعث إلى ربيعة وإلى اليمن أن أجمعوا من يليكم، فقام رجل من عبد القيس من أصحاب عليّ فقال: ندعوكم إلى كتاب اللَّه، فقالوا: وكيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود اللَّه وقد قتل كعب بن سور داعي اللَّه! ورمته ربيعة رشقا واحدا فقتلوه، فقام مسلم بن عبد اللَّه العجليّ مكانه فرشقوه رشقا واحدا فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة القتال ولم يريدوا إلا عائشة، فذكرت أصحابها فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، ثم رجعوا فاقتتلوا وتزاحف الناس وظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم، وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمنّ الكوفة فقتل على رايتهم عشرة، خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل على رايتهم، وهم في المسيرة: زيد وعبد اللَّه بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللَّهمّ أنت هديتنا من الضلالة واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة فكنا في شبهة وعلى ريبة، وقتل واشتد الأمر حتى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة، فلما رأى الشجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا: طرفوا إذا فرغ الصبر، فجعلوا يقصدون الأطراف الأيدي والأرجل، فما رئي وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعا مقطوعة ولا رجلا مقطوعة، وأصيب يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله، فنظرت عائشة من يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد، فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الّذي كنا نسمع به، فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك، وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يميني؟ قال: بكر بن وائل، قالت: إنما بإزائكم عبد القيس، فاقتتلوا أشد من قتالهم قبل ذلك، وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا: بنوا ناجية، قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية! فجالدوا جلادا يتفادى منه، ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت: ويها جمرة الجمرات! فلما رقوا خالطهم بنو عدي بن عبد مناة وكثروا(13/245)
حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدي خالطنا إخوتنا، فأقاموا رأس الجمل وضربوا ضربا شديدا ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف، حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعا راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع الجمل، وصار مجنبتا علي إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضا،
وأخذ عميرة بن يثربي برأس الجمل وكان قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهد الجمل هو وأخوه عبد اللَّه، فقال علي: من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمر الجمليّ المراديّ، فاعترضه ابن يثربي فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربي،
ثم حمل علباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله وقتل سيحان بن صوحان وارتث صعصعة.
ولم يزل الأمر كذلك حتى قتل على الخطام أربعون رجلا، قالت عائشة:
ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة، قال: وأخذ الخطام سبعون رجلا من قريش كلهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل، وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة، وقال: يا أمتاه مريني بأمرك، قالت: آمرك أن تكون خير بني آدم إن تركت، فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل عليه، وقال:
حاميم لا ينصرون، واجتمع عليه نفر كلهم ادعى قتله، المكعبر الأسديّ، والمكعبر الضبيّ، ومعاوية بن شداد العبسيّ، وعفّار السعديّ النصريّ، فأنفذه بعضهم بالرمح، وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحد إلا خبطه بالسيف، فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي، فاختلفا ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب: أنا فلان بن فلان، فو اللَّه إن كان ليقاتلون عليه وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد، وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه، وجاء عبد اللَّه بن الزبير ولم يتكلم فقالت: من أنت؟ فقال: ابنك ابن أختك، قالت: وا ثكل أسماء! وانتهى إليه الأشتر، فاقتتلا، فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا، وضربه عبد اللَّه ضربة خفيفة، واعتنق كل رجل منهما صاحبه وسقطا إلى الأرض يعتركان، وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختري فقتل، وهو قرشي(13/246)
أيضا، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل، وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته، وهو أزدي، وجرح مروان بن الحكم، وجرح عبد اللَّه بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية،
قال: وما رأيت مثل يوم الجمل، ما ينهزم منا أحد وما نحن إلا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل حتى ضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا، فضربه رجل فسقط فما سمعت صوتا قط أشد من عجيج الجمل،
وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل وأخذها الصقعب، وأخوه عبد اللَّه بن سليم فقتل، وأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح وهي بيده، وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل، وقتل معه زيد وسيحان ابنا صوحان، وأخذها عدة نفر، فقتلوا، منهم عبد اللَّه بن رقية، ثم أخذها منقذ بن النعمان فرفعها إلى ابنة مرة بن منقذ فانقضت الحرب وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحارث بن حسان الذهلي، فأقدم وقال: يا معشر بكر لم يكن أحد له من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مثل منزلة صاحبكم فانصروه، فتقدم وقاتلهم فقتل ابنه وخمسة من بني أهله، وقتل الحارث، وقتل رجال من بني محدوج، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلا، وقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي ما أحسن قتالنا إن كنا على الحق! قال: فإنا على الحق، إن الناس أخذوا يمينا وشمالا، وان تمسكنا بأهل بيت نبينا فقاتلا حتى قتلا، وجرح يومئذ عمير بن الأهلب الضبي، فقال له الرجل: قل لا إله إلا اللَّه، قال: أدن مني فلقني فيّ صمم، فدنا منه الرجل، فوثب عليه فعض أذنه فقطعها.
وقيل في عقر الجمل: إن القعقاع لقي الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل، فقال: هل لك في العود؟ فلم يجبه، فقال: يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك، وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحارث، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بني عامر إلا أصيب قدام الجمل، وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت: من هذا؟ فقال: أخوك البر، قالت: عقق، قال: يا أخيّه هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذا الضلال؟ قالت:
بل الهداة، وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه؟ قالت: لست(13/247)
لك بأم، قال: بلى وإن كرهت، قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الّذي نقمتم، هيهات واللَّه لن يظفر من كان هذا دأبه-! فأبرزوا هودجها فوضعوها ليس قربها أحد،
وأتاها عليّ فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير، قال:
يغفر اللَّه لك، قالت: ولك،
وجاء أعين بن ضبيعة بن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج، فقالت: إليك لعنك اللَّه، فقال: واللَّه ما أرى إلا حميراء، فقالت له: هتك اللَّه سترك وقطع يدك وأبدى عورتك، فقتل بالبصرة، وسلب، وقطعت يده، ورمى عريانا في خربة من خربات الأزد، فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر البصرة فأنزلها في دار عبد اللَّه بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وهي أم طلحة الطلحات بن عبد اللَّه بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى ليلا فدخلوا البصرة، فأقام على بظاهر البصرة ثلاثا، وأذن للناس في دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وجعل كلما مر برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم،
وصلى عليّ على القتلى من أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال: من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان،
وكان جميع القتلى عشرة آلاف نصفهم من أصحاب عليّ ونصفهم من أصحاب عائشة، وقيل غير ذلك.
ثم دخل على البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضا فبايعه، ثم راح إلى عائشة وهي في دار عبد اللَّه بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة، فوجد النساء يبكين على عبد اللَّه وعثمان ابني خلف وكان عبد اللَّه قتل مع عائشة وعثمان قتل مع علي، وكانت صفية زوج عبد اللَّه مختمرة تبكي، فلما رأته قالت له: يا على يا قاتل الأحبة! يا مفرق الجمع! أيتم اللَّه منك بنيك كما أيتمت ولد عبد اللَّه منه! فلم يرد عليها شيئا، ودخل على عائشة فسلم عليها، وقعد عندها، فلما خرج عليّ أعادت عليه القول، فكف بغلته وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب، وأشار إلى باب في الدار، وأقتل من فيه، وكان فيه ناس(13/248)
من الجرحى فأخبر عليّ بمكانهم فتغافل عنهم فسكت، وكان مذهبه أن لا يقتل مدبرا لا يذفف على جريح ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا، ثم جهز علي عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وبعث معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الّذي ارتحلت فيه أتاها عليّ فوقف لها،
وحضر الناس فخرجت وودعتهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه واللَّه ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها، وإنه على معتبي لمن الأخيار، وقال عليّ:
صدقت، واللَّه ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت غرة رجب وشيعها أميالا وسرح بنيه معها يوما، فكان وجهها إلى مكة، فأقامت إلى الحج، ثم رجعت إلى المدينة، وقال لها عمار حين ودعها: ما أبعد هذا المسير من العهد الّذي عهد إليك! قالت: واللَّه إنك ما علمت لقوال بالحق، قال: الحمد للَّه الّذي قضى على لسانك لي] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ لابن الأسير) : 3/ 209- 258 مختصرا.(13/249)
وأما إخبار اللَّه تعالى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بما عزم عليه عمرو بن جحاش من إلقاء صخرة عليه حتى قام من مكانه
فقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حبيبة، ومعمر بن راشد في رجال ممن لم أسمهم، فكل قد حدثني ببعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الّذي حدثوني، قالوا: أقبل عمرو بن أمية من بئر معونة حتى كان بقناة، فلقى رجلين من بنى عامر فنسبها، فانتسبا، فقابلهما حتى إذا ناما وثب عليهما فقتلهما، ثم خرج حتى ورد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ساعته في قدر حلب شاة، فأخبره خبرهما، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بئس ما صنعت، قد كان لهما منا أمان وعهد! فقال: ما شعرت، كنت أراهما على شركهما، وكان قومهما قد نالوا منا ما نالوا من الغدر بنا، وجاء بسلبهما، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعزل سلبهما حتى بعث به مع ديتها، وذلك أن عامر بن الطفيل بعث إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن رجلا من أصحابك قتل رجلين من قومي، ولهما منك أمان وعهد، فابعث بديتهما إلينا، فسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني النضير يستعين في ديتهما، وكانت بنو النضير حلفاء لبني عامر،
فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم السبت فصلى في مسجد قباء ومعه رهط من المهاجرين والأنصار، ثم جاء بني النضير فيجدهم في ناديهم، فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فكلمهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهما عمرو بن أمية، فقالوا: نفعل، يا أبا القاسم، ما أحببت قد أني لك أن تزورنا وإن تأتينا، أجلس حتى نطعمك! ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستند إلى بيت من بيوتهم، ثم خلا بعضهم إلى بعض فتناجوا، فقال: حيي بن أخطب: يا معشر اليهود، قد جاءكم محمد في نفير من أصحابه لا يبلغون عشرة- ومعه أبو بكر، وعمرو، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن خضير، وسعد بن عبادة- فأطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الّذي هو تحته فاقتلوه، فلن تجدوه أخلى منه الساعة!! فإنه إن قتل تفرق أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من ها هنا من(13/250)
الأوس والخزرج حلفاؤكم، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن! فقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، قال سلام بن مشكم: يا قوم، أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر! واللَّه إن فعلتم ليخبرن بأن قد غدرنا به، وإن هذا نقض العهد الّذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فو اللَّه لو فعلتم الّذي تريدون ليقومن بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة، يستأصل اليهود ويظهر دينه! وقد هيأ الصخرة ليرسلها على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويحدرها، فلما أشرف بها جاء رسول اللَّه الخبر من السماء بما هموا به فنهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سريعا كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة، وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون أنه قام يقضي حاجة.
فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ما مقامنا ها هنا بشيء، لقد وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأمر فقاموا، فقال حيي: عجل أبو القاسم قد كنا نريد أن نقضي حاجته ونغذيه، وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صويراء: هل تدرون لم قام محمد؟ قالوا: لا واللَّه، ما ندري وما تدري أنت! قال: بلى والتوراة، أني لأدري قد أخبر محمد ما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم، واللَّه إنه لرسول اللَّه وما قام إلا أنه أخبر بما هممتم به من الغدر، وإنه لآخر الأنبياء، كنتم تطمعون أن يكون من بني هارون فجعله اللَّه حيث شاء وإن كتبنا والّذي درسنا في التوراة التي لم يغير ولم تبدل أن مولده بمكة ودار هجرته يثرب، وصفته بعينها ما تخالف حرفا هما في كتابنا، وما يأتيكم [به] أولى من محاربته إياكم، ولكأنّي انظر إليكم ظاعنين، يتضاغى صبيانكم، قد تركتم دوركم خلوفا وأموالكم، وإنما هي شرفكم، فأطيعوني في خصلتين، والثالثة لا خير فيها!.
قالوا: ما هما؟ قال: تسلمون وتدخلون مع محمد، فتأمنون على أموالكم وأولادكم، وتكونون من عليه أصحابه، وتبقى بأيديكم أموالكم، ولا تخرجوا من دياركم، قالوا: لا نفارق التوراة وعهد موسى! قال: فإنه مرسل إليكم:
اخرجوا من بلدي، فقالوا: نعم- فإنه لا يستحل لكم دما ولا مالا- وتبقى أموالكم، إن شئتم بعتم، وإن شئتم أمسكتم، قالوا: أما هذا فنعم، قال: أما واللَّه إن الأخرى خيرهن لي، قال: أما واللَّه لولا أني أفضحكم لأسلمت، ولكن(13/251)
واللَّه لا تعير شعثاء بإسلامي أبدا حتى يصيبني ما أصابكم- وابنته شعثاء التي كان حسان ينسب بها.
فقال سلام بن مشكم: قد كنت لما صنعتم كارها، وهو مرسل إلينا أن اخرجوا من داري، فلا تعقب يا حيي كلامه، وأنعم له بالخروج، فاخرج من بلاده، قال: أفعل، أنا أخرج! فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة تبعه أصحابه، فلقوا رجلا خارجا من المدينة فسألوه: هل لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: لقيته بالجسر داخلا، فلما انتهى أصحابه إليه وجدوه قد أرسل إلى محمد بن مسلمة يدعوه،
فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه قمت ولم نشعر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: همت اليهود بالغدر بي، فأخبرني اللَّه بذلك فقمت [ (1) ] ،
وقد ذكر موسى بن عقبة القصة بمعنى ما تقدم.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 363- 366، وقد ذكره الواقدي بتمامه لكن ذكره المقريزي مختصرا.(13/252)
وأما تصديق اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في قوله عن أبيّ بن خلف: أنا أقتله، فقتله يوم أحد
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن أبيّ بن خلف قال حين افتدى: واللَّه إن عندي فرسا أعلفها كل يوم فرق ذرة ولأقتلن عليها محمدا، فبلغت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حلفته فقال: بل أنا أقتله إن شاء اللَّه، فلما كان يوم أحد طعنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عنقه بحربته، فوقع أبيّ عن فرسه، فلما رجع إلى فرسه وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني واللَّه محمد! قالوا: ذهب واللَّه فؤادك إن بك بأس، فقال: إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك إن شاء اللَّه،
واللَّه لو بصق لقتلني، فمات عدو اللَّه بسرف وهم قافلون إلى مكة.
وقال ابن إسحاق [ (2) ] : حدثنا ابن شهاب، وقال قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد عن عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أن أبي بن خلف الجمحيّ أسر ببدر، فلما افتدي من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن عندي العوذ فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها، فيقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا أقتلك عليها إن شاء اللَّه، فلما كان يوم أحد أقبل أبي بن خلف يركض على فرسه تلك حتى دنا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاعترض رجال من المسلمين ليقاتلوه فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: استأخروا استأخروا! فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحربة في يده فرمى بها أبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعا من أضلاعه، فرجع إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه حتى ولوا به، فطفقوا يقولون له:
لا بأس بك، فقال لهم أبي: ألم يقل لي: بل أنا أقتلك إن شاء اللَّه؟
فانطلق به أصحابه، فمات ببعض الطريق فدفنوه، قال سعيد بن المسيب: وفيه أنزل اللَّه- تبارك وتعالى-: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 211.
[ (2) ] (السيرة النبويّة لابن هشام) : 4/ 33.
[ (3) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 46، من قتل من المسلمين يوم أحد.(13/253)
قال أبو نعيم [ (1) ] : ورواه حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، وقال محمد بن سعيد: حدثني ابن شهاب الزهريّ عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: كان كعب أول من عرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد الهزيمة، وقول الناس قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال كعب: عرفت عينيه تزهران من تحب المغفر، فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأشار إليّ أن أنصت، فلما عرفوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهضوا به معهم، ونهض به معهم نحو الشّعب ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، والحارث بن الصمة في رهط من المسلمين،
فلما أسند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشّعب أدركه أبيّ بن خلف وهو يقول: يا محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم: أيعطف عليه يا رسول اللَّه رجل منا؟ فقال: دعوه، فلما دنا تناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة،
يقول بعض القوم فيما ذكر لي:
فلما أخذها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشّعر [ (2) ] من ظهر البعير إذ انتفض، ثم استقبله، فطعنه بها طعنة تدأدأ [ (3) ] منها عن ظهر فرسه مرارا.
وقال ابن لهيعة: حدثت أبو الأسود، عن عروة بن الزبير قال: كان أبيّ ابن خلف أخو بني جمح حلف وهو بمكة ليقتلن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما بلغت حلفته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا أقتله إن شاء اللَّه،
فأقبل أبيّ مقنعا في الحديد يقول لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يتقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترقوة أبيّ بن خلف من فرجه بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتوه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: ما
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 482، حديث رقم (414) .
[ (2) ] الشّعر: ذباب زرق تقع على الإبل والحمير فتنادي بها كثيرا.
[ (3) ] تدأدأ: سقط وتدحرج.(13/254)
أجزعك؟ إنما هو خدش، فذكر لهم قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: [أقتل أبيا] ثم قال:
والّذي نفسي بيده لو كان الّذي بى بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات [ (1) ] .
وقال موسى بن عقبة: عن ابن شهاب فيمن ذكرهم من قتلى المشركين يوم أحد. قال: وأبيّ بن خلف مات بمكة أو بالطريق من طعنة، طعنه إياها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال عبد الرزاق: عن معمر بن عثمان الجزري، عن مقسم قال معمر:
وحدثني الزهريّ ببعضه أنّ عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف التقيا، فقال عقبة لأبيّ: لا أرضى عنك حتى تأتي محمدا فتتفل في وجهه، وتشتمه وتكذبه، فلما كان يوم أحد خرج أبيّ بن خلف مع المشركين فأخذ النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بحربة فخرج له بها فتقع في ترقوته، فخر يخور كما يخور الثور، فأقبل أصحابه حتى احتملوه وهو يخور،
فقالوا ما هذا؟ فو اللَّه ما بك إلا خدش فقال: واللَّه لو لم يصبني إلا ريقه لقتلني أليس قد قال: أنا أقتله؟
فو اللَّه لو كان الّذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم فما لبث إلا يوما أو نحو ذلك حتى مات.
وقال الواقدي: في (مغازيه) فحدثني يونس بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمرو، عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: كان أبيّ بن خلف قدم في فداء ابنه وكان أسر يوم بدر فقال: يا محمد إن عندي فرسا لي أعلفها كل يوم فرقا من ذرة كي أقتلك عليها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا أقتلك عليها إن شاء اللَّه، ويقال: قال: ذلك بمكة فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال: أنا أقتله عليها إن شاء اللَّه، قالوا: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، وكان يقول لأصحابه إني أخشى أن يأتي أبيّ بن خلف من خلفي فإذا رأيتموه فآذنوني به، فإذا بأبيّ يركض على فرسه وقد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته يا محمد لا نجوت إن نجوت، فقال القوم:
يا رسول اللَّه ما كنت صانعا حين يغشاك؟ فقد جاءك، وإن شئت عطف بعضنا عليك فأبىّ رسول اللَّه
ودنا أبي، فتناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة، ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير، فتطايرنا عنه تطاير الشعر من
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (415) .(13/255)
ظهر البعير، ولم يكن أحد يشبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جد الجد، ثم أخذ الحربة فطعنه بالحربة في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور، ويقول له أصحابه: أبا عامر! واللَّه ما بك بأس، ولو كان هذا الّذي بك يعين أحدنا ما ضره، قال: لا واللات والعزى لو كان هذا الّذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون، أليس
قال: لأقتلنك؟
فاحتملوه، وشغلهم ذلك عن طلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولحق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشعب، ويقال: تناول الحربة من الزبير بن العوام.
كان ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ فإنّي لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذ نار تأجج لي، فهبتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذ بها يصيح: العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه فإن هذا قتيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا أبيّ بن خلف، فقلت: ألا سحقا، ويقال: مات بسرف، ويقال: لما تناول الحربة من الزبير حمل أبيّ علي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير يجود بنفسه دون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فضرب مصعب بن عمير وجهه، وأبصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه هناك فوقع وهو يخور [ (1) ] .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن مروان عن عمارة بن أبي حصينة، عن عكرمة، قال: شجّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته وذلق لسانه من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه، وتركه أصحابه،
فجاء أبيّ بن خلف يطلبه بدم أخيه أمية بن خلف، فقال: أين هذا الّذي يزعم أنه نبيّ؟
فليبرز لي فإنه إن كان نبيا قتلني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعطوني الحربة، فقالوا: يا رسول اللَّه وبك حراك فقال: إني قد استسقيت اللَّه دمه، فأخذ الحربة، ثم مشى إليه فطعنه فصرعه عن دابته،
وحمله أصحابه فاستنقذوه، فقالوا له: ما نرى بك بأسا، قال: إنه قد استسقى اللَّه دمي، إني لأجد لها ما لو كانت على ربيعة، ومضر لوسعتهم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 250- 252، غزوة أحد.
[ (2) ] (مصنف ابن أبي شيبة) : 7/ 371، كتاب المغازي، حديث رقم (36773) .(13/256)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عتبة بن أبي وقاص
فخرّج عبد الرزاق عن معمر، عن الزهريّ، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته، ودمي وجهه، وقال: اللَّهمّ لا يحل عليه الحول حتى يموت كافرا، فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على ابن قميئة ومن وافقه في ضيعه
فخرّج أبو نعيم [ (1) ] من حديث بن جريح، عن إبراهيم بن ميسرة، عن نافع بن عاصم، قال: الّذي دمي وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن قميئة رجل من هذيل، فسلط اللَّه عليه تيسا فنطحه حتى قتله.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (2) ]- وقد ذكر غزوة أحد-: وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعرفهم المشركون بذلك عبد اللَّه بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة [ (3) ] ، وأبيّ بن خلف، ورمى عتبة يومئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأربعة أحجار وكسرت رباعيته- أشظى [ (4) ] باطنها اليمنى السفلى وشج وجنتيه حتى غاب حلق المغفر في وجنته، وأصيبت ركبتاه فجحشتا، وكان حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا على بعضها ولا يشعر به، والثبت عندنا أن الّذي رمى في وجنتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن قميئة والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص،
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 488- 489، حديث رقم (424) وسنده منقطع.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 243- 246.
[ (3) ] في بعض المراجع: «قمئة» .
[ (4) ] أشظى: كسر.(13/257)
وأقبل ابن قميئة وهو يقول: دلوني على محمد، فو الّذي يحلف به، لئن رأيته لأقتلنه! فعلاه السيف ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم درعان، فوقع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحفرة التي أمامه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف بن قميئة شيئا، إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وانتهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وطلحة يحمله من ورائه، وعلي آخذ بيديه حتى استوى قائما.
حدثني الضحاك بن عثمان عن ضمرة بن سعيد، عن أبي بشير المازني، قال: حضرت يوم أحد وأنا غلام، فرأيت ابن قميئة علا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيف، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى توارى، فجعلت أصيح- وأنا غلام- حتى رأيت الناس ثابوا إليه، قال: فانظر إلى طلحة بن عبيد اللَّه آخذا بحضنه حتى قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ويقال: إن الّذي شج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جبهته ابن شهاب، والّذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص، والّذي رمى وجنتيه، حتى غاب الحلق في وجنتيه ابن قميئة، وسال الدم من في شجته التي في جبهته حتى أخضل الدم لحيته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجه رسول اللَّه، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى اللَّه- عز وجل-؟
فأنزل اللَّه- عز وجل-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ (1) ] الآية.
وقال سعد بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: سمعته يقول: اشتد غضب اللَّه على قوم أدموا وجه رسول اللَّه، اشتد غضب اللَّه على رجل قتله رسول اللَّه! قال سعد: فقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لقد حرصت على قتله حرصا ما حرصته على شيء قط، وإن كان ما علمته لعاقا بالوالد سيّئ الخلق، ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله، ولك راغ مني روغان الثعلب، فلما كان الثالثة قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عبد اللَّه ما تريد؟ تريد أن تقتل نفسك؟ فكففت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
__________
[ (1) ] آل عمران: 128.(13/258)
اللَّهمّ لا يحولنّ الحول على أحد منهم!
قال: واللَّه، ما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرجه! مات عتبة.
وأما ابن قميئة فإنه اختلف فيه، فقائل يقول: قتل في المعرك، وقائل يقول: إنه رمى يوم أحد بسهم، فأصاب مصعب بن عمير، فقال: خذها وأنا ابن قميئة! فقتل مصعبا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقمأه اللَّه،
فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته، فوجد ميتا بين الجبال، لدعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان عدو اللَّه قد رجع إلى أصحابه، فأخبرهم أنه قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو رجل من بني الأدرم من بني فهر.(13/259)
وأما تغسيل الملائكة حنطلة بن أبي عامر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لما قتل بأحد وظهور الماء بقطر من رأسه تصديقا لإخبار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك
فقال ابن إسحاق [ (1) ] : فحدثني يحيى بن عبد اللَّه، عن جده وقد التقى حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة بن أبي عامر رآه شداد بن الأسود وهو ابن شعوب، وقد علا أبا سفيان فضربه شداد بالسيف حتى قتله،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن صاحبكم- يعني حنظلة- لتغسله الملائكة، فسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب سمع الهاتفة.
وذكر الواقدي [ (2) ] في (مغازيه) قصة حنظلة قال: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد اللَّه بن أبي بن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كان السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة! فأشهدت عليه أنه قد دخل بها، وتعلق بعبد اللَّه بن حنظلة، ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس.
وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأحد وهو يسوي الصفوف، قال: فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة بن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس، ويقع أبو سفيان إلى الأرض! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالا لا يلتفتون إليه من الهزيمة، حتى عاينه الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه،
__________
[ (1) ] (السيرة النبويّة لابن هشام) : 3/ 22- 23.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 273- 274.(13/260)
فمشى حنظلة إليه بالرمح وقد أثبته، ثم ضربه الثانية فقتله، وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش، فنزل عن صدر فرسه وردف وراء أبي سفيان- فذلك قول أبي سفيان- فلما قتل حنظلة مر عليه أبوه، وهو مقتول جنب حمزة بن عبد المطلب وعبد اللَّه بن جحش، فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع، واللَّه إن كنت لبرا بالوالد، شريف الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم، وإن جزى اللَّه هذا القتيل- لحمزة- خيرا، أو أحدا أمن أصحاب محمد فجزاك اللَّه خيرا، ثم نادي يا معشر قريش حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا، ثم نادى: يا معشر قريش، حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا، فمثل بالناس وترك فلم يمثل به.
وكانت هند أول من مثل بأصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمرت النساء بالمثل- جدع الأنوف والآذان- فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان، ومثل بهم كلهم إلا حنظلة.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة، قال أبو أسيد الساعدي:
فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء، قال أبو أسيد: فرجعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنب.
وقال ابن عبد البر [ (1) ] : وذكر أهل السيرة أن حنظلة الغسيل كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل، وأعجله عنه، فلما قتل شهيدا أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن الملائكة غسلته.
وروى حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لأمرأة حنظلة بن أبي عامر الأنصاري: ما كان شأنه؟ قالت: كان جنبا وغسلت أحد شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فقتل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد رأيت الملائكة تغسله.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) : 1/ 381- 382 ترجمة رقم (549) .(13/261)
وابنه عبد اللَّه بن حنظلة، ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قد ذكرناه في باب العبادلة من هذا الكتاب [ (1) ] .
حدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشي، قال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم البغدادي الدورقي قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: افتخرت الأوس فقالوا: منا غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من حمته الدبر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت، ومنا من اهتز بموته عرش الرحمن سعد بن معاذ، فقال الخزرجيون: منا أربعة قرءوا القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يقرأه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب.
قال ابن عبد البر [ (2) ] : يعني لم يقرأه كله أحد منكم يا معشر الأوس، ولكن قد قرأه جماعة من غير الأنصار منهم: عبد اللَّه بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة. وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وغيرهم.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 381.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 382.(13/262)
وأما غشي النعاس المؤمنين يوم أحد
فقال اللَّه تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ (1) ] الأمن وهو نقيض الخوف، يقال أمن أمنا وأمنه، وقيل الأمنة الأمن وهو نقيض الخوف إنما تكون من استباق الخوف، والأمن يكون مع عدم الخوف، وكان في ذلك علم من أعلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن المسلمين كانوا في غم شديد، وقد انهزموا من عدوهم، وخرج الشيطان فيهم قبل محمد، واستشهد منهم سبعون، فما نزل اللَّه- سبحانه وتعالى- عليهم مع هذه الشدائد العظيمة النعاس حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن، والخائف لا ينام.
خرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث حسين بن محمد عن شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس بن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال:
فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
وخرّج الترمذيّ [ (3) ] من حديث سعيد عن قتادة، عن أنس أن أبا طلحة قال:
غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد، حدث أنه كان فيمن غشيه النعاس يومئذ قال:
فجعل سيفي يسقط من يدي، وآخذ، ويسقط من يدي وآخذه، والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرغبه، وأخذ له للحق.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
وخرّج أبو نعيم [ (4) ] والبيهقيّ [ (5) ] من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت انظر وما منهم أحد
__________
[ (1) ] آل عمران: 154.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 288، كتاب التفسير، باب (11) أَمَنَةً نُعاساً، حديث رقم (4562) .
[ (3) ] (الترمذيّ) : 5/ 214، كتاب تفسير القرآن، باب (4) ومن سورة آل عمران، حديث رقم (3008) .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 487، حديث رقم (421) .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 267، باب قول اللَّه- عز وجل-: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الآية. وقول اللَّه- عز وجل- إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمران: 153- 152، 153، 154] .(13/263)
إلا وهو يميد تحت حجمته من النعاس، فذلك قوله- تعالى عز وجل-: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ (1) ] الآية.
وخرّج أبو نعيم [ (2) ] من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن الزهريّ أنهم كانوا جلوسا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد في أصل الجبل حتى أرسل اللَّه عليهم النعاس أمنة منه، وأنهم ليغطون حتى إن حجفهم لتنتطح في أيديهم والعدو تحتهم.
وقال ابن إسحاق [ (3) ] : حدثني يحيى بن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن الزبير، عن الزبير قال: واللَّه إني لأسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال:
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [ (4) ] .
وخرّج البيهقيّ من حديث ابن شهاب عن عبد الرحمن بن مصور بن محرقة، عن عابية، عن عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله- تعالى-: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [ (5) ] قال: ألقى علينا النوم يوم أحد.
__________
[ (1) ] آل عمران: 154.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 487، حديث رقم (422) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (423) .
[ (4) ] آل عمران: 154.
[ (5) ] آل عمران: 154.(13/264)
وذكر الواقدي [ (1) ] في (مغازيه) قصة أحد، ثم قال أبو أسيد الساعدي:
لقد رأيتنا قبل أن يلقى علينا النعاس، وإنا لسلم لمن أرادنا، لما بنا من الحزن، فألقى علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف، وفزعنا وكأنا لم تصبنا قبل ذلك نكبة.
وقال طلحة بن عبيد اللَّه: غشينا النعاس حتى كان حجف القوم تناطح.
وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير يقول: وإني لك لكالحالم لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [ (2) ] ، فأنزل اللَّه- تعالى- فيه.
وقال أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد أصابنا النعاس أمنة منه، ما منهم رجل إلا يغط غطيطا حتى إن الحجف لنناطح، ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به، وأخذه بعد ما تثلم وإن المشركين لتحتنا.
__________
[ () ] قال الشيخ أبو نعيم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: وفي هذه الغزوة مما ذكرناه من الدلائل ما حقق اللَّه من
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أبيّ بن خلف: بل أنا أقتلك، وكذب أبيّ إذ قال: أنا أقتل محمدا.
ومنها: ما أراهم اللَّه- عزّ وجلّ- منن ردّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدقة قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد سقوطها، حتى كانت أحسن عينيه وأحدهما، فثبتت الدلالة فيه من وجهين.
وفيها: غسل الملائكة لحنظلة، وظهور ذلك للأنصار، فرأوا الماء يقطر من رأسه رفعا للجنابة التي كانت عليه.
وفيها: ما غشيهم من النعاس مع قرب العدوّ منهم، وما يوجب في العادة أن لا يناموا، فلما كان ما وقع شيئا خارجا عن العادة، ثبتت في الدلالة فيه، واللَّه- تعالى- أعلم. (دلائل أبي نعيم) : 2/ 488.
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 295- 296.
[ (2) ] آل عمران: 154.(13/265)
وقال أبو طلحة: ألقى علينا النعاس فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي، وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذ، فكان منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.
وقال أبو نعيم [ (1) ] : ما غشيهم من النعاس مع قرب العدو منهم، وما يوجب في العادة أن لا يناموا فلما كان فيما وقع شيئا خارجا عن العادة ثبتت الدلالة فيه واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 488، حديث رقم (423) .(13/266)
وأما ظهور صدق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في إخباره أن قزمان في النار
فقال الواقدي [ (1) ] : وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيره نساء بنى ظفر فقلن: يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت! يا قزمان، ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلى إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار! فأحفظته، فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه- وكان يعرف بالشجاعة- فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسوي صفوف المسلمين، فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى الصف الأول فكان فيه، وكان أول من رمى بسهم من المسلمين، فجعل يرسل نبلا كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت الجمل، ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه،
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذكره قال: من أهل النار،
فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار! يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما اصنع! قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال: قد قتل، ثم يطلع ويقول: أنا الغلام الظفري! حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع، فمر به قتادة بن النعمان فقال:
أبا الغيداق! قال له قزمان: يا لبيك! قال: هنيئا لك الشهادة! قال قزمان: إني واللَّه ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ، أن قريش إلينا حتى تطأ سعفنا،
فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم جراحته فقال: من أهل النار،
فأندبته الجراحة، فقتل نفسه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقال الواقدي [ (2) ] في موضع آخر: وكان قزمان عديدا في بني ظفر لا يدري ممن هو، وكان لهم حائطا محبا، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم، تلك التي كانت تكون بينهم، فشهد أحدا فقاتل
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 223- 224.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 263- 264.(13/267)
قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة، وأصابته الجراح
فقيل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد! قال: من أهل النار،
فأتى إلى قزمان فقيل له:
هنيئا لك يا أبا الغيداق الشهادة! قال: بم تبشرون؟ واللَّه ما قاتلنا إلا على الأحساب، قالوا: بشرناك بالجنة، قال: جنة من حرمل، واللَّه ما قاتلنا على جنة ولا نار، إنما قاتلنا على أحسابنا! فأخرج سهما من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره،
فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أهل النار.
حدثنا يونس [ (1) ] بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: أقبل قزمان يشد على المشركين، وتلقاه خالد بن الأعلم، وكل واحد منهما راجل، فاضطربا بأسيافهما، فيمر بهما خالد بن الوليد فحمل الرمح على قزمان، فسلك الرمح في غير مقتل، شطب الرمح، ومضى خالد وهو يرى أنه قد قتله، فضربه عمرو بن العاص وهما على تلك الحال، وطعنه أخرى فلم يجهز عليه، فلم يزالا يتجاولان حتى قتل قزمان خالد بن الأعلم، ومات قزمان من جراحة به من ساعة، وعثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة قتله الحارث بن الصمة خمسة.
فقال الواقدي [ (2) ] في (مغازيه) : قال جابر بن عبد اللَّه: لما قتل سعد بن ربيع بأحد رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، ثم مضى إلى حمراء الأسد، وجاء أخو سعد بن ربيع فأخذ ميراث سعد، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملا، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهلية حتى قتل سعد بن ربيع، فلما قبض عمهن المال- ولم تنزل الفرائض- وكانت امرأة سعد امرأة حازمة، صنعت طعاما- ثم دعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- خبزا ولحما وهي يومئذ بالأسواف [ (3) ] ،
فانصرفنا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الصبح، فبينا نحن عنده جلوس ونحن نذكر وقعة أحد ومن قتل من المسلمين، ونذكر سعد بن ربيع إلى أن قال رسول
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 308.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 329- 331، هذا الحديث مطموس في الأصل ونقلناه بتمامه من المرجع السابق.
[ (3) ] الأسواف: اسم حرم المدينة، وقيل: اسم موضع بعينه بناحية البقيع: (معجم البلدان) .(13/268)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قوموا بنا، فقمنا معه ونحن عشرون رجلا حتى انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودخلنا معه فنجدها قد رشت ما بين صورين، وطرحت خصفة [ (1) ] .
قال جابر بن عبد اللَّه: واللَّه ما ثم وسادة ولا بساط، فجلسنا ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدثنا عن سعد بن ربيع، يترحم عليه ويقول: لقد رأيت الأسنة شرعت إليه يومئذ حتى قتل، فلما سمع ذلك النسوة بكين، فدمعت عينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما نهاهن عن شيء من البكاء.
قال جابر: ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، قال: فتراءينا من يطلع، قال فطلع أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقمنا فبشرناه بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم ثم ردوا عليه، ثم جلس.
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فتراءينا من يطلع من خلال السعف، فطلع عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فقمنا فبشرناه بما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم ثم جلس.
ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فنظرنا من خلال السعف، فإذا علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قد طلع، فقمنا فبشرناه بالجنة، ثم جاء فجلس فسلم ثم جلس، ثم أتي بالطعام.
قال جابر: فأتى من الطعام بقدر ما يأكل رجل واحدا واثنان، فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده فيه، فقال: خذوا بسم اللَّه! فأكلنا منها حتى نهلنا، واللَّه ما أرانا حركنا منها شيئا، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارفعوا هذا الطعام! فرفعوه، ثم أتينا برطب في طبق في باكورة أو مؤخر قليل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بسم اللَّه، كلوا! قال: فأكلنا حتى نهلنا، وإني لأرى في الطبق نحوا مما أتى به، وجاءت الظهر فصلى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يمس ماء، ثم رجع إلى مجلسه فتحدث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام يتشبع به، فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلى بنا العصر، ولم يمس ماء.
__________
[ (1) ] الخصفة: الشيء المنسوج من خوص.(13/269)
ثم قامت امرأة سعد بن ربيع فقالت: يا رسول اللَّه، إن سعد بن ربيع قتل بأحد، فجاء أخوه فأخذ ما ترك، وترك ابنتين ولا مال لهما، وإنما ينكح- يا رسول اللَّه- النساء على المال، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أحسن الخلافة على تركته، لم ينزل عليّ في ذلك شيء، وعودي إليّ إذا رجعت! فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برحاء حتى ظننا أنه أنزل عليه، قال: فسرى عنه والعرق يتحدر عن جبينه مثل الجمان، فقال: عليّ بامرأة سعد قال: فخرج أبو مسعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها، قال: وكانت امرأة حازمة جلدة، فقال: أين عم ولدك؟ قالت:
يا رسول اللَّه في منزله، قال: أدعية لي، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلسي، فجلست وبعث رجلا يعدو إليه فأتى به وهو في بلحارث بن الخزرج، فأتى به وهو متعب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك فكبرت امرأته تكبيرة سمعها أهل المسجد، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادفع إلى زوجة أخيك الثمن وشأنك وسائر ما بيدك، ولم يورث الحمل يومئذ،
وهي أم سعد بنت سعد بن ربيع امرأة زيد بن ثابت أم خارجة بن زيد، فلما ولى عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقد تزوج زيد أم سعد بنت سعد وكانت حملا، فقال: إن كانت لك حاجة أن تكلمي في ميراثك من أبيك، فإن أمير المؤمنين قد ورّث الحمل اليوم، وكانت أم سعد يوم قتل أبوها سعد حملا، فقالت: ما كنت لأطلب من أخي شيئا.(13/270)
وأما حماية الدبر عاصم بن ثابت حتى لم تمسه أيدي المشركين تكرمة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلما من أعلام نبوته
فخرّج البخاريّ من حديث الزهريّ قال: أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي- وهو حليف لبني زهرة- وكان من أصحاب أبي هريرة إن أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري- جد عاصم بن عمرو بن الخطاب- فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة- وهو بين عسفان ومكة- ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدا.
فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فو اللَّه لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللَّهمّ أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، منهم خبيب الأنصاريّ وابن دثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فأوثقوهم.
فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، واللَّه لأصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة- يريد القتلى- وجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى، فقتلوه، فانطلقوا بخبيب، وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقيعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبرني عبيد اللَّه بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابنا لي وأنا غافله حين أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموس بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت(13/271)
لأفعل ذلك، واللَّه ما رأيت أسيرا قط خير من خبيب، واللَّه لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول إنه لرزق من اللَّه رزقه خبيبا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، ثم قال:
لولا أن تظنون أن بى جزع ... اللَّهمّ أحصهم عددا
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان للَّه مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله ابن الحارث، فكان خبيب هو سنّ الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا، فأستجاب اللَّه لعاصم بن ثابت يوم أصيب، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث اللَّه على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسولهم، فلم يقدر على أن يقطع من لحمه شيئا. ذكره البخاريّ في كتاب الجهاد [ (1) ] ، وترجم عليه: هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل.
وذكره في غزوة الرجيع [ (2) ] بنحوه أو قريب منه، وذكر بعقبه من طريق سفيان، عن عمرو سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: الّذي قتل خبيبا هو أبو سروعة.
وذكره أيضا في غزوة بدر [ (3) ] ، وذكر موسى بن عقبة هذا الحديث، وقصة من قتل منهم ومن أسر بنحو حديث أبي هريرة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 203- 204، كتاب الجهاد والسير، باب (170) هل يستأسر الرجل؟
ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل حديث رقم (3045) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 481- 482، كتاب المغازي باب (29) غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه، قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر أنها بعد أحد، حديث رقم (4086) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 7/ 392- 393، كتاب المغازي، باب (10) بدون ترجمة، حديث رقم (3989) ، وذكره في كتاب التوحيد، باب (14) ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي اللَّه(13/272)
وذكره عروة بن الزبير أيضا، وزاد فيه قول خبيب: اللَّهمّ إني لا انظر في وجه عدوك، اللَّهمّ إني لا أجد رسولك، فبلغه عنى السلام، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره ذلك، وزاد موسى بن عقبة: وزعموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو جالس في ذلك اليوم الّذي قتلا فيه: وعليكما أو عليك السلام، خبيب قتلته قريش، ولا أدري أذكر زيد الدّثنّة معه أم لا؟ قال:
وزعموا أنهم رموا ابن الدّثنّة بالنبل وأرادوا قتله، فلم يزدد إلا إيمانا وتثبيتا.
وزاد عروة وموسى بن عقبة جميعا: أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا واللَّه العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدميه، فضحكوا منه، وزاد بيانا قالها.
وذكر الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] في غزوة الرجيع بأتم سياقه قال: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود عن عروة قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحاب الرجيع عيونا إلى مكة ليخبروه خبر قريش، فسلكوا على النجدية حتى كانوا بالرجيع، فاعترضت لهم بنو لحيان.
حدثني محمد بن عبد اللَّه، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد اللَّه بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، ومعاذ بن محمد، في رجال من لم أسمّ، وكل قد حدثني ببعض الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت الّذي حدثوني، قالوا: لما قتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي مشت بنو لحيان إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيكلموه، فيخرج إليهم نفرا من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام، فنقتل من قتل صاحبنا، ونخرج بسائرهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمنا، فإنّهم ليسوا لشيء أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمد، يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر.
__________
[ () ] عز وجل-، وقال خبيب: وذلك في ذات الإله فذكر الذات باسمه- تعالى-، حديث رقم (7402) .
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 354- 363، غزوة الرجيع في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا.(13/273)
فقدم سبعة نفر من عضل والقارة- وهما حيان إلى خزيمة- مقرين بالإسلام، فقالوا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا فينا إسلاما فاشيا، فابعث معنا نفرا من أصحابك يقرئوننا القرآن، ويفقهوننا في الإسلام، فبعث معهم سبعة نفر:
مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن أبي البكير، وعبد اللَّه بن طارق البلوي حليف في بنى ظفر، وأخاه لأمه معتب بن عبيد، حليف في بني ظفر، وخبيب بن عديّ بن بلحارث بن الخزرج، وزيد بن الدّثنّة من بني بياضة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ويقال: كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
فخرجوا حتى إذا كانوا بماء لهذيل- يقال له الرجيع قريب من الهدة- خرج النفر فاستصرخوا عليهم أصحابهم الذين بعثهم اللحيانيون، فلم يرع أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بالقوم، مائة رام وفي أيديهم السيوف، فاخترط أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسيافهم، ثم قاموا، فقال العدو: ما نريد قتالكم، وما نريد إلا أن نصيب منكم من أهل مكة ثمنا، ولكم عهد اللَّه وميثاقه لا نقتلكم.
فأما خبيب بن عدي، وزيد بن الدّثنّة، وعبد اللَّه بن طارق فاستأسروا، وقال خبيب: إن لي عند القوم يدا، وأما عاصم بن ثابت، ومرثد، وخالد بن أبي البكير، ومعتب بن عبيد، فأبوا أن يقبلوا جوارهم ولا أمانهم، وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلد نابل ... النبل والقوس لها بلابل
نزلّ عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آئل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل [ (1) ]
قال الواقدي: ما رأيت من أصحابنا أحدا يدفعه، قال: فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللَّهمّ حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره! وكانوا يجردون كل من قتل من
__________
[ (1) ] هابل: أي فاقد، يقال: هبلته أمه إذا فقدته.(13/274)
أصحابه، قال: فكسر غمد سيفه، ثم قاتل حتى قتل، وقد جرح رجلين وقتل واحد، فقال عاصم وهو يقائل:
أنا أبو سليمان ومثلي رامي ... ورثت مجدا معشرا كراما
أصبت مرثدا وخالدا قياما
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشهيد قد قتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، الحارث، ومسافعا، فندرت لئن أمكنها اللَّه منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت ذلك العرب وعلمته بنو لحيان فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة.
فبعث اللَّه- تبارك وتعالى- عليهم الدبر فحمته فلم يدن إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث اللَّه عليه سيلا- وكنا ما نرى في السماء سحابا في وجه من الوجوه- فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه، فقال: عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو يذكر عاصما- وكان عاصم نذر ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك تنجسا به، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: إن اللَّه- عز وجل- ليحفظ المؤمنين، فمنعه اللَّه- عز وجل- أن يمسوه بعد وفاته كما امتنع في حياته.
وقاتل معتب بن عبيد حتى جرح فيهم، ثم خلصوا إليه فقتلوه، وخرجوا بخبيب، وعبد اللَّه بن طارق، وزيد بن الدّثنّة حتى إذا كانوا بمر الظهران، وهم موثقون بأوتار قسيهم، قال عبد اللَّه بن طارق: هذا أول الغدر! واللَّه لا أصاحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة- يعني القتل، فعالجوه فأبى، ونزع يده من رباطه، ثم أخذ سيفه، فانحازوا عنه، فجعل يشد فيهم وينفرجون عنه، فرموه بالحجارة حتى قتلوه- فقبره بمر الظهران، وخرجوا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدّثنّة حتى قدموا بهما مكة، فأما خبيب فابتاعه حجير بن أبي إهاب بثمانين مثقال ذهب، ويقال اشتراه بخمسين فريضة، ويقال اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائة من الإبل، وكان حجير إنما اشتراه لابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه- قتل يوم بدر-، وأما زيد بن الدّثنّة،(13/275)
فاشتراه صفوان بن أمية بخمسين فريضة فقتله بأبيه، ويقال إنه شرك فيه أناس من قريش، فدخل بهما في شهر حرام، وفي ذي القعدة، فحبس حجير خبيب بن عدي في بيت امرأة، يقال لها ماوية، مولاة لبني عبد مناف، وحبس صفوان بن أمية زيد بن الدّثنّة عند ناس من بني جمح، ويقال عند نسطاس غلامه، وكانت ماوية قد أسلمت بعد فحسن إسلامها، وكانت تقول:
واللَّه ما رأيت أحدا خيرا من خبيب، واللَّه لقد أطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد، وما أعلم في الأرض حبة عنب تؤكل، وإن في يده لقطف عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما هو إلا رزق رزقه اللَّه، وكان خبيب يتهجد بالقرآن، وكان يسمعه النساء فيبكين ويرققن عليه، قالت: فقلت له: يا خبيب، هل لك من حاجة؟ قال: لا، إلا أن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلي، قالت: فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فو اللَّه ما رأيته اكترث لذلك، وقال: ابعثي لي بحديدة أستصلح بها، قالت: فبعثت إليه موسى مع ابني أبي حسين، فلما ولى الغلام قلت: أدرك واللَّه الرجل ثأره، أي شيء صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول: «رجل برجل» فلما أتاه ابني بالحديدة تناولها منه، ثم قال ممازحا له: وأبيك إنك لجريء! أما خشيت أمك غدري حين بعثت معك بحديدة وأنتم تريدون قتلي؟ قالت ماوية: وأنا أسمع ذلك فقلت: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان اللَّه وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني، فقال خبيب: ما كنت لأقتله، وما نستحل في ديننا الغدر، ثم أخبرته أنهم مخرجوه فقاتلوه بالغداة، قال: فأخرجوه بالحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة، فلم يتخلف أحد، إما موتور فهو يريد أن يتشافي بالنظر من وتره، وأما غير موتور فهو مخالف للإسلام وأهله، فلما انتهوا به إلى التنعيم، ومعه زيد بن الدّثنّة، فأمروا بخشبة طويلة فحفر لها، فلما انتهوا بخبيب إلى خشبته قال: هل أنتم تاركي فأصلي ركعتين؟ قالوا: نعم، فركع ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما.
فحدثني معمر، عن الزهريّ، عن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن العلاء، عن أبي هريرة، قال: أول من سن الركعتين عند القتل خبيب.(13/276)
قالوا: ثم قال: أما واللَّه لولا أن تروا أني جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة، ثم قال: اللَّهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.
فقال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب، ولقد جبذني يومئذ أبو سفيان جبذة، فسقطت على عجب ذنبي فلم أزل أشتكي السقطة زمانا.
وقال حويطب بن عبد العزى: لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هربا فرقا أن أسمع دعاؤه.
وقال حكيم بن حزام: لقد رأيتني أتوارى بالشجر فرقا من دعوة خبيب منهم أحدا.
فحدثني عبد اللَّه بن يزيد قال: حدثني بن عمرو قال: سمعت جبير بن مطعم يقول: لقد رأيتني يومئذ أتستر بالرجال فرقا من أن أشرف لدعوته.
وقال الحارث بن برصاء: واللَّه ما ظننت أن تغادر دعوة خبيب منهم أحد وحدثني عبد اللَّه، قال: سمعت عمرو بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سعيد بن عامر بن حذيم الجمحيّ على حمص، وكانت تصيبه غشية وهو بين ظهري أصحابه، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فسأله في قدمة قدم عليه من حمص فقال: يا سعيد ما الّذي يصيبك؟ أبك جنة؟ قال: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، ولكني كنت فيمن حضر خبيبا حين قتل وسمعت دعوته، فو اللَّه ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس إلا غشي علي، قال: فزادته عند عمر خيرا.
وحدثني قدامة بن موسى، عن عبد العزيز بن رمانة، عن عروة بن الزبير، عن نوفل بن معاوية الديليّ، قال: حضرت يومئذ دعوة خبيب، فما كنت أرى أن أحدا ممن حضر ينفلت من دعوته، ولقد كنت قائما فأخلدت إلى الأرض فرقا من دعوته، ولقد مكثت قريش شهرا أو أكثر وما لها حديث في أنديتها إلا دعوة خبيب.
قالوا: فلما صلى ركعتين حملوه إلى الخشبة، ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا، ثم قالوا: أرجع عن الإسلام، نخل سبيلك! قال: لا واللَّه ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعا! قالوا: فتحب أن(13/277)
محمدا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: واللَّه ما أحب أن يشاك محمد بشوكة وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبدا! قالوا: أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك! فقال: إن قتلي في اللَّه لقليل! فلما أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة فإن اللَّه يقول: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ (1) ] ، ثم قال:
اللَّهمّ إني لا أرى إلا وجه عدو، اللَّهمّ أنه ليس ها هنا أحد يبلغ رسولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام.
فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان جالسا مع أصحابه، فأخذته غمية كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي، قال: ثم سمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة اللَّه، ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام،
قال: ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما، فأعطوا كل غلام رمحا، ثم قالوا: هذا الّذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا، فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال:
الحمد للَّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين! وكان الذين أجلبوا على قتل خبيب: عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد اللَّه بن قيس، والأخنس بن شريق، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن الأوقص السلميّ، وكان عقبة بن الحارث بن عامر ممن حضر، وكان يقول: واللَّه ما أنا قتلت خبيبا إن كنت يومئذ لغلاما صغيرا، ولكن رجلا من بني عبد الدار يقال له أبو ميسرة من عوف بن السباق أخذ بيدي فوضعها على الحربة، ثم أمسك بيدي، ثم جعل يطعن بيده حتى قتله، فلما طعنه بالحربة أفلت، فصاحوا: يا أبا سروعة، بئس ما طعنه أبو ميسرة! فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره، فمكث ساعة يوحد اللَّه ويشهد أن محمدا رسول اللَّه.
يقول الأخنس بن شريق: لو ترك ذكر محمد على حال لتركه على هذه الحال، ما رأينا قط والدا يجد بوالده ما يجد أصحاب محمد بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] البقرة: 115.(13/278)
قالوا: وكان زيد بن الدّثنّة عند آل صفوان بن أمية محبوسا في حديد، وكان يتهجد بالليل ويصوم بالنهار، ولا يأكل شيئا مما أوتي به من الذبائح، فشق ذلك على صفوان، وكانوا قد أحسنوا إساره، فأرسل إليه صفوان: فما الّذي تأكل من الطعام؟ قال: لست آكل مما ذبح لغير اللَّه، ولكني أشرب اللبن، وكان يصوم، فأمر له صفوان بعس من اللبن عند فطره فيشرب منه حتى يكون مثلها من القابلة، فلما خرج به وبخبيب في يوم واحد التقيا، ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فالتزم كل منهما صاحبه، وأوصى كل واحد منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه، ثم افترقا، وكان الّذي ولى قتل زيد نسطاس غلام صفوان، خرج به إلى التنعيم فرفعوا له جزعا، فقال: أصلي ركعتين فصلى ركعتين، ثم حملوه على الخشبة، ثم جعلوا يقولون لزيد: أرجع عن دينك المحدث وأتبع ديننا، ونرسلك! قال: لا واللَّه، لا أفارق ديني أبدا! قالوا: أيسرك أن محمدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمد أشيك بشوكة وأني في بيتي! قال: يقول أبو سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حبا من أصحاب محمد بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال حسان بن ثابت، صحيحة سمعتها من يونس بن محمد الظفري:
فليت خبيبا لم تخنه أمانة ... وليت خبيبا كان بالقوم عالما
شراه زهير بن الأغر وجامع ... وكانا قديما يركبان المحارما
أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... وكنتم بأكناف الرجيع اللهازما
وقال حسان بن ثابت، ثبته قديمة:
لو كان في الدار قرم ذو محافظة ... حامي الحقيقة ماض في خاله أنس
إذن حللت خبيبا منزلا فسحا ... ولم يشد عليك الكبل والحرس
ولم تقدك إلى التنعيم زعنفة ... من المعاشر ممن قد نفت عدس
فأصبر خبيب فإن القتل مكرمة ... إلى جنان نعيم ترجع النفس
دلوك غدرا وهم فيها أولو خلف ... وأنت ضيف لهم في الدار محتبس
وقد ذكر يونس بن بكير بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة هذه القصة وزاد فيها أن قدوم النفر من القادة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة بعد أحد وزاد أن خبيبا قال: حين بلغه أن القوم قد اجتمعوا على صلبه أبياتا:(13/279)
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبري العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق بمضجع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جزع طويل ممنع
إلى اللَّه أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش، صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بأس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري حجم نار ملفع
فو اللَّه ما أرجو إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في اللَّه مصرعي
فلست بمبد العدو تخشعا ... ولا جزعا إني إلى اللَّه مرجعي
وذكر عبد اللَّه بن وهب قال: حدثنا عمر بن الحرث بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه الزهريّ أخبره عن بريدة بن سفيان الأسلمي، فذكر القصة، وزاد فيها رفع خبيب على الخشبة أستقبل الدعاء.
قال رجل: فلما رأيته يدعوا لبثت بالأرض، فلم يحل الحول ومنهم أحد غير ذلك الرجل الّذي لبث بالأرض.
وقال يونس عن إبراهيم بن إسماعيل: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية الضمريّ أن أباه حدثه عن جده- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثه عينا وحده- قال:
جئت إلى خشبة خبيب، فرقيت فيها وأنا أخوف العيون، فأطلقته، فوقع بالأرض، ثم اقتحمه فانتبذت قليلا، ثم التفت فكأنما ابتلعته الأرض. ذكره جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، فذكره بمعناه إلا أنه قال: فانتبذت غير بعيد، فلم أر خبيبا فكأنما ابتلعته الأرض، فلم يذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
قال كاتبه: قد تضمن هذا الخبر عشرة أعلام من أعلام النبوة: أن الدبر جمعت عاصما حتى لم تمسه أيدي المشركين، ومنها أن السيل غيبه، ومنها أكل خبيب العنب في غير أوانه، وهي كرامة كما قصه اللَّه- تعالى- من شأن(13/280)
مريم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [ (1) ] ومنها ثباته، وثبات زيد على دين الإسلام، ومحبة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عظيم ما جمع فيه من المحبة العظيمة في ذلك، ومنها تغييب رمة خبيب عن المشركين بعد صلبه، ومنها توجيه اللَّه تعالى له إلى نحو الكعبة بعد صرفهم إياه عنها، ومنها إعلام اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما نزل بالقوم، وإبلاغه تعالى سلام خبيب له، ومنها إجابة اللَّه دعوة خبيب، وهلاك من شهد قتله من عامة كل ذلك تكرمة من اللَّه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] آل عمران: 37.(13/281)
وأما حماية اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ممن بعثه أبو سفيان بن حرب ليقتله وتخليصه تعالى عمرو بن أمية الضمريّ ومن معه من فتك المشركين وتأييدهما عليهم حتى قتلا منهم وأسرا
قال الواقدي [ (1) ] : حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: وحدثنا عبد اللَّه بن أبي عبيدة، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمريّ، قال: وحدثنا عبد اللَّه بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، وزاد بعضهم على بعض قال:
كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا، فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له: إن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله فإنّي هاد بالطريق خريت، ومعي خنجر مثل خافية النسر، قال: أنت صاحبنا فأعطاه بعيرا ونفقة وقال:
أطو أمرك فإنّي لا آمن أن يسمع هذا أحد فينمه إلى محمد، قال العربيّ: لا يعلم به أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحرة، صبح سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتى المصلي، فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل، فخرج يقود راحلته حتى انتهى إلى بنى عبد الأشهل، فعقل راحلته،
ثم أقبل يؤم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجدهم، فدخل، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال لأصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا واللَّه حائل بينه وبين ما يريد.
فوقف، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا ابن عبد المطلب، فذهب ينحني على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأنه يساره، فجبذه أسيد بن الحضير، وقال له: تنح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجبذ بداخله إزاره، فإذا الخنجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا غادر، وسقط في يدي العربيّ، وقال: دمي دمي يا محمد، وأخذ أسيد يلبب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اصدقني: ما أنت؟ وما أقدمك؟
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 333- 337.(13/282)
فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد أطلعت على ما هممت به، قال العربيّ: فأنا آمن؟ قال فأنت آمن، فأخبره بخير أبي سفيان وما جعل له، فأمر به فحبس عند أسيد، ثم دعا به من الغد فقال: قد أمنتك، فأذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك، قال: وما وهو؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، قال: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه، واللَّه يا محمد ما كنت أفرق الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي، وضعفت نفسي، ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الركبان، ولم يعلمه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبسم، وأقام أياما ثم استأذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج من عنده فلم يسمع له بذكر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن أمية الضمريّ، ولسلمة بن أسلم بن حريش: أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب، فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه، قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن [يأجج] فقيدنا بعيرنا،
فقال لي صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة ونطوف بالبيت سبعا، ونصلي ركعتين؟ فقلت: إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، وأنهم أن رأوني عرفوني، وأنا أعرف أهل مكة إنهم إذا أمسوا أنفجعوا بأفنيتهم، فأبى أن يطيعني، فأتينا مكة فطفنا سبعا وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني وقال عمرو بن أمية: [وأحزناه] فأخبر أباه فنيد بنا أهل مكة، فقالوا: ما جاء عمرو في خير- وكان عمرو رجلا فاتكا في الجاهلية- فحشد أهل مكة، وتجمعوا، وهرب عمرو، وسلمة، وخرجوا في طلبهما، واشتدوا في الجبل قال عمرو: فدخلت غارا فتغيبت عنهم، حتى أصبحت وباتوا يطلبون في الجبل، وعمى اللَّه عليهم طريق المدينة أن يهتدوا لراحلتنا فلما كان الغد ضحوة أقبل عثمان بن مالك بن عبيد اللَّه التيمي يختلي لفرسه حشيشا، فقلت لسلمة بن أسلم: إن أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد أقصروا عنا فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا وخرجت فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري فسقط وصاح، وأسمع أهل مكة، فأقبلوا بعد تفرقهم، ودخلت الغار فقلت لصاحبي: لا تحرك وأقبلوا حتى أتوا عثمان بن مالك، فقالوا: من قتلك؟(13/283)
قال عمرو بن أمية قال أبو سفيان: وما علمنا أنه لم يأت بعمرو خير، ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا كان بآخر رمق ومات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم يحملونه، فمكثنا ليلتين في مكاننا، ثم خرجنا، فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية، هل لك في خبيب بن عدي ننزله؟ فقلت له: أين هو؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس، فقلت: أمهلني وتنح عني فإن خشيت شيئا فانح إلى بعيرك فأقعد عليه وأت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره الخبر، ودعني فإنّي عالم بالمدينة، ثم اشتددت عليه حتى حللته فحملته على ظهري فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا فخرجوا في طلب أثري، فطرحت الخشبة، فما أنسي وقعها دب، يعني صوتها، ثم أهلت عليه من التراب برجلي فأخذت بهم طريق الصفراء فأعبوا فرجعوا وكنت لا أدرك مع بقاء نفس، فأنطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، وأقبلت حتى أشرفت على الغليل:
غليل ضجنان فدخلت في غار فيه معي قوس وأسهم وخنجر، فبينا أنا فيه إذ أقبل رجل من بني بكر من بني الدئل أعور طويل يسوق غنما ومعزى، فدخل على الغار، فقال: من الرجل؟ فقلت: من بني بكر، فقال: وأنا من بني بكر، ثم اتكأ، فرفع عقيرته يتغنى يقول:
فلست بمسلم ما دمت حيا ... ولست أدين دين المسلمينا
فقلت في نفسي: واللَّه إني لأرجو أن أقتلك، فلما نام قمت إليه، فقتلته شر قتلة قتلها أحد قط، ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان الأخبار، فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فلما رأى ذلك الآخر استأسر فشددته وثاقا، ثم أقبلت به إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما قدمت المدينة رآني صبيان وهم يلعبون وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو، فاشتد الصبيان إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهاميه بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يضحك، ثم دعا لي بخير، وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام.(13/284)
وأما رفع عامر بن فهيرة بعد قتله في بعث بئر معونة
فخرّج البخاريّ قصة بئر معونة في (المغازي) [ (1) ] من حديث يزيد بن زريع حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، ومن حديث همام، عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن أنس بن أبي طلحة، حدثني أنس.
ومن حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن أنس، وخرّجها في غزوة الرجيع من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، ثم قال: وعن أسامة قال:
قال هشام بن عروة: فأخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر معونة، وأسر عمرو بن أمية الضمريّ قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه، وبين الأرض، ثم وضع فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهم، فنعاهم الحديث.
وذكر الواقدي خبر بعث بئر معونة، ثم قال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية: هل تعرف أصحابك؟ قال: قلت: نعم، قال: فطاف فيهم، وجعل يسأله عن أنسابهم، فقال: هل تفقد منهم عن أحد؟ قال: أفقد مولى لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقال له عامر بن فهيرة، فقال: كيف كان فيكم؟ قال: قلت: كان من أفضلنا، ومن أول أصحاب نبينا إسلاما. قال: ألا أخبرك خبره؟ وأشار إلى رجل، فقال: هذا طعنه برمحه، ثم انتزع رمحه، فذهب بالرجل علوا في السماء حتى واللَّه ما أراه، قال عمرو، فقلت ذلك عامر بن فهيرة كان الّذي قتله من بني كلاب يقال له جبار بن سلمي، ذكر أنه لما طعنه قال: سمعته يقول: فزت واللَّه، قال: فقلت في نفسي: ما قوله فزت؟ قال: فأتيت الضحاك بن سفيان الكلابي، فأخبرته بما كان، وسألته عن قوله: فزت، فقال: الجنة، قال: وعرض علي الإسلام، قال: فأسلمت، ودعاني إلى الإسلام ما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة، ورفعه إلى السماء
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 349.(13/285)
علوا قال:
وكتب الضحاك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخبره بإسلامي، وما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإن الملائكة وارت جثته! وأنزل عليين.
وأما إعلام اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم يهاجم به المشركون من الميل على المسلمين إذ أضلوا ليقتلوهم
فخرّج مسلم [ (1) ] من حديث زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر قال:
غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قوما من جهينة فقاتلونا قتالا شديدا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك، فذكر ذلك لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر قال: صفنا صفين والمشركين بيننا وبين القبلة، قال: فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكبرنا وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني، فقاموا مقام الأول فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني، فلما سجد الصف الثاني، ثم جلسوا جميعا سلم عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال أبو الزبير: ثم خص جابر أن قال: كما يصلي أمراؤكم هؤلاء.
وخرّج أبو داود [ (2) ] من حديث سعيد بن منصور، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقيّ قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 375، كتاب صلاة المسافر وقصرها، باب (57) صلاة الخوف، حديث رقم (308) .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 2/ 28- 29، كتاب الصلاة باب (281) صلاة الخوف، حديث رقم (1236) .(13/286)
المشركون: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستقبل القبلة، والمشركون أمامه، فصف خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الّذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الّذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والصف الّذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعا، فسلم عليهم جميعا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم.
قال أبو داود: روى أيوب، وهشام عن أبي الزبير، عن جابر هذا المعنى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكذلك رواه داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس وكذلك عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، وكذلك قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن أبي موسى فعله، وكذلك عكرمة بن خالد، عن مجاهد، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكذلك هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال كاتبه: في رواية أبي داود زيادة ذكر الموضع الّذي صلى فيه، وقول أبي عياش: وعلى المشركين خالد بن الوليد، وهو قول الثوري.
وذكر الواقدي، عن خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قصة إسلامه قال: فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبيّة خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه، وتعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا فأطلع اللَّه نبيه على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو هشام عن أبي الزبير، عن جابر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه الظهر بنخل، فهم بهم المشركون، ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه أحب إليهم(13/287)
من أبنائهم، قال: فنزل جبريل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فصلى العصر، وصفهم صفين ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أيديهم، والعدو بين يديّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكبروا جميعا، وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونه، والآخرون قيام، فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء، وتأخر هؤلاء، وكبروا جميعا، وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام، فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون.
وأما حماية اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من غورث بن الحارث، وكفايته أمره
فخرّج البخاريّ من حديث شعيب، ومحمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن سنان، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أخبره أنه غزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل نجد، فلما قفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قفل معه، فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر، ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة، فعلق بها سيفه.
قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فأستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك منى؟ قلت: اللَّه، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وقال: أبان حدثنا يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاء رجل من المشركين، وسيف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم معلق بالشجرة. فاخترطه، فقال له:
تخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: اللَّه
فتهدده أصحاب النبي
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 541- 542، كتاب المغازي، باب (32) غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب خصفة منن بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلا، وهي بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، حديث رقم (4135) .(13/288)
صلّى اللَّه عليه وسلّم وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أربع، وللقوم ركعتان. وقال مسدد: عن أبي عوانة، عن أبي بشر أسم الرجل غورث بن الحارث، وقاتل فيها محارب خصفة [ (1) ] .
وخرج البخاريّ أيضا من طريق عبد الرزاق حدثنا معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوة نجد، فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العضاة، فنزل تحت شجرة، وأستظل بها، وعلق سيفه فتفرق الناس في الشجرة يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجئنا فإذا أعرابى قاعد بين يديه، فقال: إن هذا أتانى وأنا نائم، فأخترط سيفي، فأستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط سيفي صلتا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه، فشامه، ثم قعد، فهو هذا، قال: ولم يعاقبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] . ذكره في غزوة ذات الرقاع [ (3) ] ، وغزوة المريسيع [ (4) ] .
وخرّجه النسائي [ (5) ] وخرّجه البيهقيّ [ (6) ] من طريق أبي بكر الإسماعيليّ قال:
أخبرنا محمد بن يحيي المروزي، قال: حدثنا عاصم هو ابن عليّ، قالا:
حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر، قال: قاتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيف، فقال:
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4136) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 545، كتاب المغازي، باب (33) غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع، قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع، وقال النعمان بن راشد عن الزهريّ: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع، حديث رقم (4139) .
[ (3) ] (سبق تخريجه) .
[ (4) ] (سبق تخريجه) .
[ (5) ] (لعله في الكبرى) .
[ (6) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 375- 376.(13/289)
من يمنعك مني؟ قال: اللَّه، قال: فسقط السيف من يده، قال: فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وإني رسول اللَّه؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله،
فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس، ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى أربع ركعات، لكل طائفة ركعتين.
قال البيهقيّ: هذا لفظ حديث عاصم، وفي رواية عارم قال الأعرابي:
أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه، فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس، فلما حضرت الصلاة صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين بإزاء عدوهم، وطائفة تصلي مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين، ثم انصرفوا فكانوا مع أولئك الذين بإزاء عدوهم، وجاء أولئك، فصلى بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ركعتين، فكانت للناس ركعتين ركعتين وللنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أربع ركعات.(13/290)
وأما إشارة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم حين ضرب بالفأس في حفر الخندق وإلى ما فتحه اللَّه من المدائن لأمته
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من طريق ابن وهب، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوم الخندق وهم محدقون حول المدينة فتناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الفأس فضرب بها ضربة فقال:
هذه الضربة يفتح اللَّه- تعالى- بها كنوز الروم، ثم ضرب الثانية فقال: هذه الضربة يفتح اللَّه- تعالى- بها كنوز فارس، ثم ضرب الثالثة فقال: هذه الضربة يأتيني اللَّه- عزّ وجلّ- بأهل اليمن أنصارا وأعوانا.
وخرجه البيهقيّ [ (2) ] من طريق محمد بن عبد اللَّه الحافظ قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علّون المقري ببغداد، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يونس القرشيّ، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: حدثنا كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المزنيّ قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخندق عام الأحزاب من أجم السّمر طرف بني حارثة حين بلغ المداد، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة،
فاختلف المهاجرون والأنصار- في سلمان الفارسيّ- وكان رجلا قويا- فقالت الأنصار: سلمان منا، وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سلمان منا أهل البيت.
قال عمر بن عوف: فكنت أنا، وسلمان، وحذيفة بن اليمان، والنعمان ابن مقرّن، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحضرنا حتى إذا بلغنا الثديّ أخرج اللَّه من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة، فكسرت حديدنا، وشقّت
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 498- 499، من الأخبار في غزوة الخندق، حديث رقم (429) ، أخرجه الطبراني بإسنادين في أحدهما حييّ بن عبد اللَّه، وثقه ابن معين، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح، كما في (مجمع الزوائد) : 6/ 131.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 418- 420، باب ما ظهر في حفر الخندق من دلائل النبوة وآثار الصدق.(13/291)
علينا، فقلنا: يا سلمان، ارق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره خبر هذه الصخرة، فإنا إن نعدل عنها فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقى سلمان حتى أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول اللَّه، بأبينا أنت وأمنا، خرجت لنا صخرة بيضاء من الخندق مروه فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع سلمان في الخندق، ورقينا عن الشقة في شقة الخندق،
فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاء ما بين لابتيها- يعني لابتي المدينة- حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تكبيرة فتح، فكبر المسلمون.
ثم ضربها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الثانية، فكسرها، وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تكبيرة فتح، فكبر المسلمون.
ثم أخذ بيد سلمان فرقى، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! لقد رأيت شيئا ما رأيته قط، فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى القوم، فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، بأبينا أنت وأمنا، قد رأيناك تضرب، فخرج برق كالموج فرأيناك تكبر، ولا نرى شيئا غير ذلك، فقال:
صدقتم، ضربت ضربتي الأولى، فبرق الّذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الّذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق منها، الّذي رأيتم، أضاءت منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا يبلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر.(13/292)
فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد اللَّه موعود صادق بأن اللَّه وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب، فقال المسلمون: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [ (1) ] .
وقال المنافقون: ألا تعجبون!؟ يحدثكم ويمنيكم، ويعدكم بالباطل، يخبركم أنه بصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق، ولا تسطيعون أن تبرزوا!!.
فأنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [ (2) ] .
وله من حديث هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف عن ميمون، قال:
حدثني البراء بن عازب قال: لما كان حين أمرنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول، فشكونا ذلك إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجاء فلما رآها ألقى ثوبة، وأخذ المعول، فقال:
بسم اللَّه، ثم ضرب ضربة فكسر ثلثها، فقال: اللَّه أكبر أعطيت مفاتيح الشام واللَّه إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية، وقال: بسم اللَّه، فقطع ثلثا آخر، فقال: اللَّه أكبر أعطيت مفاتيح فارس، واللَّه إني لأبصر قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال بسم اللَّه، فقطع بقية الحجر، فقال:
اللَّه أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، واللَّه إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة [ (3) ] .
ومن طريق محمد بن إسحاق قال: حدثنا سعيد بن يحيى قال: حدثني أبي قال: ابن إسحاق: فحدثني من سمع حميلا يتحدث، عن أنس بن مالك قال: قسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخندق بين المهاجرين والأنصار، وظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومه ذلك بعمل فضرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمعوله ضربة، وبرقت برقة، فخرج نور من قبل اليمن، ثم ضرب أخرى فخرج نور من قبل فارس، فعجب سلمان من
__________
[ (1) ] الأحزاب: 22.
[ (2) ] الأحزاب: 12.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 241، باختلاف يسير في اللفظ.(13/293)
ذلك فقال رسول اللَّه: أرأيت؟ قلت: نعم، قال: لقد أضاء لي أبيض المدائن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه قد بشرني في مقامي هذا بفتح اليمن، والروم، وفارس.
وقال: محمد بن إسحاق، عن الكلبي عن أبي صالح، عن سلمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ضربت في ناحية الخندق فعصت عليّ صخرة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قريب مني فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان [جاء] فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت برقة أخرى، قال: فقلت: بأبي أنت وأمي! ما هذا الّذي رأيت تحت المعول؟ قال: وقد رأيت ذلك يا سلمان؟ قلت: نعم، قال: أما الأولى فإن اللَّه فتح بها عليّ اليمن، وأما الثانية فإن اللَّه فتح بها عليّ الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن اللَّه فتح بها عليّ المشرق.
ومن طريق الحسن بن سفيان قال: حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا محمد بن أبي يحيى عن العباس بن سهل، بن سعد، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخندق، فأخذ الكرزن [ (1) ] فحفره، فصادف حجرا فضحك، فقيل: لم ضحكت يا رسول اللَّه؟ قال: ضحكت من ناس يؤتي بهم من قبل المشرق في الكبول يساقون إلى الجنة، وهو كارهون.
قال أبو نعيم: فأخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم بانتشار المسلمين وظهورهم حتى يسبوا سبايا الأمم مقيدين مسوقين إلى بلاد الإسلام يسترقون فيسلمون.
وقال الواقدي في (مغازيه) : وحدثني أبيّ بن عباس بن سهل عن أبيه، عن جده قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الخندق، فأخذ الكرزن [ (2) ] ، وضرب
__________
[ (1) ] الكرزن والكرزين: قال أبو حنيفة: الكرزن، بفتح الكاف والزاى جميعا، الفأس لها حدّ،
وفي الحديث عن العباس بن سهل عن أبيه قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الخندق فأخذ الكرزين يحفر في حجر إذ ضحك، فسئل: ما أضحك؟ فقال: من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق في الكبول يساقون إلى الجنة وهم كارهون،
قال: أبو عمرو: إذا كان لها حد واحد فهي فأس وكرزن وكرزن، والجمع كرازين وكرازن. (لسان العرب) : 13/ 358.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.(13/294)
به، [فصادف حجرا] ، فصلّ الحجر فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقيل: يا رسول اللَّه مم تضحك؟ قال: أضحك من قوم يؤتي بهم من المشرق في الكبول يساقون إلى الجنة وهم كارهون [ (1) ] .
وحدثني عاصم بن عبد اللَّه الحكمي، عن عمر بن الحكم قال: كان عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يضرب يومئذ بالمعول، فصادف حجرا صلدا، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المعول وهو عند جبل بني عبيد، فضرب ضربة فذهبت أولها برقة إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة، فكان عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: والّذي بعثه بالحق لصار كأنه سهلة [ (2) ] ،
وكان كلما ضرب ضربه تبعه سليمان ببصره فيبصر عند كل ضربه برقة، فقال سلمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه رأيت المعول كلما ضربت به أضاء ما تحته، فقال: أليس قد رأيت ذلك؟ قال:
نعم.
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إني رأيت في الأولى قصور الشام، ثم رأيت في الثانية قصور اليمن، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن، وجعل يصفه لسلمان، فقال: صدقت والّذي بعثك بالحق إن هذه لصفته، وأشهد أنك رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه فتوح يفتحها اللَّه عليكم بعدي يا سليمان، لتفتحن الشام ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، ولتفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى فلا يكون [كسرى] بعده، قال سلمان: فكل هذا قد رأيت [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 449، وما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (2) ] السهلة: رمل ليس بالدقاق.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 449- 450، وما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.(13/295)
وأما إخبار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن المشركين بعد الخندق لا يغزون المسلمين، وكان كذلك
فخرّج البخاريّ من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يوم الأحزاب نغزوهم، ولا يغزوننا [ (1) ] .
ومن حديث إسرائيل قال: سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت سليمان بن صرد يقول: «سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول حين أجلي الأحزاب عنه: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» [ (2) ] .
وذكر يونس عن ابن إسحاق- رحمة اللَّه عليه- قال: انصرف أهل الخندق عن الخندق، قالوا: يا رسول اللَّه فما ندمنا لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى فتح اللَّه- تعالى- عليه مكة شرفها اللَّه- تعالى- وعظمها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 515، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، حديث رقم (4109) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4110) .
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 457- 458، باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذهاب الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزوننا فكان كما قال.
وأخرجه البخاريّ في (الصحيح) من حديث يحيى بن آدم عن إسرائيل.(13/296)
وأما قذف اللَّه عز وجل الرعب في قلوب بني قريظة
فخرّج البخاريّ [ (1) ] من حديث ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قال: لما رجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح! واللَّه ما وضعناه فاخرج إليهم. قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا، وأشار إلى قريظة، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم. وخرّجه مسلم.
وخرّج البخاريّ في الجهاد من طريق عبدة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رجع يوم الخندق، ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال: وضعت السلاح؟ فو اللَّه ما وضعته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأين؟
قال: ها هنا وأومأ إلى بني قريظة، قال: فخرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ترجم عليه باب الغسل بعد الحرب والغبار [ (2) ] .
وخرّج من طريق جرير بن حازم عن حميد بن هلال، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كأني انظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني قريظة [ (3) ] .
وذكر ابن إسحاق أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، ونزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحكم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 815، كتاب المغازي، باب (31) مرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم، حديث رقم (4117) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 38، كتاب الجهاد والسير، باب (18) الغسل بعد الحرب والغبار، حديث رقم (2813) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 518، كتاب المغازي، باب (31) مرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم، حديث رقم (4118) .(13/297)
فيهم إلى سعد بن معاذ الأوسي الأشهلي، فحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء [ (1) ] .
وخرّج البيهقيّ من طريق بشر عن أبيه قال حدثنا الزهري: قال:
أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن عمه عبيد اللَّه بن كعب أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة، واغتسل، واستجمر فتبدّى له جبريل- عليه السلام- فقال: عذيرك [ (2) ] من محارب ألا أراك قد وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد، قال: فوثب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزعا، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا بني قريظة، قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند الغروب، فقال بعضهم: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوا حين جاءوا بني قريظة احتسابا، فلم يعنف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واحدا من الفريقين [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 195، 199، والذراري: الذرّ النسل والذرية فعليه من الذر وهم الصغار، وتكون الذرية واحدا وجمعا، وفيها ثلاث لغات أفصحها ضم الذال، وبها قرأ السبعة، والثانية كسرها، ويروي عن زيد بن ثابت، والثالثة: فتح الذال مع تخفيف الراء، وبها قرأ أبان بن عثمان، وتجمع على ذريات، وقد تجمع على الذراريّ.
[ (2) ] عذيرك: أي هات من يعذرك: فعيل بمعنى فاعل.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 4/ 7- 8، باب مرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم، وما ظهر في رؤية من رأى من الصحابة جبريل- عليه السلام- في صورة دحية الكلبيّ، ثم قذف الرعب في قلوب بني قريظة وإنزالهم من حصونهم من آثار النبوة.
وقد أخرجه الإمام أحمد والشيخان مختصرا، والحاكم مطولا عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- ومن طريق جابر أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ، والطبري في (التاريخ) عن عبد اللَّه بن أبي أوفى.(13/298)
وخرّج أيضا من حديث عبد اللَّه بن نافع قال: حدثنا عبد اللَّه بن عمر عن أخيه عبيد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان عندها، فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزعا فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي. فقال:
هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة، فقال: قد وضعتم السلاح لكنا لا نضع طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد [ (1) ] ، وذلك حين رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الخندق، فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فزعا، فقال لأصحابه: عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يرد أن ندع الصلاة، فصلوا.
وقالت طائفة: واللَّه إنا لفي عزيمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا فلم فلم يعب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واحدا من الفريقين [ (2) ] .
__________
[ (1) ] حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة، (معجم البلدان) : 2/ 346، موضع رقم (3908) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 4/ 8- 9، وقال في (هامشه) : وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف، فقالت طائفة من العلماء: الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون لأن الأمر يومئذ بتأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعا، قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب السيرة: وعلم اللَّه أنا لو كنا هناك لم نصلّ العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام، وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر.
وقالت طائفة أخرى من العلماء: بل الذين صلوا في وقتها لما أدركتهم وهم في مسيرتهم هم المصيبون، لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة لا تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك، وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء وقد فعلوه،(13/299)
وخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: هل مرّ بكم من أحد؟ قالوا مرّ علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس ذلك بدحية، ولكن جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب، فحاصرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر أصحابه أن يستتروا بالجحف حتى يسمعهم كلامه، فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير، قالوا: يا أبا القاسم لم تك فحاشا، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم.
وقال يونس عن ابن إسحاق: وحدثني والدي إسحاق بن يسار، عن معبد ابن كلب بن مالك السلمي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، وقذف اللَّه- عز وجل- في قلوبهم الرعب [ (1) ] .
__________
[ () ] وأما على قول من يجوّز تأخير الصلاة لعذر القتال كما فهمه البحتري، حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر، ولا على من قدم أيضا، واللَّه- تبارك وتعالى أعلم-.
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 195، حصار بني قريظة.(13/300)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء سعد بن معاذ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في جراحته وإجابة اللَّه تعالى إياه في دعوته وما ظهر في ذلك من كرامته
فخرج البخاريّ [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من طريق ابن نمير قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل قريش يقال له ابن العرقة.
قال البخاريّ: يقال له حبان بن العرقة رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيمة في المسجد، ليعوده من قريب،
فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الخندق، وضع السلاح، فاغتسل، فأتاه جبريل- عليه السلام- وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: قد وضعت السلاح فو اللَّه ما وضعناه اخرج إليهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأين؟ فأشار إلى بنى قريظة، فقاتلهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلوا على حكمه، فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحكم فيهم إلى سعد، قال: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم.
وقال مسلم بعد هذا: حدثنا أبو كريب عن ابن نمير، عن هشام قال: قال أبي: فأخبرت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه عزّ وجل [ (3) ] .
وقال البخاريّ متصلا بقوله: وأن تقسم أموالهم.
قال هشام: أخبرني أبي عن عائشة أن سعدا قال: - وتحجّر كلمه للبرء- فقال: اللَّهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهد فيك من قوم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 523، كتاب المغازي، باب (31) مرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم، حديث رقم (4122) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 337- 338، كتاب الجهاد والسير، باب (22) جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، حديث رقم (65) ، (66) .
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(13/301)
كذبوا رسولك وأخرجوه، اللَّهمّ فإن كان بقي من حرب قريش فأبقني أجاهدهم فيك، اللَّهمّ فإنّي أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها، فانفجرت من لبته فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة! ما هذا الّذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها.
وقال مسلم متصلا بقوله: لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه، وعن أبي كريم قال: عن نمير، عن هشام، قال: أخبرني أبي عن عائشة أن سعدا قال:
وتحجّر كلمه للبرء، فقال: اللَّهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللَّهمّ فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني أجاهدهم فيك اللَّهمّ فإنّي أظن أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، واجعل موتى فيها، فانفجرت من ليلته، فلم يرعهم- وفي المسجد معه خيمة من بنى غفار- إلا والدم يسيل إليهم.
فقالوا: يا أهل الخيمة! ما الّذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد جرحه يغذو دما، فمات منها. [ (1) ]
وخرّج البيهقيّ من حديث الليث قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: رمى سعد بن معاذ يوم الأحزاب فقطعوا أكحله، فحسمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنار فانتفخت يده، فتركه، فنزف الدم، فحسمه أخرى، فانتفخت يده فلما رأى ذلك قال: اللَّهمّ لا تخرج نفسي حتى تقرّ عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه، فما قطرت منه قطره، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه رسول
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 338- 339، كتاب الجهاد والسير باب (22) جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، حديث رقم (67) ، قوله «رماه في الأكحل» قال العلماء: هو عرق معروف، قال الخليل: إذا قطع في اليد لم يرفأ الدم، وهو عرق الحياة، في عضو منه شعبة لها اسم.
قوله: «فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيمة في المسجد «فيه جواز النوم في المسجد، وجواز مكث المريض فيه وإن كان جريحا. وقوله: «إن سعدا تحجر كلمه للبرء «الكلم بفتح الكاف الجرح، وتحجّر أي يبس.(13/302)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فحكم أن تقتل رجالهم، وتسبي نساؤهم، وذراريهم، يستعين بهم المسلمون، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يا سعد: أصبت حكم اللَّه فيهم، وكانوا أربع مائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه، فمات- رحمه اللَّه-[ (1) ] .
وأما إسلام ثعلبة وأسيد بني سعية وأسد بن عبيد وما في ذلك من آثار النبوة
فخرج البيهقيّ من طريق جرير بن حازم، عن طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر عن شيخ من بنى قريظة قال: قدم علينا من الشام رجل يهودي يقال له: ابن الهيبان، واللَّه ما رأينا رجلا قط خيرا منه، فأقام [ (2) ] بين أظهرنا، وكنا نقول له إذا احتبس المطر: استسق لنا، فيقول: لا واللَّه، حتى تخرجوا أمام مخرجكم صدقة. فيقولون [ (3) ] : ماذا؟ فيقول: صاع [ (4) ] من تمر أو مد من شعير، فنفعل [ (5) ] ، فيخرج بنا إلى ظاهر حرّينا، فو اللَّه ما يبرح مجلسه حتى تمر بنا الشعاب تسيل، قد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، فلما حضرته الوفاة قال: يا معشر يهود أما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع! قلنا: أنت أعلم، قال: أخرجني نبي
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 27- 28، دعاء سعد بن معاذ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في جراحته، وإجابة اللَّه- تعالى- إياه في دعوته، وما ظهر في ذلك من كرامته.
وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب (29) ما جاء في النزول على الحكم، حديث رقم (1582) والإمام أحمد في (المسند) : 4/ 314- 315، حديث رقم (14359) .
[ (2) ] في (الأصل) : «فقام» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في (الأصل) : «فنقول» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] في (الأصل) : «صاعا» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] في (الأصل) : «فنخرج» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .(13/303)
أتوقعه يبعث الآن فهذه البلدة مهاجره، وأنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذرية، فلا يمنعنكم ذلك منه، ولا تسبقن إليه، ثم مات [ (1) ] .
وخرّج من طريق يونس، عن ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بنى قريظة أنه قال: هل تدري عما كان إسلام ثعلبة، وأسيد ابني سعية، وأسد بن عبيد نفر من هزل لم يكونوا من بني قريظة، ولا نضير، كانوا فوق ذلك، فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان.
فذكر القصة بمعنى رواية جرير، وزاد قال: فلما كان تلك الليلة التي افتتحت فيها قريظة، قال: أولئك الفتية الثلاثة، وكانوا شبابا أحداثا يا معشر يهود هذا الّذي كان ذكر لكم ابن الهيبان، قالوا: ما هو؟ قال: بلى إنه لهو يا معشر يهود هذا يهود، إنه واللَّه بصفته، ثم نزلوا، وخلوا أموالهم، وأولادهم، وأهاليهم، قالوا: وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين، فلما فتح رد ذلك عليهم [ (2) ] .
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (3) ] : فحدثني صالح بن جعفر، عن محمد بن عقبة، عن ثعلبة بن أبي مالك قال: قال ثعلبة، وأسيد ابنا سعيّة، وأسيد بن عبيد عمهم: يا معشر بني قريظة، واللَّه إنكم لتعلمون أنه رسول اللَّه، وأن صفته عندنا، حدثنا بها علماؤنا، وعلماء بنى النضير، هذا أولهم يعني حييّ بن أخطب مع جبير بن الهيبان أصدق الناس عندنا، هو خبّرنا بصفته عند موته. قالوا: لا نفارق التوراة، فلما رأى هؤلاء النفر إباءهم نزلوا في الليلة التي في صبحها نزل بنو قريظة [ (4) ] ، فأسلموا فأمنوا على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 31.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 4/ 32.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 503.
[ (4) ] في (المغازي) : «نزلت بنو قريظة» وما أثبتناه من (الأصل) .(13/304)
وقال أبو عمر بن عبد البر [ (1) ] : أسيد بن سعية القرظي من بني قريظة أسلم وأحرز ماله، وحسن إسلامه.
وذكر من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: لما أسلم عبد اللَّه بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أخبار يهود: ما أتى محمد إلا شرارنا، فأنزل اللَّه- عز وجل-:
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (2) ] .
وذكر الطبري عن ابن حميد، عن سلمة [بن الفضل] ، عن ابن إسحاق قال: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد وهم من بني هذيل ليسوا من بني قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك، وهم بنوا عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال البخاريّ توفي أسيد بن سعية ثعلبة بن سعية في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 1/ 96، ترجمة رقم (59) : أسيد بن سعية، ويقال: أسيد- بالفتح بن سعية أو شعبة- بن عريب القرظيّ. قال إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق: أسيد بالضم، وقال يونس بن بكير أسيد بالفتح، وقال الدار الدّارقطنيّ: بالفتح الصواب. وقد قيل: سعية، وسعة، وسعية بالياء أكثر، نزل هو وأخوه ثعلبة بن سعية في الليلة التي في صبيحتها نزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، ونزل معهما أسد بن عبيد القرظيّ فأسلموا، وأحرزوا دمائهم وأموالهم.
[ (2) ] آل عمران: 113.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 1/ 96- 97، ترجمة رقم (60) .(13/305)
وأما امتناع عمرو بن سعدى القرظيّ من الغدر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن إسحاق [ (1) ] : وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظيّ، فمرّ بحرس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدى القرظيّ، وكان عمرو قد أبي أن يدخل مع بنى قريظة في غدرهم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا.
فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللَّهمّ لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب فلم يدر أين ذهب من الأرض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ذلك رجل نجاه اللَّه بوفائه، وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمّة فيمن أوثق من بني قريظة حتى نزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأصبحت رمته ملقاه، ولا يدري أين يذهب. [فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه تلك المقالة] .
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (2) ] : فحدثني الضحاك بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان قال: قال عمرو بن سعدى وهو رجل منهم: يا معشر اليهود إنكم قد حالفتم محمدا على ما حالفتموه عليه ألا تنصروا عليه أحدا من عدوه، وأن تنصروه ممن دهمه، فنقضتم ذلك العهد الّذي كان بينكم، وبينه، فلم أدخل فيه، ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه، فأثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فو اللَّه لا أدرى يقبلها أم لا، قالوا: نحن لا نقر للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به، القتل خير من ذلك، قال: فإنّي بري منكم، وخرج في تلك الليلة مع بني سعية، فمر بحرس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعليهم محمد بن مسلمة.
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 197- 198، قصة عمرو بن سعدى، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، والرمة: الجبل البالي.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 503- 504.(13/306)
فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدى، فقال محمد:
مرّ! اللَّهمّ لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، فخل سبيله، وخرج حتى أتى مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبات به حتى أصبح، فلما أصبح غدا، فلم يدر أين هو حتى الساعة، فسئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه، فقال: ذاك نجاه اللَّه بوفائه،
ويقال أنه لم يطع أحدا [ (1) ] منهم، ولم يبادر للقتال.
وأما قتل أبي رافع بن أبي الحقيق واسمه عبد اللَّه وقيل سلام
فقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق، لما انقضى شأن [ (2) ] الخندق، وأمر بني قريظة، وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق فيمن كان حزّب الأحزاب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتل [سلام] بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فأذن لهم فيه.
قال ابن إسحاق: حدثني الزهريّ عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال:
كان مما صنع اللَّه به لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن هذين الحيين من الأنصار: الأوس، والخزرج، كانا يتصاولان معه تصاول الفحلين لا تصنع أحد منهما شيئا إلا صنع الآخر مثله، فلما قتلت الأوس كعب بن الأشرف تذكرت الخزرج رجلا هو في العداوة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مثله.
فذكروا ابن أبي الحقيق بخير، فاستأذنوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتله، فأذن لهم، فخرج له عبد اللَّه بن عتيك، وأبو قتادة، وعبد اللَّه بن أنيس، ومسعود ابن سنان، وخزاعيّ [ (3) ] بن أسود حليف [لهم] [ (4) ] من أسلم.
__________
[ (1) ] في (المغازي) : «لم يطلع أحد» ، وما أثبتناه من (الأصل) ، وهو أجود للسياق.
[ (2) ] في (الأصل) : «أمر الخندق» ، وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] في (الأصل) : «الأسود بن خزاعيّ» ، وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(13/307)
قال ابن إسحاق: وحسبت أن فيهم فلان ابن سلمة، فخرجوا إليه، فلما جاءه، وصعد إليه في علية له [طلعت منها] امرأته، فصيّحت، وكان قد نهاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بعثهم عن قتل النساء، والولدان، فجعل الرجل يرفع عليها السيف، ثم يذكر نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيمسك يده، قال: فابتدروه بأسيافهم، فتحامل عليه عبد اللَّه بن أنيس في بطنه حتى قتله.
وروى عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن أمه، عن عبد اللَّه بن أنيس أنه قتل ابن عتيك، وابن أنيس وقف عليه، وقيل فيه: أنه قتله ابن أنيس وابن عتيك وقف عليه [ (1) ] .
والصحيح ما خرّجه البخاريّ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبي رافع اليهوديّ رجالا من الأنصار، وأمرّ عليهم عبد اللَّه بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم.
قال عبد اللَّه لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإنّي منطلق، ومتلطف بالبواب لعلي أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، فتقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد اللَّه إن كنت تريد أن تدخل، فادخل، فإنّي أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأعاليق على ود [ (2) ] قال: فقمت إلى الأقاليد، فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علاليّ له، فلما ذهب عنه أهل سمره، صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت عليّ من داخل، قلت: إن القوم نذروا بي، لم يخلصوا إليّ حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم
__________
[ (1) ]
(سيرة ابن هشام) : 4/ 234- 237، مقتل سلام بن أبي الحقيق وسياقة ابن هشام أتم، وفيها: فقدمنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرناه بقتل عدوّ اللَّه، واختلفنا عنده في قتله، كلنا يدعيه، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هاتوا أسيافكم، قال: فجئناه بها، فنظر إليها، فقال لسيف عبد اللَّه بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
[ (2) ] الود: الوتد في لغة تميم.(13/308)
وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع؟ قال: من هذا؟
فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئا وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمّك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال: فأضربه ضربة فأثخنته، ثم وضعت صبيب [ (1) ] السيف ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامتي، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور،
فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء فقد قتل اللَّه أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فحدثته فقال: ابسط رجلك فبسطت رجلي، فمسحها فكأنما لم اشتكها قط.
وكرره البخاريّ من غير طريق كلها تدور على البراء بن عازب [ (2) ] .
وقال الواقدي [ (3) ]- رحمه اللَّه- في (مغازيه) : حدثني أبو أيوب بن النعمان، عن أبيه، عن عطية بن عبد اللَّه بن أنيس، عن أبيه قال: خرجنا من
__________
[ (1) ] ضبيب السيف: طرفه.
[ (2) ] أخرجه البخاريّ في المغازي، باب (16) قتل أبي رافع عبد اللَّه بن أبي الحقيق، ويقال سلام ابن أبي الحقيق، كان بخيبر، ويقال في حصن له بأرض الحجاز، وقال الزهريّ: هو بعد كعب بن الأشرف، حديث رقم (4038) .
وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الّذي بلغته الدعوة وأصرّ، وقتل من أعان على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، أو ماله، أو لسانه، وجواز التجسيس على أهل الحرب وتطلب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين، والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته واعتماده على صوت الناعي بموته، واللَّه- تعالى- أعلم. (فتح الباري) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 391- 395.(13/309)
المدينة حتى أتينا خيبر. قال: وقد كانت أم عبد اللَّه بن عتيك بخيبر يهودية أرضعته، وقد بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة نفر: عبد اللَّه بن عتيك، وعبد اللَّه ابن أنيس، وأبو قتادة، والأسود بن خزاعيّ ومسعود بن سنان. قال: فانتهينا إلى خيبر، وبعث عبد اللَّه بن عتيك إلى أمه فأعلمها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرا كبيسا وخبزا، فأكلنا منه ثم قال لها: يا أماه إنا قد أمسينا، بيتينا عندك فادخلينا خيبر، فقالت أمه: وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها، قال: أبا رافع، قالت: لا تقدر عليه. قال: واللَّه لأقتلنه أو لأقتلن دونه قبل ذلك، فقالت: فادخلوا علي ليلا: فدخلوا عليها فلما ناما أهل خيبر، وقد قالت لهم: أدخلوا في خمر الناس، فإذا هدأت الرجل فأكمنوا! ففعلوا ودخلوا عليها، ثم قالت: إن اليهود لا تغلق عليها أبوابها فرقا أن يطرقها ضيف، فيصبح أحدهم بالفناء لم يضف فيجد الباب مفتوحا فيدخل فيتعشى، فلما هدأت الرجل قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع فقولوا:
إنا جئنا لأبي رافع بهداه فإنّهم سيفتحون لكم. ففعلوا ذلك، ثم خرجوا لا يمرون بباب من بيوت خيبر إلا أغلقوه، حتى أغلقوا بيوت القرية كلها، حتى انتهوا إلى عجلة عند قصر سلام، قال: فصعدنا، وقدمنا عبد اللَّه بن عتيك، لأنه كان يرطن باليهودية، ثم استفتحوا على أبي رافع فجاءت امرأته فقالت: ما شأنك؟ فقال: عبد اللَّه بن عتيك ورطن باليهودية: جئت أبا رافع بهداه ففتحت له، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح. قال عبد اللَّه بن أنيس: وازدحمنا على الباب أينا يبدر إليه، فلما أرادت أن تصيح. قال: فأشرت إليهما السيف قال:
وأنا أكره أن يسبقني أصحابي إليه. قال: فسكنت ساعة. قال: ثم قلت لها:
أين أبو رافع؟ وإلا ضربتك بالسيف! فقالت: هو ذاك في البيت فدخلنا عليه فما عرفناه إلا بياضة كأنه قطنة ملقاه فعلوناه بأسيافنا، فصاحت امرأته، فهمّ بعضنا أن يخرج إليها، ثم ذكرنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهانا عن قتل النساء، قال:
فلما انتهينا جعل سمك البيت يقصر علينا، وجعلت سيوفنا ترجع.
قال ابن أنيس: وكنت رجلا أعشى لا أبصر بالليل إلا بصرا ضعيفا، قال: فتأملته كأنه قمر، قال: فاتكئ بسيفي على بطنه حتى سمعت خشه في الفراش، وعرفت أنه قد قضى، قال: وجعل القوم يضربونه جميعا، ثم نزلنا(13/310)
ونسي أبو قتادة قوسه، فذكرها بعد ما نزل، فقال أصحابه: دع القوس، فأبى فرجع فأخذ قوسه، فانفكت رجله فاحتملوه بينهم، فصاحت امرأته فتصايح أهل الدار بعد ما قتل فلم يفتح أهل البيوت عن أنفسهم ليلا طويلا، واختبأ القوم في بعض مناهر خيبر، وأقبلت اليهود وأقبل الحارث أبو زينب، فخرجت إليه امرأته فقالت: خرج القوم الآن، فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارنا يطلبوننا بالنيران في شعل السعف، ولربما وطئوا في النهر، فنحن في بطنه وهم على ظهره فلا يرونا، فلما أوعبوا في الطلب فلم يروا شيئا رجعوا إلى امرأته فقالوا لها: هل تعرفين منهم أحدا؟ فقالت: سمعت منهم كلام عبد اللَّه بن عتيك، فإن كان في بلادنا هذه فهو معهم. فكروا الطلب الثانية، وقال القوم فيما بينهم: لو أن بعضنا أتاهم فنظر هل مات الرجل أم لا؟ فخرج الأسود بن خزاعيّ حتى دخل مع القوم وتشبه بهم، فجعل في يده شعله كشعلهم حتى كر القوم الثانية إلى القصر وكر معهم، ويجد الدار قد شحنت، قال:
فأقبلوا جميعا ينظرون إلى أبي رافع ما فعل، قال: فأقبلت امرأته معها شعلة من نار، ثم أحنت عليه تنظر أحي أم ميت هو فقالت: فاظ وإله موسى! قال: ثم كرهت أن أرجع إلا بأمر بين، قال: فدخلت الثانية معهم، فإذا الرجل لا يتحرك منه عرق، قال: فخرجت اليهود في صحيحة واحدة وأخذوا في جهازه يدفنونه، وخرجت معهم وقد أبطأت على أصحابي بعض الإبطاء،
قال:
فانحدرت عليهم في النهر فخبرتهم، فمكثنا في مكاننا يومين ترميم حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا مقبلين إلى المدينة، كلنا يدعي قتله، فقدمنا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على المنبر، فلما رآنا قال: أفلحت الوجوه! فقلنا: أفلح وجهك يا رسول اللَّه، قال: أقتلتموه؟ قلنا: نعم، وكلنا يدعي قتله، قال: عجلوا عليّ بأسيافكم، فأتيناه بأسيافنا، ثم قال: هذا قتله هذا أثر الطعام في سيف الطعام في سيفه عبد اللَّه بن أنيس.
قال: وكان ابن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي من العرب جعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبعث إليهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هؤلاء النفر.
فحدثني أيوب بن النعمان قال: حدثني خارجة بن عبد اللَّه قال: فلما انتهوا إلى أبي رافع تشاجروا في قتله. قال: فاستهموا عليه فخرج سهم عبد(13/311)
اللَّه بن أنيس. وكان رجلا أعشى فقال لأصحابه: أين موضعه؟ فقالوا له:
ترى بياضه كأنه قمر. قال: قد رأيت قال: وأقبل عبد اللَّه بن أنيس وقام النفر مع المرأة يفرقون أن تصيح قد شهروا سيوفهم عليها، ودخل عبد اللَّه بن أنيس، فضرب بالسيف، فرجع السيف عليه لقصر السمك فاتكأ عليه وهو ممتلئ خمرا حتى سمع خش السيف وهو في الفراش.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن عبد اللَّه بن أنيس إذا رأى سفيان بن خالد نبيح فرق منه فكان كذلك
خرّج أبو داود [ (1) ] من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن ابن عبد اللَّه بن أنيس، عن أبيه قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خالد بن سفيان ابن نبيح الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: أذهب فأقتله،
فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني أومئ أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة فانطلقت أمشى وأنا أصلي أمشي إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال:
من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد.
وقال الواقدي [ (2) ]- رحمه اللَّه-: حدثنا إسماعيل بن عبد اللَّه بن جبير، عن موسى بن جبير قال بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي، ثم اللحياني، وكان نزل عرنة وما حولها في ناس من قومه وغيرهم، فجمع الجموع لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضوى إليه بشر كثير من أفناء الناس، فدعا رسول
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 2/ 41- 42، كتاب الصلاة، باب (289) في صلاة، حديث رقم (1249) ، قال ابن الأثير: وهو حديث حسن بشواهده. (جامع الأصول) : 5/ 749، حديث رقم (4063) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 531- 533.(13/312)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن أنيس، فبعثه سرية وحده إليه ليقتله، وقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: انتسب إلى خزاعة فقال عبد اللَّه بن أنيس: يا رسول اللَّه ما أعرفه فصفه لي فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنك إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان، وكنت لا أهاب الرجال، فقلت يا رسول اللَّه: ما فرقت من شيء قط، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بلى، آية بينك وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته، واستأذنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك،
قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد فأجد بها خزاعة كثيرا، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه فلما رأيته هبته، وعرفته بالنعت الّذي نعت لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورأيتني أقطر فقلت: صدق اللَّه ورسوله! وقد دخلت في وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومئ إيماء برأسي فلما دنوت منه قال: من الرجل؟ فقلت: رجل من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك، قال: أجل أني لفي الجمع له، فمشيت معه، وحدثته فاستحلى حديثي، وأنشدته شعرا، وقلت: عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث، فارق الآباء وسفه أحلامهم قال: لم يلق محمد أحد يشبهني! قال: وهو يتوكأ على عصى يهد الأرض حتى انتهى إلى خبائه، وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه وهم مطيفون به، فقال: هلم يا أخا خزاعة! فدونت منه لجاريته: احلبي! فحلبت، ثم ناولتني، فمصصت ثم دفعته إليه، فعب كما يعب الجمل حتى غاب أنفه في الرغوة، ثم قال:
اجلس، فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا وهدأ، اغتررته فقتلته وأخذت رأسه، ثم أقبلت وتركت نساءه يبكين عليه، وكان النجاء مني حتى صعدت في جبل فدخلت غارا، وأقبل الطلب من الخيل والرجال توزع في كل وجه، وأنا مختف في غار الجبل، وضربت العنكبوت على الغار، وأقبل رجل معه إداوة ضخمة ونعلاه في يده، وكنت حافيا، وكان أهم أمري عندي العطش، كنت أذكر تهامة وحرها، فوضع إداوته ونعله وجلس يبول على باب الغار، ثم قال(13/313)
لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين،
وخرجت إلى الإداوة فشربت منها وأخذت النعلين فلبستهما، فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى جئت المدينة فوجدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، فلما رآني قال: أفلح الوجه، قلت: أفلح وجهك يا رسول اللَّه! فوضعت رأسه بين يديه، وأخبرته خبري، فدفع إليّ عصا، فقال: تخصر بهذه في الجنة، فإن المتحضرين في الجنة قليل، فكانت عند عبد اللَّه بن أنيس حتى إذا حضره الموت أوصى أهله أن يدرجوها في كفنه، وكان قتله في المحرم على رأس أربعة وخمسين شهرا.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم الحارث بن أبي ضرار بأمور فكانت كما أمره صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن إسحاق [ (1) ] : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لم قسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فو اللَّه ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها: وعرفت أنه سيرى منها صلّى اللَّه عليه وسلّم ما رأيت،
فدخلت عليه، فقالت: يا رسول اللَّه، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه وقد أصابني من البلاء، ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي، قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول اللَّه؟ قال:
أقضى عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول اللَّه، قال: قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار، فقال الناس: أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأرسلوا ما
__________
[ (1) ] (السيرة النبويّة لابن هشام) : 4/ 257- 259.(13/314)
بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، فلما بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق،
ثم أتى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق، في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك محمد رسول اللَّه فو اللَّه ما اطلع على ذلك إلا اللَّه،
فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما فدفع الإبل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها، فخطبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبيها فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: قد نقدمه في موضعه من هذا الكتاب الاختلاف في نكاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جويرية هل هو بأداء ما كتبت عليه أو بغير ذلك.(13/315)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بموت منافق عند هبوب الريح فكان كما أخبر
فخرج الواقدي [ (1) ] : في (مغازيه) عن عبيد اللَّه بن الهرير، عن أبيه، عن رافع بن خديج قال: لما رحنا من المريسيع قبل الزوال كان الجهد بنا يومئذ وليلتنا، ما أناخ منا رجل إلا لحاجته، أو لصلاة يصليها وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستحث راحلته، ويخلف بالسوط في مراقها حتى أصبحنا ومددنا يومنا حتى انتصف النهار، أو كرب، ولقد راح الناس وهم يتحدثون بمقالة ابن أبي، وما كان منه، فما هو إلا أن أخذهم السهر والتعب بالمسير، فما نزلوا حتى ما يسمع لقول ابن أبي في أفواههم- يعنى ذكرا- إنما أسرع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس ليدعوا حديث ابن أبي، فلما نزلوا وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، ثم راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس مبردا، فنزل من الغد ماء، يقال له بقعاء فوق النقيع، وسرح الناس كله ظهرهم، فأخذتهم ريح شديدة حتى أشفق الناس منها، وسألوا عنها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخافوا أن يكون عيينة بن حصين خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدث! وإنما بالمدينة الذراري والصبيان، وكانت بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعيينة مدة، فكان ذلك حين انقضائها فدخلهم أشد الخوف،
فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خوفهم فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس عليكم بأس منها ما بالمدينة من نقب إلا عليه ملك يحرسه وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة، فلذلك عصفت الريح وكان موته للمنافقين غيظا شديدا وهو زيد بن رفاعة بن التابوت مات ذلك اليوم.
فحدثني خارجة بن الحارث، عن عباس بن سهل، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال: كانت الريح يومئذ أشد ما كانت قط إلى أن زالت الشمس، ثم سكنت آخر النهار.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 422- 423.(13/316)
وقال جابر: فسألت حين قدمت قبل أن أدخل بيتي: من مات؟ فقالوا:
زيد ابن رفاعة بن التابوت وذكر أهل المدينة أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح حتى دفن عدو اللَّه فسكتت الريح.
وحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: قال عبادة بن الصامت- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يومئذ لابن أبي: أبا حباب، مات خليلك! قال: أي أخلائي؟ قال: من موته فتح الإسلام وأهله. قال من قال زيد بن رفاعة بن التابوت قال: يا ويلاه كان واللَّه وكان! وكان فجعل يذكر، فقلت:
اعتصمت واللَّه بالذنب الأبتر قال: من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ قلت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة، قال: فأسقط في يديه وانصرفت كئيبا حزينا، قال: وسكنت الريح آخر النهار فجمع الناس ظهورهم وقد ذكر هذه القصة موسى بن عقبة في (مغازيه) ومحمد بن إسحاق بن يسار.
وخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق محمد بن إسحاق الثقفي، قال: حدثنا أبو كريب من حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق، قال:
فقدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات،
وفي رواية أبي معاوية قال: هبت ريح شديدة والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره فقال: هذه لموت منافق قال:
فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين رواه مسلم [ (2) ] في (الصحيحين) ، عن أبي كريب.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 61.
[ (2) ] (صحيح مسلم) : 17/ 132، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (50) حديث رقم (15) .(13/317)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بموضع ناقته لما فقدت وإخباره بما قال المنافق في ذلك
فقال الواقدي [ (1) ] : فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن ابن رومان، ومحمد ابن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قالا: فقدت ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القصواء من بين الإبل، فجعل المسلمون يطلبونها في كل وجه، فقال زيد بن اللصيت- وكان منافقا وهو في رفقة قوم من الأنصار، منهم عباد بن بشر بن وقش، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسيد بن حضير-، فقال: أين يذهب هؤلاء في وجه قالوا: يطلبون ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ضلت، قال: أفلا يخبره اللَّه بمكان ناقته؟ فأنكر القوم ذلك عليه فقالوا: قاتلك اللَّه يا عدو اللَّه، نافقت!.
ثم أقبل عليه أسيد بن حضير فقال: واللَّه لولا أني لا أدري ما يوافق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذلك لأنفذت خصيتك بالرمح يا عدو اللَّه، فلما خرجت معنا وهذا في نفسك؟ قال: خرجت لأطلب من عرض الدنيا، ولعمري أن محمد ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة، يخبرنا عن أمر السماء، فوقعوا به جميعا وقالوا: واللَّه، لا يكون منك سبيل أبدا ولا يظلنا وإياك ظل أبدا ولو علمنا ما في نفسك ما صحبتنا ساعة من نهار، ثم وثب هاربا منهزما منهم أن يقعوا به ونبذوا متاعه فعمد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجلس معه فرارا من أصحابه متعوذا به وقد جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبر ما قال: من السماء.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والمنافق يسمع أن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ألا يخبره بمكانها؟ فلعمري أن محمد ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة! ولا يعلم الغيب إلا اللَّه وأن اللَّه- تعالى- قد أخبرني بمكانها وأنها في هذا الشعب مقابلكم، قد تعلق زمامها بشجرة، فأعمدوا عمدها فذهبوا فأتوا بها من حيث قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فلما نظر المنافق إليها قام سريعا إلى رفقائه الذين كانوا معه، فإذا رحله منبوذ، وإذ هم جلوس لم يقم رجل من مجلسه، فقالوا له حين دنا: لا تدن منا!
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 423- 425.(13/318)
قال: أكلمكم! فدنا فقال: أذكركم باللَّه، هل أتى أحدا فأخبره بالذي قلت؟
قالوا: لا واللَّه ولا قمنا من مجلسنا هذا. قال: فإنّي قد وجدت عند القوم ما تكلمت به، وتكلم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخبرهم بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنه قد أتى بناقته وأني قد كنت في شك من شأن محمد فأشهد أنه رسول اللَّه، واللَّه لكأنّي لم أسلم إلا اليوم قالوا له: فاذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستغفر لك، فذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستغفر له واعترف بذنبه، ويقال: أنه لم يزل فسلا حتى مات، وصنع مثل هذا في غزوة تبوك.
وقد ذكر قصة الناقة موسى بن عقبة بنحو بما تقدم وزاد فرعون أن ابن اللصيب.
وقال الحافظ أبو نعيم وقد ذكر فقد الناقة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في منصرفه من تبوك وليس ببعيد وقوع الأمرين جميعا.
وأما نفث الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم شجة عبد اللَّه بن أنيس فلم تقح
فقال الواقدي [ (1) ] فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان أسير بن زارم رجلا شجاعا، فلما قتل أبو رافع أمرت يهود أشير بن زارم، فقام في اليهود فقال: أنه واللَّه ما سار محمد إلى أحد من اليهود وإلا بعث أحدا من أصحابه فأصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لا يصنع أصحابي، فقالوا:
وما عسيت أن تصنع ما لم يصنع أصحابك؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم.
فسار في غطفان فجمعها، ثم قال: يا معشر اليهود نسير إلى محمد في عقر داره فإنه لم يغز أحد في داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد قالوا: نعم ما رأيت فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وقدم عليه خارجة بن حسيل الأشجعي، فاستخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما وراءه فقال: تركت أسير بن زارم يسير إليك في
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 566- 568.(13/319)
كتائب اليهود، قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا.
قال عبد اللَّه بن أنيس: فكنت فيهم: فاستعمل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن رواحة: قال: فخرجنا حتى قدمنا خيبر فأرسلنا إلى عبد اللَّه بن رواحة:
قال: فخرجنا حتى قدمنا خيبر فأرسلنا إلى أسير: إنا آمنون حتى نأتيك فنعرض عليك ما جئنا له؟ فقال: نعم، ولي مثل ذلك منكم؟ قلنا: نعم، فدخلنا عليه، فقلنا: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع في ذلك، وشاور اليهود فخالفوه في الخروج وقالوا: ما كان محمد يستعمل رجلا من بني إسرائيل، فقال: بلى، قد مللنا الحرب، قال: فخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين، قال: فسرنا حتى إذا كنا بقرقرة ثبار ندم أسير حتى عرفنا الندامة فيه. قال عبد اللَّه بن أنيس: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له، قال: فدفعت بعيري فقلت: غدرا أي عدو اللَّه! ثم تناومت فدنوت منه لأنظر ما يصنع، فتناول سيفي، فغمزت بعيري وقلت: هل من رجل ينزلق فيسوق بنا؟ فلم ينزل أحد، فنزلت عن بعيري فسقت بالقوم حتى أنفرد أسير، فضربته بالسيف فقطعت مؤخرة الرجل وأندرت عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره، وفي يده مخرش من شوحط، فضربني فشجني مأمومة، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدا، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم أقبلنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
قال:
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث أصحابه إذا قال لهم: تمشوا بنا إلى الثنية نتحسب من أصحابنا خبرا، فخرجوا معه، فلما أشرفوا على الثنية، فإذا هم بسرعان أصحابنا، قال: فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه، قال: وانتهينا إليه فحدثناه الحديث، فقال: نجاكم اللَّه من القوم الظالمين!.
قال عبد اللَّه بن أنيس: فدنوت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنفث في شجتي، فلم تقح بعد ذلك اليوم، ولم تؤذني، وقد كان العظم فل، ومسح على وجهي، ودعا لي، وقطع قطعة من عصاه فقال: أمسك هذا معك علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متحضرا، فلما دفن جعلت معه تلي جسده دون ثيابه.(13/320)
قال: فحدثني خارجة بن الحارث، عن عطية بن عبد اللَّه بن أنيس، عن أبيه قال: كنت أصلح قوسي، قال: فجئت فوجدت أصحابي قد وجهوا إلى أسير بن زارم، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا أرى أسير بن زارم! أي أقتله،
قال: ثم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن عتيك في ثلاثين راكبا فيهم عبد اللَّه بن أنيس إلى أسير بن زارم اليهودي حتى أتوه بخيبر وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتوه فقالوا:
إنا أرسلنا إليك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا يخدعونه، حتى أقبل معهم في ثلاثين راكبا مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، فلما بلغوا قرقرة، وهي من خيبر على ستة أميال، ندم أسير بن زارم فأهوى بيده إلى السيف، سيف عبد اللَّه بن أنيس، ففطن له عبد اللَّه بن أنيس فزجر راحلته، واقتحم عبد اللَّه بن أنيس حتى استمكن من أسير بن زارم في يده محرث من شوحط، فضرب عبد اللَّه بن أنيس فشجه شجة مأمومة [ (1) ] ، وانكفأ كل رجل من المسلمين إلى رديفه، فقتله غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدا، ولم يصب من المسلمين أحد، وقدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبصق في شجة عبد اللَّه بن أنيس، فلم تقح ولم تؤذه، هكذا ذكر ابن لهيعة أن المبعوث عبد اللَّه بن عتيك وخالفه ابن شهاب، وابن إسحاق فقالا: عبد اللَّه بن رواحة، كما ذكر الواقدي.
__________
[ (1) ] شجة مأمومة: أي بلغت أم الرأس.(13/321)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى الحديبيّة بأن قريشا لا ترى نيرانهم وإخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بمجيء أهل اليمن وبشقاوة الأعرابي فكان كما أخبر
فخرّج الحافظ أبو نعيم من حديث عبد اللَّه بن وهب قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبيّة حتى إذا كنا بعسفان قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيكم يعرف ثنية ذات الحنضل، فإن عيون قريش على ضجنان ومر الظهران، فأخذنا حين أمسينا على جبال يقال لها:
سراوع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إلا رجل يسعى أمام الركب، فنزل رجل فجعل تنكبه الحجارة، وتتعلق به الشجرة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اركب، فركب، ثم قال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إلا رجل يسعى أمام الركب، فنزل رجل آخر تنكبه الحجارة وتعلق به الشجرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذوا هاهنا، وأشار إلى ناحية فأصبنا الطريق، فسرنا حتى أتينا في آخر الليلة على عقبة ذات الحنظل فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مثل هذه الثنية الليلة كمثل الباب الّذي قال اللَّه- عز وجل- لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [ (1) ] ما هبط أحد من الثنية الليلة إلا غفر له، فاطلعت في آخر الليل الناس التمس أخي قتادة بن النعمان بما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعل الناس يركب بعضهم بعضا حتى وجدت أخي في آخر الناس، فلما هبطنا نزلنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كان معه ثقل [ (2) ] فليصطنع قال أبو سعيد: رأينا الّذي معه ثقل [ (3) ] ، فقلت: يا رسول اللَّه عسى أن ترى قريش نيراننا، فقال: لن يروكم، فلما أصبحنا صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح، وصلينا معه، ثم قال: والّذي نفسي بيده
__________
[ (1) ] البقرة: 58.
[ (2) ] الثّقل: الدقيق.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(13/322)
لقد غفر للركب الليلة أجمعين، إلا رويكبا واحدا، التقت عليه رحال القوم ليس منهم، فذهبنا ننظر، فإذا أعرابي بين ظهرانيّ القوم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالهم مع أعمالهم، فقلنا: من هم يا رسول اللَّه، أقريش؟ قال: لا، لكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، قلنا: أهم خير منا يا رسول اللَّه؟ قال: لو كان لأحدكم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه، إلا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ (1) ] .
وخرّج الحاكم من حديث أبي عامر العقديّ، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا أبو الزبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صعد ثنية المرار، فإنه يحط عمله ما حط عن بني إسرائيل، فكان أول من صعدها جبل بني الخزرج، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلهم مغفور لهم، إلا صاحب الجمل الأحمر،
قال: فإذا هو أعرابي ينشد ضالة له، فقلنا: يستغفر لك رسول اللَّه، فقال: لأن أجد ضالتي أحب إليّ مما يستغفر لي صاحبكم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وقال الواقدي في كتاب (المغازي) [ (2) ] : قالوا: فلما أمسى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تيامنوا في هذا العضل، فإن عيون قريش يمر بظهران، أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل؟ فقال بريدة بن الحصيب الأسلمي: أنا يا رسول اللَّه عالم بها، قال: اسلك أمامنا فأخذ به بريدة في العضل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلا تنكبه الحجارة، وتعلقه الشجر، وحار حتى كأنه لم يعرفها قط، قال: فو اللَّه إن كنت لأسلكها في الجمعة مرارا، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يتوجه، قال: اركب، فركبت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فقال: أنا يا رسول اللَّه أدلك، فقال: انطلق امامنا، فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى
__________
[ (1) ] الحديد: 10.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 583- 586.(13/323)
الثنية فقال: هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو: نعم يا رسول اللَّه، فلما وقف به على رأسها تحدّر به، قال عمرو: واللَّه إن كان لا يهمني نفسي وحدي إنما كانت مثل الشراك فاتسعت لي حتى برزت فكانت محجة لا حبة [ (1) ] ، ولقد كان النفر يسيرون تلك الليلة جميعا معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده ما مثل هذه الليلة إلا مثل الباب الّذي قال اللَّه- تعالى- لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ قالوا: ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يجوز هذا الثنية أحد إلا غفر له.
قال أبو سعيد الخدريّ: وكان أخي لأمي قتادة بن النعمان في آخر الناس، فقال: فوقفت على الثنية فجعلت أقول للناس: إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يجوز هذه الثنية هذه الليلة أحد إلا غفر له، فجعل الناس يسرعون حتى جاز أخي في آخر الناس، وفرقت أن يصبح قبل أن نجوز، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين نزل:
من كان معه ثقل فليصطنع، قال أبو سعيد: وأينا معه ثقل، إنما كان عامة زادنا التمر، فقلنا: يا رسول اللَّه إنا نخاف من قريش أن ترانا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنهم لن يروكم، إن اللَّه سيعينكم عليهم، فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع، فلقد أوقدوا أكثر من خمسمائة نار، فلما أصبحنا صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح، ثم قال: والّذي نفسي بيده لقد غفر اللَّه للركب أجمعين إلا رويكبا واحدا على جمل أحمر
التفت عليه رجال القوم ليس منهم، فطلب في العسكر وهو يظن أنه من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا هو به ناحية إلى ذرى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من بني ضمرة من أهل سيف البحر، فقيل السعيد: إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كذا وكذا، قال سعيد: ويحك اذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستغفر لك، قال: بعيري واللَّه أهم [ (2) ] إليّ من أن يستغفر لي وإذ هو قد أضلّ بعيرا له يتبع العسكر يتوصل بهم ويطلب بعيره وإنه لفي عسكركم فأدّوا إليّ بعيري، قال سعيد: تحوّل عني لا حياك اللَّه، ألا لا أرى قربي إلا
__________
[ (1) ] لا حبة: واسعة.
[ (2) ] في (الأصل) : «أحب» وما أثبتناه منن (المغازي) .(13/324)
داهية وما أشعر به، فانطلق الأعرابي يطلب بعيره بعد أن استبرأ العسكر، فبينما هو في جبال سراوع، إذ زلقت نعله فتردى فمات، فما علم به حتى أكلته السباع [ (1) ] .
وحدثني هشام بن سعد [ (2) ] ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه سيأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، فقيل يا رسول اللَّه: قريش؟ قال: لا، ولكن أهل اليمن فإنّهم أرق أفئدة، وألين قلوبا، قلنا: يا رسول اللَّه هم بخير منا؟ فقال بيده هكذا ويصف، وأخذ هشام في الصفة كأنه يقول: سواء إلا أن فضل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 2/ 586.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] الحديد: 10.(13/325)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتح خيبر
فروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد اللَّه بن بكر بن حزم، عن بعض أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخيبر فقالوا:
واللَّه يا رسول اللَّه لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا يعطهم إياه، فقال: اللَّهمّ إنك قد عرفت حالهم وأن ليس بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاما وودكا، فغدا الناس، ففتح اللَّه عليهم حصن الصعب بن معاذ،
وما بخيبر حصن كان أكثر منه طعاما وودكا، فلما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من حصونهم ما افتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصنع عشرة ليلة [ (1) ] .
وقال الواقدي- رحمه اللَّه- وكان حصن الصعب بن معاذ في النطاة، وكان حصن اليهود فيه الطعام، والودك، والماشية، والمتاع، وكان فيه خمسمائة مقاتل، وكان الناس قد أقاموا أياما يقاتلون وليس عندهم طعام إلا العلف. قال معتب الأسلمي: أصابنا معشر أسلم خصاصة حين قدمنا خيبر وأقمت عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح ساقيه طعام، فأجمعت أسلم أن يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ائت محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقل: إن أسلم يقرئونك السلام، ويقولون: إنا قد جهدنا من الجوع والضعف، فقال بريدة بن الحصيب: واللَّه إن رأيت كاليوم قط أمرا بين العرب يصنعون منه هذا الخير، فقام هند بن حارثة فقال: إنا لنرجو أن تكون البعثة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مفتاح خيبر،
فجاءه أسماء بن حارثة فقال: يا رسول اللَّه إن أسلم تقول: إنا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع اللَّه لنا، فدعا لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: واللَّه ما بيدي ما أقريهم، ثم صاح بالناس فقال: اللَّهمّ افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعاما، وأكثره ودكا، ودفع اللواء إلى الحباب بن المنذر بن الجموح
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 302- 303، افتتاح أعظم الحصون على بني سهم.(13/326)
وندب الناس فما رجعنا حتى فتح اللَّه علينا الحصن، حصن الصعب بن معاذ،
فقالت أم مطاع الأسلمية: وكانت قد شهدت خيبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نساء، قالت: لقد رأيتهم حين شكوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما شكوا من شدة الحال فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنهضوا، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ وإن عليه لخمسمائة مقاتل فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه اللَّه، وكان عليه قتال شديد برز رجل من اليهود يقال له: يويشع يدعو إلى البراز فبرز إليه الحباب بن المنذر فاختلفا ضربتين فقتله الحباب،
وبرز آخر يقال له:
الذيال فبرز له عمارة بن عقبة الغفاريّ فبدره الغفاريّ فيضربه ضربة على هامته [ (1) ] وهو يقول: خذها وأنا الغلام الغفاريّ! فقال الناس: بطل جهاده، فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ما بأس به يؤجر ويحمد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «عاتقة» وما أثبتناه من (المغازي) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 658- 660.(13/327)
وأما طول عمر أبي اليسر بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال الواقدي [ (1) ] : وكان أبو اليسر يحدث أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام، وكان حصنا منيعا، وأقبلت غنم لرجل من اليهود ترتع وراء حصنهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟ فقلت: أنا يا رسول اللَّه، فخرجت أسعى مثل الظبي فلما نظر إليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم موليا قال:
اللَّهمّ متعنا به،
فأدركت الغنم وقد دخل أولها الحصن فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت أعدو كأن ليس معي شيء حتى أتيت بهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر بهما فذبحتا، ثم قسمهما فما بقي أحد من أهل العسكر الذين هم معه محاصرين الحصن إلا أكل منها، فقيل لأبي اليسر: وكم كانوا؟ قال:
كانوا عددا كبيرا، فيقال: أين بقية الناس؟ فيقول: بالرجيع في العسكر، فسمع أبو اليسر- وهو شيخ كبير- وهي يبكي في شيء غاظه من بعض ولده فقال:
لعمري بقيت بعد أصحابي ومتعوا بي، وما أمتّع بهم،
لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللَّهمّ متعنا به،
فبقي فكان من آخرهم.
قال المؤلف- رحمه اللَّه- أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمر بن غزية بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي شهد العقبة وبدرا وهو الّذي أسر العباس بن عبد المطلب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يوم بدر مات سنة خمس وخمسين بالمدينة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 660.
[ (2) ] له ترجمة في: (الاستيعاب) : 4/ 1776، ترجمة رقم (3221) .(13/328)
وأما رجيف الحصن بخيبر لما رماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكفّ من حصا
فقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] : فحدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير محمد بن سهل بن أبي حثمة قال: لما تحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشق وبه حصون ذوات عدد، فكان أول حصن بدأ به منها حصن أبيّ، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على قلعة يقال لها سموان، فقاتل عليها أهل الحصن قتالا شديدا، وخرج رجل من اليهود يقال له: غزّال فدعا إلى البراز فبرز له الحباب بن المنذر واختلفا ضربات، ثم حمل الحباب عليه فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فوقع السيف من يد غزّال فكان أعزل.
فبادر راجعا منهزما إلى الحصن، وتبعه الحباب فقطع عرقوبه فوقع فذفّف عليه [ (2) ] ، فخرج آخر فصاح من يبارز؟ فبرز له رجل من المسلمين من آل جحش فقتل الجحشيّ وقام مكانه يدعو إلى البراز فبرز له أبو دجانة قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفّف عليه وأخذ سلبه، درعه، وسيفه، فجاء به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنفله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك.
وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا، ومتاعا، وغنما، وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة وتقحموا الجدر كأنهم الظباء حتى صاروا إلى حصن النزار بالشق. وجعل يأتي من بقي من قلل النطاة إلى حصن البزار فعلقوه وامتنعوا فيه أشد الامتناع.
وزحف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه فقاتلهم فكانوا أشد أهل الشق رميا للمسلمين بالنبل والحجارة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معهم، حتى أصابت النبل ثياب
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 667- 668.
[ (2) ] فذفّف عليه: أجهز عليه حتى مات.(13/329)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها، ثم أخذ لهم كفا من حصا، فحصب به حصنهم فرجف الحصن بهم، ثم ساخ في الأرض.
قال إبراهيم بن جعفر: استوى بالأرض حتى جاء المسلمون فأخذوه أهله أخذا وكانت فيه صفية بنت حيي وابنة عمها وصبيات من حصن النزار [ (1) ] .
وأما ما صنعه اللَّه سبحانه وتعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى فرت غطفان وتركت يهود خيبر
فذكر الواقديّ [ (2) ] وغيره: أن كنانة بن أبي الحقيق، خرج من خيبر في ركب إلى غطفان يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمر خيبر سنة، وذلك أنه بلغهم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سار إليهم، قالوا: وكان رجل من بني مرة يكنى أبا شيم يقول: أنا في الجيش الذين كانوا مع عيينة من غطفان، أقبل: مدد اليهود، فنزلنا بخيبر ولم ندخل حصنا، فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن وهو رأس غطفان وقائدهم أن ارجع بمن معك، ولك نصف تمر خيبر هذه السنة، إن اللَّه وقد وعدني خيبر.
فقال عيينة: لست بمسلم حلفائي وجيراني، فأقمنا على ذلك مع عيينة إذ سمعنا صائحا لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم، أهلكم بحيفاء [ (3) ]- صيح ثلاثة- فإنكم قد خولفتم إليهم!!.
وقال الواقدي- رحمه اللَّه-: إنه لما سار كنانة بن أبي الحقيق فيهم، حلفوا معه وارتأسهم عيينة بن حصن، وهم أربعة آلاف، فدخلوا مع اليهود في حصون النطاة قبل قدوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثلاثة أيام، فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر أرسل إليهم سعد بن عبادة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهم في
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 667- 668، وقلل: جمع قلة، وقله أعلاه، وفي (البداية والنهاية) : «وأخذ المسلمون كل شيء أخذا باليد» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 650- 652.
[ (3) ] حيفاء أو حفياء: موضع قرب المدينة.(13/330)
الحصن، فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد إن أكلم عيينة بن حصن، فأراد عيينة أن يدخله الحصن، فقال مرحب: لا ندخله فيرى خلل حصننا، ويعرف نواحيه التي يؤتي منها ولكن تخرج إليه، فقال عيينة: وقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عددا كبيرا، فأبى مرحب أن يدخله، فخرج عيينة إلى باب الحصن.
فقال سعد: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسلني إليك يقول: إن اللَّه قد وعدني خيبر، فارجعوا، وكفوا فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة،
فقال عيينة:
بلغه عني أنا واللَّه ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيء، وإنا لنعلم ما لك، ولمن معك، بما ها هنا طاقة، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة، ورجال عددهم كثير وسلاح، إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح ولا واللَّه، ما هؤلاء كقريش، قوم ساروا إليك، فإن أصابوا غرة منك فذاك الّذي أرادوا، وإلا انصرفوا، وهؤلاء قوم يماكرونك الحرب، ويطاولونك حتى تملهم.
فقال له سعد بن عباده: أشهد ليحضرنك في حصنك هذا حتى تطلب الّذي عبادة عرضنا عليك، فلا نعطيك إلا السيف، ولقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب، كيف مزقوا كل ممزق! فرجع سعد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره بما قال، وقال سعد: يا رسول اللَّه إن اللَّه منجز لك ما وعدك، ومظهر دينه، فلا تعطه [ (1) ] تمرة واحدة يا رسول اللَّه، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده، كما فعل قبل ذلك اليوم في الخندق، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يوجهوا إلى حصنهم الّذي فيه غطفان، وذلك عشية وهم في حصن ناعم.
فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أصبحوا على رايتكم عند حصن ناعم الّذي فيه غطفان، قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحا يصيح، لا يدرون من السماء أو الأرض: يا معشر غطفان أهلكم، أهلكم، الغوث، الغوث بحيفاء صيح ثلاثة لا تربة ولا مال.
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : «فلا تعط هذا الأعرابي» .(13/331)
قال: فخرجت غطفان على الصعب والذّلول، وكان أمرا صنعه اللَّه- عزّ وجل- لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما أصبحوا أخبر كنانة بن أبي التحقيق وهو في الكتيبة بانصرافهم، فسقط في يديه [ (1) ] ، وذلّ، وأيقن بالهلكة وقال: كنا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنا سرنا فيهم فوعدونا النصر، وغزوّنا، ولعمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمدا بالحرب، ولم نحفظ كلام سلام بن أبي الحقيق إذ قال: لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب أبدا فإنا قد بلوناهم، وجلبهم لنصر بني قريظة ثم غروهم، فلم نر عندهم وفاء لنا، وقد سار فيهم حييّ بن أخطب، وجعلوا يطلبون الصلح من محمد، ثم زحف محمّد إلى بني قريظة، وانكشفت غطفان راجعة إلى أهلها.
قالوا: فلما انتهى الغطفانيون إلى أهلهم بحيفاء، وجدوا أهلهم على حالهم، فقالوا: هل راعكم شيء؟ قالوا: لا واللَّه، فقالوا ولقد ظننا أنكم قد غنمتم، فما نرى معكم غنيمة ولا خيرا.
فقال عيينة لأصحابه: هذا واللَّه من مكائد محمد وأصحابه خدعنا واللَّه، فقال له الحارث بن عوف: بأي شيء؟ قال عيينة: إنّا في حصن النطاة بعد هدأة [ (2) ] ، إذا سمعنا صائحا يصيح، لا ندري من السماء أو من الأرض! أهلكم، أهلكم بحيفاء، صيح ثلاثة فلا تربة، ولا مال.
فقال الحارث بن عوف: يا عيينة واللَّه لقد غبرت أن انتفعت واللَّه إن الّذي سمعت لمن السماء، واللَّه ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد، فأقام عيينة أياما في أهله، ثم دعا أصحابه للخروج إلى نصر اليهود، فجاءه الحارث بن عوف، فقال: يا عيينة أطعني، وأقم في منزلك، ودع نصر اليهود، [محمد أحب إلينا من اليهود] مع أني لا أراك ترجع إلى خيبر، إلا وقد فتحها محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا آمن عليك، فأبى عيينة أن يقبل قوله، وقال: لا أسلم حلفائي لشيء، ولما ولي عيينة إلى أهله، هجم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الحصون حصنا حصنا، فلقد انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حصن
__________
[ (1) ] سقط في يده: ندم وتحيّر وذلّ.
[ (2) ] الهدأة: أول الليل إلى ثلاثة.(13/332)
ناعم ومعه المسلمون، وحصون ناعم عدة، فرمت اليهود يومئذ بالنّبل، وترّس أصحاب صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رسول اللَّه، وعلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ درعان ومغفر وبيضة وهو على فرس يقال له الظرب، في يده قناة وترس، وأصحابه محدقون به، وقد كان دفع لواءه إلى رجل من أصحابه من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، ثم دفع إلى آخر فرجع ولم يصنع شيئا، ودفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لواء الأنصار إلى رجل منهم، فخرج ورجع ولم يعمل شيئا، فحث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين، وسالت كتائب اليهود، امامهم الحارث أبو زينب يقدم اليهود يهد الأرض هدّا، فأقبل صاحب راية الأنصار فلم يزل يسوقهم حتى انتهوا إلى الحصن فدخلوه، وخرج أسير اليهوديّ يقدم أصحابه معه عاديته، وكشف راية أصحاب الأنصار حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موقفه، ووجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفسه حدة شديدة، وقد ذكر لهم الّذي وعدهم اللَّه، فأمسى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مهموما، وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحا وجعل يستبطئ أصحابه، وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطئ أصحابه ويقول: أنتم، وأنتم!
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنّ اليهود جاءهم الشيطان فقال لهم: إنّ محمدا يقاتلكم على أموالكم! نادوهم: قولوا لا إله إلا اللَّه، ثم قد أحرزتم بذلك أموالكم ودماءكم، وحسابكم على اللَّه، فنادوهم بذلك فنادت اليهود: إنا لا نفعل ولا نترك عهد موسى والتوراة بيننا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبه اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه على يديه، ليس بفرّار، أبشر يا محمد بن مسلمة غدا، إن شاء اللَّه يقتل قاتل أخيك وتولى عادية اليهود، فلما أصبح أرسل إلى عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو أرمد، فقال: ما أبصر سهلا ولا جبلا. قال: فذهب إليه فقال: افتح عينيك. ففتحهما فتفل فيهما. قال عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: فما رمدت حتى الساعة، ثم دفع إليه اللواء، ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر، فكان أول من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته، فانكشف المسلمون وثبت عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فاضطربا ضربات فقتل عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى موضعهم،
فخرج مرحب وهو يقول:(13/333)
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أضرب أحيانا وحينا أضرب
فحمل عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقطره على الباب وفتح الباب، وكان للحصن بابان.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن شيوخ من بني ساعدة قالوا: قتل أبو دجانة الحارث أبا زينب، وكان يومئذ معلما بعمامة حمراء، والحارث معلم فوق مغفره، وياسر وأسير وعامر معلمين.
قال وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد اللَّه قال: لما نظر عيينة بن حصن إلى حصن الصعب بن معاذ، والمسلمون ينقلون منه الطعام، والعلف، والبرّ، قال: ما أحد يعلف لنا دوابنا ويطعمنا من هذا الطعام الضائع، فقد كان أهله عليه كراما، فشتمه المسلمون وقالوا: لك الّذي جعل لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذو الرقيبة فأمسكت [ (1) ] .
__________
[ (1) ] شرح معنى «ذو الرقيبة» ، في سياق الفقرة التالية.(13/334)
وأما إعلام اللَّه سبحانه وتعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما رآه عيينة بن حصن في منامه وبالصياح الّذي أنفره إلى أهله
فقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] : قالوا: وكان أبو شييم المزني- قد أسلم، فحسن إسلامه- يحدث بقول لما نفرنا أهلها بحيفاء مع عيينة، قدمنا عليهم وهم قارون هادئون لم يهجهم هائج، رجع بنا عيينة فلما كان دون خيبر بمكان يقال له الحطام عن عرّسنا من الليل ففزعنا.
فقال عيينة: أبشروا إني أرى الليلة في النوم، أني أعطيت ذا الرقيبة- جبلا بخيبر- قد واللَّه أخذت برقبة محمد.
قال: فلما قدمنا خيبر قدم عيينة، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد فتح خيبر وغنمه اللَّه ما فيها، فقال عيينة: أعطنى يا محمد مما غنمت من حلفائي فإنّي انصرفت عن قتالك وخذلت حلفائي ولم أكثر عليك، ورجعت عنك بأربعة آلاف مقاتل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، ولكن الصياح الّذي سمعت أنفرك إلى أهلك، قال: أجزني يا محمد، قال: لك ذو الرقيبة! قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال: الجبل الّذي رأيته في النوم، أنك أخذته.
فانصرف عيينة فجعل يتدسس إلى اليهود ويقول: ما رأيت كاليوم أمرا، واللَّه ما كنت أرى أحد يصيب محمدا غيركم، قلت: أهل الحصون والعدّة، والثروة، أعطيتم بأيديكم وأنتم في هذه الحصون المنيعة، وهذا الطعام الكثير ما يوجد له آكل، والماء الواتن، قالوا: قد أردنا الامتناع في قلعة الزبير، ولكن الدبول قطعت عنا، وكان الحر، فلم يكن لنا بقاء على العطش، قال: فقد وليتم من حصون الناعم منهزمين حتى صرتم إلى حصن قلعة الزبير، وجعل يسأل عمن قتل منهم فيخبر، قال: قتل واللَّه أهل الجد والجلد، لا نظام ليهود بالحجاز أبدا. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق وكانوا يقولون: إنه
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 675- 677.(13/335)
ضعيف العقل مختلط، فقال: يا عيينة أنت غررتهم وخذلتهم وتركتهم وقتال محمد، وقبل ذلك ما صنعت ببني قريظة.
فقال عيينة: إن محمد كادنا في أهلنا فنفرنا إليهم حيث سمعنا الصريخ ونحن نظن أن محمدا قد خالف إليهم، فلم نر شيئا فكررنا إليكم لننصركم. قال ثعلبة: ومن بقي تنصره، قد قتل من قتل، وبقي من بقي، فصار عبدا لمحمد وسبانا وقبض الأموال. قال: يقول رجل من غطفان لعيينة: لا أنت خلفاءك فلم يعدوا عليك حلفنا ولا أنت حيث وليت، كنت أخذت تمر خيبر من محمد سنة، واللَّه إني لأرى أمر محمد أمرا ظاهرا، ليظهر على من ناوأه فانصرف عيينة إلى أهله يفتل يديه، فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء، واللَّه ليظهرن محمد على من بين المشرق والمغرب، اليهود كانوا يخبروننا هذا. أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا لنحسد محمدا على النبوة حيث خرجت مكن بني هارون وهو نبي مرسل، واليهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان: واحد بيثرب وآخر بخيبر قال الحارث: قلت لسلام: يملك الأرض جميعا؟ قال: نعم، والتوراة التي أنزلت على موسى بن عمران، وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه.
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن لا يعينوهم، وسألهم أن يخرجوا عنهم ولكم من خيبر كذا وكذا، هنالك من بني فزارة فقالوا: أحطنا والّذي وعدتنا، فقال: حطكم أو قال: لكم ذا الرقيبة جبل من جبال خيبر فقالوا: إذا نقاتلك، فقال: موعدكم حقا، فلما سمعوا ذلك خرجوا هاربين، وحقا ماء من مياه بني فزاره.(13/336)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رجل كان يقاتل معه بخيبر أنه من أهل النار، فقتل نفسه وصار من أهل النار
فخرّج البخاريّ من حديث أبي غسان قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنظر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، فأتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مسرعا فقال: أشهد أنك رسول اللَّه، قال: وما ذاك؟ قال: قلت لفلان: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك: إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم. ذكره في (القدر) [ (1) ] وفي كتاب (الرقاق) [ (2) ] .
وخرّج في كتاب (القدر) [ (3) ] من حديث معمر، عن الزهريّ حدثنا سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: شهدنا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 610، كتاب القدر، باب (5) العمل بالخواتيم، حديث رقم (6607) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : كتاب الرقاق، باب (33) الأعمال بالخواتيم، وما يخاف منها، حديث رقم (6493) ، قال ابن بطال في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف، لأنه لو علم وكان ناجيا أعجب وكسل، وإن كان هالكا ازداد عتوا، فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء. وقد روي الطبري عن حفص بن حميد قال: قلت لابن المبارك: رأيت رجلا قتل رجلا ظلما، فقلت في نفسي: أنا أفضل من هذا، فقال: أمنك على نفسك أشدّ من ذنبه.
قال الطبري: لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر، لعل القاتل يتوب فتقبل توبته، ولعل الّذي أنكر عليه يختم له بخاتمة السوء- أعاذنا اللَّه منها-.
[ (3) ] (المرجع السابق) : كتاب القدر، باب (5) العمل بالخواتيم، حديث رقم (6606) .(13/337)
مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لرجل ممن معه يدعي الإسلام:
هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال فكثرت به الجراح فأثبتته، فجاء رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت الّذي تحدثت أنه من أهل النار قاتل في سبيل اللَّه من أشد القتال فكثرت به الجراح فأثبتته، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما إنه من أهل النار فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينا هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر بها، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه، صدق اللَّه حديثك، قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا بلال قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن وإنّ اللَّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وخرّجه في غزوة خيبر من حديث شعيب، عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيّب أن أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: شهدنا خيبر ... إلى آخره بنحو حديث معمر وقال فيه: الجراحة في الموضعين وقال:
فاستخرج منها سهما فنحر بها نفسه، وقال بعده تابعه معمر عن الزهري [ (1) ] .
وقال شبيب عن يونس، عن ابن شهاب أخبرني ابن المسيب وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب أنّ أبا هريرة قال: شهدنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حنينا وقال ابن المبارك: عن يونس، عن الزهريّ، عن سعيد، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تابعه صالح عن الزهريّ.
وقال الزبيدي: أخبرني الزهريّ أن عبيد الرحمن بن كعب أخبره أن عبيد اللَّه بن كعب قال: أخبرني من شهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر قال الزهريّ: وأخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه وسعيد عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
وخرّج مسلم حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: شهدنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حنينا، فقال الرجل: ممن يدعي بالإسلام هذا من أهل
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 598، كتاب المغازي، باب (39) ، غزوة خيبر، حديث رقم (4204) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4205) .(13/338)
النار، فلما حضر القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابه جراحة، فقيل: يا رسول اللَّه الّذي قلت له آنفا أنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إلى النار، فكاد بعض المسلمين يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: فإنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه فأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اللَّه أكبر أشهد أني عبد اللَّه ورسوله، ثم أمر بلالا فنادى في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر [ (1) ] .
وخرّجه البخاريّ من حديث شعيب، عن الزهريّ ومعمر عن الزهريّ إلى آخره بنحوه ولم يذكر حنينا ولا قال: آنفا وقال: ليؤيده، ذكره في كتاب الجهاد [ (2) ] .
وخرّجا من حديث أبي حازم، عن سهل بن معبد الساعدي، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التقى هو والمشركون فاقتتلوا ... الحديث. ولم يذكر فيه بخيبر [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 482- 483، كتاب الإيمان، باب (47) غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإنّ من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة نفس مسلمة، حديث رقم (111) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 220- 221، كتاب الجهاد والسير، باب (182) إن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، حديث رقم (3062) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 484- 485، كتاب الإيمان، باب (47) غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، حديث رقم (112) .(13/339)
وأما إطلاع اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما غلّه من شهد خيبر معه
فخرّج مسلم [ (1) ] والترمذي [ (2) ] من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك الحنفي أبو زميل قال: حدثني عبد اللَّه بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أوفى عباءة، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، قال: فخرجت فناديت في الناس: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، اللفظ لمسلم وهو أتم، ذكره في كتاب الإيمان، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وخرّج مسلم في كتاب الإيمان من حديث ابن وهب، عن مالك، عن ابن أنس عن ثور بن زيد الدؤليّ، ومن حديث عبد العزيز بن محمد، عن ثور، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر ففتح اللَّه علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا، غنمنا المتاع، والطعام، والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئا له الشهادة يا رسول اللَّه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا والّذي نفسي بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها المقاسم، قال: ففزع
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 487- 488، كتاب الإيمان، باب (48) غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث رقم (114) .
[ (2) ]
(سنن الترمذي) : 4/ 118، كتاب السير، باب (21) ما جاء في الغلول، حديث رقم (1574) ، وفيه: «قم يا علي فناد» .(13/340)
الناس فجاء رجل بشراك، أو شراكين، فقال: يا رسول اللَّه أصبت يوم خيبر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شراك من نار أو شراكان من نار [ (1) ] .
وخرّجه البخاريّ في كتاب الأيمان والنذور من حديث مالك، عن ثور بن زيد الدئلي، عن أبي الغيث مولى ابن مطيع، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال، والثياب، والمتاع، فأهدى رجل من بني الضبيب يقال له: رفاعة بن زيد غلاما يقال له مدعم، فوجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى وادي القرى، حتى إذا كان بوادي القرى، بينما مدعم بحط رحلا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا والّذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا، فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: شراك من نار أو شراكان من نار [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 2/ 488- 489، كتاب الإيمان، باب (48) غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث رقم (115) .
وفي الحديثين من الفوائد غلظ تحريم الغلول، وأنه لا فرق بين قليله وكثيره، حتى الشراك، ومنها أن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غلّ إذا قتل ... ومنها أنه لا يدخل الجنة أحد ممن مات على الكفر، وهذا بإجماع المسلمين، ومنها جواز الحلف باللَّه- تعالى- من غير ضرورة،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفس محمد بيده،
ومنها أن من غلّ شيئا من الغنيمة يجب عليه رده، وأنه إذا رده يقبل منه، ولا يحرق متاعه، سواء رده أم لم يرده، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يحرق متاع صاحب الشملة، وصاحب الشراك، ولو كان واجبا لفعله، ولو فعله لنقل. (شرح النووي) .
[ (2) ]
(فتح الباري) : 11/ 725، كتاب الإيمان والنذور، باب (33) هل يدخل في الإيمان والنذور، الأرض والغنم والزرع والأمتعة، وقال ابن عمر: قال عمر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه، قال: إن شئت حبسّت أصلها وتصدقت بها،
وقال أبو طلحة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحب أموالي إليّ بيرحاء لحائط له مستقبلة القبلة حديث رقم (6707) ، والشراك:
سير النعل.(13/341)
وخرّجه أبو داود في الجهاد، عن مالك بهذا الإسناد، وخرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام خيبر، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الثياب والمتاع والأموال قال:
فوجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو وادي القرى وقد أهدى لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد أسود يقال له: مدعم، حتى إذا كانوا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جاءه سهم فقتله.. الحديث إلى آخره نحوه [ (1) ] .
وخرّج في كتاب الجهاد من حديث سفيان، عن عمرو عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: كان على ثقل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل يقال له:
كركرة فمات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلّها [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 155، كتاب الجهاد باب (143) في تعظيم الغلول، حديث رقم (2711) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 230، كتاب الجهاد والسير، باب (190) القليل من الغلول، ولم يذكر عبد اللَّه بن عمرو عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه حرّق متاعه، وهذا أصح، حديث رقم (3074) ، وقال في آخره: قال أبو عبد اللَّه: قال ابن سلام: كركرة، يعني بفتح الكاف، وهو مضبوط هكذا.
قوله: «على ثقل» ، بمثلثة وقاف مفتوحتين: العيال، وما يثقل حمله من الأمتعة.
قوله: «كركرة» ، ذكر الواقديّ أنه كان أسود يمسك دابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القتال، وروى أبو سعيد النيسابورىّ في (شرف المصطفى) : أنه كان نوبيا أهداه له هوذة بن عليّ الحنفيّ صاحب اليمامة فأعتقه، وذكر البلاذريّ أنه مات في الرق.
واختلف في ضبطه في كافه الأولى، وأما الثانية فمكسورة اتفاقا، وقد أشار البخاريّ إلى الخلاف في ذلك بقوله في آخر الحديث: «قال ابن سلام: كركرة» قال، وأراد بذلك أن شيخه محمد بن سلام رواه عن ابن عيينة بهذا الإسناد بفتح الكاف، وصرح بذلك الأصيلي في روايته، فقال: يعني بفتح الكاف. واللَّه- تعالى- أعلم.
قال عياض: هو للأكثر بالفتح في رواية عليّ، وبالكسر في رواية ابن سلام وعند الأصيلي بالكسر في الأول، وقال القابسيّ: لم يكن عند المروزي فيه ضبط إلا أني أعلم الأول خلاف الثاني.(13/342)
وخرّج أبو داود [ (1) ] والنسائي [ (2) ] من حديث يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهنيّ أن رجلا من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم توفى يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل اللَّه ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين، اللفظ لأبي داود، وخرّجه ابن الجارود به بنحوه.
وقال الواقدي في غزاة خيبر [ (3) ] : وكان رجل أسود مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يمسك دابته عند القتال فقال له: كركرة فقتل يومئذ، فقيل يا رسول اللَّه استشهد كركر فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه الآن ليحرق في النار على شملة غلها، فقال رجل من القوم: يا رسول اللَّه أخذت شراكين يوم كذا وكذا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
شراكان من نار، وتوفى يومئذ رجل من أشجع وإنهم ذكروه لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
إن صاحبكم غلّ في سبيل اللَّه، قال زيد بن خالد الجهنيّ: ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يسوى درهمين.
وقال في غزوة وادي القرى [ (4) ] ، وكان أبو هريرة [يحدث] [ (5) ] قال:
خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن
__________
[ () ] وفي الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره، وقوله: «هو في النار» ، أي يعذب على معصيته أو المراد هو في النار إن لم يعف اللَّه عنه.
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 155، كتاب الجهاد، باب (143) في تعظيم الغلول، حديث رقم (2710) ، وأخرجه ابن ماجة في الجهاد، باب الغلول، حديث رقم (2848) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 4/ 366، كتاب الجنائز، باب (66) الصلاة على من غلّ، حديث رقم (1958) . قال الحافظ السندي: «غل» : أي خان في الغنيمة قبل القسمة، «ما يساوي درهمين» :
أي قدرا يساوي درهمين، أو كلمة «ما» نافية. (حاشية السندي على سنن النسائي) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 681.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 709- 710.
[ (5) ] زيادة للسياق من (المغازي) .(13/343)
وهب الجذاميّ قد وهب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبدا أسود يقال له: مدعم، وكان يرحل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضوى إليها أناس من العرب فبينما مدعم يحط رحل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبئة وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهم عائر [ (1) ]
فأصاب مدعما فقتله، فقال الناس: هنيئا لك الجنة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا والّذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لتشتعل عليه نارا فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشراك أو بشراكين فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شراك [ (2) ] من نار، أو شراكان من نار.
وقال في غزوة حنين [ (3) ] : [أن رجلا] قاتل قتالا شديدا حتى اشتد به الجراح فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: من أهل النار، فارتاب المسلمون في ذلك، ووقع في أنفسهم ما اللَّه به عليهم، فلما اشتدّ به الجراح أخذ مشقصا [ (4) ] من كنانته فانتحر به، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا ينادي: ألا لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: فدخل الواقدي- رحمه اللَّه- بما ذكر وجه البيان بأن الغالين أربعة:
أحدهم: الّذي نحر نفسه من شدة ألم الجراحة بحنين.
والثاني: الّذي لم يصلّ عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما مات بخيبر وهو رجل من أشجع.
والثالث: كركرة قتل بخيبر.
والرابع: مدعم قتل بوادي القرى.
__________
[ (1) ] العائر من السهام: ما لا يدري راميه.
[ (2) ] الشراك أحد سيور النعل التي تكون على وجهها.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 917.
[ (4) ] المشقص من النصال: ما طال وعرض.(13/344)
وأما نطق ذراع الشاة المسمومة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تخبره بما فيها من السم
فخرّج الحاكم [ (1) ] من حديث أبي قلابة الرقاشيّ، حدثنا أبو عتّاب سهل بن حماد، عن عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يهودية أهدت شاة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سميطا، فلما بسط القوم أيديهم قال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كفوا أيديكم، فإن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة قال: فأرسل إلى صاحبتها: أسممت طعامك هذا؟ قالت: نعم، أحببت إن كنت كاذبا أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقا علمت أن اللَّه سيطلعك عليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اذكروا اسم اللَّه وكلوا، فأكلنا، فلم يضر أحدا منا شيئا»
قال: هذا حديث صحيح [الإسناد ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وخرّج البيهقيّ [ (3) ] من حديث عبد الملك بن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يهودية أهدت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إما شاة مسمومة وإما برقا مسموطا مسموما، فلما قربته إليه وبسط القوم أيديهم، قال: أمسكوا، فإن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة، فدعا صاحبتها فقال: أسممت هذا؟ قالت: نعم، قال: ما حملك عليه؟ قالت: أحببت إن كنت كاذبا أن أريح الناس منك، وإن كنت رسولا أنك ستطلع عليه، فلم يعاقبها.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شاة مصلية بخيبر فقال: ما
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 122، كتاب الأطعمة، حديث رقم (7090) ، وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 260، باب ما جاء في الشاة التي سممت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بخيبر، وما ظهر في ذلك من عصمة اللَّه جلّ ثناؤه ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ضرر ما أكل منه حتى بلغ فيه أمره، وإخبار ذراعها إياه بذلك حتى أمسك عن البقية.(13/345)
هذه؟ قالت: هدية، وحذرت أن تقول من الصدقة فلا يأكل، قال: فأكل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأكل أصحابه، ثم قال: أمسكوا، ثم قال للمرأة: هل سممت هذه الشاة؟
قالت: من أخبرك هذا؟ قال: هذا العظم لساقها، وهو في يده، قالت: نعم، [قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:] لم، قالت: أردت إن كنت كاذبا أن يستريح الناس منك، وإن كنت نبيا لم يضرك، قال: فاحتجم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الكاهل وأمر أصحابه فاحتجموا، فمات بعضهم، قال الزهريّ: فأسلمت، فتركها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال معمر: وأما الناس فيقولون قتلها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
قال البيهقيّ: هذا مرسل ويحتمل أن يكون عبد الرحمن حمله، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (2) ] .
وخرّج أبو داود من طريق ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: كان جابر بن عبد اللَّه يحدث أن يهودية من أهل خيبر سممت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارفعوا أيديكم، وأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليهودية، فدعاها، فقال: أسممت هذه الشاة؟ قالت اليهودية: من أخبرك، قال: أخبرتني هذه التي في يدي للذراع، قالت: نعم، قال: فما أردت إلى ذلك؟ قالت: قلت إن كان نبيا فلم يضره [شيئا] [ (3) ] ، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يعاقبها، وتوفى بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كاهله من أجل الّذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 260- 261، وما بين الحاصرتين زيادة للبيان.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 262.
[ (3) ] زيادة في (الأصل) : فقط.
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 4/ 648- 649، كتاب الديات، باب (6) فيمن سقى رجلا سما أو أطعمة فمات، أيقاد منه؟ حديث رقم (4510) ، وهو حديث منقطع، الزهريّ لم يسمع من جابر.(13/346)
ومن طريق وهب بن بقية قال: حدثنا خالد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهدت له يهودية شاة مصلية بخيبر، نحو حديث جابر قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية، [وقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:] ما حملك على الّذي صنعت فذكر نحو حديث جابر، فأمر بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقتلت. ولم يذكر أمر الحجامة [ (1) ] .
قال البيهقيّ: ورويناه عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ويحتمل أنه لم يقتلها [في الابتداء] ، ثم لما مات
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4511) ، وما بين الحاصرتين زيادة للبيان.
وقد اختلف الناس فيما يجب على من جعل في طعام رجل سما فأكله فمات، فقال مالك بن أنس: عليه القود، وأوجب الشافعيّ- في أحد قوليه- القود إذا جعل في طعامه سما وأطعمه إياه، أو في شرابه فسقاه ولم يعلمه أن فيه سما. قال الشافعيّ: وإن خلط بطعام سما فوضعه ولم يقل له فأكله أو شربه فمات فلا قود عليه.
قال الخطابيّ: والأصل أن المباشرة والسبب إذا اجتمعا كان حكم المباشرة مقدما على السبب، كحافر البئر والدافع إليها.
فأما إذا استكرهه على شرب السم فعليه القود في مذهب الشافعيّ ومالك، وعن أبي حنيفة: إن سقاه السمّ فمات: لم يقتل به، وإن أوجره إيجارا كان على عاقلته الدية.
ثم إنه ليس في هذا الحديث أكثر من أن اليهودية أهدتها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن بعثت بها، فصارت ملكا له، وصار أصحابه أضيافا له، ولم تكن هي التي قدّمتها إليهم وإليه، وما هذا سبيله فالقود فيه ساقط، لما ذكرنا من علة المباشرة وتقديمها على السبب.
وفي الحديث دليل على إباحة أكل طعام أهل الكتاب، وجواز مبايعتهم ومعاملتهم مع إمكان أن يكون في أموالهم الربا ونحوه من الشبهة.
وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الهدية توجب العوض، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يقبل الهدية من يهودية إلا من حيث يرى فيها التعويض، فيكون ذلك عنده بمنزلة المعاوضة بعقد البيع. واللَّه- تعالى- أعلم. (معالم السنن) .(13/347)
بشر بن البراء أمر بقتلها، وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير [ (1) ] .
وقال إسماعيل بن إبراهيم عن عمه موسى بن عقبة وقال محمد بن فليح:
حدثنا عقبة عن ابن شهاب قال: لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر وقتل من قتل منهم أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسممتها، وأكثرت في الكتف والذراع لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكتف وانتهش منها، وتناول بشر بن البراء عضوا فانتهش منه، فلما استرطها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استرط بشر بن البراء ما في فيه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أرفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة تخبرني أن قد بغيت فيها،
فقال بشر بن البراء:
والّذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما في فيك، لم أكن أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغي، فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان، وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول [ (2) ] .
[قال جابر] : وفي رواية ابن فليح عن موسى، قال الزهري: قال جابر بن عبد اللَّه: واحتجم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الكاهل يومئذ حجمه مولى بني بياضه بالقون والشفرة وبقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الّذي توفى فيه فقال: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطع الأبهر مني فتوفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شهيدا [ (3) ] .
وقد ذكر ابن إسحاق [ (4) ] والواقدي قصة سم الشاة، وسياق الواقدي أنه قال في (مغازيه) [ (5) ] : لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر واطمأن جعلت زينب ابنة
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 262- 263.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 263- 264.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 264- وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 308- 309، قصة الشاة المسمومة، وموته صلّى اللَّه عليه وسلّم شهيدا.
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 677- 678.(13/348)
الحارث اليهودية تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون: الذراع والكتف، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها، ثم عمدت إلى سم لا بطيّ، قد شاورت اليهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتفين، فلما غابت الشمس صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المغرب وانصرف إلى منزله، وجد زينب جالسة عند رحله فيسأل عنها فقالت: أبا القاسم، هدية أهديتها لك، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهدية فقبضت منها ووضعت بين يديه،
ثم قال لأصحابه وهم حضور أو من حضر منهم: ادنوا فتعشوا، فدنوا فقمدوا أيديهم، وتناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الذراع وتناول بشر بن البراء عظما فانتهش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منها نهشا وانتهش بشر، فلما ازدرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ازدرد بشر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ضعوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبره أنها مسمومة،
فقال بشر بن البراء: قد واللَّه يا رسول اللَّه وجدت ذلك من أكلتي التي أكلتها، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أن أنغص إليك طعامك، فلما تسوغت ما في يدك، لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ازدرتها وفيها بغى، فلم يرم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان وماطله وجعه سنة لا يتحول إلا ما حوّل، ثم مات منه، ويقال: لم يرم مكانه حتى مات.
وعاش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك ثلاث سنين،
ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بزينب، فقال: سمعت الذراع؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: الذراع، قالت: نعم، [قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:] وما حملك على ذلك؟ قالت: قتلت أبي، وعمي، وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبيا فستخبره الشاة بما صنعت، وإن كان ملكا استرحنا منه.
فاختلف علينا فيها، فقال قائل: أمر بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقتلت، ثم صلبت، وقال قائل: عفى عنها، وكان نفر ثلاثة قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يسيغوا منه شيئا، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم(13/349)
من الشاة، واحتجم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت كتفه اليسرى، ويقال: احتجم على كاهله، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة.
قالوا: فكانت أم بشر بن البراء تقول: دخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه وهو محموم فمسسته فقلت: ما وجدت مثل [ما] وعك عليك على أحد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كما يضاعف لنا الأجر كذلك يضاعف لنا البلاء، زعم الناس أن برسول اللَّه ذات الجنب، ما كان اللَّه ليسلطها عليّ، إنما هي همزة من الشيطان ولكنه من الأكلة الّذي أكلت أنا وابنك يوم خيبر، ما زال يصيبني منها عداد [ (1) ] حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري [ (2) ] ، فمات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شهيدا.
ويقال: إن الّذي مات من الشاة مبشر بن البراء، وبشر أثبت عندنا، وهو المجتمع عليه.
قال الواقدي: سألت إبراهيم بن جعفر عن قول زينب ابنة الحارث قتلت أبي؟ قال: قتل يوم خيبر أبوها الحارث وعمها يسار، وكان أجبن الناس، وكان الحارث أشجع اليهود، وأخوها زبير قتل يومئذ وكان زوجها سيدهم وأشجعهم سلام بن مشكم، كان مريضا، فقتل وهو مريض، وهو أبو الحكم كان صاحب حربهم، ولكن اللَّه شغله بالمرض [ (3) ] .
__________
[ (1) ] العداد: اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمت له سنة من يوم لدغ هاج به الألم.
[ (2) ] الأبهر: العرق المعلق بالقلب.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 678- 679.(13/350)
وأما أن الأرض أبت أن تقبل ميتا قتل موحّدا
روى محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة وشعيب، عن ابن شهاب الزهريّ قال: حدثنا عبد اللَّه بن موهب، عن قبيصة بن ذؤيب قال: أغار رجل من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على سرية من المشركين فانهزمت، فغشى رجل من المسلمين رجلا من المشركين وهو منهزم فلما أراد أن يعلوه بالسيف قال: لا إله إلا اللَّه، فلم ينزع عنه حتى قتله، ثم وجد في نفسه من قتله، فذكر حديثه لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فهل لا نقبت عن قلبه؟ يريد أن يعبر عن القلب اللسان، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى توفى ذلك الرجل القاتل، فأصبح على وجه الأرض فجاء أهله فحدثوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ادفنوه، فدفنوه، فأصبح على وجه الأرض، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فحدثوه ذلك، فقال:
إن الأرض قد أبت أن تقبله فاطرحوه في غار من الغيران.
وروى يونس بن بكير عن البراء بن عبد اللَّه، عن الحسن قال: بلغنا أن رجلا كان على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتال المشركين، فذكر معنى ما ذكر قبيصة، يزيد وينقص، ومما زاد، قال: فأنزل اللَّه فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، فبلغنا أن الرجل مات فقيل: يا رسول اللَّه مات فلان فدفناه، فأصبحت الأرض قد لفظته، ثم دفناه فلفظته، فقال: أما إنها تقبل من هو شر منه ولكن اللَّه- عز وجل- أراد أن يجعله موعظة لكم لكي لا يقدم رجل على قتل من يشهد أن لا إله إلا اللَّه ويقول: إني مسلم، اذهبوا به إلى شعب بني فلان فادفنوه، فإن الأرض ستقبله، فدفنوه في ذلك الشعب، ذكر ذلك البيهقيّ [ (1) ]- رحمة اللَّه عليه.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 4/ 310، باب ذكر الرجل الّذي قتل رجلا بعد ما شهد بالحق، ثم مات فلم تقبله الأرض، وما ظهر في ذلك من آثار(13/351)
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط، عن القعقاع بن عبد اللَّه بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سرية إلى إضم، فلقينا عامر بن الأضبط فحيانا بتحية الإسلام، فحمل عليه المحلم بن جثامة فقتله وسلبه، فلما قدمنا جئنا بسلبة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرناه، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [ (1) ] .. الآية.
وقال في غزوة حنين: قالوا: وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الظهر يوما بحنين، ثم تنحى إلى [ظل] شجرة فجلس إليها فقام عيينة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي وهو يومئذ سيد قيس ومعه الأقرع بن حابس يدفع عن محلم ابن جثامة لمكان خندف، فاختصما بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعيينة، يقول: يا رسول اللَّه، لا واللَّه لا أدعه حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تأخذ الدية؟ فأبى عيينة حتى ارتفعت الأصوات وكثر اللغط إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له: مكيتل قصد مجتمع، عليه سلة كاملة وذرقة في يده، فقال: يا رسول اللَّه إني لم أجد لهذا القتيل شبها غرة الإسلام إلا كغنم وردت فرميت أولاها فنفرت أخراها، أسنن اليوم وغير غدا [ (2) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن وخمسين إذا رجعنا
__________
[ (1) ] النساء: 94، واختلف في اسم القاتل والمقتول، بعد الاتفاق على أن ذلك كان في سرية،
فروى ابن القاسم عن مالك: أن القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الفزاري من أهل فدك، وفي سيرة ابن إسحاق: أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط.
وقيل: القاتل أبو قتادة، وقيل: أبو الدرداء، وأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبخ القاتل، وقال له: فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه.
ومخاطبتهم ب- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تلوح إلى أن الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهيّ عنه، ولو كان قصد القاتل الحرص على تحقيق وصف الإيمان ثابت للمقتول، فإن هذا التحقيق غير مراد للشريعة، وقد ناطت صفة الإسلام بقول: «لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه» ، أو بتحية الإسلام وهي: «السلام عليكم» (تفسير التحرير والتنوير) : 4/ 167.
[ (2) ] أسن اليوم وغيّر غدا: يريد احكم لنا اليوم بالدم، واحكم غدا بالدية لمن شئت.(13/352)
إلى المدينة؟ فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية، قال قوم محلّم: ائتوا به حتى يستغفر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجاء رجل طوال ضرب للحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ لا تغفر لمحلم، قالها ثلاثا فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال محمد بن إسحاق: زعم قومه أنه استغفر له بعد كذا في كتابي عن ابن حدرد، عن أبيه، وقيل: عن حجاج بن منهال عن حماد في هذا الإسناد عن أبي حدرد عن أبيه [ (1) ] .
عن عبد الرحمن بن الحارث، عن الحسن البصري قال: لما مات محلم بن جثامة دفنه قومه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فطرحوه بين قزحين فأكلته السباع.
وذكر الطبري عن نافع، عن ابن عمر أن محلم بن جثامة مات في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدفنوه، فلفظته الأرض مرة بعد أخرى، فأمر به فألقى به بين جبلين، وألقيت عليه حجارة، قال ابن عبد البر: وقال مثل ذلك أيضا قتادة.
وروى أنه مات بعد سبعة أيام ودفنوه فلفظته الأرض، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن الأرض لتقبل من هو شرّ منه ولكن اللَّه أراد أن يريكم آية في قتل المؤمن.
قال ابن عبد البر: وقد قيل: أن هذا ليس بمحلم بن جثامة، وأن محلّم بن جثامة ترك حمص بآخره، ومات بها في إمارة ابن الزبير.
قال ابن عبد البر: ومعلوم أن قتله كان خطأ لا عمدا لأن قاتله لم يصدقه في قوله واللَّه- تعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 306- 307.(13/353)
وأما تصديق اللَّه تعالى رؤيا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بدخوله المسجد الحرام
قال اللَّه- تبارك وتعالى-: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [ (1) ] .
قال ابن عطية: روى في تفسير هذه الآية: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في منامه عند خروجه من العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقين وبعضهم مقصرين.
وقال مجاهد أرى ذلك بالحديبية فأخبر الناس بهذه الرؤيا ووثقه الجميع أن ذلك يكون إن شاء اللَّه- تعالى- لكن ليس في تلك الوجهة.
وروى أن رؤياه إنما كانت أن ملكا جاءه فقال: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين، وأنه بهذا أعلم الناس فلما قضى اللَّه- تعالى- بالحديبية بأمر بالصلح وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصدر [ (2) ] ، قال المنافقون: أين الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين من ذلك، فأنزل اللَّه- تعالى-: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ قال: ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أن تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه من الزمن، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت فخرجت في العام المقبل، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة، ودخول الناس فيه، وما كان أيضا بمكة من المؤمنين الذين دفع اللَّه بهم.
وقوله- تعالى-: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من قبل ذلك وفيما يدنوا إليكم، واختلف في الفتح القريب، قيل: هو بيعة الرضوان، وعن مجاهد وابن إسحاق: أنه الفتح بالحديبية، وقال عبد اللَّه بن زيد: الفتح القريب: خيبر،
__________
[ (1) ] الفتح: 27.
[ (2) ] الرجوع والعودة.(13/354)
وقال قوم: الفتح القريب: مكة، وهذا ضعيف لأن فتح مكة كان بعد ذلك، قال ابن عطية: ويحسن أن يكون الفتح هذا اسم جنس يعم كل ما وقع للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه ظهور وفتح عليه.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] : قالوا: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد رأى في النوم أنه دخل البيت، وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت وعرّف مع المعرفين [ (2) ] ، فاستنفر أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيأ للخروج، وخرج أصحابه معه لا يشكون في الفتح للرؤيا التي رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وساق قصة الحديبيّة إلى أن قال: فلما وقعت هذه القضية أسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم من يوم دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى يوم الحديبيّة، وما كان في الإسلام فتح أعظم من يوم الحديبيّة، وقد كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكرهون الصلح لأنهم خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت، وأخذ مفتاح الكعبة، وعرف مع المعرفين فلما رأوا الصلح، دخل الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكوا.
وقال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ورجال معه من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا رسول اللَّه ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة، وتعرف مع المعرفين، وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر: لا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما إنكم ستدخلونه وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين، ثم أقبل على عمر فقال: أنسيتم يوم أحد وأنا أدعوكم: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ؟ أنسيتم يوم الأحزاب: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ؟ أنسيتم يوم كذا؟ وجعل يذكرهم أمورا، فقال المسلمون: صدق اللَّه ورسوله، يا رسول اللَّه ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم باللَّه وبأمره منا، فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام القضية
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 572 وما بعدها.
[ (2) ] أي وقف بعرفة.(13/355)
وحلق رأسه قال: هذا الّذي وعدتكم، فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال:
ادعوا لي عمر بن الخطاب، فقال: هذا الّذي قلت لكم: فلما كان في حجة الوداع وقف بعرفة فقال: أي عمر، هذا الّذي قلت لكم، قال: أي رسول اللَّه، ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبيّة.
وكان الناس قصر رأيهم يومئذ عما كان بين محمد وبين ربه، والعباد يعجلون، واللَّه لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد، لقد نظرت إلى سهيل بن عمر في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدنه، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وانظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبيّة بأن يكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ويأبى أن يكتب أن محمدا رسول اللَّه، فحمدت اللَّه الّذي هداه للإسلام، وصلوات اللَّه وبركاته على نبي الرحمة الّذي هدانا به، وأنقذنا به من الهلكة.(13/356)
وأما إطلاع اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما قاله المشركون في عمرة القضية
فخرّج أبو داود [ (1) ] من حديث مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير أنه حدثه، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وقد وهنتهم الحمى ولقوا منها شرا، فأطلع اللَّه- تعالى- نبيه على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد منا، قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط إلا إبقاء عليهم.
وخرّجه البخاريّ أيضا في باب كيف كان بدء الرّمل [ (2) ] ، وفي عمرة القضاء [ (3) ] من حديث سليمان بن حرب، وحماد بن زيد.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 2/ 446، كتاب المناسك، باب (51) في الرّمل، حديث رقم (1886) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 3/ 599، كتاب الحج، باب (55) كيف كان بدأ الرّمل؟ حديث رقم (1602) .
[ (3) ]
(فتح الباري) : 7/ 647- 648، كتاب المغازي، باب (44) عمرة القضاء، حديث رقم (4256) ، وزاد ابن سلمة عن أيوب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لعامه الّذي استأمن قال: أرملوا ليرى المشركون قوتكم.
والمشركون من قبل قعيقعان.
قوله: «باب كيف كان بدء الرمل» أي ابتداء مشروعيته، وهو بفتح الراء والميم هو الإسراع، وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، وفي الحديث: جواز تسمية الطوفة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعيّ كراهته، ويؤخذ منه جواز تسمية الطوفة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعيّ كراهته، ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أولى. (فتح الباري) .(13/357)
وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث أبي الربيع الزهراني قال حماد: يعني ابن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: يقدم عليكم غدا قوم وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر وأمرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا.
قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. اللفظ لمسلم، وهو أتم، فلم يذكر
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 15- 16، كتاب الحج، باب (39) استحباب الرمل في الطواف والعمرة، وفي الطواف الأول في الحج، حديث رقم (240) .
ومن حديث سفيان عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنما سعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورمل بالبيت ليرى المشركين قوته. حديث رقم (241) .
قال الإمام النووي: وأما يثرب فهو الاسم الّذي كان للمدينة في الجاهلية، وسميت في الإسلام المدينة، فطيبة، فطابة، قال اللَّه- تعالى- ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ. [ولم يأت ذكر «يثرب» في القرآن الكريم إلا على لسان المشركين أو اليهود أو المنافقين، قال تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا، [الأحزاب: 13] .
وأخرجه النسائي في المناسك، باب (155) العلة التي من أجلها سعى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبيت، حديث رقم (2945) . قال الحافظ السيوطي في (حاشيته على سنن النسائي) : قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: فكان ذلك ضربا من الجهاد، قال: وعلته في حقنا تذكر النعمة التي أنعمها اللَّه على رسوله وأصحابه بالعزة بعد الذلة، وبالقوة بعد الضعف، حتى بلغ عسكره صلّى اللَّه عليه وسلّم سبعين ألفا.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 485، حديث رقم (2681) ، وحديث رقم (2790) ، وحديث رقم (3526) كلهم من مسند عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(13/358)
فيما خرّجه البخاريّ ومسلم الاطلاع، وله عندهما طرق، واللَّه- تعالى- أعلم.
وأما تعيين أمراء غزوة مؤتة واحدا بعد واحد وكان ذلك إشارة إلى أنهم سيستشهدوا
فخرّج البخاريّ [ (1) ] من حديث مغيرة بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن سعيد، عن نافع عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن رواحة، قال عبد اللَّه: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (2) ] : حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحارث بن عمير الأزدي، ثم أحد بني لهب إلى ملك بصري بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانيّ فقال: أين تريد؟ قال: الشام، قال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم أنا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 650، كتاب المغازي، باب (45) غزوة مؤتة من أرض الشام، حديث رقم (4261) .
قال ابن إسحاق: هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره: هي على مرحلتين من بيت المقدس ويقال: إن السبب فيها أن شرحبيل بن عمرو الغساني- وهو من أمراء قيصر على الشام- قتل رسولا أرسله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى صاحب بصرى، واسم الرسول الحارث بن عمير، فجهز إليهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عسكرا في ثلاثة آلاف.
وفي (مغازي أبي الأسود) : عن عروة: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجيش إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان، وكذا قال ابن إسحاق وموسى بن عتبة وغيرهما من أهل المغازي لا يختلفون في ذلك، إلا ما ذكر خليفة في (تاريخه) أنها كانت سنة سبع، (فتح الباري) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 755- 756، غزوة مؤتة.(13/359)
رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر به، فأوثق رباطا، ثم قدمه فضرب عنقه صبرا، ولم يقتل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رسول غيره، فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر، فاشتد عليه وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف، ولم يبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأمر، فلما صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الظهر جلس، وجلس أصحابه حوله، وجاء النعمان بن مهض [ (1) ] اليهودي، فوقف على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع الناس،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر، فعبد اللَّه بن رواحة، فإن أصيب عبد اللَّه بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم، فقال النعمان بن مهض [ (2) ] : أبا القاسم إن كنت نبيا فسميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل على القوم، ثم قالوا: إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا، ثم جعل اليهود يقولون لزيد بن حارثة: أعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا، فقال زيد: فأشهد أنه نبي صادق بارّ، وذكر الخبر في قتل الأمراء بمؤتة.
__________
[ (1) ] في بعض أصول (مغازي الواقدي) : «فنحص» .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.(13/360)
وأما نعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيدا وجعفرا وعبد اللَّه بن رواحة يوم قتلوا بمؤتة قبل أن يأتي خبرهم إلى الناس
فخرّج البخاريّ من حديث حماد بن زيد عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم قال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه، حتى فتح اللَّه عليهم. ذكره في غزوة مؤتة [ (1) ] وفي المناقب [ (2) ] والإسناد واحد.
وخرّج في كتاب الجهاد [ (3) ] من طريق ابن علية، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 652، كتاب المغازي، باب (45) غزوة مؤتة من أرض الشام، حديث رقم (4262) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 126، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (25) مناقب خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (3757) ، وشهد خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عدة مشاهد ظهرت فيها نجابته، ثم كان قتل أهل الردة على يديه، ثم فتوح البلاد الكبار، ومات على فراشه سنة إحدى وعشرين، وبذلك جزم ابن نمير، وذلك في خلافة عمر بحمص،
وقد أخرج الحاكم وابن حبان من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى، قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف اللَّه صبّه اللَّه على الكفارة.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 221، كتاب الجهاد، باب (183) من تأمر في الحرب من غيره إمرة إذا خاف العدو، حديث رقم (3063) . قال ابن المنير: يؤخذ من حديث الباب أن من تعين لولاية وتعذرت مراجعة الإمام أن الولاية ثبتت لذلك المعين شرعا، وتجب طاعته حكما، ولا يخفى أن محله ما إذا اتفق الحاضرون عليه، قال: ويستفاد منه صحة مذهب مالك في أن المرأة إذا لم يكن لها وليّ إلا السلطان، فتعذر إذن السلطان أن يزوجها الآحاد، وكذا إذا غاب إمام الجمعة قدم الناس لأنفسهم.(13/361)
خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد اللَّه بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة، ففتح اللَّه عليه وما يسرني- أو قال: وما يسرهم- أنهم عندنا وقال: وإن عينية لتذرفان، ترجم عليه باب من تأمر في الحرب من غير إمرة.
وخرّجه في الجنائز [ (1) ] في الرجل يعني إلى أهل الميت بنفسه من حديث عبد الوارث عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد اللَّه بن رواحة فأصيب- وإن عيني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لتذرفان- ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له.
وقال موسى بن عقبة: وقدم يعلي بن منبه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخبر أهل مؤتة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك، قال: بل أخبرني يا رسول اللَّه، فأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهم كله ووصف له، فقال:
والّذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم كما ذكرت، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 150، كتاب الجنائز، باب (4) الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه، حديث رقم (1246) ، قال ابن المرابط: مراده النعي الّذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له، والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتب على ذلك من الأحكام.
قال ابن العربيّ: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى: دعوة الأهل والأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سنة.
الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره.
الثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم.
قال الزين ابن المنير: وجه دخول قصة الأمراء في الترجمة، أن نعيهم كان لأقاربهم وللمسلمين، الذين هم أهلهم من جهة الدين. (فتح الباري) .(13/362)
وخرّج الحاكم [ (1) ] من حديث الحسن بن بشر حدثنا سعدان بن الوليد، عن عطاء، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: بينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ ردّ السلام، ثم قال: يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل، وميكائيل وإسرافيل، سلموا علينا فردي عليهم السلام، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثلاث أو أربع فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي في مقاديمي ثلاثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذت باليد اليسرى فقطعت، فعوضني اللَّه من يدي جناحين أطير بهما أخذت مع جبريل وميكائيل، أنزل من الجنة حيث شئت وآكل من ثمارها ما شئت، فقالت أسماء: هنيئا لجعفر ما رزقه اللَّه من الخير، ولكن أخاف أن لا يصدق الناس فأصعد المنبر فأخبر به، فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إن جعفر مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه اللَّه من يديه سلّم عليّ، ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين، فاستبان للناس بعد اليوم الّذي أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن جعفر لقيهم، فلذلك سمي الطيار في الجنة.
وخرّج البيهقي [ (2) ] من طريق أبي خليفة الفضل بن حباب الجمحيّ قال:
حدثنا سليمان بن حرب، عن الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير قال: قدم علينا عبد اللَّه بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه فغشيه الناس فغشيته فيمن غشيه من الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جيش الأمراء وقال عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد، فجعفر، فإن أصيب جعفر، فعبد اللَّه بن رواحة، فوثب جعفر فقال: يا رسول
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 232، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، حديث رقم (4937) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) ، وحديث رقم (4937) ، وقد حذفه الحافظ الذهبي من (التلخيص) لضعفه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 367- 368، باب ما جاء في غزوة مؤتة، وما ظهر في تأمير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمراءها، ثم في إخباره عن الوقعة قبل مجيء خبرها من آثار النبوة.(13/363)
اللَّه!: ما كنت أرهب أن تستعمل زيدا عليّ، قال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير، فانطلقوا فلبثوا ما شاء اللَّه فصعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المنبر فأمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أخبركم عن جيشكم هذا، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا فاستغفر له، ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا شهد له بالشهادة واستغفر له، ثم أخذ اللواء عبد اللَّه بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفر له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمر نفسه، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره. فمن يومئذ سمى خالد: سيف اللَّه.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] : حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وحدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد اللَّه بن أبي بكر زاد أحدهما على صاحبه في الحديث قالا: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكرّه إليه الموت وحبب إليه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إليّ الدنيا، فمضى قدما حتى استشهد، فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: استغفروا له فقد دخل الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا، ثم مضى قدما حتى استشهد. فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة. فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة، ثم أخذ الراية بعده عبد اللَّه بن رواحة فاستشهد، ثم دخل الجنة فشق ذلك على الأنصار فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أصابته الجراح معترضا قيل: يا رسول اللَّه ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح فكل فعاتب نفسه، فشجع فاستشهد، فدخل الجنة، فسرى عن قومه.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 671- 672.(13/364)
وخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من طريق ابن إسحاق، حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر، عن أم عيسى، عن أم جعفر ابنة محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء ابنة عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وقد دبغت أربعين منيئة، وعجنت عجيني، وغسلت بنيّ، ودهنتهم، ونظفتهم] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم، فشمّهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول اللَّه! بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم [قالت: فكنت أصيح، واجتمع النساء إليّ وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهله، فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فأنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 513- 514، حديث رقم (26546) ، من حديث أسماء بنت عميس، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(13/365)
وأما إخبار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عوف بن مالك الأشجعيّ بقصة الجزور المنحور في غزاة ذات السلاسل
فقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال:
حدثت عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- غزوة ذات السلاسل، فصبحت أبا بكر، وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها، وهم لا يقدرون على أن يعضوها، وكنت أمرأ جزارا، فقلت لهم: تعطوني منها عشيرا على أن أقسمها بينكم؟
فقالوا: نعم، فأخذت الشفرتين، فجزيتها مكاني وأخذت جزاء، فحملته إلى أصحابي، فأطعمنا، وأكلنا.
فقال أبو بكر وعمر: أني لك هذا اللحم يا عوف؟ فأخبرتهما، فقالا: لا واللَّه ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيئان ما في بطونهما منه، فلما قفل الناس من ذلك السفر كنت أول قادم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجئته وهو يصلي في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، فقال عوف بن مالك؟ فقلت: نعم بأبي أنت وأمي، فقال صاحب الجزور؟ ولم يزدني على ذلك شيئا [ (1) ] .
قال البيهقيّ [ (2) ] : قصر بإسناده محمد بن إسحاق، ورواه سعيد بن أبي أيوب، وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط أخبره عن مالك قال: غزونا وعلينا عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وفينا عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فأصابتنا مخمصة شديدة، فانطلقت ألتمس المعيشة، فالتقيت قوما
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 404- 405، باب ما جاء في الجزور التي نحرت في غزوة ذات السلاسل، وما جرى لعوف بن مالك الأشجعيّ فيها، وإخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عوفا بعلمه بها قبل أن يخبره عوف بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 405.(13/366)
يريدون ينحرون جزورا لهم، فقلت: إن شئتم كفيتم نحرها، وعملها، واعطوني منها، ففعلت، فأعطوني منها شيئا، فصنعته، ثم أتيت عمر بن الخطاب، فسألني من أين هو؟ فأخبرته، فقال: أسمعك قد تعجلت أجرك، وأبى أن يأكله، فلما رأيت ذلك تركتهما، ثم أبردوني في فتح لنا،
فقدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: صاحب الجزور؟ ولم يزد على ذلك.
وذكره البيهقيّ [ (1) ] من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا ابن عثمان، عن عبد اللَّه بن المبارك، ومن طريق عمرو، وحدثني يعقوب بن الربيع، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، فذكره.
وقال الواقدي- رحمه اللَّه- في (مغازيه) [ (2) ] : وكان عوف بن مالك الأشجعيّ رفيقا لأبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- في رحلهما، فخرج يوما عوف في العسكر، فمر بقوم في أيديهم جزور، وقد عجزوا عن عملها، وكان عوف هذا عالما بالجزر، فقال: أتعطوني عليها، وأقسمها بينكم؟ قالوا: نعم نعطيك عشيرا منها، فنحرها، ثم جزأها بينهم، وأعطوه منها جزءا، فأخذه، فأتى به أصحابه، فطبخوه، وأكلوا منه، فلما فرغوا قال أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-: من أين لك هذا اللحم؟ فأخبرهما، فقالا: واللَّه ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيئان، فلما فعل ذلك أبو بكر، وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فعل ذلك الجيش.
قال أبو بكر وعمر لعوف: تعجلت أجرك، ثم أتى أبا عبيدة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال له: مثل ذلك.
وكان عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حين قفلنا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد واللَّه احتملت وإن اغتسلت مت، فدعا بماء، فتوضأ، وغسل فرجه، وتيمم، ثم قام، فصلى بهم، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريدا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 405.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 773.(13/367)
قال عوف: فقدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في السّحر، وهو يصلى في بيته، فسلمت عليه، فقال عوف بن مالك؟ فقلت: عوف بن مالك يا رسول اللَّه، قال صاحب الجزور؟ قلت: نعم، فلم يزد على هذا شيئا، وذكر الخبر.
وأما إغاثة اللَّه تعالى سرية بعثها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برزق أخرجه لها من البحر وقد جهدها الجوع تكرمة له صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاريّ في كتاب الصيد والذبائح [ (1) ] ، وفي كتاب المغازي [ (2) ] من حديث ابن جريج، أخبرنى سفيان عن عمرو أنه سمع جابرا يقول: غزونا جيش الخبط، وأمّر أبو عبيدة بن الجراح، فجعنا جوعا شديدا، فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه، فمر الراكب تحته.
زاد في المغازي: أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر يقول: فقال أبو عبيدة: كلوا، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: كلوا، رزقا أخرجه اللَّه، أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم ببعضه، فأكله.
وخرّج مسلم [ (3) ] من حديث زهير قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، ومن حديث أبي خثيمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمّر علينا أبا عبيدة يتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قال: قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 767، كتاب الذبائح والصيد، باب (12) قول اللَّه- تعالى-: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، حديث رقم (5493) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 97، كتاب المغازي، باب (66) غزوة سيف البحر، وهم يتلقون عيرا لقريش.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 90- 92، كتاب الصيد والذبائح باب (4) إباحة ميتات البحر، حديث رقم (17) .(13/368)
نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء، فنأكله، قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه، فإذا هو دابة تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي سبيل اللَّه، وقد اضطررتم، فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه القدر كالثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينة وأخذ ضلعا من أضلاعه، فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا، فمر من تحتها،
وتزودنا من لحمه ووشايق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه اللَّه لكم، فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا؟
قال: فأرسلنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه فأكله.
وخرجه البخاريّ ومسلم من حديث سفيان، عن عمرو: سمعت جابرا يقول، ومن حديث مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(13/369)
وأما نعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم النجاشيّ في اليوم الّذي مات فيه بأرض الحبشة
فخرّج البخاريّ [ (1) ] ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نعى للناس النجاشي في اليوم الّذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات، وقال النسائي: فصف عليه، وكبر أربع تكبيرات، ذكره في باب الصفوف على الجنازة، وذكره البخاريّ في باب التكبير على الجنازة أربعا، وذكره أبو داود في باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر.
وخرّج مسلم من حديث الليث بن سعد قال: حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبى سلمة بن عبد الرحمن أنهما حدثاه عن أبي هريرة أنه قال: نعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم النجاشيّ صاحب الحبشة في اليوم الّذي مات فيه، فقال: استغفروا لأخيكم.
قال ابن شهاب: وحدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صفّ بهم بالمصلى، فكبر عليه أربع تكبيرات.
وقال البخاريّ: أربعا، وأخرجاه من حديث صالح، عن ابن شهاب، فخرّجه مسلم كرواية عقيل بالإسنادين جميعا.
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) 6/ 215، الفصل الثالث، في صلاة الجنائز، حديث رقم (4302) وقال في (هامشه) : رواه البخاريّ في الجنائز، باب الرجل ينعي إلى الميت بنفسه، وباب الصفوف على الجنازة، وباب الصلاة على الجنازة بالمصلي وبالمسجد، وباب التكبير على الجنازة أربعا، وفي فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب موت النجاشي، ومسلم في الجنائز باب في التكبير على الجنازة، حديث رقم (951) ، والموطأ في الجنائز، باب التكبير على الجنائز، وأبو داود في الجنائز باب في الصلاة على المشرك يموت في بلاد الشرك، حديث رقم (3204) ، والترمذيّ في الجنائز، باب ما جاء في التكبير على الجنازة، حديث رقم (1022) ، والنسائي في الجنائز، باب عدد التكبير على الجنازة.(13/370)
وخرّجه البخاريّ في هجرة الحبشة وموت النجاشيّ، عن صالح، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن المسيب أن أبا هريرة أخبرهما أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نعى لهم النجاشيّ صاحب الحبشة في اليوم الّذي مات فيه، وقال: استغفروا لأخيكم، وعن صالح، وعن ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبرهم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صف لهم في المصلى، فصلى عليه، وكبر عليه أربعا.
وخرّج النسائي من طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: نعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم النجاشي لأصحابه، فذكره.
وخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق مسدد قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة، عن أمه، عن أم كلثوم قالت: لما تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أم سلمة قال: إني قد أهديت إلى النجاشي أواق من مسك، وحلة، وإني لا أراه إلا قد مات، وإني لا أرى الهدية إلا سترد على، فإن ردّت عليّ أظنه قال:
قسمتها بينكن أو فيكن قالت: فكان كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مات النجاشي، وردت عليه، أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة.
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ]- رحمه اللَّه- من حديث يزيد بن هارون، عن مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة، عن أمه، عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قال: لما تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشيّ حلة وأواقي من مسك ولا أرى النجاشيّ إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة عليّ، فإن ردت عليّ فهي لك، وكان كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وردت عليه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 412، باب نعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم النجاشيّ في اليوم الّذي مات فيه بأرض الحبشة، وذلك قبل فتح مكة.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 552- 553، حديث رقم (26732) ، من حديث أم كلثوم بنت عقبة أم حميد بن عبد الرحمن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(13/371)
هديته، فأعطنى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة.
وخرّجه ابن حبان في (صحيحه) [ (1) ] من حديث موسى بن عقبة، عن أمه، عن أم كلثوم، عن أم سلمة قالت: لما تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني أهديت إلى النجاشي حلة، وأواقي مسك، ولا أراه إلا قد مات، وسترد الهدية، فإن كان كذلك فهي لك، قالت: فكان كما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مات النجاشي، وردت الهدية، فدفع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، ودفع الحلة وسائر المسك إلى أم سلمة.
قال البيهقيّ [ (2) ]
قوله: ولا أراه إلا قد مات،
يريد واللَّه أعلم قبل بلوغ الهدية إليه، وهذا القول صدر منه قبل موته، ثم لما مات نعاه في اليوم الّذي مات فيه، وصلى عليه.
__________
[ (1) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 11/ 515- 516، كتاب الهبة، باب ذكر إباحة المهدي هدية نفسه بعد بعثه إلى المهدي إليه، قبل وصول الهدية إليه، حديث رقم (5114) .
وقال في إسناده ضعيف. مسلم بن خالد: هو الزنجي سيّئ الحفظ، وأم موسى بن عقبة لا تعرف.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 412.(13/372)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بنصر بني كعب على بني بكر فكان كذلك وإجابة اللَّه تعالى دعاءه في تعمية خبره عن قريش بمكة
فقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعا قالا: كان في صلح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة بينه وبين قريش، أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعهده دخل، ومن يشاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرا، ثم بنى بكر الذين كانوا دخلوا في عقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعهده وأن عمرو بن سالم الخزاعي أحد بني كعب ركب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ما كان من أمر خزاعة، وبني بكر بالوتيرة [ (1) ] حتى قدم المدينة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخبره الخبر، وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنشده إياها فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك اللَّه نصرا اعتدا ... وادع عباد اللَّه يأتوا مددا
فيهم رسول اللَّه قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربّدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك الموكّد ... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجّدا ... وقتلونا ركعا وسجّدا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت عنان [ (2) ] من السماء فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس بالجهاد وكتمهم فخرجوا، وسأل اللَّه
__________
[ (1) ] الوتيرة: الأرض الممتدة.
[ (2) ] عنان: سحاب.(13/373)
-
تعالى- أن يعمي على قريش خبره حتى يتبعهم في بلادهم، فذكر خبر فتح مكة بطوله [ (1) ] .
وقال الواقدي: فحدثني يحيى بن خالد بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وحدثني داود بن خالد بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وحدثني داود بن خالد، عن المقبري، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب [ (2) ] . وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة فنادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر وصام! رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن رجل رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعرج يصب الماء على رأسه ووجهه من العطش.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: لما كنا بالكديد بين الظهر والعصر أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إناء من ماء في يده حتى رآه المسلمون، ثم أفطر تلك الساعة. وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن قوما صاموا فقال: أولئك العصاة! وقال أبو سعيد الخدريّ: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم! قال ذلك بمر الظهران.
فلما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العرج، والناس لا يدرونن أين توجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى قريش، أو إلى هوازن أو إلى ثقيف! فهم يحبون أن يعلموا، فجلس في أصحابه بالعرج وهو يتحدث، فقال كعب بن مالك: آتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعلم لكم علم وجهه. فجاء كعب فبرك بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ركبتيه، ثم قال:
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 48- 49، باختلاف يسير في سياق أبيات الشعر، وهي أقرب لما في (مغازي الواقدي) ، وصوبناها من (ابن هشام) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 801- 803.(13/374)
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
نسائلها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا
فلست لحاضر إن لم تروها ... بساحة داركم منها ألوفا
فننتزع الخيام ببطن وج ... ونترك دورهم منهم خلوفا
أنشدنيها أيوب بن النعمان، عن أبيه. قال: فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يزد على ذلك، فجعل الناس يقولون: واللَّه ما بين لك رسول اللَّه شيئا، ما ندري بمن يبدي، بقريش أو ثقيف أو هوازن.
قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال لما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقديد قيل: هل لك في بيض النساء وأدم الإبل؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن اللَّه- تعالى- حرمها عليّ بصلة الرحم ووكزهم في لبأت الإبل.
قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: إن اللَّه حرمهم عليّ ببر الوالد ووكزهم في لبأت الإبل.(13/375)
وأما إطلاع اللَّه تعالى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالمسير إليهم
فروى يونس بن بكير، عن بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة قال: لما أجمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في رأسها، ثم قفلت عليه فروتها وخرجت به، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا في أمرهم فذكر الحديث [ (1) ] .
وخرج البخاريّ في آخر كتاب الجهاد [ (2) ] من طريق هشيم حدثنا حصين، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن- وكان عثمانيا- فقال لابن عطية- وكان علويا- إني لأعلم الّذي جرّأ صاحبك على الدماء، سمعته يقول بعثني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والزبير فقال: ائتوا روضة كذا، تجدون بها امرأة أعطاها حاطب كتابا فأتينا الروضة فقلنا: الكتاب، فقالت: لم يعطني، قلنا: لتخرجن أو لأجردنك، فأخرجت من حجزتها، فأرسل إلى حاطب فقال: لا تعجل واللَّه ما كفرت ولا أزددت للإسلام إلا حبّا ولم يكن أحد من أصحابك إلا وله بمكة من يدفع اللَّه به عن أهله وماله، ولم يكن لي أحد فأحببت أن أتخذ عندهم يدا فصدقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال عمرو: دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق، فقال: ما يدريك لعل اللَّه اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فهذا الّذي جرأه.
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 52، كتاب حاطب بن أبي بلتعة يحذر أهل مكة.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 234، كتاب الجهاد والسير، باب (195) ، إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين اللَّه، وتجريدهن، حديث رقم (3081) .(13/376)
وخرّجه أيضا في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، في باب ما جاء في المتأولين من حديث أبي عوانة عن فلان قال: تنازع أبو عبد الرحمن وحبان بن عطية فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت ما الّذي جرّأ صاحبك على الدماء يعنى عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: ما هو لا أبا لك، قال: شيء سمعته يقول، قال: ما هو؟ قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والزبير وأبا مرثد وكلنا فارس قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة حاج، [قال البكري: خاخ بخاء معجمة بعد الألف، موضع] [ (1) ] ، قال أبو سلمة: قال أبو عوانة: حاج، فإن فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأتوني بها، فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تسير على بعير لها وقد كان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم، فقلنا أين الكتاب الّذي معك؟ فقالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئا، فقال صاحباي: ما نرى معها كتابا، قال: فقلت:
لقد علمنا ما كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم حلف عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- والّذي يحلف به لتخرجن الكتاب وإلا لأجردنك، فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر:
يا رسول اللَّه قد خان اللَّه ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول اللَّه ما لي أن لا أكون مؤمنا باللَّه ورسوله ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هناك من قومه من يدفع اللَّه به عن أهله وماله، قال: صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا، قال: فعاد عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: يا رسول اللَّه، قد خان اللَّه ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه، فقال: أو ليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل اللَّه اطلع
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.(13/377)
عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة، فاغرورقت عيناه، فقال:
اللَّه ورسوله أعلم [ (1) ] .
قال أبو عبد اللَّه خاخ أصح ولقد قال أبو عوانة: أنه حاج وحاح تصحيف وهو موضع، وهشيم يقول: حاح.
وخرّجه أيضا من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ومن حديث حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو مما اتفقا على إخراجه.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 375- 376، كتابه استنابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب (9) ما جاء في المتأولين، حديث رقم (6939) .(13/378)
وأما وحي اللَّه تعالى بما قالته الأنصار يوم فتح مكة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج مسلم من حديث سفيان بن فروخ، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة قال ثابت البناني: عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: وفدت وفود إلى معاوية وذلك في رمضان، فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام، وكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحلة، فقلت:
إلا أضع طعاما فأدعوهم إلى رحلي، قال: فأمرت بطعام يصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة، فقال: سبقتني؟ فقلت: نعم، فدعوتهم، فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟
ثم ذكر فتح مكة، فقال: أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الأخرى وبعث أبا عبيدة أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في كتيبة قال: فنظر فرآني فقال: أبو هريرة قلت: نعم لبيك يا رسول اللَّه، فقال: لا يأتيني إلا أنصاري.
زاد غير شيبان فقال: اهتف لي بالأنصار قال: فأطافوا به ووبشت قريش أوباشا وأتباعا فقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الّذي سئلنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: حتى توافوني بالصفا، قال: فانطلقنا فما شاء أحد منا يقتل أحد إلا قتله، وما أحد منا يوجه إلينا شيئا، قال: فجاء أبو سفيان فقال يا رسول اللَّه: أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته.
قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي، لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ينقضي الحي فلما انقضى الوحي قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معشر الأنصار قالوا: لبيك يا رسول اللَّه، قال: قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، قالوا: قد كان ذاك قال: كلا إني عبد اللَّه ورسوله، هاجرت إلى اللَّه(13/379)
وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا الليلة يبكون ويقولون: واللَّه ما قلنا الّذي قلنا إلا الضن باللَّه ورسوله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه ورسوله يصدقانكم ويعذر انكم، قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان، وأغلق الناس أبوابهم، قال: وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، قال: فإنّي على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفي يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قوس وهو آخذ بسية القوس، فلما أتى على الصنم جعل يطعنه في عينه ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلى عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يده فجعل يحمد اللَّه ويدعو بما شاء اللَّه أن يدعو [ (1) ] .
قال: وحدثنيه عبد اللَّه بن هاشم قال: عن بهز، عن سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد وزاد في الحديث، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: أحصدوهم حصدا، وقال في الحديث قالوا: قلنا ذاك يا رسول اللَّه قال: فما اسمى إذا كلا إني عبد اللَّه ورسوله [ (2) ] .
وخرّجه من طريق يحيى بن حسان، قال حماد بن سلمة: قال: حدثنا ثابت، عن عبد اللَّه بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه فكانت نوبتي، فقلت: يا أبا هريرة اليوم نوبتي، فجاءوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا، فقلت: يا أبا هريرة لو حدثنا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى يدرك طعامنا، فقال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمني، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبو عبيد على البياذقة وبطن الوادي، فقال: يا أبا هريرة أدع لي الأنصار، فدعوتهم، فجاءوا يهرولون، فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا، وأخفى بيده ووضع يمينه
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 368- 372، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة، حديث رقم (84) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (85) .(13/380)
على شماله وقال: موعدكم الصفا، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول اللَّه أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ألا فما اسمى إذا، ثلاث مرات، أنا محمد عبد اللَّه ورسوله، هاجرت إلى اللَّه وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، قالوا: واللَّه ما قلنا إلا ضنا باللَّه ورسوله، قال: فإن اللَّه ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (86) .(13/381)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن مكة شرفها اللَّه تعالى لا تغزى بعد فتحه لها، ولا تكون دار كفر فكان كذلك
فخرّج الترمذيّ [ (1) ] من حديث يحيى بن سعيد، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن الحارث بن مالك بن البرصاء قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة يقول: لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وهو حديث زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال البيهقيّ: وإنما أرادوا- واللَّه أعلم- أنها لا تغزى بعده على كفر أهلها وكان كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وقال الواقدي: وحدثني يزيد بن فارس، عن عراك بن مالك، عن الحارث بن برصاء قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة يعني على كفر [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(سنن الترمذيّ) : 4/ 136، كتاب السير، باب (45) ما جاء ما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة:
إن هذه لا تغزى بعد اليوم، حديث رقم (1611) ، قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن عباس وسليمان بن صرد، ومطيع.
قال ابن الأثير: وإنما يحتمل أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أراد أنها لا يغزوها كافر، يريد البيت، فأما المسلمون فلا، على أن من غزاها من المسلمين في زمن يزيد وعبد الملك لم يقصدوا مكة ولا البيت، وإنما كان قصدهم عبد اللَّه بن الزبير، مع تعظيمهم أمر مكة والبيت، وإن كان جرى منهم ما جرى ففي حق البيت، من رميه بالنار في المنجنيق، وإحراقه، ولأجل ذلك هدمه ابن الزبير، وبناه بعد عود أهل الشام عن حصاره، لما وصلهم موت يزيد.
لو كانت الرواية في الحديث على أن «لا» ناهية لكان واضحا لا يحتاج إلى تأويل، كما قيل في قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يقتل قرشيّ بعد هذا اليوم صبرا» .
[ (2) ] (جامع الأصول) : 9/ 291- 292.(13/382)
وخرّج مسلم من حديث علي بن مسهر ووكيع عن زكريا، عن الشعبي قال: أخبرني عبد اللَّه بن مطيع، عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول يوم فتح مكة: لا يقتل قرشيّ صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة.
قال البيهقيّ- رحمه اللَّه- هذا وإن كان على طريق الخير فالمراد به واللَّه أعلم النهي وفيه أيضا إشارة إلى إسلام أهل مكة وإنها لا تغزي بعدها أبدا كما في حديث الحارث بن مالك بن برصاء [ (1) ] .
وقال الواقدي- رحمه اللَّه- وحدثني عبد اللَّه بن يزيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي قال: لما قتل النفر الذين أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتلهم سمع النوح عليهم بمكة وجاء أبو سفيان بن حرب، فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومي فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم- يعني على الكفر-[ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 862.(13/383)
وأما تصديق اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم عثمان بن أبي طلحة أنه يأخذ مفتاح الكعبة ويضعه حيث شاء
فقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] ثم نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يعني من الكعبة يوم فتح مكة [ (2) ]] ومعه المفتاح ناحية من المسجد فجلس، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قبض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا لي عثمان فدعى له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لعثمان يوما [بمكة] وهو يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان المفتاح، [فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:] لعلك سترى هذا المفتاح [يوما] بيدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان:
لقد هلكت إذا قريش وذلت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل عمرت وعزّت يومئذ، فلما دعاني [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] بعد أخذه المفتاح صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكرت [من] قوله ما كان قال.
فأقبلت، فاستقبلته صلّى اللَّه عليه وسلّم ببشر، واستقبلني [عليه الصلاة والسلام] ببشر، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها [منكم] إلا ظالم، يا عثمان إن اللَّه- تعالى- استأمنكم على بيته فكلوا بالمعروف.
قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الّذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول اللَّه، فأعطاه المفتاح، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مضطبع [ (3) ] بثوبه وقال: أعينوه، وقال: قم على الباب وكل بالمعروف.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 737- 738.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط في سائر الفقرة.
[ (3) ] في (مغازي الواقدي) : «مضطجع» ، وما أثبتناه أجود للسياق.(13/384)
وأما إعلام اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما قالته قريش لما سمعوا أذان بلال رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يوم فتح مكة
فروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار قال: حدثني بعض آل حمير بن مطعم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما دخل مكة أمر بلالا فعلا على الكعبة على ظهرها فأذن عليها بالصلاة، فقال بعض بني سعد بن العاص: لقد أكرم اللَّه سعدا إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال يونس: عن هشام بن عروة، عن أبيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بلالا عام الفتح فأذن على ظهر الكعبة ليغيظ به المشركين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب قال: قال ابن مليكة أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا يوم الفتح فأذن فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فقال: دعه فإن يكن اللَّه- تعالى- يكرهه فسيغيره.
وقال الواقدي في (مغازيه) - رحمة اللَّه عليه- وقد ذكر فتح مكة:
قالوا: وجاء وقت الظهر فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا أن يؤذن الظهر فوق ظهر الكعبة يومئذ وقريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفا أن يقتلوا، فمنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أومن، فلما أذن بلال ورفع صوته كأشد ما يكون، فلما بلغ: أشهد أن محمدا رسول اللَّه، تقول جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، واللَّه لا نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد كان جاء أبي الّذي جاء محمدا من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه.
وقال خالد بن أسيد: الحمد للَّه الّذي أكرم أبي قبل أن يسمع هذا اليوم.(13/385)
وقال الحارث بن هشام: وا ثكلاه ليتني متّ قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة، فقال الحكم بن أبي العاص: هذا واللَّه الحدث العظيم أن يصبح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخط فسيغيره، وإن كان رضا فسيقره.
وقال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء فأتى جبريل- عليه السلام- رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره خبرهم.
وأما عفوه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن سهيل بن عمرو يوم فتح مكة وبرّه له مع سوء أثره يوم الحديبيّة
فقال الواقدي [ (1) ]- رحمه اللَّه-: فحدثني موسى بن محمد، عن أبيه قال:
قال سهيل بن عمرو: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وظهر انقحمت [ (2) ] بيتي وأغلقت عليّ بابي وأرسلت إلى ابني عبد اللَّه بن سهيل أن اطلب لي جوارا من محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنّي لا آمن أن أقتل، قال: وجعلت أتذكر أثري عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثرا مني، وإني لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة بما لم يلقه أحد، وكنت الّذي كاتبته مع حضوري بدرا وأحدا، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد اللَّه بن سهيل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! أبي تؤمنه؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم هو آمن بأمان اللَّه- تعالى- فليظهر، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لمن حوله: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافع! فخرج عبد اللَّه إلى أبيه فخبره بمقالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال سهيل: كان واللَّه برا صغيرا وكبيرا، وكان سهيل
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 846- 847.
[ (2) ] أي رميت بنفسي فيه.(13/386)
يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على شركه، حتى أسلم بالجعرانة.
وأما إخباره بإسلام عبد اللَّه بن الزّبعرى حين نظر إليه مقبلا
قال الواقدي في فتح مكة من (مغازيه) [ (1) ] : وهرب هبيرة بن أبي وهب وهو يومئذ زوج أم هانئ بنت أبي طالب، وهو ابن الزبعري جميعا حتى انتهيا إلى نجران فلم يأمنا من الخوف حتى دخلا حصن نجران فقيل لهما: ما وراءكما؟ فقالا: أما قريش فقد قبلت ودخل مكة ونحن واللَّه نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا فجعلت بلحارث وكعب يصلحون ما رثّ من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أبياتا يريد بها ابن الزبعريّ: [أنشدتها ابن أبي الزناد] :
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه ... نجران في عيش أحذّ لئيم [ (2) ]
بليت قناتك في الحروب فألقيت ... خمانه [ (3) ] خوفاء ذات وصوم [ (4) ]
غضب الآله على الزبعري وابنه ... وعذاب سوء في الحياة مقيم
فلما جاء ابن الزبعري شعر حسان تهيأ للخروج فقال هبيرة بن أبي وهب أين تريد يا ابن عم؟ قال: أردت واللَّه محمدا، قال: أتريد أن تتبعه قال:
إي واللَّه، قال: يقول هبيرة: يا ليت أني كنت رافقت غيرك واللَّه! ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا.
قال ابن الزبعري: هو ذاك، فعلى أي شيء أقيم مع بني الحارث بن كعب، وأترك ابن عمي وخير الناس وأبرّهم ومع قومي وداري، فانحدر ابن
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 847- 848، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] الأخذ: القليل المنقطع.
[ (3) ] خمانة: ضعيفة.
[ (4) ] الوصوم: جمع وصم، وهو العيب في الحسب.(13/387)
الزبعري حتى جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس وأصحابه، فلما نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليه قال: هذا ابن الزبعري ومعه وجه فيه نور الإسلام، فلما وقف على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: السلام عليكم أي رسول اللَّه شهدت أن لا اللَّه إلا اللَّه، وأنك عبده ورسوله، والحمد للَّه الّذي هداني للإسلام، لقد عاديتك، وأجلبت عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا، ثم أرادني اللَّه منه بخير فألقاه في قلبي وحببه إليّ، وذكرت ما كنت فيه من الضلالة، واتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد ويذبح له، لا يدري من عبده ومن لا يعبده، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
الحمد للَّه الّذي هداك للإسلام، إن الإسلام يجب ما كان قبله.(13/388)
وأما صنع اللَّه تعالى له في إلقاء محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم في قلب هند بنت عتبة بعد مبالغتها في شدة عداوته
فقال الواقدي [ (1) ] : فحدثني ابن أبي سبرة عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، عن عبد اللَّه بن الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما كان يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة، وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية البغوم بنت المعذل بن كنانة، وأسلمت فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وأسلمت هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في عشر نسوة من قريش فأتين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بالأبطح فبايعنه، فدخل عليه وعنده زوجته وابنته فاطمة، ونساء من نساء بني عبد المطلب، فتكلمت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول اللَّه الحمد للَّه الّذي أظهر الدين الّذي اختاره لنفسه لتمسني رحمتك، يا محمد إني امرأة مؤمنة باللَّه مصدقة، ثم كشفت عن نقابها فقالت:
هند بنت عتبة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مرحبا بك، فقالت: واللَّه يا رسول اللَّه ما كان على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وزيادة أيضا، ثم قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليهنّ القرآن وبايعهن فقالت هند من بينهن: يا رسول اللَّه فما نماسحك، فقال: إني لا أصافح النساء إن قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأة واحدة، ويقال: وضع على يده ثوبا ثم مسحن على يده يومئذ، ويقال: كان يؤتي بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يدفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه والقول الأول أثبت عندنا: إني لا أصافح النساء.
قال كاتبه: وقد ثبت في الصحيحين وسنن النسائي، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: لا واللَّه ما مست يده يد امرأة قط في
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 850- 851.(13/389)
المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتكن على ذلك، وفي لفظ: واللَّه ما مست يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام.
وخرّج النسائي من طريق مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رفيقة قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نسوة نبايعه على الإسلام، فقلت: يا رسول اللَّه نبايعك على أن لا نشرك باللَّه شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، قال: فيما استطعتن وأطقتن، فقلت: اللَّه ورسوله أرحم بنا من أنفسنا نبايعك يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو كمثل قولي لامرأة واحدة، ترجم عليه بيعة النساء، وذكره أيضا في التفسير.
وقد خرّج البخاريّ ومسلم قول هند، فخرجه البخاريّ في الأحكام من حديث أبي اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزهم اللَّه.
وقال البخاريّ: أن يعزوا من أهل خبائك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأيضا والّذي نفسي بيده، ثم قالت: يا رسول اللَّه إن أبا سفيان رجل ممسك، وقال البخاري:
مسيك فهل عليّ حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف، وقال البخاريّ: فهل عليّ حرج من أن أطعم من الّذي له عيالنا؟ فقال لها: لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف.
ولم يقل في الحديث: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأيضا والّذي نفسي بيده [ (1) ] .
وخرّج البخاريّ في كتاب النذور في باب كيف كانت بمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير، وخرّجه في آخر كتاب المناقب تعليقا وقال عبدان: حدثنا يونس، عن الزهري قال حدثني عروة.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه وشرحه.(13/390)
وخرّج مسلم من حديث يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهريّ، عن عمه قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت: يا رسول اللَّه ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يغزوا من أهل خبائك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأيضا، الّذي نفسي بيده قالت:
يا رسول اللَّه إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل عليّ حرج أن أطعم من الّذي له عيالنا؟ قال لها: لا، إلا بالمعروف، وقال البخاريّ: قال: إلا بالمعروف وقال في حديث الليث: وأيضا والّذي نفس محمد بيده، وقال فيه: أهل خباء من أهل خبائك أو أخبائك في الموضعين.
وذكره في كتاب (النفقات) مختصرا محذوفا من حديث يونس، عن ابن شهاب أخبرني عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول اللَّه إن أبا سفيان رجل مسيك فهل عليّ حرج أن أطعم من الّذي له عيالنا؟ قال: لا، إلا بالمعروف [ (1) ] .
وخرّجاه مختصرا من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وخرجه كذلك النسائي فظهر صحة حديث الواقدي.
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر وأوله:
وأما إخبار الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب بما حدث به نفسه يوم الفتح من عوده إلى المحاربة وبما قاله لهند
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 629، كتاب النفقات، باب (4) نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد، حديث رقم (5359) .(13/391)
[المجلد الرابع عشر]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
وأما إخبار الرسول صلى اللَّه عليه وسلم أبا سفيان بن حرب بما حدث به نفسه يوم الفتح من عوده إلى المحاربة وبما قاله لهند
فقال [البيهقي: وقرأت في كتاب] محمد بن سعد عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن خالد، عن أبي إسحاق السبيعي أن أبا سفيان بن حرب كان جالسا فقال في نفسه: لو جمعت لمحمد جمعا إنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلم بين كتفيه وقال: إذا يخزيك اللَّه. قال: فرفع رأسه فإذا النبي صلى اللَّه عليه وسلم قائم على رأسه فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إن كنت لأحدث نفسي بذلك [ (1) ] .
وخرجه البيهقي من حديث محمد بن يوسف الفرياني قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: رأى أبو سفيان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال! فجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدري فقال: إذا يخزيك اللَّه، قال: أتوب إلى اللَّه وأستغفر اللَّه مما تفوهت به [ (2) ] .
ومن حديث محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبى حامد بن الشرقي قالا:
حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن موسى بن أعين يعني الجزري، عن أبي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 102، باب إسلام هند بنت عتبة بن ربيعة. وفي (الأصل) : «قال محمد بن سعد في الطبقات» ، وهو خلط من النساخ، والخبر رواه ابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي، والحاكم في (الإكليل) عن ابن عباس.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 102) ، ثم قال: هكذا وجدته في كتابي موصولا في أبواب فتح مكة من كتاب (الإكليل) .(14/3)
لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترين هذا من اللَّه؟ ثم أصبحوا، فغدا أبو سفيان إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: قلت لهند: أترين هذا من اللَّه؟ قالت نعم هو من اللَّه، فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد اللَّه ورسوله، والّذي يحلف به أبو سفيان ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا اللَّه- عز وجل- وهند
[ (1) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بمجيء عكرمة بن أبي جهل مؤمنا قبل قدومه فكان كذلك
فقال الواقدي [ (2) ] : ثم قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول اللَّه قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمّنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هو آمن،
فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي من عك [ (3) ] ، فاستعانتهم عليه [ (4) ] ، فأوثقوه رباطا، وأدركت عكرمة، وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب البحر، فجعل نؤتي السفينة يقول له: أخلص، فقال: أي شيء أقول؟ قال: قل: لا إله إلا اللَّه قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلحّ إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنت فعلت؟ قالت:
نعم أنا كلمته فأمنك، [قال: وكيف يؤمنني وقد صنعنا به أنا وأبي ما صنعناه؟
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 103.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 851.
[ (3) ] عكّ: مخلاف من مخاليف مكة التهامية.
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (مغازي الواقدي) : «فاستغاثتهم عليه» .(14/4)
قالت: بلى إنه خير الناس] [ (1) ] ، فرجع معها وقال: ما لقيت من غلامك الروميّ؟ فخبرته خبره،
فقتله عكرمة وهو يومئذ لم يسلم، فلما دنا من مكة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت، قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها فتأبى عليه، وتقول: إنك كافرا وأنا مسلمة، فيقول: إن أمرا منعك مني لأمر كبير، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عكرمة وثب إليه- وما على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رداء- فرحا بعكرمة، ثم جلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوقف بين يديه ومعه امرأته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال:
صدقت، فأنت آمن، فقال عكرمة: فإلى ما تدع يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل حتى عدّ خصال الإيمان [ (2) ] ، فقال عكرمة: واللَّه ما دعوت إلا إلى الحق وإلى أمر حسن جميل، قد كنت فينا واللَّه قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا، وأبرّنا برا، ثم قال عكرمة: فأني أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه [ (3) ] ، فسر بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: يا رسول اللَّه علمني خير شيء أقوله، قال: خير شيء تقوله: أشهد من حضر أني مسلم مهاجر، فقال عكرمة: ذلك ثم ماذا؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تقول أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد من حضر أني مسلم مهاجر، فقال عكرمة ذلك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه، قال عكرمة:
فإنّي أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو وأنت غائب عنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، فاغفر له وما نال مني من عرض في وجهي، أو وأنا غائب عنه، فقال عكرمة: رضيت يا رسول اللَّه، ثم قال عكرمة: أما
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين في (الأصل) فقط، وليس في (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : خصال الإسلام.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : 2/ 852.(14/5)
واللَّه يا رسول اللَّه لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدّ عن سبيل اللَّه إلا أنفقت ضعفها في سبيل اللَّه، ولا قتالا كنت أقاتل في صدّ عن سبيل اللَّه إلا أبليت ضعفه في سبيل اللَّه، ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيدا، فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم امرأته بذلك النكاح الأول.
وأما تيقن صفوان بن أمية نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
فقال الواقدي في ذكر فتح مكة [ (1) ] : وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعيبة [ (2) ] وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك! انظر من ترى؟ قال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ واللَّه ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمدا عليّ فلحقه، فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي! فقال أبو وهب:
جعلت فداءك جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس،
وقد كان عمير قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، سيد قومي خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فأمنه، فداك أبي وأمي! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: قد أمنته.
فخرج في أثره فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أمنك، فقال صفوان: لا واللَّه لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها،
فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه جئت صفوان هاربا يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذ عمامتي، قال:
فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الّذي دخل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ معتجرا [ (3) ]
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 853- 855.
[ (2) ] الشعيبة: مرفا السفن من ساحل بحر الحجاز، وهو كان مرفا مكة ومرسى سفنها قبل جدة.
[ (3) ] الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه.(14/6)
به، برد حبرة [ (1) ] ، فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد، فقال: أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك، أذكرك اللَّه في نفسك، قال له: أخاف أن أقتل، قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سيّرك شهرين، فهو أوفى الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده الّذي دخل به معتجرا، تعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم هو هو! حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي بالمسلمين العصر بالمسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال:
خمس صلوات، قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم، فلما سلم صاح صفوان:
يا محمد! إن عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا وإلا سيرتني شهرين، قال: انزل أبا وهب.
قال: لا واللَّه حتى يتبين لي، قال: بل تسير أربعة أشهر، فنزل صفوان، وخرج رسول اللَّه قبل هوازن، وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه، مائة درع بأداتها، فقال صفوان: طوعا أو كرها؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: [بل] عارية مؤداه، فأعاره، فأمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحملها إلى حنين، فشهد حنينا والطائف، ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الجعرّانة، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية، فجعل صفوان ينظر إلى شعب ملي نعما، وشاء، ورعاء، فأدام إليه النظر ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرمقه، فقال: أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟
قال: نعم، قال: هو لك وما فيه، فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله، وأسلم مكانه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الحبرة: ضرب من ثياب اليمن.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 855.(14/7)
قال الواقدي [ (1) ] : فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أسلم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل قبل نسائهم، ثم قدموا على نسائهم في العدة، فردهن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بذلك النكاح، وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة قبل زوجيهما، ثم أسلما، فردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نساءهم عليهم، وذلك أن إسلامهم كان في عدتهم.
وخرّج الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون، عن شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا، فقال: اغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة،
فضاع بعضها، فعرض عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يضمنها له، فقال:
أنا اليوم يا رسول اللَّه في الإسلام أرغب [ (2) ] .
وخرّج الترمذي من حديث يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، عن يونس ابن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية [ (3) ] :
أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ.
قال أبو عيسى: حديث صفوان، رواه معمر وغيره، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكأن هذا الحديث أصح وأشبه، وإنما هو «سعيد بن المسيب عن صفوان» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 617- 619، حديث رقم (27089) ، من حديث صفوان بن أمية- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] هو صفوان بن أمية بن خلف بن حذافة بن جمح القرشيّ الجمحيّ أمه أيضا جمحية، من ولد جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب، يكنى أبا وهب، وقيل أبا أمية، وهما كنيتان له مشهورتان. (الإستيعاب) : 2/ 718، ترجمة رقم (1214) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) 3/ 53، كتاب الزكاة، باب (30) ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم حديث رقم (666) ثم قال: وقد اختلف أهل في إعطاء المؤلفة قلوبهم، فرأى أكثر أهل العلم أن لا يعطوا، وقالوا: إنما كانوا قوما على عهد النبي، كان يتألفهم على الإسلام حتى أسلموا، ولم.(14/8)
وخرجه الإمام أحمد من حديث زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية قال:
أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إليّ [ (1) ] .
__________
[ () ] يروا أن يعطوا اليوم من الزكاة على مثل هذا المعنى، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وغيرهم، وبه يقول أحمد وإسحاق.
وقال بعضهم: من كان اليوم على مثل حال هؤلاء ورأى الإمام أن يتألفهم على الإسلام فأعطاهم، جاز ذلك، وهو قول الشافعيّ. (المرجع السابق) : 54.
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 401، حديث رقم (14880) من حديث صفوان بن أمية العجمي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، 7/ 620، حديث رقم (27090) من حديث صفوان ابن أمية- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وخرجه الإمام مسلم في كتاب الفضائل، باب (14) ما سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، حديث رقم (59) .(14/9)
وأما إنجاز اللَّه تعالى وعده لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلم بدخول الناس في دين اللَّه أفواجا بعد فتح مكة
فخرّج البخاريّ في غزوة الفتح [ (1) ] من حديث حماد بن زيد، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله؟
قال: فلقيته فسألته، فقال: كنا بما ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن اللَّه أرسله، أوحى إليه، أو أوحى اللَّه بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يقرّ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق.
فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم واللَّه من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حقا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 27، كتاب المغازي، باب (54) بدون ترجمة، حديث رقم (4302) ، وفي الحديث حجة للشافعية في إمامة الصبي المميز في الفريضة، وهي خلافية مشهورة، ولم ينصف من قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على اجتهادهم لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبو سعيد وجابر لجواز العزل بكونهم فعلوه على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ولو كان منهيا عنه لنهى عنه في القرآن، وكذا من استدل به بأن ستر العورة في الصلاة ليس شرطا لصحتها، بل هو سنة، ويجزى بدون ذلك، لأنها واقعة حال، فيحتمل أن يكون ذلك بعد علمهم بالحكم. (فتح الباري) .(14/10)
عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. وخرّجه أبو داود [ (1) ] وسياقة البخاريّ أتم.
وأما تصديق اللَّه تعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلم بأن العزى قد يئست أن تعبد بأرض العرب فلم تعبد بعد مقدمه صلى اللَّه عليه وسلم بحمد اللَّه تبارك وتعالى
فقال الواقدي [ (2) ] : حدثني عبد اللَّه بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي قال: قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رمضان، فبث السرايا في كل وجه، وأمرهم أن يغيروا على من لم يكن على الإسلام، فخرج هشام بن العاص في مائتين، قبل يلملم [ (3) ] ، فخرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة قبل عرنة، وبعث خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا من أصحابه [إلى]
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 393- 394، كتاب الصلاة، باب (61) من أحق بالإمامة، حديث رقم (585) ، وقد اختلف الناس في إمامة الصبي غير البالغ إذا عقل الصلاة، فمن أجاز ذلك:
الحسن وإسحاق بن راهويه، وقال الشافعيّ: يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلا في الجمعة، وكره الصلاة خلف الغلام قبل أن يحتلم: عطاء والشعبيّ ومالك والثوريّ والأوزاعيّ، وعليه ذهب أصحاب الرأي وكان أحمد بن حنبل يضعف أمر عمرو بن سلمة.
وقال مرة: دعه ليس بشيء بيّن، وقال الزهريّ: إذا اضطروا إليه أمهم قال الخطيبي، وفي جواز صلاة عمرو بن سلمة لقومه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، لأن صلاة النبي نافلة. (معالم السنن) .
وأخرجه النسائي في الإمامة، باب (11) إمامة الغلام قبل أن يحتلم، حديث رقم (788) ، قال الإمام السندي في (حاشيته على سنن النسائي) : وفيه دليل على إمامة الصبيّ للمكلفين، ومن لا يقول به يحمل الحديث على أنه كان بلا علم من النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم، فلا حجة فيه، واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 783- 784، شأن هدم العزى.
[ (3) ] يلملم: موضع على ليلتين من مكة، وقيل: هو جبل من الطائف على ليلتين.(14/11)
[العزى] انتهى إليها فهدمها، ثم رجع إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: هدمت العزى؟ قال:
نعم يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال:
فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ، فلما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت امرأة سوداء عريانة ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، قال خالد: وأخذني اقشعرار في ظهري، فجعل يصيح:
أيا عزّ شدى شدة لا تكذّبي ... على خالد ألقى القناع وشمّري
أيا عزّ إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بذنب عاجل أو تنصري
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إني وجدت اللَّه قد أهانك
قال: وأقبل خالد بالسيف وهو يقول:
كفرانك لا سبحانك ... إني وجدت اللَّه قل أهانك
فضربها بالسيف فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأخبره، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم تلك العزّى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا، ثم قال خالد: أي رسول اللَّه، الحمد للَّه الّذي أكرمنا بك وأنقذنا من الهلكة، ولقد كنت أرى أبي يأتي العزى بحترة [ (1) ] مائة من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى ويقيم عندها ثلاثا، ثم ينصرف إلينا مسرورا، فنظرت إلى ما مات عليه أبي، ذلك الرأي الّذي كان يعاش في فضله، كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا الأمر إلى اللَّه فمن يسره للهدى تيسّر ومن يسره للضلالة كان فيها.
وكان هدمها لخمس ليال بقين من رمضان سنة ثمان، وكان سادنها أفلح ابن النضر الشيبانيّ من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه وهو حزين، فقال له أبو لهب: ما لي أراك حزينا؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي، قال له أبو لهب: لا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك، فجعل كل من لقي قال: إن تظهر العزى كنت قد اتخدت يدا عندها بقيامي عليها، وإن يظهر محمد على العزى- ولا أراه يظهر- يا ابن أخي، فأنزل اللَّه- تعالى-:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ويقال: إنه قال هذا في اللات.
__________
[ (1) ] الحترة بكسر الحاء: العطية اليسيرة.(14/12)
وخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حدثنا أبو كريب، عن محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد بن الوليد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات [ (2) ] ، وهدم البيت الّذي كان عليها،
ثم أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا، فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها، أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه [ (3) ] ، يا عزى عوريه، وإلا فموتي برغم، قال: فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فقال: تلك العزى.
وخرّج البيهقيّ [ (4) ] من حديث مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينهم.
ومن حديث وكيع [ (5) ] عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن التحريش [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 77، باب ما جاء في بعثة خالد بن الوليد إلى نخلة كانت بها العزى، وما ظهر في ذلك من الآثار.
[ (2) ] السمرات: الشجرات.
[ (3) ] من الخبال، وهو النقصان والهلاك.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 363، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن المسلمين لا يعبدون الشيطان في جزيرة العرب، يريد أصحابه فمن بعدهم فكان كما قال: ثم كان كما أخبر به من التحريش بينهم في آخر أيامه.
[ (5) ] (المرجع السابق) .
[ (6) ] أي أنه يسعى بينهم في الخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب المنافقين، باب (16) تحريش الشيطان وبعث سراياه لفتنة الناس، حديث رقم (65) .(14/13)
وأما كفاية اللَّه تعالى أمر الّذي أراد قتله قريب أوطاس
فقال الواقدي [ (1) ] : حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كانت ذات أنواط شجرة عظيمة، أهل الجاهلية يذبحون لها [ (2) ] ويعكفون عليها يوما، وكان من حج منهم وضع رداءه عندها، ويدخل بغير رداء تعظيما لها، فلما سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين، قال له رهط من أصحابه فيهم الحارث بن مالك: يا رسول اللَّه اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثا، وقال: هكذا فعل قوم موسى بموسى.
قال: قال أبو بردة بن نيار: لما كنا دوين أوطاس نزلنا تحت شجرة، ونظرنا إلى شجرة عظيمة، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحتها، وعلق بها سيفه وقوسه، قال: وكنت من أقرب أصحابه إليه، قال: فما أفزعني إلا صوته:
يا أبا بردة! فقلت: لبيك، وأقبلت سريعا، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس وعنده رجل جالس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا الرجل جاء وأنا نائم، فسل سيفي، ثم قام به على رأسي، ففزعت منه وهو يقول: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قلت: اللَّه، قال أبو بردة: فوثبت إلى سيفي فسللته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شمّ سيفك، قال: قلت يا رسول اللَّه، دعني أضرب عنق عدو اللَّه، فإن هذا من عيون المشركين، فقال لي: اسكت يا أبا بردة، قال: فما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا، ولا عاقبه، قال: فجعلت أصيح به في العسكر ليشهده الناس فيقتله قاتل بغير أمر رسول اللَّه، فأما أنا فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد كفني عن قتله، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّه عن الرجل يا أبا بردة! قال: فرجعت إلى
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 891- 892، غزوة حنين، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، (وفي المغازي) : «بها» .(14/14)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا أبا بردة إن اللَّه مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدين كله [ (1) ] ،
وقد تقدم وقوع مثل هذا في مرتين:
إحداهما: من دعثور في غزوة ذي أمر.
والأخرى: من ابن غورث في ذات الرقاع.
وأما كفاية اللَّه تعالى له كيد شيبة بن عثمان بن أبي طلحة يوم حنين وهدايته إلى الإسلام بدعائه وإخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم شيبة بما هم به
فقال ابن إسحاق [ (2) ] : وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بنى عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأرى، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمدا، قال: فأدرت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشي فؤادي، فلم أطق ذاك فعرفت أنه ممنوع [مني] .
وقال الواقدي [ (3) ] : وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قد تعاهد هو وصفوان بن أمية حين وجّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين، وكان أمية بن خلف قتل يوم بدر، وكان عثمان بن أبي طلحة قتل يوم أحد، فكانا تعاهدا إن رأيا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دائرة أن يكونا عليه وهما خلفه، قال شيبة: فأدخل اللَّه الإيمان قلوبنا، قال شيبة، لقد هممت بقتله، فأقبل شيء حتى تغشي فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني. وقال: قد غشيتني ظلمة حتى لا أبصر، فعرفت أنه ممتنع مني، وأيقنت بالإسلام.
__________
[ (1) ] إلى هنا آخر رواية الواقدي.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 112، شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 909- 910، غزوة حنين.(14/15)
وقال الواقدي [ (1) ] : وقد سمعت في قصة شيبة وجها آخر، كان شيبة بن عثمان يقول: لما رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غزا مكة فظفر بها، وخرج إلى هوازن، قلت: أخرج لعلي أدرك ثأرى، وذكرت قتل أبي يوم أحد، قتله حمزة، وعمي قتله عليّ، قال: فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم عليه درع بيضاء كالفضة ينكشف عنها العجاج [ (2) ] ، فقلت: عمه لن يخذله! فجئته عن يساره، فإذا بأبي سفيان ابن عمه، فقلت: ابن عمه ان يخذله! فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسوره بالسيف إذ رفع لي فيما بيني وبينه شواظ [ (3) ] من نار كأنه برق، وخفت أن يمحشني [ (4) ] ، ووضعت يدي على بصري، ومشيت القهقرى
والتفت إليّ وقال: يا شيب يا شيب، أدن مني، فوضع يده على صدري وقال: اللَّهمّ أذهب عنه الشيطان، قال: فرفعت إليه رأسي، وهو أحب إليّ من سمعي، وبصري، وقلبي، ثم قال: يا شيب، قاتل الكفار! قال: فتقدمت بين يديه أحب واللَّه أن أقيه بنفسي وبكل شيء، فلما انهزمت هوازن، رجع إلى منزله، ودخلت عليه فقال: الحمد للَّه الّذي أراد بك خيرا مما أردت، ثم حدثني بما هممت به.
وخرّج الإمام أبو بكر البيهقيّ [ (5) ] هذه القصة من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد اللَّه بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان، قال: لما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين قد عرى، ذكرت أبي وعمي، وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء، كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] العجاج: الغبار.
[ (3) ] الشواظ: اللهب الّذي لا دخان له.
[ (4) ] يمحشني: يحرقني.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 145، باب رمي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجوه الكفار، والرعب الّذي ألقى في قلوبهم، ونزول الملائكة وما ظهر في كل واحد من هذه الأنواع من آثار النبوة.(14/16)
ولن يخذله، قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت: ابن عمه ولن يخذله، قال: ثم جئت من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت تمحشني، فوضعت يدي على بصري، ومشيت القهقرى،
والتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا شيب، يا شيب ادن مني، اللَّهمّ أذهب عنه الشيطان، قال:
فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليّ من سمعي، وبصري وقال: يا شيب قاتل الكفار.
وخرّج من طريق محمد بن يعقوب قال: حدثنا العباس بن محمد، عن محمد بن بكير الحضرميّ، عن أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين، واللَّه ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكن أيقنت أن تظهر هوازن على قريش، فقلت وأنا واقف معه: يا رسول اللَّه إني أرى خيلا بلقا، قال: يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر، فضرب بيده على صدري، ثم قال: اللَّهمّ اهد شيبة، ثم ضربها الثانية، ثم قال: اللَّهمّ اهد شيبة، ثم ضربها الثالثة، فقال: اللَّهمّ اهد شيبة، فو اللَّه ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق اللَّه أحب إليّ منه، وذكر الحديث [ (1) ] [في التقاء الناس وانهزام المسلمين، ونداء العباس، واستنصار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى هزم اللَّه المشركين] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 146.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(14/17)
وأما إعلام اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما قاله عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر لأهل الحصن بالطائف
فخرج البيهقيّ [ (1) ] من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: وأقبل عيينة بن بدر حتى جاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ائذن لي أن أكلمهم لعلّ اللَّه أن يهديهم، فأذن له، فانطلق حتى دخل عليهم الحصن، فقال:
بأبي أنتم تمسكوا بمكانكم، واللَّه لنحن أذل من العبيد، وأقسم باللَّه لئن حدث به حدث، لتملكن العرب عزا ومنعة، فتمسكوا بحصنكم، وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثرون عليكم قطع هذا الشجر، ثم رجع عيينة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ماذا قلت لهم يا عيينة؟ قال: قلت لهم وأمرتهم بالإسلام ودعوتهم إليه، وحذرتهم النار، ودللتهم على الجنة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، بل قلت لهم: كذا وكذا فقصّ عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديثه، فقال: صدقت يا رسول اللَّه، أتوب إلى اللَّه- عز وجل- وإليك من ذلك، فلما أخذ الناس في القطع قال عيينة بن بدر ليعلى بن مرة: حرام عليّ أن أقطع حظي من الكرم، فقال يعلي بن مرة: إن شئت قطعت نصيبك، فماذا ترى؟
قال عيينة: أرى أن تدخل جهنم، فكانت هذه ريبة من عيينة في دينه، وسمع بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فغضب منه، وأوعد عيينة، وقال: أنت صاحب العمل أولى لك فأولى.
وقال الواقدي [ (2) ] في غزوة الطائف: قالوا: وقال عيينة: يا رسول اللَّه ائذن لي حتى أتي حصن الطائف فأكلمهم، فأذن له، فجاءه فقال: أدنو منكم
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 163- 164، باب استئذان عيينة بن حصن بن بدر في مجيئه ثقيفا، وإطلاع اللَّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما قال لهم، وأخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 531، باب وما ذكر في غزوة الطائف حديث رقم (460) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 932- 933.(14/18)
وأنا آمن؟ قالوا: نعم، وعرفه أبو محجن فقال: ادن، فدنا، قال لي:
ادخل، فدخل عليهم الحصن، فقال: فداءكم أبي وأمي، واللَّه لقد سرني ما رأيت منكم، واللَّه أني إلى العرب أحدا غيركم! واللَّه ما لاقي محمد مثلكم قط ولقد ملّ المقام فأثبتوا في حصنكم فإن حصنكم حصين، وسلاحكم كثير وماءكم، واتن لا تخافون قطعه، فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإن كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمدا بخلل إن رآه فينا أو في حصننا.
قال أبو محجن: أنا كنت أعرف له، ليس منا أحد أشدّ على محمد وإن كان معه، فلما رجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: ما قلت لهم؟ قال: قلت لهم ادخلوا في الإسلام، فو اللَّه لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا، فخذوا لأنفسكم أمانا قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم قينقاع، والنضير، وقريظة، وخيبر أهل الحلقة، والعدة، والآطام، فخذّلتهم ما استطعت. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساكت عنه
حتى إذا فرغ من حديثه قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت! قلت لهم كذا وكذا للذي قال، فقال عيينة: استغفر اللَّه، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
يا رسول اللَّه دعني أقدمه فأضرب عنقه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي،
ويقال: إن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أغلظ له يومئذ وقال: ويحك يا عيينة إنما أنت أبدا توضع في الباطل، كم لنا منك من يوم بني النضير، وقريظة، وخيبر، تجلب علينا عدونا، وتقاتلنا بسيفك، ثم أسلمت كما زعمت، فتحرض علينا عدونا! قال: أستغفر اللَّه يا أبا بكر، وأتوب إليه، لا أعود أبدا.(14/19)
وأما تسبيح سارية مصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالطائف
فقال الواقدي [ (1) ] : وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ضرب لزوجتيه قبتين، ثم كان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، وقد اختلف علينا في حصاره، فقال قائل: ثمانية عشر يوما، وقال قائل: تسعة عشر يوما، وقال قائل: خمسة عشر يوما، وكل ذلك وهو يصلي بين القبتين ركعتين، فلما أسلمت ثقيف، بنى أمية ابن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، على مصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، وكان فيه سارية لا تطلع الشمس عليها من الدهر إلا يسمع لها نقيض [ (2) ] أكثر من عشر مرار، فكانوا يرون أنّ ذلك تسبيحا.
وأما إجابة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رجل يقوم على حصن الطائف
فقال الواقدي [ (3) ] : وكان رجل يقوم على الحصن فيقول: روحوا رعاء الشاء! روحوا جلابيب محمد! روحوا عبيد محمد! أترونا نتباءس على أحبل أصبتموها من كرومنا؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ روح مروّحا إلى النار،
قال سعد بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فأهوى له بسهم فوقع في نحره، فهوى من الحصن ميتا، قال: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد سرّ بذلك.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 927.
[ (2) ] النقيض: الصوت.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 929.(14/20)
وأما إجابة دعائه صلى اللَّه عليه وسلّم في هداية ثقيف ومجيئهم إليه
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: أقبلت امرأة من المهاجرات كانت مع زوجها في الجيش يقال لها: خولة بنت حكيم، كانت ممن بايع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت قبل ذلك تحت عثمان بن مظعون قبل بدر، فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف، قال: لم يؤذن لنا حتى الآن فيهم، وما أظن أن نفتحها الآن، فأقبل عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فلقيها خارجة من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: هل ذكر لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا بعد؟
قالت: أخبرني أنه لم يؤذن له في قتال أهل الطائف بعد، فلما رأى ذلك عمر ابن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- اجترأ على كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ألا تدعو على أهل الطائف فتنهض إليهم لعل اللَّه- عزّ وجلّ- يفتحها فإن أصحابك كثير، وقد شق عليهم الحبس، ومنعهم معايشهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لم يؤذن لنا في قتالهم، فلما رأى ذلك عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أفلا آمر الناس فلا يسرحوا ظهرهم حتى يرتحلوا بالغداة؟ قال: بلى، فانطلق عمر حتى أذن في الناس بالقفول وأمرهم أن لا يسرحوا ظهرهم، فأصبحوا وارتحل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، ودعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين ركب قافلا: اللَّهمّ اهدهم واكفنا مئونتهم.
وقال الواقدي [ (2) ] : وجاءت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السلمية وهي امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول اللَّه أعطني إن فتح اللَّه عليك حلي الفارعة بنت الخزاعي، أو بادية بنت غيلان، وكانتا من أجمل نساء
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 168- 169، باب إذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقفول من الطائف، ودعائه لثقيف بالهداية، وإجابة اللَّه- تعالى- دعاءه.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 935- 936، شأن غزوة الطائف.(14/21)
ثقيف، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة؟
قال: فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر، فدخل عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على رسول اللَّه ولم يؤذن لك فيهم؟ قال: لا، قال: أفلا أؤذن في الناس بالرحيل؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بلى،
فأذن عمر بالرحيل، فجعل المسلمون يتكلمون، يمشي بعضهم إلى بعض، فقالوا: ننصرف ولا نفتح الطائف! لا نبرح حتى تفتح علينا، واللَّه إنهم أذل وأقل من لاقينا، قد لقينا جمع مكة، وجمع هوازن، ففرق اللَّه تلك الجموع، وإنما هؤلاء ثعلب في جحر لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا، وكثر القول بينهم والاختلاف، فمشوا إلى أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكلموه [ (1) ] ، فقال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[ (2) ] : اللَّه ورسوله أعلم، والأمر ينزل عليه من السماء.
فكلموا عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأبى وقال: قد رأينا الحديبيّة وداخلني في الحديبيّة من الشك ما لا يعلمه إلا اللَّه، وراجعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ بكلام، ليت أني لم أفعل وأن أهلي ومالي ذهبا، ثم كانت الخيرة لنا من اللَّه فيما صنع، فلم يكن فتح كان خيرا للناس من صلح الحديبيّة بلا سيف، دخل فيه من أهل الإسلام مثل من كان دخل من يوم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إلى يوم كتب الكتاب، فاتهموا الرأي، والخيرة فيما صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولن أراجعه في شيء من ذلك الأمر أبدا، والأمر أمر اللَّه، وهو يوحي إلى نبيه ما يشاء.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قال لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إني رأيت، أني أهديت لي قعبة [ (3) ] مملوءة زبدا، فنقرها ديك فأهراق ما فيها، قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ما أظن أن تدرك منهم يا رسول اللَّه يومك هذا ما تريد، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأنا لا أرى ذلك.
__________
[ (1) ] كذا بالأصل، وفي (المغازي) : «فتكلموا»
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] القعبة: القدح.(14/22)
[قال الواقدي] [ (1) ] حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما مضت خمس عشرة ليلة من حصارهم استشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نوفل بن معاوية الديليّ فقال: يا نوفل ما [تقول أو] ترى؟ فقال: يا رسول اللَّه ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك شيء، قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ولم يؤذن لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فتحها.
قال وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمر فأذن في الناس بالرحيل، فجعل الناس يضجون من ذلك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فاغدوا على القتال، فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا قافلون إن شاء اللَّه، فسروا بذلك وأذعنوا [ (2) ] ، وجعلوا يرحلون، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يضحك، فلما استقل الناس لوجههم نادى سعد بن عبيد بن أسيد بن عمرو بن علاج الثقفي قال: ألا إن الحي مقيم.
قال: يقول عيينة بن حصن: أجل واللَّه مجدة كرام، فقال له عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قاتلك اللَّه، تمدح قوما مشركين بالامتناع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد جئت تنصره؟ فقال: إني واللَّه ما جئت معكم أقاتل ثقيفا، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلا، فإن ثقيفا قوم مباركون.
قال: فأخبر عمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمقالته فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال: هذا الأحمق [ (3) ] المطاع، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا:
قولوا: لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا آئبون إن شاء اللَّه تائبون، عابدون
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] أذعن: أسرع في الطاعة.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المغازي) : «الحمق» .(14/23)
لربنا حامدون، ولما ظعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف قيل: يا رسول اللَّه ادع اللَّه على ثقيف فقال: اللَّهمّ اهد ثقيفا وائت بهم [ (1) ] .
وقال ابن إسحاق [ (2) ] : حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم وعبد اللَّه بن المكرم عمن أدركوا من أهل العلم، قالوا: حاصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذي الخويصرة بأنه وأصحابه يمرقون من الدين فكان كما أخبر
يروي قتيبة بن سعيد وأبو خيثمة وإسحاق بن إبراهيم الحنظليّ وعثمان ابن أبي شيبة قالوا جميعا: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه يعني ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قالوا: لما كان يوم حنين آثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه اللَّه! قال: فقلت: واللَّه لأخبرن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتيته فأخبرته بما قال الرجل، فتغيّر وجهه حتى صار كالصرف، قال: فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 156، أبو بكر يفسر رؤيا رسول اللَّه وفيها: فإن ثقيفا قوم مناكير وما.. أثبتناه من الواقدي.
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «فحصرهم بضعا وعشرين ليلة، قال ابن هشام: سبع عشرة ليلة» .(14/24)
ورسوله؟ ثم قال: يرحم اللَّه موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال:
فقلت: لا جرم، لا أرفع إليه بعد هذا حديثا [ (1) ] .
لفظ أبي خيثمة: وقال إسحاق مثل ذلك إلا أنه قال: وآثر ناسا من أشراف العرب، وقال: أو ما أريد به وجه اللَّه، وحديث قتيبة وعثمان على لفظ أبي خيثمة إلا أنهما قالا: أو ما أريد به وجه اللَّه- تعالى-، رواه البخاريّ [ (2) ] ، في (الصحيح عن قتيبة) ، ورواه مسلم [ (3) ] ، عن أبي خيثمة وإسحاق بن إبراهيم وعثمان بن أبي شيبة، وذكر الواقدي أن المتكلم بهذا معتب ابن قشير العمري [ (4) ] .
وقال يحيى بن بكير ومحمد بن رمح: حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمد: اعدل، فقال:
ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: دعني يا رسول اللَّه فأقتل هذا المنافق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: معاذ اللَّه أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 184- 185، باب اعتراض من اعترض من أهل النفاق في قسمة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين، وإخبار النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عن خروج أشباه له يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وإخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن آيتهم وما ظهر في ذلك من علامات النبوة.
[ (2) ] (فتح الباري) : 309، كتاب فرض الخمس، باب (19) ما كان النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، حديث رقم (3150) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النوويّ) : 7/ 164، كتاب الزكاة، باب (46) إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث رقم (140) .
[ (4) ] (مغازي الواقديّ) : 3/ 949.(14/25)
وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز خناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية، لفظ حديث ابن رمح، خرّجه عنه مسلم [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق قال: حدثني أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، فلقينا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يده، فقلنا له: هل حضرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه؟ قال:
نعم، ثم حدثنا فقال: أتى ذو الخويصرة التميمي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقسم المقاسم بحنين، فقال: يا محمد! قد رأيت ما صنعت قال: وكيف رأيت؟
قال: ما رأيتك عدلت، فغضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه ألا أقوم إليه فأضرب عنقه؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعه عنك، فإنه سيكون لهذا شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقوا كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا تجد شيئا، وتنظر في القدح فلا تجد شيئا، ثم تنظر في الفوق فلا تجد شيئا، سبق الفرث والدم [ (2) ] .
وروي بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الزهريّ قال:
أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة- رجل من بني تميم- فقال: يا رسول اللَّه! اعدل، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ وقد خبت وخسرت إن لم أعدل.
قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه ائذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم، صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن، لا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النوويّ) : 7/ 165، كتاب الزكاة، باب (47) ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (142) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 186- 187.(14/26)
يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم في قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأشهد أن عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي نعت [ (1) ] .
خرّجه البخاريّ عن أبي اليمان، عن شعيب، وأخرجاه من وجه آخر عن الزهريّ، فأخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم بخروج قوم فيهم رجل مخدّج اليد، عند افتراق يكون بين المسلمين، وأنه يقتلهم أولى الطائفتين بالحق فكان كذلك، وخرجوا حين وقعت الفرقة بين أهل العراق وأهل الشام، وقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ووجدوا المخدّج كما وصف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان ذلك علم من أعلام النبوة ظهر بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 187- 188، والرصاف: مدخل النصل من السهم، النضي:
السهم بلا نصل ولا ريش، القذذ: ريش السهم، سبق الفرث والدم: أي أن السهم قد جاوز هما ولم يعلق فيه منهما شيء، تدردر: تضطرب.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 766، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام حديث رقم (3610) ، وأخرجه في كتاب الأدب، عن عبد الرحمن بن إبراهيم، وفي كتاب استتابة المرتدين، عن محمد بن المثنى.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، باب (47) ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (148) .(14/27)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عروة بن مسعود الثقفيّ بأن قومه يقتلونه فكان كذلك
فقال ابن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: فلما صدر أبو بكر وعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وأقاما [ (1) ] للناس الحج، قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسلما [ (2) ] ، وقال موسى بن عقبة:
وأقام أبو بكر للناس حجتهم [ (3) ] ، وقدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليرجع إلى قومه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أخاف أن يقتلوك، قال: لو وجدوني نائما ما أيقظوني، فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فرجع إلى الطائف وقدم الطائف عشيا، فجاءته ثقيف فحيوه، ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم، فاتهموه، وعصوه، وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه، فخرجوا من عنده حتى إذا أسحر [ (4) ] وطلع الفجر قام على غرفة له في داره، فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله،
فزعموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بلغه قتله، قال: مثل عروة مثل صاحب ياسين حين دعا قومه إلى اللَّه فقتلوه [ (5) ] .
وقال الواقدي [ (6) ] :
__________
[ (1) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «وأقام» .
[ (2) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «فأسلم» .
[ (3) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «حجتهم» .
[ (4) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «سحر» .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 299- 300، باب قدوم وفد ثقيف وهم أهل الطائف على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتصديق ما قال في عروة ابن مسعود الثقفيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ثمّ إجابة اللَّه- تعالى- دعاءه في هداية ثقيف.
[ (6) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 960- 962، قدوم عروة بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(14/28)
قالوا: كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل الطائف بجرش يتعلم عمل الدبابات [ (1) ] والمنجنيق [ (2) ] ، ثم رجع إلى الطائف بعد أن ولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعمل المنجنيق والدبابات والعرادات [ (3) ] ، وأعد ذلك حتى قذف اللَّه في قلبه الإسلام.
فقدم المدينة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم، ثم قال: يا رسول اللَّه ائذن لي فأتي قومي فأدعوهم إلى الإسلام، فو اللَّه ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب، فأقدم على أصحابي وقومي بخير قادم، وما قدم وافد قط على قومه إلا من قدم بمثل ما قدمت به، وقد سبقت يا رسول اللَّه في مواطن كثيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنهم إذا قاتلوك، قال: يا رسول اللَّه لأنا أحب إليهم من أبكار أولادهم.
ثم استأذنه الثانية، فأعاد عليه الكلام الأول، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنهم إذا قاتلوك. فقال: يا رسول اللَّه لو وجدوني نائما ما أيقظوني، واستأذنه الثالثة فقال: إن شئت فاخرج.
فخرج إلى الطائف فسار إليها خمسا، فقدم على قومه عشاء فدخل منزله، فأنكر قومه دخوله منزله من قبل أن يأتي الربة [ (4) ] ، ثم قالوا: السفر قد حصره [ (5) ] ، فجاءوا منزله، فحيوه بتحية الشرك، فكان أول ما أنكر عليهم تحية الشرك، فقال: عليكم تحية أهل الجنة، ثم دعاهم إلى الإسلام وقال: يا قوم أتتهمونني؟ ألستم تعملون أني أوسطكم نسبا، وأكثركم مالا، وأعزكم نفرا؟ فما حملني على الإسلام إلا أني رأيت أمرا لا يذهب عنه ذاهب، وأقبلوا
__________
[ (1) ] الدبّابة- بالدال المهملة فموحدة مشددة، وبعد الألف موحدة فتاء تأنيث-: آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال، فيندفعون بها إلى الأسوار لينقبوها.
[ (2) ] المنجنيق- بفتح الميم وقد تكسر، يؤنث وهو أكثر، ويذكر فيقال: هي المنجنيق، وعلى التذكير: هو المنجنيق، ويقال: المنجنوق ومنجليق، وهو معرب، وأول من عمله قبل الإسلام إبليس- لعنه اللَّه- حين أرادوا رمي سيدنا إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام.
أما في الجاهلية فيذكر أن جذيمة- بضم الجيم، وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية- ابن مالك المعروف بالأبرش، أول من رمى بها، وهو من ملوك الطوائف.
[ (3) ] العرادة: أصغر من المنجنيق.
[ (4) ] يعنى: اللات.
[ (5) ] حصره: أي منعه عن مقصده.(14/29)
فما حملني على الإسلام إلا أن رأيت أمرا لا يذهب عنه ذاهب، وأقبلوا نصحي ولا تستعصوني، فو اللَّه ما قدم وافد قط على قوم بأفضل مما قدمت به عليكم، فاتهموه، واستغشوه، وقالوا: قد واللات وقع في أنفسنا حيث لم تقرب الربة، ولم تحلق رأسك عندها أنك قد صبوت فآذوه ونالوا منه، وحلم عليهم، فخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به حتى إذا طلع الفجر أوفى على غرفة له، فأذّن بالصلاة، فرماه رجل من رهطه من الأحلاف يقال له:
وهب ابن جابر، ويقال: الّذي رماه أوس بن عوف بن بني مالك، وهذا أثبت عندنا.
وكان عروة رجل من الأحلاف فأصاب أكحله [ (1) ] فلم يرقأ دمه [ (2) ] وحشد قومه في السلاح وجمع الآخرون وتجايشوا، فلما رأى عروة ما يصنعون قال:
لا تقتتلوا فيّ، فإنّي قد تصدقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك نبيكم، فهي كرامة اللَّه أكرمني بها، الشهادة ساقها اللَّه إليّ، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، واللَّه خبرني عنكم هذا أنكم تقتلونني، ثم قال لرهطه: ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يرتحل عنكم، قال: فدفنوه معهم،
وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله، فقال: مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى اللَّه- تعالى- فقتلوه.
ويقال: إن عروة لم يقدم المدينة وإنما لحق رسول اللَّه بين مكة والمدينة فأسلم، ثم انصرف، والقول الأول أثبت عندنا،
فلما قتل عروة قال ابنه أبو مليح بن عروة بن مسعود وابن أخيه قارب بن الأسود بن مسعود لأهل الطائف: لا نجامعكم على شيء أبدا، وقد قتلتم عروة، ثم لحقا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلما، فقال لهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: توليا من شئتما، قالا: نتولى اللَّه ورسوله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وخالكما أبو سفيان بن حرب، حالفاه ففعلا، ونزلا على المغيرة بن شعبة، فأقاما بالمدينة حتى قدم وفد ثقيف في رمضان سنة تسع واللَّه- تعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] الأكحل: عرق في اليد.
[ (2) ] رقأ الدم: إذا سكن وانقطع.(14/30)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله صلى اللَّه عليه وسلم على حارثة بن عمرو
فقال الواقدي [ (1) ] : حدثني رشيد أبو موهوب، عن جابر بن أبي سلمى وعنبسة بن أبي سلمى قالا: كتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى حارثة بن عمرو بن قريظ يدعوهم إلى الإسلام فأخذوا صحيفته فغسلوها، ورقعوا بها است دلوهم، وأبوا أن يجيبوا، فقالت أم حبيب بنت عامر بن خالد بن عمرو بن قريط بن عبد بن أبي بكرة وخاصمتهم في بيت لها فقالت فيه شعرا.
قالوا: فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما لهم أذهب اللَّه بعقولهم فهم أهل رعدة وعجلة، وكلام مختلط، وأهل سفه،
وكان الّذي جاءهم بالكتاب رجل من عرينة يقال له: عبد اللَّه بن عوسجة، لمستهل ربيع الأول سنة تسع.
قال الواقدي- رحمه اللَّه-: رأيت بعضهم عييا لا يبين الكلام، واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 982- 983، سرية بني كلاب أميرها الضحاك بن سفيان الكلابي.(14/31)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عمار بن ياسر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- بما قال المنافقون في مسيرهم إلى تبوك
فقال الواقدي [ (1) ] : قالوا: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تبوك، منهم وديعة بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والجلاس بن سويد بن الصامت، ومخشيّ بن حميّر من أشجع، حليف لبني سلمة، وثعلبة ابن حاطب، فقال ثعلبة: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ واللَّه لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وترهيبا للمؤمنين، فقال وديعة بن ثابت: ما لي أرى قرءانا هؤلاء أوعبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؟ وقال الجلاس بن سويد- وكان زوج أم عمير وكان ابنها عمير يتيما في حجره-: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا، واللَّه لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير! فقال مخشيّ بن حمير: واللَّه لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمار بن ياسر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
أدرك القوم فإنّهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلتم كذا وكذا، فذهب إليهم عمار فقال لهم، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعتذرون إليه،
فقال وديعة بن ثابت ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ناقته قد أخذ بحقب ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورجلاه تنسفان الحجارة وهو يقول: يا رسول اللَّه إنما كنا نخوض ونلعب، ولم يلتفت إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه- تعالى- فيه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [ (2) ] إلى قوله- تعالى-: كانُوا مُجْرِمِينَ [ (3) ] ، ورد عمير على الجلاس ما قال حين قال: لنحن شر من
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1003- 1005.
[ (2) ] التوبة: 65.
[ (3) ] التوبة: 66.(14/32)
الحمير، قال: فأنت شر من الحمار، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصادق وأنت الكاذب، وجاء الجلاس إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فحلف ما قال من ذلك شيئا فانزل اللَّه- تعالى- على نبيه فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [ (1) ] ونزلت فيه أيضا: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ... الآية، وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه وكان محتاجا، فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة أخذها له فاستغنى بها، وقال مخشي بن حمير: قد واللَّه يا رسول اللَّه قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الّذي عفى عنه في هذه الآية مخشيّ بن حميّر فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد الرحمن أو عبد اللَّه وسأل اللَّه- تعالى- أن يقتل شهيدا ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
ويقال في الجلاس بن سويد: إنه كان ممن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك فكان يثبط الناس عن الخروج، وكانت أم عمير تحته وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له، فكان يكفله ويحسن إليه، فسمعه وهو يقول: واللَّه لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير! فقال له عمير: يا جلاس قد كنت أحب الناس إليّ، وأحسنهم عندي أثرا، وأعزهم عليّ أن يدخل عليه شيء نكرهه، واللَّه لقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن كتمتها لأهلكن، وإحداهما أهون عليّ من الأخرى! فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الجلاس، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أعطى الجلاس مالا من الصدقة لحاجته وكان فقيرا فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الجلاس فسأله عما قال عمير فحلف باللَّه ما تكلم به قط، وأن عميرا لكاذب- وهو عمير بن سعيد- وهو حاضر عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقام وهو يقول: اللَّهمّ أنزل على رسولك بيان ما تكلمت به، فأنزل اللَّه- تعالى- على نبيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ إلى قوله: أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، للصدقة التي أعطاها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الجلاس: اسمع! اللَّه قد عرض علي التوبة، واللَّه لقد قلت ما قال عمير ولما اعترف بذنبه وحسنت توبته ولم يمتنع عن خير كان يصنعه إلى عمير بن سعيد، فكان ذلك مما قد عرفت به توبته. واللَّه- سبحانه وتعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] التوبة: 74.(14/33)
وأما إخباره لأبى ذر [الغفاريّ] بأنهم يخرجون من المدينة فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث هاشم، عن عبد الحميد، عن شهر حدثتني أسماء [بنت يزيد] أن أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان يخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا فرغ من خدمته آوى إلى المسجد فكان هو بيته يضطجع فيه،
فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة فوجده منجدلا في المسجد فنكته برجله حتى استوى جالسا، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا أراك نائما في المسجد؟ قال أبو ذر: يا رسول اللَّه وأين أنام؟ وهل لي بيت غيره؟ فجلس إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه قال: إذا ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فأكون رجلا من أهلها، فقال: كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟ قال: إذا أرجع إليه فيكون بيتي ومنزلي، قال: فكيف بك إذا أخرجوك منه الثانية؟ قال: إذا آخذ سيفي فأقاتل عني [حتى أموت قال:] فكشر إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأثبته بيده، فقال: أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه قال: تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك.
قال جامعه: قد صدق اللَّه- تعالى- ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخبر به أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من إخراجهم له من الشام والمدينة، وذلك أنه أخرج من المدينة أولا في خلافة عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى الشام لإنكاره أشياء من سيرته، فأقام بها، فأنكر على معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير الشام، فشكاه إلى عثمان، فأمره بحمله إليه، فحمله إلى المدينة، فأخذ يطعن على عثمان، فأخرجه من المدينة، وأسكنه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 611- 612، حديث رقم (27041) ، من حديث أسماء بنت يزيد.(14/34)
الرَّبَذَة حتى مات، وقد ذكرته في كتاب (التاريخ الكبير المقفى [ (1) ] ) ذكرا مستوفي.
وخرّج ابن حبان في (صحيحه) من حديث النضر بن شميل، عن كهمس بن الحسن [القيسيّ] ، عن أبي السليل ضريب بن نقير القيسيّ قال: قال أبو ذر: جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتلو هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ (2) ] [فجعل يرددها] حتى نعست فقال: يا أبا ذر لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم، ثم قال: يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة؟ قلت: إلى السعة والدعة، أكون حماما من حمام مكة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟ قلت: إلى السعة والدعة، إلى أرض الشام والأرض المقدسة، قال: فكيف تفعل إذا أخرجت منها؟ قال: [إذا] والّذي بعثك بالحق آخذ سيفي فأضعه على عاتقي، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو خير من ذلك، تسمع وتطيع لعبد حبشيّ مجدّع [ (3) ] ، واللَّه- تعالى- أعلم.
__________
[ (1) ] (المقفى الكبير) : 1/ 541، 2/ 418، 4/ 302، 5/ 17.
[ (2) ] الطلاق: 3- 4.
[ (3) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 15/ 53- 54، كتاب التاريخ، باب (10) إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، ذكر الإخبار عن إخراج الناس أبا ذر الغفاريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من المدينة، حديث رقم (6669) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، ثم قال في (هامشه) : إسناده ضعيف لانقطاعه، فإن ضريب بن نقير لم يدرك أبا ذر ولا سمع منه.
والثابت أن أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنما نزل الرَّبَذَة باختياره، وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنما أمره بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه الّذي انفرد به في حرمة ادخار المال ولو أديت زكاته، فاختار الرَّبَذَة، فقد روى البخاريّ في (صحيحه) [1406] عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ.(14/35)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أبي ذر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بأنه يموت وحده فكان كما قال
فروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني بريدة بن سفيان الأسلميّ، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما نفى عثمان أبا ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- إلى الرَّبَذَة [ (1) ] ، وأصابه بها قدره، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم قولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعينونا على دفنه.
فلما مات فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد اللَّه ابن مسعود في رهط من أهل العراق عمار، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعينونا أعلى دفنه،
قال فاستهل عبد اللَّه بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، تمشى وحدك، وتموت وحدك، وتبعث
__________
[ () ] قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان: أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال لي: إن شئت تنحيت، فكنت قريبا، فذاك الّذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليّ حبشيا لسمعت وأطعت.
[ (1) ] الرَّبَذَة: خرقة الصائغ يجلو بها الحليّ، وبها سميت الرَّبَذَة، وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذرّ الغفاريّ وجماعة من الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.(14/36)
وحدك،
ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم عبد اللَّه بن مسعود حديثه، وما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى تبوك [ (1) ] .
ثم
قال ابن إسحاق [في خبر أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في غزوة تبوك] : ثم مضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سائرا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول اللَّه، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن بك فيه خير فسيلحقه اللَّه- تعالى- بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللَّه منه، حتى قيل: يا رسول اللَّه! قد تخلف أبو ذرّ، وأبطأ به بعيره، فقال: إن يك فيه خير فسيلحقه اللَّه بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللَّه منه.
وتلوم [ (2) ] أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ماشيا، ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول اللَّه، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول اللَّه هو واللَّه أبو ذرّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
كن [ (3) ] أبا ذرّ، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده [ (4) ] .
قال الواقدي في (مغازيه) : وكان أبو ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: أبطأت في غزوة تبوك من أجل بعيري كان نضوا أعجف [ (5) ] ، فقلت: أعلفه أياما، ثم ألحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعلفته أياما، ثم خرجت، فلما كنت في ذي المروة عجز بي فتلومت عليه يوما فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته [ (6) ] على ظهري، ثم خرجت أتبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ماشيا في حرّ شديد، وقد تقطع الناس فلا أرى أحدا يلحقنا من المسلمين، فطلعت على رسول
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 205، موت أبي ذرّ ودفنه بالربذة.
[ (2) ] تلوّم: أبطأ وتمهّل.
[ (3) ] كن أبا ذر: لفظه الأمر، ومعناه الدعاء.
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 203- 204، خبر أبي ذرّ في غزوة تبوك.
[ (5) ] النّضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها.
[ (6) ] في (الأصل) : «فجعلته» ، وما أثبتناه من (المغازي) .(14/37)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصف النهار وقد بلغ مني العطش فنظر ناظر من الطريق، فقال: يا رسول اللَّه! إن هذا الرجل يمشي وحده، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: كن أبا ذر، فلما تألمني القوم قالوا: يا رسول اللَّه! هذا أبو ذر، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى دنوت منه فقال: مرحبا بأبي ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فقال: ما خلفك يا أبا ذر فأخبره خبر بعيره، ثم قال: إن كنت لمن أعزّ أهلي عليّ تخلفا، لقد غفر اللَّه لك يا أبا ذرّ بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتني، ووضع متاعه عن ظهره، ثم استسقى [ (1) ] فأتي بإناء من ماء فشربه.
فلما أخرجه عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى الرَّبَذَة وأصابه قدره، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما فقال: غسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق إذا أنا مت. وأقبل ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في رهط من أهل العراق عمارا، فلم يرعهم إلا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها، فسلم القوم، فقام إليهم غلامه فقال لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعينوني عليه،
فاستهل ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يبكي ويقول: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يمشي أبو ذر وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده،
ثم نزل هو وأصحابه حتى واروه، ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى تبوك [ (2) ] .
وذكر أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر، حديث عليّ بن المديني قال: حدثنا يحيى بن سليم [الطائفي] [ (3) ] قال: حدثني عبد اللَّه بن خثيم، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أم ذرّ زوجة أبي ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال لي: ما يبكيك؟ فقلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا لي ولا لك؟ ولا يد لي للقيام بجهازك، قال: فأبشري لا تبكي، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «استلقى» وما أثبتناه من (المغازي) فهو أجود للسياق.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1000- 1001.
[ (3) ] من (الأصل) فقط.(14/38)
لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران يحتسبان فيريان النار أبدا، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة، فأنا ذلك الرجل، فو اللَّه ما كذبت ولا كذبت،
فأبصري الطريق، قلت: أنّي وقد ذهب الحاجّ وتقطعت الطريق؟ قال: اذهبي فتبصري، قالت: فكنت أشتدّ إلى الكثيب فأنظر، ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينا أنا كذلك إذا أنا برجال على رحالهم كأنهم الرّخم [ (1) ] تحث بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليّ فقالوا: يا أمة اللَّه! مالك؟
قالت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: نعم، قالت: ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه،
فقال لهم: أبشروا فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية وجماعة واللَّه ما كذبت ولا كذبت،
ولو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم اللَّه أن يكفني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال، إلا فتى من الأنصار فقال: أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي، قال: أنت تكفنني [يا بني] [ (2) ] ، قال: فكفنه الأنصاري وغسله في النفر الذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الرخم: جمع رخمة وهو طائر من الجوارح يشبه النسر.
[ (2) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) .
[ (3) ]
(الاستيعاب) : 1/ 253- 255، ترجمة جندب بن جنادة [أبو ذرّ] رقم 339. ثم قال ابن عبد البرّ: وروى عنه جماعة من الصحابة، وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق، سئل عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن أبي ذرّ فقال: ذلك رجل وعى علما عجز عنه الناس، ثم أوكأ عليه، ولم يخرج شيئا منه.(14/39)
وقد خرّجه الحاكم في (مستدركه) [ (1) ] أيضا من حديث ابن المديني نحوه سواء، واللَّه أعلم.
وأما خرصه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديقة المرأة وإخباره بهبوب ريح شديدة فكان كما قال
فخرّج البخاريّ في كتاب الزكاة في باب خرص
__________
[ () ] وروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: أبو ذرّ في أمتي شبيه عيسى ابن مريم في زهده،
وبعضهم روى: من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ.
ومن حديث ورقاء وغيره، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ، ومن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ.
وروى إبراهيم التيميّ عن أبيه عن أبي ذر، قال: كان قوتي على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صاعا من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى اللَّه- تعالى-. (الاستيعاب) .
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 388، كتاب معرفة الصحابة، محنة أبي ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (5470) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، يحي بن سليم الطائفيّ الحذاء الخراز، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وقال ابن معين: ثقة.
وقال النسائيّ ليس بالقويّ وقال أحمد: رأيته يختلط في أحاديثه فتركته، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه، (الميزان) : 3/ 383- 384.
وقد أخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 401- 402، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن حال أبي ذرّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عند موته، وما أوصاه به من الخروج من المدينة عند ظهور الفتن. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) . وابن كثير في (البداية والنهاية) .(14/40)
التمر [ (1) ] وفي كتاب الجزية [ (1) ] من حديث سهل بن بكار، عن وهيب، عن عمر بن يحيي، عن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 438، كتاب الزكاة، باب (54) خرص التمر، حديث رقم (1481) .
قوله: «خرص التمر» أي مشروعيته، والخرص بفتح المعجمة وحكى كسرها وبسكون الراء بعدها مهملة، هو حرز ما على النخل من الرطب تمرا.
حكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن تفسيره: أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما تجب فيه الزكاة، بعث السلطان خارصا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا، وكذا وكذا تمرا، فيحصيه، وينظر مبلغ العشر فيه، فيثبته عليهم، ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر.
وفائدة الخرص: التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهورها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء، لأن منعهم منها تضيقا لا يخفى.
وقال الخطّابيّ: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا، إلا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار وتعقبه الخطّابيّ بأن تحريم الربا والميسر متقدم. والخرص عمل به في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حتى مات، ثم أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبيّ، قال: وأما قولهم: إنه تخمين وغرر فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر، وإدراكه بالخرص الّذي هو نوع من المقادير.
وحكى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوفق له غيره، وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له، سواء أن تثبت بذلك الخصوصية، ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه، كتسديد الأنبياء لسقط الأتباع، وتردّ هذه الحجة أيضا بإرسال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الخراص في زمانه، واللَّه- تعالى- أعلم.
واعتلّ الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة فتتلفها، فيكون ما يؤخذ عن صاحبها مأخوذا بدلا مما لم يسلم له، وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان.(14/41)
عباس الساعدي، عن أبي حميد الساعدي [ (1) ] قال: غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: اخرصوا، وخرص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرة أوسق، وقال لها:
أحصي ما يخرج منها فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد، ومن كان معه بعير فليعقله، فعقلناها، وهبت ريح شديدة، فقام رجل فألقته بجبل طيِّئ، وأهدى ملك أيلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلة بيضاء، وكساه بردا، وكنت له ببحرهم، فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك؟
قالت: عشرة أوسق خرص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل. فلما- قال ابن بكار: كلمة معناها- أشرف على المدينة قال: هذه طابة، فلما رأى أحدا قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى، قال: دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، ثم دور بني ساعدة، أو دور بني الحارث بن الخزرج، وفي كل دور الأنصار يعني خيرا، وقال سليمان بن بلال:
حدثني عمرو، ثم دور بني الحارث، ثم بني ساعدة.
وقال سليمان: عن سعد بن سعيد، عن عمارة بن غزية، عن عباس، عن أبيه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أحد جبل يحبنا ونحبه،
قال أبو عبد اللَّه: كل بستان عليه حائط فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة [ (2) ] .
__________
[ () ] وفي هذا الحديث مشروعية الخرص، وفيه أشياء من أعلام النبوة، كالإخبار عن الريح، وما ذكر في تلك القصة، وفيه تدريب الأتباع وتعليمهم، وأخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه، وفضل المدينة والأنصار، ومشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين، ومشروعية الهدية والمكافأة عليها. (فتح الباري) .
[ (1) ] (فتح الباري) 6/ 328، كتاب الجزية والموادعة، باب (2) إذا وادع الإمام ملك القرية هل يكون ذلك لبقيتهم؟ حديث رقم (3161) مختصر جدا كما قال الحافظ: وهذا القدر لا يكفى في مطابقة الحديث للترجمة.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (1482) .(14/42)
لم يذكر منه في كتاب الجزية غير قوله: غزونا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تبوك، وأهدى ملك أيلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلة بيضاء، وكساه بردا، وكتب له ببحرهم ولم يزد على ذلك [ (1) ] .
وخرّج مسلم من حديث سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اخرصوها فخرصناها، وخرصها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرة أوسق، قال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء اللَّه، وانطلقنا حتى أتينا تبوك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيِّئ، وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكتاب وأهدي له بغله بيضاء، فكتب إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهدى له بردا، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ فقالت:
عشرة أوسق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي ومن شاء فليمكث، فخرجا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه، ثم قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير، فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبو أسيد: ألم تر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيّر دور الأنصار فجعلنا آخرا! فأدرك سعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللَّه: خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا! فقال: أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار [ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع تعليق رقم (3) في الصفحة السابقة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 47- 48، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (11) . وفيه المعجزة الظاهرة من إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمغيب، وخوف الضرر من القيام وقت الريح، وفيه ما كان عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشفقة على أمته والرحمة لهم، والاعتناء بمصالحهم، وتحذيرهم ما يضرهم في دين أو دنيا، وإنما أمر بشدّ عقل الجمال لئلا ينفلت منها شيء، فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه فيلحقه ضرر الريح، وفيه قبول هدية الكافر.(14/43)
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر حزم، عن العباس بن سهل بن سعيد الساعدي، أو عن العباس، عن سعد بن سهل- الشك مني- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين مر بالحجر ونزلها واستسقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للناس: لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهم لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الّذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الّذي ذهب في طلب بعيره فاحملته الريح حتى طرحته بجبلي طيِّئ، فأخبر بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد [ (1) ] إلا ومعه صاحبه، ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الّذي وقع بجبلي طيِّئ فإن طيِّئا أهدته إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم من تبوك [ (2) ] .
قال عبد اللَّه بن أبي بكر: قد سمي إليّ العباس الرجلين، ولكنه استودعني إياهما فأبى أن يسميهما لنا [ (3) ] .
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (4) ] : قال أبو حميد الساعدي: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى تبوك، فلما جئنا وادي القرى مررنا على حديقة لامرأة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اخرصوها، فخرصها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وخرصناها معه، عشرة أو ساق ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك، فلما أمسينا بالحجر قال: إنها ستهبّ الليلة ريح شديدة فلا يقومن منكم أحد إلا معه صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله، قال: وهاجت ريح شديدة، قال:
__________
[ () ] فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه فيلحقه ضرر الريح، وفيه قبول هدية الكافر، وقوله:
«ببحرهم» أي ببلدهم، والبحار القرى. (شرح النووي) .
[ (1) ] في (الأصل) : «أن يخرج رجل» وما أثبتناه من (ابن هشام) .
[ (2) ] كذا (بالأصل) ، وفي (ابن هشام) : «حين قدم المدينة» .
[ (3) ] (سيره ابن هشام) : 5/ 201- 202، ما حدث بالحجر.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1005- 1006، باختلاف يسير في اللفظ.(14/44)
ولم يقم أحد إلا مع صاحبه إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الّذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الّذي ذهب في طلب بعيره، فاحتملته الرياح فطرحته بجبليّ طيِّئ، فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهما، فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد إلا ومعه صاحب، ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الّذي وقع بجبليّ طيِّئ فإن طيِّئا أهدته للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم المدينة، واللَّه- تعالى- أعلم.(14/45)
وأما صلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بتبوك على معاوية بن معاوية وقد مات بالمدينة
فروى الحافظ أبو عمر بن عبد البر [ (1) ] ، والحافظ أبو بكر البيهقيّ [ (2) ] من حديث عثمان بن الهيثم، عن محبوب بن هلال، عن [ابن] أبي ميمونة، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: نزل جبريل- عليه السلام- على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد مات معاوية بن معاوية المزني، [أفتحب] أن تصلي عليه؟ قال: نعم، فضرب بجناحه الأرض فلم تبق شجرة، ولا أكمة إلا تضعضعت، ورفع إليه سريره حتى نظر إليه فصلّى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل: يا جبريل [بم نال] هذه المنزلة [من اللَّه] ؟ قال: بحبه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ (3) ] وقراءته إياها جائيا، وذاهبا، وقائما، وقاعدا، وعلى كل حال.
السياق لابن عبد البر.
وزاد البيهقي من حديث الحسن بن محمد الزعفرانيّ قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن العلاء أبي محمد الثقفي، قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور، ولم أرها طلعت فيما مضى، [فأتى جبريل- عليه السلام- رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا جبريل ما لي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى] ؟ قال: ذلك أن معاوية بن معاوية الليثي مات اليوم بالمدينة، فبعث اللَّه سبعين ألف ملك يصلون عليه، قال: وفيم ذاك قال: كان يكثر قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بالليل وبالنهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1423- 1425، ترجمة رقم (2438) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 245، باب ما روى في صلاته صلّى اللَّه عليه وسلّم بتبوك على معاوية بن معاوية الليثي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في اليوم الّذي مات فيه بالمدينة وما بين الحاصرتين زيادات للسياق منه.
[ (3) ] الإخلاص: 1.(14/46)
اللَّه أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟ قال: نعم، قال: فصلّى عليه، ثم رجع.
قال أبو عمر: العلاء أبو محمد الثقفي هو العلاء بن يزيد الثقفي أبو محمد، يروي عن أنس، روى عن يزيد بن هارون وعثمان بن مطيع، في حديثه مناكير، كان محمد يتكلم فيه.
وخرّجه أيضا من حديث بقية بن الوليد قال: حدثنا محمد بن زياد، عن أبي أمامة الباهلي قال: أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل- عليه السلام- وهو بتبوك فقال: يا محمد اشهد جنازة معاوية بن مقرن المزني، قال: فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه، ونزل جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرض فتواضعت، حتى نظر إلى مكة والمدينة، فصلّى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجبريل والملائكة، فلما فرغ قال: يا جبريل بم بلغ معاوية بن مقرن هذه المنزلة، قال: بقراءته: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قائما، وقاعدا، وراكبا، وماشيا [ (1) ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولولا أنها في [غير] [ (2) ] الأحكام لم يكن في شيء منها حجة، ومعاوية بن مقرن المزني وإخوته: النعمان، وسويد، ومعقل، وسائرهم وكانوا سبعة معروفون في الصحابة مذكورون في كبارهم، وأما معاوية بن معاوية فلا أعرفه بغير ما ذكرت في هذا [الكتاب] [ (3) ] ، وفضل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا ينكر.
قال أبو عمير: معاوية بن معاوية المزني، ويقال: الليثي، ويقال:
معاوية بن مقرن المزني، وهو أولى بالصواب إن شاء اللَّه، توفي في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، روى حديثه أنس بن مالك وأبو أمامه واختلفت الآثار في ذلك.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1424- 1425.
[ (2) ] في (الاستيعاب) : «في» (الأحكام) .
[ (3) ] في (الاستيعاب) : «الباب» .(14/47)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد حين بعثه إلى أكيدر بدومة الجندل بأنه يجده يصيد البقر فوجده كما قال
فروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق [ (1) ] قال: حدثني يزيد بن رومان وعبد اللَّه بن أبي بكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا على دومة وكان نصرانيا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر،
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه منظر العين في ليلة مقمرة صافية وهو على سطح ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا واللَّه، قالت: فمن يترك مثل هذا؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسان، فخرجوا معهم بمطاردهم فتلفقتهم خيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذته وقتلوا أخاه حسان، وكان عليه قباء من ديباج مخوّص بالذهب، فاستلبه خالد بن الوليد، فبعث به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل قدومه به عليه، ثم إن خالدا قدم بالأكيدر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فحقن له دمه وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته، فقال رجل من طيِّئ يقال له: بجير بن بجرة يذكر
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت اللَّه يهدي كل هاد
ومن يك عائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
زاد فيه غيره: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يفضض اللَّه، فاك فأتى عليه تسعون سنة فما تحرك له ضرس ولا سن.
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 207- 208.(14/48)
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، ومعاذ بن محمد، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، وإسماعيل ابن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماده حديث ابن أبي حبيبة.
قالوا: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل- وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانيا- فقال خالد: يا رسول اللَّه، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ستجده يصيد البقر فتأخذه.
قال: فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته الرباب بنت أنيف بن عامر من كندة، وصعد على ظهر الحصن من الحر، وقينته تغنبه، ثم دعا بشراب فشرب، فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فأقبلت امرأته الرباب فأشرفت على الحصن فرأت البقر، فقالت: ما رأيت كالليلة في اللحم، هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا، ثم قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد.
قال: يقول أكيدر: واللَّه ما رأيت جاءنا بقر غير تلك الليلة ولقد كنت أضمّر لها الخيل إذا أردت أخذها شهرا أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
قال: فنزل، فأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته، معه أخوه حسان ومملوكان، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم [ (2) ] ، فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنتظرهم لا يصهل منها فرس ولا يتحرك، فساعة فصل أخذته الخيل، فاستأسر أكيدر، وامتنع حسان فقاتل حتى قتل، وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته، فدخلوا
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1025- 1028، غزوة أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل في رجب سنة تسع، وهي على عشرة أميال من المدينة المنورة.
[ (2) ] المطارد: جمع مطرد، وزن منبر، وهو رمح قصير يطرد به الوحش.(14/49)
الحصن، وكان على حسان قباء ديباج مخوّص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمرو بن أمية الضمريّ حين قدم عليهم فأخبرهم بأخذهم أكيدر.
قال أنس بن مالك وجابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-: رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعل المسلمون يتلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تعجبون من هذا؟ والّذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا.
وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخالد بن الوليد: إن ظفرت بأكيدر فلا تقتله، وائت به إليّ فإن أبي فاقتلوه، فطاوعهم. فقال بجير بن بجرة من طيِّئ، يذكر قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد: إنك تجده يصيد البقر وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديق قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال شعرا.
وقال خالد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم، ذلك لك، فلما صالح خالد أكيدر، وأكيدر في وثاقه انطلق به خالد حتى أدناه من باب الحصن ونادى أكيدر أهله: افتحوا باب الحصن فأرادوا ذلك فأبى عليهم أخو أكيدر، فقال أكيدر لخالد: تعلم واللَّه لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك، فخل عني فلك اللَّه والأمانة أن أفتح لك باب الحصن إن أنت صالحتني على أهله، قال خالد: فإنّي أصالحك، فقال أكيدر: إن شئت حكمتك، وإن شئت حكمتني، قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت فصالحه على ألفي بعير، وثماني مائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيحكم فيهما حكمه.
فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح الحصن فدخل خالد وأوثق مضادا أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، ثم خرج قافلا إلى المدينة ومعه أكيدر، فلما قدم بأكيدر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صالحه على(14/50)
الجزية، وحقن دمه ودم أخيه، وخلى سبيلها، وكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كتابا فيه أمانهم وما صالحهم، وختمه يومئذ بظفره [ (1) ] .
وذكر ابن الكلبي أن أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، لما قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منع أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ما صالح عليه فأخرج من جزيرة العرب من دومة ولحق الحيرة وابتنى بها بناء وسماه دومة، بدومة الجندل، وفي (كتاب الفتوح) : أن خالد بن الوليد لما خرج إلى دومة الجندل وبها أكيدر هذا والجودي بن ربيعة جمع كثير قال أكيدر: لا أحد فمن نقيه من خالد ولا يرى وجهه أحد إلا انهزم فلا تقاتلوا، فعصوه فتركهم، وخرج فأخذته خيل خالد فقتلته، ثم قتل خالد الجودي وفتح دومة.
__________
[ (1) ] والخبر بتمامه في (سيرة ابن هشام) : 5/ 207- 208، خالد يأسر أكيدر دومة، وفي (دلائل البيهقيّ) : 5/ 250- 253، باب بعث النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، وما ظهر في إخباره صلى اللَّه عليه وسلّم عن وجوده وهو يصيد البقر من آثار النبوة.(14/51)
وأما أكل طائفة من سبع ثمرات غير مرة حتى شبعوا- وهم بتبوك مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وإذا هي لم تنقص
فقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحضر والسفر، فرأينا ليلة ونحن بتبوك، وذهبنا لحاجة، فرجعنا إلى منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟
فأخبرته، فطلع جعال بن سراقة، وعبد اللَّه بن مغفل المزني، وكنا ثلاثة، كلنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت، فطلب شيئا نأكلها فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالا: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا والّذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا [ (1) ] وحمتنا [ (2) ] ، قال: انظر عسى أن تجد شيئا، فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفة فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى اللَّه، وقال: كلوا بسم اللَّه، فأكلنا فأحصيت أربعا وخمسين تمرة أكلتها أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع وشبعنا، وأكل كل واحد منا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعا، قال: فبتنا حول قبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذّن بلال وأقام، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، ثم انصرف إلى فناء قبته، فجلس وجلسنا حوله، فقرأ من المؤمنين عشرا، فقال: هل لكم في الغداء؟
__________
[ (1) ] الجرّب: جمع جراب، وهو معروف.
[ (2) ] الحمت: جمع حميت، وهو النحي أو الزق الّذي يكون فيه السمن.(14/52)
قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر، فوضع يده عليه في الصفحة، ثم قال: كلوا بسم اللَّه، فأكلنا- والّذي بعثه بالحق- حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعا، وإذا التمرات كما هي! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أني أستحيي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد المدينة عن آخرنا، وطلع غليم من أهل البلد، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التمرات بيده فدفعها إليه، فولى الغلام يلوكهن [ (1) ] .
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لذي البجادين أن يحرم اللَّه تعالى دمه على الكفار فمات حتف أنفه مع عزمه على القتل في سبيل اللَّه
فقال الواقدي في (مغازيه) : قالوا: وكان عبد اللَّه ذو البجادين [ (2) ] من مزينة وكان يتيما لا مال له، مات أبوه فلم يورثه شيئا، وكان عمه ميّلا [ (3) ] فأخذه وكفله حتى كان قد أيسر، وكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، كانت نفسه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فتح مكة راجعا إلى المدينة، فقال عبد اللَّه لعمه: يا عم إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدا، فأذن لي في الإسلام، فقال: واللَّه لئن اتبعت محمدا لا أترك بيدك شيئا كنت أعطيتكه إلا نزعته منك حتى ثوبيك، فقال عبد العزى وهو يومئذ اسمه:
وأنا واللَّه متبع محمدا ومسلم، وتارك عبادة الحجر والوثن وهذا ما بيدي فخذه، فأخذ كل ما أعطاه حتى جرده من إزاره، فأتى أمه فقطعت بجادا لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان- جبل بالمدينة- فاضطجع في المسجد في السحر،
ثم صلّى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مغازي الواقديّ) : 3/ 1036- 1037.
[ (2) ] البجاد: الكساء الغليظ الجافي.
[ (3) ] ميلا: ذا مال. 3(14/53)
الصبح، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه، فأنكره، فقال: من أنت؟ فانتسب له فقال: أنت عبد اللَّه ذو البجادين، ثم قال:
انزل مني قريبا.
فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآنا كثيرا، والناس يتجهزون إلى تبوك. وكان رجلا صيتا، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته بالقراءة، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: يا رسول اللَّه! ألا تسمع هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعه يا عمر فإنه خرج مهاجرا إلى اللَّه ورسوله.
قال: فلما خرج إلى تبوك قال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه لي بالشهادة، فقال: أبلغني لحاء سمرة [ (1) ] ، فأبلغه لحاء سمرة، فربطها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عضده وقال: اللَّهمّ إني أحرم دمه على الكفار، فقال: يا رسول اللَّه ليس هذا أردت، قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنك إذا خرجت غازيا في سبيل اللَّه فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، أو وقصتك دابتك فأنت شهيد، لا تبال بأية كان.
فلما نزلوا تبوك أقاموا بها أياما، وتوفى عبد اللَّه ذو البجادين، فكان بلال ابن الحارث يقول: حضرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومع بلال المؤذن شعله من نار عند القبر واقفا بها، وإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القبر، وإذا أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يدليانه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول: أدنيا إليّ أخاكما، فلما هيئاه لشقه، قال: اللَّهمّ إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه،
قال: فقال عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يا ليتني كنت صاحب اللحد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] لحاء سمرة: قشر شجرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1013- 1014.(14/54)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم [بطلوع] وفد عبد القيس [قبل قدومهم]
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من طريق قيس بن حفص الدارميّ، عن طالب بن حجير العبديّ، قال: حدثنا هود بن عبد اللَّه بن سعيد أنه سمع [جده] [ (2) ] مزيدة العصري قال: بينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فتوجه نحوهم فلقى ثلاثة عشر راكبا، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، فقال: فما أقدمكم هذه البلاد؟ أتجارة؟ قالوا: لا، قال: أما إنّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ذكركم آنفا، فقال: خيرا، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الّذي تريدون، فرمي القوم بأنفسهم عن ركائبهم، فمنهم من مشى، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى، حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الأشج في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقبلها، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن فيك خلتين يحبهما اللَّه ورسوله، فقال جبل جبلت عليه أم تخلقا مني؟
قال: بل جبل، قال: الحمد للَّه الّذي جبلني على ما يحب اللَّه ورسوله [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 326- 327، باب وفد عبد القيس وإخباره النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بطلوعهم قبل قد ومهم، وتصويبات العنوان منه.
[ (2) ] من (الأصل) فقط.
[ (3) ] الخلتان كما في رواية مسلم: الحلم والأناة. وسبب وفودهم أن منقذ بن حبان أحد بني غنم ابن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بملاحف ونمر من هجر بعد هجرة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إليها،
فبينا منقذ قاعد إذ مرّ به النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنهض منقذ إليه، فقال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أمنقذ بن حبان؟ كيف جميع هيأتك وقومك؟
ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل، يسميهم بأسمائهم، فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ثم رحل قبل هجر، فكتب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا، فذهب به وكتمه أياما، ثم اطلعت.(14/55)
قال كاتبه: قد خرّج البخاريّ ومسلم حديث وفد عبد القيس بغير هذه السياقة، فخرّجه مسلم [ (1) ] من طريق شعبة، عن أبي جمرة قال: كنت أترجم
__________
[ () ] عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ بن الحارث، والمنذر هو الأشج، سماه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم به لأثر كان في وجهه.
وكان منقذ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يصلي ويقرأ، فأنكرت امرأته ذلك، وذكرت لأبيها المنذر فقالت: أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب، إنه يغسل أطرافة [تعني يتوضأ] ، ويستقبل الجهة [تعني القبلة] ، فيحني ظهره مرة، ويضع جبينه مرة، ذلك ديدنه منذ قدم، فتلاقيا، فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه.
ثم سار الأشج إلى قومه- عصر ومحارب- بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على المسير إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسار الوفد،
فلما دنوا من المدينة قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لجلسائه: أتاكم وفد عبد القيس، خير أهل المشرق، ومنهم الأشجّ العصري غير ناكثين ولا مبدلين ولا مرتابين، إذ لم يسلم قوم حتى وتروا. (شرح النووي) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 300- 302، كتاب الإيمان، باب (6) الأمر بالإيمان باللَّه- تعالى- ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه، حديث رقم (24) .
وفي هذا الحديث وفادة الرؤساء والأشراف إلى الأئمة عند الأمور المهمة، وفيه تقديم الاعتذار بين يدي المسألة، وفيه بيان مهمات الإسلام وأركانه ما سوى الحج، وفيه استعانة العالم في تفهيم الحاضرين، والفهم عنهم ببعض أصحابه كما فعله ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وقد يستدل به على أنه يكفى في الترجمة في الفتوى والخبر قول واحد.
وفيه استحباب قول الرجل لزواره والقادمين عليه: مرحبا ونحوه، والثناء عليهم إيناسا وبسطا.
وفيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه.
وأما استحبابه فيختلف بحسب الأحوال والأشخاص وأما النهي عن المدح في الوجه فهو في حق من يخاف عليه الفتنة بما ذكرناه. وقد مدح النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في مواضع كثيرة في الوجه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: لست منهم، وقال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. وقال له: وأرجو أن تكون منهم، أي من الذين يدعون من أبواب الجنة.(14/56)
بين يدي ابن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر فقال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من الوفد أو من القوم؟
قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى، قال:
فقالوا: يا رسول اللَّه إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وأنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع قال: أمرهم بالإيمان باللَّه وحده وقال: هل تدرون ما الإيمان باللَّه؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمسا من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم، والمزفت،
قال شعبة: وربما قال النقير، قال شعبة:
__________
[ () ] وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: دخلت الجنة فرأيت قصرا، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر ابن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك! فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، أعليك أغار؟ وقال له: ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجّك.
وقال: افتح لعثمان وبشره بالجنة،
وقال لعلى- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنت مني وأنا منك.
وفي الحديث الآخر: أما ترضى أن تكون مني بمنزله هارون من موسى؟.
وقال لبلال: سمعت دقّ نعليك في الجنة،
وقال لعبد اللَّه بن سلام: أنت على الإسلام حتى تموت.
وقال للأنصار: أنتم أم أحبّ الناس إليّ.
ونظائرهم هذا كثيرة في المدح في الوجه.
وأما مدح الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يفتدي بهم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم أجمعين- فأكثر من أن تحصر. واللَّه- تعالى- أعلم.
وفي حديث الباب من الفوائد: أنه لا عتب على طالب العلم والمستفتي إذا قال للعالم:
أوضح لي الجواب، ونحو هذه العبارة. وفيه أنه لا بأس بقول: رمضان، من غير ذكر الشهر، وفيه جواز قول الإنسان لمسلم: جعلني اللَّه فداك.
فهذه أطراف مما يتعلق بهذا الحديث، وهي وإن كانت طويلة فهي مختصرة بالنسبة إلى طالبي التحقيق، واللَّه- تعالى- أعلم، وله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة. (شرح النووي) مختصرا.(14/57)
وربما قال: المقير، وقال: احفظوه وأخبروا به من وراءكم، وقال أبو بكر:
يعني ابن أبي شيبة في روايته من وراءكم وليس في روايته المقير.
وخرّجه البخاري وفي روايته: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال: إن وفد عبد القيس، لم يذكر المرأة، وقال: غير حزايا ولا ندامي، وقال: في شهر حرام وقال: تعطوا الخمس من المغنم وقال: وأخبروه من وراءكم، ذكره في كتاب العلم [ (1) ] ، وفي كتاب الإيمان [ (2) ] ، وفي إجازة خبر الواحد الصدوق بألفاظ متقاربة.
وأخرجاه من حديث قرة بن خالد، عن أبي حمزة، ومن حديث حماد بن يزيد، وعباد بن عباد، عن أبي جمرة.
وأخرجه البخاريّ في كتاب الأدب [ (3) ] من حديث أبي التياح، عن أبي جمرة، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم [ (4) ] من حديث سعيد، عن قتادة، عن أبي سعيد الخدريّ.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 243- 244، كتاب العلم، باب (25) تحريض النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم، حديث رقم (87) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 172، كتاب الإيمان، باب (40) أداء الخمس من الإيمان، حديث رقم (53) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 10/ 688، كتاب الأدب، باب (98) قول الرجل: «مرحبا» ،
وقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة: مرحبا يا بنتي،
وقالت أم هانئ: جئت النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: مرحبا بأم هانئ، حديث رقم (6176) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 307، كتاب الإيمان، باب (6) الأمر بالإيمان باللَّه- تعالى- ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وشرائع الدين، والدعاء إليه، والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه، حديث رقم (27) .(14/58)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عديّ بن حاتم بأمور فرآها عديّ بعد ذلك كما أخبر
فخرّج البخاريّ في باب علامات النبوة في الإسلام [ (1) ] من حديث إسرائيل، عن سعد الطائي، عن محل بن خليفة، عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا اللَّه، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيِّئ الذين الذين قد سعروا البلاد؟ ولئن طالت بك الحياة لتفتحن كنوز كسرى قال: كسرى بن هرمز! ولئن: طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين اللَّه أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبين ترجمان يترجم له، فيقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟
فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة،
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللَّه، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما
قال النبي أبو القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم: يخرج الرجل ملء كفه.
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث شعبة قال: سمعت سماك بن حرب قال:
سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 757- 758، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3595) ، وقال في عقبه: حدثني عبد اللَّه، حدثنا أبو عاصم أخبرنا سعدان بن بشر حدثنا أبو مجاهد حدثنا محلّ بن خليفة، سمعت عديا: «كنت عند النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 511- 512، حديث رقم (18891) ، من حديث عدي بن حاتم.(14/59)
صلّى اللَّه عليه وسلّم- أو قال: رسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وأنا بعقرب، فأخذوا عمتي وناسا، قال: فلما أتوا بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فصفوا له، قلت: يا رسول اللَّه نأى الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بى من خدمة، فمنّ عليّ منّ اللَّه عليك.
قال: من وافدك؟ قالت: عديّ بن حاتم الّذي فر من اللَّه ورسوله، قالت: فمنّ عليّ! قالت: فلما رجع ورجل إلى جنبه نرى أنه علي قال: سليه حملانا، قال: فسألته، فأمر لها، قالت فأتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها.
قالت: ائته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال فأتيته، فإذا عنده امرأة وصبيان- أو صبيّ- فذكر قربهم من النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر، فقال له: يا عدي بن حاتم! ما أفرك أن يقال: لا إله إلا اللَّه؟ فهل من إله إلا اللَّه؟ ما أفرك أن يقال: اللَّه أكبر؟ فهل شيء هو أكبر من اللَّه عزّ وجلّ؟ قال: فأسلمت فرأيت وجهه استبشر وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى.
ثم سألوه فحمد اللَّه- تعالى- وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل، ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة، قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: بتمرة، بشق تمرة، وإن أحدكم لا في اللَّه- عزّ وجلّ- فقائل ما أقول: ألم أجعلك سميعا بصيرا؟ ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فماذا قدمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئا، فما يتقى النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوه فبكلمة لينة، إني لا أخشى عليكم الفاقة، لينصركم اللَّه- تعالى- وليعطينكم أو ليفتحن لكم حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب أو أكثر، ما تخاف السرق على ظعينتها. [قال محمد بن جعفر: حدثناه شعبة ما لا أحصيه وقرأته عليه] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المسند) .(14/60)
وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم بقدوم أهل اليمن
فخرّج البخاريّ من حديث شعيب أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية [ (1) ] .
وخرّج مسلم من حديث حماد قال: حدثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمنية [ (2) ] .
ومن حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد قالها أبي عن صالح، عن الأعرج قال: قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية [ (3) ] .
ومن حديث أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهريّ قال: حدثني سعيد ابن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وأضعف قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين، أهل الوبر قبل مطلع الشمس [ (4) ] .
والبخاريّ ومسلم من حديث ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 9/ 347، حديث رقم (6984) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 389، كتاب الإيمان، باب (21) تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، حديث رقم (82) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (84) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (89) .
[ (5) ] (جامع الأصول) : 6/ 347، حديث رقم (6984) ، ونسبه إلى البخاريّ ومسلم والترمذي.(14/61)
وخرّج مسلم من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا، وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، رأس الكفر في المشرق [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 393، كتاب الإيمان، باب (21) تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه، حديث رقم (90) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألين قلوبا وأرق أفئدة،
المشهور أن الفؤاد هو القلب، فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب بلفظين، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد. وقيل: الفؤاد غير القلب وهو عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب.
وأما وصفها باللين والرقة والضعف، فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة، والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين.
قال:
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: في الفدادين،
فزعم أبو عمر الشيبانيّ أنه بتخفيف الدال، وهو جمع فداد بتشديد الدال، وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها، حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه، وعلى هذا المراد بذلك أصحابها، فحذف المضاف، والصواب في الفدادين بتشديد الدال، جمع فداد بدالين أولاهما مشددة، وهذا قول أهل الحديث والأصمعيّ وجمهور أهل اللغة، وهو من الفديد، وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: هم المكثرون من الإبل الذين يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف، وقوله: إنّ القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، معناه: الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: الفخر والخيلاء،
فالفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما، والخيلاء الكبر واحتقار الناس.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: في أهل الخيل والإبل
الفدادين أهل الوبر، فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل، فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: والسكينة في أهل الغنم،
فالسكينة، الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكره من صفة الفدادين، هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو رحمه اللَّه، وفيه كفاية فلا نطول بزيادة عليه. واللَّه- تعالى- أعلم. (شرح النووي) .(14/62)
ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسير له، فقال: يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خير من في الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول اللَّه؟ فقال كلمة ضعيفة: إلا أنتم [ (1) ] .
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسندة من حديث ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن إلى آخره بمعناه.
وللطبراني في كتاب (الأوائل) من حديث علي بن عثمان اللاحقي حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا، وهم أول من جاء بالمصافحة.
__________
[ (1) ] (المصنف) : 6/ 410، كتاب الفضائل، باب (58) ما جاء في اليمن وفضلها، حديث رقم (32426) .(14/63)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في قدوم معاوية بن حيدة بن معاوية بن حيدة ابن قشير بن كعب القشيري [ (1) ]
فخرّج البيهقيّ من طريق داود الوراق، عن سعد بن حكيم، عن أبيه، عن جده معاوية بن حيدة القشيري، قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما دفعت إليه قال أما إني سألت اللَّه- عز وجل- أن يعينني عليكم بالسّنة نحفيكم [ (2) ] ، وبالرعب أن يجعله في قلوبكم قال: فقال بيديه جميعا، أما إني قد خلقت هذا وهكذا أن لا أومن بك ولا أتبعك فما زالت السنة تحفيني، وما زال الرعب يجعل في قلبي حتى قمت بين يديك، أفبالله الّذي أرسلك بما تقول؟ قال: نعم، قال:
وهو أمرني بما تأمر؟ قال: نعم، قال: فما تقول في نسائنا؟ قال: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ (3) ] ، وأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، ولا تضربون، ولا تقبحون، قال: أفينظر أحدنا إلى عورة أخيه إذا اجتمعنا؟ قال: لا، قال: فإذا تفرقا، قال: فضم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إحدى فخذيه على الأخرى، ثم قال: اللَّه أحق أن تستحيوا، قال: وسمعته يقول: يحشر الناس يوم القيامة عليهم الفدام [ (4) ] ، وأول ما ينطق من [ (5) ] الإنسان كفه وفخذه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] ترجمته في (الإصابة) : 6/ 149- 150، ترجمة رقم (8071) .
[ (2) ] تحفيكم: تستأصلكم.
[ (3) ] البقرة: 223.
[ (4) ] الفدام: ما يشد على فم الإبريق والكوز، والمراد: يمنعون من الكلام حتى تتكلم جوارحهم.
[ (5) ] في (الأصل) : «عن» .
[ (6) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 378- 379، باب ما قدم معاوية بن حيدة القشيريّ ودخوله على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإجابة اللَّه- عزّ وجلّ- دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ألجأه إلى القدوم عليه وفيه:
«تأكلوا» ، «تلبسوا» ، «تضربوهم» ، «تقبحوهم» .(14/64)
وأما شهادة الأساقفة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه وامتناع من أراد ملاعنته من ذلك
فقال يونس عن إسحاق: وفد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفد نصارى نجران بالمدينة، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما قدم وفد نجران على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن السلماني، عن كرز بن علقمة قال: قد قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفد نصارى نجران [ (1) ] ستون راكبا، منهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و [في الأربعة عشر] منهم [ثلاثة] نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذين لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح والسيد لهم، ثمالهم [ (2) ] وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم [ (3) ] .
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن عمله في دينهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من عمله واجتهاده في دينهم.
فلما رجعوا [ (4) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نجران جلس أبو حارثة على بغله له موجها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة حتى إذا
__________
[ (1) ] نجران: عرفت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وأما أهلها فهم: بنو الحارث ابن كعب من مذحج.
[ (2) ] ثمال القوم: من يرجعون إليه ويقوم بأمرهم، وقد قيل في النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
[ (3) ] المدارس: المكان الّذي يدرسون فيه كتبهم، كذلك من يدرس لهم.
[ (4) ] في (الأصل) : «وجهوا» .(14/65)
عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز [ (1) ] : تعس الآبعد: يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له أبو حارثة: وأنت تعست! فقال له: ولم يا أخى؟ فقال: واللَّه إنه للنبيّ الّذي كنا ننتظر، قال له كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كما ترى، فأضمر علينا منه أخوه كرز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك. [فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني] [ (2) ] .
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قال:
اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل اللَّه- عز وجل- فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ (3) ]
فقال أبو رافع القرظي حين اجتمع عنده النصارى والأحبار: فدعاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام، [قالوا] أتريد منايا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: وذلك تريد يا محمد، وإليه تدعو؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معاذ اللَّه أعبد غير اللَّه أو آمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني ولا أمرني،
فأنزل اللَّه- عز وجل- في ذلك قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ (4) ] ،
__________
[ (1) ] في (ابن هشام) : «كوز» .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (ابن هشام) .
[ (3) ] آل عمران: 65- 68.
[ (4) ] آل عمران: 79- 80.(14/66)
ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم وإقرارهم به على أنفسهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
حدثني محمد بن أبي أمامه قال: لما وقد أهل نجران على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسألونه عن عيسى ابن مريم- عليه السلام- نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يشوع، عن أبيه، عن جده، قال يونس- وكان نصرانيا فأسلم-: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب إلى أهل نجران قبل أن تنزل عليه: طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ [ (2) ] باسم إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول اللَّه إلى أسقف نجران وأهل نجران: إن أسلمتم، فإنّي أحمد إليكم اللَّه، إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللَّه من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية اللَّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أذنتكم بحرب آذنتكم.
والسلام.
فلما أتى الأسفل الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم، ولا السيد، ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى شرحبيل فقرأه، فقال للأسقف: يا أبا مريم! ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللَّه إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما يؤمن من أن يكون هذا هو ذلك الرجل، ليس لي في النبوة رأي،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 384- 385، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] النمل: 1- 2، وقد في هذه الرواية هذا، وقال: قبل أن ينزل علي. طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك، (زاد المعاد لابن القيم) .(14/67)
لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، وجهدت لك، فقال له الأسقف:
تنحّ فاجلس، فتنحّى شرحبيل فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد اللَّه بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه، فقال مثل قول شرحبيل وعبد اللَّه، فأمره الأسقف فتنحى، فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد اللَّه، فأمره الأسقف فتنحى، فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جمعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية ومائة وعشرون ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمدانيّ، وعبد اللَّه بن شرحبيل الأصبحي، وحبار بن فيض الحارثي، فيأتونهم بخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحال والخواتيم الذهب، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وكانا معرفة لهم، كانا يجدعان العتائر إلى نجران في الجاهلية فيشتري لهما من بزّها وتمرها وذرتها، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس
فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن! إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما؟ أنعود أم نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو في القوم-: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودون إليه، ففعل وفد نجران ذلك فوضعوا حللهم(14/68)
وخواتيمهم، ثم عادوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلموا فرد سلامهم، ثم قال: والّذي بعثني بالحق لقد آتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم.
ثم ساءلهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما نقول فيه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركما بما يقال في عيسى.
فأصبح الغد، وقد أنزل اللَّه- تعالى- هذه الآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [ (1) ] .
فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشى عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: يا عبد اللَّه بن شرحبيل ويا جبار بن فيض قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني واللَّه أرى أمرا مقبلا، إن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعن في عينه، ورد عليه أمره، لا يذهب لنا من صدر ولا من صدور قومه حتى يصيبونا بجائحة وإنا لأدنى العرب منهم جوارا، وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع، فهات رأيك، فقال: رأيي أن أحكمه فإنّي أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له: إذا أنت وذاك.
فتلقى شرحبيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، فقال: وما هو؟ قال شرحبيل: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلي الصباح فمهما حكمت فينا جائز، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لعل وراءك أحد يثرّب عليك، فقال شرحبيل: سل صاحبيّ، فسألهما، فقالا له: ما يرد الوادي أحد منا ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كافر، أو قال: جاحد موفق.
__________
[ (1) ] آل عمران: 59- 61.(14/69)
فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يلاعنهم [ (1) ] حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي رسول اللَّه لنجران إذا كان عليهم حكمة في كل ثمرة، وكل صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة، حلل الأواقى في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر، ألف حلة لكل حلة أوقية من الفضة فما زادت الخراج أو نقصت على حال الأواقى فبالحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين فدونه ولا يحبسنّ رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، إذا كان كيد ومعرة وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار اللَّه وذمة محمد النبي على أنفسهم، وملتهم، وأراضيهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا ملتهم، ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقها من وقيهاه، وكل ما ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم دنية، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أراضيهم جيش، ومن سأل فيهم حقا فبينهم النّصف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار اللَّه وذمة محمد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أبدا حتى يأتي اللَّه بأمره، وما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.
شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظليّ، والمغيرة [ (2) ] ، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة من نجران، ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر
__________
[ (1) ] كذا (بالأصل) ، وفي (الدلائل) : «فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلاعنهم» .
[ (2) ] زاد ابن سعد: «وعامر مولى أبي بكر، وفي (الخراج) لأبي يوسف: أن الّذي كتب لهم هذا الكتاب: عبد اللَّه بن أبي بكر، وفي (الأموال) لأبي عبيد: شهد بذلك عثمان بن عفان ومعيقب.(14/70)
ابن معاوية وكنيته: أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الأسقف فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعّس بشر غير أنه لا يكنى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال له الأسقف، عند ذلك: قد واللَّه تعست نبيا مرسلا، فقال بشر: لا جرم واللَّه لا أحل عنها عقدا حتى آتية، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثني الأسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عني، إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو نصرته بضربة أو بخعنا لهذا الرجل بما لم تبخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له بشر: واللَّه ما أقبل ما خرج من رأسك أبدا فضرب بشر ناقته وهو مولّي الأسقف ظهره وهو يقول فيه شعرا.
حتى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم ولم يزل مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك. ودخل وفد نجران فأتى الراهب ليث بن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعة، فقال له: إن نبيا بعث بتهامة، وأنه كتب إلى الأسقف، فأجمع رأي أهل الوادي على أن يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة، وعبد اللَّه بن شرحبيل، وحبّار بن فيض فيأتونهم بخبره، فساروا حتى أتوا النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعاهم إلى الملاعنة، فكرهوا ملاعنته، وحكّمه شرحبيل فحكم عليهم حكما وكتب لهم به كتابا، ثم أقبل الوفد بالكتاب حتى دفعوه إلى الأسقف، فبينما الأسقف يقرؤه وبشر معه إذ كبت ببشر ناقته فتعّسه، فشهد الأسقف له أنه نبيّ مرسل، فانصرف أبو علقمة نحوه يريد الإسلام، فقال الراهب: أنزلوني وإلا رميت نفسي من هذه الصومعة، فأنزلوه، فانطلق الراهب بهدية إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معها هذا البرد الّذي يلبسه الخلفاء، والقعب، والعصا، وأقام الراهب بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحي، والسنن، والفرائض، والحدود، وأبي اللَّه للراهب الإسلام فلم يسلم،
واستأذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الرجعة إلى قومه فأذن له وقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا راهب لك حاجتك إذا أبيت الإسلام، فقال له الراهب: إن لي حاجة ومعاذ اللَّه إن شاء اللَّه، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن حاجتك واجبة يا راهب فاطلبها إذا كان أحبّ إليك، فرجع إلى قومه فلم يعد حتى قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وأن الأسقف أبا الحارث أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل اللَّه- عزّ وجلّ- عليه، فكتب للأسقف هذا الكتاب ولأساقفة نجران: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وكل أساقفة نجران، وكنهتهم، ورهبانهم، وبيعهم، وأهل(14/71)
بيعهم، ورقيقهم، وملتهم، ومتواطئهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، جوار اللَّه ورسوله، ولا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه، على ذلك جوار اللَّه ورسوله أبدا ما نصحوا للَّه أو أصلحوا غير مثقلين بظلم ولا ظالمين،
وكتب المغيرة بن شعبة.
فلما قبض الأسقف الكتاب استأذن في الانصراف إلى قومه ومن معه، فأذن لهم، فانصرفوا حتى قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] قال: وقد تقدم حديث يونس بن بكير في ذكر الكتب النبويّة.
قال كاتبه قد وقع في (صحيحي البخاريّ ومسلم) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريدان أن يلاعناه، فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو اللَّه إن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمة [ (2) ] .
ولهما من طريق شعبة [ (3) ] قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء أهل نجران إلى رسول
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 5/ 385- 391.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 117، كتاب المغازي، باب (73) قصة أهل نجران، حديث رقم (4380) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4381) قوله: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران «أما السيد فكان اسمه الأيهم بتحتانية ساكنة، ويقال: شرحبيل، وكان صاحب رحالهم ومجتمعهم ورئيسهم في ذلك وأما العاقب فاسمه عبد المسيح، وكان صاحب شورتهم، وكان معهم أيضا أبو الحارث ابن علقمة أسقفهم، وحبرهم، وصاحب مدارسهم.
قال ابن سعد: دعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام. وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم.
فانصرفوا على ذلك.(14/72)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: ابعث إلينا رجلا أمينا، فقال لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين قال فاستشرف له الناس، قال: فبعث أبو عبيدة بن الجراح، قال البخاريّ:
حق أمين مرة واحدة.
وخرجه مسلم من حديث سفيان عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحوه، واللَّه- سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب.
__________
[ () ] وفي قصة أهل نجران من الفوائد: أن إقرار الكافر بالنّبوّة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام. وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته. وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعيّ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل مبطلا لا تمضى عليه من يوم المباهلة. ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين.
وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المالي، ويجرى ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فإن كلا منها مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام.
وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام. وفيها منقبة ظاهرة لأبى عبيدة بن الجرام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيهم، هذه القصة فير قصة أبي عبيدة، لأن أبا عبيدة توجه لهم فقبض مال الصلح ورجع، وعليّ أرسله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم وجب عليه من الصدقة واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) .
وأخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 5/ 392، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وكذلك رواه ابن هشام في (السيرة) ، وان سعد في (الطبقات) .(14/73)
وأما تيقن عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رسالته
فخرج الحاكم [ (1) ] من حديث هوذة بن خليفة حدثنا عوف بن أبي جميلة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن عبد اللَّه بن سلام- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما ورد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة انجفل الناس إليه وقيل: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وجئت في الناس لأنظر فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء سمعته يتكلم أن قال: يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. [ولم يخرجاه] .
وخرّج البخاريّ من حديث عبد اللَّه بن منبر [سمع عبد اللَّه بن بكر] حدثنا حميد بن أنس قال سمع: عبد اللَّه بن سلام- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بمقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمن إلا نبي فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفا، قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذلك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ (2) ] أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أنك رسول اللَّه.
يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أي رجل عبد اللَّه بن سلام فيكم؟ قالوا:
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 14، كتاب الهجرة، حديث رقم (4283) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاريّ ومسلم.
[ (2) ] البقرة: 97.(14/74)
خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه بن سلام فقالوا: أعاذه اللَّه من ذلك فخرج عبد اللَّه فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، قالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: فهذا الّذي كنت أخاف يا رسول اللَّه. في ذكره في التفسير [ (1) ] .
وذكره في المناقب من طريق بشر بن المفضل حدثنا حميد عن أنس إلى آخره بنحوه ولم يقل فيه: وهو في أرض يخترف، ولم يقل فيه: فقرأ هذه الآية، وقال فيه: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه بن سلام؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا: مثل ذلك فخرج إليهم عبد اللَّه، الحديث إلى آخره [ (2) ] .
وذكره في أول كتاب الأنبياء من حديث الفزاري، عن حميد، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بلغ عبد اللَّه بن سلام مقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكلها أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله، الحديث.
وقال فيه: فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه به، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، وفيه جاءت اليهود، ودخل عبد اللَّه البيت فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أي رجل فيكم عبد اللَّه؟
قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا، الحديث إلى قوله: شرنا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 209، كتاب التفسير، باب (6) قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.
حكى الثعلبي عن ابن عباس أن سبب عداوة اليهود لجبريل- عليه السلام- أن نبيهم أخبرهم أن بخت نصّر سيخرب بيت المقدس، فبعثوا رجلا ليقتله، فوجده شابا ضعيفا، فمنعه جبريل من قتله وقال له: إن كان اللَّه أراد هلاككم على يده فلن تسلط عليه، وإن كان غيره فعلى أي حق تقتله؟ فتركه، فكبر بختنصر وغزا بيت المقدس فقتلهم وخربه، فصاروا يكرهون جبريل لذلك. (فتح الباري) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 346- 347، كتاب مناقب الأنصار، باب (51) بدون ترجمة.
حديث رقم (3938) .(14/75)
وابن شرنا، ووقعوا فيه [ (1) ] . ولم يزد على هذا ولم يقل فيه: فقرأ هذه الآية:
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.
وذكر البيهقيّ [ (2) ] من طريق يونس بن بكير، عن أبي معشر المدني، عن سعيد المقبري قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتى قباء أمر مناديه فنادى بالصلاة، فذكر الحديث في مجيء عبد اللَّه بن سلام وجلوسه عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورجوعه إلى عمته فقالت له: يا ابن أخي لم احتبست؟ فقال: يا عمة كنت عند رسول اللَّه فقالت: عند موسى بن عمران؟ فقال لم أكن عند موسى بن عمران، فقالت: عند النبي الّذي يبعث قبيل قيام الساعة! قال:
نعم، من عنده جئت، فرجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسأله عن ثلاث، فذكر الحديث الأول إلا أنه سأله عن السواد الّذي في القمر بدل أول أشراط الساعة،
قال:
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أول نزل ينزله، قال أهل الجنة بلام ونون، فقال: ما بلام ونون؟ فقال: ثور وحوت يأكل من زائدة كبد، أحدهما سبعون ألفا، ثم يقومان يزفنان لأهل الجنة، وأما الشبه فأي النطفتين سبقت إلى الرحم من الرجل أو المرأة فالولد به أشبه.
وأما السواد الّذي في القمر فإنه ما كان شمسين فقال اللَّه- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [ (3) ] ، والسواد الّذي رأيت هو المحو فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، فقال عبد اللَّه بن سلام:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه.
ثم ذكر الحديث في قصة اليهود الذين دخلوا عليه وسألهم عن عبد اللَّه وما أجابوا به، وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في آخره: أجزنا الشهادة الأولى وأما هذه فلا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 446- 447، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (1) خلق آدم وذريته، حديث رقم (3329) ، وفي (الأصل) : «أخيرنا وابن أخيرنا» وما أثبتناه من (البخاريّ) .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 261- 262، باب مسائل عبد اللَّه بن سلام- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وإسلامه حين عرف صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في رسالته.
[ (3) ] الإسراء: 12.(14/76)
وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق صفوان بن عمرو قال: حدثني عبد الرحمن ابن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه يحط اللَّه عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الّذي غضب عليهم قال: فأسكتوا، ما أجابه أحد منهم، ثم ردّ عليهم فلم يجبه منهم أحد، فقال: أبيتم! فو اللَّه لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبيّ المصطفى، أبيتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفنا يقول: كما أنت يا محمد، فقال ذلك الرجل: أي رجل أعلم بكتاب اللَّه منك ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإنّي أشهد له باللَّه أنه نبي اللَّه الّذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، ثم ردوا عليه قوله وقالوا فيه شرا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبتم لن يقبل قولكم أما آنفا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذا آمن فكذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن نقبل قولكم، قال: فخرجنا ونحن ثلاثة:
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعبد اللَّه بن سلام، وأنا، وأنزل اللَّه- تعالى- فيه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ الآية [ (2) ] .
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه انما اتفقا على حديث حميد، عن أنس أي رجل عبد اللَّه بن سلام فيكم مختصرا.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 415، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عبد اللَّه بن سلام الإسرائيلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حديث رقم (5756) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاريّ ومسلم، وإنما اتفقا على حديث حميد عن أنس.
[ (2) ] الأحقاف: 10.(14/77)
وأما معرفة الحبر من أحبار اليهود بإصابة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في جوابه عما سأله وصدقه في نبوته
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث الربيع بن نافع، قال: حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام قال: حدثني أبو أسماء الرحبيّ أن ثوبان مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدثه قال: كنت قائما عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد! فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول اللَّه؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الّذي سماه به أهله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اسمي محمد الّذي سماني به أهلي، فقال اليهودي: جئتك أسالك؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، فنكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعود معه فقال:
سل؟ فقال اليهودي: أين يكون الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ (2) ] ؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال: اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال:
ينحر لهم ثور الجنة الّذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟
قال: من عين فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [ (3) ] ، قال: صدقت، قال:
وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، قال: جئت اسألك عن الولد؟ قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا [ (4) ] بإذن اللَّه، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا [ (5) ]
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 230- 232، كتاب الحيض، باب (8) بيان صفة مني الرجل والمرأة، وأن الولد مخلوق من مائهما، حديث رقم (315) .
[ (2) ] إبراهيم: 48.
[ (3) ] الإنسان: 18.
[ (4) ] أنجبا ذكرا.
[ (5) ] أنجبا أنثى.(14/78)
بإذن اللَّه، فقال اليهودي: لقد صدقت، إنك لنبيّ، ثم انصرف فذهب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد سألني هذا عن الّذي سألني وما لي علم بشيء منه حتى أتاني اللَّه به، واللَّه- تعالى- أعلم.
وخرّجه من حديث يحيى بن حسان قال معاوية بن سلام في هذا الإسناد بمثله، غير أنه قال: كنت قاعدا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: زائده كبد الحوت، وقال أذكر وآنث ولم يقل أذكرا وأنثا [ (1) ] .
وخرّجه النسائي من حديث مروان بن محمد، قال معاوية بن سلام: قال:
أخبرني أخي أنه سمع جده أبا سلام يقول: حدثني أبو أسماء الرحبيّ، عن ثوبان قال: كنت قاعدا ... الحديث، وفيه: زيادة كبد الحوت وفيه: من أين يكون شبه الولد؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر.
وخرّجه الحاكم من حديث ابن أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام به نحوه، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرّج البيهقيّ من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني المختار بن أبي المختار، عن أبي ظبيان قال: حدثنا أصحابنا أنهم بيناهم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر لهم، فاعترضهم يهودي جعد أحمر متلفف بطيلسان، فقال: فيكم أبو القاسم؟ فيكم محمد؟ فقلنا: إياك، فلما انتهى إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: يا أبا القاسم، إني سائلك عن مسألة لا يعلمها إلا نبي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سأل عما شئت، فقال: من أي الفحلين يكون الولد فصمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لوددنا أنه لم يسأله، ثم عرفنا أنه قد بين له فقال: من كل يكون، فقال: ما من ماء الرجل؟ وما من ماء المرأة؟ فصمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لوددنا أنه لم يسأله، ثم عرفنا أنه قد بين له، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما نطفة الرجل فبيضاء غليطة، فمنها العظام والعصب وأما نطفة المرأة فحمراء رقيقة فمنها اللحم والدم. فقال: اشهد إنك رسول اللَّه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث رقم (315) بدون رقم.
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 264- 265، باب مسائل الحبر ومعرفته إصابة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في جواب مسألته وصدقه في نبوته. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 55، حديث رقم (4424) من مسند عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(14/79)
وأما معرفة عصابة من اليهود إصابة مقالته صلى اللَّه عليه وسلم
فخرّج أبو داود الطيالسي من حديث عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب قال: حدثني ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: حضرت عصابة من اليهود يوما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللَّه! حدثنا عن خلال نسألك عنهما لا يعلمها إلا نبي، قال: سلوا عم شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة اللَّه، وما أخذ يعقوب على بنيه، إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتبايعني على الإسلام، قالوا: لك ذلك، قال: فسلوني عما شئتم، قالوا:
أخبرنا عن أربع خلال نسألك: أخبرنا عن الطعام الّذي حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [ (1) ] ، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى تكون الأنثى؟ وأخبرنا كيف هذا الشيء في النوم؟ ومن وليّك من الملائكة؟.
قال: فعليكم عهد اللَّه لئن أنا حدثتكم لتبايعني، فأعطوه ما شاء اللَّه من عهد وميثاق. قال: أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، تعلمون أن إسرائيل- يعقوب- مرض مرضا شديدا طال سقمه، فنذر للَّه نذرا: لئن شفاه اللَّه من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل؟ قالوا اللَّهمّ نعم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اشهد عليهم، قال: أنشدكم باللَّه الّذي لا إله إلا هو الّذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا، كان له الولد والشبه بإذن اللَّه، وإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن اللَّه، إن علا ماء المرأة ماء الرجل كانت أنثى بأذن اللَّه؟ قالوا: اللَّهمّ: نعم!.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد عليهم، قال: أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا:
__________
[ (1) ] آل عمران: 93.(14/80)
اللَّهمّ نعم! قال: اللَّهمّ اشهد عليهم، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليّك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك.
قال: وليّي جبريل، ولم يبعث اللَّه نبيا قط إلا وهو وليّه، قالوا: فعندها نفارقك لو كان وليّك غيره من الملائكة لتابعناك وصدقناك، قال فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة، فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ-: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ... [ (1) ] ، ونزلت: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 97.
[ (2) ] البقرة: 90.
والخبر أخرجه البيهقيّ في (دلائل النبوة) : 6/ 266- 267، باب ما جاء في مسائل عصابة من اليهود، ومعرفة إصابته صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما قال.(14/81)
وأما معرفة اليهوديّين صدقه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نبوته
فخرّج البيهقيّ من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة [بن الحجاج] ، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللَّه بن سلمة، عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله، فقال الآخر: لا تقل نبي فإنه إن سمعك تقول: نبي كانت له أربعة أعين، فانطلقا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسألاه عن قول اللَّه- عز وجل- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [ (1) ] ، قال: لا تشركوا باللَّه شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تفروا يوم الزحف، ولا تقذفوا محصنة- شك شعبة- وعليكم خاصة اليهود- أن لا تعدوا في السبت.
فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما قالا: إن داود سأل ربه أن لا يزال في ذريته نبيّ، ونحن نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود.
__________
[ (1) ] الإسراء: 101.(14/82)
وأما اعتراف اليهود بنبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاءوه يسألوه عن حد الزاني وشهادة ابن صوريا على يهود
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث محمد بن مقاتل المروزيّ قال: حدثنا عبد اللَّه ابن المبارك حدثنا معمر عن الزهري قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب وعند سعيد رجل وهو يوقره، فإذا هو رجل من مزينة وكان أبوه شهد الحديبيّة، وكان من أصحاب أبي هريرة، قال: قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كنت جالسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاء نفر من يهود وقد زنا رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا حدا دون الرجم فعلناه، واحتججنا عند اللَّه حين نلقاه بتصديق نبيّ من أنبيائك! قال مرّة عن الزهري: وإن أمرنا بالرجم عصيناه، فقد عصينا اللَّه فيما كتب علينا من الرجم في التوراة، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل منا زنا بعد ما أحصن؟ فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يرجع إليهم شيئا، وقام معه رجلان من المسلمين حتى أتوا بيت مدراس اليهود، فوجدهم يتدارسون التوراة، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معشر اليهود أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: نجبه، والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولون ظهر أحدهما ظهر الآخر، قال:
فسكت حبرهم وهو فتى شاب، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صامتا ألظ النشدة، فقال حبرهم: أما إذ نشدتهم فإنا نجد في التوراة الرجم على من أحصن، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: فما أول من ترخصتم أمر اللَّه؟ فقال: زنا رجل منا ذو قرابه بملك من
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 268، باب ما جاء في مسائل اليهوديّين ومعرفتهما بصدق النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في نبوته.
وأخرجه الترمذيّ في (السنن) : كتاب الاستئذان، باب ما جاء في قبلة اليد والرجل، رقم (2733) ، وأعاده في تفسير سورة الإسراء عن محمود بن غيلان، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأدب عن أبي بكر بن أبي شيبة، ونقله ابن كثير في (البداية والنهاية) عن الإمام أحمد.(14/83)
ملوكنا فأخر عنه الرجم، فزنى بعده آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك أن يرجمه، فقام قومه دونه فقالوا: لا واللَّه لا ترجمه حتى يرجم فلان ابن عمه فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإنّي أحكم بما في التوراة، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهما فرجما.
قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [ (1) ] .
ومن طريق يونس بن بكير عن إسحاق قال: حدثني الزهريّ، قال:
سمعت رجلا من مزينة يحدث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثهم فذكر معنى هذا الحديث يزيد وينقص، فمما زاد أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لابن صوريا: أنشدك باللَّه وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أن اللَّه حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللَّهمّ نعم، أما واللَّه يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك.
فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأمر بهما فرجما عند باب مسجد بني غنم بن مالك ابن النجار، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا،
فأنزل اللَّه- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [ (2) ] يعني الذين لم يأتوه، تغيبوا وتخلفوا وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ للتجبية وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [ (3) ] إلى آخر القصة [ (4) ] .
قال كاتبه: قد وقعت هذه القصة من رواية البخاريّ، ومسلم، وأبي داود، والنسائيّ، واختلفوا في سياقها.
__________
[ (1) ] المائدة: 44.
[ (2) ] المائدة: 41.
[ (3) ] المائدة: 41.
[ (4) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 269- 271، باب رجوعهم إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في عقوبة الزاني، وما ظهر من ذلك من كتمانهم ما أنزل اللَّه- تعالى- في التوراة من حكمه، وصفة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(14/84)
فخرّج البخاريّ [ (1) ] ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث مالك عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد اللَّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجما، فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
وهذه سياقة البخاري في باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام [ (2) ] .
وخرّجه أيضا في كتاب المناقب [ (3) ] ، وذكره النسائي في الحدود [ (4) ] ، وخرّجه مسلم من حديث عبيد اللَّه، عن نافع أن عبد اللَّه بن عمر أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتي بيهوديّ ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاء يهود فقال:
ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا: تسود وجوههما ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فجاءوا بها، فقرءوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الّذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد اللَّه بن سلام وهو مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مرة فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 203، كتاب الحدود، باب (37) أحكام أهل الذمة وإحصائهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، حديث رقم (6841) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 782، كتاب المناقب، باب (26) قول اللَّه- تعالى- يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] ، حديث رقم (3635) .
[ (4) ] لم أجده في (السنن) ، ولعله في (الكبرى) ، ولكن نسبه المنذريّ إلى النسائيّ.(14/85)
آية الرجم فأمر بهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجما، قال عبد اللَّه بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه [ (1) ] .
وأخرجاه أيضا من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، فخرجه البخاريّ في آخر كتاب التوحيد [ (2) ] ، وأخرجاه من حديث موسى بن عقبة، عن نافع عن بن عمر [ (3) ] ، وخرّجه البخاري في الحدود من حديث سليمان: حدثني عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر سياقة مختصرة [ (4) ] .
وخرّج مسلم [ (5) ] وأبو داود [ (6) ] والنسائي من حديث معاوية، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مر عليّ النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بيهوديّ محمم مجلو، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا:
نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: اللَّهمّ لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجد حدّ الزاني في كتابنا: الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الرجل الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 220- 221، كتاب الحدود، باب (6) رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث رقم (26) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 631، كتاب التوحيد، باب (51) ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب اللَّه بالعربية وغيرها لقول اللَّه- تعالى- قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، حديث رقم (7543) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 221، كتاب الحدود، باب (6) رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث بدون رقم بين (27) ، (28) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 12/ 153- 154، كتاب الحدود، باب (24) الرجم في البلاط، حديث رقم (6819) ، والمراد بالبلاط هنا موضع معروف عند باب المسجد النبوي كان مفروشا
[ (5) ] ب (لبلاسطم بشرح النووي) : 11/ 221، حديث رقم (28) .
[ (6) ] (سنن أبي داود) : 4/ 593- 594، كتاب الحدود، باب (26) في رجم اليهوديّين، حديث رقم (4448) .(14/86)
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل اللَّه- عز وجل-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [ (1) ] إلى قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا في اليهود.
يقول ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل اللَّه- تعالى-: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (2) ] في اليهود، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [ (3) ] في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (4) ] .
وخرّج أبو داود من حديث مجالد، حدثنا عامر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا، فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتوه بابني صوريا فنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا:
نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: فما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برجمهما [ (5) ] .
ومن حديث هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم والشعبي، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، نحوه، لم يذكر فدعا بالشهود فشهدوا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] المائدة: 41.
[ (2) ] المائدة: 45.
[ (3) ] المائدة: 44.
[ (4) ] المائدة: 47.
[ (5) ] (سنن أبي داود) : 4/ 600- 601، كتاب الحدود، باب (26) في رجم اليهوديّين، حديث رقم (4452) ، وأخرجه ابن ماجة مختصرا في الأحكام، باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، حديث رقم (2374) .
[ (6) ] (سنن أبي داود) : 4/ 601، كتاب الحدود، باب (26) في رجم اليهوديّين، حديث رقم (4453) ، وهو حديث مرسل.(14/87)
ومن حديث هشيم، عن ابن شبرمة، عن الشعبي بنحو منه [ (1) ] .
وخرّج أيضا من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهريّ قال:
حدثنا رجل من مزينة من حديث يونس قال: قال محمد بن مسلم: سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه، ثم اتفقا: ونحن عند سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وهذا حديث معمر وهو أتمّ، قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند اللَّه، قلنا:
فتيا نبيّ من أنبيائك! قالوا: فأتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: أنشدكم باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما.
قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم سكت ألظّ به النشدة، أنشده فقال: اللَّهمّ إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة آية الرجم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فما أول ما ارتخصتم أمر اللَّه- عز وجل-؟ قال: زنا ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنا رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإنّي أحكم بما في التوراة فأمرهما فرجما [ (2) ] .
قال الزهريّ: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4454) ، وهو حديث مرسل أيضا.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4450) . وألظّ: ألحّ عليه في ذلك وفي الحديث «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» .
[ (3) ] فيه رجل من مزينة، قال الخطابيّ: لا يعرف، والآية (44) من سورة المائدة،
وفي قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فإنّي أحكم بما في التوراة»
حجة لمن قال بقول أبي حنيفة، إلا أن الحديث عن رجل لا يعرف، وقد يحتمل أن يكون معناه: أحكم بما في التوراة احتجاجا به عليهم، وإنما حكم بما كان في دينه وشريعته، فذكره التوراة لا يكون علة للحكم. (معالم السنن) .(14/88)
ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهريّ سمعت رجلا من مزينة يحدث عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال:
زنا رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا حين قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وقد كان الرجم مكتوبا عليهم في التوراة فتركوه وأخذوا بالتجبية، يضرب مائة بحبل مطليّ بقار، ويحمل على حمار وجهه مما يلي دبر الحمار، فاجتمع أحبار من أحبارهم فبعثوا قوما آخرين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: سلوه عن حد الزاني وساق الحديث، قال فيه: ولم يكونوا من أهل دينه فيحكم بينهم فخير في ذلك، قال: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4451) ، والآية (42) من سورة المائدة.(14/89)
وأما اعتراف اليهودي بصفته صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمرض، فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا يهودي أنشدك باللَّه الّذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي؟ قال: لا، قال الفتى:
يا رسول اللَّه إنا نجد لك في التوراة نعتك، وصفتك، ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عثمان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيد، عن أبيه قال: إن اللَّه- عز وجل- بعث نبيه لإدخال رجال الجنة، فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كنيسة فإذا هو بيهود وإذا بيهودي يقرأ التوراة، فلما أتى على صفته أمسك، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبيّ فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة، وقال: ارفع يدك فقرأ حتى أتى على صفته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، ثم مات، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لوا أخاكم [ (2) ] .
ومن طريق صالح بن عمر، قال: حدثنا عاصم يعني ابن كليب، عن أبيه، عن الفلتان بن عاصم، قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ شخص بصره إلى رجل فدعاه، فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أشهد أني رسول اللَّه؟ قال: فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول اللَّه، فيقول: أتشهد أني رسول اللَّه؟ فيأبى، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتقرأ التوراة؟ قال: نعم، والإنجيل؟ قال: نعم، والفرقان
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 272- 273، باب ما جاء في اليهودي الّذي اعترف بصفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة وأسلم عنده موته، واليهوديّ الّذي اعترف بصفته حين ناشده.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 272- 273.(14/90)
ورب محمد لو شئت لقرأته، قال: فأنشدك بالذي أنزل التوراة، والإنجيل وأشياء حلفه بها تجدني فيهما؟ قال: نجد مثل نعتك يخرج من مخرجك كنا نرجو أن يكون فينا، فلما خرجت رأينا أنك هو، فلما نظرنا إذا أنت لست به، قال: من أين؟ قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وإنما أنتم قليل، قال: فهلل وكبر، وهلل وكبر، ثم قال: والّذي نفس محمد بيده إني لأنا هو، إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين [ (1) ] .
وأما دعاؤه صلى اللَّه عليه وسلم اليهود إلى تمني الموت وإخبارهم أنهم لا يتمنوه أبدا فصدق قوله، ولن يتمنوا الموت
فقد قال اللَّه- تعالى-: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [ (2) ] فتضمنت هذه الآية معجزا نبويا، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبر اليهود بأنهم لا يتمنون الموت بعد أن تحداهم به، وقد كان يمكنهم أن يبطلوا دعواه بكلمة، وهي أن يقولوا: تمنينا الموت، فلم يفعلوا، فدل على علمهم بصدقة، فصرفهم عن تكذيبه مع سهولته ظاهرا، وتوفر الدواعي عليه.
وذلك أن اليهود ادعت أشياء باطلة كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فأكذبهم اللَّه- تعالى- في ذلك وألزمهم، فقال: يا محمد قل إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا لما يصير إليه من نسيم الجنة، ويزول عنه من
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 273.
[ (2) ] البقرة: 94- 95.(14/91)
نصب الدنيا، وإذا خافوها فأحجموا عن تمني الموت خوفا وفرقا من اللَّه- تعالى-، العالم يقبح فعالهم وسوء أعمالهم، ولمعرفتهم بكفرهم في قولهم:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ولحرصهم على الدنيا فلما علم اللَّه- سبحانه- منهم ذلك أخبر عنهم بقوله- تعالى-: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يحقق- تعالى- كذبهم للناس فلم يقدم أحد منهم على تمني الموت معجزة من اللَّه- تعالى- لنبيه ولو تمنوه لأظهروه بألسنتهم ليردوا بإظهاره صدق المخبر لهم بذلك، وليبطلوا حجته فيكون تمنيهم للموت أعظم ما يدفعون به نبوته، ويشنعون به عليه من إخباره بما وقع في الوجوه خلافه، لكن اللَّه- سبحانه صرفهم عن تمني الموت وحرصهم على الإمساك يجعل ذلك آية للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد روى أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار.
وحكى عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أن المراد ادعوا بالموت على الكاذب من الفريقين منا ومنكم، فلم يدعوا لعلمهم بكذبهم.
وقال الكلبي: عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا: اللَّهمّ أمتنا، فو الّذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه، فأبوا أن يفعلوا فكرهوا ما قال لهم فنزل: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني عملته أيديهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أنهم لن يتمنوه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند نزول هذه الآية: واللَّه لا يتمنونه أبدا، والّذي نفسي بيده لو تمنوا الموت لماتوا، فكره أعداء اللَّه الموت فلم يتمنوا جزعا أن ينزل بهم الموت.
وقال في قوله- تعالى-: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً [ (1) ] قال: وإذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوها هزوا ولعبا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أمر اللَّه.
قال: وكان منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود والنصارى: قد قاموا، لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا سجدا استهزءوا بهم وضحكوا منهم.
__________
[ (1) ] المائدة: 58.(14/92)
قال: وكان رجل من اليهود تاجر إذ سمع المنادي ينادي بالأذان قال:
أحرق اللَّه الكاذب، قال: فبينا هو كذلك إذا دخلت جاريته بشعلة من نار فطارت شرارة منها في البيت فالتهبت في البيت فأحرقته [ (1) ] .
وأما اعتراف نفر من اليهود بموافقة سورة يوسف- عليه السلام- ما في التوراة
فروى محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن حبرا من أحبار اليهود دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم وكان قارئا للتوراة فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف كما أنزلت على موسى في التوراة فقال له الحبر:
يا محمد! من علمكها؟ قال: اللَّه علمنيها. فتعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم: أتعلمون واللَّه إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة؟ فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف- عليه السلام- فتعجبوا منه، وقالوا: يا محمد من علمكها؟ فقال علمنيها اللَّه ونزل: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [ (2) ] يقول: لمن سأل عن أمرهم فأراد أن يعلم علمهم، فأسلم القوم عند ذلك [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 274- 275، باب ما جاء في قول اللَّه عز وجل قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 94] ، وإخبار اللَّه تعالى بأنهم لن يتمنوه أبدا فكان كما أخبر، وما روى من احتراق من يهزأ بالأذان، ويدعو على المؤذن بالاحتراق.
[ (2) ] يوسف: 7.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 276، ما جاء في تعجب الحبر الّذي سمعه يقرأ سورة يوسف لموافقتها ما في التوراة، وسؤاله من سأل عن أسماء النجوم التي رآها ساجدة له.(14/93)
وأما تصديق يهودي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إخباره بأسماء النجوم [التي سجدت] ليوسف عليه السلام في منامه
فروى الحكم بن ظهير، عن السدي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل يقال له بستاني [ (1) ] اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني! عن النجوم التي رآها يوسف- عليه السلام- أنها ساجدة له، ما أسماؤها؟ قال: فلم يجبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيء، فنزل جبريل- عليه السلام- فأخبره، فبعث نبي اللَّه إلى اليهودي، فلما جاءه قال: وأنت تسلم إن أخبرتك؟ قال: نعم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: حرثان أو قال حرثال، وطارق، والذيال، وذو الكنفات، وذوا القرع، ووثاب، وعمودان، وقابس، والضّروح، والمصبّح، والفيلق، والضياء، والنور، رآها في أفق السماء أنها ساجدة له، فلما قص يوسف- عليه السلام- رؤياه على يعقوب قال له: هذا أمر متشتت يجمعه اللَّه من بعد، فقال اليهودي: هذه واللَّه أسماؤها.
قال الحكم: الصبا هو الشمس، وهو أبوه والنور هو القمر، وهي أمه.
قال البيهقيّ [ (2) ] : تفرد به الحكم ظهير بن وهو عند بعض أهل التفسير.
واللَّه- تعالى- أعلم.
وأما هلاك من خالف أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقيّ [ (3) ] من طريق عثمان بن سعيد الدارميّ قال: حدثنا الربيع ابن نافع أبو توبة وأبو الجماهير محمد بن عثمان التنوخي قالا: حدثنا الهيثم بن حميد قال: أخبرني راشد بن داود الصنعاني، حدثنا أبو أسماء الرحبيّ، عن
__________
[ (1) ] في بعض المصادر: «بستانه» .
[ (2) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 277، باب مطلب أسماء النجوم التي سجدت ليوسف- عليه السلام-.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 282، باب ما روى فيما أصاب من خالف أمره في الرحيل.(14/94)
ثوبان مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال في مسير له أنا مدلجون الليلة فلا يرحلن معنا مضعف ولا مصعب، فارتحل رجل على ناقة له صعبة، فسقط فاندقت فخذه فمات، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا فنادى: إن الجنة لا تحل لعاص ثلاثا [ (1) ] .
وقال الواقدي [ (2) ] في- غزوة تبوك-: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يخرجن معنا إلا مقو، فخرج رجل على بكر صنعت فصرعه، فقال الناس: الشهيد الشهيد، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مناديا ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن أو إلا نفس مؤمنة، ولا يدخل الجنة عاص، وكان الرجل طرحه بعيره بالسويداء [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 370، حديث رقم (21859) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 994- 995.
[ (3) ] السويداء: موضع على ليلتين من المدينة على طريق الشام، ولها ذكر في سنن أبي داود، كتاب الإمارة، حديث رقم (2958) (معجم البلدان) : 3/ 325، موضع رقم (6788) .(14/95)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بهلاك المشرك الّذي سال عن كيفية اللَّه- تعالى-
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق ديلم بن غزوان قال: حدثنا ثابت عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا من أصحابه إلى رأس من رءوس المشركين يدعوه إلى اللَّه- عز وجل-، فقال المشرك:
هذا الإله الّذي تدعو إليه من ذهب هو أو من فضة أو من نحاس؟! فتعاظم مقالته في صدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فقال: ارجع إليه، فرجع إليه فقال له مثل ذلك، فأنزل اللَّه- عز وجل- صاعقة من السماء، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الطريق لا يدري، فرجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه قد أهلك صاحبك وأنزل اللَّه- تعالى- على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [ (2) ] الآية، قال كاتبه: هذا المشرك هو أربد بن قيس.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 283، باب ما روى في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما أصاب المشرك الّذي سأل عن كيفية اللَّه- سبحانه- من العذاب.
[ (2) ] الرعد: 13.(14/96)
وأما هلاك من كذب على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإخباره بأن رسله إليه لا تدركه فكان كذلك
فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى قرية من قرى الأنصار فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسلني إليكم وأمركم أن تزوجوني فلانة، قال: فقال رجل من أهلها: جاءنا هذا بشيء ما نعرفه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنزلوا الرجل وأكرموه حتى آتيكم بخبر ذلك، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأرسل عليا والزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فقال: اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه، ولا أراكما تدركانه، قال: فذهبا فوجداه قد لدغته حية فقتلته، فرجعا إلى النبي فأخبراه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
من كذب علي فليتبوَّأ مقعده من النار [ (1) ] .
قال البيهقي [ (2) ] هذا مرسل، وقد روى من وجه آخر، فذكره من طريق يحيى ابن بسطام قال: حدثني عمر بن فرقد البزار، حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد اللَّه بن الحارث أن جد جد الجندعي كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقربه، فأتى اليمن، فعشق فيهم امرأة فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرني أن تبعثوا إلي بفتاتكم، فقالوا:
عهدنا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحرم الزنا، ثم بعثوا رجلا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا فقال: ائته، فإن وافقته حيا فأقتله، وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار.
قال: فخرج جدجد من الليل يستسقي من الماء فلدغته أفعى فقتلته، فقدم علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فوافقه وهو ميت، فحرقه بالنار، فمن ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من كذب علي متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 284، باب ما روى فيما أصاب الّذي كذب عليه، وقوله للذين بعثهما إليه: ولا أراكما تدركانه، فلم يدركانه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 285.
[ (3) ]
حديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار» متواتر، رواه عن النبي ثمانية وتسعون صحابيا، منهم العشرة، ولا يعرف ذلك لغيره.(14/97)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا بما يحدث به نفسه وما يؤول إليه أمره
فخرّج البيهقيّ [ (1) ] من حديث بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني الرقاشيّ، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ذكروا رجلا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكروا قوته في الجهاد واجتهاده في العبادة، فإذا هم بالرجل مقبل، قالوا: هذا الّذي كنا نذكر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده إني لأرى في وجهه سنعة من الشيطان، ثم أقبل فسلم عليهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل حدثت نفسك أن ليس في القوم أحد خير منك؟ قال:
نعم، ثم ذهب فاختط مسجدا وصف بين قدميه يصلي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
من يقوم إليه فيقتله؟ قال أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنا، فانطلق إليه فوجده قائما يصلي، فهاب أن يقتله فانصرف، فقال: يا رسول اللَّه، وجدته قائما يصلي فهبت أن أقتله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيكم يقوم إليه قال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنا، فانطلق إليه فصنع كما صنع أبو بكر، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أيكم يقوم إليه فيقتله؟ قال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أنا، قال: أنت إن أدركته فذهب فوجده قد انصرف، فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا أول قرن خرج في أمتي، لو قتلته ما اختلف أثناه بعده من أمتي، ثم قال: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة [ (2) ] ،
قال يزيد الرقاشيّ: هي الجماعة.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 287- 288، باب ما روى في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم الرجل الّذي وصف بالاجتهاد في العبادة بما حدثته نفسه، وبغير ذلك من حاله.
[ (2) ] وأخرجه الإمام أحمد، دون ذكر القصة.(14/98)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم امرأة صامت بما كان منها في صومها
فخرج البيهقي من طريق جعفر بن عون، قال: أخبرنا مسعر عن عمرو ابن مرة عن أبي البختري، قال: كانت امرأة في لسانها ذرابة [ (1) ] ، فأتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما أمست دعاها إلى طعامه فقالت له: إني كنت صائمة، فقال: ما صمت، فلما كان اليوم الآخر تحفظت بعض التحفظ، فلما أمست دعاها إلى طعامه، فقالت: أما إني كنت اليوم صائمة، قال: كذبت! فلما كان اليوم الآخر تحفظت ولم يكن منها شيء، فلما أمست دعاها إلى طعامه، قالت: أما إني كنت صائمة. قال اليوم صمت، هذا حديث مرسل [ (2) ] .
__________
[ (1) ] امرأة ذربة- على وزن قربة- وذربة، أي صخابة، حديدة، فاحشة، طويلة اللسان، والذرب اللسان: الفاحش البذيء الّذي لا يبالي ما قال. (لسان العرب) : 1/ 385- 386، مختصرا.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 289، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم المرأة الصائمة، بما كان من شأنها في حفظ لسانها.(14/99)
وأما استغناء أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه ببركة اقتدائه في التعفف بقول المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج البيهقي من حديث إسماعيل بن أبي أنس قال: حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: أصابنا جوع ما أصابنا مثله قط في جاهلية ولا إسلام! فقالت لي أختي فريعة: اذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسله لنا، فو اللَّه يخيب سائله إنك منه بإحدى اثنتين: إما أن يكون عنده فيعطيك، وإما أن لا يكون عنده، فيقول: أعينوا أخاكم، فلم أكره ذلك، فلما دنوت من المسجد وهو يومئذ ليس له جدار، سمعت صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: إن هذا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخطب، فكان أول ما فهمت من قوله
من يستعف يعفه اللَّه ومن يستغن يغنه اللَّه،
فقلت في نفسي:
ثكلتك أمك سعد بن مالك، واللَّه لكأنك أردت بهذا. لا جرم والّذي بعثك بالحق لا أسألك شيئا بعد ما سمعت منك، فجلست، فلما فرغ رجعت وفريعة تقبل وتدبر أقصى الآجام إلى بابه قد أدامها الجوع.
قال: فلما حصلت ببقيع الزبير أبصرت ليس معى شيء، فلما جئت قالت: مالك؟ فو اللَّه ما يخيب سائله، فأخبرتها بالذي سمعت منه. قالت:
فسألته بعد ذلك؟ قلت: لا، قالت: أحسنت، فلما كان من الغد فإنّي واللَّه لأتعب نفسي تحت الأجم إذ وجدت من دراهم يهود فابتعنا به وأكلنا منه، ثم واللَّه ما زال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم محسنا [ (1) ] .
قال: رواه هلال بن حصن، عن أبي سعيد إلا أنه قال: فرجعت فما سألت أحدا بعده شيئا، فجاءت الدنيا فما من أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 290- 291، باب ما جاء في وعده من استعف بالإعفاف، ومن استغنى بالإغناء، ووجود صدقة أبي سعيد الخدريّ وغيره.
وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (20) الصبر عن محارم اللَّه، ومسلم في كتاب الزكاة، والإمام أحمد في (المسند) : 4/ 227.(14/100)
ومن حديث عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي [ (1) ] سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: جئت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا أريد أن أسأله فوجدته جالسا على المنبر يخطب الناس: من يستعفف يعفه اللَّه، ومن يستغن يغنه اللَّه،
فرجعت وقلت: لا أسأله فلانا أكثر قومي مالا. واللَّه تعالى اعلم [ (2) ] .
وأما إخباره صلى اللَّه عليه وسلم وابصة الأسدي بما جاء يسأله عنه قبل أن يسأله
فخرّج البيهقيّ من حديث ابن وهب قال: حدثني معاوية، عن أبي عبد اللَّه محمد الأسدي، أنه سمع وابصة الأسدي قال: جئت لأسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن البر والإثم فقال من قبل أن أسأله: جئت يا وابصة تسألني عن البرّ والإثم؟
قلت: إي، والّذي بعثك بالحق إنه للذي جئت أسألك عنه، فقال: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في نفسك، وإن أفتاك عنه الناس [ (3) ] .
ومن طريق الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد ابن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد اللَّه- يعني ابن مكرز- عن وابصة، قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه. فجعلت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم! فقلت: دعوني أدن منه [فإنه من أحب الناس إليّ أن ادنو]
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقيّ) : «عن سلمة» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 291.
[ (3) ] (دلائل البيهقيّ) : 6/ 292، باب ما روى في إخبار النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم السائل بما أراد أن يسأله قبل سؤاله. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن وابصة، الأسديّ.(14/101)
[منه] [ (1) ] ، فقال: أدن يا وابصة، أدن يا وابصة، فدنوت حتى مست ركبتي ركبته فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا وابصة أخبرك بما جئت تسألني عنه، فقلت: أخبرني يا رسول اللَّه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: جئت تسألني عن البر والإثم؟ قلت: نعم، فجمع أصابعه فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك [ (2) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلين عن ما أتيا يسألانه عنه قبل أن يسألاه
فخرج البيهقي من طريق خلاد بن يحيى قال: حدثنا عبد الوهاب، عن مجاهد، وخرجه ابن حبان في (صحيحه) من حديث القاسم بن الوليد، عن سنان بن الحارث بن مصرف، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: كنت جالسا عند نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءه رجلان، أحدهما أنصاري، والآخر ثقفي، فابتدر المسألة للأنصاريّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أخا ثقيف، إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة، فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه فإنّي أبدأ به، فقال: سل عن حاجتك، وإن شئت أنبأناك بالذي جئت تسأل عنه، قال: ذاك أعجب إلى يا رسول اللَّه! قال: فإنك جئت تسألني عن صلاتك بالليل، وعن ركوعك، وعن سجودك، وعن صيامك، وعن غسلك من الجنابة، فقال: والّذي بعثك بالحق إن ذلك الّذي جئت أسأل عنه.
قال: أما صلاتك بالليل فصل أول الليل وآخر الليل، ونم وسطه. قال:
أفرأيت يا رسول اللَّه إن صليت وسطه؟ قال: فأنت ذا إذا. قال: وأما ركوعك فإذا أردت فاجعل كفيك على ركبتيك، وأفرج بين أصابعك، ثم ارفع رأسك فانتصب قائما حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، فإذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر، وأما صيامك فصم الليالي البيض: يوم ثلاثة عشر، ويوم أربعة عشر، ويوم خمسة عشرة.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 292- 293، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 288.(14/102)
ثم أقبل الأنصاري فقال: يا أخا الأنصار سل عن حاجتك وإن شئت أنبأناك بالذي جئت تسأل عنه. قال: فذلك أعجب، إلي يا رسول اللَّه! قال: فإنك جئت تسأل عن خروجك من بيتك تؤم البيت العتيق وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن وقوفك بعرفات، وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن حلقك رأسك، وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن طوافك بالبيت، وتقول: ماذا لي فيه؟ وعن رميك الجمار، وتقول ماذا لي فيه؟ قال: إي والّذي بعثك بالحق، إن هذا الّذي جئت أسألك عنه.
قال أما خروجك من بيتك تؤم البيت، فإن لك بكل موطأة تطؤها راحلتك أن تكتب لك حسنة وتمحى عنك سيئة، وإذا وقفت بعرفات، فإن اللَّه- تعالى- ينزل إلى السماء الدنيا فيقول للملائكة: هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، وهم لم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج ذنوبا أو قطر السماء أو عدد أيام الدنيا، غسلها عنك، وأما رميك الجمار فإن ذلك مدخور لك عند ربك، فإذا حلقت رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط من رأسك أن تكتب لك حسنة وتمحى عنك سيئة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك ليس عليك منها شيء [ (1) ] .
قال البيهقي: وله [شاهد بإسناد] حسن فذكر من طريق القاسم بن الوليد الجندعي، عن سنان بن الحارث بن مصرف، عن مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمر، قال: جاء رجل من الأنصار وأظنه رجل من ثقيف إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا نبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمات أسألك عنهن تعلمنيهن، فذكر الحديث بمعناه إلا أنه قال: وإذا رمى الجمر فإن أحدا لا يدري ماله حتى يوفاه يوم القيامة، وقال في الطواف: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه [ (2) ] .
قال: روى ذلك عن أنس بن مالك، فذكره من طريق مسدد قال: حدثنا عطاف بن خالد المخزومي، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن أنس بن مالك-- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] قال: كنت جالسا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسجد الخيف فأتى رجل من الأنصار ورجل من
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 293- 294، باب ما روى في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم السائل بما أراد أن يسأله عنه قبل سؤاله.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 294.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(14/103)
ثقيف فسلما عليه ودعوا له دعاء حسنا، ثم قالا: جئناك يا رسول اللَّه نسألك، قال: إن شئتما أن أخبركما بما تسألاني عنه، فعلت وإن شئتما أن أسكت وتسألاني فعلت، قالا: أخبرنا يا رسول اللَّه نزدد إيمانا أو نزدد يقينا- شك إسماعيل- فذكر الحديث في إخباره بما أرادا أن يسألا عنه بنحو من حديث ابن عمر إلا أنه زاد ذكر الطواف الأول فقال:.
وأما طوافك، بالبيت فإنك لا تضع رجلا ولا ترفعها إلا وكتب اللَّه لك بها حسنة، ومحا عنك بها خطيئة، ويرفع لك بها درجة، وأما ركعتان بعد الطواف، فإنّها كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، ثم ذكر الوقوف، ثم قال: وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة ترميها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات، وأما نحرك، فمدخور لك عند ربك، ثم ذكر ما بعده وقال: فقال الثقفي: أخبرني يا رسول اللَّه قال:
جئت تسألني عن الصلاة، فإذا غسلت وجهك، انتثرت الذنوب عن رأسك، فإذا غسلت رجليك انتثرت الذنوب من أظفار قدميك، ثم إذا قمت إلى الصلاة فاقرأ من القرآن ما تيسر، ثم إذا ركعت فأمكن يديك من ركبتيك، وافرق بين أصابعك حتى تطمئن راكعا، ثم سجدت فأمكن وجهك من السجود حتى تطمئن ساجدا، وصل من أول الليل وآخره قال: يا رسول اللَّه، أفرأيت إن صليت الليل كله قال: فإنك إذا أنت [ (1) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم رجالا من أهل الكتاب عن ذي القرنين قبل أن يسألوه
فخرج البيهقي من طريق عبد اللَّه بن مسلمة القعنبي قال: حدثنا عبد اللَّه ابن عمر بن حفص بن عاصم، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سعد ابن مسعود، عن رجلين من كندة من قومه، قالا: استطلنا يوما فانطلقنا إلى عقبة بن عامر الجهنيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فوجدناه في ظل داره جالسا، فقلنا: إنا استطلنا يوما فجئنا نتحدث عندك فقال: وأنا استطلت يومي فخرجت إلى هذا الموضع.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 295.(14/104)
قال: ثم أقبل علينا فقال: كنت أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرجت ذات يوم فإذا أنا برجال من أهل الكتاب بالباب معهم مصاحف فقالوا: من يستأذن لنا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته فقال: ما لي ولهم يسألوني عما لا أدري؟ أنا عبد لا أعلم إلا ما علمني ربي، ثم قال: أبغني وضوءا، فأتيته بوضوء، فتوضأ، ثم خرج إلى المسجد فصلّى ركعتين، ثم انصرف فقال لي وأنا لا أرى السرور والبشر في وجهه: أدخل القوم علي ومن كان من أصحابي فأدخله أيضا علي، فأذنت لهم فدخلوا فقال: إن شئتم أخبرتكم عما جئتم تسألونني عنه من قبل أن تكلموا وإن شئتم، فتكلموا قبل أن أقول، قالوا:
بل أخبرنا.
قال: جئتم تسألونني عن ذي القرنين، إن أول أمره أنه كان غلاما من الروم أعطي ملكا، فسار حتى أتى ساحل أرض مصر فابتنى مدينة يقال لها الإسكندرية، فلما فرغ من شأنها بعث اللَّه إليه ملكا، ففزع به فاستعلى بين السماء، ثم قال له: انظر ما، تحتك؟ فقال: أرى مدينتين، ثم استعلا به ثانية، ثم قال: انظر ما تحتك؟ فنظر فقال: ليس أرى شيئا، فقال له:
المدينتين وهو البحر المستدير، وقد جعل اللَّه لك مسلكا تسلك به فعلم الجاهل وثبت العالم.
قال: ثم جوزه فابتنى السد جبلين زلقين لا يستقر عليهما شيء، فلما فرغ منهما سار في الأرض فأتي على أمة أو على قوم وجوههم كوجوه الكلاب، فلما قطعهم أتى على قوم قصار، فلما قطعهم أتى على قوم من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أتى على الغرانيق وقرأ هذه الآية: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً [ (1) ] ، فقالوا: هكذا نجده في كتابنا [ (2) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما دفن مع أبي رغال
فخرج البيهقي من حديث يحيى بن معين قال حدثنا وهب بن جرير: قال:
أخبرني أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول: سمعت رسول اللَّه
__________
[ (1) ] الكهف: 84- 85.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 295- 296.(14/105)
صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال: هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من! ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن [ (1) ] .
ومن حديث يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد اللَّه بن عمرو، أنهم كانوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر أو مسير، فمروا بقبر فقال: هذا قبر أبي، رغال كان من قوم ثمود، فلما أهلك اللَّه قومه بما أهلكهم به منعه بمكانه من الحرم، فخرج حتى بلغ ذا المكان أو الموضع فمات، فدفن معه قضيب من ذهب فابتدرناه، فاستخرجناه [ (2) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أمر السفينة
فخرج البيهقي من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر قال: بلغني أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان جالسا في أصحابه يوما، فقال: اللَّهمّ أنج أصحاب السفينة، ثم مكث ساعة فقال: قد استمرت، فلما دنوا من المدينة قال: قد جاءوا يقودهم رجل صالح، قالوا: والذين كانوا في السفينة، قالوا: الأشعريون والّذي قلدهم عمرو بن الحمق الخزاعي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أين جئتم؟ قالوا: من زبيد قال: بارك اللَّه في زبيد قالوا: وفي رمع [ (3) ] قال: بارك اللَّه في زبيد، قالوا: وفي رمع يا رسول اللَّه، قال: في الثالثة وفي رمع.
قال البيهقي: وفي هذا إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن احتباس السفينة وإشرافها على الغرق، ثم دعاؤه لها إيابا بالنجاة، ثم إخباره عن استمرارها ونجاتها، ثم بقدومها، ثم بمن يقودهم فكان الجميع كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم [صلاة لا تنقطع] [ (4) ] .
قال كاتبه: هذه سبعة أعلام من أعلام النبوة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 297، باب إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قبر أبي رغال وما فيه من الذهب.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 297.
[ (3) ] رمع: قرية باليمن، وفي (الأصل) : «زمع» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) : 6/ 298، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أمر السفينة.(14/106)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بإسلام أبي الدرداء عند ما أقبل
خرج البيهقي [ (1) ] من طريق عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: كان أبو الدرداء يعبد صنما في الجاهلية، وأن عبد اللَّه بن رواحة، ومحمد بن مسلمة دخلا بيته فكسرا صنمه، فرجع أبو الدرداء فجعل يجمع صنمه ويقول: ويحك! هلا دفعت عن نفسك؟ فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أحدا أو يدفع عن أحد دفع عن نفسه ونفعها، فقال أبو الدرداء- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أعدي شيئا في المغتسل، فجعلت له ماء فاغتسل وأخذ حلته فلبسها، ثم ذهب إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فنظر إليه ابن رواحة مقبلا فقال: هذا أبو الدرداء، وما أراه جاء إلا في طلبنا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا، إنما جاء يسلم فإن ربي [عز وجل] [ (2) ] وعدني بأبي الدرداء أن يسلم.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 301، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بإسلام أبي الدرداء فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(14/107)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم بحال من نحر نفسه
فخرج أبو داود [ (1) ] من حديث زهير، حدثنا سماك، حدثني جابر بن سمرة، قال: مرض رجل فصيح عليه، فجاء جاره إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: إنه قد
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 526، كتاب الجنائز، باب (51) الإمام لا يصلي على من قتل نفسه، حديث رقم (3185) ، والمشقص جمعه مشاقص، وهو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
وأخرجه مختصرا بمعناه: مسلم في الجنائز، حديث رقم (978) ، والنسائي في الجنائز، حديث رقم (1966) ، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، والترمذي في الجنائز، حديث رقم (1068) ، باب من قتل نفسه، لم يصل عليه، وابن ماجة في الجنائز، حديث رقم (1068) ، باب من قتل نفسه، لم يصل عليه، وابن ماجة في الجنائز، حديث رقم (1526) باب الصلاة على أهل القبلة.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 90، حديث رقم (20292) وحديث رقم (20376) ، وحديث رقم (20404) كلهم من حديث جابر بن سمرة.
وقد اختلف الناس في هذا، فكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي، وقال أكثر الفقهاء: يصلّى عليه.
قال الخطابي: كان الزهري يقول: يصلّى على الّذي يقاد منه في حد، ولا يصلي على من قتل في رجم،
وقد روى عن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه أمر أن يصلي على شراحة وقد رجمها،
وهو قول أكثر العلماء.
وقال الشافعيّ: لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة، برا كان أو فاجرا وقال أصحاب الرأي والأوزاعي: يغسل المرجوم ويصلى عليه، وقال مالك: من قتله الإمام في حد من الحدود فلا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه أهله إن شاءوا أو غيرهم.
وقال أحمد: لا يصلي الإمام على قاتل ولا غال. وقال أبو حنيفة: من قتل من المحاربين أو صلب لم يصل عليه، وكذلك الفئة الباغية لا يصلى على قتلاهم.(14/108)
مات، قال: وما يدريك؟ قال: أنا رأيته، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه لم يمت، قال: فرجع فصيح عليه، فجاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إنه قد مات، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لم يمت، فرجع، فصيح عليه، فقالت امرأته: انطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فقال الرجل: اللَّهمّ العنة، قال ثم انطلق الرجل فرآه قد نحر نفسه بمشاقص معه فانطلق إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره أنه قد مات، فقال:
وما يدريك؟ قال: رأيته ينحر نفسه بمشقص، معه، قال: أنت رأيته؟ قال نعم، قال: إذا لا أصلّي عليه. فانطلق إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره.
وأما إشارته صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ما صار إليه أمر ماعز بن مالك الأسلمي
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق حديث الفيد بن القاسم قال: سمعت الجعد بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن ماعز حدثه أن ماعزا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فكتب له كتابا أن ماعزا أسلم آخر قومه، وأنه لا يجني عليه إلا يده، فبايعه على ذا.
قال كاتبه: وماعزا هذا هو الّذي اعترف على نفسه بالزنا تائبا منيبا، وكان محصنا، فرجم رحمة اللَّه عليه، وكانت هذه القصة هي التي أشار إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله في الحديث: وأنه لا يجني عليه إلا يده، وحديث رجم ماعز في (الصحيحين) وغيرهما [ (2) ] .
__________
[ () ] وذهب بعض أصحاب الشافعيّ إلى أن تارك الصلاة إذا قتل لم يصل عليه، ويصلي على من سواه، ممن قتل في حد أو قصاص. (معالم السنن) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 303، باب ما جاء في إشارته إلى ما صار إليه أمر ماعز بن مالك، وفي هامشه: هو ماعز آخر غير ماعز بن مالك الأسلمي، أفرده البخاري والبغوي، وجوز ابن مندة أن يكون واحدا، والخبر ذكره ابن حجر في ترجمته من (الإصابة) ، نقلا عن البخاري في (التاريخ الكبير) .
[ (2) ] سبق تخريج هذه الأحاديث في باب من رجمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من هذا الكتاب.(14/109)
وأما إخباره [صلّى اللَّه عليه وسلّم] رجلا قال في نفسه شعرا بما قال في نفسه
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق أبي دجانة أحمد بن الحكم المعافري، حدثنا عبيد بن خلصة، حدثنا عبد اللَّه بن عمر المدني، عن المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه! إن أبي يريد أن يأخذ مالي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعه ليه، قال: فجاء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن ابنك يزعم أنك تأخذ ماله، فقال: سله، هل هو إلا عماته، أو قراباته، أو ما أنفقه على نفسي وعيالي؟
قال: فهبط جبريل الأمين- عليه السلام-، فقال: يا رسول اللَّه! إن الشيخ قد قال في نفسه شيئا لم تسمعه أذناه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت في نفسك شيئا لم تسمعه أذناك؟ قال: لا يزال يزيدنا بك بصيرة ويقينا، نعم قلت قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هات، فأنشأ يقول فيه شعرا.
قال: فبكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأخذ بتلبيب ابنه، وقال: أنت ومالك لأبيك.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي شهم بما كان منه
فخرج البيهقي [ (2) ] من طريق هريم بن سفيان، عن بيان، عن قيس بن أبي سهم قال: مرت بي امرأة بالمدينة فأخذت بكشحها قال: فأصبح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس، قال: فأتيته [فسلمت عليه] فلم يبايعني، وقال: صاحب الجبيذة بالأمس؟ قال: قلت: واللَّه لا أعود فبايعني.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 304- 305، باب ما جاء في إخباره من قال في نفسه شعرا في الشكاية عن ولده بذلك إن صحت الرواية، قال البزار: يعرف عن هشام ابن المنكدر مرسلا، وقال الهيثمي: فيه ضعيف، وقال العقيلي: ضعيف.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 306، باب ما جاء في إخبار صاحب الجبيذة بصنيعه، وما ثبت عن بن عمر أنهم كانوا يتقون الكلام والانبساط، مخافة أن ينزل فيهم القرآن بما قالوا وفعلوا.(14/110)
وخرجه الحاكم [ (1) ] من طريق هريم به نحوه، وقال: هذا حديث صحيح [الإسناد] على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] .
ومن طريق محمد بن أبان الواسطي قال: حدثنا يزيد بن عطاء، عن بيان ابن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن شهم [ (2) ] ، قال: رأيت جارية في بعض طرق المدينة فأهويت بيدي إلى خاصرتها، فلما كان من الغد أتى الناس إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليبايعوه فبسطت يدي فقلت: بايعني يا رسول اللَّه، قال: أنت صلحب الجبذة أمس؟ أما إنك صاحب الجبذة أمس، قال: قلت: يا رسول اللَّه بايعني فو اللَّه لا أعود أبدا، قال: فنعم إذا [ (3) ] .
وقد خرج البخاري من حديث أبي نعيم قال: حدثنا سفيان، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خشية أن ينزل فيها شيء فلما توفي تكلمنا وانبسطنا [ (4) ] .
وفي رواية محمد بن يوسف الفريابي قال: ذكر حصن، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تكلمنا [ (5) ] .
ولابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: تاللَّه لقد كان أحدنا يكف عن
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 418، كتاب الحدود، حديث رقم (8134) وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «شهم» ، وفي (المستدرك) : «سهم» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 306.
[ (4) ] أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب (80) الوصاة بالنساء، حديث رقم (5187) ، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز، باب (65) ذكر وفاته ودفنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1632) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 307.(14/111)