الثالثة والثمانون من خصائص المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن من صلّى عليه واحدة صلّى اللَّه عليه عشرا
خرّج مسلم [ (1) ] من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من صلّى علي واحدة صلّى اللَّه عليه عشرا.
وخرجه أبو داود [ (2) ] والترمذي [ (3) ] والنسائي [ (4) ] وابن حبان [ (5) ] في (صحيحه) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي بعض ألفاظه: من صلّى على مرة واحدة كتب له بها عشر حسنات. ذكره ابن حبان.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 371، (كتاب الصلاة) ، باب (17) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد،
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (من صلّى على واحدة صلّى اللَّه عليه عشرا) .
قال القاضي: معناه:
رحمته وتضعيف أجره كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال: وقد يكون الصلاة على وجهها وظاهرها تشريفا بين الملائكة كما في الحديث
«وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 2/ 184، (كتاب الصلاة) ، باب (361) في الاستغفار، حديث رقم (1530) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 2/ 355، (أبواب الصلاة) ، باب (21) ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (485) ، وقال في الباب عن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن ربيعة، وعمار بن ياسر، وأبي طلحة، وأنس بن مالك، وأبي بن كعب. قال أبو عيسى:
حديث أبو هريرة حديث حسن صحيح.
وروى عن سفيان الثوريّ وغير واحد من أهل العلم، قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.
[ (4) ] (سنن النسائيّ) : 3/ 58 (كتاب السهو) باب (55) الفضل في الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (1296) .
[ (5) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 185، كتاب الرقائق باب (9) الأدعية، ذكر حط الخطايا عن المصلي على المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، حديث رقم (904) ، وإسناده صحيح.(11/43)
وروى عبد اللَّه بن محمد المنقريّ، عن محمد بن حبيب. حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد الساعديّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا أنا بأبي طلحة فقام إليه فتلقاه. فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! إني أرى السرور في وجهك! قال: أجل، إنه أتانى جبريل آنفا فقال: يا محمد، من صلّى عليك مرة أو قال: واحدة كتب اللَّه بها عشر حسنات ومحا بها عنه عشر سيئات ورفع له بها عشر درجات. قال ابن حبيب: ولا أعلم إلا قال: وصلت عليه الملائكة عشر مرات.
وخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث معشر، عن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبي طلحة الأنصاريّ، قال: أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما طيب النفس يرى في وجهه البشر فقالوا: يا رسول اللَّه! أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر، قال: أجل أتاني آت من ربي عز وجل وقال: من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب اللَّه بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات ورد عليه مثلها.
ومن حديث أبي طلحة الأنصاريّ قال: «أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما طيب النفس يرى في وجهه البشر، قالوا يا رسول اللَّه، أصبحت اليوم طيب النفس، يرى في وجهك البشر، قال: أجل، أتاني آت من ربي عز وجل فقال:
من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب اللَّه له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 538، حديث رقم (12587) من حديث أنس بن مالك، 4/ 160 حديث رقم (13343) ، 4/ 610، حديث رقم (15917) ، من حديث أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاريّ.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 160، حديث رقم (15917) ، من حديث أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاريّ، وهذا الحديث سياقه مضطرب في (الأصل) ، وصوبناه من (المسند) .(11/44)
رواه النسائيّ من حديث ابن المبارك وعفان، عن حماد، ورواه ابن حبان في (صحيحه) [ (1) ] من حديث حماد أيضا والنسائيّ [ (2) ] من حديث أبي سلمة وهو المغيرة بن مسلم الخراسانىّ عن أبي إسحاق، عن أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من ذكرت عند فليصل عليّ ومن صلّى على مرة صلى اللَّه عليه عشرا.
ومن حديث يحيى بن آدم حدثنا يونس بن أبي إسحاق حدثني يزيد بن أبي مريم عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه سمعه يقول:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلّى على صلاة واحدة صلّى اللَّه عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشرة درجات.
ورواه الإمام أحمد في (المسند) عن أبي نعيم عن يونس، وعليه ما أشار إليه النسائيّ في كتابه (الكبير) أن مخلد بن يزيد رواه عن يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم عن الحسن عن أنس.
وهذه العلة لا تقدح فيه شيئا لأن الحسن لا شك في سماعه عن أنس، وقد صح سماع يزيد بن أبي مريم أيضا من أنس هذا الحديث، فرواه ابن حبان في (صحيحه) والحاكم [ (3) ] في (المستدرك) من حديث يونس ابن أبي إسحاق، عن يزيد، عن أبي مريم قال: سمعت أنس بن مالك فذكره، ولعل يزيد سمعه من الحسن، ثم سمعه من أنس فحدث به على الوجهين، فإنه قال: كنت أزامل
__________
[ (1) ]
(الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 196، (كتاب الرقائق) ، باب (9) الأدعية، باب ذكر تفضل اللَّه جل وعلا على المسلم على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم مرة واحدة يأمنه من النار عشر مرات، نعوذ باللَّه منها، حديث رقم (915) ولفظه عن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أبيه قال:
خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مسرور، فقال: «إن الملك جاءني فقال: يا محمد، إن اللَّه يقول:
أما ترضى ألا يصلي عليك عبد من عبادي صلاة إلا صليت عليه بها عشرا، ولا يسلم عليك تسليمة إلا سلمت عليه بها عشرا؟ قلت: بلى أي رب» .
[ (2) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 456، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3575) ، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح.(11/45)
الحسن في محل فقال: حدثنا أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
فذكره.
ثم إنه حدث به عن أنس فرواه عنه كما تقدم. لكن ينبغي أن يقال:
يحتمل أن يكون هذا هو حديث أبي طلحة بعينه أرسل أنس عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويدل على ما رواه إسماعيل بن إسحاق.
حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن عبيد اللَّه بن عمرو، عن ثابت البناني قال: قال أنس بن مالك قال أبو طلحة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج عليهم يوما يعرفون البشر في وجهه فقالوا: إنا نعرف الآن البشر في وجهك، فذكر حديث أبي طلحة المتقدم.
وروى ابن أبي عاصم، حدثنا الحسن بن البراء حدثنا شبابة حدثنا المغيرة عن أبي إسحاق عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلوا على فان الصلاة عليّ كفارة لكم، فمن صلّى عليّ صلّى اللَّه عليه.
وخرّج إسماعيل بن إسحاق من حديث القعنبيّ حدثنا سلمة بن وردان قال: سمعت أنس بن مالك قال: خرج علينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبرز فلم يجد أحدا يتبعه ففزع عمر فاتبعه بمطهرة يعنى إداوة فوجده ساجدا فتنحى فجلس وراءه حتى رفع رأسه، قال: فقال: أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني، إنّ جبريل أتاني فقال: من صلّى عليك واحدة صلّى اللَّه عليه عشرا، ورفعه عشر درجات.
وقال إسماعيل: حدثنا يعقوب بن حمد، حدثنا أنس بن عياض بن سلمة ابن وردان، حدثنا مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبرز فاتبعته بإداوة من ماء فوجدته ساجدا، فتنحيت عنه، فلما رفع رأسه قال: أحسنت يا عمر حين تنحيت عني، إن جبريل أتاني فقال: من صلّى عليك صلاة صلّى اللَّه عليه عشرا، ورفعه عشر درجات.(11/46)
فإن قيل: هذا الحديث الثاني علة للحديث الأول لأن سلمة بن وردان أخبر أنه سمعه من مالك بن أوس بن الحدثان. قيل: ليس بعلة له، فقد سمعه سلمة بن وردان منهما.
قال أبو بكر الإسماعيلي في كتاب (مسند عمر) : وحدثني عبد الرحمن ابن عبد اللَّه، أخبرنا أبو موسى القروي، حدثني أبو ضمرة، عن حمزة، عن سلمة بن وردان قال: سمعت أنس بن مالك يقول: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بإداوة ومجارة، فوجده قد فرغ، ووجده ساجدا فتنحى عمر. وذكر الحديث.
حدثنا عمران بن موسى، حدثنا ابن كاسب، حدثنا أنس بن عياض، عن سلمة بن وردان حدثني مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمرو حدثني أنس ابن مالك ثم ساقه من حديث الفضل بن دكين. حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنس بن مالك ومالك بن أوس بن الحدثان وذكره.
وقال ابن شاهين: حدثني العباس بن المغيرة، حدثنا عبد اللَّه بن ربيعة قال: سمعت عبد اللَّه بن شريك عن عاصم بن عبد اللَّه بن عاصم، عن عبد اللَّه ابن عامر بن ربيعة، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من صلّى علي صلاة صلّى اللَّه عليه عشرا، فليقلّ عبد عليّ أو ليكثر [ (1) ] .
وخرّج الطبرانيّ من حديث عمر بن الربيع بن طارق حدثنا يحيى بن أيوب حدثني عبيد اللَّه بن عمر عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجته فلم يجد أحدا يتبعه ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه، فوجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ساجدا فتنحى عنه من خلفه، حتى رفع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه وقال: أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني، إن جبريل أتانى فقال:
من صلّى عليك من أمتك واحدة صلّى اللَّه عليه عشرا، ورفعه بها عشر درجات.
__________
[ (1) ] راجع التعليق التالي.(11/47)
قال الطبرانيّ لم يروه عن عبيد اللَّه إلا يحيى بن أيوب، تفرد به عمرو ابن طارق.
وخرّج الإمام أحمد من حديث شعبة، عن عاصم بن عبد اللَّه قال:
سمعت عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخطب ويقول من صلّى عليّ صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه فليقلّ عبدا من ذلك أو ليكثر [ (1) ] .
ورواه ابن ماجة عن شعبة [ (2) ] ، ورواه عبد الرزاق، عن عبد اللَّه بن عمر العمرى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد اللَّه بن عامر، عن أبيه، ولفظه: من صلّى عليّ صلاة صلّى اللَّه عليه [عشرا] فأكثروا أو أقلوا.
وعاصم بن عبيد اللَّه ابن عاصم بن عمر بن الخطاب وعبيد اللَّه بن عمر العمريّ
وإن كان حديثهما فيه بعض الضعف، فرواية هذا الحديث من هذين الوجهين المختلفين يدل على أنه له أصلا، وهذا لا ينزله عن وسط درجات الحسن.
وخرّج [الإمام] أحمد من حديث ليث عن يزيد بن جهاد عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاتبعته حتى دخل مدخلا، فسجد فأطال السجود، حتى خفت أو خشيت أن يكون اللَّه قد توفاه أو قبضه، قال: فجئت انظر فرفع رأسه فقال: مالك يا عبد الرحمن قال: فذكرت ذلك له فقال: إنّ جبريل عليه السّلام قال لي: ألا أبشرك أن اللَّه عز وجل يقول لك: من صلّى عليك صليت عليه ومن سلّم عليك سلمت عليه.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 483- 484، حديث رقم (15253) .
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 294، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب (25) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (907) ، قال في (الزوائد) : إسناده ضعيف، لأن عاصم بن عبيد اللَّه، قال في البخاريّ وغيره: منكر الحديث.(11/48)
وخرّجه أيضا من حديث سليمان بن بلال، حدثنا عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن فذكره.
وقال فيه: فسجدت للَّه شكرا [ (1) ] .
وخرّجه الحاكم في (المستدرك) [ (2) ] من طريق سليمان بن بلال، عن عمرو وقال: صحيح الإسناد.
ورواه ابن أبي الدنيا عن يحيى بن جعفر. حدثنا زيد بن الحباب أخبرني موسى بن عبيده، أخبرني قيس بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن سعد ابن إبراهيم عن أبيه عن جده عبد الرحمن بن عوف قال: سجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سجدة أطال فيها. فقلت له في ذلك فقال: إني سجدت هذه السجدة شكرا للَّه عز وجل فيما أبلانى في أمتى فإنه من صلّى عليّ صلاة صلّى اللَّه عليه بها عشرا.
وموسى بن عبيدة وإن كان في حديثه بعض الضعف فهو شاهد لما تقدم.
وقال: عثمان بن أبي شيبة: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لقيني جبريل وبشرنى أن اللَّه عز وجل يقول لك: من صلّى عليك صلاة صليت عليه، ومن سلّم عليك سلمت عليه، فسجدت لذلك.
وخرّج النسائي من حديث أبي أسامة، عن سعيد بن سعيد، عن سعيد ابن عمير عن عمه أبي بردة بن نيار قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلّى عليّ من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلّى اللَّه عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، وقد أعلّ هذا الحديث بأن وكيعا رواه، عن سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن عمير الأنصاري، عن أبيه وكان بدريا، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلى عليّ، فذكره.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (1666) .
[ (2) ] (المستدرك) : 1/ 735، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم (2019) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(11/49)
وقال النسائيّ: أنبأنا الحسين بن حريث، حدثنا وكيع فذكر قصة اختلاف أبي أسامة ووكيع، قال الحافظ أبو قريش محمد بن زرعة: سألت أبا زرعة يعنى الراويّ عن اختلاف هذين الحديثين فقال: حديث أبي أسامة أتم.
وخرّج الطبراني في (المعجم الكبير) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الصباح، حدثنا سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار الأنصاريّ، عن عمه أبي بردة بن نيار فذكروه.
ورواه بن أبي عاصم في كتاب (الصلاة على النبيّ) صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي أسامة، عن سعيد بن أبي سعيد به، وروى الحافظ أبو نعيم من طريق أبي مالك عبد الملك بن حسين، عن عاصم بن عبيد اللَّه عن القاسم بن محمد عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلّى عليّ صلاة صلت عليه الملائكة فليكثر عبد أو ليقل.
وخرّج أبو داود في (سننه) من حديث ابن وهب، عن ابن لهيعة وسعيد بن أيوب، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على، فإنه من صلّى عليّ صلاة صلى اللَّه عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فإن من سأل اللَّه لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة [ (1) ] . وخرجه مسلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 359، كتاب الصلاة، باب (36) ، ما يقوله إذا سمع المؤذن، حديث رقم (523) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 328، كتاب الصلاة، باب (7) استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم يسأل اللَّه له الوسيلة، حديث رقم (384) .
وأخرجه النسائيّ في (السنن) : 2/ 354، (كتاب الأذان) ، باب (37) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (677) .
وأخرجه الترمذيّ في (السنن) : 5/ 547، (كتاب المناقب) عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (1) في فضل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3614) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح(11/50)
وذكر عبد اللَّه بن أحمد من طريق ابن لهيعة عن عبد اللَّه بن هبيرة عن عبد اللَّه، وفي نسخة عبد الرحمن بن شريح الخولانيّ قال: سمعت أبا قيس مولى عمرو بن العاص يقول: سمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول: من صلى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة صلى اللَّه عليه وملائكته بها سبعين صلاة فليقلّ من ذلك أو ليكثر. كذا رواه موقوفا.
وذكره أبو نعيم، عن أحمد بن جعفر، عن عبد اللَّه عن أبيه، وقال عبد الباقي بن قانع: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن صالح بن شيخ بن عميرة قال: حدثني محمد بن هاشم حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي، عن أبي الصباح البهزيّ حدثني سعيد بن عمير عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليّ صادقا من نفسه صلّى اللَّه عليه عشر صلوات، ورفعه عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات.
وروى إسماعيل بن إسحاق من طريق العوام بن حوشب حدثني رجل من بنى أسد، عن عبد الرحمن بن عمرو، قال: من صلّى على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم كتب اللَّه له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات.
ومن طريق سفيان، عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاني آت من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى اللَّه عليه بها عشرا [ (1) ] ، فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللَّه، أجعل لك نصف دعائي؟ قال: إن شئت، قال: أجعل ثلثي دعائي لك؟ قال: إن شئت، قال: أجعل دعائي لك كله؟ قال: يكفيك اللَّه همّ الدنيا وهمّ الآخرة،
فقال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان: عمن أسنده؟ قال: لا أدري.
__________
[ () ] قال محمد: عبد الرحمن بن جبير هذا قرشيّ مصريّ مدنيّ، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير شاميّ قرشيّ.
[ (1) ] (تفسير ابن كثير) : 3/ 518، تفسير سورة الأحزاب.(11/51)
الرابعة والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه من صلّى عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم غفر ذنبه
روى محمد بن موسى، عن الأصمعيّ، حدثني محمد بن مروان السديّ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليّ عند قبري وكل اللَّه به ملكا يبلغني وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له يوم القيامة شهيدا أو شفيعا [ (1) ] .
ومحمد بن موسى ابن يونس بن موسى الكديمي متروك الحديث.
وقال: عبد اللَّه بن حميد في (مسندة) : حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن ابن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا اللَّه، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه. قال أبي بن كعب: قلت: يا رسول اللَّه إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟
قال: ما شئت، قلت: الربع قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت:
الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(شعب الإيمان) : 2/ 218، الخامس عشر من شعب الإيمان وهو باب في تعظيم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإجلاله وتوقيره صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (1583) ، ولفظه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلّى عليّ عند قبري وكل بهما ملك يبلغني وكفي بها أمر دنياه وآخرته وكنت له شهيدا أو شفيعا، هذا اللفظ حديث الأصمعي
وفي رواية الحنفي قال: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من صلّى علي عند قبري سمعته ومن صلّى عليّ نائيا أبلغته.
[ (2) ]
قال الحافظ ابن كثير: حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن ابن الطفيل ابن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» فقال رجل يا رسول اللَّه أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال «إذا يكفيك اللَّه ما أهمك من دنياك وآخرتك. (تفسير ابن كثير) : 4/ 498، تفسير سورة النازعات.(11/52)
وخرجه الإمام أحمد، عن وكيع، عن سفيان به [ (1) ] .
وخرجه الترمذي [ (2) ] ، عن هناد، عن قبيصة وقال: حسن صحيح.
وخرجه الحاكم في (المستدرك) [ (3) ] وقال: صحيح.
وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل [ (4) ] احتج به الأئمة الكبار كالحميدي وأحمد وإسحاق وغيرهم، والترمذي تارة يصحح هذا الحديث وتارة يحسنه.
وسئل شيخ الإسلام تقيّ الدين أبو العباس بن تيمية رحمه اللَّه، عن تفسير هذا الحديث فقال: كان لأبيّ بن كعب دعاء يدعو به لنفسه فسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هل يجعل له منه ربع صلاة عليه. فقال: إن زدت فهو خير لك، فقال له: النصف. فقال: إن زدت فهو خير لك. إلى أن قال: أجعل صلاتي كلها أي أجعل دعائي صلاة عليك؟ قال: إذا تكفي همك، ويغفر ذنبك، لأن من صلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة صلى اللَّه عليه بها عشرا، ومن صلّى اللَّه عليه كفاه همه، وغفر له ذنبه.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (سنن الترمذيّ) : 4/ 549، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (23) ، حديث رقم (2457) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 457، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، حديث رقم (3578) ، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح.
[ (4) ] هو عبد اللَّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشميّ أبو محمد المدني وأمه زينب الصغرى بنت عليّ.(11/53)
الخامسة والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن الدعاء يتوقف إجابته حتى يصلي عليه وأن العبد مأمور أن يصلي عليه في دعائه
روى الحسن بن عرفة، عن الوليد بن بكر، عن سلام الخراز، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن الحارث الأعور، عن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من دعاء إلا بينه وبين السماء والأرض حجاب حتى يصلي على محمد، فإذا صلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم انخرق الحجاب واستجيب الدعاء، وإذا لم يصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يستجب الدعاء [ (1) ] .
لكن قال شعبة والعجليّ: لم يسمع أبو إسحاق السبيعيّ من الحارث إلا أربعه أحاديث، فعدها، لم يذكر هذا منها، وقد ثبت، عن ابن إسحاق وقفه على عليّ، ومع هذا فالحارث بن عبد اللَّه الهمدانيّ الأعور، قال الشعبيّ: كان كاذبا، وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرة: ليس به بأس، وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه ليس بمحفوظ.
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من طريق حيوة بن شريح قال: أخبرنى هانئ بن حميد بن هانئ أن أبا عليّ عمرو بن مالك حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد اللَّه ولم يصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللَّه والثناء عليه ثم يصلي على النبيّ ثم يدعو ربه بما شاء.
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 2/ 88، حديث رقم (3270) ، وعزاه إلى الديلميّ عن عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 312، حديث رقم (23419) من مسند فضالة بن عبيد الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(11/54)
وخرجه أبو داود [ (1) ] ، والنسائيّ [ (2) ] ، والترمذيّ [ (3) ] وقال: حديث صحيح.
وخرجه ابن ماجة في (سننه) .
وخرجه الترمذيّ [ (4) ] في (جامعه) من حديث النضر بن شميل، عن أبي قرة الأسديّ، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضيّ اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك. هكذا رواه موقوفا.
وكذلك رواه الإسماعيليّ في (مسند عمر) من حديث النضر أتم من هذا فقال: أخبرنى الحسن حدثنا محمد بن قدامة وإسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا النضر، عن أبي قرة سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما من امرئ مسلم يأتى فضاء من الأرض فيصلي فيه الضحى ركعتين، يقول: اللَّهمّ أصبحت عبدك على عهدك ووعدك، خلقتني ولم أك شيئا. أستغفرك لذنبي فإنّي قد أرهقتنى ذنوبي، وأحاطت بى إلا أن تغفرها فاغفر لي يا رحمان، إلا غفر اللَّه له في ذلك المقعد ذنبه وإن كان
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 2/ 162، كتاب الصلاة، باب (358) الدعاء، حديث رقم (1481) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 3/ 51- 52، كتاب السهو، باب (48) التمجيد والصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، حديث رقم (1283) وإسناده صحيح.
[ (3) ]
(سنن الترمذي) : 5/ 482- 483، كتاب الدعوات، باب (65) بدون ترجمة، حديث رقم (3476) ، وفيه: «عجلت أيها المصلى» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، رواه حيوة بن شريح، عن أبي هانئ، وأبو هانئ اسمه حميد بن هانئ، وأبو على الجنبي اسمه عمرو بن مالك.
وحديث رقم (3477) ، وفيه: «عجل هذا» .
وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
[ (4) ] (تحفة الأحوذي) : 2/ 498. كتاب أبواب الوتر، باب (347) ما جاء في فضل الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (484) .(11/55)
مثل زبد البحر [ (1) ] . وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ذكر لي أن الدعاء يكون بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك. وقال: قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ذكر لي أن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكن. وقال عمر: ما من امرئ يتصدق بزوجين من ماله إلا ابتدرته حجب الجنة [ (2) ] ، قال الإسماعيلي:
الأول: في صلاة الضحى موقوف، وكذلك الصدقة بزوجين من ماله موقوف.
والثاني: سواء يريد به حديث الصلاة وحديث تباهي الأعمال يحتمل الرفع، ويحتمل الوقف على السواء.
وقد روى حديث الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث معاذ بن الحارث، عن أبي قرة مرفوعا لكنه لا يثبت، والموقوف أشبه.
وقال: أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عاصم، عن موسى بن عبيدة، عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه، عن جابر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تجعلوني كقدح الراكب إن الراكب يملأ قدحه فإذا
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 8/ 399، صلاة الضحى، حديث رقم (23431) ، وعزاه إلى ابن راهويه، وابن أبي الدنيا في (الدعاء) ، قال البوصيري في (زوائده) : في سنده أبو قرة الأسدي، قال فيه ابن خزيمة: لا أعرفه بعدالة ولا جرح، وباقي رجال الإسناد رجال الصحيح.
[ (2) ]
(شعب الإيمان) : 7/ 133، باب في الصبر على المصائب حديث رقم (9748) من حديث هشام- يعنى ابن حسان-، عن الحسن، عن صعصعة بن معاوية قال: لقيت أبا ذر يقود حملا له أو يسوقه في عنقه قربة. فقلت: يا أبا ذر مالك؟ قال لي: عملي. قال: قلت: يا أبا ذر ما مالك؟ قال لي: عملي ثلاث مرات قال: قلت: ألا تحدثني شيئا سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم اللَّه الجنة بفضل رحمته إياهم، «وما من مسلم أنفق زوجين في سبيل اللَّه إلا ابتدرته حجبة الجنة» ، وفي بعض النسخ «حجب الجنة» .(11/56)
فرغ وعلق معاليقه فإن كان فيه ماء مرت حاجته أو للوضوء توضأ، وإلا أهراق القدح فاجعلوني في أول الدعاء، أو في أوسطه، ولا تجعلوني آخره [ (1) ] .
قال الطبراني حدثنا إسحاق الديري حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن موسى بن عبيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جابر فذكر مثله إلا أنه قال: فأجعلوني في أول الدعاء، وفي أوسطه، وفي آخره.
وخرّج الحافظ أبو موسى المديني من حديث سعيد بن معروف، عن عمرو بن قيس أو ابن أبي قيس، عن أبي الجوزاء، عن عبد اللَّه بن عمر قال: من كان له إلى اللَّه حاجة فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة تطهر وراح إلى المسجد، فتصدق بصدقة قلت أو كثرت، فإذا صلى الجمعة قال: اللَّهمّ إني أسألك باسمك، بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم، الّذي لا إله إلا هو الحي القيوم، الّذي لا تأخذه سنة ولا نوم، الّذي ملأت عظمته السموات والأرض، الّذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، ووجلت القلوب من خشيته، أن تصلى على محمد، وأن تعطيني حاجتي وهي كذا.
فإنه يستجاب له إن شاء اللَّه قال: وكان يقول: لا تعلموه سفهاءكم، لا يدعو بإثم أو قطيعة [ (2) ] .
وخرّج الترمذي من طريق عبد اللَّه بن بكر التميمي، عن فائد بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن أبي أو في قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من كانت له إلى اللَّه أو إلى أحد من بنى آدم حاجة، فليتوضّأ وليحسن الوضوء، ثم ليصل
__________
[ (1) ]
(كنز العمال) : 1/ 509، حديث رقم (2253) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وضعفه، عن جابر، (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) : 3/ 222، كتاب الأذكار والدعوات، كتاب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3316) ولفظه «لا تجعلوني كقدح الراكب إن الراكب إذا علق معاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء، فإن كان له حاجة في الوضوء توضأ، وإن كانت له حاجة في الشرب شرب، وإلا أهراق ما فيه، اجعلوني في أول الدعاء، وفي وسط الدعاء، وفي آخر الدعاء.
[ (2) ] لم أجده بهذه السياقة، وقد أخرجه ابن ماجة في (السنن) في صلاة الحاجة بلفظ وسند آخر، وكذلك الترمذيّ كما سيأتي.(11/57)
ركعتين، ثم ليثن على اللَّه، وليصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم ليقل: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، سبحان اللَّه رب العرش العظيم، الحمد للَّه رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
قال الترمذيّ [ (1) ] : هذا حديث غريب وفي إسناده مقال، وفائد بن عبد الرحمن ضعيف الحديث، وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم بن حبان:
كان ممن يروي المناكير، عن المشاهير، ويأتي عن ابن أبي أوفى بالمعضلات، لا يجوز الاحتجاج به، وقال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه.
وقد خرجه الحاكم في (المستدرك) وقال: إنما خرجته شاهدا، وفائد مستقيم الحديث، كذا قيل.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 2/ 344، أبواب الصلاة، باب (148) ما جاء في صلاة الحاجة، حديث رقم (479) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 1/ 441، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (189) ما جاء في صلاة الحاجة، حديث رقم (1384) .
وأخرجه أيضا أبو عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 466، كتاب صلاة التطوع، حديث رقم (1199) ، قال الحاكم: فائد بن عبد الرحمن أبو الورقاء كوفي، عداده في التابعين وقد رأيت جماعة من أعقابه، وهو مستقيم الحديث، إلا أن الشيخين لم يخرجا عنه، وإنما جعلت حديثه هذا شاهدا لما تقدم. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل متروك، يعنى فايد أبو الوراق العطار.(11/58)
السادسة والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن صلاة أمته تبلغه في قبره وتعرض عليه صلاتهم وسلامهم
خرّج أبو داود من طريق أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد اللَّه بن نافع قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم.
وخرّج أبو الشيخ في كتاب (الصلاة على النبيّ) صلّى اللَّه عليه وسلّم من طريق الحسن ابن الصباح، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ من بعيد علمته، وهذا الحديث غريب جدا.
وقد خرجه البيهقيّ من حديث العلاء بن عمرو الجعفيّ: حدثنا أبو عبد الرحمن- هو محمد بن مروان السدي- عن الأعمش.
وخرّج الطبرانيّ من حديث عبد اللَّه بن محمد العمريّ، حدثنا أبو مصعب حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من مسلم سلّم عليّ في شرق الأرض ولا غربها، إلا أنا وملائكة ربي نردّ عليه الصلاة والسلام، فقال له قائل: يا رسول اللَّه! فما بال أهل المدينة؟ قال: [كفؤ] [ (1) ] كريم في جيرانه إنه مما أمر به حفظ الجوار.
قال الأعمش: هذا وضعه العمريّ.
وروى النسائي [ (2) ] من طريق سفيان، عن عبد اللَّه بن السائب، عن زاذان، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (الأصل) . ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 3/ 50، كتاب السهو، باب (46) السلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
حديث رقم (1281) ، قوله: «سياحين» صفة الملائكة، يقال ساح في الأرض يسيح سياحة، إذا ذهب فيها، وأصله من السبح، وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض والسيّاح(11/59)
صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن للَّه ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتى السلام. وذكره ابن حبان في (صحيحه) [ (1) ] .
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من طريق حسين بن على الجعفي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، عن أوس بن أبي أوس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة. فأكثروا من الصلاة عليّ فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ. قالوا: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت، يعنى وقد بليت؟ فقال: إن اللَّه عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
ورواه أبو داود [ (3) ] والترمذي [ (4) ] والنسائي [ (5) ] ثلاثتهم من طريق حسين الجعفي، وكذلك خرجه ابن حبان [ (6) ] في (صحيحه) والحاكم في (مستدركه) [ (7) ]
__________
[ () ] بالتشديد كالعلاء، مبالغة منها.
قوله: «يبلغوني»
من الإبلاغ أو التبليغ، وفيه حث على الصلاة والسلام عليه وتعظيم له صلّى اللَّه عليه وسلّم وإجلاله لمنزلته، حيث سخر الملائكة الكرام لهذا الشأن الفخم. (وحاشية السندي على سنن النسائي) .
[ (1) ] (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 195، كتاب الرقائق، (9) الأدعية، ذكر البيان بأن سلام المسلم على المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم يبلغ إياه ذلك في قبره، حديث رقم (914) ، وقال ك إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وعبد اللَّه بن السائب هو الشيبانيّ الكندي.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 577، حديث رقم (15729) ، من حديث أوس بن أبي أوس الثقفيّ.
[ (3) ] (سنن أبي داود) كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب الجمعة (207) باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، حديث رقم (1047) ، قال الخطابي: «أرمت» معناه بليت، وأصله أرممت أي صرت رميما، فحذفوا إحدى الميمين، وهي لغة لبعض العرب، كما قالت: ظلت، وقد غلط في هذا بعض من يفسر القرآن برأيه، ولا يعبأ بقول أهل التفسير، ولا يعرج عليهم لجهله، فقال: إن قوله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة 65] . من ظال يظال، وهذا شيء اختلفه من قبل نفسه لم يسبق إليه. (معالم السنن) ، مختصرا.
وأخرجه أيضا في كتاب الصلاة، باب (361) في الاستغفار، حديث رقم (1531) . -(11/60)
وقد أعل بعض الحفاظ هذا الحديث، بأن حسين الجعفيّ حدث به عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي الأشعث، عن أوس، قال: ومن تأمل هذا الإسناد لم يشك في صحته لثقة رواته وشهرتهم، وقبول الأئمة أحاديثهم، وعلته أن حسين الجعفيّ لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فلما حدث به حسين غلط في اسم الجد فقال: ابن جابر، وقد بين ذلك الحفاظ ونبهوا عليه، قال البخاري في (التاريخ الكبير) [ (1) ] : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمىّ [ (2) ] ، عن مكحول سمع منه الوليد بن مسلم، عنده مناكير ويقال: هو الّذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجعفي، وقال: هو ابن جابر وغلطا في نسبه، ويزيد بن تميم أصح، وهو ضعيف الحديث.
__________
[ () ] (4)
(سنن الترمذي) : 2/ 359، أبواب الصلاة، أبواب الجمعة، باب (353) ما جاء في فضل يوم الجمعة، حديث رقم (488) ، ولفظه: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ... » ،
ثم قال الترمذي: وفي الباب عن أبي لبابة، وسلمان، وأبي ذر، وسعد بن عبادة، وأويس بن أوس، قال: أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
[ (5) ] (سنن النسائي) : 3/ 101- 102، كتاب الجمعة، باب (5) إكثار الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة، حديث رقم (1373) .
[ (6) ] (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 190- 191، كتاب الرقائق، باب (9) الأدعية، ذكر البيان بأن صلاة من صلّى على المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم من أمته تعرض عليه في قبره، حديث رقم (910) .
[ (7) ] (المستدرك) : 1/ 413، كتاب الجمعة، حديث رقم (1029) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري.
[ (1) ] (التاريخ الكبير) : 5/ 365، ترجمة رقم 1156، وهو الرحمن بن يزيد بن تميم المسلمي الشامىّ، عن مكحول، سمع منه الوليد بن مسبم، عنده مناكير، ويقال: هو روى عنه أهل الكوفة، أبو أسامة وحسين، فقالوا: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر.
[ (2) ] في (الأصل) : «الشامي» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .(11/61)
[وقال الخطيب: روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ووهموا في ذلك، فالحمل عليهم في تلك الأحاديث، ولم يكن غير ابن تميم الّذي أشار عمرو بن عليّ، وأما ابن جابر فليس في حديثه منكر، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. حدّثت عن دعلج بن أحمد، قال: قال موسى بن هارون: روى أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فظن أنه ابن جابر، وابن جابر ثقة، وابن تميم ضعيف] ، وأجيب عن هذا التعليل بأن حسين بن علي الجعفي قد صرح بسماعه له من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر.
قال ابن حبان في (صحيحه) : حدثنا ابن خزيمة، حدثنا ابن كريب، حدثنا حسين بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فصرح بالسماع منه، وقوله: أنه ابن جابر وإنما هو ابن تميم فغلط في اسم جده فإنه قول بعيد فإنه لم يكن يشتبه على حسين بهذا مع نقضه وعلمه بها وسماعه منهما، فإن قيل: فقد قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب (العلل) سمعت أبي يقول: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا أعلم أحدا من أهل العراق يحدث عنه، والّذي عندي أن الّذي يروي عنه أبو أسامه وحسين الجعفيّ واحد، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامه خمسة أحاديث أو ستة أحاديث منكرة، لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بمثلها، ولا أعلم أحدا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئا، وأما
حسين الجعفي فإنه روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث، عن أوس بن أوس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في يوم الجمعة، وفيه الصاعقة، وفيه النفخة وفيه كذا،
وهو حديث منكر لا أعلم أحدا رواه غير حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن جابر ثقة. تم كلامه.
قيل: قد تكلم في سماع حسين الجعفيّ وأبي موسى من ابن جابر فأكثر الحديث، هل أنكروا سماع أبي أسامة منه؟ قال الحافظ أبو الحجاج المزيّ في (تهذيب الكمال) : قال ابن نمير وذكر أبا أسامة فقال: الّذي يروى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر نرى أنه ليس بابن جابر المعروف، ذكر لي أنه رجل(11/62)
يسمى بابن جابر، قال يعقوب: وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا اسامة أنه علم ذلك وعرف، ولكن تفاضل عن ذلك.
قال: وقال لي ابن نمير: ألا ترى روايته لا تشبه سائر أحاديثه الصحاح التي روى عنه أهل الشام وأصحابه؟ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت محمد بن عبد الرحمن بن أخي حسين الجعفيّ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر، فالذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر وهو ابن تميم.
وقال ابن أبي داود: سمع أبو اسامة من ابن المبارك، عن ابن جابر، وجميعا يحدثان عن مكحول، وابن جابر أيضا دمشقيّ، فلما قدم هذا قال:
أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقيّ وحدث عن مكحول، فظن أبا أسامة أنه ابن جابر الّذي روى عنه ابن المبارك، وابن جابر ثقة مأمون، يجمع حديثه وابن تميم ضعيف، وقال أبو داود: متروك الحديث، حدث عنه أبو أسامة وغلط في اسمه فقال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشاميّ وكل ما جاء عن أبي أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد فإنما هو ابن تميم.
وأما رواية حسين الجعفيّ، عن ابن جابر فقد ذكره المزيّ في كتاب (التهذيب) ، فقال: روى عنه حسين بن عليّ الجعفيّ وأبو أسامة حماد بن أسامة إن كان محفوظا فجزم برواية حسين، عن ابن جابر، وشك في رواية حماد.
وقد ذكر الدارقطنيّ أيضا. فقال: في كلامه على كتاب أبي حاتم في الضعفاء قوله: حسين الجعفيّ روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم خطأ الّذي يروي عنه حسين هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم فغلط في اسم جده فهذا ما ظهر في جواب هذا التعليل.
وللحديث علة أخرى: وهي أن عبد الرحمن بن يزيد لم يذكر سماعه من أبي الأشعث. قال عليّ بن المدينيّ: حدثنا الحسين بن عليّ الجعفيّ حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس ابن أوس فذكره. قال إسماعيل بن إسحاق في كتابه: حدثنا علي بن عبد اللَّه فذكره.(11/63)
وليست هذه العلة بعلة قادحة، فإن للحديث شواهد من حديث أبي هريرة، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس بن مالك، والحسن، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا.
فأما حديث أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
رواه مالك عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة عنه قال: قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة خلق فيه آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا هي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل اللَّه شيئا إلا أعطاه إياه.
فهذا الحديث الصحيح مؤيد لحديث أوس بن أوس، وقال علي مثل معناه.(11/64)
وأما حديث أبي الدرداء [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
ففي (الثقفيات) : أنبأنا أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن علي بن المقرئ، أنبأنا أبو العباس محمد بن الحسين بن قتيبة العسقلانيّ، أخبرني عمر ابن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عباده بن نسي، عن أبي الدرداء قال: قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود، تشهده الملائكة، وإن أحدا لا يصلي عليّ يوم الجمعة إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: إن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء، فنبيّ اللَّه حيّ يرزق.
وخرجه الطبرانيّ من طريق سعيد بن أبي مريم. حدثنا يحيى بن أيوب، عن خالد بن زيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثروا الصلاة: على يوم الجمعة فإنه يوم مشهود، تشهده الملائكة ليس من عبد يصلي عليّ إلا بلغني صوته حيث كان. قلت: وبعد وفاتك؟ قال: وبعد وفاتي، إن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وخرجه ابن ماجة أيضا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هو أبو الدرداء الأنصاريّ، واسمه عويمر، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقب. ترجمته في (الإصابة) : 7/ 121، ترجمة رقم (9860) .
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 345، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (79) في فضل الجمعة، حديث رقم (1085) .(11/65)
وأما حديث أبي أمامة [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرجه البيهقيّ من طريق إبراهيم بن الحجاج، حدثنا حماد بن سلمة عن برد بن سنان، عن مكحول الشامي، عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أكثروا الصلاة علي في كل يوم جمعة. فمن كان أكثرهم صلاة علي كان أقربهم منى منزلة [ (2) ] .
وقد تكلم في برد بن سنان [ (3) ] ، ووثقه يحيى بن معين، وغيره، وقيل مع ذلك: إن مكحولا لم يسمع من أبي أمامة بهذا على هذا الحديث.
__________
[ (1) ] هو أبو أمامة الباهليّ، صديّ بن عجلان بن الحارث، وقيل: عجلان بن وهب. سكن مصر، ثم انتقل منها فسكن حمص من الشام ومات بها. وكان من المكثرين في الرواية، وأكثر حديثه عند الشاميين. توفي سنة (81) ، وقيل: سنة (86) . (أسماء الصحابة الرواة) : 48- 49، ترجمة رقم (17) .
[ (2) ] (شعب الإيمان) : 3/ 110، باب في الصلوات، فضل الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجمعة، حديث رقم (3032) .
[ (3) ] هو برد بن سنان الشاميّ أبو العلاء الدمشقيّ مولى قريش، ترجمته في (تهذيب التهذيب) :
1/ 375، ترجمة رقم (790) .(11/66)
وأما حديث أنس [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرجه الطبرانيّ من طريق نصر بن عليّ، حدثنا النعمان بن أبي عبد السلام، حدثنا أبو طلال عن أنس قال: قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه أتاني جبريل آنفا عن ربه عز وجل فقال: ما على الأرض مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليت عليه أنا وملائكتي عشرا [ (2) ] .
فقال:
محمد بن إسماعيل العرقيّ: حدثنا جبارة بن مغلس. حدثنا أبو إسحاق حازم عن يزيد الرقاشيّ عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثروا الصلاة على يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض عليّ [ (3) ] .
وهذان الحديثان وإن كانا ضعيفين فيصلحان للاستشهاد.
ورواه ابن على السري. حدثنا داود بن الجراح. حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة. عن أنس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة.
وكان الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يستحبون إكثار الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة. قال محمد ابن يوسف العابد عن الأعمش عن يزيد بن وهب قال: قال: ابن مسعود حدثنا زيد ابن وهب: لا ندع إذا كان يوم الجمعة أن نصلي على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ألف مرة، نقول: اللَّهمّ صل على محمد النبيّ الأميّ.
__________
[ (1) ] هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجار- واسمه تيم اللَّه- بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة أبو حمزة الأنصاريّ، الخزرجيّ النجاريّ، من بني عديّ بن النجار، خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. أمه: أم سليم بنت ملحان. (أسماء الصحابة الرواة) : 39، ترجمة رقم (3) .
[ (2) ] (كنز العمال) : 1/ 500، حديث رقم (2209) ، (2210) وعزاهما إلى الطبرانيّ عن أنس بن أبي طلحة.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2235) وعزاه إلى أبي عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) ، والبيهقيّ في (الشعب) عن أبي مسعود الأنصاريّ، وحديث رقم (2236) وعزاه إلى الطبراني في (الأوسط) عن أبي هريرة.(11/67)
وأما حديث الحسن [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرّج أبو يعلي في (مسندة) من طريق أبي بكر الحنفيّ، حدثنا عبد اللَّه بن نافع أنبانا العلاء بن عبد الرحمن. قال: سمعت الحسن بن عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا. ولا تتخذوا بيتي عيدا. صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم تبلغني أيا ما كنتم [ (2) ] . ولكن قد رواه مسلم بن عمر [ (3) ] عن عبد اللَّه بن نافع عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا. ولا تجعلوا قبري عيدا. وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم [ (4) ] .
وهذا أشبه. ولهذا جعلت لحديث أنس علة.
__________
[ (1) ] هو الحسن بن علي بن أبي طالب، سبط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (كنز العمال) : 15/ 290، الصلاة في البيت، حديث رقم (41506) وعزاه إلى أبي يعلي، والضياء، عن الحسن بن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
[ (3) ] هو مسلم بن عمرو بن مسلم بن وهب الحذاء أبو عمرو المدينيّ، وروى عن عبد اللَّه بن نافع الصائغ، وعنه الترمذيّ والنسائيّ، وأبو بكر بن صدقة البغداديّ، وعامر بن محمد القرطبيّ، ومحمد بن أحمد بن نصر الترمذيّ ومحمد بن أحمد بن أبي خيثمة. ويحى بن الحسن النسابة، ويحيى بن محمد بن صاعد، قال النسائي: صدوق. قلت: وكذا قال مسلمة، وأخرج ابن خزيمة عنه في (صحيحه) . (تهذيب التهذيب) : 10/ 121، ترجمة رقم (245) .
[ (4) ]
(كنز العمال) : 15/ 391، الصلاة في البيت، حديث رقم (41512) ، وعزاه إلى أبي داود في (السنن) : 2/ 534، كتاب الحج، باب (100) زيارة القبور، حديث رقم (2042) ، وفيه:
«فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» .(11/68)
وخرّج الطبرانيّ في (المعجم الكبير) [ (1) ] من طريق أحمد بن رشدين المصري، حدثنا سعيد بن إبراهيم. حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد بن أبي زين عن حسن بن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن أبيه أن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: حيثما كنتم فصلوا عليّ وصلاتكم تبلغني.
وله من حديث موسى بن عمير، عن مكحول عن أبي أمامة، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليّ صلّى اللَّه عليه عشرا، وملك موكل بها حتى يبلغنيها [ (2) ] .
وخرّج أبو الشيخ الأنصاريّ من حديث أبي كريب حدثنا قبيصة عن نعيم بن ضمضم، قال: قال لي عمران بن حميري: ألا أحدثك عن خليلي عمار ابن ياسر؟ قلت: بلى، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن للَّه ملكا أعطاه أسماع الخلائق، وهو قائم على قبري، إذا مت فليس أحد يصلي عليّ صلاة إلا قال: يا محمد صلّى عليك فلان. قال: فليصلي الرب تبارك وتعالى على ذلك الرجل بكل صلاة عشرا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 1/ 489، الباب السادس في الصلاة عليه وآله، حديث رقم (2147) وعزاه إلى الطبراني عن الحسن بن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 3/ 57، حديث رقم (8586) من حديث أبي هريرة، بسياقة أتم.
[ (2) ] (كنز العمال) : 1/ 500، حديث رقم (2207) ، وعزاه إلى الطبرانيّ عن أبي أمامة.
[ (3) ] (المطالب العالية) : 3/ 222- 223، كتاب الأذكار والدعوات، باب الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3318) . وقال في هامشه: قال البوصيري: رواه الحارث، والبزار، وأبو الشيخ، وذكر ألفاظهم.
قال: ورواه الطبرانيّ، قال المنذريّ: رووه كلهم عن نعيم بن ضمضم، وفيه خلاف عن عمران بن الحميري ولا يعرف، قال البوصيريّ: عمران هذا ذكره ابن حبان في (صحيحه) وقال البخاريّ: لا يتابع على حديثه.(11/69)
وخرّج الطبراني في (المعجم الكبير) [ (1) ] من طريق عثمان بن أبي شيبة. حدثنا أبو كريب. حدثنا قبيصة بن عقبة عن نعيم بن ضمضم عن الحميري قال: قال لي عمار: ألا أحدثك عن حبيبي نبي اللَّه؟ قلت: بلى، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عمار إن للَّه ملكا أعطاه أسماع الخلائق كلها وهو قائم على قبري إلى يوم القيامة، فليس أحد من أمتي يصلى علي صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه، قال: يا محمد صلّى عليك فلان هكذا وكذا. فيصلي الرب على ذلك الرجل بكل واحدة عشرا.
ومن حديث عبد الرحمن بن صالح الكوفي. حدثنا نعيم بن ضمضم عن خال له يقال له: عمران الحميري، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن للَّه ملكا أعطاه سمع العباد [كلهم] [ (2) ] فليس من أحد يصلي علي صلاة إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلّى اللَّه عليه عشر أمثالها [ (3) ] .
وقال إبراهيم بن رشيد بن مسلم: حدثنا عمر بن حبيب القاضي، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من عبد صلى عليّ صلاة إلا عرج بها ملك حتى يبحث بها وجه الرحمن عز وجل فيقول ربنا تبارك وتعالى: اذهبوا بها إلى عبدي يستغفر لصاحبها وتقرّ بها عينه.
وخرّج إسماعيل بن إسحاق في كتابه من طريق هشيم. قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن عن يزيد الرقاشيّ قال: إن ملكا موكل يوم الجمعة من
__________
[ (1) ]
(سلسلة الأحاديث الصحيحة) : 4/ 44، من فضل الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكره الشيخ الألباني شاهدا على صحه الحديث رقم (1530) ، ولفظه: أكثروا الصلاة عليّ، فإن اللَّه وكل بى ملكا عند قبري، فإذا صلّى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد، إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة.
[ (2) ] زيادة للسياق من (ميزان الاعتدال) .
[ (3) ] (ميزان الاعتدال) : 1/ 213، ترجمة إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التميمي الكوفي، ترجمة رقم (829) ، ثم قال: تفرد به إسماعيل إسنادا ومتنا.(11/70)
صلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يبلغ النبي يقول: إن فلانا من أمتك يصلي عليك. هذا موقوف.
ومن طريق مبارك عن الحسن عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة،
ومن طريق وهب عن أيوب قال: بلغني واللَّه أعلم أن ملكا موكل بكل من صلّى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى يبلغه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ومن طريق إبراهيم بن حمزة. حدثنا عبد العزيز بن محمد عبد سهيل قال: جئت أسلم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وحسن وحسين يتعشيان في البيت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعاني فجئته فقال: ادن فتعشّ فقلت: لا أريد، قال لي: ما لي رأيتك وقفت؟ قال: وقفت أسلم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. قال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه ثم قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، لعن اللَّه يهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليّ إن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.(11/71)
السابعة والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن من ذكر عنده فلم يصلّ عليه بعد ورغم أنفه وخطئ طريق الجنة
خرّج الحاكم في (المستدرك) [ (1) ] من طريق محمد بن إسحاق الصغانيّ، حدثنا ابن أبي مريم. حدثنا محمد بن هلال. حدثني سعد بن إسحاق بن كعب ابن عجرة عن أبيه عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحضروا [المنبر] فأحضرنا فلما ارتقى درجة قال: آمين. ثم ارتقى الدرجة الثانية.
فقال: آمين. ثم ارتقى الدرجة الثالثة. فقال: آمين. فلما فرغ نزل عن المنبر فقلنا: يا رسول اللَّه لقد سمعنا. منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه! فقال: إن جبريل عرض لي. فقال: بعد من أدرك رمضان ولم يغفر له. فقلت: آمين. فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عند فلم يصل عليك. فقلت: آمين. فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك والديه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة.
فقلت: آمين.
قال الحاكم: صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] .
وخرّج الترمذيّ من طريق ربعيّ بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ. عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رغم أنف الرجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، ورغم أنف [الرجل] دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف [الرجل] أدرك أبواه عنده الكبر فلا يدخلاه الجنة.
[قال عبد الرحمن: وأظنه قال: أو أحدهما] . قال الترمذيّ: وفي الباب عن جابر وأنس، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وربعيّ بن إبراهيم هو أخو إسماعيل بن إبراهيم، وهو ثقة، وهو ابن عليّة.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 170، حديث رقم (7256) ، وفيه: «بعدا لمن» ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(11/72)
ويروى عن بعض أهل العلم قال: إذا صلّى الرجل على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مرة في المجلس أجزأ ما كان في ذلك المجلس [ (1) ] .
ورواه الحاكم في (المستدرك) [ (2) ] ، وعبد الرحمن بن إسحاق [ (3) ] احتج به مسلم، وقال فيه أحمد بن حنبل: صالح الحديث، وتكلم فيه بعضهم، وقال فيه أبو داود: ثقة إلا أنه قدريّ.
ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث عبد العزيز بن أبي حاتم عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقى المنبر، فقال: آمين آمين آمين فقيل له: يا رسول اللَّه ما كنت تصنع هذا فقال: قال لي جبريل: رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ولم يغفر له.
فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف الرجل أدرك أبوية أو أحدهما الكبر ولم يدخل الجنة، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين.
كثير بن زيد [ (4) ] وثقة ابن حبان وقال أبو زرعة: صدوق وقد تكلم فيه.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 514- 515، كتاب الدعوات، باب (101)
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رغم أنف رجل،
حديث رقم (3545) وما بين الحاصرتين تصويبات وزيادات للسياق منه.
[ (2) ] (المستدرك) : 1/ 734، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم (2016) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] هو عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد اللَّه بن الحارث العامريّ، مولاهم، ويقال: الثقفي المدنيّ، ويقال له: عباد بن إسحاق. قال ابن خزيمة: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال ابن عدىّ: في حديثه بعض ما ينكر، ولا يتابع عليه، والأكثرون منه صحاح، وهو صالح الحديث كما قال أحمد، وقال الدارقطنيّ: يرمى بالقدر. وحكى الترمذي في (العلل) عن البخاريّ أنه وثقه. (تهذيب التهذيب) : 6/ 125- 126، ترجمة رقم (285) .
[ (4) ] هو كثير بن زيد الأسلميّ ثم السهميّ مولاهم، وأبو محمد المدني، يقال له: ابن صافنة، وهي أمه. قال ابن عديّ: تروى عنه نسخ، ولم أر به بأسا، وأرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال ابن سعد: توفي في خلافة أبي جعفر، وكان كثير الحديث، وقال خليفة:
توفي في آخر خلافة أبي جعفر سنة (158) .(11/73)
ورواه ابن حبان في (صحيحه) [ (1) ] من حديث محمد بن عمر، وعن سلمة عن أبي هريرة فذكره. وقال: وما من عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك فما تدخل النار فأبعده اللَّه. قل: آمين. فقلت: آمين.
ومحمد بن عمرو [ (2) ] هذا خرّج له البخاريّ ومسلم في المتابعات، ووثّقه ابن معين وصحّح له الترمذيّ.
ورغم بكسر الغين المعجمة أي لصق بالتراب وهو الرغام، وقال ابن الأعرابي: هو بفتح الغين ومعناه ذلّ عن كره. يقال: أرغمه الذل، ويكون معناه حطه من عزة إلى مقام الذل، وكنى عنه بالتراب [ (3) ] .
وقال: الفريابي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سلمة بن وردان، قال: سمعت أنسا يقول: ارتقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المنبر فرقي درجة فقال: آمين، ثم ارتقى درجة فقال: آمين، ثم ارتقى الثالثة. فقال:
__________
[ () ] قال الحافظ ابن حجر: وجزم ابن حبان بوفاته فيها. وقال أبو جعفر الطبريّ: وكثير بن زيد عندهم ممن لا يحتج بمثله. (تهذيب التهذيب) : 8/ 370- 371، ترجمة رقم (745) .
[ (1) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 188، كتاب الرقاق، باب الأدعية، ذكر رجاء دخول الجنان المصلى على المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذكره مع خوف دخول النيران عند إغضائه عنه كلما ذكر، حديث رقم (907) ، وإسناده حسن.
[ (2) ] هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، قال الحافظ في (التقريب) : صدوق له أوهام. (هامش المرجع السابق) .
[ (3) ] وفي الحديث: إذا صلّى أحدكم فليلزم جبهته وأنفه الأرض حتى يخرج منه الرغام، وفي معناه يخرج ويذل منه كبر الشيطان، وتقول: فعلت ذلك على الرغم من أنفه.
وفي الحديث أنه عليه السّلام، قال: رغم أنفه ثلاثا، وقيل: من يا رسول اللَّه؟ قال:
من أدرك أبويه أو أحدهما حيّا ولم يدخل الجنة.
وفي الحديث: وإن رغم أنف أبى الدرداء، أي وإن ذلّ، وقيل: وإن كره.
وفي حديث أسماء: إن أمى قدمت عليّ راغمة مشركة، أفأصلها؟ قال: نعم، لما كان العاجز الذليل لا يخلو من غضب، وراغمة أي غاضبة، تريد أنها قدمت على غضبي لإسلامي وهجرتي، متسخطة لأمرى.
(لسان العرب) : 12/ 246، مختصرا.(11/74)
آمين، ثم استوى فجلس فقال: أصحابه: أي رسول اللَّه! على ماذا أمنت؟
قال: جاءني جبريل فقال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة. فقلت: آمين، ورغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت:
آمين، ورغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، قلت: آمين.
ورواه أبو بكر الشافعيّ عن معاذ حدثنا القعنبي، حدثنا سلمة بن وردان فذكره، وسلمة بن وردان [ (1) ]
هذا لين الحديث قد تكلم فيه، وليس ممن يطرح حديثه، لا سيما وله شواهد وهو معروف من حديث غيره.
وقد روي من طريق قيس بن الربيع عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المنبر فقال: آمين. آمين، فقيل: يا رسول اللَّه ما كنت تصنع هذا، فقال: قال لي جبريل فذكر الحديث وقال فيه: يا محمد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده اللَّه، قل: آمين. فقلت:
آمين.
وقيس بن الربيع [ (2) ] صدوق بستي كان شعبة يثنى عليه، وقال أبو حاتم:
محله الصدق وليس بالقويّ. وقال ابن عديّ: عامة رواياته مستقيمة، وأصل
__________
[ (1) ] هو سلمة بن وردان الليثي الجندعي مولاهم أبو يعلى المدني، رأى جابر بن عبد اللَّه، وسلمة بن الأكوع.
قال أبو داود والنسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: وفي متون بعض ما يرويه مناكير، خالف سائر الناس. وقال ابن سعد: قد رأى عدة من الصحابة، وكانت عنده أحاديث يسيرة، وكان ثبتا فيها، ولا يحتج بحديثه، وبعضهم يستضعفه.
قال ابن شاهين في (الثقات) : وقال أحمد بن صالح: هو عندي ثقة صالح الحديث.
قال ابن حبان: كان يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديثه، وعن غيره من الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، وكأنه كان قد حطمه السن، فكان يأتي بالشيء على التوهم، حتى خرج عن حد الاحتجاج.
وقال الحاكم: حديثه عن أنس مناكير أكثرها. وقال العجليّ والدارقطنيّ: ضعيف. مات في خلافة أبي جعفر سنة (106) . (تهذيب التهذيب) : 4/ 140- 141، ترجمة رقم (275) .(11/75)
هذا الحديث قد روي من حديث أبي هريرة وكعب بن عجرة وابن عباس وأنس ومالك بن الحويرث وعبد بن جزء والزبيدي، وجابر بن سمرة وقد تقدم حديث أبى هريرة، وجابر بن سمرة وكعب بن عجرة. وأنس.
وأما
مالك بن الحويرث [ (1) ] فقال أبو حاتم البستي في (صحيحه) : حدثنا عبد اللَّه بن صالح البخاريّ ببغداد، حدثنا الحسين بن عليّ الحراني، حدثنا عمران بن أبان حدثنا مالك بن الحسين بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده قال: صعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المنبر فلما رقى عتبة قال: آمين. ثم رقى عتبة أخرى وقال: آمين ثم رقى عتبة أخرى، وقال آمين. ثم قال: أتانى جبريل عليه السلام وقال: يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده اللَّه، قلت:
آمين. قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده اللَّه قلت. آمين.
قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده اللَّه. قلت: آمين.
__________
[ () ] (2) هو قيس بن الربيع الأسديّ، وأبو محمد الكوفيّ، من ولد قيس بن الحارث بن قيس الأسديّ، والّذي أسلم وعنده ثمان نسوة، وفي رواية تسع نسوة.
قال جعفر بن أبان الحافظ: سألت ابن نمير عن قيس بن الربيع فقال: كان له ابن هو آفته. وقال أبو داود الطياسيّ: إنما آفته من قبل ابنه: كان ابنه يأخذ أحاديث الناس فيدخلها في مرج كتاب قيس ولا يعرف الشيخ ذلك. مات سنة (601) . (تهذيب التهذيب) :
8/ 350- 353، ترجمة رقم (698) .
[ (1) ] هو مالك بن الحويرث بن حشيش بن عوف بن جندع أبو سليمان الليثيّ الصحابيّ، وقيل في نسبه غير ذلك.
روى عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعنه أبو قلابة الجرميّ، وأبو عطية مولى بنى عقيل، ونصر بن عاصم الليثيّ، وسوار الجرميّ. ذكر ابن عبد البر أنه توفي سنة أربع وتسعين، وتبعه على ذلك ابن طاهر وغيره، وفيه نظر، بل لا يصح ذلك، لاتفاقهم على أن آخر من مات بالبصرة من الصحابة أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حتى إن ابن عبد البر ممن صرح بذلك. (تهذيب التهذيب) : 10/ 12 ترجمة رقم (13) .(11/76)
وأما حديث عبد اللَّه بن جزء الزبيديّ [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فقال جعفر الفريابي: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف. حدثنا ابن لهيعة عن عبد اللَّه بن يزيد الضعيف. عن عبد اللَّه بن الحارث بن جزء الزبيديّ أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل المسجد فصعد المنبر. فلما صعد أول درجة قال: آمين ثم صعد الثانية. فقال: آمين. ثم صعد الثالثة فقال: آمين، فلما نزل. قيل له:
رأيناك صنعت شيئا ما كنت تصنعه؟ فقال: إن جبريل تبدي لي في أول درجة فقال: يا محمد من أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة فأبعده اللَّه، ثم أبعده، فقال:
قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال في الثانية: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له. فأبعده اللَّه، ثم أبعده، فقلت: آمين. وقال في الثالثة: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده اللَّه، ثم أبعده: فقلت: آمين!.
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن الحارث بن جزء بن عبد اللَّه بن معديكرب بن عمرو بن عصم بن عمرو بن عويج بن عمرو بن زيد الزبيديّ. حليف أبي وداعة السهمي، وله صحبة، وروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث حفظها، وسكن مصر، فروى عنه المصريون، ومن آخرهم: يزيد بن أبي حبيب.
توفي سنة (85) أو (88) . (أسماء الصحابة الرواة) : 132، ترجمة رقم (137) .(11/77)
وأما حديث ابن عباس [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرجه الطبرانيّ من حديث ابن هارون العكلي حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال: بينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على المنبر إذ قال: آمين ثلاث مرات فسئل عن ذلك فقال: أتانى جبريل فقال: من ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده اللَّه قل: آمين فقلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فمات فلم يغفر له فأبعده اللَّه، قل: آمين فقلت: آمين.
قال: ومن أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده اللَّه، قل: آمين. فقلت: آمين.
وروى محمد بن حمدان المروزي، حدثنا عبد اللَّه بن خبيق، حدثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن رجل عن زر عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من لم يصل عليّ فلا دين له [ (2) ] .
وخرّج الطبرانيّ من طريق عبيدة بن حميد. قال: حدثني فطر بن خليفة عن أبى جعفر محمد بن حسين عن أبيه عن جده حسين بن عليّ عليهما السلام. قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من ذكرت عنده فخطئ الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة [ (3) ] .
وعلة هذا الحديث أن ابن أبي عاصم عن أبي بكر بن أبي شيبة.
حدثنا جعفر بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس القرشيّ الهاشميّ ابن عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. أمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية.
ولد وبنو هاشم بالشعب، قيل الهجرة بثلاث، وقيل بخمس، كان يسمى البحر لسعة علمه، ويسمى حبر الأمة، ويسمى ترجمان القرآن، وهو من صغار الصحابة. توفي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وله على الأرجح ثلاث عشرة سنة. توفى بالطائف سنة (68) وله (74) سنة. (أسماء الصحابة الرواة) : 40، ترجمة رقم (5) .
[ (2) ] (مجموعة الأحاديث الضعيفة للألبانيّ) : حديث رقم (214) .
[ (3) ]
(كنز العمال) : 1/ 508، حديث رقم (2250) ، وعزاه إلى الطبراني عن ابن عباس، وعبد الرزاق عن محمد بن علي مرسلا، ولفظه: من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة.(11/78)
ورواه عمر بن جعفر بن غياث عن أبيه عن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورواه إسماعيل بن إسحاق عن إبراهيم بن الحجاج حدثنا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا، ورواه علي بن المدينيّ. حدثنا سفيان. قال: قال عمر عن محمد بن عليّ بن حسين عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا قال: قال سفيان: قال رجل بعد عمر: سمعت محمد بن علي يقول:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم سمى سفيان الرجل وقال: هو بسام وهو الصيرفي:
ذكره إسماعيل عن عليّ وقال: حدثنا سليمان بن حرب وحازم قالا: حدثنا حماد بن زيد عن عمر عن محمد بن عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا وله شاهد من حديث عبد اللَّه بن عباس رواه الطبرانيّ عن عبدان بن أحمد، حدثنا جبارة بن مغلس حدثنا حماد بن زيد عن عمر بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من نسي الصلاة عليّ خطئ [به] طريق الجنة [ (1) ] . ورواه ابن ماجة عن جبارة بن مغلس،
وجبارة بن المغلس الحمانيّ الكوفيّ أبو محمد، كان ممن إذا وضع له الحديث حدث به وهو لا يشعر، وهذا المعنى قد روى من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وحسين بن على ومحمد بن الحنفية وابن عباس، وتقدم حديث حسين بن عباس.
__________
[ (1) ] (شعب الإيمان) : 2/ 215- 216، باب في تعظيم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإجلاله وتقديره، حديث رقم (1573) ، (1574) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(11/79)
وأما حديث محمد بن الحنفية [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فقال ابن أبي عاصم في كتاب (الصلاة على النبي) صلّى اللَّه عليه وسلّم: حدثنا أبو بكر حدثنا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة [ (1) ] .
وأما حديث أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فقال عبد الخالق بن الحسن السقطيّ: حدثنا محمد بن سلمان بن الحارث، حدثنا عمرو بن حفص بن غياث، حدثنا أبي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من نسي الصلاة على خطئ طريق الجنة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هو محمد بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ أبو القاسم، والمعروف بابن الحنفية، وهي خولة بنت جعفر بن قيس، من بنى حنيفة ويقال من مواليهم، سبيت في الردة من اليمامة.
وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وكان رجلا صالحا يكنى أبا القاسم، قال ابن حبان: كان من أفاضل بيته. (تهذيب التهذيب) : 7/ 315- 316، ترجمة رقم (588) .
[ (2) ] سبق تخريجهما.(11/80)
الثامنة والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن البخيل من ذكر عنده النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يصل عليه
خرّج الترمذيّ [ (1) ] من حديث أبي عامر العقديّ عن سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية عن عبد اللَّه بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن حسين بن عليّ عن عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: البخيل الّذي [من] إذا ذكرت عنده فلم يصل عليّ. قال:
الترمذيّ هذا حديث حسن صحيح غريب، وفي بعض النسخ حديث حسن غريب.
وخرجه النسائيّ وابن حبان في (صحيحه) [ (2) ] والحاكم في (المستدرك) [ (3) ] وقال: صحيح الإسناد، والنسائيّ في (سننه الكبير) : رواه عبد العزيز بن محمد بن عمارة بن غزيه عن عبد اللَّه بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب قال: قال على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
إن البخيل الّذي إذا ذكرت عنده فلم يصل عليّ. قال: إسماعيل بن إسحاق في كتابه: اختلف يحيى وأبو بكر بن أبي أويس في إسناد هذا الحديث، فرواه أبو بكر عن سليمان عن عمر بن أبي عمر، ورواه الحمانيّ عن سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية، وهذا حديث مشتهر عن عمارة بن غزية، وقد رواه عنه
__________
[ (1) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 515، كتاب الدعوات، باب (101)
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ورغم أنف رجل،
حديث رقم (3545) .
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 189- 190، كتاب الرقائق، باب (9) الأدعية، ذكر نفي البخل عن المصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (909) .
[ (3) ] (المستدرك) : 1/ 734، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم (2105) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : صحيح، وشاهده عند أبي هريرة صحيح.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 331، حديث رقم (1738) ، من حديث عقيل ابن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(11/81)
خمسة: سليمان بن بلال، وعمر بن الحارث، وعبد العزيز الدراوَرْديّ، وإسماعيل بن جعفر، وعبد اللَّه بن جعفر والد عليّ، ثم ساقها كلها، ورواه إسماعيل بن أبي إدريس: حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عمر بن أبي عمر عن عليّ بن حسين عن أبيه فذكره.
وخرّج إسماعيل من حديث حماد بن سلمة عن سعيد بن هلال قال:
حدثني رجل من أهل دمشق عن عوف بن مالك عن أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن البخيل من الناس من ذكرت عنده فلم يصل على [ (1) ] .
وخرّج ابن أبي عاصم من حديث محمد بن شعيب بن سبور، عن عثمان بن أبي العالية عن عليّ بن يزيد عن القاسم عن أبي أمارة، عن أبي ذر قال: خرجت ذات يوم فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ألا أخبركم بأبخل الناس؟
قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فذاك من أبخل الناس [ (2) ] .
وهذا من رواية الصحابيّ عن مثله، وأصل هذا روي كما تقدم من حديث عليّ وابنه الحسين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وروى إسماعيل في كتابه من طريق سليمان بن حرب: حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: بحسب امرئ من البخل أن أذكر عنده فلم يصل عليّ [ (3) ] .
وفي رواية عن الحسن يرفعه: كفى به شحا أن يذكرني فلا يصلون على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فضل الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) : 32، 35.
[ (2) ] (الترغيب والترهيب) : 2/ 510.
[ (3) ] (تفسير ابن كثير) : 3/ 520، تفسير سورة الأحزاب، آية (6) ، عن الحسن.
[ (4) ] (كنز العمال) : 1/ 490، حديث رقم (2151) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور، عن الحسن مرسلا.(11/82)
التاسعة والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما جلس قوم مجلسا ولم يصلوا عليه إلا كان عليهم ترة [ (1) ] وحسرة يوم القيامة وقاموا عن أنتن من جيفة [حمار]
خرّج الترمذيّ [ (2) ] من حديث عبد الرحمن بن مهديّ عن سفيان الثوريّ عن صالح بن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا اللَّه ولم يصلوا عليّ إلا كان مجلسهم عليهم ترة وحسرة يوم القيامة، إن شاء اللَّه عفا عنهم وإن شاء أخذهم، وقال فيه: حديث حسن.
ورواه من حديث شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت الغر أبا مسلم قال:
أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شهدا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر مثله.
__________
[ (1) ] أصل الترة: النقص، ومعناها هاهنا: التبعة، يقال: ترت الرجل ترة على وزن: وعدته عدة (جامع الأصول) : 4/ 472.
[ (2) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 430- 431، كتاب الدعوات، باب (8) في القوم يجلسون ولا يذكرون اللَّه، حديث رقم (3380) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، معنى قوله: ترة: يعني حسرة وندامة، وقال بعض أهل المعرفة بالعربية: الترة هو الثأر.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 3/ 170، حديث رقم (9300) من مسند أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بسياقة أتم، ولفظه: «ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا اللَّه فيه إلا كان عليهم ترة، وما من رجل مشي طريقا فلم يذكر اللَّه عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر اللَّه إلا كان عليه ترة» قال أبي: حدثناه روح، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن إسحاق مولى عبد اللَّه بن الحارث، ولم يقل «: إذا أوى إلى فراشه» .
وحديث رقم (9533) ، وحديث رقم (9884) ، وحديث رقم (9907) ، وحديث رقم (9908) كلهم من مسند أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(11/83)
ورواه إسماعيل بن إسحاق في كتابه من حديث محمد بن كثير عن سفيان عن صالح.
ورواه أبو داود [ (1) ] والنسائيّ وابن حبان في (صحيحه) [ (2) ] من رواية سهيل عن أبي هريرة وهو على شرط مسلم ورواه ابن حبان أيضا من حديث شعبة عن الأعمش عن أبي صالح.
عن أبي هريرة ولفظه: ما قعد قوم مقعدا لا يذكرون اللَّه فيه ولا يصلون على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب. وهذا الإسناد على شرط الشيخين [ (3) ] .
وخرجه الحاكم [ (4) ] من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن إسحاق ابن عبد اللَّه بن الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
قال الحاكم: صحيح
__________
[ (1) ]
(سنن أبي داود) : 5/ 180- 181، كتاب الأدب، باب (31) كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر اللَّه، حديث رقم (4855) ولفظه: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون اللَّه فيه إلا قاموا على مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة» .
وحديث رقم (4856) ، ولفظه: من قعد مقعدا لم يذكر اللَّه فيه كانت عليه من اللَّه ترة، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر اللَّه فيه كانت عليه من اللَّه ترة» .
قال الخطابي: الترة النقص، ومنه قوله تعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ [محمد: 35] (معالم السنن) مختصرا، وحديث رقم (5059) باب (107) ما يقول عند النوم.
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 2/ 352- 353، كتاب البر والإحسان، باب (13) الصحبة والمجالسة، ذكر البيان بأن الحسرة التي ذكرناها تلزم من ذكرناه وإن أدخل الجنة، حديث رقم (951) ، وذكر الزجر عن افتراق القوم عن مجلسهم بغير ذكر اللَّه، حديث رقم (592) ، وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير أحمد بن إبراهيم الدورقي، فمن رجال مسلم.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.
[ (4) ] (المستدرك) : 1/ 735، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والذكر، حديث رقم (2017) ، وقال حديث صحيح على شرط البخاريّ ولم يخرجاه. وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) : على شرط مسلم.(11/84)
على شرط البخاريّ، واعترض عليه بأن إبراهيم بن الحسن بن ديزيل [ (1) ] رواه عن آدم بن إياس متكلم فيه، ومع ذلك فقد رواه أبو إسحاق الفزاريّ عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا، وأبو صالح بن نبهان مولى التوأمة، كان شعبة لا يروى عنه. وقال مالك بن أنس: ليس بثقة فلا تأخذن عنه شيئا، وقال يحيى: ليس بالقويّ في الحديث. وقال مرة: لم يكن ثقة، وقال السعدي: تغير، وقال النسائيّ: ضعيف، وتحريرا مرة أنه ثقة في نفسه غير أنه تغير بآخره، فمن سمع منه قديما فسماعه صحيح، ومن سمع منه آخرا ففي سماعه شيء، فممن سمع منه قديما: أبي ذئب وابن جريح وزياد بن سعد وأدركه مالك والثوري بعد اختلافه. وقال الإمام أحمد: ما أعلم ناسا ممن سمع منه قديما، ثم إن هذا الحديث قد رواه سليمان بن بلال عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة ولم يذكر فيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتابعه ابن أبي أويس عن عبد العزيز بن أبي حازم عن سهيل.
وخرّج النسائيّ في (سننه الكبير) من حديث أبي داود الطيالسيّ حدثنا يزيد بن إبراهيم عبد أبي الزبير عن جابر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اجتمع قوم ثم تفرقوا من غير ذكر اللَّه عز وجل وصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا تفرقوا عن أنتن من جيفة [ (2) ] .
وخرّج الطبرانيّ [ (3) ] من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن الحارث، عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من قوم جلسوا مجلسا، ثم قاموا منه لم يذكروا اللَّه ولم يصلوا على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كان ذلك المجلس عليهم ترة.
__________
[ (1) ] هو إبراهيم بن الحسين الهمدانيّ. أبو إسحاق، الّذي يقال له ابن ديزيل سفينة، يروى عن أبي نعيم. ترجمته في (لسان الميزان) : 1/ 48، (الثقات) : 8/ 86.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] (كنز العمال) : 9/ 148، حديث رقم (25455) ، وعزاه إلى الطبرانيّ عن أبي أمامة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(11/85)
وقال ابن منيع في مسندة: حدثنا يوسف عن عطية الصفار عن العلاء ابن كثير عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيما قوم جلسوا في مجلس [ثم] تفرقوا قبل أن يذكروا اللَّه تعالى ويصلوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ذلك المجلس عليهم ترة يوم القيامة. يعنى حسرة. وهذا الأصل قد رواه أبو سعيد الخدريّ وأبو هريرة [ (1) ] .
وخرّج ابن أبي عاصم من حديث شعبة عن سليمان عن ذكوان عن أبي سعيد قال: ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 9/ 148، حديث رقم (25458) وعزاه إلى ابن حبان، عن أبي هريرة.(11/86)
التسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلى عليه [في كتاب] [ (1) ] لم تزل الصلاة عليه ما بقيت الصلاة مكتوبة
روى محمد بن الحسن الهاشميّ حدثني سليمان بن الربيع، حدثنا كادح ابن رحمة، حدثنا نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليّ في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب [ (2) ]
وكادح بن رحمة العرني أبو رحمة الكوفيّ العابد، قال ابن عدي: وأحاديثه عامة ما يرويه غير محفوظ ولا يتابع عليه في أسانيده ولا متونه، ويشبه حديثه حديث الصالحين، قال:
حديثهم يقع فيه ما لا يتابعهم عليه أحد، ونهشل بن سعيد بن وردان [ (3) ] أبو عبد
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] (تفسير ابن كثير) : 3/ 524، تفسير سورة الأحزاب، الآية 56، عن ابن عباس، ثم قال:
وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة، وقد روى من حديث أبي هريرة ولا يصح أيضا.
قال الحافظ أبو عبد اللَّه الذهبي شيخنا: أحسبه موضوعا. وقد روى نحوه عن أبي بكر وابن عباس، ولا يصح من ذلك شيء، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وقد ذكر الخطيب البغداديّ في كتابه (الجامع الآداب الراويّ والسامع) قال: رأيت بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه كثيرا ما يكتب اسم النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من غير ذكر الصلاة عليه كتابه، قال: وبلغني أنه كان يصلى عليه لفظا. (المرجع السابق) .
[ (3) ] هو نهشل بن سعيد بن وردان الوردانيّ أبو سعيد، ويقال: أبو عبد اللَّه الخراسانيّ النيسابوريّ، ويقال: الترمذيّ، بصريّ الأصل.
قال أبو داود الطيالسيّ وإسحاق بن راهويه: كذاب. وقال الدوريّ عن ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة، وقال أبو زرعة والدارقطنيّ: ضعيف. وقال ابو حاتم: ليس بقويّ متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه.
قال ابن حبان: يروى عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، ولا يحل كتب حديثه إلا على سبيل التعجب. قال الحافظ ابن حجر: وقال الحاكم: روى عن الضحاك المعضلات. -(11/87)
اللَّه، ويقال: أبو سعيد النيسابورىّ ثم البصري، قال ابن معين: ضعيف وقال مرة: يروي عن الضحاك ليس بثقة ومرة قال: يروى عنه ابن نمير ليس بشيء، قال البخاريّ: روى عن ابن المبارك معاوية البصري قال إسحاق: كان كذابا وقال السعدي: غيره محمود في حديثه وقال أبو داود الطيالسيّ: كذاب، وقال النسائيّ وغيره: متروك الحديث، وقال أبو زرعة والدارقطنيّ: ضعيف وقال: ابن عديّ فكل أحاديثه يشبه بعضها بعضا يعنى غير محفوظة. وقد روي هذا الحديث من وجه آخر،
قال ابن الجارود:
حدثنا محمد بن عاصم. حدثنا بشر بن عبيد حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن الأعرج عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلى عليّ في كتاب صلت عليه الملائكة غدوا ورواحا، ما دام اسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الكتاب.
وقال أحمد بن عطاء الروذباريّ: سمعت أبا صالح عبد اللَّه بن صالح يقول: رئي بعض أصحاب الحديث في المنام قيل له: ما فعل اللَّه بك؟، فقال: غفر لي، فقيل:
بأي شيء؟ فقال: بصلاتي في كتبي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ () ] وعن وردان بن أبى هند حديثا منكرا. قال البخاريّ: روى عنه معاوية البصريّ أحاديث مناكير. وقال أبو سعيد النقاش: روى عن الضحاك الموضوعات.
[ (1) ] علامات الوضع لائحة عليه، ولا سيما أن أصله يعتمد على رؤيا منامية!!.(11/88)
الحادية والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن الصلاة عليه زكاة
خرّج إسماعيل في كتاب (الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم) من حديث سليمان ابن حرب قال: حدثنا سعيد بن زيد عن ليث عن كعب عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلوا عليّ فإن صلاتكم عليّ زكاة لكم، قال: واسألوا اللَّه لي الوسيلة،
قال: فإما حدثنا وإما سألناه قال: الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل. وأرجو أن أكون ذلك الرجل [ (1) ] .
وخرّج الحاكم [ (2) ] من حديث ابن وهب. أخبرني عمرو بن الحارث أنّ أبا الشيخ حدثه أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أيما رجل كسب مالا من حلال فأطعم نفسه وكساها فمن دونه من خلق اللَّه فإنه له زكاة، وأيما رجل مسلم لم يكن له صدقة فليقل في دعائه: اللَّهمّ صل على محمد عبدك ورسولك، وصل على المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات فإنّها زكاة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) [ (3) ] بسنده ومعناه.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 52- 53، حديث رقم (8552) من مسند أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ]
(المستدرك) : 4/ 44، كتاب الأطعمة، حديث رقم (7175) ، وقال في آخره: «قال: لا يشبع مؤمن يسمع خيرا حتى يكون منتهاه الجنة» .
وقال الحافظ الذهبيّ في (التلخيص) :
صحيح.
[ (3) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 185، كتاب الرقائق، باب (6) الأدعية، ذكر البيان بأن صلاة الداعي ربه على صفته صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه، تكون له صدقة عند عدم القدرة عليها، علة هذا حديث في روايته عن أبي الهيثم. وله شاهد من
حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة بلفظ «صلوا عليّ فإن الصلاة عليّ زكاة لكم.(11/89)
الثانية والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلى عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم في يوم ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده في الجنة
روى العشاريّ من حديث الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلّى عليّ في كل يوم ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده في الجنة [ (1) ] .
قال الحافظ أبو عبد اللَّه المقدسيّ في كتاب (الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم) لا أعرفه إلا من حديث الحكم بن عطية. قال كاتبه: الحكم بن عطية القيسي البصريّ له في الترمذيّ حديث واحد وقد وثقه ابن معين، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، ورواه ابن شاهين من حديث محمد بن أحمد البراء، حدثنا محمد بن عبد العزيز الدينوريّ، حدثنا قرة ابن عبد العزيز بن حبيب. حدثنا الحكم بن عطية، فذكره [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 1/ 505، حديث رقم (2233) ،
وعزاه إلى أبي الشيخ عن أنس، ولفظه «من صلّى عليّ في يوم ألف مرة لم يمت حتى يبشر بالجنة» .
[ (2) ] هو الحكم بن عطية العيشى البصري، قال الترمذيّ: قد تكلم فيه بعضهم، وقال النسائيّ:
ليس بالقوى، وقال مرة: ضعيف. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: يكتب حديثه وليس بمنكر الحديث. وكان أبو داود يذكره بجميل، قلت: يحتج به؟ قال: لا، ليس هو بالمتين. ترجمته في (تهذيب التهذيب) : 2/ 374- 375، ترجمة رقم (758) .(11/90)
الثالثة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلى عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم غفرت له ذنوبه
خرّج أبو يعلى الموصلي من حديث خليفة بن خياط. حدثنا درست بن حمزة عن مطر الوراق عن قتادة عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من عبدين متحابين يستقبل أحدهما صاحبه ويصليان على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا لم يتفرقا، حتى يغفر لهما ذنوبهما ما تقدم منها وما تأخر [ (1) ] .
الرابعة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم كفارة
روى ابن أبي عاصم من طريق شبابة قال: حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلوا عليّ، فإن الصلاة عليّ كفارة لكم، فمن صلّى عليّ، صلى اللَّه عليه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 9/ 135، حديث رقم (25369) ، وعزاه إلى ابن السنى في (عمل اليوم والليلة) ، وابن النجار عن أنس.
[ (2) ] لم أقف عليه.(11/91)
الخامسة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم شفع فيه
خرّج الطبراني في (المعجم الكبير) من حديث ابن بكير: حدثنا ابن لهيعة عن بكر ابن سوادة عن زياد بن نعيم عن وفاء بن شريح الحضرميّ عن رويفع بن ثابت الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ صلّ على محمد، وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة، وجبت له شفاعتي [ (1) ] .
وروى ابن شاهين من حديث عبد اللَّه بن سليمان بن الأشعث. حدثنا علي بن الحسين المكتب، حدثنا إسماعيل بن يحيى بن عبيد اللَّه التيمي، حدثنا فطر بن خليفة عن أبي الطفيل عن أبي بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من صلّى على، كنت شفيعه [ (2) ] .
وقال ابن أبي داود أيضا: حدثنا علي بن الحسين حدثنا إسماعيل بن يحيى حدثنا فطر بن خليفة عن أبي الطفيل عن أبى بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجه الوداع يقول: إن اللَّه وهب لكم [ذنوبكم] عند الاستغفار فمن استغفر بنية صادقة غفر له، ومن قال: لا إله إلا اللَّه رجح ميزانه، ومن صلّى عليّ كنت شفيعه يوم القيامة.
روى إسماعيل من طريق عمرو بن على بن أبي بكر الجشمي عن صفوان بن سليم عن عبيد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى [علي] وسأل لي الوسيلة، حلت له شفاعتي [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 1/ 497، حديث رقم (2189) ، وعزاه إلى الطبراني والبغوي، عن رويفع بن ثابت.
[ (2) ] (كنز العمال) : 16/ 229، حديث رقم (44869) ، وعزاه إلى أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري قاضى المارستان في مشيخته، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2192)
وعزاه إلى ابن النجار عن عقبة بن عامر، ولفظه: «من سأل اللَّه لي الوسيلة، حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» .(11/92)
السادسة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أولى الناس به صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم القيامة أكثرهم صلاة عليه
خرّج الترمذي [ (1) ] في جامعه من طريق عبد اللَّه بن كيسان عن عبد اللَّه ابن شداد عن أبيه عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن أولى الناس بى يوم القيامة أكثرهم على صلاة، قال الترمذي: حديث حسن غريب.
ورواه أبو حاتم بن حبان في (صحيحه) [ (2) ] من حديث خالد بن مخلد عن موسى بن يعقوب عن عبد اللَّه بن كيسان عن عبد اللَّه بن شداد عن أبيه
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 2/ 354، أبواب الصلاة، باب (352) ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (484) .
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 192، كتاب الرقائق، باب (9) الأدعية، حديث رقم (911) ثم قال: قال أبو حاتم رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: في هذا الخبر دليل على أن أولى الناس برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القيامة يكون أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم.
وقال أبو نعيم فيما نقله عنه الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) : 35: وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول اللَّه أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا.
وقال ابن عدي في (الكامل) بعد أن ذكر هذا الحديث: وهذا أيضا يرويه خالد عن موسى بن يعقوب في الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ... هذه الأحاديث التي ذكرتها عن مالك وعن غيره لعله توهما منه أنه كما يرويه أو حمل على حفظه. لأني قد اعتبرت حديثه ما روى الناس عنه من الكوفيين، محمد بن عثمان بن كرامة، ومن الغرباء أحمد بن سعيد الدارميّ، وعندي من حديثهما عن خالد صدر صالح، ولم أجد في كتبه أنكر مما ذكرته، فلعله توهما منه أو حملا على الحفظ، وهو عندي إن شاء اللَّه لا بأس به (الكامل في ضعفاء الرجال) : 3/ 36، ترجمة خالد بن مخلد أبو الهيثم القطواني رقم (25) ، (تهذيب التهذيب) : 3/ 101- 102، ترجمة رقم (221) .(11/93)
عن ابن مسعود، وهو في (مسند البزار) ، فالذي عند الترمذي عن ابن شداد عن ابن مسعود وعند أبي حاتم عن ابن شداد عن أبيه عن ابن مسعود، وكذلك البغوي عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد حدثنا موسى فذكره، وقال: عن ابن شداد عن أبيه عن ابن مسعود.
السابعة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم تتأكد الصلاة عليه في واحد وأربعين موضعا إما وجوبا أو استحبابا في آخر التشهد من الصلاة
[وهو الموضع الأول]
وقد أجمع المسلمون على مشروعية الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذا الموضع، واختلفوا في وجوبها فيه، فقالت طائفة: ليست الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في آخر التشهد بواجبة، ونسبوا من أوجبها إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع، منهم أبو جعفر الطحاوي، والقاضي عياض، والخطابي فإنه قال:
ليست بواجبة في الصلاة، وهو قول جماعة من الفقهاء إلا الشافعيّ، ولا أعلم له قدوة، وكذلك ابن المنذر ذكر أن الشافعيّ تفرد بذلك عدم الوجوب، واحتج القاضي عياض على عدم الوجوب بأن قال: الدليل على أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليست من فروض الصلاة عند السلف الصالح قبل الشافعيّ وإجماعهم عليه، وقد شنع الناس عليه هذه المسألة جدا، وهذا تشهد ابن مسعود الّذي اختاره الشافعيّ، وهو الّذي عمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكذلك كل من روى التشهد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كأبى هريرة وابن عباس وجابر وابن عمر وأبي سعيد الخدريّ وأبي موسى الأشعري وعبد اللَّه بن الزبير لم يذكروا فيه.
وقال ابن عباس وجابر: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورد من القرآن، ونحوه عن أبى سعيد، وقال ابن عمر: كان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب، وكان عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يعلمه أيضا على المنبر، يعنى وليس فيه شيء من ذلك، أي أمرهم بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،(11/94)
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) : ومن حجة من قال إن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليست بواجبة في الصلاة
حديث الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمر قال: أخذ علقمة بيدي فقال: إن عبد اللَّه بن مسعود أخذ بيدي، وقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ بيدي كما أخذت بيدك فعلمني التشهد، فقال: قل:
التحيات للَّه والصوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فإذا قلت ذلك فقد قضيت الصلاة، فإن شئت فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد.
قالوا: ففي هذا الحديث ما يشهد لمن لم ير الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد واجبة ولا سنة مسنونة، لأن ذلك لو كان واجبا أو سنه لبين ذلك وذكره آنفا.
وقد روى أبو داود والترمذي والطحاوي من حديث عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا رفع أحدكم رأسه من آخر السجود فقد مضت صلاته إذا أحدث.
واللفظ لحديث الطحاوي، وعندكم لا تمضى صلاتكم حتى يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قالوا: وقد روى عاصم بن حمزة عن عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا جلس مقدار التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته.
ومن حجتهم أيضا حديث الأعمش عن أبى وائل عن ابن مسعود في التشهد وقال: ليتخير ما أحب من الكلام، يعنى ولم يذكر الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومن حجتهم
حديث فضالة بن عبيد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمع رجلا يدعوني في صلاته لم يحمد اللَّه ولم يصل على النبي فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللَّه والثناء عليه ثم يدعو بما شاء.
ففي هذا الحديث أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يأمر المصلى إذا لم يصلّ على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلاته بالإعادة كما أمر الّذي لم يتم ركوعه وسجوده بالإعادة، فلو كانت فرضا، لأمره بإعادة الصلاة.
واحتجوا أيضا بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يعلمها المسيء في صلاته، ولو كانت من فروض الصلاة التي لا تصح إلا بها، لعلمه إياها، كما علمه القراءة(11/95)
والركوع والسجود والطمأنينة في الصلاة، قالوا: والفرائض تثبت بالدليل الصحيح، لا معارض له من مثله أو بإجماع من تقوم الحجة بإجماعهم، فهذا جل ما احتج به نفاة الوجوب، وعارضهم من ذهب إلى الوجوب بأن قالوا: إنما نسبتكم الشافعيّ رحمه اللَّه ومن قال بقوله في هذه المسألة إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع فغير مسلم به. فقد قال بقوله جماعة من الصحابة ومن بعدهم، منهم عبد اللَّه بن مسعود وأبو مسعود فإنه كان يراها واجبة، ويقول: لا صلاة لمن لا يصلى فيها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكره ابن عبد البر من طريق عثمان بن أبي شيبة عن شريك عن جابر الجعفي عن أبى جعفر محمد بن علي عن أبي مسعود قال: ما أرى أن صلاة لي تمت حتى أصلى فيها على محمد وعلى آل محمد.
وعبد اللَّه بن عمر ذكر أن الحسن بن شبيب المعمري، حدثنا علي بن ميمون، حدثنا خالد بن حيان عن جعفر بن برقان عن عقبة بن نافع عن ابن عمر أنه قال: لا تكون الصلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن نسيت شيئا من ذلك فاسجد سجدتين بعد الصلاة. ومن التابعين أبو جعفر محمد بن على والشعبي ومقاتل بن حيان وبه قال إسحاق بن راهويه قال: إن تركها عمدا لم تصح صلاته وإن تركها سهوا رجوت أن تجزئه.
وعن إسحاق في ذلك روايتان، ذكرهما حرب في مسأله في باب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، قال: سألت إسحاق قلت: الرجل إذا تشهد فلم يصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أما أنا فأقول: إن صلاته جائزة وقال الشافعيّ:
لا تجوز صلاته، ثم قال: أنا أذهب إلى حديث الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيرة، فذكر حديث ابن مسعود قال: وسمعت أبا يعقوب يعنى إسحاق يقول:
إذا فرغ من التشهد- إماما كان أو مأموما- لا يجزئه غير ذلك، لقول أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد عرفنا السلام عليك يعنى في التشهد فكيف الصلاة عليك؟ فأنزل اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، وفسّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف هي؟ فأدنى ما ذكر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه يكفيك قليله بعد التشهد، والتشهد والصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجلسة الأخيرة هما عملان لا يجوز لأحد أن يترك واحدا منهما عمدا، وإن كان ناسيا رجونا أن تجزئه مع أن بعض(11/96)
علماء الحجاز قال: لا يجزئه ترك الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن تركه أعاد الصلاة، انتهى.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل أيضا، ففي (مسائل المروزي) قيل لأبى عبد اللَّه: إن ابن راهويه يقول: لو أن رجلا ترك الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد، بطلت صلاته، قال: ما أجترئ أن أقول هذا. وقال مرة: هذا شذوذ في مسائل أبى زرعة الدمشقيّ.
قال أحمد: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت فإذا الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واجبة، وظاهر هذا أنه رجع عن قوله بعدم الوجوب، وأما قولكم رضي اللَّه عنكم: إن الدليل على الوجوب عمل السلف الصالح قبل الشافعيّ وإجماعهم عليه، فجوابه أن استدلالهم إما أن يكون بعمل الناس في صلاتهم، وإما بقول أهل الإجماع إنها ليست بواجبة، فإن كان الاستدلال بالعمل فهو من أقوى حججنا عليكم، فإنه لم يزل عمل الناس مستمرا قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر على الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في آخر التشهد، إمامهم، ومأمومهم، ومنفردهم، حتى لو سئل كل مصل هل صليت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلاتك هذه؟
فقال: لم أصل عليه فيها وعلم المأمور ذلك، لأنكروا عليه، وهذا أمر لا يمكن إنكاره. فالعمل أقوى حجة عليكم فكيف يسوغ لكم أن تقولوا: علم السلف الصالح قبل الشافعيّ ينفى الوجوب؟ أفترى السلف الصالح كلهم؟ ما كان أحد منهم قط يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلاته؟ فإن قلتم: نعم كانوا كذلك علم كل أحد بطلان ذلك، وأما إن كان احتجاجكم بقول أهل الإجماع: إنها ليست بفرض، فهذا مع أنه لم يتم عملا لم يعمله أهل الإجماع، وإنما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، وغايته أنه قول كثير من أهل العلم، ونازعهم في ذلك آخرون من الصحابة والتابعين وأرباب المذاهب، فهذا ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، ومقاتل بن حيان، وجعفر بن محمد، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل في أحد قوليه، يوجبون الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد، فأين إجماع المسلمين مع خلاف هؤلاء؟ وأين عمل السلف الصالح وهؤلاء من أفاضلهم؟ ولكن هذا من شأن من لم يتبع مذاهب العلماء، حتى يعلم مواضع الإجماع والنزاع.(11/97)
وأما قوله: وقد شنع الناس المسألة على الشافعيّ جدا، فيا سبحان اللَّه! أي شناعة عليه إن هي إلا من محاسن مذهبه؟ فأى كتاب خالف الشافعيّ في هذه المسألة؟ أهل هي فرض؟ أم سنة؟ أم إجماع؟ إنما قال قولا اقتضته الأدلة، وقامت على صحته، فالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة من تمام الصلاة بلا خلاف.
وأما تمام واجباتها أو مستحباتها وهو- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- رأى أنها من تمام واجبات الصلاة بالأدلة التي تأتى إن شاء اللَّه تعالى، فلا إجماعا حرفه، ولا نصا خالفه، فمن أي وجه يشنع عليه؟ وهل الشناعة إلا بمن عليه أليق، وبه ألحق؟
وأما قوله: وهذا تشهد ابن مسعود الّذي اختاره الشافعيّ وهو الّذي علمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إياه إلى آخره، فالشافعي إنما اختار تشهد عبد اللَّه بن عباس، والّذي اختار تشهد ابن مسعود أبو حنيفة وأحمد، واختار مالك تشهد ابن عمر، والجواب من وجوه:
أحدها:
أن تقول بموجب هذا الدليل، فإن مقتضاه وجوب التشهد ولا ينفى وجوبه وجوب غيره، فإنه لم يقل إن هذا التشهد جمع الواجب من الذكر في هذه القعدة، فإيجاب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بدليل آخر لا يكون معارضا بترك تعليمه في أحاديث التشهد.
الثاني:
أنكم توجبون السلام من الصلاة، ولم يعلمهم إياه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن قلتم: فإنما أوجبنا السلام ب
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم،
قلنا:
ونحن أوجبنا الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأدلة المقتضية لها، فإن كان تعليم التشهد وحده مانعا عن إيجاب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان مانعا من إيجاب السلام، وإن لم يمنعه، لم يمنع وجوب الصلاة.
الثالث:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كما علمهم التشهد، علمهم الصلاة عليه، فكيف يكون تعليمهم التشهد دليل وجوبها؟ وتعليمهم الصلاة لا يدل على وجوبها؟ فان قلتم: التشهد الّذي علمهم إياه هو تشهد الصلاة، ولهذا قال فيه: فإذا جلس أحدكم فليقل: التحيات للَّه، وأما تعليم الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنه مطلق غير مقيد حالة الصلاة، قلنا: والصلاة عليه أيضا في بحالة الصلاة لوجوه:(11/98)
أحدها:
حديث محمد بن إبراهيم التيمي الّذي تقدم وقوله: وكيف نصلي عليك إذا نحن جلسنا؟.
الثاني:
أن الصلاة التي سألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعلمهم إياها نظير السلام الّذي علموه، لأنهم قالوا: هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟
ومن المعلوم أن السلام الّذي علموه هو قولهم في الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، فوجب أن تكون الصلاة المقرونة به هي في الصلاة.
الثالث:
أنه لو قدر أن أحاديث التشهد تنفى وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت أدلة وجوبها مقدمة ذلك على تلك، لأن نفيها باق على استحباب البراءة الأصلية، ووجوبها ناقل عنها، والناقل مقدم على المنفي، فكيف ولا تعارض، فإن غاية ما ذكرتم من تعليم التشهد أدلة ساكتة عن وجوب شيء لا يكون معارضا لما نطق به فضلا أن يقدم عليه؟
الرابع:
أن تعليمهم التشهد كان متقدما، ولعله من حين فرضت الصلاة، وأما تعليمهم الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنه كان بعد نزول قول اللَّه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الآية، ومعلوم أن هذه الآية نزلت في الأحزاب بعد نكاحه صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب بنت جحش، وبعد تخييره أزواجه، فهي بعد فرض التشهد، فلو قدر أن فرض التشهد كان نافيا لوجوب الصلاة عليه، كان منسوبا بأدلة الوجوب فإنّها متأخرة، والفرق بين هذا الوجه والوجه الّذي قبله:
أن هذا الوجه: يقتضي تقديم أدلة الوجوب لتأخرها، والوجه الّذي قبله: يقتضي تقديم لرفع البراءة الأصلية من غير نظر إلى تقدم وتأخر، والّذي يدل على تأخر الأمر بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن التشهد قولهم: أما السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟ ومعلوم أن السلام عليه مقرون بذكر التشهد لم يشرع في الصلاة وحده بدون ذكر التشهد واللَّه أعلم.
وأما قوله: ومن حجة من لم يرها فرضا في الصلاة حديث الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة ... الحديث، وفيه: فإذا قلت ذلك، فقد قضيت الصلاة فإن شئت فقم، وإن شئت فاقعد، وأنه يذكر في الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجوابه من وجوه.(11/99)
أحدها:
أن هذه الزيادة مدرجة في الحديث ليست من كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما نبه الحفاظ أئمة الإسلام، قال الدارقطنيّ في كتاب (العلل) : رواه الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة عن علقمة عن عبد اللَّه، حدث به عنه محمد بن عجلان وحسين الجعفي وزهير بن معاوية وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، فأما ابن عجلان وحسين الجعفي فاتفقا على لفظه، وأما زهير فزاد عليهما في آخره كلاما أدرجه بعض الرواة عن زهير في حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو قوله: إذا قضيت هذا، أو فعلت هذا، فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم.
ورواه شبابة بن سواد عن زهير، ففصل فيه بين لفظ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال فيه: عن زهير، قال ابن مسعود: هذا الكلام وكذلك رواه ابن يونان عن الحسن بن الحر، فبينه وفصل كلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من كلام ابن مسعود وهو الصواب.
وقال في كتاب (السنن) : وقد ذكر حديث الحسن بن الحر من طريق حسين الجعفيّ عنه من غير هذه الزيادة، ثم قال: وتابعه ابن عجلان ومحمد بن أبان عن الحسن بن الحر.
ورواه زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر فزاد في آخره كلاما، وهو قوله: إذا قلت هذا، أو فعلت هذا فقد قضيت الصلاة، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن فاقعد، فأدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، وذكره ووصله بكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شبابة عن زهير، وجعله من كلام عبد اللَّه بن مسعود.
وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن الحر كذلك، وجعل آخره من قول ابن مسعود، ولاتفاق حسين الجعفي وابن عجلان ومحمد بن أبان في رواياتهم عن الحسن على ترك ذكره في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره عن عبد اللَّه بن مسعود على ذلك، فأما
حديث شبابة عن زهير فحدثنا محمد بن إسماعيل الصفار أنبأنا الحسن بن مكرم أنبأنا شبابة بن سوار أنبأنا أبو خيثمة زهير بن معاوية، أنبأنا الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيدي، فقال: أخذ عبد اللَّه بن مسعود بيدي، فقال: أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيدي. فعلمني التشهد: التحيات للَّه والصوات والطيبات،(11/100)
السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
قال عبد اللَّه: فإذا قلت ذلك، فقد قضيت ما عليك من الصلاة، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد، قال الدارقطنيّ: شبابة ثقة، وقد فصل آخر الحديث، جعله من قول ابن مسعود وهو أصح من رواية: من أدرك آخره في كلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد تابعه غسان ابن الربيع وغيره. فرووه عن ابن ثوبان عن الحسن كذلك، وجعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود، ولم يرفعه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر الخطيب البغدادي في كتاب (الفصل) : أن قول من فصل كلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من كلام ابن مسعود هو الصواب، وبين أن هذه الزيادة مدرجة، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
فإن قيل: إنكم رويتم عن ابن مسعود: أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واجبة في الصلاة، وادعاؤكم أن الزيادة في حديث الحسن بن الحر مدرجة وهي من قول ابن مسعود يبطل ما رويتم عنه، بدليل أنه إن كان الحديث من كلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فهو نقل في عدم وجوبها، وإن كان من كلام ابن مسعود، فهو مبطل لما رويتموه عنه. أجيب عنه بأجوبة.
أحدها:
أن قوله: إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك معناه، أنها قد قاربت التمام، لإجماعنا وإياكم على أن الصلاة لم تتم.
ورد هذا الجواب بأنه قال: فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد، وعند من يوجب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يخير بين القيام والقعود، حتى يأتي بها.
الثاني:
أن هذا حديث خرّج على معنى التشهد، وذلك أنهم كانوا يقولون في الصلاة: السلام على اللَّه، فقيل لهم: إن اللَّه هو السلام فعلمهم التشهد، ومعنى قوله: فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك، يعنى إذا ضم إليها ما يجب فيها مع ركوع وسجود وتسليم وسائر أحكامها، وألا ترى أنه لم يذكر التسليم من الصلاة وهو من فرائضها لأنه قد وقفتم عليه فاستغنى عن إعادة ذلك عليهم؟ ونظير حديث ابن مسعود هذا
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصدقة: إنها تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم،
أي مع من ضم إليهم وسمى معهم في القرآن، وهم(11/101)
الثمانية الأصناف، ومثله أيضا قوله في حديث المسيء في صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل، ثم أمره بفعل ما رآه لم يأت به، ولم يقيمه في صلاته، فقال: إذا قمت إلى الصلاة ... فذكر الحديث، وسكت له عن التشهد والتسليم، وقد قام الدليل من غير هذا الحديث على وجوب التشهد والتسليم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما علمهم من ذلك كما يعلمهم السورة من القرآن، وأعلمهم أن ذلك في صلاتهم، وقام الدليل أيضا في المسألة أنه إنما يتحلل من الصلاة به لا بغيره من هذا الحديث، فذكر أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مأخوذة من غير ذلك الحديث.
وأيضا جاز لمن جعل التشهد فرضا بحديث ابن مسعود هذا حتى رد على من خالفه، وقال: إذا قعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته، بأن ابن مسعود إنما علق التمام في حديثه بالتشهد جاز لمن أوجب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحتج بالأحاديث الموجبة لها ولكون حجته منها على من نفى وجوبها كالحجة من حديث ابن مسعود على من نفى وجوب التشهد ووجوب القعدة معه، واستدلالنا أقوى من استدلالكم، لأنه استدلال بكتاب اللَّه، وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعمل الأمة قرنا بعد قرن، فإن لم يكن ذلك أقوى ممن استدل على وجوب التشهد لم يكن دونه، وإن كان في هذه المسألة من الفقهاء من ينازعنا، فهو كمن ينازعكم من الفقهاء في وجوب التشهد، والحجة في الدليل أين كان ومع من كان الجواب.
الثالث:
أنه لا يمكن أحد من منازعينا أن يحتج علينا بهذا الأثر لا مرفوعا ولا موقوفا، فإنه يقال لمن يحتج به إما أن يكون قوله: فإذا قلت هذا، فقد تمت صلاتك مقتصرا عليه أو مضافا إلى سائر واجباتها.
والأول: محال أو باطل ...
والثاني: حق ولكنه لا ينفى وجوب شيء مما تنازع فيه الفقهاء من واجبات الصلاة فضلا عن نفيه، وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهذا التسليم من تمام الصلاة وواجباتها عند مالك، وكذا الجلوس للتشهد وإن لم يذكره، وكذا إن كان عليه سهو واجب، فإنه لا تتم الصلاة إلا به وليس لشيء من ذلك ذكر في هذا الأثر.(11/102)
الجواب الرابع:
أن عند أبي حنيفة رحمه اللَّه أن التشهد ليس بفرض، وإذا جلس مقدار التشهد فقد تمت صلاته تشهد أو لم يتشهد، والحديث دليل على أن الصلاة لا تتم إلا بالتشهد فإن كان استدلالكم بأن علق التمام بالتشهد، فلا تصح الصلاة بعدمه صحيحا فهو حجة عليكم في قولكم بعدم وجوب التشهد.
لأنه علق به التمام، وبطل قولكم بنفي فريضة التشهد، وإن لم يكن الاستدلال به صحيحا بطلت معارضة أدلة الوجوب، وبطل قولكم بنفي الوجوب للصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعلى كلا التقديرين قولكم بطل، فإن قلتم: نحن نجيب عن هذا بأن قوله: فإن قلت هذا تمت صلاتك المراد به تمام الاستحباب وتمام الواجب قد نقضي بالجلوس. قيل لكم: هذا فاسد على قول من نفى وجوب الصلاة عليه، وعلى قول من أوجبها لأن من نفى وجوبها لا ينازع في أن تمام الاستحباب موقوف عليها فإن الصلاة لا تتم التمام المستحب إلا بها، ومن أوجبها يقول: لا تتم التمام الواجب إلا بها فعلى التقديرين لا يمكنكم الاستدلال بالحديث أصلا.
وأما قوله:
روى أبو داود والترمذي حديث عبد اللَّه بن عمرو، وفيه:
فإذا رفع رأسه من السجدة فقد مضت صلاته،
جوابه من وجوه:
أحدها:
أن الحديث معلول وبيان علته من وجوه.
الثاني:
أن الترمذي قال: ليس إسناده بالقوى وقد اضطربوا في إسناده.
الثالث:
أنه من رواية عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة.
الرابع:
أنه من رواية بكر بن سواد عن عبد اللَّه بن عمرو ولم يلقه فهو منقطع
. الخامس:
أنه مضطرب الإسناد كما قال الترمذي.
السادس:
أنه مضطرب المتن، مرة يقول: إذا رفع رأسه من السجدة فقد مضت صلاته، ولفظ أبي داود والترمذي غير هذا، وهو إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته، وهذا غير لفظ الطحاوي، ورواه الطحاوي أيضا بلفظ آخر فقال: إذا قضى الإمام صلاته فقعد(11/103)
فأحدث هو أو واحد ممن أتم الصلاة معه فأحدث، قبل أن يسلم الإمام فقد تمت صلاته، فلا يعود فيها فهذا معناه غير معنى الأول.
قال: الطحاوي وقد روى بلفظ آخر: إذا رفع المصلي رأسه من آخر صلاته وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته، وكلها مدارها على الإفريقي، ويوشك أن يكون هذا من سوء حفظه. وأما
قول على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إذا جلس مقدار التشهد تمت صلاته،
فجوابه أن على بن سعيد قال في مسأله: سألت أحمد بن حنبل عن ترك التشهد فقال: يعيد.
قلت: فحديث على إذا قعد مقدار التشهد؟ فقال: لا يصح. وقد روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بخلاف حديث على وعبد اللَّه بن عمر.
وأما قوله: روى الأعمش عن أبى قصة التشهد وقال: ثم ليتخير من الكلام ما أحب ولم يذكر الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجوابه: أن غاية هذا أن يكون ساكتا عن وجوب الصلاة، فلا يكون معارضا لأحاديث الوجوب.
وأما قوله: وحديث فضالة بن عبيد يدل على نفى الوجوب، فجوابه أن حديث فضالة حجة لنا في المسألة، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمره بالصلاة عليه والتشهد، وأمره للوجوب، فهو نظير أمره بالتشهد، وإذا كان الأمر متناولا لهما معا فالتفريق بين المأمور عن تحكم، فإن قلتم: التشهد عندنا ليس بواجب. قلنا:
الحديث حجة لنا عليكم في المسألتين والواجب اتباع الدليل، قوله: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يأمر هذا المصلي بإعادة الصلاة، ولو كانت الصلاة عليه فرضا لأمره بإعادتها كما أمر المسيء في صلاته، وجوابه من وجوه:
أحدها:
أن هذا كان عالما بوجوبها معتقدا أنها غير واجبة فلم يأمره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإعادة، أوامره في المستقبل بكونها، دليل على وجوبها وترك أمره بالإعادة دليل على أنه يعذر الجاهل بعدم الوجوب وهذا كما يأمر المسيء في صلاته بإعادة ما مضى من الصلوات، وقد أخبره أنه لا يحسن غير تلك الصلاة عذرا له بالجهل.
فإن قيل: فلم أمره أن يعيد تلك الصلاة ولم يعذره فيها بالجهل؟ قلت:
لأن الوقت باق وقد علمه أركان الصلاة فوجب عليه أن يأتى بها، فإن قيل:
فهل لا أمر تارك الصلاة عليه بإعادة تلك الصلاة كما أمر المسيء؟ قلنا: أمره(11/104)
صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصلاة فيها، فحكم ظاهر في الوجوب ويحتمل أن الرجل لما سمع ذلك الأمر من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بادر إلى الإعادة من غير أن يأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، ويحتمل أن تكون الصلاة نفلا فلا تجب إعادتها، ويحتمل ذلك، فلا يترك الظاهر من الأمر وهو دليل محكم لهذا المشتبه المحتمل.
فحديث فضالة إما مشترك الدلالة على السواء فلا حجة لكم، وإما راجح الدلالة في جانبنا فذكرناه، فلا حجة لكم فيه أيضا، فعلى التقديرين سقط احتجاجكم به، وقوله: لم يعلمها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المسيء في صلاته ولو كانت فرضا له لعلمها إياه، جوابه من وجوه:
أحدها:
أن حديث المسيء هذا قد جعله المتأخرون مستندا لهم، ونفى كل ما ينفون وجوبه، وحملوه فوق طاقته، وبالغوا في نفى ما اختلف في وجوبه، فمن نفى وجوب الفاتحة احتج به، ومن نفى وجوب التشهد احتج به، ومن نفى وجوب التسليم احتج به، ومن نفى وجوب الصلاة على النبي احتج به، ومن نفى وجوب الطمأنينة في الصلاة احتج به، ومن نفى وجوب التكبيرات احتج به وكل هذا تساهل واسترسال في الاستدلال، وإلا فعند التحقيق لا ينبغي وجوب شيء من ذلك بل غايته أن يكون قد سكت عن وجوبه ونفيه، فإيجابه بالدلالة الموجبة لا يكون معارضا به، فإن قيل: سكوته عن الأمر يدل على أنه ليس بواجب لأنه من مقام البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، قلنا: يلزمكم على هذا أن لا يجب التشهد، ولا الجلوس، ولا السلام، ولا النية، ولا قراءة الفاتحة، ولا كل شيء لم يذكره في الحديث حتى ولا استقبال القبلة، ولا الصلاة في الوقت، لأنه لم يأمره بشيء من ذلك فهذا لا يترك أحد.
وإن قلتم: إنما علمه ما أساء فيه وهو لم يسيء في ذلك، قيل لكم:
فاقنعوا لهذا الجواب من منازعكم في كل ما نفيتم وجوبه بحديث المسيء.
الثاني:
أن أمره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصلاة عليه ظاهر في الوجوب، وترك أمره المسيء به يحتمل أمورا، منها أنه لم يسئ فيه، أو أنه وجب بعد ذلك، أو أنه علمه معظم الأركان وأهمها، وأحال بقية تعليمه على مشاهدته صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلاته أو على تعليمه بعض الصحابة له، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان بأمرهم بتعليم بعضهم بعضا، وكان من المستقر عندهم أنه دلهم على تعليم الجاهل وإرشاد الضال، فأى(11/105)
محذور في أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم علمه بعض الصحابة، وعلمه بعض الصحابة بعضهم [ (1) ] الآخر، وإذا احتمل هذا لم يكن هذا المشتبه المحتمل معارضا لأدلة وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا غيرها من واجبات الصلاة فرضا على أنه تقدم عليها، فالواجب تقديم الصريح المحكم على المشتبه المحتمل.
وقوله: الفرائض إنما تثبت بدليل صحيح لا معارض له من مثله، أو إجماع، قلنا: استمعوا أدلتنا على الوجوب، فلنا عليه أدلة، فالدليل الأول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، وجه الدلالة أن اللَّه تعالى أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمره المطلق على الوجوب ما لم يقم دليل على خلافه، قد ثبت أن أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد سألوه عن كيفية هذه الصلاة المأمور بها
فقال: قولوا:
اللَّهمّ صلّ على محمد..
الحديث. وقد ثبت أن السلام الّذي علموه هو السلام عليه في الصلاة، وهو سلام التشهد، فمخرج الأمرين واحد، يوضح أنه علمهم التشهد آمرا لهم به، وفيه ذكر التسليم عليه فسألوا عن الصلاة عليه فعلمهم إياها ثم شبهها بما علموه من التسليم عليه، وهذا يدل على الصلاة والتسليم عليه في الصلاة ويتضح أنه لو كان المراد بالصلاة والتسليم عليه خارج الصلاة فيها لكان كل مسلم منهم إذا سلّم عليه يقول له: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يتقيدون في السلام عليه بهذه الكيفية، بل كان الداخل منهم عليه يقول: السلام عليكم، وربما قال: السلام على رسول اللَّه، وربما قال: السلام عليه من أول الإسلام بتحية الإسلام وإنما الّذي علموه قدر زائد عليها، وهو السلام عليه في الصلاة يوضحه حديث ابن إسحاق: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ وقد صحح هذه اللفظة ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطنيّ والبيهقي كما تقدم.
__________
[ (1) ] في الأصل: «البعض الآخر» ، وما أثبتناه حق اللغة، حيث إن كلمة «بعض» لا تأتى إلا نكرة غالبا، ويكون تعريفها بالإضافة دون الألف واللام، وبها جاء التنزيل قال تعالى:
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، بَعْضُكُمْ بَعْضاً.(11/106)
وإذ تقرر أن الصلاة المسئول عن كيفيتها هي الصلاة عليه في نفس الصلاة وقد خرّج ذلك مخرج البيان المأمور به في القرآن، ثبت أنها على الوجوب، ويضاف إلى ذلك أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن قيل: يحتمل قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
والسلام كما علمتم أمرين:
أحدهما:
أن يراد به السلام عليه في الصلاة.
الثاني:
أن يراد به السلام من الصلاة كما قد قاله أبو عمر بن عبد البر* أجيب بأن في نفس الحديث أنهم قالوا: هذا السلام عليك يا رسول اللَّه قد عرفناه. فكيف الصلاة؟ وهم إنما سألوه عن كيفية الصلاة، والسلام المأمور بهما في الآية لا عن كيفية السلام من الصلاة. وإن قيل هذا إنما يدل دلالة اقتران الصلاة والسلام، والسلام واجب في التشهد، فكذا الصلاة ودلالة الاقتران ضعيفة. أجيب أنا لم نحتج بدلالة الاقتران، وإنما استدلالنا بالأمر بها في القرآن وبينا أن الصلاة التي سألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعلمهم إياها إنما هي الصلاة التي في الصلاة.
وإن قيل: لا نسلم وجوب السلام ولا الصلاة واستدلالكم إنما يتم بعد تسليمه وجوب السلام عليه. أجيب بأنه لا يعترض على الأدلة من الكتاب والسنة بخلاف المخالف، فكيف يكون خلافكم في مسألة قد قام الدليل على قول منازعكم مبطلا لدليل صحيح لا معارض له في مسألة أخرى؟ وهل هذا إلا عكس طريقة أهل العلم بأن الأدلة هي التي تبطل ما خالفها من الأقوال، ويعترض بها من خالف موجبيها؟ فتقدم على كل قول اقتضى خلافها، لا أن أقوال المجتهد يعارض بها الأدلة، وتقدم عليها، ثم إن الحديث حجة عليكم في المسألتين، فإنه دليل على وجوب التسليم والصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيجب المصير إليه.
الدليل الثاني:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول ذلك في التشهد وأمرنا أن نصلي كصلاته، وهذا على وجوب فعل ما فعل في الصلاة، إلا ما خصه الدليل، فهاتان مقدمتان.
أما المقدمة الأولى:
فبيانها ما
روى الشافعيّ في (مسندة) عن إبراهيم ابن محمد. حدثني سعد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه يقول في الصلاة: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل(11/107)
محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد
وهذا وإن فيه إبراهيم بن يحيى فقد وثقه الشافعيّ وابن الأنفهاني وابن عدي وابن عقدة وضعفه آخرون.
وأما المقدمة الثانية:
فبيانها ما
روى البخاريّ في (صحيحه) من حديث مالك بن الحويرث وفيه: وصلوا كما رأيتموني أصلي.
الدليل الثالث:
حديث فضالة بن عبيد فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له أو لغيره:
إذا صلّى أحدكم فيبدأ بحمد اللَّه والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء. رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
فإن قيل: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يأمر هذا المصلي بالإعادة، أجيب بأنه قد تقدم جوابه فإن قيل: إن هذا الدعاء كان بعد الصلاة لا فيها بدليل ما
خرجه الترمذيّ في جماعة من حديث رشدين بن سعد، ولفظه: فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاعدا إذ دخل عليه رجل فصلى فقال: اللَّهمّ اغفر لي وارحمني. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا صليت فاحمد اللَّه بما هو أهله ثم صل عليّ ثم ادعه.
أجيب بأن رشدين ضعفه أبو زرعة وغيره فلا يكون حجة مع استقلاله فكيف إذا خالف الثقات الأثبات؟ لأن كل من روى هذا الحديث، قال: سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا يدعو في صلاته، ثم إن رشدين لم يقل في حديثه إن هذا الداعي دعا بعد انقضاء الصلاة، ولا يدل لفظه على ذلك بل قال: فصلى فقال: اللَّهمّ اغفر لي وارحمني وهذا لا يدل على أنه قال بعد فراغه من الصلاة، بل نفس الحديث دليل على قولنا فإنه
قال: إذا صلى أحدكم فيبدأ بتحميد اللَّه.
والمعلوم إنه لم يرد بذلك بعد الفراغ من الصلاة بل الدخول فيها ويؤيده أن عامة أدعيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما كانت في الصلاة لا بعدها كحديث أبى هريرة، وعليّ، وأبى موسى، وعائشة، وابن عائشة، وحذيفة، وعمار، وغيرهم، ولم ينقل أحد منهم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يدعو بعد صلاته في حديث صحيح، ولما سأله أبو بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-[عن ما كان] يدعو به في صلاته لم يقل خارج الصلاة وكذا لم يقل لهذا الداعي: بعد سلامك من الصلاة، لا سيما والمصلي يناجي ربه تعالى مقبلا عليه، فدعاؤه ربه تعالى في هذه الحال أنسب من دعائه له تعالى بعد انصرافه عنه وفراغه من مناجاته،
وقد قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: فاحمد(11/108)
اللَّه بما هو أهله،
وهذا إنما أراد به التشهد وقت القعود، ولهذا
قال: إذا صليت فاقعد
يعنى في التشهد فأمره بحمد اللَّه والثناء عليه والصلاة على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن قيل: إن الّذي أمره أن يصلي عليه فيه بعد تحميد اللَّه غير معين، فلم قلتم:
أنه بعد التشهد؟ وأجيب بأنه ليس في الصلاة موضع يشرع فيه الثناء على اللَّه تعالى، ثم الصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة، وذلك لا يشرع في القيام، ولا في الركوع، ولا في السجود، فلم أنه إنما أراد آخر الصلاة حال جلوسه في التشهد، وإن قيل: إنه أمره بالدعاء عقب الصلاة والدعاء ليس بواجب وكذا الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أجيب بأنه لا يستحيل أن يأمر بشيئين فيقوم الدليل على عدم وجوب أحدهما ويبقى الآخر على الوجوب، ثم إن هذا المذكور من الحمد والثناء واجب. قيل: الدعاء فإنه هو التشهد. قد أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم به، وأخبر الصحابة أنه فرض عليهم، ولم يكن اقتران الأمر بالدعاء به مسقطا لوجوبه، فكذا الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع ذلك فقولكم الدعاء لا يجيب غير مسلم، فإن من الدعاء ما هو واجب، وهو الدعاء بالتوبة والاستغفار من الذنوب، والهداية والعفو وغير ذلك.
وقد روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: من لم يسأل اللَّه يغضب عليه،
فالغضب لا يكون إلا بترك واجب أو فعل محرم. وإن قيل: لو كانت الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرضا في الصلاة لم يؤخر بيانها إلى هذا الوقت حتى يرى رجلا يفعلها فيأمره بها، ولو كان العلم بوجوبها مستفادا بمثل هذا الحديث أجيب بأنه لم نقل قط أنها وجبت على الأمة إلا بهذا الحديث، بل هذا المصلى قد كان تركها فأمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بما هو مستقر من شرعه، وهذا كحديث المسيء في صلاته، فإن وجوب الركوع، والسجود، والطمأنينة على الأمة، لم يكن مستفادا من حديثه، وتأخر بيان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لذلك إلى حين صلاة هذا الأعرابي، وإنما أمره أن يصلى الصلاة التي شرعها لأمته قبل هذا، وإن قيل: إن أبا داود والترمذيّ قالا في حديث فضالة ولغيره محرف «أو» ولو كان هذا واجبا على مكلف لم يكن ذلك له أو لغيره، أجيب بأن الرواية الصحيحة التي رواها ابن خزيمة وابن حبان إنما هي: فقال له ولغيره بالواو وكذا رواه الإمام أحمد والدارقطنيّ والبيهقيّ. ثم إن «أو» هذه ليست للتخيير حتى يصح الاعتراض بل(11/109)
هي للتقييم والمعنى: أن أي مصل فليقل: ذلك هذا وغيره. قال اللَّه تعالى:
وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ليس المراد «أو» التخيير، بل المعنى أن أيهما كان فلا تطعه. أما هذا الحديث، والحديث مع ذلك صريح في المعنى بقوله: إذا صلّى أحدكم فيبدأ بحمد اللَّه تعالى. فذكره. وفي رواية النسائي وابن خزيمة: ثم علمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكره، وهذا عام.
الدليل الرابع:
ثلاثة أحاديث كل واحد لا تقوم به عند انفراده الحجة وقد تقوى بعضها عند الاجتماع.
أحدها:
روى الدارقطنيّ من طريق عمرو بن شمر عن جابر الجعفيّ عن عبد اللَّه ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا بريدة إذا جلست في صلاتك فلا تتركنّ التشهد والصلاة عليّ فإنّها زكاة الصلاة، وسلّم على جميع أنبياء اللَّه ورسله، وسلّم على عباد اللَّه الصالحين.
الثاني:
ما خرجه الدارقطنيّ أيضا من طريق عمرو بن شمر عن جابر قال: قال الشعبي: سمعت مسروق بن الأجدع يقول: لا تقبل صلاة إلا بطهور وبالصلاة عليّ.
قال الدارقطنيّ: وعمرو بن شمر وجابر ضعيفان.
الثالث:
خرّج الدارقطنيّ أيضا من طريق عبد المهيمن بن سهيل بن سعد عن أبيه عن جده سهل بن سعد أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا صلاة لمن لا يصلي على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال عبد المهيمن: ليس بالقوى.
وخرجه الطبراني من حديث فديك بن أبي فديك عن أخى ابن عباس عن أبيه عن جده سهل بن سعدان أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لا يذكر اسم اللَّه عليه. ولا صلاة لمن لم يصلّ على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار.
وخرجه ابن ماجة من حديث عبد المهيمن أخى ابن عباس أما ابن عباس فخرجه له البخاريّ صحيحا به في (الصحيح)
قال النسائي: ليس بالقوى، وضعفه ابن معين وقال أحمد منكر: الحديث وقال ابن عدي: يكتب حديثه وهو فرد المتون والأسانيد، وأما أخوه عبد المهيمن فمتفق على تركه واطراح حديثه فإن كان عبد المهيمن سرقه من حديث أخيه فلا يضر الحديث شيئا، ولا ينزل عن درجه الحديث الحسن، وإن ابن أبي فديك أو من دونه من(11/110)
عبد المهيمن إلى أخيه أبي فهو الأشبه واللَّه أعلم، فإن الحديث معروف بعبد المهيمن فتلك عله قوية وقد رواه الطبراني بالوجهين ولا يثبت.
الدليل الخامس:
قد ثبت وجوبها عن ابن مسعود وابن عمر، وأبي مسعود الأنصاري، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه قال: لا تجب، وقول الصحابي إذا لم يخالفه غير حجة لا سيما على أصول أهل المدينة وأهل العراق.
الدليل السادس:
أن هذا عمل الناس من عهد نبيهم وإلى الآن، ولو كانت الصلاة على غيره واجبة لم يكن اتفاق الأمة في سائر الأمصار والأعصار على قولها في التشهد وترك الإخلال بها. وقد قال مقاتل بن حيان في تفسيره في قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ قال: إقامتها المحافظة عليها وعلى أوقاتها، والقيام فيها، والركوع، والتشهد، والصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد الأخير.
وقد قال الإمام أحمد: الناس في التفسير عيال على مقاتل، والصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة من إقامة الصلاة المأمور بها فتكون واجبة، ومع هذه الأدلة فإنا نقول لمنازعينا: ما منكم إلا من أوجب في الصلاة أشياء بدون هذه الأدلة، هذا أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى قال بوجوب الوتر وإن أدلة وجوبه من أدله وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويوجب الوضوء على من قهقه في صلاته بحديث مرسل لا يقاوم أدلتنا في هذه المسألة، ويوجب [الوضوء] من القيء والرعاف والحجامة بأدلة لا تقاوم أدلة هذه المسألة، وهذا مالك يقول: إن في الصلاة أشياء بين الفرض والمستحب ليست بفرض وهي فوق الفضيلة المستحبة، يسميها أصحابه سننا، كقراءة سورة مع الفاتحة، وتكبيرات الانتقال، والجلسة الأولى، والجهر والمخافتة، ويوجبون السجود في تركها على تفصيل لهم فيه.
وأحمد بن حنبل رحمه اللَّه يسمى هذه واجبات، ويوجب السجود بتركها، فإيجاب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن لم تكن أقوى من إيجاب كثير من هذه فليست دونها، فهذه حجج الفريقين في هذه المسألة، والمقصود بيان أن تشنيع المشنع فيها على الشافعيّ باطل في مسألة فيها ما فيها من الأدلة والبيان، وإذا صار مثل هذا كيف يسوغ أن يشنع على الذاهب إليها؟ ومن يهد اللَّه فما له من مضل.(11/111)
الموطن الثاني من مواطن الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد الأول
وقد اختلف فيه فقال الشافعيّ في (الأم) : يصلي فيه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد الأول، وهذا هو المشهور في المذهب، وهو الجديد، لكنه يستحب وليس بواجب، وقال في القديم: ولا يزيد على التشهد، وهذه رواية المازني عنه، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، واحتج بقول الشافعيّ- رحمه اللَّه- بما
خرجه الدارقطنيّ من طريق موسى بن عبيد اللَّه عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمنا التشهد والتحيات للَّه والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وبما تقدم من
حديث عمرو بن شمرة: إذا جلست في صلاتك فلا تتركن الصلاة عليّ،
وهذا عام يشمل الجلستين، واحتج أيضا بأن اللَّه- تعالى- أمر المؤمنين بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والتسليم على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فدل على أنه حيث شرع التسليم عليه شرعت الصلاة عليه. ولهذا سأله أصحابه عن كيفية الصلاة عليه، وقالوا: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فدل على أن الصلاة مقرونة بالسلام، ومعلوم أن المصلي يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتشرع الصلاة عليه كالتشهد الأخير، لأن التشهد الأول محل يستحب في ذكر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستحب في الصلاة عليه، لأنه أكمل في ذكره. ولأن في حديث محمد كيف نصلي عليك إذا نحن جلسنا في صلاتنا؟ وقال الآخرون: ليس التشهد الأول بمحل لذلك. وهو القديم من قول الشافعيّ، وقد صححه جماعة. لأن التشهد الأول تخفيفه مشروع، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس فيه كان على الردف، ولم يثبت عنه أنه كان يقول ذلك فيه، ولا علمه الأمة، ولا نعرف أن أحدا من الصحابة استحبه، ولأن مشروعية ذلك لو كانت كما ذكرتم من الأمر، لكانت واجبة في هذا المحل كما في الأخير. لتناول الأمر لهما. ولأنه لو كانت الصلاة مستحبة في هذا الموضع لاستحبت فيه الصلاة على آله. لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم(11/112)
لم يفرد نفسه دون آله بالأمر بالصلاة عليه بل أمرهم بالصلاة عليه وعلى آله في الصلاة وغيرها، ولأنه لو كانت الصلاة عليه في هذا الموضع مشروعة، لشرع فيها ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، لأنها هي صفة الصلاة المأمور بها. ولأنها لو شرعت في هذا الموضع لشرع فيه الدعاء بعدها لحديث فضالة، ولم يكن فرق بين التشهدين، وأما الأحاديث التي استدللتم بها فإنّها مع ضعفها بموسى بن عبيدة وعمرو بن شمر وجابر الجعفي، لا تدل على أن المراد بالتشهد فيها هو الآخر دون الأول بما ذكرناه من الأدلة، وهذا الجواب عن كل ما ذكرتموه من الأدلة واللَّه أعلم.
الموطن الثالث من مواطن الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم: آخر القنوت
وقد استحبه الشافعيّ ومن وافقه واحتج له بما
خرجه النسائي من حديث محمد بن سلمة: حدثنا وهب عن يحيى بن عبد اللَّه بن سالم، عن موسى بن عقبة عن عبد اللَّه بن علي عن علي بن الحسن بن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: علمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هؤلاء الكلمات في الوتر قال: قل:
اللَّهمّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وبارك لي فيما أعطيت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضي عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت، وصلى اللَّه على النبي،
وهذا إنما يعرف في قنوت الوتر، وإنما نقل إلى قنوت الفجر قياسا كما نقل أصل هذا الدعاء إلى قنوت الفجر.
وقد رواه أبو إسحاق عن يزيد أبى الحوراء قال: قال الحسن بن على:
علمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمات أقولهن في الوتر، فذكروه ولم يذكر فيه الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مستحب في قنوت رمضان، قال ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرنى عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه وتبارك عنه- مع زيد بن الأرقم على بيت المال، قال: إن عمر خرج ليلة في رمضان، فخرج معه عبد(11/113)
الرحمن بن القاري، فطاف في المسجد أهل أوزاع متفرقون، يصلي رجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلي الرهط بصلاته، فقال عمر- رضى اللَّه وتبارك عنه: واللَّه إني لأظن لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد يكون أمثل، ثم عزم عمر على ذلك، وأمر أبى بن كعب أن يقوم بهم في رمضان، فخرج عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: فعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، قال: وكانوا يلعنون الكفرة في النصف، يقولون: اللَّهمّ العن قابل الكفرة الذين يصدون عن دينك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك، إله الحق.
ثم يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم يدعو للمسلمين ما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين. قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفر، وصلاته على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واستغفاره للمؤمنين، ومسألته: اللَّهمّ إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحمد، ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد، إن عذابك لمن عاديت ملحق، ثم يكبر ويهوى ساجدا. وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام: حدثني أبو قتادة عن عبد اللَّه بن الحارث: أن معاذا كان يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في القنوت.
الموطن الرابع من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية
وقد اختلف في توقف صحة الصلاة عليها، فقال الشافعيّ وأحمد في المشهور من مذهبهما: إنها واجبة في الصلاة لا تصح إلا بها، رواه البيهقي عن عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة، وقال أبو حنيفة ومالك: تستحب، وليست بواجبة وهو وجه في المذهب، والدليل على مشروعيتها في صلاة الجنازة. ما روى الشافعيّ في (المسند) من حديث مظفر بن مازن عن معمر عن الزهريّ. أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن السنة في صلاة الجنازة، أن يكبر الإمام، ثم يقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة(11/114)
الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويخلص الدعاء للجنازة، ثم يسلم سرا في نفسه، لكن قد اختلف في هذا الحديث، فقال مظفر بن مازن عن معمر عن الزهريّ عن أبي أمامة عن رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: من السنة، وقال عبد الأعلى عن معمر عن الزهريّ عن أبي أمامة: من السنة، رواه الشافعيّ بالوجهين، وليست هذه العلة قادحة فيه، فإن جهالة الصحابي لا تضر.
وقول الصحابي من السنة اختلف فيه، فقيل: هو في حكم المرفوع، وقيل: لا يقضى له بالرفع، والصواب التفصيل كما هو مذكور في موضعه.
وخرج إسماعيل في كتاب (الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) من حديث محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا معمر عن الزهري قال: سمعت أبا أمامة ابن سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب، قال: إن السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ، ولا يقرأ إلا مرة واحدة، ثم يسلم في نفسه.
وخرجه النسائيّ في (سننه) ، وقال: هذا إسناد صحيح [ (1) ] ، وقد روى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه صلّى على جنازة بمكة فكبر، ثم قرأ وجهر وصلّى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم دعا لصاحبها فأحسن ثم انصرف، وقال: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة على الجنازة.
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 4/ 377، كتاب الجنائز، باب (77) الدعاء، حديث رقم (1986) ولفظه: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، قال: سنة وحق، ونحوه حديث رقم (1987) ، (1988) وليس فيهما ذكر الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأخرجه البخاريّ في الجنائز، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، حديث رقم (1335) ، وأخرجه أبو داود في الجنائز، باب ما يقرأ على الجنازة، حديث رقم (3198) ، وأخرجه الترمذيّ في الجنائز، باب ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، حديث رقم (1027) وقال: حديث حسن صحيح.
قوله: (سنة وحق) ينبغي أن تكون الفاتحة أولى وأحسن من غيرها من الأدعية، ولا حجة للمنع عنها. وعلى هذا كثير من محققي علمائنا إلا أنهم قالوا: يقرأ بنية الدعاء والثناء، لا بنية القراءة، واللَّه تعالى أعلم. (حاشية السندي) مختصرا.(11/115)
وفي (موطأ يحيى بن بكير) : حدثنا مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه أنه سأل أبا هريرة: كيف يصلى على الجنازة؟ فقال:
أنا لعمرك أخبرك، أتبعها مع أهلها، فإذا وضعت كبرت وحمدت اللَّه، وصليت على نبيه، ثم أقول: اللَّهمّ إنه عبدك وابن عبدك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللَّهمّ إن كان محسنا، فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللَّهمّ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده.
وقال أبو ذر الهروي: أنبأنا أبو الحسن بن أبي سهل السرخسي، أنبأنا أبو على أحمد بن محمد بن رزين، حدثنا على بن خشرم. حدثنا أنس بن عياض عن إسماعيل بن رافع عن رجل قال: سمعت إبراهيم النخعي يقول:
كان ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أتى جنازة استقبل الناس، وقال: يا أيها الناس سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لم يجتمع مائة [ (1) ] لميت فيجتهدون له في الدعاء إلا وهب اللَّه ذنوبه لهم، وإنكم شفعاء لأخيكم، فاجتهدوا في الدعاء، ثم يستقبل القبلة فإن كان رجلا وقف عند رأسه، وإن كانت امرأة قام عند منكبها، ثم إنه قال: اللَّهمّ إنه عبدك، وابن عبدك، أنت خلقته وأنت هديته للإسلام وأنت قبضت روحه، وأنت أعلم بسريرته وعلانيته، وقد جئناك شفعاء له، اللَّهمّ إنا نستجير بحبل [ (2) ] جوارك، فإنك ذو وفاء وذو رحمة، أعذه من فتنه القبر وعذاب جهنم، اللَّهمّ إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللَّهمّ نور له قبره، وألحقه بنبيك، قال: ويقول: هذا كلما كبّر، وإذا كانت التكبيرة الأخيرة، قال مثل ذلك، ثم
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 4/ 378- 379 كتاب الجنائز، باب (78) فضل من صلّى عليه مائة، حديث رقم (1990) ، (1991) ، (1992) مختصرا دون ذكر الدعاء في كل أحاديث الباب.
[ (2) ] قال المنذري: قال بعضهم: كان من عادة العرب أن تخيف بعضها بعضا، فكان الرجل إذا أراد سفرا، أخذ عهدا من سيد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في حدودها، حتى ينتهي إلى الآخرة، فيأخذ مثل ذلك، فهذا حبل الجوار، أي ما دام مجاورا أرضه، أو هو من الإجارة، وهو الأمان والنصرة. (هامش سنن أبي داود) .(11/116)
يقول: اللَّهمّ صلّ على محمد، وبارك على محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهمّ صل على فرطنا وأسلافنا، اللَّهمّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، ثم ينصرف، قال إبراهيم: وكان ابن مسعود يعلم هذا في الجنائز، وفي المجالس، وقيل له: أكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقف على القبر إذا فرغ منه، قال:
نعم، كان إذا فرغ منه وقف عليه، ثم قال: اللَّهمّ إنه قد نزل بك وخلف الدنيا وراء ظهره، ونعم المنزول به أنت، اللَّهمّ ثبت عند المسألة منطقه، ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به، اللَّهمّ نور له في قبره وألحقه بنبيه،
وكان يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجنازة، كما يصلي عليه في التشهد، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم علم ذلك أصحابه لما سألوه عن كيفية الصلاة عليه،
وفي (مسائل عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل) عن أبيه، قال: يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويصلي على الملائكة المقربين.
قال القاضي أبو الخطاب: فيقول: اللَّهمّ صلّ على ملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السموات والأرض، إنك على كل شيء قدير [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال الإمام الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في (المسند) : أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر عن الزهريّ، أخبرنا أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرا في نفسه.(11/117)
الموطن الخامس من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الخطب في الجمعة والعيدين والاستسقاء ونحو ذلك
وقد اختلف في اشتراطها لصحه الخطبة، فقال الشافعيّ وأحمد:
المشهور عن مذاهبهما، لا تصح الخطبة، إلا بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال مالك وأبو حنيفة: تصح بدونها، وهو وجه في مذهب أحمد، والحجة في وجوبها قول اللَّه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (1) ] .
قال ابن عباس: رفع اللَّه ذكره فلا يذكر إلا ذكر معه، واعترض عليه بأن المراد بذكره صلّى اللَّه عليه وسلّم مع ذكر ربه- تعالى- هو الشهادة له بالرسالة إذا شهد لمرسله بالوحدانية، وهذا هو الواجب قطعا، بل هو ركنها الأعظم.
وقد روى أبو داود [ (2) ] وأحمد [ (3) ] من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء،
واليد الجذماء المقطوعة، فمن أوجب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخطبة دون التشهد، فقوله في غاية الضعف.
__________
[ (1) ] الشرح: 1- 4.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 5/ 173. كتاب الأدب، باب (22) في الخطبة، حديث رقم (4841) ، قوله
«ليس فيها تشهد»
أي شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه.
وقوله: «فهي كاليد الجذماء»
أي كاليد التي أصابها الجذام، وهو مرض معروف، يحمر اللحم المصاب به ويتساقط، يعني قليل البركة.
والحديث أخرجه الترمذيّ في النكاح، حديث رقم (1106) باب في خطبة النكاح، وقال:
هذا حديث حسن صحيح غريب، ونقل المنذريّ عنه «حسن غريب» فقط.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 3/ 15، حديث رقم (8313) من مسند أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(11/118)
وقد روى يونس عن سفيان عن قتادة: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، قال:
رفع اللَّه ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ابتدأها: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا رسول اللَّه.
وخرج عبد بن حميد من حديث هشيم عن جويبر عن الضحاك:
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، قالا: لا أذكر إلا ذكرت معي في الأذان أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، فهذا هو المراد من الآية [ (1) ] .
وكيف لا يجب التشهد الّذي هو عقد الإسلام في الخطبة، وهو أفضل كلماتها، وتجب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها.
والدليل على مشروعية الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخطبة،
ما رواه الإمام أحمد [ (2) ] من طريق منصور بن أبي مزاحم، حدثنا خالد: حدثني عون بن أبي جحيفة، قال: كان أبي من شرط عليّ، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان تحت المنبر، فحدثني أنه صعد المنبر يعني عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فحمد اللَّه، وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني: عمر، قال: يجعل اللَّه الخير حيث [أحب] [ (3) ] .
وقال محمد بن الحسن بن جعفر الأسدي: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد الحميدي: حدثنا عبد اللَّه بن سعيد الكندي: حدثنا عبد الرحمن الرواسي، قال: سمعت أبي يذكر عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه كان يقول بعد ما يفرغ من خطبته والصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا
__________
[ (1) ]
(تفسير ابن كثير) : 4/ 561، وفيه: عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول كيف رفع ذكرك؟ قال: اللَّه أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 171، حديث رقم (839) ، من مسند علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] في (الأصل) :
«حيث شاء»
وما أثبتناه من (مسند أحمد) .(11/119)
الكفر والفسوق والعصيان، اللَّهمّ بارك في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وقلوبنا وذريتنا.
وروى الدارقطنيّ من طريق ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحضرميّ عن بجير بن زاخر المعافري، قال: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة فذكر حديثا وفيه: فقام عمرو بن العاص على المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه حمدا موجزا، وصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم.
وحديث ضبة بن محصن أن أبا موسى الأشعري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان إذا خطب حمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعا لعمر، فأنكر عليه ضبة الدعاء لعمر قبل الدعاء لأبي بكر فرفع ذلك إلى عمر، فقال لضبة: أنت أوفق منه وأرشد، فهذا دليل على أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخطبة أمر كان مشهورا بين الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- معروفا بينهم.
وأما وجوبها فيحتاج إلى دليل يجب المصير إليه حتى ينقطع به الشك.(11/120)
الموطن السادس من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: بعد إجابة المؤذن وعند الإقامة
خرج مسلم [ (1) ] من طريق عبد اللَّه بن وهب بن حيوة وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد اللَّه بن عمرو ابن العاص أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلّى علي صلاة صلى اللَّه عليه بها عشرا، ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة، فإنّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي.
وخرجه أبو داود [ (2) ] من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة وحيوة وسعيد ابن أبي أيوب، عن كعب بن علقمة إلى آخره مثله.
وخرجه الترمذي [ (3) ] من طريق عبد الرحمن بن يزيد المقرئ: حدثنا حيوة: أنبأنا كعب بن علقمة، سمع عبد الرحمن بن جبير، سمع عبد اللَّه بن عمرو أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول الحديث بنحو هذا، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وخرجه النسائي [ (4) ] من حديث سويد بن ناصر قال: أنبأنا عبد اللَّه عن حيوة بن شريح قال: أخبرني كعب بن علقمة أنه سمع عبد الرحمن بن جبير
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 327، كتاب الصلاة، باب (7) استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم يسأل له الوسيلة، حديث رقم (383) .
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 1/ 359- 360، كتاب الصلاة، باب (36) ما يقول إذا سمع المؤذن، حديث رقم (523) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 547، كتاب المناقب، باب (1) في فضل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3614) ، ثم قال: قال محمد: عبد الرحمن بن جبير هذا قرشيّ مصري مدنيّ، وعبد الرحمن ابن جبير بن نفير شامي.
[ (4) ] (سنن النسائي) : 2/ 355- 356، كتاب الأذان، باب (38) الدعاء عند الأذان، حديث رقم (679) ، بسند آخر، وسياقة أخرى.(11/121)
مولى نافع بن عمرو القرشي يحدث أنه سمع عبد اللَّه بن عمرو يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى آخره بنحوه.
ومن طريق إسحاق بن منصور قال: أنبأنا عبد اللَّه بن يزيد أنبأنا حيوة، أنبأنا كعب بن علقمة إلى آخره بمثله أو بنحوه.
وخرج الحسن بن عرفة من طريق العوام بن حريث: حدثنا منصور بن زاذان عن الحسن قال: من قال مثل ما يقول المؤذن، فإذا قال المؤذن قد قامت الصلاة قال: اللَّهمّ رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة صل على محمد عبدك ورسولك، وأبلغه درجة الوسيلة في الجنة، دخل في شفاعة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وقال: يوسف بن أسباط بلغني أن الرجل إذا أقيمت الصلاة فلم يقل:
اللَّهمّ رب هذه الدعوة المستمعة المستجاب لها، صلّ على محمد وعلى آل محمد، وزوجنا الحور العين إلا قالت الحور العين: ما إن هداك غيرنا، واعلم أن في إجابة المؤذن خمس سنن قد اشتمل حديث عبد اللَّه بن عمرو المذكور على ثلاثة منها، والرابعة، أن يقول:
ما خرجه مسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] والترمذيّ [ (4) ] والنسائي [ (5) ] من حديث الليث عن حكيم بن عبد اللَّه بن قيس
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 362، كتاب الصلاة، باب (38) ما جاء في الدعاء عند الأذان، حديث رقم (529) من حديث جابر بن عبد اللَّه بسياقة أخرى، أخرجه الترمذي في (السنن) :
1/ 413، أبواب الصلاة، باب (157) ، حديث رقم (211) وقال: حديث جابر حديث صحيح حسن غريب من حديث محمد بن المنكدر، لا نعلم أحدا رواه غير شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر، وأبو حمزة اسمه دينار.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 327، كتاب الصلاة، باب (7) استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم يسأل له الوسيلة، حديث رقم (383) .
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 1/ 359- 360، كتاب الصلاة، باب (36) ما يقول إذا سمع المؤذن، حديث رقم (523) .
[ (4) ] (سنن الترمذيّ) : 1/ 411- 412، أبواب الصلاة، باب (156) ما جاء ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن من الدعاء، حديث رقم (210) ، قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث الليث بن سعد عن حكيم بن عبد اللَّه بن قيس.(11/122)
القرشي، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد بن أبي وقاص- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت باللَّه ربا وبالإسلام دينا، غفر ذنبه، وفي رواية: من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد هكذا، قال أبو داود والترمذي والنسائي: وأنا أشهد.
وقال الترمذي بعقبه:
وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد، عن حكيم بن عبد اللَّه بن قيس، والخامسة: أن يدعو بعد إجابة المؤذن وصلاته على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعد سؤاله الوسيلة لما
في سنن أبي داود [ (1) ] والنسائيّ [ (2) ] من حديث عبد اللَّه بن عمرو، أن رجلا قال: يا رسول اللَّه إن المؤذنين يفضلوننا، فقال: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعطه.
وخرج الإمام أحمد [ (3) ] من حديث ابن لهيعة: حدثنا أبو الزبير عن جابر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من قال حين ينادى المنادي بالصلاة: اللَّهمّ رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، صل على
__________
[ () ] (5) (سنن النسائيّ) : 1/ 355، كتاب الأذان، باب (38) الدعاء عند الأذان، حديث رقم (678) وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 1/ 38، كتاب الأذان والسنة فيها، باب (4) ، ما يقال إذا أذن المؤذن، حديث رقم (721) .
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 360، كتاب الصلاة، باب (36) ما يقول إذا سمع المؤذن، حديث رقم (524) .
[ (2) ] أخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة) .
[ (3) ] لم أجده في (المسند) بهذا السند ولا بهذه السياقة، والّذي
في (مسند أحمد) : 4/ 322، حديث رقم (14403) من مسند جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من قال حين يسمع النداء: اللَّهمّ رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الّذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة، وهو في (كنز العمال) : 7/ 704، حديث رقم (21019) ، كما جاء (بالأصل) .
وعزاه إلى الإمام أحمد في (المسند) والطبراني في (الأوسط) عن جابر.(11/123)
محمد وارض عنى رضا لا سخط بعده، استجاب اللَّه له دعوته، وخرجه الطبراني في (الأوسط) عن ابن لهيعة به مثله.
وخرج الحاكم في (المستدرك) من [ (1) ] حديث أبي أمامة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سمع الأذان قال: اللَّهمّ رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة الحق، وكلمة التقوى، توفني عليها وأحينى عليها واجعلني من صالح عملا يوم القيامة، فهذه خمسة وعشرون سنة في الأذان تكون في كل يوم وليلة فما أعظم أجرها.
__________
[ (1) ] لم أجده في (المستدرك) بهذه السياقة، والّذي فيه، عن أم حبيبة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سمع المؤذن قال كما يقول حتى يسكت، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح وهذا الحديث رقم (733) ، وهو حديث ساقط من (التلخيص)
وحديث رقم (734) عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سمع المؤذن قال: «وأنا وأنا»
وسكت عنه الذهبي في التلخيص.(11/124)
الموطن السابع من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند دعاء كل داع من أمتي وله ثلاث مراتب
الأولى: أن يصلي عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الدعاء وبعد حمد اللَّه تعالى.
والثانية: أن يصلي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه في أول دعائه، وأوسطه، وآخره.
والثالثة: أن يصلي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه في أول الدعاء، وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما.
فأما المرتبة الأولى:
فيدل عليها حديث فضالة بن عبيد المتقدم،
وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد اللَّه والثناء عليه ثم ليصلّ على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم يدع بما يشاء.
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر، قال: كنت أصلي والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- معه، فلما جلست بدأت بالثناء على اللَّه، ثم بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سل تعطه.
وخرج عبد الرزاق من حديث معمر عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد اللَّه بن مسعود قال: إذا أراد أحدكم أن يسأل اللَّه- تعالى- فليبدأ بحمد اللَّه- تعالى- والثناء عليه بما هو أهله، ثم ليصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم يسأل اللَّه بعد، فإنه أجدر أن ينجح ويصيب، ورواه شريك عن أبي إسحاق، وعن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه نحوه.
وأما المرتبة الثانية:
فقال عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تجعلوني كقدح الراكب فذكر الحديث، وقال: اجعلوني وسط الدعاء، وفي أوله، وفي آخره،
وقد تقدم
__________
[ (1) ] سبق تخريجه وهو أيضا عن أبي داود بنحوه ومعناه.(11/125)
حديث علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما من دعاء إلا وبينه وبين اللَّه تعالى حجاب، وإذا لم يصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يستجب الدعاء.
وتقدم قول ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يستجاب منه شيء حتى يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وقال:
أحمد ابن على بن شعيب: حدثنا محمد بن حفص، حدثنا الجراح بن يحيى حدثني عمر بن عمرو قال: سمعت عبد اللَّه بن بشر يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: [الدعاء] محجوب حتى يكون أوله ثناء على اللَّه- عز وجل- وصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم يدعو فيستجاب لدعائه،
وعمر بن عمرو هو الأحمسي، له عند عبد اللَّه بن بشر حديثان، هذا،
وحديث رواه الطبراني في (الكبير) عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: من استفتح أول نهاره بخير وختمه بخير قال اللَّه- عز وجل- لملائكته: لا تكتبوا عليه ما بين ذاك من الذنوب.
واعلم أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مثل الفاتحة من الصلاة، وهذه المواطن التي تقدمت كلها شرعت الصلاة فيها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
أما الدعاء، فمفتاح الدعاء الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كما أن مفتاح الصلاة الطهور، قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الدارانيّ يقول: من أراد أن يسأل اللَّه- تعالى- حاجة، فليبدأ بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليختم بالصلاة عليه، فإن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقبولة، واللَّه- تعالى- أكرم من أن يردّ ما بينهما.(11/126)
الموطن الثامن من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند دخول المسجد وعند الخروج منه
لما
روى ابن خزيمة في (صحيحه) وأبو حاتم بن حبان من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وليقل: اللَّهمّ افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وليقل: اللَّهمّ أجرني من الشيطان [ (1) ] .
وفي (المستدرك) [ (2) ] والترمذي [ (3) ] وابن ماجة [ (4) ] من حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى [ (5) ]- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قالت:
__________
[ (1) ] (الأذكار للنووي) : 34، باب (20) ما يقوله عند دخول المسجد والخروج منه، وعزاه إلى ابن ماجة، وابن خزيمة، وأبو حاتم بن حبان.
[ (2) ]
(المستدرك) : 1/ 325- 326، من كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، حديث رقم (749) ، ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل في الصلاة يقول: «اللَّهمّ إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه، ونفثه» :
فهمزه الموتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبرياء، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، وقد استشهد البخاري بعطاء بن السائب، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرطهما.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 2/ 127- 128، أبواب الصلاة، باب (234) ما جاء ما يقول عند دخول المسجد، حديث رقم (314) ، (315) .
قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي حميد، وأبي أسيد، وأبي هريرة، [وقال أيضا] :
حديث فاطمة حديث حسن، وليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى، وإنما عاشت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أشهرا.
قال الشارح: فإن قلت: قد اعترف الترمذي بعدم اتصال إسناده حديث فاطمة، فكيف قال: حديث فاطمة حديث حسن؟ قلت: الظاهر أنه حسن لشواهده، وقد بينا في المقدمة أن الترمذي قد يحسن الحديث مع ضعف الإسناد للشواهد، وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن ماجة أيضا.(11/127)
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل المسجد قال: اللَّهمّ صلّ على محمد وسلّم، اللَّهمّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال مثلها، إلا أنه يقول:
أبواب فضلك.
رواه الترمذي عن علي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن عبد اللَّه بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم، قال إسماعيل: فلقيت عبد اللَّه بن الحسن بمكة، فسألته عن هذا الحديث فسألته به، قال: وليس إسناده متصلا، لأن فاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى.
ورواه ابن ماجة عن أبي بكر عن ابن علية وأبي معاوية عن ليث نحوه.
وروى إسماعيل بن إسحاق عن شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن ذي حراب قال: قلت لعلقمة: ما أقول إذا دخلت المسجد؟ قال:
تقول: صلى اللَّه وملائكته على محمد، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته.
ومن طريق ابن عمر التميمي عن سليمان العبسيّ عن على بن الحسين قال: قال على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إذا مررتم بالمسجد فصلوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] (4) (سنن ابن ماجة) : 1/ 253- 254، كتاب المساجد والجماعات باب (13) الدعاء عند دخول المسجد، حديث رقم (771) .
[ (5) ] هي فاطمة الزهراء بنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.(11/128)
الموطن التاسع من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصفا والمروة
روى إسماعيل بن إسحاق من طريق همام بن يحيى: حدثنا نافع أن ابن- عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان يكبر على الصفا ثلاثا ثم يقول:
لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، ثم يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويطيل القيام والدعاء، ويفعل على المروة مثل ذلك، وهذا من توابع الدعاء أيضا.
وروى جعفر بن عون عن زكريا عن الشعبي، عن وهب بن الأجدع قال: سمعت عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يخطب الناس بمكة يقول: إذا قدم الرجل منكم حاجا، فليطف بالبيت سبعا، وليصلّ بهذا المقام ركعتين، ثم يستلم الحجر الأسود، ثم يبدأ بالصفا فيقوم عليه ويستقبل البيت، فيكبر سبع تكبيرات، بين كل تكبيرتين حمدا للَّه عز وجل، وثناء عليه، وصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويسأل لنفسه، وعلى المروة مثل ذلك.
رواه أبو ذر عن زاهر عن محمد بن المسيب عن عبد اللَّه بن جبير عن جعفر، ورواه البزار عن عبد اللَّه بن سليمان عن عبد اللَّه بن محمد بن المسور عن سفيان عن مسعر عن فراس عن الشعبيّ عن وهب به.(11/129)
الموطن العاشر من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند اجتماع القوم قبل تفرقهم
وقد تقدم: ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا ولم يذكروا اللَّه- تعالى- ولم يصلوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كان عليهم من اللَّه ترة [ (1) ] .
رواه ابن حبان والحاكم،
وروى عبد اللَّه بن إدريس الأودي عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: زينوا مجالسكم بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويذكر عن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بمثل ذلك أيضا [ (2) ] .
الموطن الحادي عشر من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذكره
وقد تقدم.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه وشرحه.
[ (2) ] «زينوا مجالسكم بالصلاة عليّ، فإن صلاتكم عليّ نور لكم يوم القيامة» ، كذا في (كشف الخفا) ، وقال «رواه الديلميّ بسند ضعيف عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- مرفوعا، وله شاهد عند النميري عن عائشة من قولها: زينوا مجالسكم بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبذكر عمر بن الخطاب، واقتصر الديلميّ على الجملة الثانية بلا سند، ولفظه كما في الديلميّ: «زينوا مجالسكم بذكر عمر» ، واقتصر الخطيب في (تاريخه) على الأولى، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقال ابن حجر الهيثمي في (فتاواه الحديثية) : هو حديث ضعيف وقال: وأما حديث:
«زينوا مجالسكم بالصلاة عليّ، فإن صلاتكم تعرض عليّ أو تبلغني» فقطعة من حديث آخر، ثابت قوى، (كشف الخفا ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) :
1/ 444، حديث رقم (1443) .(11/130)
الموطن الثاني عشر من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: بعد الفراغ من التلبية
خرج الدارقطنيّ من طريق صالح بن محمد بن زائدة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا فرغ من تلبيته سأل اللَّه مغفرته ورضوانه، واستعاذ برحمته من النار، قال صالح: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان يستحب للحاج إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم: وهذا أيضا من توابع الدعاء.
الموطن الثالث عشر من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند استلام الحجر
خرج أبو ذر الهروي من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عون بن سلام: حدثنا محمد بن مهاجر عن نافع قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يستلم الحجر قال: اللَّهمّ إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء جهدك، وأتباعا لسنة نبيّك، ويصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] (سنن الدارقطنيّ) : 238، كتاب الحج، باب المواقيت، حديث رقم (11) ، قال في (التعليق المغني على الدارقطنيّ) : والحديث أخرجه الشافعيّ، وفيه صالح بن محمد، وهو مديني ضعيف.(11/131)
الموطن الرابع عشر [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند الوقوف على قبره صلّى اللَّه عليه وسلّم]
قال مالك في (الموطأ) [ (1) ] : عن عبد اللَّه بن دينار قال: رأيت عبد اللَّه ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- يقف على قبر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ويدعو لأبى بكر وعمر، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وقال: عن عبد اللَّه بن دينار ويدعو عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان [إذا] أراد سفرا أو قدم من سفر جاء قبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم دعا ثم انصرف، وقال ابن غير: حدثنا محمد بن بشير: حدثنا عبيد اللَّه بن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر بدأ بقبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيصلي عليه ولا يمس القبر، ثم يسلم على أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ثم يقول: السلام عليك يا أبه.
الموطن الخامس عشر من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا خرج إلى السوق أو إلى دعوة ونحوهما
روى أبو حاتم من حديث معمر: حدثنا عامر بن شقيق، عن أبي وائل، قال: ما رأيت عبد اللَّه جلس في مأدبة ولا جنازة ولا غير ذلك، فيقوم حتى يحمد اللَّه ويثني عليه، ويصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويدعو بدعوات، وإن كان ليخرج إلى السوق فيأتي، أغفلها مكانا فيحمد اللَّه ويصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويدعو بدعوات.
__________
[ (1) ] (الموطأ) : 115، حديث رقم (397) .(11/132)
الموطن السادس عشر [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا قام الرجل من النوم بالليل]
خرّج النسائي في (السنن الكبير) من طريق أبي الأحوص: حدثنا شريك عن أبي إسحاق، عن عبيدة: عن عبد اللَّه، قال: يضحك اللَّه- تعالى- إلى رجلين: رجل لقي العدو وهو على فرس من أمثل خيل أصحابه فانهزموا وثبت، فإن قتل استشهد، وإن بقي فذلك الّذي يضحك اللَّه إليه، ورجل قام من جوف الليل لا يعلم به، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم حمد اللَّه ومجده، وصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واستفتح القرآن، فذلك الّذي يضحك اللَّه إليه، يقول: انظروا إلى عبدي نائما لا يريد أحدا غيري، وخرجه عبد الرزاق من طريق معمر عن أبى إسحاق، عن عبيدة عن أبي مسعود أنه قال: رجلان يضحك اللَّه إليهما فذكر بنحوه.
الموطن السابع عشر [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ختم القرآن وفي صلاة التراويح، لأن هذين المحلين محل دعاء]
قال الإمام أحمد من رواية أبي الحارث كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده، وقال في رواية يوسف بن موسى، وقد سئل عن الرجل يختم القرآن فيجمع إليه قوم فيدعون، قال: نعم. رأيت معمرا يفعله إذا ختم القرآن، وقال في رواية حرب: استحب إذا ختم الرجل القرآن أن يجمع أهله ويدعو، وقال ابن أبي داود في كتاب (فضائل القرآن) عن الحكم قال: أرسل إليّ مجاهد وعنده أبو لبابة أرسلنا إليك- أبا يزيد- نختم القرآن، وكان يقال: إن الدعاء يستجاب عند ختم القرآن ويدعو بدعوات، وروى فيه أيضا عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: من ختم القرآن فله دعوة مستجابة، قال: تنزل الرحمة عند ختم القرآن، وروى أبو عبيد القاسم بن(11/133)
سلام في كتاب (فضل الدعاء) عن قتادة قال: كان بالمدينة رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره على أصحاب له، وكان ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يضع عليه الرقباء، فإذا كان عند الختم جاءه ابن عباس فشهده، وقال حنبل: سمعت أحمد- يعنى ابن حنبل- يقول في ختم القرآن قل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وارفع يديك في الدعاء قبل الركوع يعني في التراويح، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم في مكة، وقال عبس بن عبد العظيم: وكذلك أدركت الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا أشياء، وذكر أيضا عن عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد اللَّه فقلت: أأختم القرآن أجعله في التراويح أو في الوتر؟
قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاءان اثنان، قلت: كيف أصنع؟
قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت كما أمرني، وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه، وإذا كان هذا من أكبر مواضع الدعاء وأحقها بالإجابة، فهو من أكبر مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الموطن الثامن عشر من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: [يوم الجمعة]
وقد تقدم
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أكثروا من الصلاة عليّ في كل جمعة، فإن صلاة أمتى تعرض عليّ في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم عليّ صلاة كان أقربهم منى منزلة، خرجه البيهقي من حديث أبي أمامة يرفعه [ (1) ] .
وخرج أيضا عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، فإنه ليس أحد يصلي عليّ يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته،
وفي طريقه إسماعيل بن رافع، قال يعقوب بن سفيان:
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.(11/134)
يصلح حديثه للشواهد والمتابعات،
وقال ابن عدي: حدثنا إسماعيل بن موسى الحاسب، حدثنا جبارة بن مغلس، حدثنا أبو إسحاق الأحمسي، عن يزيد الرقاشيّ عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي،
وإن كان إسناده ضعيفا فهو محفوظ في الجمعة، ولا يضر ذكره في الشواهد،
وقد تقدم حديث أوس بن أوس وقول الحسن عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة.
وقال ابن وضاع: حدثنا أبو مروان البزاز، حدثنا ابن المبارك عن أبي شعيب قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن انشروا العلم يوم الجمعة فإن غائلة العلم النسيان، وأكثروا الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة.
الموطن التاسع عشر [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند القيام من المجلس]
قال عبد الرحمن بن حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان:
حدثنا عثمان بن عمر قال: سمعت سفيان بن سعيد ما لا أحصي إذا أراد القيام يقول: صلى اللَّه وملائكته على محمد وعلى أنبياء اللَّه وملائكته.
الموطن العشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند المرور على المساجد ورؤيتها]
قال القاضي إسماعيل بن كتبة: حدثنا يحيى بن الحميد: حدثنا يوسف ابن عمر التميمي، عن سليمان العبسيّ، عن على بن حسين قال: قال علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إذا مررتم [على المساجد] فصلوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.(11/135)
الموطن الحادي والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند شدة الهم]
خرج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذهب ثلثا الليل قام فذكره، وفيه قلت: يا رسول اللَّه إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذا تكفي همك، ويغفر ذنبك. وقد تقدم.
وخرجه ابن أبي شيبة مختصرا عن أبيّ، قال رجل: يا رسول اللَّه، أرأيت صلاتي كلها صلاة عليك، قال: إذا يكفيك اللَّه ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك.
الموطن الثاني والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند كتابة اسمه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
خرّج أبو الشيخ من طريق أسيد بن عاصم: حدثنا بشر بن عبيد: حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن الأعرج عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلّى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب، قال أبو موسى: رواه غير واحد عن أسيد كذلك، قال: رواه إسحاق بن وهب العلاف عن بشر ابن عبيد فقال: عن حازم بن بكر عن يزيد عن عياض عن الأعرج، يروى من غير هذين الوجهين أيضا عن الأعرج، وفي الباب عن أبي بكر الصديق وعبد اللَّه بن عباس وعائشة- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم،
وقد تقدم حديث كادح بن رحمة، وقال جعفر بن علي الزعفرانيّ: سمعت خالي الحسن بن محمد يقول: رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقال لي: يا أبا علي لو رأيت صلاتنا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الكتب، كيف تزهد ما بين أيدينا؟ وقال أبو الحسن على: رأيت أبا الحسن بن عبيد في المنام بعد موته- وكان على أصابع يديه شيئا مكتوبا بلون الذهب أو بلون الزعفران- فسألته عن ذلك، فقال: يا(11/136)
بنى هذا لكتبى لحديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال الخطيب: حدثني مكي بن علي، حدثنا أبو سليمان بن علي الحراني، قال رجل من جواري يقال له الفضل وكان كثير الصوم والصلاة: كنت أكتب الحديث ولا أصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرأيته في المنام، فقال: إذا كتبت اسمي أو ذكرت لم لا تصلي علي؟ ففعلت ذلك، ثم رأيته مرة أخرى، فقال لي: بلغتني صلاتك عليّ فإذا كتبت أو ذكرت، فقل:
صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال سفيان الثوري: لو لم يكن لصاحب الحديث فائدة إلا الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنه يصلي عليه ما دام في ذلك الكتاب اسمه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال محمد بن أبي سليمان: رأيت أبي في النوم، فقلت: يا أبه ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: بكتابتي الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال بعض أهل الحديث كان لي جار مات فرئي في النوم، فقيل له: ما فعل اللَّه بك قال: غفر لي، قيل: بماذا؟ قال: كنت إذا كتبت رسول اللَّه في الحديث قلت: صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال سفيان بن عيينة: حدثنا خلف صاحب الخلفان، قال: كان لي صديق يطلب معى الحديث فمات، فرأيته في منامي- وعليه ثياب خضر يجول فيها، فقلت: ألست كنت معى تطلب الحديث؟ قال: بلى، قلت: فما الّذي أصارك إلى هذا؟ قال: كان لا يمر بى حديث فيه ذكر محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كتبت في أسفله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكافأني ربنا هذا الّذي ترى.
وقال ابن عبد الحكم: رأيت الشافعيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في النوم فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: رحمني وغفر لي وزفني إلى الجنة كما تزف العروس، ونثر عليّ كما ينثر علي العروس، قلت: بم بلغت هذه الحالة؟
قال: بما في كتاب الرسالة من الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: وكيف ذلك؟
قال: وصلى اللَّه على محمد عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، قال: فلما أصبحت نظرت في الرسالة، فوجدت الأمر كما رأيت.
وقال الخطيب: أنبأنا بشرى بن عبد اللَّه الرومي قال: سمعت محمد ابن الحسين بن محمد بن عبيد العسكري يقول: سمعت أبا إسحاق الدارميّ المعروف بنهشل يقول: كنت أكتب الحديث في تخريجي للحديث: قال النبي(11/137)
«صلّى اللَّه عليه وسلّم تسليما» ، فرأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في المنام، وكأنه أخذ شيئا مما أكتبه فنظر فيه وقال: هذا جيد.
وقد روى أبو موسى في كتابه عن جماعة من أهل الحديث أنهم رؤوا بعد موتهم، فأخبروا أن اللَّه غفر لهم بكتابتهم الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل حديث.
وقال عباس العنبري وعلي بن المديني: ما تركنا الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل حديث سمعناه وربما عجلنا، فنبيض الكتاب في كل حديث، حتى نرجع إليه.
الموطن الثالث والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند تبليغ العلم إلى الناس مثل التذكير، والقصص، وإلقاء الدرس إلى الناس، وتعليم المتعلم، في أول ذلك، وآخره]
روى إسماعيل في كتابه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حسين بن على الجعفي عن جعفر بن برقان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز:
أما بعد فإن أناسا قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن القصاص قد أحدثوا من الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل صلاتهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا جاءك كتابي هذا أن تكون صلاتهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والنبيين، ودعاؤهم للمسلمين عامة، ويدعوا ما سوى ذلك. فاستحبت الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذا الموطن، لأنه موطن تبليغ العلم الّذي جاء به، ونشره في أمته وإلقائه إليهم، وهو أيضا موطن دعوتهم إلى سننه وطريقته، وهذا من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ (1) ] ، وقال تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا
__________
[ (1) ] فصلت: 33.(11/138)
إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ (1) ] ، سواء كان المعنى أنا ومن اتبعني يدعو إلى اللَّه على بصيرة، أو كان الوقف عند قوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ (2) ] فالقولان متلازمان، فإنه أمره- سبحانه وتعالى- أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى اللَّه، فمن دعا إلى اللَّه- تعالى- فهو على سبيل رسوله وهو على بصيرة، وهو من أتباعه، ومن دع إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه، فالدعوة إلى اللَّه تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم، والناس تبع لهم، وقد أمر اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبلغ ما أنزل إليه وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ اللَّه- تعالى- لهم وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه، وتبليغهم شريعته، وقد أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا، فتبليغ سنته إلى أمته أفضل من تبليغ السهام إلى نحو الأعداء، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم، كما قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب (الحوادث والبدع) : الحمد للَّه الّذي امتنّ على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويحيون بكتاب اللَّه من مات من أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وضال تائه قد هدوه، وبذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس فيهم، يقتلونهم في سالف الدهر وإلى يومنا هذا، فما نسيهم ربك وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [ (3) ] جعل قصصهم هدى، وأخبر عن مقالتهم فلا تقمر عنهم، فإنّهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم الوضيعة.
وقال عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إن لك عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من أوليائه يذب عنها، وينطق بها، ويكفي في
__________
[ (1) ] يوسف: 108.
[ (2) ] يوسف: 108.
[ (3) ] مريم: 64.(11/139)
هذا
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لأن يهدى بك اللَّه رجلا واحدا خير لك من حمر النعم،
وقوله: من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم ما بين إصبعيه،
وقوله: من دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة، فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم والحظ الجسيم بشيء من عمله، وإنما ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
فحقيق بالمبلغ عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أقامه اللَّه- تعالى- في هذا المقام أن يفتتح وقت تبليغه بحمد اللَّه- تعالى- والثناء عليه وتحميده والاعتراف له بالوحدانية، وتعريف حقوقه على العباد ثم الصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي هدى اللَّه به عباده، وأنقذهم باتباعه من النار، ثم يختم أيضا بالصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ليكون قد قام ببعض ما يجب له صلّى اللَّه عليه وسلّم من حقوقه الأكيدة.
الموطن الرابع والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أول النهار وآخره]
خرّج الطبراني من حديث بقية بن الوليد: قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني: قال: سمعت خالد بن معدان عن أبي الدرداء- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلي عليّ حين يصبح عشرا، وحين يمسي عشرا، أدركته شفاعتي يوم القيامة، قال أبو موسى المديني: رواه عن بقية غير واحد.(11/140)
الموطن الخامس والعشرون من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: [عقيب الذنب، فإن الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم كفارة]
خرّج ابن أبي عاصم في كتاب (الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) من طريق شبابة: حدثنا مغيرة عن أبي إسحاق عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلوا عليّ فإن الصلاة عليّ، كفارة لكم، فمن صلّى عليّ مرة صلى اللَّه عليه عشرا، والكفارة تتضمن محو الذنوب.
وخرّج من طريق محمد بن إشكاب، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا الفضل بن عطاء، عن الفضل بن شعيب عن أبى منصور، عن أبي معاذ، عن أبي كاهل، قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا كاهل من صلّى عليّ كل يوم ثلاث مرات وكل ليلة ثلاثا، حبا وشوقا إليّ، كان حقا على اللَّه أن يغفر له ذنوبه تلك الليلة وذلك اليوم.
وخرج أبو الشيخ في كتاب (الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) من طريق ليث ابن أبي سليم عن نافع بن كعب عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلوا عليّ فإن الصلاة عليّ زكاة لكم.
ورواه ابن أبي شيبة عن ابن فضل عن ليث عن كعب عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه،
والزكاة تتضمن النماء والبركة والطهارة فاقتضت هذه الأحاديث بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تحصل بها طهارة النفس من رذائلها، ويثبت لها النماء والزيادة في كمالاتها وفضائلها، وإلى هذا يرجع كمال النفس، فعلم أن بالصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحصل للنفس الكمال، فإن الصلاة عليه من لوازم محبته ومتابعته وتقديمه على كل من سواه من المخلوقين صلّى اللَّه عليه وسلّم.(11/141)
الموطن السادس والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند إلمام الفقر والحاجة، أو خوف وقوعهما]
خرّج أبو نعيم من طريق ابن الحسين بن سماعة: حدثنا أبو نعيم:
حدثنا فطر بن خليفة، عن جابر بن سمرة عن أبيه قال: كنا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول اللَّه، ما أقرب الأعمال إلى اللَّه- عز وجل؟ قال:
صدق الحديث، وأداء الأمانة، قلت: يا رسول اللَّه- زدنا، قال: صلاة الليل، وصوم الهواجر، قلت: يا رسول اللَّه زدنا. قال: كثرة الذكر، والصلاة عليّ تنفى الفقر، قلت: يا رسول اللَّه زدنا، قال: من أم قوما فليخفف، فإن فيهم الكبير والعليل والضعيف وذا الحاجة.
الموطن السابع والعشرون من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [عند خطبة الرجل المرأة]
روى إسماعيل بن أبي زياد عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [ (1) ] الآية، قال: بمعنى أنّ اللَّه- تعالى- يثني على نبيكم ويغفر له، وأمر الملائكة بالاستغفار له صلّى اللَّه عليه وسلّم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أثنوا عليه في صلاتكم، ومساجدكم، وفي كل موطن، وفي خطبة النساء لا تنسوه.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 56.(11/142)
الموطن الثامن والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند العطاس]
خرّج الطبراني من حديث سهل بن صالح الأنطاكي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان عن موسى عن نافع قال: رأيت ابن عمر- وقد عطس رجل إلى جانبه- فقال: الحمد للَّه والسلام على رسول اللَّه، فقال ابن عمر: وأنا أقول: السلام على رسول اللَّه! ولكن ليس هكذا أمرنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا عطسنا إنما أمرنا أن نقول: الحمد للَّه على كل حال،
قال الطبراني: لم يروه عن سعيد إلا الوليد تفرد به سهل.
ورواه الترمذي [ (1) ] عن حميد بن مسعدة: حدثنا زياد بن الربيع: حدثني حضرمي من آل الجارود عن نافع: أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر، فقال: الحمد للَّه والسلام على رسول اللَّه، قال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد للَّه والصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولكن هكذا علمنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علمنا أن نقول:
الحمد للَّه على كل حال،
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زياد بن الربيع.
قال أبو موسى المديني: روي عن نافع أيضا عن ابن عمر خلاف ذلك، ثم ذكر من حديث عبد اللَّه بن أحمد، حدثنا عباس بن زياد الأسدي، حدثنا زهير عن إسحاق عن نافع، قال: عطس رجل عند ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال له ابن عمر: لقد بخلت، هلّا حيث عطست حمدت اللَّه، صليت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فذهب إلى جماعة منهم أبو موسى المديني وغيره، ونازعهم في ذلك آخرون، قالوا: لا تستحب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند العطاس وإنما هو موضع حمد اللَّه وحده، ولم يشرع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند العطاس حمد اللَّه والصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإن كانت من أفضل الأعمال، ولكل ذكر موطن يخصه لا يقوم غيره مقامه فيه. ولهذا لم تشرع الصلاة عليه
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 76، كتاب الأدب، باب (2) ما يقول العاطس إذا عطس، حديث رقم (2738) .(11/143)
صلّى اللَّه عليه وسلّم في الركوع ولا السجود ولا الاعتدال من الركوع، وشرعت في التشهد الأخير، إما مشروعية وجوب أو استحباب،
وقد روي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
لا تذكروني عند ثلاث: عند تسمية الطعام، وعند الذبح؟ وعند العطاس.
وردّ هذا بأنه حديث لا يصح، فإنه من حديث سليمان بن عيسى السنجري عن عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكره،
وله ثلاث علل:
إحداها: تفرد سليمان بن عيسى به [ (1) ] قال البيهقيّ: وهو في عداد من يضع الحديث.
الثانية: ضعف عبد الرحمن العمي [ (2) ] .
الثالثة: انقطاعه.
الموطن التاسع والعشرون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: بعد الفراغ من الوضوء]
روى أبو الشيخ من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل: حدثنا محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا فرغ أحدكم من طهوره فليقل: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله، ثم ليصل عليّ، فإذا قال كذلك فتحت له أبواب الرحمة [ (3) ] ، وهذا حديث مشهور له طرق عن عمر بن الخطاب، وعقبة بن عامر، وثوبان، وأنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم-
وليس في شيء منها ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا في
__________
[ (1) ] هو سليمان بن عيسى، قال يحى بن سعيد، حدثنا أبى حدثنا سليمان بن عيسى عن جده موسى ابن طلحة: أسرت يوم الجمل فأتى بى على. ترجمته في: (التاريخ الكبير) : 2/ 2/ 30، ترجمة رقم (1865) ، (الثقات) : 6/ 394.
[ (2) ] هو عبد الرحمن بن عبد الوهاب العمي البصري الكوفي، ذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال: مستقيم الحديث. (تهذيب التهذيب) : 6/ 202، ترجمة رقم (451) ، (الثقات) .
[ (3) ] (جمع الجوامع) : حديث رقم (2237) .(11/144)
هذه الرواية وروى ابن أبي عاصم في كتابه من حديث رحيم حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده يرفعه، لا وضوء لمن لا يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] ، وعبد المهيمن لا يحتج به.
الموطن الثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند دخول المنزل]
روى أبو عيسى المديني من حديث أبى صالح بن المهلب عن أبي بكر ابن عمر أنه قال: حدثني محمد بن عباس بن الوليد: حدثني عمر بن سعد:
حدثنا ابن أبي ذئب: حدثني محمد بن عجلان عن أبى حازم عن سهل بن سعد قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فشكا إليه الفقر، وضيق المعيشة أو المعاش، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا دخلت منزلك فسلم إذا كان فيه أحد أو لم يكن فيه أحد، ثم سلّم عليّ واقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة واحدة ففعل الرجل ذلك، فأدر اللَّه عليه الرزق وعلى جيرانه وقرابته [ (2) ] .
الموطن الحادي والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: في كل موطن يجتمع فيه لذكر اللَّه تعالى]
لحديث مسلم بن إبراهيم الكشني، قال: حدثنا عبد السلام بن عجلان:
حدثنا أبو عثمان النهدي: عن أبى هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: إن للَّه سيارة من الملائكة إذا مروا بحلق الذكر قال بعضهم لبعض: اقعدوا فإذا دعا القوم أمنوا على دعائهم فإذا صلوا على النبي
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 9/ 322، حديث رقم (26239) ، وعزاه إلى الطبراني عن سهل بن سعد.
[ (2) ] (إتحاف السادة المتقين) : 6/ 274.(11/145)
صلّى اللَّه عليه وسلّم صلوا معهم حتى يفرغوا، ثم يقول بعضهم لبعض: طوبى- لهؤلاء يرجعون مغفورا لهم [ (1) ] ، وأصله في مسلم.
الموطن الثاني والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا نسي العبد شيئا وأراد ذكره]
خرج أبو موسى المديني من طريق محمد بن عتاب المروزي: حدثنا سعدان بن عبيدة أبو سعيد المروزي: حدثنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه العتكيّ، عن أنس بن مالك- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا نسيتم شيئا فصلوا على تذكروه إن شاء اللَّه- تعالى، قال الحافظ أبو موسى وقد ذكرناه من غير هذا الطريق في كتاب (الحفظ والنسيان) .
__________
[ (1) ] (حلية الأولياء) : 6/ 286، ترجمة زياد بن عبد اللَّه النميري رقم (374)
من حديث أنس ابن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن للَّه سيارة من الملائكة، يطلبون حلق الذكر، فإن أتوا عليهم حفوا بهم، ثم يبعثون رائدهم إلى السماء إلى رب العزة، فيقولون: يا ربنا أتينا على عباد من الصالحين من عبادك، يعظمون آلاءك ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول ربنا- تعالى: غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم،
وفي (كنز العمال) : 1/ 434، حديث رقم (1876) ، وعزاه إلى ابن النجار، عن أبي هريرة بلفظ (الأصل) .(11/146)
الموطن الثالث والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند الحاجة تعرض للعبد]
روى أبو موسى المديني من طريق إبراهيم بن الأشعث الخراساني حدثنا عبد اللَّه بن سنان بن عقبة بن أبي عائشة، عن أبى سهل بن مالك عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
من صلّى عليّ مائة صلاة حين يصلي الصبح قبل أن يتكلم، قضى اللَّه له مائة حاجة، عجل له منها ثلاثين حاجة، وأخّر له سبعين، وفي المغرب مثل ذلك، قيل: وكيف الصلاة عليك يا رسول اللَّه؟ قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] . اللَّهمّ صلّ عليه حتى تبلغ مائة [ (2) ] .
وقال إبراهيم بن الجنيد، حدثنا إسماعيل بن جريح بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبى عبيد عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إذا أردت أن تسأل اللَّه حاجة، فابدأ بالمدح والتمجيد والثناء على اللَّه عز وجل بما هو أهله، ثم صل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم ادع بعد، فإن ذلك أحرى أن تصيب حاجتك.
وتقدم حديث فضالة بن عبيدة وحديث أبيّ بن كعب، وتقدم أيضا من طريق الترمذي حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى يرفعه: من كانت له إلى اللَّه حاجة أو إلى أحد من خلقه. الحديث [ (3) ] . وخرجه الطبراني،
وخرج الحافظ أبو موسى المديني من طريق محمد بن عبيد: حدثنا عباس بن بكار: حدثنا أبو بكر
__________
[ (1) ] الأحزاب: 56.
[ (2) ] (كنز العمال) : 1/ 506- 507، حديث رقم (2237) وعزاه إلى البيهقي في (الشعب) وابن عساكر عن أنس، وحديث رقم (2242) وعزاه إلى الديلميّ عن حكامة عن أبيها عن عثمان بن دينار، عن أخيه مالك بن دينار عن أنس، كلاهما بمعنى حديث (الأصل) مع اختلاف في السند والسياقة.
[ (3) ] سبق تخريجه.(11/147)
الهزلي: حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من صلى عليّ في كل يوم مائة مرة قضى اللَّه- تعالى- له مائة حاجة، سبعين منها لآخرته، وثلاثين لدنياه،
قال: هذا حديث حسن [ (1) ] .
الموطن الرابع والثلاثون من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عند طنين الأذن
خرّج الطبراني من طريق معمر بن محمد بن عبد اللَّه بن أبى رافع، قال: أخبرني أبي محمد عن أبيه عبد اللَّه عن أبي رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا طنت أذن أحدكم فليذكرنى ويصلّ على،
قال الطبراني: لا يروى عن أبي رافع إلا بهذا الإسناد تفرد به معمر بن محمد.
وخرّجه محمد بن إسحاق بن خزيمة عن معمر بن محمد، ولفظه: إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي، وليقل: ذكر اللَّه من ذكرني بخير.
رواه ابن أبي عاصم في كتابه من طريق حسان بن عدي، حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن أبى رافع عن أبيه عن جده، ولفظه: إذا طنت أذن أحدكم فليصلّ عليّ وليقل: ذكر اللَّه بخير من ذكرني ... وفي رواية: ذكر اللَّه من ذكرني بخير [ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] رواه العقيلي عن أبى رافع مرفوعا. قيل: هو موضوع، وهو كذلك، والخبر مداره على محمد بن عبيد اللَّه بن أبى رافع، وهو هالك ومع ذلك اختلف عنه، وفي أسانيده والأسانيد إليه كلام، وروى بسند ضعيف عن علي بن أبى رافع عن جده، وعلى يقال له: على بن عبيد اللَّه ويقال: عبيد اللَّه بن علي، ولم يوثق توثيقا معتبرا، ولا أدرك جده، فإن صح عنه هذا، فكأنه أخذه من قريبه محمد. (الفوائد المجموعة) : 224، حديث رقم (20) .
قال العجلوني: رواه الطبراني، وابن السني، والخرائطي، وآخرون، عن أبي رافع مرفوعا وسنده ضعيف، بل قال العقيلي: لا أصل له لكن قال الزرقاني كالمناوي، وتعقب بأن الحافظ نور الدين الهيثمي قال: إسناد الطبراني في (الكبير) حسن. وقد رواه ابن خزيمة في-(11/148)
الموطن الخامس والثلاثون من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عقيب الصلوات
ذكر الحافظ أبو موسى المديني من طريق عبد الغنى بن سعيد، قال:
سمعت إسماعيل بن أحمد الحاسب، قال: أخبرني أبو بكر محمد بن عمر، قال: كنت عند أبي بكر بن مجاهد فجاء الشبلي فقام إليه ابن مجاهد وعانقه وقبّل بين عينيه، فقلت له: يا سيدي تفعل هذا بالشبلي وأنت وجميع من ببغداد يتصورون أنه مجنون؟ فقال لي: فعلت به كما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعل به، وذلك أنى رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المنام، وقد أقبل الشبلي فقام إليه وقبل بين عينيه، فقلت يا رسول اللَّه أتفعل هذا بالشبلي؟ فقال: هذا يقرأ بعد صلاته:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ [ (1) ] إلى آخرها ويتبعها بالصلاة عليّ.
__________
[ () ] صحيحه عن أبى رافع، وهو ممن التزم الصحيح، وبه شنعوا على ابن الجوزي في زعمه أنه موضوع. (كشف الخفا ومزيل الالتباس) : 1/ 102- 103، حديث رقم (292) .
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قال يحيى بن معين: عبيد اللَّه ليس بشيء، وقال محمد بن طاهر: هو متروك الحديث، وقال البخاري: معمر وأبوه كلاهما: منكر الحديث (الموضوعات) : 3/ 76، باب ما يقال عند طنين الأذن.
قال العلامة نور الدين على بن محمد بن سلطان، المشهور بالملا على القارئ: فكل حديث في طنين الأذن كذب، قلت: رواه الحكم، وابن السني، والطبراني، والعقيلي، وابن عدي عن أبي رافع، كذا في (الجامع الصغير) للسيوطي، والتزم أن لا يكون فيه موضوع، وذكره ابن الجزري أيضا في (الحصن) والتزم أن لا يكون فيه إلا الصحيح، (الأسرار المرفوعة) : 441، وقال محققه: هيهات أن يكون المؤلفون قادرين على أن يحققوا ما اشترطوه في مقدماتهم دائما.
[ (1) ] التوبة. 128.(11/149)
وفي رواية: أنه لم يصل صلاة فريضية إلا ويقرأ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ (1) ] إلى آخر السورة. ويقول: صلى اللَّه عليك يا محمد ثلاث مرات. قال: فلما دخل الشبلي سألته عما يذكر بعد صلاته فذكر مثله.
الموطن السادس والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] : عند الذبيحة
وقد اختلف في ذلك فاستحبها الشافعيّ- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: التسمية عند الذبيحة: بسم اللَّه، فإن زاد بعد ذلك شيء من ذكر اللَّه فالزيادة خير، ولا إكراه مع تسميته على الذبيحة أن يقول: صلى اللَّه على رسول اللَّه بل أحبه له، وأحب أن يكثر الصلاة عليه على كل الحالات، لأن ذكر اللَّه تعالى بالصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إيمانا باللَّه وعبادة لم يؤاخذ عليها- إن شاء اللَّه تعالى- من قالها.
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه كان مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتقدمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتابعه فوجده عبد الرحمن ساجدا، فوقف ينتظره فأطال، ثم رفع، فقال عبد الرحمن: لقد خشيت أن يكون اللَّه قبض روحك في سجودك قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عبد الرحمن لما كنت حيث رأيت، لقيني جبريل فأخبرني عن اللَّه- تعالى- أنه قال: من صلّى عليك صليت عليه فسجدت للَّه شكرا، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة،
وبسط- رحمه اللَّه- الكلام في هذا، ونازعه في ذلك آخرون من الحنفية، وكرهوا الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذا الموطن، كما ذكره صاحب (المحيط) ، وقال: لأن فيه إيهام الإهلال لغير اللَّه، وكرهها أيضا من أصحاب أحمد القاضي أبو يعلى.
كما ذكر ذلك أبو الخطاب في (رءوس المسائل) ، واحتج لهذا لما
رواه الخلال من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: موطنان لا حظ لي
__________
[ (1) ] التوبة. 128.(11/150)
فيهما: عند العطاس، والذبح،
وبما تقدم من حديث عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه وهو غير ثابت [ (1) ] .
الموطن السابع والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] :
إذا مر وهو يقرأ في الصلاة بذكره صلّى اللَّه عليه وسلّم أو بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (2) ] روى إسماعيل بن إسحاق من طريق بشر بن منصور، عن هشام، عن الحسن، قال: إذا مر في الصلاة على ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فليقف وليصل عليه في التطوع، وقال الإمام أحمد: إذا مر المصلى فيها بذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن كان في نفل صلّى عليه.
الموطن السادس والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] : عند عدم المال
فإن الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم تقوم مقام الصدقة،
روى ابن وهب، عن عمر، عن عمرو بن الحارث، عن دراج أبى السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيما رجل لم يكن عنده صدقة فليقل في دعائه: اللَّهمّ
__________
[ (1) ]
(كنز العمال) : 1/ 509، حديث رقم (2255) : لا تذكروني عند ثلاث: تسمية طعامكم، وعند الذبح، وعند العطاس،
وعزاه إلى البيهقي في (السنن) ، وضعفه، عن عبد الرحمن بن زيد العمي، عن أبيه مرسلا.
وحديث رقم (2256) : لا تذكروني في ثلاث مواطن، عند العطاس، وعند الذبيحة، وعند التعجب،
وعزاه إلى الحاكم في (تاريخه) .
[ (2) ] الأحزاب: 56.(11/151)
صلّ على محمد عبدك ورسولك، وصلّ على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، فإنّها زكاة [ (1) ] .
الموطن التاسع والثلاثون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] : عند النوم
روى أبو الشيخ في كتابه من طريق آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا محمد بن بشر: حدثنا محمد بن عامر: قال: قال أبو قرصافة: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من أوى إلى فراشه ثم قرأ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [ (2) ] ، ثم قال: اللَّهمّ رب الحل والحرام، ورب البلد الحرام، ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام، بحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان، بلغ روح محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم منى تحية وسلام- أربع مرات، وكلّ اللَّه تعالى بها ملكين، حتى يأتيا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويقولان له: يا محمد إن فلان بن فلان يقرأ عليك السلام ورحمة اللَّه فيقول: وعلى فلان منى السلام ورحمة اللَّه، وبركاته [ (3) ] ،
ومحمد بن بشر المدني قال فيه الأزدي: متروك الحديث مجهول، ولهذا الحديث- مع ذلك- علة، وهي أنه معروف من قول أبي جعفر محمد الباقر.
__________
[ (1) ] (شعب الإيمان) : 2/ 86، باب (13) التوكل والتسليم، حديث رقم (1231) ،
عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيما رجل كسب مالا من حلال، فأطعم نفسه، أو كساها فمن دونه من خلق اللَّه، فإنّها زكاة له، وأيما رجل مسلم لم يكن له عنده صدقة فليقل في دعائه: اللَّهمّ صلّ على محمد عبدك ورسولك، وصلّ على المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، فإنّها زكاة له. أخرجه البيهقي من طريق ابن عدي في (الكامل) : 3/ 980- 981.
[ (2) ] الملك: 1، والمراد هنا قراءة سورة الملك كلها قبل النوم، إن صح.
[ (3) ] (كنز العمال) : 15/ 346- 347، حديث رقم (41320) وعزاه إلى أبي الشيخ في (الثواب) ، والضياء المقدس، وقال: غريب جدا عن أبي قرصافة.(11/152)
الموطن الأربعون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] : عند كل كلام ذي بال
وفي هذا الموطن يشرع حمد اللَّه- تعالى- والثناء عليه، ثم يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
خرج الإمام أحمد [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: كل كلام لا يبدأ فيه بحمد اللَّه- تعالى- فهو أجزم.
وروى أبو موسى المدني، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كل كلام لا يذكر اللَّه فيبدأ به وبالصلاة عليّ، فهو أقطع ممحوق من كل بركة.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 43، حديث رقم (8495)
من مسند أبى هريرة- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولفظه: «كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر اللَّه عز وجل فهو أبتر، أو قال:
أقطع.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 5/ 172، كتاب الأدب، باب (21) الهدى في الكلام، حديث رقم (4840) ، قال الخطابي:
قوله: «أجزم» :
معناه المنقطع الأبتر، الّذي لا نظام له، وفسره أبو عبيد فقال: الأجزم: المقطوع اليد، وقال ابن قتيبة: الأجزم بمعنى المجزوم، في
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من تعلم القرآن ثم نسيه لقي اللَّه وهو أجزم» .
وفي نسخة:
«لا يبدأ فيه بحمد اللَّه» .
وأخرجه ابن ماجة في النكاح، حديث رقم (1894) باب في خطبة النكاح، وقال فيه:
«أقطع» قال المنذري: وأخرجه النسائي مسندا ومرسلا.(11/153)
الموطن الحادي والأربعون [من مواطن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] : في صلاة العيد
روى القاضي إسماعيل في كتابه من حديث مسلم بن إبراهيم، قال:
حدثنا هشام الدستوائى: حدثنا حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوما فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا، فكيف التكبير فيه؟ قال عبد اللَّه بن مسعود: تبدأ فتكبر تكبيرة الفتح تفتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم تدعو وتكبر فتفعل مثل ذلك، وتكبر، وتفعل مثل ذلك، ثم تقرأ ثم تكبر، وتركع ثم تقوم، وتقرأ، وتحمد اللَّه، وتصلى على النبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم تدعو وتكبر، وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تركع، فقال حذيفة وأبو موسى:
صدق أبو عبد الرحمن.
وفي هذا الحديث الموالاة بين القراءتين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه، وفيه تكبيرات العيد الزوائد ثلاثا في كل ركعة، وإليه ذهب أبو حنيفة، وفيه حمد اللَّه والثناء عليه، والصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو مذهب الشافعيّ وأحمد، فأخذ أبو حنيفة- رحمه اللَّه- به في عدد التكبيرات، والموالاة بين القراءتين.
وأخذ به الشافعيّ وأحمد- رحمهما اللَّه- في استحباب الذكر بين التكبيرات، وأبو حنيفة ومالك- رحمهما اللَّه- يستحبان سرد التكبيرات من غير ذكر بينهم، ومالك لم يأخذ به في هذا ولا هذا، ولبسط هذه المسألة موضع غير هذا، واللَّه الموفق.(11/154)
الثامنة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن من صلّى عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم نال من اللَّه تعالى أربعين كرامة بصلاته عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أولها:
امتثاله أمر اللَّه- تعالى.
ثانيها:
موافقته للَّه تعالى- في الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإن اختلفت الصلاتان فصلاتنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة اللَّه عليه ثناء وتشريف.
ثالثها:
موافقة الملائكة في الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
رابعها:
حصول عشر صلوات من اللَّه- تعالى- للمصلى عليه مرة واحدة.
خامسها:
أن اللَّه- تعالى- يرفع له بالصلاة عليه عشر درجات.
سادسها:
أنه يكتب له عشر حسنات.
سابعها:
أنه يمحى عنه عشر سيئات.
ثامنها:
أنه ترجى إجابة دعوته، إذا قدم الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمام دعائه فالصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم تصعد بالدعاء إلى اللَّه تعالى، وقد كان موقوفا بين السماء والأرض قبلها.
تاسعها:
أنها سبب لشفاعته صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قرنها بسؤاله الوسيلة له أو أفردها.
عاشرها:
أنها سبب لمغفرة الذنوب.
روى رشدين بن سعد، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن عليّ، عن أبي بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل من عتق الرقاب، وحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل من ضرب بالسيف في سبيل اللَّه عز وجل.
الحادية عشرة:
أنها سبب لكفاية اللَّه- تعالى- المصلّي عليه ما أهمه.
الثانية عشرة:
أنها سبب لقرب المصلي عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه يوم القيامة.
الثالثة عشرة:
أنها تقوم للمصلي المعسر مقام الصدقة.(11/155)
الرابعة عشرة:
أنها سبب لقاء الحوائج.
الخامسة عشرة:
أنها سبب لصلاة- اللَّه سبحانه وتعالى- وملائكته على المصلى عليه.
السادسة عشرة:
أنها زكاة وطهارة للمصلي عليه.
السابعة عشرة:
أنها سبب لبشارة المصلي عليه بالجنة قبل موته.
الثامنة عشرة:
أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.
التاسعة عشرة:
أنها سبب لردّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة والسلام على من صلّى عليه وسلّم صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الكرامة العشرون:
أنها سبب لتذكر المصلي ما نسيه.
الحادية والعشرون:
أنها سبب لطيب مجلس المصلي عليه، وأنه لا يعود حسرة عليه وعلى من كان معه يوم القيامة.
الثانية والعشرون:
أنها تنفى الفقر.
الثالثة والعشرون:
أنها تنفى عن المصلي عليه إذا ذكر اسم البخل.
الرابعة والعشرون:
نجاة المصلي عليه عند ذكره من الدعاء عليه برغم الأنف.
الخامسة والعشرون:
أنها ترمى بالمصلي عليه على طريق الجنة، وتخطئ بتاركها عن طريقها.
السادسة والعشرون:
أنها تنجى من نتن المجلس.
السابعة والعشرون:
أنها سبب لتمام الكلام الّذي تبدأ فيه مع حمد اللَّه- تعالى.
الثامنة والعشرون:
أنها سبب لزيادة نور المصلي عليه إذا جاز على الصراط.
التاسعة والعشرون:
أنها تخرج المصلي عليه من الجفاء والكراهة له صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الكرامة الثلاثون:
أنها سبب لإلقاء اللَّه- تعالى- الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض، لأن المصلى عليه طالب من اللَّه(11/156)
- تعالى- أن يثنى على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل، فلا بد أن ينال المصلى عليه نوعا من ذلك.
الحادية والثلاثون:
أنها سبب للبركة في ذات المصلي، وفي عمله، وفي عمره، وفي أسباب مصالحه، لأنه داع ربه أن يبارك على نبيه وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه.
الثانية والثلاثون:
أنها سبب لنيل المصلي عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم رحمة اللَّه له، لأن الرحمة إما معنى الصلاة، وإما من لوازمها وموجباتها، فلا بد للمصلي عليه من رحمة تناله.
الثالثة والثلاثون:
أنها سبب لدوام محبة المصلي عليه له وزيادتها وتضاعفها، وقد تقرر أن محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم عقد من عقود الإيمان الّذي لا يتم بدونه، وذلك أن العبد كلما أكثر من ذكر محبوبه، ومن استحضاره في قلبه، واستجلاء محاسنه، وتذكر معانيه الجالبة لحبه، تضاعف حبه، وتزايد شوقه إليه، واستولى على قلبه بأسره، وإن أعرض عن ذكره، وإحضاره قلبه، وغفل عن تذكر محاسنه، تناقص حبه من قلبه.
ومن المعلوم عند كل أحد أنه لا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أسر لقلبه من ذكره وتذكر معانيه واستجلائه لجمال محياه وتصوره محاسنه، فإذا قوى ذلك في قلب المحب، جرى لسانه بمدح محبوبه والثناء عليه، وبث محاسنه بحسب زيادة حبه ونقصانه.
ولما كانت كثرة ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم موجبة بدوام محبته ونسيانه سببا لزوال محبته أو ضعفها، وكان اللَّه- سبحانه وتعالى- هو المستحق من عباده نهاية المحبة ومع غاية التعظيم والإجلال، لكان ذكره تعالى أنفع.
أما للعبد فإن الذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك، لا حياة له إلا به، وكانت محبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تابعة لمحبته- تعالى.
الرابعة والثلاثون:
أنها سبب لمحبته صلّى اللَّه عليه وسلّم للمصلي عليه، فإنّها لما كانت سببا لزيادة محبة المصلى عليه له، كانت سببا لمحبته هو المصلى عليه.
الخامسة والثلاثون:
أنها سبب لهداية المصلي عليه وإحياء قلبه، فإنه كلما أكثر من ذكره ومن الصلاة عليه استولت محبته على القلب حتى لا يبقى(11/157)
فيه شك لما جاء به بكليته على امتثال ما أمر به واتباع سنته، كأنما صارت سنته كتابا مستورا في قلبه، لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والصلاح وجميع العلوم منه، فكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة، تزايدت صلاته وسلامه عليه، ولهذا كان فرق عظيم بين صلاة أهل العلم عليه القائمين بشريعته، العارفين بسنته وهديه المتبعين له، وبين صلاة العوام عليه، الذين حظهم منها إزعاج أعضائهم، وبها رفع أصواتهم، فصلاة العارفين بسنته عليه العالمين بما جاء به، نوع آخر، فكلما ازدادوا معرفة بما جاء به، ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطلوبة من اللَّه- تعالى.
فكلما كان العبد أعرف باللَّه- تعالى، وله- تعالى- أطوع، وله أحب مما سواه، كان ذكره له- تعالى- غير ذكر الغافلين اللاهين، وهذا أمر إنما يعرف بالذوق لا بالوصف، وفرق بين من يذكر صفات محبوبه الّذي قدم ملأ حبه جميع قلبه، ويثنى عليه ويمجده بها، وبين من حظه من ذكره التلفظ بما لا يدرى معناه، فلا يطابق فيه قلبه لسانه، كما أنه فرق بين بكاء النائحة وبكاء الثكلى.
فذكره صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر ما جاء به حمدا للَّه- تعالى- على إنعامه علينا، ومنّه بإرساله هو حياة الوجود، وروحه روح المجالس، ذكره وحديثه، وهدى لكل حيران، وإذا أخل بذكره في مجلس فأولئك الأموات في الجثمان.
السادسة والثلاثون:
أنها سبب لعرض اسم المصلى عليه وذكره عنده.
السابعة والثلاثون:
أنها سبب لتثبيت أقدام المصلى عليه على الصراط، لحديث سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفيه:
ورأيت رجلا من أمتى يرجف على الصراط، ويحبو أحيانا، فجاءته صلاته عليّ فأقامته وأنقذتة، وسيأتي بطوله إن شاء- اللَّه تعالى- في مقامه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الثامنة والثلاثون:
أن المصلى عليه يؤدى بصلاته عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقل القليل من حقه، ويقوم بأيسر اليسير من شكره على نعمته، التي أنعم اللَّه- تعالى- بها عليه في بعثته إلينا وهدايتنا به، فإن الّذي يستحقه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذلك لا يحصى علما ولا قدرة منا ولا إرادة، ولكن اللَّه- تعالى- من كرمه يرضي من عبادة باليسر.(11/158)
التاسعة والثلاثون:
أنها متضمنة لذكر اللَّه- تعالى- وشكره ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله صلّى اللَّه عليه وسلّم فالمصلي عليه قد تضمنت صلاته عليه ذكر اللَّه- تعالى- وذكر رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسؤاله- تعالى- أن يجزيه بصلاته عليه ما هو عليه كما عرفنا ربنا- تعالى- وأسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته تعالى، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه والقدوم، فهي متضمنة للايمان كله، من وجود الرب المدعو سبحانه، وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وكلامه، وإرساله رسوله، وتصديقه فيما أرسل به كله وكمال صحبته صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهذه هي أصول الإيمان، والصلاة عليه متضمنة لعلم المصلي عليه ذلك وتصديقه به، ومحبته له، فكانت- من أجل ذلك- من أجلّ الأعمال.
الكرامة الأربعون:
الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المصلي عليه دعاء، وقد انقسم دعاء العبد وسؤاله ربه- تعالى- نوعين.
أحدهما:
سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبة.
والثاني:
سؤال العبد ربه- تعالى- أن يثنى على رسول وخليله وحبيبه وأن يزيد في تشريفه وقدره كرامته وإشادة ذكره ورفعه، ولا ريب أن اللَّه- تعالى- يحب ذلك، ورسوله أيضا يحبه، وفي هذا النوع من الدعاء يكون العبد قد آثر ما يحبه اللَّه ورسوله على طلبه حوائجه هو، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده فقد آثر ما يحبه اللَّه ورسوله على ما يحبه هو ومن آثر اللَّه ومحابه على ما سواه، كان جزاؤه من جنس عمله، فدخل في زمرة من آثرة على غيره، ويا لها من رتبة، ما أجلها وأعلاها، واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم، إذا أرادوا التقرب إليهم، والمنزلة عندهم، فإنّهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب إليه، وكلما سألوه أن يزيد في وكرمه وتشريفه، علت منزلتهم عنده، وازداد قربهم منه، وحظوتهم عنده، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالا، ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه ومراده، وهذا أمر مشاهد بالحس. ولا تكون منزلة هؤلاء، ومنزلة(11/159)
من يسأل المطاع حوائجه منزلة واحدة، فكيف بأعظم محب وأجله لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه؟ ولو لم يكن من فوائد الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفا فكيف ومعها أخواتها؟
واعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد خصه اللَّه- تعالى- من مزايا الشرف الرفيع بأن جعل له الأجر الزائد على أجر عمله مثل أجور من اتبعه منذ ابتعثه إلى قيام الساعة، فشرفه صلّى اللَّه عليه وسلّم الشرف الّذي لا فوقه غاية، ولا له نهاية، وصلاة أمته وسلامهم عليه ليس له فيها شيء يجدد، ولا شرف يتعدد، وإنما هي فضل من اللَّه يعود على أمته بتكفير سيئاتهم، ومحو خطيئاتهم، وزيادة حسناتهم، وارتفاع درجاتهم، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ (1) ] ، فمن دعا إلى سنته صلّى اللَّه عليه وسلّم وأرشد إلى دينه وعلم الخير أمته، إذا قصد توفير هذا الحظ على المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم وصرفه إليه، وقصد بدعائه الخلق إلى اللَّه أن يتقرب إلى اللَّه- تعالى- بإرشاد عباده، وأن يوفر أجور المطيعين له على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ذلك أرفع لقدره، وأعظم لأجره، فإن اللَّه- تعالى- يثيبه مع الأجر على دعوته وتعليمه بحسب هذه النية ثوابا جزيلا، ويؤتيه أجرا كبيرا، واللَّه الموفق بمنه وكرمه.
__________
[ (1) ] الجمعة: 4.(11/160)
خاتمة فيها بيان وإرشاد لمعنى الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن أصل لفظة الصلاة في اللغة يرجع إلى معنيين:
أحدهما: الدعاء والتبرك.
والثاني: العبادة.
فالأول: كقول اللَّه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ (1) ] .
وقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [ (2) ] ،
وقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان صائما فليصل، قيل: فليدع بالبركة، وقيل: يصلى عنده بدل أكله،
وقيل:
الصلاة لغة معناها الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
فالعابد داع، كما أن السائل داع، وبهما فسر، قوله- تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ (3) ] ، قيل: أطيعوني أثبكم وقيل: ادعوني سلوني أعطكم، وبهما فسر قوله- تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [ (4) ] ، والصواب أن الدعاء يعم النوعين، وهو لفظ متواطئ لا اشتراك فيه، فمن استعماله في دعاء العبادة قوله- تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [ (5) ] ، وقوله- تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [ (6) ] وقوله- تعالى: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ [ (7) ] ، والصحيح
__________
[ (1) ] التوبة: 103.
[ (2) ] التوبة: 84.
[ (3) ] غافر: 60.
[ (4) ] البقرة: 186.
[ (5) ] سبأ: 22.
[ (6) ] الفرقان: 3.
[ (7) ] الفرقان: 77.(11/161)
من القولين لولا أنكم تدعونه أي شيء لعبأ بكم لولا عبادتكم إياه، سيكون المصدر مضافا إلى الفاصل. وقال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [ (1) ] .
وقال تعالى- إخبارا عن أنبيائه ورسله: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [ (2) ] ، وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، وهذه دعوى الخلاف في مسمى الدعاء، وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة في شرعته أو مجازا شرعيا؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء، والدعاء دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والمصلى من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاته حقيقة لا مجازا، ولا منقولة، لكن خصّ اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة ويخصها أهل العرف ببعض مسماها كالرأس ونحوها، فهذا غايته من تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعة، وهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعة الأصلي، وهذه هي الصلاة من الآدميّ،
وأما صلاة اللَّه- جل جلاله- على عبده فنوعان:
عامة وخاصة.
[فالصلاة] العامة:
صلاته- سبحانه- على جميع المؤمنين، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [ (3) ] ، ومنه دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لآحاد المؤمنين
كقوله: اللَّهمّ صل على آل أبى أوفى،
وقوله للمرأة: صلى اللَّه عليك وعلى زوجك.
__________
[ (1) ] الأعراف: 55- 56.
[ (2) ] الأنبياء: 90.
[ (3) ] الأحزاب: 43.(11/162)
والصلاة الخاصة:
صلاته- تعالى- على أنبيائه ورسله، خصوصا على خاتمهم وأفضلهم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، اختلف في معناها. فقيل: إنها رحمته- تعالى-.
روى إسماعيل بن إسحاق من طريق جويبر عن الضحاك قال: صلاة اللَّه- تعالى- رحمته وصلاة الملائكة الدعاء، وقال المبرد: أصل الصلاة الرحمة فهي من اللَّه- تعالى- رحمة، ومن الملائكة استدعاء للرحمة من اللَّه، وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين، وقيل: إن الصلاة مغفرته.
قال جويبر عن الضحاك: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [ (1) ] صلاة اللَّه مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء، وهذا القول من جنس الّذي قبله، وردّ بوجوه:
أحدها: أن اللَّه- تعالى- قد فرق بين صلاته على عباده ورحمته، فقال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [ (2) ] .
فعطف- تعالى- الرحمة على الصلاة، فاقتضى ذلك تغايرهما، وهذا أصل العطف.
وأما قول الشاعر:
فألفى قولها كذبا ومينا
فإنه شاذ لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب.
ثانيها: أن صلاة اللَّه- تعالى- خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين.
وأما رحمته فوسعت كل شيء فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها وآحاد مقصودها، وهذا كثير ما يأتى في تفسير ألفاظ القرآن،
__________
[ (1) ] الأحزاب: 43.
[ (2) ] البقرة: 156- 157.(11/163)
فتفسر اللفظة بملازمها وجزء معناها، كتفسير الريب بالشك، والشك جزء مسمى الريب، وتفسيره الرحمة بإرادة الإحسان، وهو إرادة لازم الرحمة، ونظير ذلك كثير.
ثالثها: أنه لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين، واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء على ثلاثة أقوال- كما تقدم- فقلنا: إنهما ليسا بمترادفين.
رابعها: أنها لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر، وأسقطت عند من أوجبها، إذا قال: اللَّهمّ ارحم محمدا وآل محمد، وليس الأمر كذلك.
خامسها: أنه لا يقال لمن رحم غيره ورق عليه فأطعمه وسقاه وكساه أنه صلّى عليه، ويقال: قد رحمه.
سادسها: أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه فيجد في قلبه له رحمة ولا يصلى عليه.
سابعها: أن الصلاة لا بدّ فيها من كلام، فهي ثناء من المصلى على المصلى عليه وتنويه به، وإشادة بمحاسنه التي فيه وذكره.
قال البخاري في صحيحه: عن أبي العالية قال: صلاة اللَّه على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة، وروى القاضي إسماعيل في كتابه من طريق الربيع بن أنس عن أبى العالية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ، قال: صلاة اللَّه- عز وجل- وثناؤه عليه وصلاة الملائكة.
ثامنها: أن اللَّه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعها في فعل واحد، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وهذه الصلاة لا تكون هي الرحمة، وإنما هو ثناؤه- سبحانه- وثناء ملائكته عليه، فإن قيل: الصلاة لفظ مشترك فيجوز أن تستعمل في معنييه معا، قيل: في ذلك محاذير:
أحدها: أن الاشتراك على خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من مواضع، وأحدها: نص على ذلك المبرد وغيره من أئمة اللغة، وإنما يقع في اللغة وقوعا عارضا اتفاقيا بسبب، ثم تختلط اللغة فيعرض الاشتراك.(11/164)
ثانيها: أن الأكثرين لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فإن قيل: قد حكى عن الشافعيّ- رحمه اللَّه- تجويزه، قيل: ممنوع صحة ذلك عنه وإنما نأخذ من قوله إذا أوصى لمواليه وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما وأنه عند الإطلاق يحمل عليهما- وليس كذلك- فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة، فالشافعي وأحمد- في ظاهر مذهبه- يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ، وهو عنده عام متواطئ الاشتراك.
فإن قيل: قد جاء عن الشافعيّ- رحمه اللَّه- أنه قال في مفاوضة جرت له: قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وقد قيل: يراد بالملامسة الجماع، فقال: هي محمولة على المس باليد حقيقة وعلى الجماع مجازا.
قيل: هذا لا يصح عن الشافعيّ ولا من درس كلامه المألوف لمن عرفه وإنما هو كلام بعض الفقهاء المتأخرين، فإذا كان معنى الصلاة هو الصلاة على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والعناية به وإظهار شرفه وفضله وحرمته- كما هو المعروف من هذه اللفظة- لم يكن لفظ الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه، بل يكون مستقلا في معنى واحد، وهذا هو الأصل في الألفاظ.
الوجه التاسع: أنّ اللَّه أمر بالصلاة عليه عقيب إخباره بأنه- تعالى- هو وملائكته يصلون عليه، والمعنى إذا كان اللَّه تعالى وملائكته يصلون على رسوله فصلوا أيضا أنتم عليه، فأنتم أحق أن تصلوا عليه وتسلموا تسليما، لإيمانكم ببركة رسالته، ويمن سفارته من الخير والشرف في الدنيا والآخرة، ومن المعلوم أنه لو غير هذا المعنى بالرحمة لم يحسن موقعه ولم يحسن النظم، فإنه يكون تقديره يصير إلى أن اللَّه وملائكته يترحمون ويستغفرون لنبيه، فادعوا أنتم وسلموا، وهذا ليس مراد الآية قطعا، بل الصلاة المأمور بها في الآية هي الطلب من اللَّه- تعالى- ما أخبر به من صلاته وثناء ملائكته، وهي ثناء عليه، إظهار لشرفه، وفضله، وإرادته تكريمه، وتقريبه، فهي تتضمن الخبر والطلب، وسمى هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين:(11/165)
أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلى عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله، والإرادة والمحبة لذلك من اللَّه- تعالى.
الثاني: أن ذلك سمى منا صلاة عليه لسؤالنا من اللَّه- تعالى- أن يصلى عليه، فصلاة اللَّه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا اللَّه- تعالى- أن يفعل ذلك به، وضد ذلك في لعنة أعدائه الشانئين [ (1) ] لما جاء به، فإنّها تضاف إلى اللَّه- تعالى- وتضاف إلى العبد كما قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [ (2) ] .
فلعنة اللَّه لهم تتضمن مقته وإبعاده وبغضه لهم، ولعنة العبد سؤال اللَّه- تعالى- أن يفعل ذلك بمن هو أهل اللعنة، وإذا ثبت هذا، فمن المعلوم أنه لو كانت الصلاة هي الرحمة لم يصح أن يقال لطالبها من اللَّه- تعالى- مصليا، وإنما يقال له مسترحما له، كما يقال لطالب المغفرة مستغفرا له، ولطالب العطف مستعطفا، ونظائره كثيرة، ولهذا يقال لمن سأل اللَّه المغفرة: قد عفى عنه، وهنا قد سمى العبد مصليا، فلو كانت الصلاة هي الرحمة، لكان العبد راحما لمن صلى عليه، وكان يقال رحمه يرحمه، ومن رحم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرة رحمه اللَّه- تعالى- بها عشرا، وهذا معلوم البطلان، فإن قيل: ليس معنى صلاة العبد عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم رحمه، إنما معناها طلب الرحمة له من اللَّه- تعالى، قيل هذا غير مسلم لأمرين:
أحدهما: أن طلب الرحمة مشروع لكل مسلم، وطلب الصلاة من اللَّه- تعالى- يختص بالأنبياء والرسل عند كثير من الناس كما تقدم.
الثاني: أنه لو سمى طالب الرحمة مصليا لسمى طالب المغفرة غافرا، وطالب العفو عافيا، وطالب الصفح صافحا، ونحوه، فإن قيل: فأنتم قد سميتم طالب الصلاة من اللَّه- تعالى- مصليا، قيل: إنما سمى مصليا
__________
[ (1) ] الشانئون: جمع شانئ، وهو المبغض، قال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] .
[ (2) ] البقرة: 159.(11/166)
لوجود حقيقة الصلاة منه، فإن حقيقتهما الثناء، وإرادة الإكرام والتقريب، وإعلاء المنزلة، وهذا حاصل من صلاة العبد، لكن العبد يريد ذلك من اللَّه- تعالى- واللَّه- سبحانه- يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسله.
وأما على الوجه الثاني: فإنه سمى مصليا لطلبه ذلك من اللَّه، لأن الصلاة من نوع الكلام الطلبى والخبرى، وقد وجد ذلك من المصلى بخلاف الرحمة، والرحمة أفعال لا تحصل من الطالب وإنما تحصل من المطلوب منه.
الوجه العاشر:
أنه قد ثبت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: من صلّى على مرة صلى اللَّه بها عشرا، وأن اللَّه تعالى قال: من صلّى عليك من أمتك مرة صليت عليه عشرا.
وهذا موافق للقاعدة المستقرة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل، وصلاة اللَّه تعالى على المصلى على رسوله جزاء لصلاته هو عليه، ومعلوم أن صلاة العبد على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة اللَّه من جنسها، وإنما هي ثناء على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرادة من اللَّه- تعالى- أن يعلى ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا، والجزاء من [جنس] [ (1) ] العمل، فمن أثنى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جزاه اللَّه- تعالى- من جنس عمله بأن يثنى عليه ويزيد تشريفة وتكريمة، فصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له، ومناسبته إياه،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من يسر على معسر يسر اللَّه عليه حسابه، ومن ستر مسلما ستره اللَّه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس اللَّه عنه كربه من كرب يوم القيامة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل اللَّه له به طريقا إلى الجنة. ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه اللَّه يوم القيامة بلجام من نار، ومن صلّى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرة، صلى اللَّه عليه عشرا،
ونظائره كثيرة.
الوجه الحادي عشر: إنّ أحدا قال: إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رحمه اللَّه، بدل صلّى اللَّه عليه وسلّم، لبادرت الأمة إلى الإنكار عليه، وعدوه مبتدعا غير موقر للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.(11/167)
مصل عليه، ولا مثن عليه بما يستحق، ولا يستحق أن يصلى اللَّه عليه بذلك عشرا، ولو كانت الصلاة من اللَّه الرحمة لم يمتنع شيء من ذلك.
الوجه الثاني عشر: إن اللَّه- تعالى- قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (1) ] ، فأمر اللَّه- تعالى- أن لا يدعى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما يدعو الناس به بعضهم بعضا من مناداتهم ومخاطباتهم بأسمائهم، بل يقال:
يا رسول اللَّه ولا يقال: يا محمد، وما كان يسميه باسمه وقت مخاطبته إلا الكفار فقط: وأما المسلمون فكانوا يخاطبونه برسول اللَّه، وإذا كان هذا في خطابه مواجهة فهكذا يكون في مغيبه، فلا ينبغي أن يجعل ما يدعى له من جنس ما يدعون بعضا لبعض، بل يدعى له بأشرف الدعاء، وهو السلام عليه ومعلوم أن الرحمة يدعى بها لكل مسلم، نعم ولغير الآدمي من الحيوانات كما في الاستسقاء: اللَّهمّ ارحم عبادك، وبلادك، وبهائمك، فلا بد من تشريف يتميز به الرسول في الدعاء، وإلا فيكون قد سوى بهم، وفي عدم تشريفه ما قد علم من مقت اللَّه ونكاله.
الوجه الثالث عشر: أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلا، والمعروف عند العرب معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء.
قال الشاعر:
وإن ذكرت صلّى عليها وزمزما
أي برك عليها ومدحها، ولا تعرف العرب قط صلّى عليه بمعنى رحمه، فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف.
قال ابن سيدة: والصلاة والدعاء والاستغفار، وصلاة اللَّه على رسوله رحمته له وحسن ثنائه عليه وصلّى دعا، وفي الحديث من دعي إلى وليمة فليجب وإلا فليصل.
قال الأعشى:
عليك مثل الّذي صليت فاعتصمي ... يوما فإن لجنب المرء مضجعها
__________
[ (1) ] النور: 63.(11/168)
معناه: يأمرها أن تدعو له مثل دعائها أي تعيد الدعاء له، ويردّ عليك مثل الّذي صليت فهو عليها أي عليك مثل صلاتك، أي أسالك من الخير مثل الّذي أردت لي ودعوت به لي.
الوجه الرابع عشر: أنه يستحب لكل أحد أن يسأل اللَّه- تعالى- أن يرحمه ولا يسوغ لأحد أن يقول: اللَّهمّ صلّ عليّ، بل الداعي بهذا معتد في دعائه، واللَّه لا يحب المعتدين، خلاف سؤاله الرحمة فإن اللَّه- تعالى- يحب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته، فعلم أنه ليس معناها واحد.
الوجه الخامس عشر: أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة، كقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ (1) ] وقوله: إن رحمتي سبقت غضبى، وقوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [ (2) ] وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [ (3) ] ، وقوله تعالى: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (4) ] ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّه أرحم بالعباد من الوالدة بولدها،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء،
وقوله: من لا يرحم لا يرحم
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تنزع الرحمة إلا من شقي،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: الشاة إن رحمتها رحمك اللَّه،
فمواضع استعمال الرحمة في حق اللَّه- تعالى- وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها، بل في أكثرها فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة، فإن قيل: قد قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [ (5) ] قال: يباركون عليه. قيل: هذا لا ينافي تفسيرها بالثناء. وإرادة التبريك والتعظيم، فإن التبريك من اللَّه يتضمن ذلك، ولهذا فرق بين الصلاة عليه والتبريك عليه، وقالت الملائكة لإبراهيم
__________
[ (1) ] الأعراف: 156.
[ (2) ] الأعراف: 156.
[ (3) ] الأحزاب: 43.
[ (4) ] التوبة: 117.
[ (5) ] الأحزاب: 56.(11/169)
صلّى اللَّه عليه وسلّم: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [ (1) ] وقال المسيح عليه السلام:
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [ (2) ] ، قال غير واحد من السلف: معناه معلما للخير أينما كنت، وهذا جزء المسمى، فالمبارك الكثير الخير في نفسه، الّذي يحصله لغيره تعليما وأقدارا ونصحا وإرادة واجتهادا، وبهذا يكون العبد مباركا، لأن اللَّه- تعالى- بارك، فيه وجعله كذلك، واللَّه تعالى يبارك لأن البركة منه كلها، فعبده المبارك، وهو المبارك، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [ (3) ] تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] هود: 73.
[ (2) ] مريم: 31.
[ (3) ] الفرقان: 1.
[ (4) ] الملك: 1.(11/170)
التاسعة والتسعون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مطابقة اسمه لمعناه، الّذي هو شيمه وأخلاقه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان اسمه يدل على مسماه، وكانت خلائقه إنما هي تفصيل جملة اسمه وشرح معناه
وذلك أن أشهر أسمائه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمد، وهو اسم منقول من الحمد الّذي هو يتضمن الثناء على المحمود، ومحبته، وإجلاله، وتعظيمه، وبنى على زنة مفعّل مثل: معظم ومحبب ومسود ومبجل، فإن هذا البناء موضوع للتكثير، فمحمد هو الّذي كثر حمد الحامدين له مرة بعد أخرى.
ويقال: حمد فهو محمد كما يقال: علم فهو معلم، وهذا علم وصفة اجتمع فيه الأمران في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإن كان علما محضا في حق كثير ممن سمى به غيره، وهذا شأن أسماء الرب- تعالى- وأسماء كتابه العزيز، وأسماء نبيه الكريم، فإنّها أعلام دالة على معان، هي بها أوصاف فلا تضاد فيها العلمية الوصف، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو اللَّه الخالق البارئ المصور القهار، فهذه أسماء له- تعالى- هي دالة على معان، هي صفاته، وكذلك القرآن والفرقان والكتاب المبين، وغير ذلك من أسمائه.
وكذلك أسماء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم محمد وأحمد والماحي وغيرها من أسمائه، وقد ذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم منها عدة وبين ما خصه اللَّه- تعالى- من الفضل، وأشار إلى معانيها كما تقدم ذكره فيما مضى، ولو كانت أسماؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعلاما محضا لم تدل على مدح، ولهذا قال حسان بن ثابت- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
فتسميته صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا الاسم اشتمل عليه من مسماه وهو الحمد، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمود عند اللَّه، محمود عند ملائكته، محمود عند إخوانه من المرسلين، محمود عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كل عاقل، وإن كابر عقله جحودا وعنادا، أو جهلا باتصافه، ولو علم باتصافه صلّى اللَّه عليه وسلّم بها لحمده، فإنه يحمد من اتصف بصفات(11/171)
الكمال ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامد له صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد اختص صلّى اللَّه عليه وسلّم من مسمى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإنه اسمه محمد، وأحمد، وأمته الحامدون يحمدون اللَّه- تعالى- على السراء والضراء، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، هذا كان عند اللَّه- تعالى- في اللوح المحفوظ، أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحا بالحمد، وبيده صلّى اللَّه عليه وسلّم لواء الحمد يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي اللَّه- تعالى- للشفاعة، ويؤذن له فيها بحمد ربه، بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الّذي يغبطه الأولون والآخرون، وإذا قام في ذلك المقام حمده حينئذ أهل الموقف كلهم، مسلمهم وكافرهم، أولهم وآخرهم، وهو محمود بما ملأ به الأرض من الهدى والإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظلمة عن أهل الأرض واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك والكفر به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا والآخرة، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنّهم كانوا عباد أوثان، وعباد صلبان، وعباد نيران، وعباد كواكب، ومغضوب عليهم، باءوا بغضب من اللَّه، وحيران لا يعرف ربا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يأكل بعضهم بعضا، من استحسن شيئا دعا إليه، وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضع قدم مشرقا بنور الرسالة، وقد نظر اللَّه- تعالى- إلى أهل الأرض، عربهم وعجمهم، إلا بقايا على دين صحيح، وأغاث اللَّه به العباد والبلاد، وكشف به تلك الظلم، وأحيا به الخليقة بعد موتها، وهدى به من الضلالة، وعلم به الجهالة، وكثر به من القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فعرف الناس ربهم ومصورهم، غاية مما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدى وأعاد، واختصر وأطنب، في ذكر أسمائه- تعالى- وصفاته، وأفعاله وأحكامه، حتى تجلت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب، كما تنجاب السحاب عن القمر ليله إبداره، ولم يدع صلّى اللَّه عليه وسلّم لأمته حاجة في التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم، وأغناهم عن(11/172)
كل من تكلم في هذا الباب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (1) ] .
فلم يدع صلّى اللَّه عليه وسلّم حسنا إلا أمر به، ولا قبيحا إلا نهى عنه، وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم التعريف، وكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع بابا من العلم للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلا إلا بينه وشرحه، حتى هدى اللَّه- تعالى- به القلوب من ضلالها، وشفاها من أسقامها، وأغاثها من جهلها، فأى بشر أحق بأن يحمد منه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (2) ] .
فإن أتباعه نالوا برسالته كرامة الدنيا والآخرة، وأعداءه الذين حاربوه عجل قتلهم وموتهم، فكان خيرا لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة إذ كتب عليهم الشقاء، فموتهم إذا خير لهم من حياتهم، وطول أعمارهم في الكفر، وعاش المتعاهدون في الدنيا تحت ظله وفي ذمته، وحصل للمنافقين بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وبقاء أموالهم وأهليهم بأيديهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم في توارثهم وغيرها.
ودفع اللَّه- تعالى- برسالته العذاب العام على أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته، وكان رحمة عمت الجميع وخصت المؤمنين الذين قبلوا هذه الرحمة وانتفعوا بها دنيا وآخرة، وكانت الكفار الذين ردوها ولم يقبلوها كالدواء الّذي فيه دواء للمريض، لكنه لم يستعجله، فلم يخرجه عدم استعمال المريض له عن كونه دواء.
ومما يحمد عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما جبله اللَّه- تعالى- عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فمن نظر في أخلافه وشيمه علم أنها خير أخلاق، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة، فكان لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكان أرحم الخلق وأرأفهم، وأعظم الخلق نفعا له في دينهم ودنياهم، وأفصح
__________
[ (1) ] العنكبوت: 51.
[ (2) ] الأنبياء: 107.(11/173)
الخلق وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة، بالألفاظ الوجيزة، الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه وأشدهم تواضعا وأعظمهم إيثارا، وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم، ودفعا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، يتفجر الخير منه تفجيرا وينطوى على كل خير، ليس في الدنيا محل كان أكثر خيرا من صدره، قد جمع الخير بحذافيره، وأودع فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وكان أصدق لهجة بحيث أقر له بذلك أعداؤه المحاربون له، ولم يجرب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة، دع شهادة أوليائه كلهم، فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات ما بين مشركيهم وأهل الكتاب، فما أحد منهم طعن فيه يوما من الدهر بكذبة واحدة، صغيرة ولا كبيرة، وكان سهلا لينا، قريبا من الناس، يجيب دعوة من دعاه، ويقضى حاجة من استقضاه، ويجبر قلب من قصده، ولا يحرمه، ولا يرده خائبا، إذا أراد أصحابه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسه إلا أتم وأحسنها وأكرمها، فكان لا يعبس في وجه، ولا يغلظ له في مقاله، ولا يطوى عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها، بل يحسن إلى عشيرة غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال، ولا يعاتب أحدا من أصحابه، ولا يلومه، ولا يبادئه بما يكره، مع احتمال الأذى والجفوة، يقول من خالطه في نفسه إنه أحب الناس إليه، من لطفه به، وقربه منه، وبره له، وإقباله عليه، واهتمامه بأمره، ونصيحته له وبذل إحسانه إليه، واحتمال جفوته، فأى عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة، قد خصه اللَّه- تعالى- بصفتين، وهما: الإجلال ... والمحبة.
فكان قد ألقى عليه هيبة منه- تعالى- ومحبة، أن كل من يراه يجله ويملأ قلبه إجلالا وتعظيما- وإن كان عدوا له- فإذا خالطه وعاشره، كان أحب إليه من كل مخلوق فهو المبجل المعظم، المكرم المحبوب، ولم يكن بشر(11/174)
أحب إلى بشر ولا أهيب ولا أجل في صدره من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدور أصحابه.
والفرق بين محمد وأحمد: أن محمدا: هو المحمود حمدا بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد، كما قد سردنا من ذلك ما تيسر.
وأما أحمد فإنه أفعل تفضيل من الحمد، يدل على أن الحمد الّذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، كما قد تبين لك.
فمحمد زيادة حمده في الكمية، وأحمد زيادة في الكيفية، فيحمد حمدا هو أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر، وأيضا فمحمد هو المحمود حمدا متكررا، وأما أحمد هو الّذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدل محمد على كونه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمودا، ودل أحمد على كونه أحمد الحامدين لربه- تعالى.
فقد تبين أن هذين الاسمين الكريمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة، التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمدا، فهو الّذي استحق أن يحمده أهل الدنيا والآخرة، وأهل السماء وأهل الأرض، فلكثرة خصائله المحمودة التي تفوت عدد العادين، سمى باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الفصل لكفى به منبها على شرف المصطفى، فكيف لا؟ وقد جمع اللَّه لي في ما لا أعلم أنه اجتمع في تأليف، ولكن اللَّه يمن على من يشاء من عباده.(11/175)
المائة من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وجوب حب أهل بيته
روى البخاري [ (1) ] في كتاب قرابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مناقب الحسن والحسين من طريق شعبة عن واقد بن محمد، سمعت أبي يحدث عن ابن عمر
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 119، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم باب مناقب الحسن والحسين- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (3751) .
قوله «مناقب الحسن والحسين» ، كأنه جمعهما لنا وقع لهما من الاشتراك في كثير من المناقب، وكان مولد الحسن في رمضان سنة ثلاث من الهجرة عند الأكثر، وقيل بعد ذلك، ومات بالمدينة مسموما سنة خمسين، ويقال قبلها، ويقال بعدها. وكان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر وقتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، قبله عبيد اللَّه بن زياد إلى الكوفة، فخذل الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، وقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس، ثم جهز إليه عسكرا فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته، والقصة مشهورة فلا نطيل بشرحتها.
فقد روى الترمذي وابن حبان- من طريق هانئ بن هانئ- عن على قال: الحسن أشبه برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان أسفل من ذلك
ووقع في رواية عبد الأعلى عن معمر عند الإسماعيلي في رواية الزهري هذه، وكان أشبههم وجها بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو يؤيد حديث على هذا واللَّه أعلم، والذين يشبهون بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم غير الحسن والحسين: جعفر بن أبي طالب وابنه عبد اللَّه بن جعفر، وقثم بالقاف ابن العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ومسلم بن أبي طالب، ومن غير بنى هاشم:
السائب بن يزيد المطلبي الجد الأعلى للإمام الشافعيّ، وعبد اللَّه بن عامر بن كريز العبشمي، وكابس بن ربيعة بن عدي، فهؤلاء عشرة نظم منهم أبو الفتح بن سيد الناس خمسة، وأنشدنا محمد بن الحسن المقري عنه.
بخمسة أشبهوا المختار من مضر ... يا حسن ما خولوا من شبهه الحسن
بجعفر وابن عم المصطفى قثم ... وسائب وأبى سفيان والحسن
-(11/176)
عن أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ارقبوا محمدا في أهل بيته.
وخرّج الحاكم [ (1) ] من طريق إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا أبى عن حميد بن قيس المكيّ، عن عطاء بن أبى رياح وغيره من أصحاب ابن عباس عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: يا بنى عبد المطلب إني سألت اللَّه لكم ثلاثا: أن يثبت قائمكم، وأن يهدى ضالكم، وأن يعلم جاهلكم وسألت اللَّه أن يجعلكم نجداء ورحماء، فلو أن رجلا صفن بين الركن والمقام فصلى وصام، ثم لقي اللَّه- وهو مبغض لأهل بيت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل النار،
قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
ومن حديث صالح بن محمد قال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، حدثني عبد اللَّه بن سليمان النوفلي، عن محمد بن على بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ () ] وزادهم شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ اثنين، وهما الحسين وعبد اللَّه بن عامر بن كريز، ونظم ذلك في بيتين وأنشدنا هما وهما:
وسبعة شبهوا بالمصطفى فما ... لهم بذلك قدر قد زكا ونما
سبطا النبي أبو سفيان سائبهم ... وجعفر وابنه ذو الجود مع قثما
وزاد فيهم بعض أصحابنا ثامنا وهو عبد اللَّه بن جعفر، ونظم ذلك في بيتين أيضا، وقد زدت فيهما مسلم بن عقيل، وكابس بن ربيعة، فصاروا عشرة، ونظمت ذلك في بيتين وهما:
شبه النبي لعشر سائب وأبى ... سفيان والحسنين الطاهرين هما
وجعفر وابنه ثم ابن عامر هم ... ومسلم كابس يتلوه مع قثما
وقد وجدت بعد ذلك أن فاطمة ابنته عليها السلام كانت تشبهه.
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 161، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4712) ، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط مسلم.(11/177)
عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحبوا اللَّه لما يغذوكم به من نعمة، وأحبوني لحب اللَّه، وأحبوا أهل بيتي،
قال: حديث صحيح الإسناد [ (1) ] .
ومن حديث محمد بن فضيل الضبيّ، حدثنا أبان بن تغلب، عن جعفر ابن إياس عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله اللَّه النار.
قال: حديث صحيح على شرط مسلم [ (2) ] .
ومن حديث مفضل بن صالح، عن أبي إسحاق، عن حنش بن المعتمر الكتاني قال: سمعت أبا ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو آخذ بثياب الكعبة: من عرفني فأنا من عرفني، ومن أنكرنى فأنا أبو ذر، سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إلا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك،
قال: حديث صحيح الإسناد [ (3) ] .
وخرجه من حديث عبد اللَّه بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن إسحاق، عن حنش بن المعتمر، قال: رأيت أبا ذر وهو آخذ بعضادتي الكعبة، وهو يقول: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرنى فأنا أبو ذر الغفاريّ، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ومثل حطة لبني إسرائيل.
ومن حديث إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن علي بن الحسين، قال: حدثني عمى علي بن جعفر، حدثني الحسين بن زيد عن عمر ابن علي عن أبيه على بن الحسين، قال: خطب الحسن بن علي الناس حين قتل علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأثنى عليه، ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون، وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعطيه رايته فيقاتل وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح اللَّه عليه، وما ترك على ظهر الأرض صفراء ولا بيضاء إلا ستمائة
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4716) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4717) ، وسكت الحافظ الذهبي عنه في (التلخيص) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4720) ، ومفضل بن صالح واه.(11/178)
درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله، ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، أنا ابن النبي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن الوصي، وأنا النذير، وأنا ابن الداعي إلى اللَّه بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين كان جبريل- عليه السلام- ينزل علينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين افترض اللَّه مودتهم على كل مسلم، فقال اللَّه- تعالى- لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [ (1) ] ، فاقتراف الحسنة مودتنا- أهل البيت [ (2) ] .
ويروى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- انه قال: لما نزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قالوا: يا رسول اللَّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما [ (3) ] .
قال كاتبه: قد جاء في الحض على حب أهل البيت أحاديث كثيرة:
صحاح، وحسان، وضعيفة، وحبهم مما يجب على أهل الإسلام إلا أن الشيعة العلوية سيّما الطائفة الإمامية دخلت عليهم شياطين الجن أولا بحب أهل البيت والمبالغة في حبهم، فرأوا أن ذلك من أسنى القربات، وكذلك هو في نفس الأمر لوقفوا عند هذا الحد الشرعي إلا أنهم تحدّوا من حب أهل البيت إلى طريقين فمنهم من تعدى إلى بغض الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وسبهم وانتقاصهم بشنعاء هم بها أحق من الصحابة وأخروهم عما هو لهم، وتخيلوا أن أهل البيت أولى بالخلافة الدنياوية، وكان منهم من العظائم القبيحة
__________
[ (1) ] الشورى: 32.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 188- 189، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4802) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : ليس بصحيح.
[ (3) ] ونحوه ما
أخرجه الحاكم في (المستدرك) على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : لما نزلت هذه الآية: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران: 91] ، دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- فقال: «اللَّهمّ هؤلاء أهلي» .(11/179)
ما كان، وطائفة زادت في الاعتداء والتعدي، فتركت الصحابة، وقدحت في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي جبريل عليه السّلام وفي اللَّه عز وجل، حيث لم يذعن على مرتبتهم للناس حتى لا يجهلونهم، فكان الأصل في حبهم لأهل البيت صحيحا، ولكن الغلو في ذلك أخرجهم عن الحد، فانعكس أمرهم إلى الضد، وقال: اللَّه تعالى: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [ (1) ] .
وقال علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يهلك فىّ رجلان: محب مفرط، ومبغض مفرط،
وفي رواية لهلك فىّ رجلان: محب مطري، ومبغض مفترى.
وعن حسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ، أنه قال لرجل يغلو فيهم:
ويحكم! أحبونا للَّه فإن أطعنا اللَّه فأحبونا وإن عصينا اللَّه فأبغضونا فو اللَّه لو كان اللَّه نافعا أحدا بقرابته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغير طاعة اللَّه، لنفع بذلك أباه وأمه، قولوا فينا الحق فإنه أبلغ فيما تريدون ونحن نرضي به منكم.
وقال الزبير بن بكار: حدثني عبد اللَّه بن إبراهيم بن قدمة الجمحيّ، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، قال: قدم المدينة قوم من أهل العراق، فجلسوا إلى فذكروا أبا بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فمسوا منهما، ثم ابتركوا في عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ابتراكا، فقلت لهم: أخبرونى أنتم من المهاجرين الأولين الذين قال اللَّه- تعالى- فيهم: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ (2) ] ؟ قالوا: لسنا منهم، قلت: فأنتم من الذين قال اللَّه- تعالى- فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ (3) ] ، قالوا:
__________
[ (1) ] النساء: 171، المائدة: 77.
[ (2) ] الحشر: 8.
[ (3) ] الحشر: 9.(11/180)
لسنا منهم، قال: قلت لهم: أما أنتم فقد تبرأتم عن أن تكونوا منهم، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة التي قال اللَّه- عز وجل: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (1) ] ، قوموا- لا قرب اللَّه دوركم- فأنتم مستترون بالإسلام ولستم من أهله.
وحدثني محمد بن يحيى قال: أخبرنى بعض أصحابنا، قال: قال رجل لعلى بن الحسين: كيف كان منزل أبى بكر وعمر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما- من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: منزلهما اليوم.
وقيل: لعمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: هل فيكم أهل البيت إنسان مفترضة طاعته؟ فقال: لا. واللَّه ما هذا فينا، من قال هذا، فهو كذاب، وذكرت له الوصية، فقال: واللَّه لمات أبي فما أوصى بحرفين، قاتلهم اللَّه- إن هم إلا يناكلون بنا.
__________
[ (1) ] الحشر: 10.(11/181)
عصمة سائر الأنبياء والملائكة عليهم السلام
قال ابن سيده: عصمه يعصمه منعه ووقاه [ (1) ] وفي التنزيل: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا معصوم إلا المرحوم. والاسم:
العصمة.
__________
[ (1) ] العصمة في كلام العرب: المنع وعصم اللَّه عبده: أن يعصمه مما يوبقه. عصمه يعصمه عصما: منعه ووقاه. وفي التنزيل: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا معصوم إلا المرحوم، قيل: هو على النسب أي ذا عصمة، وذو العصمة يكون مفعولا كما يكون فاعلا، فمن هنا قيل: إن معناه لا معصوم، وإذا كان ذلك فليس المستثنى هنا من غير نوع الأول بل هو من نوعه، وقيل: إلا من رحم مستثنى ليس من نوع الأول، وهو مذهب سيبويه، والاسم العصمة، قال الفراء: من في موضع نصب، لأن المعصوم خلاف العاصم، والمرحوم، فكان نصبه بمنزلة قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، قال:
ولو جعلت عاصما في تأويل المعصوم، أي لا معصوم اليوم من أمر اللَّه جاز رفع من، قال:
ولا تنكرن أن يخرج المفعول على الفاعل، ألا ترى قوله عز وجل: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ معناه مدفوق وقال الأخفش: لا عاصم اليوم يجوز أن يكون إلا ذا عصمة أي معصوم، ويكون إلا من رحم رفعا بدلا من لا عاصم، قال أبو العباس: وهذا خلف من الكلام لا يكون الفاعل في تأويل المفعول إلا شاذا في كلامهم، والمرحوم معصوم، والأول عاصم، ومن نصب بالاستثناء المنقطع، قال: وهذا الّذي قاله الأخفش يجوز في الشذوذ، وقال الزجاج في قوله تعالى: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي يمنعني من الماء، والمعنى من تفريق الماء، قال: لا عاصم اليوم من أمر اللَّه إلا من رحم، هذا استثناء من الأول، وموضع من نصب المعنى لكن من رحم اللَّه فإنه معصوم، قال: وقالوا يجوز أن يكون عاصم في معنى معصوم، ويكون معنى لا عاصم لا ذا عصمة، ويكون من في موضع رفع، ويكون المعنى لا معصوم إلا المرحوم، والحذاق من النحويين اتفقوا على أن قوله لا عاصم بمعنى لا مانع، وأنه فاعل لا مفعول، وأن من نصب على الانقطاع، واعتصم فلان باللَّه إذا امتنع به، والعصمة:
الحفظ، يقال: عصمته فانعصم. واعتصمت باللَّه إذا امتنعت بلطفه من المعصية.(11/182)
قلت: المراد بالعصمة هنا منع الأنبياء عليهم السلام من المعاصي، وقد اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من الكفر، إلا الفضيلية من الخوارج فإنّهم يجوزون صدور الذنب عنهم، وهو كفر عندهم وجوزت الروافض عليهم إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في تبليغ الشرائع والأحكام عن اللَّه- تعالى- لا عمدا ولا سهوا وإلا لم يوثق بشيء من الشرائع، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم تعمدا الخطأ في الفتوى فأما على سبيل السهو فقدا اختلفوا فيه، وأما ما يتعلق بأحوالهم وأفعالهم فقد اختلف فيه على خمسة مذاهب:
الأول: قالت: الحشوية يجوز عليهم الإقدام على الكبائر والصغائر.
الثاني: قال: أكثر المعتزلة لا يجوز تعمد الكبيرة ويجوز تعمد الصغيرة إن لم يكن منفرا، فإن كان منفرا فلا يجوز عليهم كالتضعيف دون الحية.
الثالث: قال: لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة ولا الصغيرة ولكن يجوز على سبيل الخطأ.
الرابع: لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة، ولا عمدا ولا بالتقويل الخطأ.
الخامس: قالت: الروافض لا يجوز ذلك لا عمدا ولا تقويلا، ولا سهوا ولا نسيانا.
ثم هذه العصمة عند الأكثرين لم تجب إلا في زمان النبوة، وعند غير الروافض تجب من أول العمر، وذهب أبو محمد علي بن حزم إلى أن الملائكة لا تعصي البتة بوجه من الوجوه لا بعمد، ولا بخطإ ولا بسهو، ولا كبيرة، ولا صغيرة، وأن الأنبياء لا يعصون البتة بعمد لا صغيرة، ولا كبيرة، وربما كان منهم الشيء- على سبيل السهو وعلى سبيل إرادة الخير- فلا يوافقون مراد اللَّه- تعالى إلا أنهم لا يقارهم اللَّه على ذلك بل نبهم وربما عاقبهم على ذلك في الدنيا بالكلام، وربما ببعض المكروه في الدنيا كالذي أصاب يونس عليه السلام.
وهم- عليهم السلام- بخلافنا في هذا فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه اللَّه- تعالى، بل نحن مأجورون على هذا الوجه،(11/183)
وقد أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن اللَّه- تعالى- قرن بكل أحد شيطانا وأن اللَّه- تعالى- أعانه على شيطانه فأسلم،
فلا يأمره إلا بخير، والملائكة برآء من هذا الا أنهم مخلوقون من نور لا من أمشاج، والنور لا كدر فيه ولا مزاح بل هو ظاهر سليم، وبهذا نقول.
وقال: سيف الدين الآمدي اختلف في السهو، فذهب الأسفرايني وكثير إلى امتناعه، وذهب أبو بكر الباقلاني إلى جوازه، وأما الإمام فخر الدين فادعى في بعض كتبه الإجماع على امتناعة، وفي بعضهما نقل الخلاف، وحاصل الخلاف راجع إلى أن ذلك هل هو داخل تحت دلالة المعجزة على التصديق أم لا؟ فمن جعله غير داخل جوّزه، وفي كلام إمام الحرمين إشارة إلى ذلك فيما يختلف ببيان الشرائع بسواء كان قولا أو فعلا، وميله إلى الجواز، واحتج بقصة ذي اليدين.
وقال أبو العالي بن الزملكاني: الّذي يظهر أن ما طريقته التبليغ فيه ما يقطع بدخوله تحت دلالة المعجزة على الصدق، فهذا لا نزاع في أنه لا يجوز فيه التحريف، ولا الخيانة، ولا الكذب، ولا السهو، وما لا يكون كذلك وهو مما طريقه التبليغ والبيان للشرائع هو محل الخلاف، ويحتمل كلام فخر الدين حين نقل الإجماع على القسم الأول، ويحمل كلامه وكلام الآمدي حين نقلا الخلاف على الثاني.
ونقل القاضي عياض الإجماع على عدم جواز السهو والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص الخلاف بالأفعال.
قلت: هذا تفصيل اختلاف الأمة في مسألة العصمة على الجملة، وحجج المحققين وشبه المبطلين في هذه المسألة كثيرة جدا.
وقال القاضي عياض: اعلم أن الطوارئ من التغييرات والآفات على آحاد البشر لا تخلوا أن تطرأ على جسمه، أو على حواسه، بغير قصد واختيار، كالأمراض والأسقام أو تطرأ بقصد واختيار، وكله في الحقيقة عمل وفعل ولكن جرى رسم المشايخ لتفصيله إلى ثلاثة أنواع: عقد بالقلب ... وقول باللسان..
وعمل بالجوارح..(11/184)
وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات والتغيرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإن كان من البشر ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر، فقد قامت البراهين القاطعة، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم، وتنزيهه من كثير من الآفات التي تقع على الاختيار، وعلى غير الاختيار، كما سنبينه إن شاء اللَّه- تعالى.
قال: وقد ذكر حكم عقد قلبه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم باللَّه وصفاته والإيمان به، وبما أوحى به فعلى غاية المعرفة، ورسوخ العلم، واليقين والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك، أو الشك، أو الريب فيه، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين، هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه، ولا يصح بالبراهين الواضحات أن يكون في عقول الأنبياء سواه، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم عليه السّلام: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (1) ] إذا لم يشك إبراهيم في إخبار اللَّه- تعالى- بإحياء الموتى، ولكن أراد طمأنينة القلب، وترك المنازعة، ومشاهدة الإحياء، فحصل له العلم الأول بوقوعه، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته.
الوجه الثاني: أن إبراهيم- عليه السلام- إنما أراد اختيار منزلته عند ربه- تعالى- وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه، ويكون قوله: أو لم تؤمن أي تصدق بمنزلتك منى وخلتك واصطفائك؟
الوجه الثالث: أنه سأل زيادة يقين وقوة طمأنينة وإن لم يكن في الأول شك إذا العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها وطرئان الشكوك على الضروريات ممتنع، ومجوز في النظريات، فأراد الانتقال من النظر والخبر إلى المشاهدة، والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فليس الخبر كالمعانية، ولهذا قال: سهل بن عبد اللَّه: سال كشف غطاء العيان، ليزداد بنور اليقين تمكنا في حاله.
__________
[ (1) ] البقرة: 260.(11/185)
الوجه الرابع: أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيى ويميت، طلب ذلك من ربه، ليصح احتجاجه عيانا.
الوجه الخامس: قول بعضهم هو سؤال عن طريق المراد: أقدرني على إحياء الموتى، قوله لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (1) ] عن هذه الأمنية.
الوجه السادس: أنه أرى من نفسه الشك- وما شك- لكن ليجاوب فيزاد قربه.
وقول نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم
نفى لأن يكون إبراهيم شك وإبعاد للخواطر الضعيفة أن نظن هذا بإبراهيم، أي نحن موقنون بالبعث وإحياء اللَّه الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه، إما على طريق الأدب، أو أن يريد منه الذين يجوز عليهم الشك أو على طريق التواضع والإشفاق إن حملت قصة إبراهيم على اختيار حاله أو زيادة بقينه.
وقال أبو محمد بن حزم: وكذلك قوله عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [ (2) ] ، ولم يقره ربنا- تعالى- وهو يشك في إيمان إبراهيم خليله تعالى اللَّه عن هذا ولكن تقريرا للإيمان في قلبه، وإن لم ير كيف إحياء الموتى، فأخبر عليه السّلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وأنه إنما أراد أن يرى الكيفية فقط، ويعتبر بذلك، وما شك إبراهيم قط في أن اللَّه يحيي الموتى، وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أنا لا نشك في صحة وجود الفيل، والتمساح، وزيادة النهر، والخليفة، ثم يرغب من لم ير ذلك منا أن يراه، لا شكا في أنه حق، ولكن ليرى العجب الّذي تتمثله نفسه، ولم تقع عليه حاسة بصره فقط، وأما ما
روى من قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم قال كاتبه: فإنه حديث صحيح.
__________
[ (1) ] البقرة: 260.
[ (2) ] البقرة: 260.(11/186)
خرّجه البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من طريق ابن وهب. قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. ويرحم اللَّه لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف.
وقال: البخاري ما لبث يوسف لأجبت الداعي، وله عندهما طرق.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله عز وجل: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ وباب (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ، وباب قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وفي التفسير، باب (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وفي التعبير، باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك.
[ (2) ] أخرجه مسلم في الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب، حديث رقم (151) وفي الفضائل، باب فضائل إبراهيم الخليل عليه السّلام، حديث رقم (151) .
وأخرجه الترمذي في التفسير، باب ومن سورة يوسف، حديث رقم (3115) .
قال الحافظ في (الفتح) : اختلفوا في معنى
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نحن أحق بالشك» ،
فقال بعضهم: نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم، وقيل: معناه إذا لم نشك نحن، فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم، وقد علمتم أنى لم أشك، فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعا منه، أو من قبل أن يعلمه اللَّه بأنه أفضل من إبراهيم.
وهو كقوله
في حديث أنس عند مسلم: «إنّ رجلا قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا خير البرية، قال:
ذاك إبراهيم» .
وقيل: إن سبب هذا الحديث: أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: «شك إبراهيم ولم يشك نبينا» فبلغه ذلك، فقال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»
أراد: ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئا.(11/187)
وقال ابن حزم: فمن ظن أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شك قط في قدرة ربه- تعالى- فقد كفر، وهذا الحديث حجة لنا، ونفى الشك عن إبراهيم أو لو كان هذا الكلام من إبراهيم شكا، لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهده إبراهيم ليس شاكا، فإبراهيم أبعد من الشك، ومن نسب هاهنا إلى الخليل الشك فقد نسب إليه الكفر، ومن كفّر نبيا فهو كافر، وأيضا فلو كان ذلك شكا من إبراهيم، كذا نحن أحقّ بالشك منه، فنحن إذا شكاك أو جاحدون كفار، وهذا كلام نعلم وللَّه الحمد بطلانه من أنفسنا، ونحن وللَّه الحمد مؤمنون مصدقون باللَّه وقدرته على كل شيء يسأل عنه.
قال كاتبه- والّذي أثار هذا ما حكاه محمد بن جرير الطبري، عن ابن جرير، قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى. قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ليريه.
ثم احتج الطبري بقوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم. قال الطوفي:
وليس هذا بشيء، إذ برهان القدرة واضح فكيف مثله على إبراهيم عليه السّلام مع استخراجه حدوث العالم، وقدم الصانع بلطف النظر من أقوال الكواكب والشمس والقمر.
وقد أورده بعضهم أن قول إبراهيم: بلى أنه آمن أي بلى، آمنت، وقوله:
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، يقتضي أن قلبه لم يطمئن إلى الآن، لكن الإيمان يلزمه الطمأنينة، وحينئذ يصير كأنه قال: آمنت ما آمنت أو اطمأن قلبي ولم يطمئن، وهو تناقض.
وأجيب بأن معناه بلى آمنت بالقدرة ولكن ليطمئن قلبي، وكان قد جعل إظهاره على إحياء الموتى علامة على اتخاذه خليلا وعلى هذا فلا تناقض، وهذا كان قريبا ممكنا غير أن المختار غيره، وهو أن الإيمان يستند إلى العلم، والعلم له مراتب:
علم اليقين: وهو ما حصل عن النظر والاستدلال.
عين اليقين: وهو ما حصل عن شهادة ويقين عيان.(11/188)
حق اليقين: وهو ما حصل عن العيان مع المباشرة.
فالأول: كمن علم بالعادة أن في البحر ماء.
والثاني: كمن مشى حتى وقف على ساحله وعاينه.
والثالث: كمن خاض فيه واغتسل وشرب منه، وإذا عرفت فإيمان إبراهيم- عليه السلام- بالقدرة على إحياء الموتى قبل أن يراه كان علم يقين نظري، فأراد أن يطمئن قلبه بالإيمان بذلك عن عين اليقين وحق اليقين، فلذلك قيل له: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [ (1) ] إلى آخره، أي باشر هذا الأمر ليحصل عين اليقين عيانا. وحق اليقين مباشرة.
وفي الحديث: ليس الخبر كالعيان، أن موسى بلغه أن قومه قد فتنوا فلم يتغير، فلما رآهم عاكفين على العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه، وفي هذا المعنى قيل:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
وحينئذ يكون معنى الكلام: بل آمنت عن نظر واستدلال، ولكن أريد طمأنينة القلب بنظر العيان.
قال كاتبه: وهذا الّذي قاله الطوفي يتضمنه كلام القاضي عياض، ولكن باختصار، وقال: وقد روى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله تعالى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (2) ] ، قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك.
وقال ابن خزيمة: سمعت المزني يقول- وذكر هذا الحديث:
نحن أحق بالشك من إبراهيم،
قال المزني: إنما شك إبراهيم أن يجيبه اللَّه إلى ما سأل أم لا.
وقال أبو عوانة الأسفرايينى: سمعت أبا حاتم الرازيّ يقول: يعنى نحن أحق بالمسألة، وسمعت القاضي إسماعيل يقول: كان يعلم بقلبه أن اللَّه يحيى الموتى، ولكن أحب أن يرى معاينة، وعن سعيد بن جبير وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
__________
[ (1) ] البقرة: 260.
[ (2) ] البقرة: 260.(11/189)
قال: ليزداد إيمانا، وفي رواية: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قال: بالخلة، وعن ابن المبارك قال: اعلم أنك اتخذتني خليلا، وقال القاضي عياض: فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ* وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ [ (1) ] .
فاحذر- ثبت اللَّه قلبك- أن يخطر ببالك، كما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أوحى إليه وأنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه جملة، بل قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لم يشك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يسأل، ونحوه عن ابن جبير والحسن، وحكى قتادة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، واختلفوا في معنى الآية فقيل: المراد قل يا محمد للشاك إن كنت في شك ... ، الآية قالوا: وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل قوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (2) ] .
وقيل: المراد بالخطاب العرب وغير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كما قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (3) ] ، الخطاب له والمراد غيره ومثله فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [ (4) ] ، ونظيره كثير.
قال بكر بن العلاء: ألا تراه يقول وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ [ (5) ] ، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم كان المكذّب فيما يدعو إليه؟ فكيف يكون ممن كذب به؟
فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره.
__________
[ (1) ] يونس: 93- 94.
[ (2) ] يونس: 104- 105.
[ (3) ] الزمر: 65.
[ (4) ] هود: 109.
[ (5) ] يونس: 95.(11/190)
ومثل هذه الآية قوله تعالى: الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [ (1) ] ، المأمور هاهنا غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ليسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو الخبير المسئول لا المستخبر السائل، وقال: إن هذا الّذي أمر غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بسؤال الذين يقرءون الكتاب إنما فيما قصد من إخبار الاسم لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة.
ومثل هذا قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [ (2) ] ، المراد به المشركون والخطاب موجه للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال العتبي: وقيل: معناه سلنا عمن أرسلنا من قبلك، فخذ الخافض، وتم الكلام ثم ابتدأ أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ (3) ] على طريق الإنكار أي ما جعلنا، حكاه مكي، وقيل: أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك، فكان أشد يقينا أن يحتاج إلى السؤال،
ويروى أنه قال: لا أسأل قد اكتفيت، قاله: ابن زيد،
وقيل: سل أمم من أرسلنا: هل جاءوهم بغير التوحيد؟ وهو معنى قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة.
والمراد هنا بهذا والّذي قبله إعلامه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما بعث به الرسل، وأنه- تعالى- لم يأذن في عبادة غيره لأحد، ردا على مشركي العرب وغيرهم في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ (4) ] ، وكذلك قوله تعالى:
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (5) ] ، أي في علمهم بأنك رسول اللَّه وإن لم يقروا بذلك، وليس المراد به شكه فيما ذكر في أول الآية.
وقد يكون أيضا على مثل ما تقدم، أي قل لمن امترى يا محمد في ذلك لا تكونن من الممترين بدليل قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [ (6) ] ، وأن
__________
[ (1) ] الفرقان: 59.
[ (2) ] الزخرف: 45.
[ (3) ] الزخرف: 45.
[ (4) ] الزمر: 3.
[ (5) ] الأنعام: 114.
[ (6) ] الأنعام: 114.(11/191)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخاطب به غيره. وقيل: هو تقدير كقوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ (1) ] ، وقد علم أنه لم يقل.
وقيل: معناه ما كنت في شك فاسأل، تزدد طمأنينة وعلما إلى علمك ويقينك، وقيل: إن كنت تشك فيما شرفناك وفضلناك به، فسلهم عن صفتك في الكتب ونشر فضائلك، وحكي عن أبي عبيدة: أن المراد إن كنت في شك من غيرك مما أنزلنا.
قال كاتبه: وذهب محمد بن جرير إلى أن معناه: كقول القائل: إن كنت ابني فبرني، وهو لا يشك في أنه ابنه، وإن ذلك من كلام العرب صحيح فيهم.
ومنه قوله تعالى: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [ (2) ] ، وقد علم- تعالى- أن عيسى لم يقل ذلك فهذا من ذلك لم، يكن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شاكا في حقيقية خبر اللَّه- تعالى- وصحته، واللَّه- تعالى- بذلك من أمره كان عالما، ولكنه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضا إذ كان القرآن بلسانهم نزل: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (3) ] ، خبر من اللَّه- تعالى- مبتدأ بقوله تعالى: أقسم لقد جاء الحق اليقين من الخبر بأنك لك رسول اللَّه وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ويجدون بعثك عندهم في كتبهم:
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [ (4) ] يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته.
وقال الحافظ أبو محمد بن حزم: وذكروا قول اللَّه تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، وهذا إنما عهدناه يعترض به الكفار، وأما المؤمن فما ظن قط بنبي أنه يشك فيما يدعو الناس وهذا غاية الوسواس، نعود باللَّه من الخذلان، ولنا في هذه الآية رسالة مشهورة، وجملة حل هذا الشك أنّ (إن) هنا
__________
[ (1) ] المائدة: 116.
[ (2) ] المائدة: 116.
[ (3) ] البقرة: 147.
[ (4) ] البقرة: 147.(11/192)
بمعنى (ما) وإنما هي وجحد بمعنى، وما كنت في شك وأمره أن يسأل أهل الكتاب تقريرا لهم على أنهم يجدونه حقا في التوراة والإنجيل، وقال القرطبي:
وقيل: الشك ضيق الصدر، أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء، فاصبر وسل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر الأنبياء قبلك على أذى قومهم، وكيف كانت عاقبة أمرهم، فالشك في اللغة أصله الضيق يقال: شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء، وكذلك السفرة تمتد علائقها حتى تقبض، فالشك يقبض الصدور ويغمها حتى تضيق.
وقال الطوفى: قد يتوهم من ظاهرها أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعترضه شك في بعض الأوقات فيما أنزل إليه- كما توهمه بعض النصارى- فأورده متعلقا به، وليس كذلك في أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم معصوم من الشك والارتياب لقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ (1) ] ، وإنما وجه الآية: صرف الخطاب إلى من يجوز عليه الشك من أتباعه وأخصامه: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [ (2) ] ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ (3) ] ، فإن لم يكن بد من صرف الكلام إليه على ظاهر اللفظ فمعناه على تقدير إن تشك فاسأل وإن كان ذلك التقدير لا يقع نحو: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [ (4) ] ، أي لو قدر آلهة أخرى لزم الفساد، لكن ذلك التقدير ممتنع.
وقال القاضي عياض: فإن قيل فيما معنى قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [ (5) ]- على قراءة التخفيف؟ قلنا:
المعنى في ذلك، ما قالته عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- معاذ اللَّه أن تظن الرسل بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم وعلى هذا أكثر المفسرون.
__________
[ (1) ] الشرح: 1.
[ (2) ] الرعد: 43.
[ (3) ] الأنبياء: 7.
[ (4) ] الأنبياء: 22.
[ (5) ] يوسف: 110.(11/193)
قال كاتبه: قول عائشة هذا خرجه البخاري من حديث إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة قالت- وهو يسألها عن قول اللَّه- عز وجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [ (1) ] ، قال: قلت: أكذبوا أم كذبوا؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فيما هو الظن؟ قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا ذلك فقلت لها:
وظنوا أنهم قد كذبوا، قالت: معاذ اللَّه لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت:
فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم كذبوهم، جاء نصر اللَّه عند ذلك.
وخرجه من حديث شعيب عن الزهري، أخبرني عروة، فقلت: لعلها كذبوا، قالت: معاذ اللَّه بنحوه [ (2) ] . ذكرهما في تفسير سورة يوسف.
وخرجه في كتاب الأنبياء أيضا من حديث الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة أنه سأل عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. أرأيت قول اللَّه عز وجل حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أو كذبوا؟ قالت:
بل كذبهم قومهم، قلت: واللَّه لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن، فقالت: يا عرية لقد استيقنوا بذلك، فقلت: فلعلها كذبوا قالت: معاذ اللَّه لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ فقالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأست الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر اللَّه، قال أبو عبد اللَّه استيأسوا: استفعلوا من يئست [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 467- 468، كتاب التفسير، باب (6) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ، حديث رقم (4695) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4696) .
[ (3) ] حديث رقم (3389) .(11/194)
وخرّجه في تفسير سورة البقرة [ (1) ] ، من حديث هشام، عن ابن جريج:
سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خفيفة، قال: ذهب بها هنالك وتلا: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت ذلك له فقال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: معاذ اللَّه! واللَّه ما وعد اللَّه رسوله من شيء إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن من معهم يكذبونهم، وكانت تقرأها: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مثقلة.
قال القاضي عياض: وقيل: إن الضمير في ظنوا عائد على الأتباع والأمم لا الأنبياء والرسل وهو قول ابن عباس والنخعي وابن جبير وجماعة من العلماء.
وبهذا المعنى قرأ مجاهد كذبوا بالفتح فلا تشغل بالك من شاذ التفسير الواهي مما لا يليق بمنصب العلماء، فكيف بالأنبياء عليهم السلام؟ وقال ابن حزم: وذكروا قول اللَّه- تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بتخفيف الذال- وليس هذا على ما ظنه من جهل أمر اللَّه- تعالى- وإنما هو أنهم ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم في وعدهم، ومن المحال أن يظن من له أدنى فهم من الناس أن ربه- تعالى- يكذبه، هذا ما لا يظنه ذو عقل البتة، فكيف صفوة اللَّه في أرضه من خلقه؟ وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ على المصيبة، هؤلاء الذين يجيزون على الأنبياء مثل هذا الكفر، ونعوذ باللَّه من الخذلان.
قال كاتبه تحذير القاضي عياض وابن حزم من قبله إنما هو مما ذكره الطوفي، فإنه وإن كان بعدهما بدهر حكى كلام من في عقده وهن، ومال إليه، قال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتشديد، أي كذبهم قومهم فلا يتابعهم أحد جاءهم نصرنا بإمالة اللَّه قلوب الناس إليهم، وكذبوا
__________
[ (1) ] باب (38) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، حديث رقم (4524) ، (4525) .(11/195)
بالتخفيف، أي أخلفهم اللَّه وعده في النصر، وأنهم ليسوا على شيء جاءَهُمْ نَصْرُنا، بإنجائهم ومن أتبعهم وإهلاك الكافرين.
وقد أنكرت عائشة هذا التأويل، تنزيها للأنبياء- عليهم السلام- من الشك في أمرهم، واختارت الوجه الأول أو نحوه، وليس ما أنكرته بالمنكر، إذ الإنسان يطرأ عليه خوف، أو حزن، أو مرض، أو هم، أو غم، أو أحوال، يقول ويظن فيها أقوالا وظنونا، هو فيها معذور لغلبة ذلك الحال.
ألا ترى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما تراخى عنه الوحي في مبادئ أمره، خرج ليتردى من شواهق الجبال وجدا لانقطاع الوحي، والرسل- عليهم السلام- يوم القيامة، يقال لهم: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا ينسون أو يدهشون، لغلبة تلك الحال عليهم، ثم يتذكرون فيشهدون بما علموا فكذا ظن الرسل هنا أنهم قد كذبوا، هو من هذا الباب، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
قال كاتبه: هذه- لعمري- وهلة من وهلات الطوفي، إذ سوى الرسل بسائر البشر في غلبة الحال عليهم حتى باللَّه يظنوا السوء، وقد عصمهم اللَّه من ذلك، ومما دونه أيضا.
قال القاضي عياض: وكذلك ما ورد في حديث السيرة ومبتدأ الوحي من قوله لخديجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: لقد خشيت على نفسي، ليس معناه الشك فيما أتاه اللَّه بعد رؤية الملك، ولكن لعله يخشى أن لا تتحمل قوته مقاومة الملك، وأعباء الوحي لينخلع قلبه أو تزهق نفسه، هذا على ما ورد في الصحيح أنه قال بعد لقاء الملك أو يكون ذلك قبل لقياه الملك وإعلام اللَّه- تعالى- بالنّبوّة لأول ما عرضت عليه من العجائب، وسلّم عليه الحجر والشجر، وبدأته المنامات والتباشير، كما ورد في بعض طرق هذا الحديث، أن ذلك كان أولا في المنام ثم أرى في اليقظة مثله، تأنيا له صلّى اللَّه عليه وسلّم لئلا يفجأه الأمر مشاهدة ومشافهة، فلا تتحمله لأول حاله بنيته البشرية.
وفي الصحيح عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة، قالت: ثم حبب إليه الخلاء، وقالت: إلى أن جاءه الحق، وهو في غار حراء، الحديث- وعن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة خمس عشرة سنة(11/196)
يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثمان سنين قبل أن يوحى إليه.
وقد روى ابن إسحاق، عن بعضهم: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وذكر جواره بغار حراء قال: فجاءني، وأنا نائم، فقال: اقرأ، قلت: وما أقرأ وذكر نحو حديث عائشة وإقرائه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ (1) ] السورة. قال: فانصرف عني وهببت من نومي، كأنها صورت في قلبي، ولم يكن أبغض إلى من شاعر أو مجنون قلت: لا تحدث عنى قريش بهذا أبدا إلا عمدت إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنّها فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء: محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، فرفعت رأسي فإذا جبريل- عليه السلام- على صورة رجل، وذكر الحديث.
فقد بين في هذا أن قوله: لما قال وقصده ما قصد إنما كان قبل لقاء جبريل، وقيل إعلام اللَّه له بالنّبوّة وإظهاره واصطفاءه له بالرسالة.
ومثله
حديث عمرو بن شرحبيل أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت أن يكون هذا الأمر،
ومن حديث حماد بن سلمة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الحديث إني لأسمع صوتا، وأرى ضوءا، وأخشى أن يكون بي جنون،
وكل هذا يتأول لو صح قوله في بعض الأحاديث: أن الأبعد شاعر أو مجنون، وألفاظا يفهم منها معاني الشك في تصحيح ما رآه كله في ابتداء أمره، وقبل لقاء الملك له، وإعلام اللَّه له أنه رسوله، فكيف وبعض هذه الألفاظ لا يصح طرقها؟ وأما بعد إعلام اللَّه- تعالى- ولقاء الملك، فلا يصح فيه ريب، ولا يجوز عليه شك فيما ألقى.
وقد روى ابن إسحاق عن شيوخه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرقى بمكة من العين قبل أن ينزل عليه، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا،
وحديث خديجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وإخبارها أمر جبريل بكشف رأسها ...
الحديث، إنما ذلك في حق خديجة، لتتحقق صحة نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن
__________
[ (1) ] العلق: 1.(11/197)
الّذي يأتيه ملك، ويزول الشك عنها، لا أنها فعلت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليختبر هو حاله بذلك.
بل قد روى في حديث عبد اللَّه بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن ورقة أمر خديجة أن تخبر الأمر بذلك.
وفي حديث إسماعيل بن أبي الحكم أنها قالت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا بن عم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك؟ قال: نعم: فلما جاء جبريل- عليه السلام- أخبرها، فقالت له: اجلس إلى شقي، وذكر الحديث إلى آخره، وفيه قالت: ما هذا بشيطان هذا الملك يا بن عم فاثبت وأبشر وآمنت به، فهذا يدل على أنها مستثبتة بما فعلته لنفسها ومستظهره لإيمانها لا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقول معمر: ثم فتر الوحي، فحزن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حزنا غدا منه مرار كي ينزو من شواهق الجبال، لا يقدح في هذا الأصل، لقول معمر عنه فيما بلغنا ولم يسنده، ولا ذكر رواته، ولا من حدث به، ولا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قاله، ولا يعرف هذا إلا من جهة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر كما ذكرناه، أو أنه فعل ذلك لما خرجه من تكذيب من بلغه كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ [ (1) ] .
ويصحح معنى هذا التأويل حديث شريك، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد اللَّه، أن المشركين لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واتفق رأيهم على أن يقولوا: ساحر اشتدّ ذلك عليه، وتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (2) ] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (3) ] ، أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب منه، وخشي أن تكون عقوبة من ربه، ففعل ذلك بنفسه، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به.
__________
[ (1) ] الكهف: 6.
[ (2) ] المزمل: 1.
[ (3) ] المدثر: 1.(11/198)
ونحوها فرار يونس- عليه السّلام- خشية تكذيب قومه له لما وعدهم به من العذاب، وقول اللَّه- تعالى- في يونس: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى [ (1) ] معناه أن نضيق عليه مسلكه في خروجه، وقيل: حسن ظنه بمولاه أنه لا يقتضي عليه العقوبة، وقيل: يقدر عليه ما أصابه، وقد قرئ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بالتشديد.
وقيل: نؤاخذه بغضبه، وقال ابن زيد: معناه أفظن أن لن نقدر عليه؟
على الاستفهام؟ ولا يليق أن يظن بنبي أن يجهل بصفة من صفات ربه، وكذلك قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [ (2) ] ، لقومه لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضحاك، وغيرهم، ولا لربه، إذ مغاضبة اللَّه معاداة له، ومعاداة اللَّه كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام- وقيل: مستحييا من قومه أن يسموه بالكذب، أو يقتلونه كما ورد في الخبر.
وقيل: مغاضبا لبعض الملوك فيما أمره به، من التوجه إلى أمر ربه الّذي أمره به على لسان نبي آخر، فقال له يونس غيري أقوى عليه مني فعزم عليه فخرج لذلك مغاضبا. وقد روى عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن إرسال يونس رسوله إنما بعد أن الحوت، واستدلت الآية بقوله: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ (3) ] ، ثم قال: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (4) ] ، فتكون هذه العصمة إذا قبل نسوته.
وقال أبو محمد بن حزم: فان ذكروا أمر يونس- عليه السّلام- بقوله- تعالى- عنه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [ (5) ] ، وقوله- تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
__________
[ (1) ] الأنبياء: 87.
[ (2) ] الأنبياء: 87.
[ (3) ] الصافات: 145- 147.
[ (4) ] الصافات: 145- 147.
[ (5) ] الأنبياء: 87.(11/199)
[ (1) ] ، وقوله تعالى لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [ (2) ] ، وقوله- تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [ (3) ] ، وقوله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ (4) ] ، قالوا: ولا ذنب أعظم من المغاضبة للَّه- تعالى، ومن ذنب من ظن أن لن يقدر عليه اللَّه، وقد أخبر- تعالى، أنه استحق الذم لولا أن تداركه نعمة من عنده وأنه استحق الملاومة، وأنه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين، ونهى اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكون مثله، وهذا كله لا حجه لهم فيه بل هو حجه لنا على صحة قولنا.
أما إخبار اللَّه- تعالى- أنه ذهب مغاضبا فلم يغاضب ربه قط، ولا أخبر- تعالى- أنه غاضب ربه، والزيادة في القرآن لا تحل فإذ لا شك في شك ولا يجوز أن يظن من له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب اللَّه- تعالى:
فكيف بنبيّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يكن ذلك مرادا للَّه تعالى فعوقب لذلك وإن كان لم يقصد بذلك إلا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأما قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ فليس على تأولوه من الظن السخيف الّذي لا يظن مثله بضعفة من ضعائف النساء أو ضعفاء الرجال، فكيف بنبي من الأنبياء؟ ومن أبعد المحال أن يكون نبي يظن أن ربه عاجز عنه، وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه، ولا شك أن من ينسب هذا النوك إلى النبي الفاضل فإنه يشتد غضبه، لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه، فإذا قد بطل ظنهم السخيف، فباليقين نعلم أن معنى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، إما معناه فظن
__________
[ (1) ] الصافات: 143- 144.
[ (2) ] القلم: 48- 49.
[ (3) ] الصافات: 142.
[ (4) ] الأنبياء: 87.(11/200)
أن لن نضيق عليه، كما قال تعالى: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [ (1) ] ، فظن يونس- عليه السلام- أن اللَّه- تعالى- لا يعاقبه على ذلك الفعل من المغاضبة لقومه، إذ ظن أنه محسن في ذلك.
وأما نهى اللَّه- تعالى- لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكون كصاحب الحوت، فنعم نهاه عن مغاضبة قومه، وأمره- تعالى- بالصبر على أذاهم بالمطاولة لهم، فأما قول اللَّه- تعالى- أنه استحق الذم والملامة وأنه لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا في بطن الحوت، فهذا يقين ما قلناه عن الأنبياء- عليهم السلام- يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيرا وقربة إلى اللَّه- تعالى- إذ لم يوافق ذلك مراد ربهم، وعلى هذا أقر على نفسه أنه كان من الظالمين، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، فلما وضع المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم على أنه قصده، وهو يرى أنه ظلم.
وقال الطوفي: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، قد علم أن لولا يقتضي امتناع شيء لوجود غيره، والّذي امتنع هاهنا لوجود النعمة هو نبذه بالعراء مذموما، لا مجرد نبذه بالعراء وهو الصحراء لأنه قد وجد بديل، فنبذناه بالعراء وهو سقيم فدل على النبذ بالعراء مجردا عن صفة الذم بديل: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ومن يكن مجتبى صالحا لا يكون مذموما، وسقط بهذا اللعن على يونس- عليه السلام.
وقال يونس، عن ابن عبد الحق، عن ربيعة بن عبد الرحمن، قال:
سمعت وهب بن منبه، وهو في مسجدنا، وذكر له يونس النبي- عليه السّلام- فقال: كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة، ولها أثقال، فلما جعلت عليه تفسح تحتها نفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فألقاها عنه، وخرج هاربا.
قال القاضي عياض: فإن قيل: فما معنى
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه ليغان على قلبي فاستغفر اللَّه- تعالى- كل يوم مائة مرة
؟ ومن طريق: في اليوم أكثر من سبعين مرة فاحذر أن يقع ببالك أن يكون هذا الغين وسوسة أو ريبا وقع في
__________
[ (1) ] الفجر: 16.(11/201)
قلبه صلّى اللَّه عليه وسلّم بل أصل الغين في هذا ما يتغشى القلب ويغطيه، قال أبو عبيد: وأصله من غين السماء، هو إطباق الغيم عليها، وقاله غيره.
والغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية كالغيم الرقيق الّذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس، وكذلك لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة أو أكثر من سبعين في اليوم، إذا ليس يقتضيه لفظه الّذي ذكرناه، وهو أكثر الروايات، وإنما هذا عدد للاستغفار، لا للغين، فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهرها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، مما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم دفع إليه من مقاساة البشر، وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحتة النفس، كلفه من أعباء أداء الرسالة، وحمل الأمانة وهو في كل هذا في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم أرفع الخلق إلى اللَّه مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه، وإقباله بكليته عليه، ومقامه هنالك أرفع حالته، رأى صلّى اللَّه عليه وسلّم حال فترته عنها، فاستغفر اللَّه من ذلك، هذا أولى وجوه الحديث وأشهرها.
وإلى معنى ما أشرنا عنه مال كثير من الناس إليه، وحام حوله، فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محيّاه، وهو مبني على جواز الفترات والغفلات، والسهو في غير طريق البلاغ على ما سيأتي.
قال كاتبه: نعم ما قرره القاضي إلا أنى أقوال: ليس مع ذلك فترة منه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا غفلة، ولا سهو، وإنما هو شغل بالتبليغ إلى الخلق من الاستغراق في جناب الحق، فإذا فرغ من ذلك، ارتاح لما هنالك، فاستغفر ربه لا من ذنب بل تعرض منه صلّى اللَّه عليه وسلّم للنفحات الربانية.
قال القاضي: وذهبت طائفة من أرباب القلوب ومشيخة المنصوفة ممن قال بالتنزيه للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عن هذا جملته، وأجعله أن يجوز عليه، في حال سهوا وفترة إلا أن معنى الحديث ما يهم خاطره، وبعد فكره من أمر أمته صلّى اللَّه عليه وسلّم لاهتمامه بهم، وكثرة شفقته عليهم، فيستغفر اللَّه لهم، قالوا وقد يكون الغين على قلبه(11/202)
السكينة التي تتغشاه، لقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [ (1) ] ، ويكون استغفاره عندها إظهار العبوديّة والافتقار.
وقال ابن عطاء: استغفاره وفعله هذا تعريف للأمة يحملهم على الاستغفار، وقد يحتمل أن تكون هذه الإغاثة حالة خشية وإعظام يغشى قلبه، فيستغفر حينئذ شكرا للَّه- تعالى، وملازمة لعبوديته كما قال في ملازمة العبادة: أفلا أكون عبدا شكورا؟.
وعلى هذه الوجوه الأخيرة يحمل ما روى في بعض طرق هذا الحديث
عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه ليغان على قلبي في اليوم أكثر من سبعين مرة، فأستغفر اللَّه.
قال القاضي فإن قلت: فما معنى قوله- تعالى- لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [ (2) ] ، وقوله- تعالى- لنوح عليه السّلام: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [ (3) ] ، فاعلم أنه لا يلتفت في ذلك إلى قول من قال في آية نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لا تكونن ممن يجهل أن اللَّه لو شاء لجمعهم على الهدى، وفي آية نوح:
لا تكونن ممن يجهل ان وعد اللَّه حق، لقوله- تعالى: إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات اللَّه، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود: وعظهم أن يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين، كما قال:
إِنِّي أَعِظُكَ وليس في آية منهما دليل على كونهم على تلك الصفة التي نهاهم عن الكون عليها، فكيف وآية نوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؟
فحمل ما بعدها على، قبلها أولى، لأن مثل هذا قد يحتاج إلى إذن، وقد تجوز إباحة السؤال فيه ابتداء فنهاه اللَّه- تعالى- أن يسأله عن ما طوى علمه عنه، وأكنه في غيبه، من السبب الموجب لهلاك ابنه، ثم أكمل اللَّه- تعالى- نعمته بإعلامه ذلك بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ حكى معناه مكي.
__________
[ (1) ] التوبة: 40.
[ (2) ] الأنعام: 35.
[ (3) ] هود: 46.(11/203)
كذلك أمر نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم في الآية الأخرى بالتزام الصبر على إعراض قومه لا يخرج عند ذلك، فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر، حكاه أبو بكر بن فورك.
وقيل: معنى الخطاب لأمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم أي فلا تكونوا من الجاهلين، حكاه أبو محمد مكي، وقال: في القرآن كثير، فبهذا الفصل وجب القول بعصمة الأنبياء منه بعد النبوة قطعا.
وقال أبو محمد بن حزم: وذكروا قول اللَّه- تعالى- لنوح- عليه السلام: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وهذا لا حجة لهم فيه، لأن نوح تأول وعد اللَّه- تعالى- له أن يخلصه وأهله، فظن أن ابنه من أهله وهذا لو فعله أحدنا لكان مأجورا، ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله لكن هو أقرب القرابة إليه فقرع على ذلك ونهى أن يكون من الجاهلين فتذمم- عليه السلام- من ذلك ونزع، وليس هاهنا عمد للمعصية البتة.
وقال الطوفي: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [ (1) ] ، يحتج به من يرى العموم وأن له صيغة والتمسك به بأن نوحا إنما تمسك في هذا السؤال لعموم قوله- تعالى: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [ (2) ] ، وهو اسم جنس مضاف يفيد العموم، فصار تقدير سؤال نوح- عليه السّلام إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وقد وعدتني بإنجاء أهلي قال: يا نوح إنه ليس من أهلك يحتمل وجوها:
أحدها: أن ابنك مخصوص في علمنا من عموم أهلك، فليس هو من أهلك الناجين.
الثاني: أنه ليس من أهل دينك بذلك، إنه عمل غير صالح وحينئذ يكون الأهل في قوله- تعالى- مجازا عن الموافقين في الإيمان.
الثالث: ما قيل إن هذا الولد كان ابن زوجته أو أنه ولد على فراشه من غيره، بدليل أنه عمل غير صالح برفعة عمل ونحوه مما لا يليق بعضه
__________
[ (1) ] هود: 45.
[ (2) ] هود: 40.(11/204)
بالأنبياء، وعلى كل حال فلا بد لهذه القصة من استعمال المجاز في أهلك أو تخصيص عمومه بالابن المذكور، أو تجوز نوح بولده عن ابن امرأته، فيحتج بها على استعمال المجاز أو التخصيص في الكلام: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ (1) ] ، كأن نوحا لما قال: إن ابني من أهلي كان ذلك طلبا لنجاة ولده، لأن اللَّه- تعالى- قد حكم بإنجاء أهله فحمله لا يتغير، فلا فرق بين شفاعة نوح في أهله في ابنه وعدمها، فلذلك قوبل بهذا الكلام الّذي يصعب موقعه، فقال:
إن نوحا- عليه السلام- بكى من هذا الكلام دهرا.
قال القاضي عياض: فإن قلت: فإذا قررت عصمتهم من هذا، وأنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك، فما معنى إذا وعد اللَّه لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم على ذلك إن فعله وتحذيره منه، كقوله- تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (2) ] ، قوله- تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [ (3) ] ، وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [ (4) ] ، وقوله- تعالى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [ (5) ] ، وقوله- تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ (6) ] ، وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [ (7) ] ، وقوله- تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [ (8) ] ، وقوله تعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [ (9) ] .
__________
[ (1) ] هود: 46.
[ (2) ] الزمر: 65.
[ (3) ] يونس: 106.
[ (4) ] الإسراء: 75.
[ (5) ] الحاقة: 45.
[ (6) ] الأنعام: 116.
[ (7) ] الشورى: 24.
[ (8) ] المائدة: 67.
[ (9) ] الأحزاب: 1.(11/205)
فاعلم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يصح ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا يتقول على اللَّه ما لا يجب، أو يفترى عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يطيع الكافرين.
لكن يسر أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين، فإن إبلاغه لم يكن بهذه السبيل، وكان ما بلغ وطيب نفسه، وقوى قلبه، بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (1) ] ، كما قال لموسى وهارون عليهما- السلام: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [ (2) ] ، لتشتد بصائرهم في الإبلاغ وإظهار دين اللَّه، ويذهب عنهم خوف العدو المضعف للنفس.
وأما قوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [ (3) ] ، وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [ (4) ] ، فمعناه: أن هذا جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو لا يفعله.
وكذلك قوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [ (5) ] ، فالمراد غيره كما قال- تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [ (6) ] ، وقوله- تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [ (7) ] ، وقوله- تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ (8) ] ، وما أشبهه، فالمراد غيره، وإن هذه حال من أشرك، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يجوز عليه ذلك. وقوله- تعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [ (9) ] ، فليس فيه أنه أطاعهم، واللَّه- تعالى- ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء، كما قال
__________
[ (1) ] المائدة: 67.
[ (2) ] طه: 46.
[ (3) ] الحاقة: 44.
[ (4) ] الإسراء: 75.
[ (5) ] الأنعام: 116.
[ (6) ] آل عمران: 149.
[ (7) ] الشورى: 24.
[ (8) ] الزمر: 65.
[ (9) ] الأحزاب: 1.(11/206)
- تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [ (1) ] ، وما كان طردهم، وما كان من الظالمين.
قال: وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة، فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل باللَّه وصفاته والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء- عليهم السلام- بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق نور المعارف ونفحات الطاف، السعادة، ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبّئ واصطفى ممن عرف بكفر وإشراك قبل هذا.
ومستند هذا الباب النقل، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، وأنا أقول: إن قريشا قد رمت نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بكل ما افترته وغير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها، واختلقته بما نص اللَّه- تعالى- عليه أو نقلته إليه الرواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعيير الواحد منهم برفضه آلهته، وتقريعه بذمة ترك ما كان قد جاء معهم عليه، ولو كان لكانوا لذلك مبادرين، وبتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم، وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه، وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عنه تحويل القبلة، وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [ (2) ] كما حكاه اللَّه- تعالى- عنهم.
وقد استدل القاضي القشيري على تنزيهم عن هذا بقوله- تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [ (3) ] ، وقوله- تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [ (4) ] ، إلى قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [ (5) ] ، قال:
__________
[ (1) ] الأنعام: 52.
[ (2) ] البقرة: 142.
[ (3) ] الأحزاب: 7.
[ (4) ] آل عمران: 81.
[ (5) ] آل عمران: 81.(11/207)
فأظهره اللَّه في الميثاق، وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ثم يأخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب، هذا ما لا يجوزه إلا ملحد، هذا معنى كلامه.
وكيف يكون ذلك؟ وقد أتاه جبريل- عليه السّلام- وشق قلبه صغيرا، واستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله وملأه حكمة وإيمانا كما تظاهرت به أخبار المبدإ.
قال كاتبه: يكون نبيا وآدم بين الماء والطين، ثم يجوز عليه شيء من النقائص التي نزه اللَّه عنها أنبياءه، هذا ما لا يقوله جاهل ومعاند.
قال القاضي: ولا يشتبه عليك بقول إبراهيم- عليه السّلام- في الكواكب والقمر والشمس: هذا ربي فإنه قد قيل: كان هذا في سن الطفولية وابتداء النظر والاستدلال، وقبل لزوم التكليف.
وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مبكتا لقومه ومستدلا عليهم، وقيل: معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار، والمراد:
أفهذا ربي؟ قال الزجاج قوله: هذا ربي أي على قولكم: أين شركائي؟ أي عندكم، ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك، ولا أشرك باللَّه قط طرفة عين.
قول اللَّه- تعالى عنه: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ [ (1) ] ، ثم قال: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ [ (2) ] ، ثم قال- تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [ (3) ] ، وقوله- تعالى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ (4) ] ، أي من الشرك، وقوله- تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [ (5) ] ، فان قلت: فما معنى قوله:
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، قيل: إنه إن لم يؤيدني
__________
[ (1) ] الشعراء: 70.
[ (2) ] الشعراء: 75.
[ (3) ] الشعراء: 75- 77.
[ (4) ] الصافات: 84.
[ (5) ] إبراهيم: 35.(11/208)
بمعونته أكن مثلكم في ضلالكم وعبادتكم، على معنى الإشفاق والحذر، وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال.
وقال أبو محمد بن حزم: وأما قوله: إذ رأى الشمس والقمر، فقال:
هذا ربى، فقد قال قوم: إن هذا كان محققا أول خروجه من الغار، وهذه خرافة موضوعة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حدّ التمييز والكلام بمثل هذا، ولم ير قط ضوء شمس بنهار، ولا ضوء قمر بالليل، وقد أكذب اللَّه- تعالى- هذا الظن بقوله الصادق: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [ (1) ] ، فمحال أن يكون من آتاه رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب والقمر أو الشمس ربه، من أجل أنها أكبر قرصا من القمر، هذا ما لا يظنه إلا مقلد سخيف.
والصحيح من ذلك أنه- عليه السلام- إنما قال ذلك موبخا لقومه، كما قال ذلك لهم في الكبير من الأصنام، ولا فرق، لأنهم كانوا على دين الصالحين يعبدون الكواكب، ويصورون الأوثان على صورها، وأسمائها في هياكلهم، ويعدون لها الأعياد، ويذبحون لها الذبائح، ويقربون لها القرابين والدخن، ويقولون: إنها تعقل، وتدبر، وتضر، وتنفع، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة، وقد وبخهم الخليل- عليه السّلام- على ذلك وسخر منهم، وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها، كما قال- تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [ (2) ] ، فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم هذه الأجرام المسخرة الجمادية، وبين لهم أنها مدبرة تنتقل في الأماكن، ومعاذ اللَّه أن يكون الخليل أشرك قط برب أو شك في أن الفلك بما فيه مخلق، وبرهان قولنا هذا أن اللَّه تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكرنا ولا عنفه على ذلك، فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم- عليه السّلام، وأنه وافق مراد اللَّه- تعالى- فيما قال من ذلك، وبما فعل، يعني إبراهيم- عليه السّلام.
__________
[ (1) ] الأنبياء: 51.
[ (2) ] المطففين: 34.(11/209)
وقال الطوفي [في قوله تعالى] : وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ (1) ] ، هذا يدل على أن قوله [تعالى] :
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ (2) ] ، أراد به طمأنينة العيان، لأن اللَّه- تعالى- أخبر أنه أراه الملكوت ليوقن، وإحياء الموتى من قبيل الملكوت العيني: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي [ (3) ] ، حاصلها أنه استدلال بحركات الكواكب وأفولها على عدم إلهيتها وربوبيتها وذلك بناء على مقدمات:
الأولى: إثبات الأعراض:
وهي ما لا يقوم بنفسه فيفتقر إلى موضوع يقوم به كالحركة والسكون.
والألوان وهي الاجتماع والافتراض وغير ذلك من الأعراض وإثباتها شهادة بالحس.
الثانية: أن الأعراض مغايرة للجواهر: بدليل أن الجوهر الواحد تتعاقب عليه الأضداد من الأعراض كالحركة والسكون، والسواد والبياض، وذاته في الحالين واحدة، فالجوهر الباقي غير العرض الفاني.
الثالثة: أن الأعراض لا تنفك عن الجواهر: إذ لو انفكت عنها، لزم قيام العرض بذاته، وأنه محال.
الرابعة: أن الأعراض حادثة، وهذا لأنها تتعاقب على الجواهر وجودا وعدما مسبوقا بعضها ببعض، والحدوث من لوازم المسبوقية، والملزوم موجود قطعا، فاللازم كذلك.
الخامسة: أن ما لا ينفك عن الحادث أو لا ينفك عنه الحادث يجب أن يكون حديثا، إذ لو كان قديما مع أنه لم يفارق الحادث لزم تقدمه على الحادث، وذلك يوجب انفكاكه عن الحادث فيما قبل وجود الحادث، وذلك يستلزم أنه انفك عن الحادث على تقدير أنه لم ينفك عنه، وأنه محال، ولأن زيدا وعمرا لو ولدا في ساعة واحدة، ثم استمرا إلى تسعين سنة من مولدهما استحال أن يكون عمر
__________
[ (1) ] الأنعام: 75.
[ (2) ] البقرة: 261.
[ (3) ] الأنعام: 76.(11/210)
أحدهما مائة دون الآخر، وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبتت حدوث الجواهر، لعدم انفكاكها عن الأعراض الحادثة.
وينتظم البرهان هكذا: الجواهر لا تفارق الحوادث، وكل ما لا يفارق الحوادث حادث.
فالجوهر حادث، والعالم إما جواهر وإما أعراض، وقد ثبت حدوثها فالعالم المؤلف منهما بأسره حادث.
والحادث: إما أن يكون الموجد له هو، وهو محال أو غيره، فهو إما حادث فيلزم الدور أو التسلسل أو قديم، وهو المطلوب كما سبق تقريره، فهذه الطريقة العامة في إثبات حدوث العالم وقدم الصانع، فهي مستفادة من إبراهيم- عليه السلام- في مقامه هذا النظري، ولقد أوتى رشده من قبل، ومتكلمو الإسلام تلاميذه في هذه الطريقة، وهي أيسر الطرق وأحسنها، والرشد الإبراهيمي عليها ظاهر، ونور برهانها ساطع باهر، وحاجه قومه هذه المحاجة إنما تقومت بإبراهيم وقومه، لأنها مفاعلة تستدعى أكثر من فريق واحد، ففيها أدل دليل على الحجاج والجدال في طلب الحق في أصول الدين وفروعه، اقتداء بإبراهيم- عليه السلام.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه: فإن قلت: فما معنى قوله- تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [ (1) ] ، ثم قال- تعالى- بعد عن الرسل: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها؟ فلا يشكل عليك لفظة العود، وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم، فقد تأتى هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس له ابتداء بمعنى الصيرورة، كما جاء في حديث الجهنميين عادوا حمما، ولم يكونوا قبل كذلك ومثله قول الشاعر:
فعادا بعد أبوالا
__________
[ (1) ] إبراهيم: 13.(11/211)
وما كانا قبل كذلك، وقال الأستاذ أثير الدين أبو حيان في قوله- تعالى:
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [ (1) ] ، عاد لها استعمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى [تعود] ، قال:
تعود فيكم جزر الجزور ماحنا ... ويرفعن بالأسياف منكسرات.
والثاني: بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأول لا إشكال في قوله:
(أَوْ لَتَعُودُنَّ) فعلا مسندا إلى شعيب وأتباعه، ولا يدل على أن شعيبا كان في ملتهم.
وعلى المعنى الثاني: يشكل، لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط، لكن أتباعه كانوا فيها.
وأجيب عن هذا بوجوه:
أحدها: أن يراد بعود شعيب إلى الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث، لا حالة الضلال، فإنه كان يخفى دينه إلى أن أوحى اللَّه- تعالى- إليه.
الثاني: أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد، لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج، استحبوا عليه حكمهم في العود، وإن كان شعيب بريئا مما كان عليه قبل الإيمان.
الثالث: أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامة والإيهام أنه كان منهم.
وقال الطوفي: قول شعيب: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [ (2) ] ، لما ما كان منشؤه في قوم كفار انعقد له سبب موافقتهم، فتجوز به عن ملابسة ملتهم، فسمى إعراضه عنها بهداية اللَّه- عز وجل- إياه نجاة، ودخوله فيها لو قدر عودا إليها.
__________
[ (1) ] الأعراف: 88.
[ (2) ] الأعراف: 89.(11/212)
قال القاضي عياض: فإذا قلت: فما معنى قوله- تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (1) ] ؟ فليس هو في الضلال الّذي هو الكفر، قيل: ضالا عن النبوة فهداك إليها، قاله الطبري، وقيل: ووجدك بين أهل الضلال، فعصمك من ذلك وهداك للإيمان وإلى إرشادهم، ونحوه عن السدي وغير واحد، وقيل:
ضالا عن شريعتك، أي لا تعرفها، فهداك إليها، والضلال هاهنا التحير ولهذا، كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يخلوا بغار حراء في طلب ما يتوجه إلى ربه وينشرح به، حتى هداه اللَّه- تعالى- إلى الإسلام، قال معناه القشيري، وقيل: لا تعرف الحق فهداك إليه، وهذا مثل قوله- تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[ (2) ] ، قاله على بن عيس.
قال ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لم يكن له صلّى اللَّه عليه وسلّم ضلالة معصية، وقيل: إني أبين أمرك بالبراهين، وقيل: وجدك ضالا بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة، وقيل: وجدك فهدى بك ضالا، وعن جعفر بن محمد: ووجدك ضالا عن محبتي لك في الأزل، أي لا تعرفها، فمننت عليك بمعرفتي.
وقرأ الحسن بن علي: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (3) ] ، أي اهتدى، وقال: ابن عطاء ووجدك ضالا، أي محبا لمعرفتي، والضال المحب، كما قال- تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [ (4) ] ، أي محبتك القديمة، ولم يريدوا هاهنا إذ لو قالوا ذلك في نبي اللَّه لكفروا.
ومثله عند هذا قوله- تعالى: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (5) ] ، أي محبة بينة، وقال الجنيد: ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل إليك فهداك، لبيان
__________
[ (1) ] الضحى: 7.
[ (2) ] النساء: 103.
[ (3) ] الضحى: 7.
[ (4) ] يوسف: 95.
[ (5) ] يوسف: 30.(11/213)
قوله- تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [ (1) ] ، وقيل: وجدك لم يعرفك أحد بالنّبوّة حتى أظهرك، فهدى بك السعداء ولا أعلم أحدا من المفسرين قال فيها: ضالا عن الإيمان وكذلك في قصة موسى- عليه السلام قوله تعالى: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ (2) ] ، أي من المخطئين الفاعلين شيئا بغير قصد، قاله ابن عرفة.
قال الأزهري: معناه من الناسبين، وقد قيل في قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (3) ] ، أي ناسيا، كما قال- تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [ (4) ] ، وقال عطية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (5) ] ، أي على غير طريق هذا الدين الّذي بعثت به، ولم يكن صلّى اللَّه عليه وسلّم في ضلال الكفار ولا في غفلتهم، لأنه لم يشرك قط، وإنما كان مستهديا ربه- عز وجل- موحدا والسائل عن الطريق المتحير يقع عليه في اللغة اسم ضال وقال الطوفي: وقيل: لما نشأ بين قوم كفار نعقد له سبب الضلال، فلولا أن أنقذه اللَّه- تعالى- من ملتهم بهداه وبوحيه لضل، فسمى انعقاد سبب الضلال ضلالا على المجاز، كما يقال: وجدت فلانا غريقا فأنقذته، أو قتيلا بين أعدائه فأحييته ونحوه إذا انعقد له سبب ذلك.
وفي هذه الآية عشرين قولا، هذا أقربها إلى التحقيق وإليه يرجع قوله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [ (6) ] .
قال القاضي عياض: فإن قلت: ما معنى قوله- تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [ (7) ] ، فالجواب أن السمرقندي قال: معناه ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الايمان، قال أبو بكر
__________
[ (1) ] النحل 44.
[ (2) ] الشعراء: 20.
[ (3) ] الضحى: 7.
[ (4) ] البقرة: 282.
[ (5) ] الضحى: 7.
[ (6) ] الشورى: 52.
[ (7) ] الشورى: 52.(11/214)
القاضي نحوه قال: ولا الإيمان الّذي هو الفرائض والأحكام، قال: فكان قبل مؤمنا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانا.
وكذلك الحديث الّذي يرويه عثمان بن أبي شيبة بسنده، عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع مليكن خلفه، أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام، فلم يشهدهم بعد، فهذا حديث أنكره أحمد بن حنبل، وقال: هنا موضوع أو شيبة بالموضوع.
وقال الدارقطنيّ: إن عثمان وهم في إسناده والحديث بالجملة منكر، غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند أهل العلم من
قوله: بغضت إلى الأصنام
وقوله- في الحديث الآخر حين كلمه عمه وآله في حضور بعض أعيادهم وعزموا عليه فيه بعد كراهته لذلك، فخرج معهم ورجع مرعوبا- فقال: كلما دنوت عليها من صم تمثل لي شخص أبيض طويل يصيح بى وراءك لا تمسه فما شهد بعد لهم عيدا.
وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم باللات والعزى إذا لقيه بالشام في سفره مع عمه أبي طالب وهو صبي، ورأى فيه علامات النبوة، فأخبره بذلك، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسألنى بهما فو اللَّه ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا: فباللَّه إلا ما أخبرتنى عما اسألك عنه، فقال: سل ما بدا لك،
وكذلك المعروف من سيرته صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوفيق اللَّه- تعالى- له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، وكان يقف هو بعرفة، لأنه كان موقف إبراهيم- عليه السلام.
قال الطوفي في قوله- تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، مع
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين:
وأنه حين ولد خر ساجدا مشيرا بإصبعه إلى السماء، وأنه لم يزل صلّى اللَّه عليه وسلّم كارها الأصنام مبغضا لها قبل النبوة، ولم يحلف بها، ولا أكل مما ذبح لها.
وإجماع الناس على أن نبيا من الأنبياء لم يكفر باللَّه وخلا من الإيمان به طرفه عين، فالواجب تأويل الآية على ما يزيل عنها هذا المحذور، مثل أن(11/215)
المراد ما ما كنت تدري ما الكتاب. ولا كيفية ماهية الإيمان وحقيقته، ولا يلزم من كونه مؤمنا معرفة ذلك، بدليل أن أكثر الناس هم كذلك، أو ما كنت تدري ما الكتاب ولا الدعاء إلى الإيمان، إذ كيفية دعاء الناس إلى الإيمان، إنما تعلم بالوحي، فقبل الوحي من أين تعلم؟ ولا يلزم من كون الإنسان مؤمنا في نفسه أن يدرى كيف يدعو إلى ما يدعو غيره لجواز أن يتعبد اللَّه- تعالى- كل إنسان بأمر غير ما تعبد به الآخر، اختص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بخواص تعبد لم تكن لغيره.
قال القاضي عياض: قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان والوحي، وعصمتهم في ذلك- على ما بيناه- فأما ما عدا هذا الباب من عقود قلوبهم، فجماعها أنها مملوءة علما ويقينا على الجملة وإنما احتوت من المعرفة بأمور الدين والدنيا ما لا شيء فوقه، ومن طالع الأخبار واعتنى بالحديث وتأمل ما قلناه، وجده إلا أن أحوالهم في هذه المعارف تختلف، فأما ما تعلق منها بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء- عليهم السلام- العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه، ولا وصم عليهم فيه إذ هممهم متعلقة بالآخرة وأسبابها وأمر الشريعة وقوانينها، وأمور الدنيا تضادهم بخلاف غير هم الذين: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [ (1) ] ، كما سنبين- إن شاء اللَّه تعالى- ولكنه لا يقال إنهم لا يعلمون شيئا من أمر الدنيا، فإن ذلك يؤدى إلى الغفلة والبله، وهم المنزهون عنه، بل قد أرسلوا إلى أهل الدنيا، وقلدوا سياستهم وهدايتهم والنظر في مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يكون مع هدم العلم بأمور الدنيا بالكلية، وأحوال الأنبياء وسيرتهم في هذا الباب معلومة، ومعرفتهم بذلك كله مشهورة، وإن كان هذا العقد مما يتعلق بالدين، فلا يصح من النبي إلا العلم، ولا يجوز عليه جهله جملة لأنه لا يخلو أن يكون حصل عنده ذلك عن وحي من اللَّه- تعالى- فهو ما لا يصح الشك منه على ما قدمناه، فكيف الجهل؟ بل حصل له العلم اليقين أو يكون فعل ذلك باجتهاده، فلما لم ينزل عليه فيه شيء على القول بتجويز الاجتهاد منه في ذلك على قول المحققين، وعلى مقتضى حديث
__________
[ (1) ] الروم: 7.(11/216)
أم سلمه إني انما أقتضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، وخرّجه الثقات، وكقصة أسرى بدر، والإذن للمتخلفين- على رأى بعضهم- فلا يكون أيضا ما يعتقده مما يثمره اجتهاده إلا حقا، وصحيحا، هذا هو الحق الّذي لا يلتفت إلى خلاف من خالف فيه، لا على القول بتصويب المجتهدين الّذي هو الحق، والصواب عندنا لا على القول الآخر بأن الحق في طرف واحد، لعصمة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الخطأ في الاجتهاد في الشرعيات، ولأن القول في تخطئة المجتهدين، إنما هو استقراء الشرع ونظر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واجتهاده إنما هو فيما لم ينزل عليه فيه شيء، ولم يشرع له قبل هذا فيما عقد عليه قلبه فأما ما لم يعقد عليه قلبه، من أمر النوازل الشرعية، فلقد كان لا يعلم منها أولا إلا ما علمه اللَّه شيئا، حتى استقر علم جملتها عنده، إما بوحي من اللَّه- تعالى- وإذن أن يشرع في ذلك ويحكم بما أراه.
وقد كان ينتظر الوحي في كثير منها، ولكنه لم يمت حتى اسقر علم جملتها عنده صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتقررت معارفها لديه على التحقيق، ورفع الشك والريب، وانتفاء الجهل، وبالجملة فلا يصح منه الجهل بشيء من تفاصيل الشرع الّذي أمر بالدعوة إليه، إذ لا تصح دعوته إلى ما لا يعلمه.
قال جامعه ومؤلفه: قد اختلف في اجتهاد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما لا نص عنده فيه، فاحتج من أجاز ذلك بقوله- تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [ (1) ] ، وقد اختلفت عبارات المفسرين في معناها.
فقال الكرماني: بما أراك اللَّه، بما علمك وعرفك في الحجة، وهو من الرأى الّذي هو الاعتقاد، لأن الرأى بمعنى العلم يستدعى ثلاثة مفاعيل، قال الرازيّ: وهذه الآية تدل على أنه- صلوات اللَّه تعالى عليه- ما كان يحكم إلا بالوحي والنص.
وقال الزمخشريّ: بما أراك اللَّه، بما عرفك وأوحى به إليك، وعن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لا يقل أحدكم قضيت بما أرانى اللَّه، لأن
__________
[ (1) ] النساء: 105.(11/217)
اللَّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه، ولكن ليجتهد رأيه، لأن الرأي من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مصيبا، لأن اللَّه كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكليف.
وقال الماتريدي: قوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، أي موافقا لما هو الحق في فعل كل أحد، وهو التكليف دون الأعمال، أو بما له عاقبة حميدة، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل، أو مبينا بما هو الحق للَّه على العباد، وبما لبعضهم على بعض، ليعملوا بذلك، أو بيانا لأمر هو حق كائن ثابت، وهو البعث والقيامة، ليتزودوا له، أو مما يحمد عليه فاعله، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل، بما أراك اللَّه وألهمك.
وفيه دليل على جواز اجتهاده كالنص، لأن اللَّه- تعالى- أخبر أنه يريه ذلك، ولا يريه غير الصواب.
وقال ابن حيان: معنى قوله: بِما أَراكَ اللَّهُ، يريد به بما أراك اللَّه- تعالى- من القرآن وعلمك إياه، وقال الأثير أبو حيان: ومعنى: بِما أَراكَ اللَّهُ بما أعلمك من الوحي، وقيل: بالنظر فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم محروس في اجتهاده معصوم الأقوال والأفعال، وقيل: بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة، وصفاء الباطن، واحتج من أجاز ذلك أيضا بأن منصب الاجتهاد في الأحكام منصب كمال، فلا ينبغي أن يفوته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد دل على وقوعه منه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قلت: نعم، لوجبت،
وقوله:
لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها،
في قضيتين مشهورتين:
أما القضية الأولى:
فخرّج مسلم [ (1) ] من حديث يزيد بن هارون عن الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال:
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 108- 110، كتاب الحج، باب (73) فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (1337) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه فسكت، حق قالها ثلاثا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قلت: نعم لو جبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا(11/218)
__________
[ () ] أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)
هذا الرجل السائل هو الأقرع بن حابس كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي التكرار، والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف، لأنه سأل فقال: أكل عام؟ ولو كان مطلقة يقتضي التكرار أو عدمه لم يسأل، وقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا حاجة إلى السؤال، بل مطلقة محمول على كذا، وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارا واحتياطا،
وقوله: «ذروني ما تركتكم»
ظاهر في أنه يقتضي التكرار.
قال الماوردي: ويحتمل أنه إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر، قال: وقد تعلق بما ذكرناه عن أهل اللغة هاهنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لما كان قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يقتضي تكرار قصد البيت بمحكم اللغة والاشتقاق، وقد أجمعوا على أن الحج لا يجب إلا مرة كانت العودة الأخرى إلى البيت تقتضي كونها عمرة، لأنه لا يجب قصده لغير حج وعمرة بأصل الشرع.
وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت
ففيه دليل للمذهب الصحيح أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان له أن يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي، وقيل: يشترط، وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحى إليه ذلك، واللَّه أعلم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (ذروني ما تركتكم)
دليل على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع، وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه استطعتم
هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويدخل فيه ما لا يحصي من الأحكام كالصلاة بأنواعها فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه جماعة من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم أو نحوه، وأمكنه البعض فعل الممكن وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك. -(11/219)
خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا أيها الناس قد فرض اللَّه الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت- حتى قالها ثلاثا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لو قلت نعم لو جبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه.
وخرّجه النسائي [ (1) ] من حديث أبي هاشم المغيرة بن سلمة المخزومي ثقة بصري، قال: أنبأنا الربيع بن مسلم- إلى آخره بمعناه، وقال فيه: ولو وجبت ما قمتم بها، وقال في آخره فاجتنبوه مكان فدعوه.
__________
[ () ] وهذا الحديث موافق لقول اللَّه- تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وأما قوله- تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، ففيه مذهبان: أحدهما أنها منسوخة بقوله- تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، والثاني- وهو الصحيح أو الصواب- وبه جزم المحققون أنها ليست منسوخة، بل قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسرة ومبينة للمراد بها، قالوا:
وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نهيه ولم بأمر- سبحانه وتعالى- إلا بالمستطاع قال اللَّه- تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
وقال- تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، واللَّه أعلم. وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
(وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ،
فهو على إطلاقه فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه، أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك، فهذا ليس منهيا عنه في هذه الحال واللَّه أعلم، وأجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع وقد تجب زيارة بالنذر، وكذا إذا أراد دخول الحرم لحاجة لا تكرر كزيارة وتجارة- على مذهب من أوجب الإحرام لذلك- بحج أو عمرة.
[ (1) ] (سنن النسائي) : 5/ 116- 117، كتاب مناسك الحج، باب (1) وجوب الحج، حديث رقم (2618) .
قال الحافظ السندي: قوله: (في كل عام) أي هو مفروض على كل إنسان مكلف في كل سنة، أو هو مفروض عليه مرة واحدة
(لو قلت نعم لوجبت إلخ) ،
أي لوجب الحج كل عام وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحج كل عام كان مفوضا إليه، حتى لو قال: نعم، لحصل وليس بمستبعد، إذ يجوز أن يأمر اللَّه- تعالى- بالإطلاق، ويفوض أمر التقييد إلى-(11/220)
وخرّج النسائيّ [ (1) ] من حديث سعيد بن أبي مريم، قال: أنبأنا موسى بن سلمة، قال: حدثني عبد الجليل بن حميد عن ابن شهاب، عن أبي سنان الدؤلي، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قام فقال: إن اللَّه قد كتب عليكم الحج، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت، ثم قال: لو قلت: نعم لوجبت، ثم إذا لا تسمعون، ولا تطيعون، ولكنه حجة واحدة.
وخرّجه قاسم بن أصبغ من حديث محمد بن كثير، أنبأنا سليمان، عن الزهري عن سنان بن أبي سنان، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه كتب عليكم الحج، فقيل: يا رسول اللَّه كل عام؟ قال: لا. ولو قلتها لوجبت الحج مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع [ (2) ] .
__________
[ () ] الّذي فوض إليه البيان، فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه، وإن أراد أن يقيده بكل عام يقيده به، ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة والتفتيش عن قيودها، بل ينبغي العمل بإطلاقها، حتى يظهر فيها قيد وقد جاء القرآن موافقا لهذه الكراهة
(ذروني)
أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات،
(ما تركتكم)
عن التكليف في القيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبين بنفسي
(واختلافهم)
عطف على كثرة السؤال، إذ الاختلاف وإن قل يؤدى إلى الهلاك، ويحتمل أنه عطف على سؤالهم فهو إخبار عمن تقدم بأنه كثر اختلافهم في الواقع فأداهم إلى الهلاك، وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤد إلى الفساد
(فإذا أمرتكم إلخ)
يريد أن الأمر المطلق لا يقتضي دوام الفعل، وإنما يقتضي جنس المأمور به، وأنه طاعة مطلوبة ينبغي أن يأتي كل إنسان منه على قدر طاقته وأما النهي فيقتضي دوام الترك، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم.
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2619) .
[ (2) ] راجع الحواشي السابقة.(11/221)
وخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سنان، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه الحج في كل سنه أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد فتطوع، قال أبو داود: وهو أبو سنان الدؤلي، كذا قال عبد الجليل بن حميد وسليمان بن كثير جميعا، عن الزهري، وقال عقيل: عن سنان.
وأما القضية الثانية:
فقال أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر: قتيلة بنت النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أباها يوم بدر صبرا، قال الواقدي: أسلمت قتيلة يوم الفتح، قال ابن عبد البر: كانت شاعرة محسنة، ولما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر كتبت إليه في أبيها، وذلك قبل إسلامها [ (2) ] .
يا راكبا إن الأثيل مظنة
الأبيات. فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك بكى، حتى اخضلت بالدموع لحيته،
وقال: لو بلغني شعرها هذا قبل أن أقتله لعفوت عنه، ذكر هذا الخبر عن عبد اللَّه بن إدريس في حديثه، وذكره الزبير بن بكار، وقال: فرق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى دمعت عيناه، وقال لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها،
قال الزبير: وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها هذه، ويقول: أنها مصنوعة [ (3) ] ، واللَّه- تعالى- اعلم.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 2/ 344- 345، كتاب المناسك، باب (1) فرض الحج، حديث رقم (1721) .
[ (2) ] (الإستيعاب) : 4/ 1904، ترجمة رقم (4070) .
[ (3) ] (الإستيعاب) : 4/ 1905، (سيرة ابن هشام) : 3/ 309.(11/222)
وأحتج من منع اجتهاده صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله- تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ (1) ] ، فأخبر- تعالى- أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يحكم إلا بالوحي، قالوا والسنة الواردة عنه كانت توحى إليه.
كما
خرّجه أبو داود [ (2) ] ، من حديث جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبي عون، عن المقدام بن معديكرب، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه.
ورواه بقية عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة، عن عبد الرحمن بن عوف الجرشي، عن المقدام بن معديكرب، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ألا إني أوتيت الكتاب، وما يعدله، يوشك رجل شبعان على أريكته، فذكره مثله إلى آخره [ (3) ] .
وخرّج أبو داود من حديث أشعث بن شعبة، قال: حدثنا أرطاة بن المنذر قال: سمعت حكيم بن عمير أبا الأحوص يحدث عن العرباض بن سارية، قال:
نزلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، فذكر الحديث، وفيه: أمر مناديا أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة، فاجتمعوا وصلّى بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم قال:
أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن اللَّه لم يحرم شيئا إلا في القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت، ونهيت عن أنهما لمثل القرآن أو أكثر، وأن اللَّه لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب لنسائهم، ولا أكل
__________
[ (1) ] النجم: 3- 4.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 5/ 10- 12، كتاب السنة، باب (6) في لزوم السنة، حديث رقم (4604) .
[ (3) ] أخرجه الترمذي في العلم، حديث رقم (2666) ، باب ما ينهى أن يقال عند حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجة في المقدمة، حديث رقم (12) ، وحديث أبي داود أتم من حديثيهما.(11/223)
ثمارهم إذا أعطوكم الّذي عليهم،
قال أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قوله:
أتيت الكتاب، ومثله معه، يتحمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أنه أوتى من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أعطى من الظاهر.
والثاني: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوتى الكتاب وحيا يتلى وأوتى من البيان مثله، أي أذن له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخصص ويزيد عليه ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالزاهر المتلو من القرآن،
وقوله:
كالظاهر يوشك رجل شبعان على أريكته،
الحديث يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها، مما ليس في القرآن له ذكر.
قالوا: وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: في الرضى والغضب، والجد والمزاح حق،
لما
خرجه الترمذي [ (1) ] من حديث أسامة بن زيد عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قالوا: يا رسول اللَّه إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة [ (2) ] ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان. عن أبي عبيد بن الأخنس، قال: حدثني الوليد بن عبد اللَّه، عن يوسف بن مالك، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتكلم في الرضى والغضب، فأمسكت فذكرت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأشار بيده إلى فيه، فقال: اكتب فو الّذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.
خرجه أبو داود قال: أنبأنا مسدد، وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا يحيى ابن سعيد، عن عبيد اللَّه بن الأخنس، عن الوليد بن عبد اللَّه بن أبي معتب، إلى آخره بنحوه،
قالوا: ولأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قادر على يقين الوحي، والاجتهاد لا يفيد،
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 314، كتاب البر والصلة، باب (57) ما جاء في المزاح، حديث رقم (1990) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[ (2) ] (المصنف) : 5/ 314، باب (173) من رخص في كتابه العلم، حديث رقم (26419) .(11/224)
فجوازه في حقه صلّى اللَّه عليه وسلّم والحالة هذه كالتيمم مع القدرة على الماء، ثم على القول بأن الاجتهاد جائز، هل يقع منه الخطأ فيه أم لا؟ فيه قولان للأصوليين:
أحدهما: لا يقع منه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطأ في اجتهاده من الخطأ مطلقا.
والثاني: نعم بشرط أن لا يقر عليه، واستدل من ذهب إلى هذا بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [ (1) ] ، قالوا: فعوتب صلّى اللَّه عليه وسلّم حيث أذن لهم في التخلف عن الغزو في غير موضع الإذن، وأجيب عن ذلك أن عفا اللَّه عنك افتتاح كلام أعلمه اللَّه- تعالى- عنه به أنه لا حرج عليه فيما فعل من الإذن، وليس هو عفوا عن ذنب، إنما هو أن اللَّه- تعالى- أعلمهم أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم، كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: عفا اللَّه لكم عن صدقة الخيل، والرقيق وما وجبتا قط،
ومعناه ترك أن يلزمكم ذلك، قاله أبو حيان، ونقل عن أبي عبد اللَّه بن إبراهيم ابن عرفة نفطويه، أنه قال: ذهب ناس إلى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم معاتب في هذه الآية وحاشاه من ذلك بل كان له أن يفعل، وأن لا يفعل، وقد قال تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، لأنه كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي، واستأذنه المخلفون في التخلف، واعتذروا فاختار صلّى اللَّه عليه وسلّم أيسر الأمرين تكرما منه وتفضلا، فأبان اللَّه- تعالى- أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا على النفاق الّذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في الطاعة والمشاورة، قاله أبو حيان ووافقه عليه قوم، فقالوا،: ذكر العفو هنا لم يكن عن تقديم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العرب أن تخاطب بمثله تعظمه وترفع عن قدره، يقصدون بذلك الدعاء له، فيقولون: أصلح اللَّه الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته الخبر، ومعناه الدعاء.
وكلام الزمخشريّ في تفسير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، يجب اطراحه فضلا عن أن يذكر فيرد عليه، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [ (2) ] ، ويتعلق بهذا مسألة التفويض،
__________
[ (1) ] التوبة: 43.
[ (2) ] الأنفال: 67، وتمامها: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.(11/225)
وهي أنه هل يجوز أن يفرض اللَّه- تعالى- إلى نبي حكم الأمة أن يقول:
احكم بينهم باجتهادك، وما حكمت به فهو حق، أو أنت لا تحكم إلا بالحق، فيه قولان: أقربهما الجواز، وهو قول موسى بن عمران من الأصوليين، لأنه مضمون له إصابة الحق، وكل مضمون له إصابة ذلك جاز له الحكم، أو يقال:
هذا التفويض لا محذور فيه، وكل ما كان كذلك كان جائزا واللَّه- تعالى- أعلم.
قال القاضي عياض: وأما ما تعلق بعقده صلّى اللَّه عليه وسلّم من ملكوت السموات والأرض، وخلق اللَّه- تعالى- وتعيين أسمائه- تعالى- وآياته الكبرى، وأمور الآخرة، وأشراط الساعة، وأحوال السعداء والأشقياء، وعلم ما كان ويكون، ما لا يعلمه إلا بوحي، فعلى ما تقدم من أنه معصوم فيه لا يأخذه فيما أعلم منه شك ولا ريب، بل هو في غاية اليقين، لكنه لا يشترط له العلم بجميع تفاصيل ذلك، وان كان عنده من علم ذلك ما ليس عند البشر،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لا أعلم إلا ما علمني ربي،
ولقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولا خطر على قلب بشر، ولا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين،
وقول موسى للخضر- عليهما السلام: لا هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [ (1) ] ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أسألك اللَّهمّ بأسمائك الحسنى ما علمت منها، وما لم أعلم،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك،
وقد قال اللَّه- تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [ (2) ] ، قال زيد بن أسلم وغيره: حتى ينتهى العلم إلى اللَّه- تعالى، وهذا ما لا خفاء فيه، إذا معلوماته- تعالى- لا يحاط بها، ولا منتهى لها، هذا حكم عقد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوحيد، والشرع، والمعارف، والأمور الدينية.
قال: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشيطان وكفايته منه لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس ثم ذكر
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟
__________
[ (1) ] الكهف: 66.
[ (2) ] يوسف: 76.(11/226)
قال: وإياي ولكن اللَّه أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير،
قال: فإذا كان هذا حكم شيطانه وقرينه المسلط على بني آدم، فكيف بمن بعد عن سنته ولم يلزم شخصه، ولا قدر على الدنوّ منه؟
وقد جاءت الآثار بتصدي الشياطين له في غير موطن، رغبة في إخفاء نوره وإبانة نفسه، وإدخال شغل عليه، إذ يئسوا من أعوانه، فانقلبوا خاسرين، كتعرضه له في الصلاة، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأسره.
ففي الصحاح قال أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن الشيطان عرض لي، قال عبد الرزاق: في صورة هرّ فشدّ عليّ يقطع على الصلاة، فأمكننى اللَّه منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية، حتى تصبحوا تنظرون إليه، فذكرت قول: أخى سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ (1) ] الآية، فرده اللَّه خاسئا.
وفي حديث أبي الدرداء رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن عدو اللَّه إبليس جاءني بشهاب من نار، ليجعله في وجهي، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، وذكر تعوذه باللَّه منه، ولعنه له، ثم أردت آخذه وذكر نحوه، وقال:
لأصبحنه موثقا يتلاعب به ولدان أهل المدينة.
وكذلك في حديث الأسماء وطلب العفريت له بشلغه، فعلمه جبريل ما يتعوذ به منه، ذكره في (الموطأ) [ (2) ] ، ولما لم يقدر على أذاه بمباشرته تثبت بالتوسط الى عداه كقضيته مع قريش في الائتمار بقتل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتصوره في صورة الشيخ النجدي، ومرة أخرى يوم بدر في صورة سراقة بن مالك، وهو قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [ (3) ] الآية، ومرة ينذر بشأنه
__________
[ (1) ] ص: 35، وتمامها: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
[ (2) ] ورواه مسلم: في المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، حديث رقم (542) .
والنسائي: 3/ 13 في السهو، باب لعن إبليس والتعوذ منه في الصلاة.
[ (3) ] الأنفال: 48، وتمامها: وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.(11/227)
عند بيعة العقبة، وكل هذا قد كفاه اللَّه أمره، وعصمه ضره، وشره، وقد
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن عيسى- عليه السّلام- كفى من لمسه، فجاء ليطعن بيده في خاصرته حين ولد فطعن في الحجاب،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: حين لد في مرضه وقيل له: خشينا أن يكون بك ذات الجنب، فقال إنها من الشيطان، ولم يكن اللَّه ليسلطه على.
فإن قيل: فما معنى قوله- تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [ (1) ] الآية، فقد قال بعض المفسرين: إنها راجعة إلى قوله:
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [ (2) ] ، ثم قال: وإما ينزغنك أي يستخفنك غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم، فاستعذ باللَّه فقيل: النزغ هنا الفساد كما قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [ (3) ] ، وقيل: ينزغنك يغرينك، ويحركنك، والنزغ أدنى الوسوسة، فأمره اللَّه- تعالى- أنه متى تحرك عليه عدوه أو رام الشيطان من إغرائه به، وخواطر أدنى وساوسه، ما لم يجعل له سبيل اليه أن يستعيذ عنه فيكفى أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه، وقد قيل في هذه الآية غير هذا، وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك، ويلبس عليه، لا في أول الرسالة، ولا بعدها، والاعتماد في ذلك دليل المعجزة، بل لا يشك النبي أن ما يأتيه من اللَّه الملك ورسوله حقيقة، إما بعلم ضروري يخلقه اللَّه له، أو ببرهان يظهره لديه، لتتم كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، فإنه قيل: فما معنى قوله- تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ (4) ] . الآية، فاعلم أن للناس في هذه الآية أقاويل منها السهل، والغث، والسمين، والغث، وأولى ما يقال فيها ما عليه الجمهور من المفسرين أن التمني هاهنا التلاوة وإلقاء الشيطان فيها اشتغاله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا للتالي، حتى يدخل عليه
__________
[ (1) ] الأعراف: 200، وتمامها إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[ (2) ] الأعراف: 199.
[ (3) ] يوسف: 100.
[ (4) ] الحج: 52، وتمامها: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.(11/228)
الوهم، والنسيان، أو يدخل عليه غير ذلك على إيهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله، وينسخه ويكشف لبسه، ويحكم آياته.
وقال أبو محمد بن حزم: الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها، وقد يكون ذلك الشيء الّذي يلقى الشيطان في أمنية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خوفا من آدمي عدو له، أو تمنى إسلام مشرك قريب له لم يأذن اللَّه بإسلامه، أو ما أشبه هذا اللَّه ذلك في نفسه المقدسة ويطهرها منه.
قال: وأما الحديث الّذي ذكر فيه وأنهن الغرانيق العلى وكذب مختلف موضوع بلا شك، ولم يصح قط، بطريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، قال القاضي عياض: وقد حكى السمرقندي إنكار قول من قال: سلط الشيطان على ملك سليمان وغلبه عليه، وإن مثل هذا لا يصح، وقال مكي في قصة أيوب- عليه السلام- وقوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ (1) ] ، لا يجوز لأحد أن يقال: أن الشيطان هو الّذي أمرضه، وألقى الضر في بدنه، ولا يكون ذلك إلا بفعل اللَّه- تعالى، وأمره ليبتليهم، ويثبتهم، وقال مكي:
وقيل: إن الّذي أصابه الشيطان ما وسوس به إلى أهله، فإن قلت: فما معنى قوله تعالى عن يوشع: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [ (2) ] ، وقوله عن يوسف:
فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [ (3) ] ،
وقول نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم حين نام عن الصلاة يوم الوادي: إن هذا واد به شيطان،
وقول موسى- عليه السلام- في وكزته:
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [ (4) ] ، فاعلم أن هذا الكلام قد يرد في جميع هذا على مورد مستمر في كلام العرب في وصفهم كل قبيح من شخص، أو فعل بالشيطان، أو فعله، كما قال- تعالى: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] ص: 41.
[ (2) ] الكهف: 63، وتمامها: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
[ (3) ] يوسف: 42، وتمامها: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
[ (4) ] القصص: 15 وتمامها: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.
[ (5) ] الصافات: 65.(11/229)
وأيضا فإن قول يوشع- عليه السّلام- لا يلزمنا الجواب عنه، إذ لم تثبت له في ذلك الوقت نبوة مع موسى- عليه السّلام- قال اللَّه- تعالى:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [ (1) ] ، المروي أنه إنما نبئ بعد موت موسى، وقيل:
قبيل موته، وقول موسى كان قبل نبوته بدليل القرآن الكريم.
__________
[ (1) ] الكهف: 60، وتمامها: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً.(11/230)
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم وبه التوفيق ومنه الإعانة [ (1) ]
وأما ذهاب الصورة المصورة بوضع يد المصطفى عليها صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث بشر بن بكر ... قال: حدثنا الأوزاعي عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: دخل علي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام [ (3) ] فيه صورة فهتكه، ثم قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق اللَّه.
قال الأوزاعي: قالت عائشة: أتاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببرنس فيه تمثال عقاب، فوضع عليه يده فأذهبه اللَّه [ (4) ] .
وأما إعلامه بأن اللَّه تعالى يعطيه إذا سأل ما لم تجر به العادة
فخرّج أبو نعيم من حديث ابن لهيعة، عن بكير بن عبد اللَّه الأشج، عن الحسن بن على، أن ابن أبي رافع حدثه: أن أبا رافع حدثه: أنه صاحب الذراع، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ناولني الذراع، فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا نبي اللَّه وللشاة غير
__________
[ (1) ] كذا بالأصل.
[ (2) ] (سنن البيهقي) : 7/ 267: كتاب الصداق، باب المدعو يرى في الموضع الّذي يدعى فيه صورا منصوبة ذات أرواح فلا يدخل.
[ (3) ] القرام ثوب من صوف ملون، فيه ألوان، وهو صفيق يتخذ سترا، والجمع قرم (لسان العرب) : 12/ 474.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 81، باب ما جاء في التمثال الّذي وضع عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده فأذهبه اللَّه- عز وجل.(11/231)
ذراعين؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو ناولتني ما زلت تناولني، قال أبو نعيم: رواه عمرو بن الحارث، عن بكير [ (1) ] .
وله من حديث أبي جعفر الرازيّ، عن داود بن أبي هند عن شرحبيل، عن أبي رافع [قال] : دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد جعلنا شاة في قدر، فقال: يا أبا رافع ناولني الذراع، فناولته، فانتهشها، ثم قال: ناولني الذراع، فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه إنما يكون للشاة ذراعان، فقال: لو ناولتني لم تزل تناولني، حتى أسكت، ثم قام يصلى وما مس ماء [ (2) ] ، قال: ودخل على يوما آخر وعندي لحم بارد فأكل منه، ثم قام فصلى، ولم يتوضأ.
قال أبو نعيم: رواه عن شرحبيل بن سعدة، عن أبي رافع في أكل اللحم، وأنه صلى ولم يتوضأ جماعة منهم أبو خالد الدالاني، وسماك بن حرب، وزيد ابن أبي أنيسة، وسليمان بن أبي داود.
وخرّج أيضا من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ، عن فائد عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن أبي رافع- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قال: أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أصلي له شاة فصليتها له، ثم جئته بها، فقال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: كم لها من ذراع؟ فقال: [لو] سكتّ لوجدتها ما دعوت بها [ (3) ] .
ومن حديث حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى، عن أبي رافع قال: دخل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعندنا شاة مطبوخة، فقال: يا أبا رافع ناولني الذراع فناولته، فأكلها، ثم قال: ناولني الذراع، فناولته، فأكلها، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه وهل للشاة إلا ذراعان؟ فقال: لو سكت لأعطيتني أذرعا ما دعوتها [ (4) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] سبق تخريجه.
[ (4) ] سبق تخريجه.(11/232)
وخرّج من حديث أبان بن يزيد عن شهر بن حوشب، عن أبي عبيد قال:
طبخت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قدرا، فقال: ناولني الذراع، وكان يعجبه الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه! وكم للشاة من ذراع؟ فقال: والّذي نفسي بيده لو سكتّ، لأعطيتني ما دعوت بها.
وخرج من حديث أبي مسلم الكوفي، قال: حدثنا أبو عاصم عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن شاة طبخت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع فناولته، ثم قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه إنما للشاة ذراعان، فقال: أما إنك لو التمستها لوجدتها [ (1) ] .
ومن حديث طالوت بن عباد قال: حدثنا سعيد بن راشد: حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يعجبه في الشاة إلا الكتف، فذبح ذات يوم شاة، فقال: يا غلام ائتني بالكتف، فأتاه بها ثم قال له أيضا، فأتاه بها ثم قال له أيضا فأتاه بها، ثم قال: يا رسول اللَّه، إنما ذبحت شاة وقد أتيتك بثلاثة أكتاف، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو سكت لجئت بها ما دعوت بها [ (2) ] .
ومن حديث ابن كاسب قال: حدثنا ابن أبي حازم عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا بذراع شاة فأكلها، ثم دعا بذراع أخرى فأكلها، ثم دعا بذراع أخرى، فقالوا: يا رسول اللَّه إنما للشاة ذراعان، فقال:
والّذي نفسي بيده لو سكتم لوجدتموها [ (3) ] .
وخرّج من حديث معاوية بن يحيى الصدفي أبي روح عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أسامة بن زيد: أن امرأة أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بشاة مصلية، فقال لي: يا أسيم ناولني الذراع، فأصلحت الذراع فناولته فأكلها، ثم قال لي:
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] سبق تخريجه.(11/233)
يا أسيم ناولني ذراعها، فقلت: يا رسول اللَّه، إنك قلت: ناولني الذراع فناولتكها، ثم قلت: ناولني الذراع، فناولتكها، ثم قلت: ناولني الذراع، وإنما للشاة ذراعان، فقال: إنك لو لم تراجعني ثم أهويت إليها، ما زلت تجد فيها ذراعا ما قلت لك [ (1) ] .
قال أبو نعيم ووجه الدلالة من هذه الأخبار إعلامه صلّى اللَّه عليه وسلّم فضيلته بأن اللَّه يعطيه، إذا سأله ما لم تجر العادة به تفضيلا له، وتخصيصا، ليكون ذلك آية له في نفسه، ورفعة له في مرتبته، وإبانته في الكرامة عن الخليقة، أن لو التمس صلّى اللَّه عليه وسلّم ذراعا ثالثة من شاة واحدة، لكان اللَّه- عز وجل- يجيبه إلى مسألته، فأما إذا لم يسأل اللَّه- تعالى- فالفضيلة ثابتة، وإن كانت الآية معدومة، لأنها آية عطاء اللَّه- تعالى- نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 437، ذكر الأخبار التي أخرجتها أسلافنا في جملة دلائله صلّى اللَّه عليه وسلّم: قصة أذرع وأكتاف الشاة، عقب الحديث رقم (346) ، (347) .(11/234)
وأما صدق رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها في المنام وصنع اللَّه له في تزويجها به بذهاب ما كان في نفس أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وعنها من عدة مطعم بن عدي بها لابنه
فخرّج البخاري [ (1) ] في كتاب النكاح في باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، وخرّج مسلم [ (2) ] في المناقب من حديث حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي، فأقول: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه.
وقال البخاري: فقال لي: هذه امرأتك، ولم يقل ثلاث ليال، وخرّجه مسلم [ (3) ] من حديث ابن نمير، حدثنا ابن إدريس، وأبي أسامة، عن هشام بهذا الإسناد.
وخرّجه البخاري في كتاب النكاح [ (4) ] في باب نكاح الأبكار، وفي كتاب التعبير [ (5) ] في باب كشف المرأة في المنام من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريتك في المنام مرتين إذا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 225، كتاب النكاح، باب (36) النظر إلى المرأة قبل التزويج، حديث رقم (5126) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 212، كتاب فضائل الصحابة، باب (13) فضل عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم.
[ (3) ] المرجع السابق، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (4) ] (فتح الباري) : 9/ 150، كتاب النكاح، باب (10) نكاح الأبكار، حديث رقم (5078) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : 12/ 494، كتاب التعبير، باب (20) كشف المرأة في المنام، حديث رقم (7011) .(11/235)
رجل يحملك في سرقة حرير، فيقول: هذه امرأتك فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه.
وخرّجه أيضا في التعبير [ (1) ] من حديث أبي معاوية عن هشام عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريتك قبل أن أتزوجك مرتين: رأيت الملك يحملك في سرقة من حرير، فقلت له: اكشف فكشف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه، ثم أريتك يحملك في سرقة، فقلت:
اكشف فكشف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند اللَّه يمضه،
ترجم عليه باب ثياب الحرير في المنام.
وخرّجه في كتاب البعث في باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عائشة من حديث وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها:
أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة، ويقول: هذه امرأتك، فاكشف عنها فإذا هي أنت، وأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يمضه.
وخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى، قالا: لما هلكت خديجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول اللَّه ألا تزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا، أو إن شئت ثيبا. قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحب خلق اللَّه إليك، عائشة بنت أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما علي،
فدخلت بيت أم رومان [ (3) ] ، فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل اللَّه عليكم من الخير والبركة؟
قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلنى رسول اللَّه أخطب عليه عائشة، قالت:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 494، كتاب التعبير، باب (21) ثياب الحرير في المنام، حديث رقم (7012) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 301- 302، حديث رقم (20241) من حديث السيدة عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المسند) : «بيت أبي بكر» .(11/236)
انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل اللَّه عليك من الخير والبركة؟
قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول اللَّه أخطب عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: انتظري، وعند ما خرجت خولة، قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه، فو اللَّه ما وعد وعدا فأخلفه لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فدخل أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على مطعم بن عدي، وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصب صاحبنا مدخله في دينك الّذي أنت عليه إن تزوج إليك، [قال أبو بكر- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- للمطعم بن عدي: أقول هذه تقول، قال: أنها تقول ذلك] [ (1) ] ، فخرج من عنده وقد أذهب اللَّه ما في نفسه من عدته التي وعده، فرجع، فقال لخولة: ادعى لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعته فزوجها إياه وعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- يومئذ بنت ست سنين، ثم خرجت، فدخلت على سودة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل اللَّه عليك من الخير والبركة؟ قالت:
وما ذاك؟ قالت: أرسلنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخطبك عليه، قالت: وددت أدخلي على أبي فاذكرى له ذلك، وكان شيخا كبيرا قد أدركته السن وتخلف عن الحج.
فدخلت عليه فحيته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقال: خولة بنت ابنة حكيم، قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلنى محمد بن عبد اللَّه أخطب عليه سودة، قال: كفؤ كريم، فماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذاك، قال:
ادعها إلى فدعتها، فقال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب أرسل يخطبك، وهو كفؤ كريم. أتحبين أن أزوجك به؟ قالت:
نعم، قال: أدعية لي، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد اللَّه بن زمعة من الحج، فجعل يحثى التراب في رأسه، فقال: بعد ما أسلم:
لعمرك إني لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سودة بنت زمعة.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المسند) .(11/237)
قالت عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج بالسنح، قالت: فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء فجاءتني أمي، وأنى لفي أرجوحة [بين عذقين] ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة، ولى جميمة [ (1) ] ، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودنى حتى وقفت عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلسني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك اللَّه لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء، وخرجوا وبني بي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتنا ما نحرت على جزور، ولا نحرت شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بجفنة، كان يرسل بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
__________
[ (1) ] خصلة شعر صغيرة.(11/238)
وأما تعليم اللَّه تعالى له جواب ما يسأله عنه السائلون في مقامه فيه الّذي قام صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة [ (1) ] ، وفي كتاب العلم [ (2) ] في باب الغضب في الموعظة والتعليم، وخرّج مسلم [ (3) ] كلاهما من حديث أبي أسامة عن بريد بن أبي بردة، عن أبي موسى- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: سئل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: سلوا عما شئتم، فقام رجل فقال: من أبي يا رسول اللَّه؟ قال: أبوك حذافة، فقام آخر، فقال: من أبي يا رسول اللَّه، قال: أبوك سالم مولى شيبة، فلما رأى عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ما في وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] حديث رقم (7291) باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنيه.
[ (2) ] حديث رقم (92) .
[ (3) ] حديث رقم (2360) باب (37) توقيره صلّى اللَّه عليه وسلّم وترك إكثار سؤاله، قال الإمام النووي: مقصود أحاديث الباب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهاهم عن إكثار السؤال، والابتداء بالسؤال عما لا يقع، وكره ذلك لمعان:
منها: أنه ربما كان في الجواب ما يكره السائل ويسوؤه، ولهذا أنزل اللَّه- تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، كما صرح به في الحديث في سبب نزولها.
ومنها: أنه ربما كان سببا لتحريم شيء على المسلمين فيلحقهم به المشقة، وقد بين هذا
بقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته.
ومنها: أنهم ربما أحفوه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمسألة والحفوة المشقة والأذى، فيكون ذلك سببا لهلاكهم.
(مسلم بشرح النووي) .(11/239)
من الغضب، قال: يا رسول اللَّه إنا نتوب إلى اللَّه، وخرّج مسلم في المناقب من حديث ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب [ (1) ] .
وخرّج البخاريّ [ (2) ] في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من حديث شعيب عن الزهري، ومن حديث عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، قال:
أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلّم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورا عظاما، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء، فليسأل عنه، فو اللَّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.
قال أنس: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأكثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقول: سلوني، قال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول اللَّه؟ قال: النار، فقام عبد اللَّه بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول اللَّه؟ قال: أبوك حذافة، قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني، قال: فبرك عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على ركبتيه، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا.
قال: فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قال عمر ذلك، ثم قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلى، فلم أر كاليوم في الخير والشر.
وزاد هشام بعقبه، قال ابن شهاب: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، قال: قالت أم عبد اللَّه بن حذافة لعبد اللَّه بن حذافة: ما سمعت بابن قط
__________
[ (1) ]
عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم،
حديث رقم (1337) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 329، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (7294) .(11/240)
أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد اللَّه بن حذافة: واللَّه لو أحلقنى بعبد أسود للحقته.
ولم يذكر مسلم في حديثه قوله، فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول اللَّه؟ قال: النار،
ولا ذكر البخاري قوله حين سمعوا ذلك من رسول اللَّه.
وخرّج مسلم من حديث عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، ومن حديث أبي اليمان قال: أخبرنا شعيب كلاهما، عن الزهري، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا الحديث، وحديث عبيد اللَّه معه غير أن شعيبا قال: عن الزهري، قال: أخبرنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، قال: حدثني رجل من أهل العلم أن أم عبد اللَّه قالت مثل حديث يونس.
وذكره البخاري [ (1) ] أيضا في كتاب الصلاة في باب وقت الظهر بعد الزوال [وقال جابر: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي بالهاجرة] [ (2) ] من حديث أبي اليمان، قال:
أخبرني شعيب عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك، وذكر الحديث بنحو ما تقدم، وقال فيه: فذكر أن فيها أمورا عظاما، وقال: فقام عبد اللَّه بن حذافة السهمي، وقال: وبمحمد نبيا، ولم يذكر فيه سؤال الرجل له، والّذي نفسي بيده ولا ذكر الزيادة التي زادها مسلم بعقبة.
وذكره البخاري [ (3) ] أيضا في كتاب العلم في باب من برك على ركبتيه عند العالم والمحدث، ولفظه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج، فقام عبد اللَّه بن حذافة، فقال: من أبي، فقال: أبوك حذافة، ثم أكثر أن يقول: سلوني،
فبرك عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على ركبتيه فقال: رضينا باللَّه ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبيا، فسكت.
__________
[ (1) ] حديث رقم (540) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (صحيح البخاري) .
[ (3) ] حديث رقم (93) .(11/241)
وخرّج مسلم [ (1) ] في المناقب من حديث النضر بن شميل، قال شعبة: حدثنا موسى بن أنس، عن أنس بن مالك قال: بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أصحابه شيء، فخطب، فقال: عرضت عليّ الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، قال: فما أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أشد منه، قال: فغطوا رءوسهم وله خنين، قال: فقام عمر، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا.
قال: فقام ذلك الرجل، فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان، قال: فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ (2) ] .
وخرّجه أيضا من حديث روح بن عبادة [ (3) ] قال: حدثنا شعبة، قال:
أخبرني موسى بن أنس، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل: يا رسول اللَّه من أبي؟ قال: أبوك فلان، قال: فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تمام الآية.
وخرجه البخاري [ (4) ] في التفسير من حديث منذر بن الوليد بن عبد الرحمن ابن الجارود أخبرنا أبي، حدثنا شعبة، عن موسى بن أنس، عن أنس، قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، قال: فغطى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجوههم ولهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، رواه أبو النضر وروح ابن عبادة، عن شعبة، ذكره في تفسير سورة المائدة.
__________
[ (1) ] باب (37) توقيرة صلّى اللَّه عليه وسلّم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو ما لا يتعلق به تكليف، حديث رقم (2359) .
[ (2) ] المائدة: 101.
[ (3) ] حديث رقم (135) من الباب السابق.
[ (4) ] تفسير سورة المائدة، باب (12) لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (4621) .(11/242)
وخرّج في كتاب الاعتصام [ (1) ] من حديث روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني موسى بن أنس، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل: يا رسول اللَّه من أبي، قال: أبوك فلان، قال: ونزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية.
وخرّج مسلم [ (2) ] في المناقب من حديث عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن الناس سألوا نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة، فحرج ذات يوم، فصعد المنبر، فقال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم، فلما سمع ذلك القوم، أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر.
قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكى، فأنشأ رجل من المسجد كان يلاحى، فيدعى لغير أبيه، قال: يا نبي اللَّه، من أبى؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا عائذا باللَّه من سوء الفتن.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لم أر كاليوم قط في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط.
وخرّجه أيضا من حديث خالد يعني ابن الحارث [ (3) ] ، ومحمد بن بشار حدثنا محمد بن أبي عدي كلاهما عن هشام.
وفي حديث معتمر قال: سمعت أبي، قالا جميعا: حدثنا قتادة عن أنس بهذه القصة.
وخرّج البخاري [ (4) ] في كتاب الدعاء في باب التعوذ من الفتن من حديث هشام، عن قتادة، عن أنس قال: سألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة،
__________
[ (1) ] باب (3) ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ حديث رقم (7295) .
[ (2) ] باب (37) توقيره صلّى اللَّه عليه وسلّم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ألا يتعلق به بتكليف، حديث رقم (137) .
[ (3) ] الحديث الّذي يلي حديث رقم (137) ، بدون رقم.(11/243)
فغضب، فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم، فجعلت انظر يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكى، فإذا رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي اللَّه من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، نعوذ باللَّه من سوء الفتن.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار، حتى رأيتهما وراء الحائط.
وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
وفي حديث سعيد حدثنا قتادة أن أنسا حدثهم عن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا، وقال:
عائذا باللَّه من سوء الفتن، أو قال: أعوذ باللَّه من سوء الفتن.
ومن حديث معتمر عن أبيه قال قتادة: أن أنسا حدثهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا، وقال: عائذا باللَّه من شر الفتن.
وذكره البخاري [ (1) ] أيضا في كتاب الصلاة في باب رفع البصر إلى الإمام من حديث محمد بن سنان حدثنا فليح، حدثنا هلال بن علي عن أنس بن مالك، قال: صلى لنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم رقى، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، ثم قال: لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ثلاثا، وذكره في كتاب الرقاق [ (2) ] .
قال أبو نعيم فأظهر صلّى اللَّه عليه وسلّم نعمة اللَّه- تعالى- لديه في تعليمه إياه جواب سؤال السائلين لو سألوه في مقامه ذلك، فلو سئل لورد جواب مسألتهم حسب ما سبق من اللَّه له الوعد به.
__________
[ () ] (4) حديث رقم (6362) . وقولة: إذا لاحى بمهملة خفيفة أي خاصم، وفي الحديث: أن غضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يمنع من حكمه، فإنه لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، وفيه فهم عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وفضل عمله. (فتح الباري) .
[ (1) ] حديث رقم (749) .
[ (2) ] باب (18) القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (6468) .(11/244)
فالفضيلة بموعود اللَّه له تأتيه، وإن لم يسأل، فزاده اللَّه بها بصيرة وثقة بربه- تعالى، وازداد المؤمنون إيمانا، وثباتا على ما عهدوا من صدق دعوته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ابن عبد البر: وأما قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إني رأيت الجنة، ورأيت النار، فالآثار في رؤيته لهما كثيرة، وقد رآهما مرارا على ما جاءت به الآثار عنه، وعند اللَّه علم كيفية رؤيته لهما، فممكن أن يمثلا له فينظر إليهما بعيني وجهه كما مثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار في الإسراء فنظر إليه، وجعل يخبرهم عنه، وممكن أن يكون ذلك برؤية القلب، والظاهر هو أنه رأى الجنة والنار رؤية عين، وتناول من الجنة عنقودا، ويؤيد ذلك قوله فيه: لم أر كاليوم منظرا قط، وحق النظر إذا أطلق، والرؤية أن لا يتبعوا بهما رؤية العين لا يدل بدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان.
وأما إشارته إلى أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى أنه لم ينس بعد ذلك شيئا حفظه منه
فخرّج البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة، وقال النسائي في سياقته عن سفيان قال: حدثنا الزهري، قال: سمعت أبا هريرة يقول، قال مسلم في سياقته عن سفيان، عن الزهري، عن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول:، وقال البخاري في سياقته عن سفيان حدثنا الزهري.
أنه سمعه من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة، قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واللَّه الموعد أنني كنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال النسائي: أصحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال مسلم: أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، وكان المسلمون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم،
وقال: من يبسط رداءه، حتى أقضى مقالتي فلا ينسى شيئا سمعه منى، فبسطت بردة(11/245)
كانت على،
قال النسائي: حتى قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته، ثم قبضتها إلى.
وقال مسلم: فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه، ثم ضممته إلي.
قال البخاري والنسائي: فو الّذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا، ولم يقل مسلم:
فو الّذي بعثه بالحق. قال: فما نسيت شيئا سمعته منه.
ذكر النسائي [ (1) ] هذا الحديث في كتاب العلم في باب حفظ العلم، وذكره مسلم [ (2) ] في كتاب المناقب.
وذكره البخاري [ (3) ] في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة في باب الحجة على من قال إنّ أحكام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ظاهرة، وما كان بعضهم يغيب عن مشاهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمور الإسلام.
وخرّجه مسلم [ (4) ] أيضا من حديث معن، عن مالك، ومن حديث عبد الرزاق، قال: أخبرنا معتمر- كلاهما- عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من بسط ثوبه إلى آخره.
وخرجه البخاري [ (5) ] في كتاب الحرث والمزارعة في باب ما جاء في الغرس، من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث واللَّه الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله كان يشغلهم الصفق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون.
__________
[ (1) ] لعله في الكبرى.
[ (2) ] باب (35) من فضائل أبي هريرة الدوسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2492) .
[ (3) ] حديث رقم (7354) .
[ (4) ] الحديث الّذي يلي حديث رقم (2492) ، بدون رقم.
[ (5) ] حديث رقم (2350) .(11/246)
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما: لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئا أبدا، فبسطت نمرة ليس على ثوب غيرها حتى قضى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فو الّذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومى هذا، واللَّه لولا آتيان في كتاب اللَّه ما حدثتكم شيئا أبدا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله: الرحيم.
وخرّج البخاري [ (1) ] والنسائي من حديث مالك عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب اللَّه ما حدثت حديثا، ثم يتلون إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
وقال النسائي: ويقول على أثر الآيتين إن إخواننا من الأنصار ... الحديث، وقال فيه: فيحضر ما لا يحضرون، ذكره البخاري في كتاب العلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 285، كتاب العلم، باب (42) حفظ العلم، حديث رقم (118) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 285، كتاب العلم، باب (42) حفظ العلم، حديث رقم (118) قال الحافظ في (الفتح) : وقد روى البخاري في (التاريخ) ، والحاكم في (المستدرك) من حديث طلحة بن عبيد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- شاهدا لحديث أبى هريرة هذا، ولفظه:
لا أشك أنه سمع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما لا تسمع، وذلك أنه كان مسكينا لا شيء له، ضيفا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
واخرج البخاري في (التاريخ) ، والبيهقي في المدخل، من حديث محمد بن عمارة بن حزم، أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلا، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس.(11/247)
وخرّج مسلم بعد حديث سفيان بن عيينة المفتتح به، وبعد ما ذكر من حديث مالك، ومعمر عن الزهري حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء، فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمعني، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضى سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يسرد الحديث كسردكم [ (1) ] .
قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال: يقولون: أن أبا هريرة قد أكثر واللَّه الموعد، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون بمثل أحاديثه، وسأحدثكم عن ذلك إن إخوانه من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم، وإن إخوانه من المهاجرين، كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا،
ولقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما: أيكم يبسط ثوبه، فيأخذ منى حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينسى شيئا سمعه، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به، ولولا آيتان أنزلهما اللَّه- عز وجل- في كتابه ما حدثت شيئا أبدا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى [ (2) ] إلى آخر الآيتين [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 86، كتاب فضائل الصحابة، باب (35) من فضائل أبي هريرة الدوسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حديث رقم (2492) .
[ (2) ] البقرة: 159- 160، وتمامها: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 286- 287، كتاب فضائل الصحابة باب (35) من فضائل أبي هريرة الدوسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2492) .(11/248)
وخرّج في المناقب [ (1) ] بعد ما تقدم له من الروايات في هذا الباب من حديث أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا.
وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون،
وقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث يحدثه:
أنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضى مقالتي هذه، ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، الحديث الّذي يلي رقم (2493) ، بدون رقم، وآخر «يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنحو حديثهم قوله: كنت أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ملء بطني» أي ألازمه وأقنع بقوتي، ولا أجمع مالا لذخيرة ولا لغيرها، ولا أزيد على قوتي.
والمراد من حيث حصل القوت من الوجوه المباحة، وليس هو من الخدمة بالأجرة، وقوله: «يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث واللَّه الموعد» معناه فيحاسبنى إن تعمدت كذبا، ويحاسب من ظن بي السوء وقوله: «يشغلهم، الصفق بالأسواق» هو بفتح الياء من يشغلهم، وحكى ضمها، وهو غريب. والصفق: هو كناية عن التبايع، وكانوا يصفقون بالأيدي من المتبايعين بعضها على بعض. والسوق مؤنثة، ويذكر وسميت به لقيام الناس فيها على سوقهم.
وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بسط ثوب أبي هريرة. قوله: «كنت أسبح فقام قبل أن أقضى سبحتي» معنى أسبح: أصلى نافلة، وهي السبحة بضم السين، قبل:
المراد هنا صلاة الضحى، وقوله: «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» أي يكثره ويتابعه واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم (شرح النووي) .(11/249)
أقول، فبسطت نمرة على، حتى إذا قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك من شيء [ (1) ] .
وأخرجه النسائي أيضا في كتاب العلم في باب حفظ العلم من حديث شعيب عن الزهري.
وخرج البخاري في- كتاب العلم- من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قلت: يا رسول اللَّه، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال: ابسط رداءك، فبسطته فغرف بيده، قال: هلم، فضممته، فما نسيت شيئا بعد [ (2) ] .
ومن حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال:
حفظت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعاءين، فأما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته قطع هذا الحلقوم [ (3) ] .
وخرج في كتاب العمل في الصلاة- في باب تفكر الرجل في الشيء في الصلاة، من حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري قال: قال أبو هريرة:
يقول الناس أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلا، فقلت: بم قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 361، كتاب البيوع وقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] ، وقوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ [البقرة: 282] ، باب (1) ما جاء في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 10- 11] ، وقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء:
29] ، حديث رقم (2047) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 286، كتاب العلم، باب (42) حفظ العلم، حديث رقم (119) .
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (120) .(11/250)
البارحة في العتمة؟ فقال: لا أدري، فقلت: ألم تشهدها؟ قال: بلى، قلت:
لكن أنا أدرى، فقرأ بسورة كذا وكذا [ (1) ] .
وخرّج الحاكم من حديث إسماعيل بن أمية أن محمد بن قيس بن مخرمة، حدثه أن رجلا جاء زيد بن ثابت، فسأله عن شيء، فقال: عليك بأبي هريرة، فإنه بينا أنا، وأبو هريرة، وفلان في المسجد ذات يوم ندعو اللَّه، ونذكر ربنا، خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى جلس إلينا، فقال: عودوا إلى الّذي كنتم فيه، فقال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يؤمن على دعائنا، قال: ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللَّهمّ إني أسألك مثل الّذي سألك صاحباي هذان، أسألك علما لا ينسى، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: آمين، فقلنا: يا رسول اللَّه، ونحن نسألك علما لا ينسى، فقال: سبقكما بها الدوسيّ،
قال الحاكم: صحيح الإسناد [ (2) ] .
ومن حديث زيد الأحوص عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبو هريرة وعاء العلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 115- 116، كتاب العمل في الصلاة، باب (18) يفكر الرجل الشيء في الصلاة، وقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: إني لأجهز جيشي وانا في الصلاة، حديث رقم (1223) ، وفيه الإشارة الى سبب إكثاره، وأن كان المهاجرين والأنصار كان يشغلهم المعاش، وهذا يدل على أنه يقول هذا المقالة أما ما يريد أن يحدث به، مما يدل على صحة إكثاره، وعلى السبب في ذلك، وعلى سبب استمراره، وعلى التحديث، قوله: «البارحة» أي أقرب ليلة مضت، وفي القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة، وشدة إتقانه وضبطه، بخلاف غيره، وفي هذه القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة، وشاهد الترجمة دلالة الحديث على عدم ضبط ذلك الرجل، كأنه اشتغل بغير أمر الصلاة حتى نسي السورة التي قرئت، أو دلالته على ضبط أبي هريرة، كأنه شغل فكرة بأفعال الصلاة حتى ضبطها وأتقنها كذا وذكر الكرماني هذين الاحتمالين، وبالأول جزم غيره، واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 582، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6158) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : حماد بن شعيب ضعيف.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6159) وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .(11/251)
وقال وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وقال هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن سعيد بن الحسن، قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر حديثا عنه من أبي هريرة.
وقال جرير عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي حذيفة، قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال ابن عمر: أعيذك باللَّه أن تكون في شك مما يجيء به، ولكنه اجترأ وجبنا [ (2) ] .
وقال الربيع عن الشافعيّ: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6161) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6165) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .(11/252)
وأما حفظ عثمان بن أبي العاص [ (1) ] القرآن رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بعد نسيانه بضرب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدره
فخرّج النسائي من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، عن زيد بن الحكم، عن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول اللَّه إني لأنسى القرآن، قال:
فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدري، ثم قال: اخرج يا شيطان من صدر عثمان، فما نسيت شيئا بعد أن حفظته.
وأما هداية اللَّه تعالى أم أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما إلى الإسلام بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما كان ابنها يدعوها إلى ذلك فتأبى
فخرّج مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير، قال: حدثني أبو هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما، فأسمعتني في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أكره، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أبكى، قلت: يا رسول اللَّه إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتنى فيك ما أكره، فادع اللَّه أن يهدي أم أبي
__________
[ (1) ] هو عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي أبو عبد اللَّه، واستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الطائف، وأقره أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال ابن عبد البر: هو الّذي افتتح توج وإصطخر في زمن عثمان، قال: وهو الّذي أمسك ثقيفا عن الردة، قال لهم: يا معشر ثقيف! كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أولهم ارتدادا. (تهذيب التهذيب) : 7/ 117- 118، ترجمة رقم (270) مختصرا.(11/253)
هريرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اهد أم أبي هريرة،
فخرجت مستبشر بدعوة نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما جئت وصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشفة قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت، ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: قال:
فرجعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: أبشر قد استجاب اللَّه دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد اللَّه، وقال: خيرا.
قال: قلت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يحببني أنا وأمى إلى عبادة المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب عبيدك هذا يعنى أبا هريرة، وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين، فما خلف مؤمن يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني [ (1) ] ، وخرّجه البخاري في الأدب المفرد.
وأما سلامة منديل مر على وجهه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم تحرقه النار لما طرح فيها
فخرّج أبو نعيم [ (2) ] من حديث محمد بن رميح، قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة، حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد، قال: أتينا أنس بن مالك نسلم عليه، فقال: يا جارية، هلمي المائدة نتغدى، فأتته بها فتغدينا، ثم قال: يا جارية هلمي المنديل، فأتته بمنديل وسخ، فقال: يا جارية أسجرى التنور، فأوقدته، فأمر بالمنديل، فطرح فيه، فخرج أبيض كأنه اللبن.
فقلت: يا أبا حمزة! ما هذا؟ قال: هذا منديل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمسح به وجهه، وإذا اتسخ صنعنا به هكذا، لأن النار لا تأكل شيئا مر على وجوه الأنبياء- عليهم السلام.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النوري) : 16/ 284- 285، كتاب فضائل الصحابة، باب (35) من فضائل أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2491) .
[ (2) ] لم أجده.(11/254)
وأما نهضة بعير جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في مسيره بعد تخلفه وإعيائه عند ما نخسة الرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو ضربه
فخرّج البخاري [ (1) ] في كتاب الشروط من حديث أبي نعيم.
وخرّج مسلم [ (2) ] في كتاب البيوع من حديث عبد اللَّه بن نمير كلاهما، عن زكريا، عن عامر، قال: حدثني جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 35/ 393، كتاب الشروط، باب (4) إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، حديث رقم (2718)
قوله: «ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك»
كذا وقع هنا،
وقد رواه على بن عبد العزيز عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: «أتراني وإنما ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك حمالك» أخرجه أبو نعيم في (المستخرج) عن الطبراني عنه، وكذا أخرجه مسلم من طريق عبد اللَّه بن نمير عن زكريا، ولكن قال في آخره: «فهو لك»
وعليها اقتصر صاحب (العمدة) ،
ووقع لأحمد عن يحى القطان عن زكريا بلفظ قال: أضننت حين ماكستك، اذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه فهما لك،
وقوله: «ماكستك»
هو من المماكسة أي المناقصة في الثمن وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع كما تقدم قال ابن الجوزي: هذا من أحسن التكرم، لأن من باع شيئا هو في الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوض من الثمن بقي في قلبه من المبيع أسف على فراقه، كما قيل:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... نفائس من رب بهن ضنين
فإذا رد عليه المبيع مع ثمنه، ذهب الهم عنه وثبت فرحه، وقضيت حاجته، فكيف مع ما انضم إلى ذلك من الزيادة في الثمن؟! (فتح الباري) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 33- 34، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (715) ، قال الإمام النوري: وحديث جابر احتج به أحمد ومن وافقه في جواز بيع الدابة، ويشترط البائع لنفسه ركوبها، وقال مالك: يجوز ذلك إذا كانت مسافة الركوب قريبة، وحمل هذا الحديث على هذا، وقال الشافعيّ وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء قلت المسافة أو كثرت، ولا ينعقد البيع، واحتجوا بالحديث السابق في النهى عن-(11/255)
عنه، أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعاني، وضربه، فصار يسير لم يسر مثله، قال: بعنيه بأوقية، قال:
لا، ثم قال: بعينه بأوقية، فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم قال رجعت، فأرسل في أثرى. فقال:
أتراني ماكستك لأخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك،
هكذا سياقة مسلم.
ولم يذكر فيه البخاري، فأراد أن يسيبه، وقال في آخره ثم انصرفت، فأرسل على أثرى،
فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك.
وخرّجه النسائي من حديث يزيد، قال: أخبرنا زكريا عن عامر، عن جابر أنه كان يسير مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على جمل فأعيا ... الحديث، وقال فيه:
أتبيعه بأوقية، والأوقية أربعون درهما، وقال في آخره: إنما ماكستك لأخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهما لك، ذكره في الجهاد.
وخرج بعد حديثه من حديث عيسى بن يونس، عن زكريا، عن عامر، قال: حدثني جابر بن عبد اللَّه- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- بمثل حديث ابن نمير، وترجم البخاري على حديثه: باب اشتراء البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى، وقال بعد هذا الحديث: وقال شعبة: عن مغيرة، عن عامر، عن جابر: أفقرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ظهره إلى المدينة، وقال إسحاق: عن جرير، عن مغيرة: على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة.
وقال عطاء وغيره: ولك ظهره إلى المدينة، وقال محمد بن المنكدر [ (1) ] عن جابر شرط ظهره إلى المدينة، وقال زيد بن أسلم عن جابر: ولك ظهره حتى ترجع.
وقال أبو الزبير عن جابر: أفقرناك ظهره إلى المدينة، وقال الأعمش:
عن سالم، عن جابر، تبلغ عليه إلى أهلك، قال أبو عبد اللَّه: الاشتراء أكثر
__________
[ () ] بيع الثنيا، وبالحديث الآخر في النهى عن بيع وشرط، وأجابوا عن حديث جابر بأنها قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات: قالوا: ولأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع، قالوا: ويحتمل أن الشرط كان سابقا، فلم يؤثر، ثم تبرع صلّى اللَّه عليه وسلّم بإركابه. (شرح النووي) .
[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .(11/256)
وأصح عندي. وقال عبد اللَّه، وابن إسحاق عن وهب، عن جابر: واشتراه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأوقية، وتابعه زيد بن أسلم، عن جابر، وقال ابن جريح: عن عطاء وغيره، عن جابر: وأخذته بأربعة دنانير، وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة.
ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي، عن جابر وابن المنكدر، وأبو الزبير، عن جابر، وقال الأعمش: عن سالم، عن جابر، وفيه ذهب.
وقال أبو إسحاق: عن سالم، عن جابر بمائتي درهم، وقال داود بن قيس: عن عبد اللَّه بن مقسم، عن جابر اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال:
بأربعة أواق، وقال أبو نضرة، عن جابر: اشتراه بعشرين دينارا، وقول الشعبي: بأوقية أكثر [ (1) ] .
وخرّج البخاري [ (2) ] في كتاب الجهاد، ومسلم [ (3) ] في البيوع من حديث جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: غزوت مع
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 393- 394 كتاب الشروط، باب (4) إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، باقي روايات وسياقات الحديث رقم (2718) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 149- 150، كتاب الجهاد والسير، باب (113) استئذان الرجل الإمام لقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 62] ، حديث رقم (2967) .
قولة: «باب استئذان الرجل» أي من الرعية «الإمام» أي في الرجوع أو التخلف عن الخروج أو نحو ذلك. قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قال ابن التين: هذه الآية احتج بها الحسن على أنه ليس لأحد أن يذهب من العسكر حتى يستأذن الأمير، وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، كذا قال، والّذي يظهر أن الخصوصية في عموم وجوب الاستئذان، وإلا فلو كان ممن عينه الإمام، فطرأ له ما يقضى التخلف أو الرجوع، فإنه يحتاج إلى الاستئذان.(11/257)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلاحق بي وتحتى ناضح لي قد أعيا، وقال البخاري: قال:
فتلاحق بى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا على ناضح لنا قد أعيا فلا يكاد يسير، قال: فقال لي:
ما لبعيرك؟ قال: قلت: عليل، وقال البخاري: قال: قلت: عيى، قال:
فتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزجره، ودعا له فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير، قال: فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك، قال:
أفتبيعنه؟ قال: فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره، قال: فقلت: نعم، فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة، قال: فقلت يا رسول اللَّه:
أنى عروس فأستأذنته فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة حتى انتهيت، فلقيني
__________
[ () ] قوله في آخر هذا الحديث: «قال المغيرة: هذا في قضائنا حسن لا نرى به بأسا» هذا موصول بالإسناد المذكور إلى المغيرة وهو ابن مقسم الضبيّ أحد فقهاء الكوفة، ومراده بذلك ما وقع من جابر من اشتراط ركوب جمله إلى المدينة، وأغرب الداوديّ فقال: مراده جوازه زيادة الغريم على حقه، أن ذلك ليس خاصا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد تعقبه ابن التين بأن هذه الزيادة لم ترد في الطريق هنا، وهو كما قال.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 34- 36، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (110) .
قال الإمام النووي: واعلم أن في حديث جابر هذا فوائد كثيرة أحدها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في انبعاث جمل جابر، وإسراعه بعد إعيائه. الثانية: جواز طلب البيع، ممن لم يعرض سلعته للبيع. الثالثة: جواز المماكسة في البيع، وسبق تفسيرها.
والرابعة: سؤال الرجل الكبير أصحابه عن أحوالهم والإشارة عليهم بمصالحهم. الخامسة:
استحباب نكاح البكر. السادسة: استحباب ملاعبة الزوجين. السابعة: فضيلة جابر في أنه ترك حظ نفسه من نكاح البكر، واختار مصلحة أخواته بنكاح ثيب تقوم بمصالحهن. الثامنة:
استحباب الابتداء بالمسجد وصلاة ركعتين فيه عند القدوم من السفر. التاسعة: استحباب الدلالة على الخير. العاشرة: استحباب إرجاح الميزان فيما يدفعه. الحادية عشرة: أن أجرة وزن الثمن على البائع. الثانية عشرة: التبرك بآثار الصالحين لقوله: لا تفارقه زيارة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الثالثة عشرة: جواز تقدم بعض الجيش الراجعين بإذن الأمير. الرابعة عشرة: جواز الوكالة في أداء الحقوق ونحوها، وفيه غير ذلك مما سبق. واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (شرح النووي) .(11/258)
خالي، وقال البخاري: حتى أتيت المدينة، فلقيني خالي، فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعت فيه، قال: وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي حين استأذنته:
ما تزوجت؟ أبكرا أم ثيبا؟ فقلت له: تزوجت ثيبا، قال: أفلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك.
فقلت: يا رسول اللَّه توفى والدي أو استشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج إليهن مثلهن فلا تؤدبهن، ولا تقوم عليهنّ، فتزوجت ثيبا، لتقوم عليهنّ وتؤدبهن، قال: فلما تقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه، ورده على.
زاد البخاري بعد هذا، قال المغيرة: هذا في قضائنا حسن لا نرى به بأسا ترجم عليه البخاري باب استئذان الرجل الإمام لقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ الآية [ (1) ] ، وذكر القصة في أول كتاب الاستقراض، في باب من اشترى بالدين، وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته [ (2) ] .
__________
[ (1) ] النور: 62، وتمامها: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[ (2) ]
(فتح الباري) : 5/ 68، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب (1) من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته، حديث رقم (2385) ، ولفظه: حدثنا محمد بن يوسف- هو البيكندي- أخبرنا جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: «غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كيف ترى بعيرك؟ أتبيعه؟ قلت:
نعم، فبعته إياه، فلما قدم المدينة غدوت إليه بالبعير، فأعطاني ثمنه» .
قولة: «باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته» أي فهو جائز، وكأنه يشير إلى ضعف ما
جاء عن ابن عباس مرفوعا «لا أشترى ما ليس عندي ثمنه» وهو حديث أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سماك عن عكرمة عنه في أثناء حديث تفرد به شريك عن(11/259)
وخرّج مسلم [ (1) ] بعد حديث جرير، عن مغيرة حديث جرير، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: خرجنا من مكة إلى المدينة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وساق الحديث بقصته، وفيه ثم قال: بعنى جملك هذا، قال: قلت: لا بل هو لك. قال: لا بل بعنيه، قال: قلت: لا بل هو لك يا رسول اللَّه، قال: لا بل بعنيه.
قلت: فإن لرجل عليّ أوقية من ذهب فهو لك بها، قال: قد أخذته فبلغ به [ (2) ] إلى المدينة، قال: فلما قدمت المدينة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لبلال: أعطه أوقية من ذهب، وزده، قال: فأعطاني أوقية من ذهب، وزادني قيراطا.
__________
[ () ] سماك
واختلف في وصله، ثم أورد فيه حديث جابر في شرائه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جملة في السفر وقضائه ثمنه في المدينة، وهو مطابق للركن الثاني من الترجمة.
وحديث عائشة في شرائه صلّى اللَّه عليه وسلّم من اليهودي الطعام الى أجل، وهو مطابق للركن الأول، قال ابن المنير: وجه الدلالة منه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لو حضره الثمن ما أخره، وكذا ثمن الطعام لو حضره لم يرتب في ذمته دينا، لما عرف من عادته الشريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزمه إخراجه.
(فتح الباري) .
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 11/ 36، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (111) قوله: «فإن لرجل على أوقية من ذهب فهو لك بها، قال: قد أخذته به»
هذا قد يحتج به أصحابنا في اشتراط الإيجاب والقبول في البيع، وأنه لا ينعقد بالمعاطاة، ولكن الأصح المختار انعقاده بالمعاطاة يجوز هذا فلا يرد عليه، ولأن المعاطاة، إنما تكون إذا حضر العوضان فأعطى وأخذ، فاما إذا لم يحضر العوضان أو أحدهما، فلا بد من لفظ، وفي هذا دليل لأصح الوجهين عند أصحابنا، وهو انعقاد البيع بالكناية،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد أخذته به»
مع قول جابر: «هو لك» ، وهذان اللفظان كناية في
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لبلال: أعطه أوقية من ذهب وزده
«فيه جواز الوكالة في قضاء الديون وأداء الحقوق، وفيه استحباب الزيادة في أداء الدين وإرجاح الوزن. قوله «: فأخذه أهل الشام يوم الحرة» يعنى حرة المدينة، كان قتال ونهب من أهل الشام هناك سنة ثلاث وستين من الهجرة.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي مسلم: «فتبلغ عليه» .(11/260)
قال: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وكان في كيس لي، فأخذه أهل الشام يوم الحرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار، والحرار كثيرة في بلاد العرب، أكثرها حوالي المدينة والشام، والحرة التي وقعت فيها هذه الواقعة تقع في شرقى المدينة، اسمها حرة واقم، وكانت هذه الوقعة في خلال خلافة يزيد بن معاوية على أهل المدينة سنة (63) هـ حيث تولى الخلافة بعد وفاة معاوية سنة (60) وحتى توفى سنة (63) هـ، وكان موفور الرغبة في اللهو والقنص والنساء، وكان أيضا فصيحا كريما شاعرا، ولي ثلاث سنين: في السنة الأولى قتل الحسين، وفي السنة الثانية نهب المدينة وأباحها، وفي السنة الثالثة غزا الكعبة، وكان من أخبار يوم الحرة أن مسلم بن عقيل أمر عبد اللَّه بن عضاه الأشعري فمشى في خمسمائة حتى دنوا من ابن الغسيل [ابن حنظلة] وأصحابه، وأخذوا ينضحونهم بالنبل، فقال ابن غسيل: علام تستهدفون لهم؟ من أراد التعجل إلى الجنة فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال: اتعدوا إلى ربكم، فو اللَّه إني لأرجو أن تكونوا بعد ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إلى بعض، فاقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان ساعة من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حتى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه ويقول:
بعد لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى
فقتل ومعه أخوه لأمه، محمد بن ثابت، وقتل معه محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان بن الحكم، فقال: رحمك اللَّه فرب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها. وغلبت الهزيمة على أهل المدينة، وأباحها مسلم ثلاثا، يقتلون الناس، ويأخذون الأموال، فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدريّ حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشام، فجاء حتى اقتحم عليه الغار.
قال أبو سعيد: دخل إلى الشامي يمشى بسيفه، فانتضيت سيفي، ومشيت إليه لأرعبه، لعله ينصرف عنى، فأبى إلا الإقدام على، فلما رأيت أن قد جد، شمت سيفي ثم قلت له: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فقال لي: من أنت؟ للَّه أبوك فقلت: أنا أبو سعيد الخدريّ، قال: صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلت:
نعم، فانصرف عني. (أيام العرب في الإسلام) . 419- 420.(11/261)
وخرّج أيضا من حديث عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فتخلف ناضحي، وساق الحديث، قال فيه: فنخسه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال لي: اركب بسم اللَّه، وزاد أيضا قال: فما زال يزيدني، ويقول: واللَّه يغفر لك [ (1) ] .
وخرّج البخاري [ (2) ] من حديث ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، وغيره، يزيد بعضهم على بعض، لم يبلغه كلهم رجل منهم. عن جابر بن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 37، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (112) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 610، كتاب الوكالة، باب (8) وإذا وكل رجلا أن يعطي شيئا ولم يبين له كم يعطي، فأعطى ما يتعارفه الناس، حديث رقم (2309) .
قوله: «ولم يبلغه كلهم رجل منهم بعنه» ، أي ليس جميع الحديث عند واحد منهم بعينهن وإنما عند بعضهم منه ما ليس عند الآخر.
قوله: «على جمل سفال» بفتح المثلثة بعدها فاء خفيفة، هو البعير البطيء السير، يقال:
ثفال وثفيل، وأما الثفال بكسر أوله فهو ما يوضع تحت الرحى لينزل عليه الدقيق، وقال ابن التين: من ضبط الثفال الّذي هو البعير بكسر أوله فقد أخطأ.
وقوله: «أربعه دنانير» ، كذا للجميع، وذكره الداوديّ الشارح بلفظ «أربعة دنانير» ، وقال: سقطت الهاء لما دخلت الألف واللام، وذلك جائز فيما دون العشرة، وتعقبه ابن التين بأنه قول مخترع، لم يقله أحد غيره.
وقوله: «فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر» كذا لأبى ذر والنسفي بقاف، قال الداوديّ الشارح: يعنى خريطته، وتعقبه ابن التين بأن المراد قراب السفينة، وأن الخريطة لا يقال لها قراب.
قال ابن بطال: فيه الاعتماد على العرف، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يعين قدر الزيادة في قوله: «وزده» ، فاعتمد بلال على العرف، فاقتصر على قيراط، فلو زاد مثلا دينارا لتناوله مطلق الزيادة، ولكن العرف يأباه، كذا قال، وقد ينازعه في ذلك باحتمال أن يكون هذا القدر كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أذن في زيادته، وذلك القدر الّذي زيد عليه كأنه يكون أمره أن يزيد من يأمر له بالزيادة على كل دينار ربع قيراط، فيكون عمله في ذلك بالنص لا بالعرف. (فتح الباري) .(11/262)
عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فكنت على جمل ثقال، إنما هو في آخر القوم، فمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: من هذا؟ فقلت: جابر بن عبد اللَّه.
قال: مالك قلت إني على جمل ثقال، قال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم قال: أعطنيه، فضربه، فزجره فكان من ذلك المكان من أول القوم، قال:
بعنيه، قال: قلت: بل هو لك يا رسول اللَّه، فقال: بل بعنيه، قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة، فلما دنونا من المدينة أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟، قلت: تزوجت امرأة قد خلا منها، قال: فهلا جارية تلاعبها، وتلاعبك؟ قلت: إن أبي توفي، وترك بنات، فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها، قال: فذلك، فلما قدمنا المدينة قال: يا بلال اقضه، وزده، فأعطاه أربعة دنانير، وزاده قيراطا،
قال: لا تفارقني زيادة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر بن عبد اللَّه.
ذكره في كتاب الوكالة، وترجم عليه إذا وكل رجلا أن يعطى شيئا، ولم يتبين كم يعطي فأعطى على ما يتعارفه الناس.
وذكر مسلم [ (1) ] منه طرفا يسيرا من حديث ابن جريج عن عطاء، عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: قد أخذت جملك بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة لم يزد على هذا.
وخرّج أيضا من حديث حماد، قال: حدثنا أيوب عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أعيا بعيري، فنخسه، فوثب فكنت بعد ذلك أجبس خطامه لأسمع حديثه، فما أقدر عليه، فلحقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ولك ظهره إلى المدينة بعنيه فبعته منه بخمس أواق، قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: فلمّا قدمت المدينة أتيته به، فزادني أوقية ثم وهبه لي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 39، كتاب المساقاة، باب (21) البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (117) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (113) .(11/263)
وخرّج بعد حديث أبي الزبير هذا من حديث بشير بن عقبة، عن أبي المتوكل الناجي، عن جابر بن عبد اللَّه قال: سافرت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره، أظنه قال غازيا واقتصر الحديث، وزاد فيه: قال: يا جابر استوفيت الثمن؟ قلت: نعم، قال: لك الثمن، ولك الجمل [ (1) ] ، لك الثمن، ولك الجمل،
هكذا ذكره كما كتبناه.
وخرّج البخاري [ (2) ] من حديث عقيل، حدثنا أبو المتوكل الناجي قال: أتيت جابر بن عبد اللَّه الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فقلت له:
حدثني بما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: سافرت معه في بعض أسفاره، قال أبو عقيل: لا أدرى غزوة أم عمرة، فلما أن أقبلت قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من أحب أن يتعجل أهله فليتعجل، قال جابر: فأقبلنا وأنا على بعير لي أرمك ليس فيه شية، والناس من خلفي، فبينا أنا كذلك إذ قام على، فقال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا جابر استمسك، فضربه بسوط ضربة، فوثب البعير مكانه، فقال: أتبيع الجمل؟
قلت: نعم، فلما قدمنا المدينة ودخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط، فقلت له: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل، ويقول: الجمل جملنا، فبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أواق من ذهب،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (114) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 81- 82، كتاب الجهاد والسير، باب (49) من ضرب دابة غيره في الغزو، حديث رقم (2861) .
قوله: «من ضرب دابة غيره في الغزو» أي إعانة له رفقا به، قوله: «أرمك» ، براء، وكاف، وزن أحمر: ما خالط حمرته سواد، وقوله: «ليس فيها شية» بكسر المعجمة وفتح التحتانية الخفيفة، أي علامة، [وقال تعالى في وصف بقرة بنى إسرائيل: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها [البقرة:] المراد أنه ليس فيه لمعه من غير لونه، ويحتمل أن يريد ليس فيه عيب ويؤيد قوله: «والناس خلفي، فبينا أنا كذلك إذا قام على» لأنه يشعر بأنه أراد أنه كان قويا في سيره، لا عيب فيه من جهة ذلك حتى كأنه صار قدام الناس. فطرأ عليه حينئذ. الوقوف، قوله: «إذا قام علي» أي وقف فلم يسر من التعب. (فتح الباري) .(11/264)
فقال: أعطوها جابرا، ثم قال: استوفيت الثمن؟ قلت: نعم، قال: الثمن والجمل لك.
ذكره في كتاب الجهاد وترجم باب من ضرب دابة غيره في الغزو، وذكره مختصرا محذوف الإسناد في كتاب المظالم، وترجم عليه باب من عقل بعيرا على البلاط، أو في باب المسجد [ (1) ] .
قال كاتبه- يعنى مؤلفه-: وكانت قصة بعير جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- هذه التي أوردت من طرقها ما أمكن إيراده في غزوة ذات الرقاع [ (2) ] كما تقدم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 147- 148، كتاب المظالم، باب (26) من عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد، حديث رقم (2470) ، والبلاط: حجارة مفروشة كانت عند باب المسجد. وقوله: «فعقلت الجمل في ناحية البلاط» فإنه يستفاد منه جواز ذلك إذا لم يحصل به ضرر. (فتح الباري) .
[ (2) ] غزوة ذات الرقاع: اختلف أهل التاريخ فيها، متى كانت؟ فعند ابن إسحاق: بعد بني النضير سنه أربع، في شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى، وعند ابن سعد وابن حبان: في المحرم سنة خمس، وجزم أبو معشر: بأنها بعد بنى قريظة في ذي العقدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة الخامسة وأول التي تليها.
وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك ذكرها قبل خيبر، فلا أدري هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار البيهقي، على أن، أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها.
وأما تسميتها بذات الرقاع، فلأنهم رقعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام، وقيل: لشجرة في ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع، وقيل: الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، وكأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك، وتميل غير ذلك.
قال السهيليّ: وأصحّ من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري.
قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة ونحن ستة نفر، وبيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا،(11/265)
وقال الواقدي- وقد ذكر غزوة ذات الرقاع-: ثم رحنا مبردين. قال جابر: فإنا لنسير إذ أدركني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال مالك: يا جابر، فقلت: يا رسول اللَّه جدي أن يكون لي بعير سوء، وقد مضى الناس وتركوني، قال:
فأناخ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعيره.
فقال: أمعك ماء؟ فقلت: نعم، فجئته بقعب من ماء، فنفث فيه، ثم نضح رأسه وظهره وعلى عجزه، ثم قال: أعطني عصا، فأعطيته عصا، أو قال: قطعت له عصا من شجرة، قال: ثم نخسة نخسات، ثم قرعه بالعصا، ثم قال: اركب يا جابر، فركبت.
قال: فخرج، والّذي بعثه بالحق يواهق [ (1) ] ناقته مواهقة ما تفوته ناقته، قال: وجعلت أتحدث مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال لي: يا أبا عبد اللَّه أتزوجت، قلت: نعم، قال: بكرا أم ثيبا؟ فقلت: ثيبا، فقال: ألا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ فقلت: يا رسول اللَّه- بأبي وأمى، إن أبي أصيب يوم أحد، فترك تسع بنات فتزوجت امرأة جامعة تلم شعثهن، وتقوم عليهنّ، قال: أصبت.
ثم قال: أما أنا لو قدمنا صرارا [ (2) ] أمرنا بجزور، فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها، قال: قلت: واللَّه يا رسول اللَّه ما لنا نمارق، قال: أما إنها ستكون، فإذا قدمت فاعمل عملا كيسا.
قال: قلت: أفعل ما استطعت، قال: ثم قال: بعني جملك هذا يا جابر، قلت: بل هو لك يا رسول اللَّه، فقال: لا بل بعنيه، قال: قلت: نعم سمنى به، قال: فإنّي آخذه بدرهم، قال: قلت: تغبنني يا رسول اللَّه؟ قال: لا
__________
[ () ] ونقبت قدماي، وسقطت أظافري، فلكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع.
(المواهب اللدنية) : 1/ 433- 435 مختصرا.
[ (1) ] أي يباريها في السير ويماشيها، ومواهقة الإبل: مد أعناقها في السير. (النهاية) : 4/ 234.
[ (2) ] صرار: بكسر أوله وآخره مثل ثانيه، وهي الأماكن المرتفعة التي لا يعلوها الماء، يقال لها صرار، وقيل: صرار موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. (معجم البلدان) : 3/ 452، موضع رقم (7505) .(11/266)
لعمري. قال جابر: فما زال يزيدني درهما حتى بلغ أربعين درهما وأوقية، فقال: أما رضيت، فقلت هو لك، قال: فظهره لك حتى تقدم المدينة.
قال: ويقال: إنه قال: آخذه منك بأوقية، وظهره لك، فباعه على ذلك، قال: فلما قدمنا صرارا أمر بجزور، فنحرت وأقام به يومه، ثم دخلنا المدينة.
قال جابر: فقلت للمرأة: قد أمرنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أعمل عملا كيسا، قالت:
سمعا وطاعة لأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدونك فأفعل، قال: ثم أصبحت، فأخذت برأس الجمل، فانطلقت حتى أنخته عند حجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجلست حتى خرج.
فلما خرج قال: أهذا الجمل؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه الّذي اشتريت، فدعا بلالا، فقال: اذهب فأعطه أوقية، وخذ برأس جملك يا بن أخي، فانطلقت مع بلال.
فقال: أنت ابن صاحب الشعب، فقلت: نعم، فقال: لأطيبنك ولأزيدنك، فزادني قيراطا أو قيراطين.
قال: فما زال يثمر ذلك ويزيدنا اللَّه به، ونعرف موضعه، حتى أصيب هاهنا قريبا يعنى الجمل.
هكذا ساق الواقدي هذه القصة في مغازيه كما كتبتها [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 399- 401، غزوة ذات الرقاع.(11/267)
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم في فرس أبي طلحة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى صار لا يجاريه فرس بعد أن كان قطوفا بطيئا
فخرّج البخاري [ (1) ] من حديث غندر نا شعبة، قال: سمعت قتادة عن أنس ابن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لنا يقال له: مندوب، فقال: ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا، ذكره في الجهاد في باب اسم الفرس والحمار، وخرّجه في كتاب الهبة [ (2) ] من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 73، كتاب الجهاد، باب (46) اسم الفرس والحمار، حديث رقم (2857) .
وقوله: «باب اسم الفرس والحمار» ، أي مشروعية تسميتهما، وكذا غيرهما من الدواب بأسماء تخصها غير أسماء أجناسها، قد اعتنى من ألف في السيرة النبويّة بسرد ما ورد في الأخبار من خيله صلّى اللَّه عليه وسلّم وغير ذلك من دوابه، وفي الأحاديث الواردة في هذا الباب ما يقوى قول من ذكر أنساب بعض الخيول العربية الأصيلة، لأن الأسماء توضع للتمييز بين أفراد الجنس.
(فتح الباري) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 5/ 301، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (33) من استعار من الناس الفرس، حديث رقم (2627) . قوله: «من استعار من الناس الفرس» والبخاري أضاف العارية إلى الهبة، لأنها هبة المنافع، والعارية بتشديد التحتانية ويجوز تخفيفها. قال الأزهري:
مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، ومنه سمى العيار لأنه يكثر الذهاب والمجيء وقال الجوهري:
منسوب إلى العار، لأن طلبها عار، وتعقب بوقوعها من الشارع في مثل ذلك لبيان الجواز، وهي في الشرع هبة المنافع دون الرقبة، ويجوز توقيتها، وحكم العارية إذا تلفت في يد المستعير أن يضمنها إلا فيما إذا كان ذلك من الوجه المأذون فيه، هذا قول الجهور [] ، عن المالكية والحنفية: إن لم يتعد لم يضمن.
قوله: «كان فزع بالمدينة» أي خوف من عدو، قوله: «من أبي، قيل» سمي بذلك من الندب، وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح.
قوله: «إن وجدناه لبحرا»
قال الأصمعي: يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجري، أو لأنه جريه لا ينفذ كما لا ينفذ البحر (فتح الباري) مختصرا.(11/268)
حديث آدم، عن شعبة، عن قتادة قال: سمعت أنسا يقول: كان فزع بالمدينة، واستعار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا من أبي طلحة، يقال له: المندوب، فركب فلما رجع قال: ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا، ترجم عليه باب من استعار من الناس الفرس والدابة.
وخرّجه أيضا في باب مبادرة الإمام عند الفزع [ (1) ] من حديث يحيى، عن شعبة، حدثني قتادة عن أنس بن مالك- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كان بالمدينة فزع فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة، فقال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا.
وخرّج مسلم في المناقب [ (2) ] من حديث وكيع، حدثنا شعبة عن قتادة، عن أنس، قال: كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة، يقال له:
مندوب، فركب، فقال: ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا، وخرجه من حديث محمد بن جعفر، وخالد بن الحارث عن شعبة بهذا الإسناد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 151- 152، كتاب الجهاد والسير، باب (116) مبادرة الإمام عند الفزع، حديث رقم (2968) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 74، كتاب الفضائل، باب (11) في شجاعة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقدمه في الحرب، حديث رقم (49) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق، بدون رقم، قال الإمام النووي: وفيه فوائد: منها بيان شجاعته صلّى اللَّه عليه وسلّم من شدة عجلته في الخروج الى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس، وفيه بيان عظيم بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان يبطأ، وهو معنى قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: وجدناه بحرا أي واسع الجرى. وفيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك، وفيه جواز العارية وجواز الغزو على الفرس المستعار لذلك وفيه استحباب تقلد السيف في العنق، واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب، ووقع في هذا الحديث تسميه هذا الفرس مندوبا، قال القاضي: وقد كان في أفراس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مندوب، فلعله صار إليه بعد أبي طلحة، هذا كلام القاضي، قال الإمام النووي:
ويحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم.(11/269)
وخرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس ابن مالك- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس.
وقال البخاري: الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت.
وقال البخاري: فاستقبلهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة ما عليه سرج، في عنقه سيف، قال: وجدنا بحرا، وإنه لبحر، قال: وكان فرسا ثبطا، لم يذكر البخاري: وكان فرسا ثبطا.
وخرّج البخاري في كتاب الجهاد [ (3) ] في باب إذا فزعوا في الليل من حديث حماد يعنى ابن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة، فسمعوا صوتا، قال: فتلقاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على فرس لأبي طلحة عرى وهو متقلد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وجدته بحرا يعنى الفرس.
وخرّج في باب الحمائل [ (4) ] وتعليق السيف بالعنق، هذا الحديث بهذا الإسناد، ولفظه عن أنس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس، وأشجع الناس،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 118، كتاب الجهاد والسير، باب (82) الحمائل وتعليق السيف بالعنق، حديث رقم (2908) . مقصود المصنف من هذه التراجم أن يبين زي السلف في آلة الحرب، وما سبق استعماله في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليكون أطيب للنفس وأنفى للبدعة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 73، كتاب الفضائل، باب (11) في شجاعة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقدمه للحرب، حديث رقم (2307) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 201، كتاب الجهاد، باب (165) إذا فزعوا بالليل، حديث رقم (3040) ، أي ينبغي لأمير العسكر أن يكشف الخبر بنفسه أو بمن يند به لذلك.
[ (4) ] سبق تخريجة.(11/270)
ولقد فزع أهل المدينة، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم
قال: وجدناه بحرا،
وقال: إنه لبحر، وذكره في باب الشجاعة في الحرب [ (1) ] ، وفي باب ركوب الفرس العري [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث يزيد بن زريع حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة كان يقطف [ (3) ] ، أو كان فيه قطاف [ (4) ] ، فلما رجع
قال: وجدنا فرسكم هذا بحرا،
وكان بعد ذلك لا يجاري.
ذكره في كتاب الجهاد، وترجم عليه باب الفرس القطوف، وخرجه أيضا في باب السرعة والركض في الفزع من حديث جرير بن حازم عن محمد، عن أنس بن مالك قال: فزع الناس، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة بطيئا، وخرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه،
فقال: لم تراعوا إنه لبحر فما سبق بعد ذلك اليوم.
__________
[ (1) ] حديث رقم (2820) .
[ (2) ] حديث رقم (2866) .
[ (3) ] حديث رقم (2867) ، القطوف: أي البطيء المشي.
[ (4) ] حديث رقم (2969) .(11/271)
وأما فراهة فرس جعيل [ (1) ] بعد عجفها وتأخر مسيرتها وبيعة نتاجها بمال جم بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له فيها بالبركة
خرّج البيهقي [ (2) ] من حديث رافع بن سلمة بن زياد الأشجعي، قال: حدثني عبد اللَّه بن أبي الجعد الأشجعي، عن جعيل، قال: غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة.
قال: فكنت في أخريات الناس، فلحقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: سر يا صاحب الفرس، فقلت: يا رسول اللَّه عجفاء ضعيفة، قال: فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مخفقة معه، فضربها بها، وقال: اللَّهمّ بارك له فيها، فقال: فلقد رأيتني وأنا أمسك في رأسها أن نتقدم الناس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.
__________
[ (1) ] هو جعيل بن زياد ويقال: ابن حمزة الأشجعي، روى عن عبد اللَّه بن أبي الجعد حديثا حسنا في أعلام النبوة، قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض غزواته على فرس لي ضعيفة عجفاء في أخريات الناس فذكر الحديث. له ترجمة في: (الإستيعاب) : 1/ 246، ترجمة رقم (330) ، (الإصابة) : 1/ 490، ترجمة رقم (1173) ، (تهذيب التهذيب) : 2/ 94، ترجمة رقم (172) .
[ (2) ] (دلائل النبوة) : 6/ 153.(11/272)
وأما ضربه برجله صلّى اللَّه عليه وسلّم ناقة لا تكاد تسير فصارت سابقة
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو قال فتى، فقال: إني تزوجت امرأة، فقال: هل نظرت إليها فإن في أعين الأنصار شيئا؟
قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ فذكر شيئا قال: وكأنكم تنحتون الذهب والفضة من عرض هذا الجبل؟ ما عندنا شيء نعطيكه، ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس، وبعث الرجل فيهم، فأتاه، فقال: يا رسول اللَّه قد أعيتني ناقتي أن تنبعث، قال: فناوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده كالمعتمد عليه للقيام، فأتاه، فضربها برجله، قال أبو هريرة: والّذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق القائد.
قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح [ (2) ] عن يحيى بن معين، عن مروان.
قال كاتبه [ (3) ] : خرّج مسلم في النكاح من حديث ابن أبي عدي حدثنا سفيان، عن يزيد بن كيسان بن أبي حازم، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب، فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا.
قال مسلم: وحدثني يحيى بن معين، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 6/ 154.
[ (2) ] رواه مسلم في كتاب النكاح، باب (12) ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد النكاح، حديث رقم (75) .
[ (3) ] هو التقي المقريزي- رحمه اللَّه.(11/273)
قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال على أربع أواق، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، قال: فبعث بعثا إلى بني عبس وبعث ذلك الرجل فيهم،
هكذا سياقة مسلم، ولم يذكر فيه قصة الناقة.
وقد خرّج الحاكم [ (1) ] هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية [ (2) ] ، قال:
حدثنا أبو إسماعيل الأسلمي أن أبا حازم حدثه عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رجلا أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار على ثماني أواق، فتفزع لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل؟ هل رأيتها فإن في عيون الأنصار شيئا.
قال: قد رأيتها؟ قال: ما عندنا شيء ولكنا سنبعثك في بعث وأنا أرجو أن تصيب خيرا،
فبعثه في ناس إلى ناس من بني عبس، فأمر لهم بناقة، فحملوا عليها متاعهم، فلم ترم إلا قليلا حتى بركت، فأعيتهم أن تنبعث، فلم يكن في القوم أصغر من الّذي تزوج، فجاء إلى نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مستلق في المسجد، فقام عند رأسه كراهية أن يوقظه، فانتبه نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا نبي اللَّه إن الّذي أعطيتنا أعيينا أن نبعثه، فناوله نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمينه وأخذ رداءه بشماله، فوضعه على عاتقه، وانطلق يمشى حتى أتاها، فضربها بباطن قدمه، والّذي نفس أبي هريرة بيده لقد كانت بعد ذلك تسبق القائد، وإنهم نزلوا بحضرة العدو، وقد أوقدوا النيران، فأحاطوا بهم، وتفرقوا عليهم، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وأن اللَّه- تعالى- هزمهم وأسر منهم.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، بهذه السياقة.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 193- 194، كتاب النكاح، حديث رقم (2729) ، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط البخاري ومسلم وأبو إسماعيل هو بشير بن سلمان، أخرج مسلم بعضه.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .(11/274)
إنما خرّج مسلم من حديث شعبة عن أبي إسماعيل، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: أن رجلا تزوج، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هلا نظرت إليها
فقط، وقال أبو إسماعيل هذا هو بشير بن سليمان [ (1) ] ، وقد احتجا جميعا به.
قال كاتبه: بشير بن سليمان أبو إسماعيل هذا يروي عن أبي حازم الأشجعي وخيثمة بن يوسف الفرياني، وطائفة، وثقة ابن معين وأحمد بن حنبل، خرج له مسلم والأربعة، وخرج له البخاري خارج الصحيح أظنه في كتاب (الأدب المفرد) [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هو بشير بن سليمان الكندي أبو إسماعيل الكوفي، روى عن أبي حازم الأشجعي، وخيثمة بن أبي خيثمة، وسيار أبي الحكم، وقيل: عن سيار أبي حمزة، ومجاهد وعكرمة وغيرهم، وعنه ابنه الحكم والسفيانان وابن المبارك، وابن فضيل، ووكيع والفرياني، وأبو نعيم وغيرهم، قال أحمد وابن معين والعجليّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح حديث، وهو أحب إليّ من يزيد بن كيسان، قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان شيخا قيل الحديث وقال البزار: حدث بغير حديث لم يشاركه فيه أحد وذكره ابن حبان في (الثقات) . (تهذيب التهذيب) : 1/ 408 ترجمة رقم (858) .
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.(11/275)
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لبعير الرجل أن يحمله اللَّه عليه فمكث عنده عشرين سنة
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث جعفر بن عوف، قال: أخبرنا الأعمش عن مجاهد أن رجلا اشترى بعيرا، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يبارك لي فيه، فقال: اللَّهمّ بارك له فيه، فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر، فأتي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه إني اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يبارك لي فيه، فقال: اللَّهمّ بارك له فيه، فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا، فأتي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه إني اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يحملني عليه، قال: فقال اللَّهمّ احمله عليه، قال: فمكث عنده عشرين سنة.
قال البيهقي: هذا مرسل، ودعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين، ثم سأله صاحب البعير الدعاء أن يحمله عليه، فوقعت الإجابة [إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل زكاة وأطيبها وأنماها] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 6/ 154- 155.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(11/276)
وأما ذهاب الجوع عن فاطمة الزهراء- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج أبو نعيم [ (1) ] ، والبيهقي [ (2) ] من حديث مسهر بن عبد الملك بن مسلع الهمدانيّ، عن عتبة أبي معاذ البصري عن عكرمة [مولى ابن عباس] ، عن عمران بن الحصين- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أقبلت فاطمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، فوقعت بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد ذهب الدم من وجهها، وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ادني يا فاطمة، فدنت حتى قامت بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرفع يده الشريفة صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوضعها على صدرها في موضع القلادة، وفرج بين أصابعه، ثم قال: اللَّهمّ مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة ارفع فاطمة بنت محمد [ (3) ] ، وفي رواية لا تجع فاطمة بنت محمد [ (4) ] .
قال عمران: فنظرت إليها، وقد ذهبت الصفرة من وجهها، وغلب الدم كما كانت الصفرة غلبت على الدم، قال عمران: فلقيتها بعد، فسألتها، فقالت:
ما جعت بعد يا عمران.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 462، حديث رقم (390) ، وأخرجه الطبراني في (الأوسط) وفيه عتبة بن حميد أبو معاذ، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله وثقوا.
[ (2) ] (دلائل النبوة) : 6/ 108، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم لابنته- فاطمة عليها السلام، وما ظهر فيه من الإجابة.
[ (3) ] كذا في (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] كذا في (دلائل أبي نعيم) .(11/277)
قال البيهقي- رحمه اللَّه: والأشبه أنه رآها صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل نزول آية الحجاب [ (1) ] .
وأما كفاية علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه الحر والبرد بدعائه له صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج أبو نعيم من حديث أبى بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم والمنهال وعيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يخرج في الشتاء في إزار ورداء، ثوبين خفيفين، وفي الصيف في القباء المحشو والثوب الثقيل، فقال الناس لعبد الرحمن: لو قلت لأبيك فإنه يسمر معه.
قال: فسألت أبي أن الناس قد رأوا من أمير المؤمنين شيئا استنكروه، قال: وما ذاك، قلت: يخرج في الحر الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل، لا يبالي، ويخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين والملاءتين والخفيفتين لا يبالي ذلك، ولا يتقى بردا، فهل سمعت في ذلك؟ فقد أمروني أن أسألك أن تسأله إذا أسمرت عنده، فسمر عنده.
فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تفقدوا منك شيئا، قال: وما هو؟
قلت: تخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين والملاءتين ولا تبالي، وتخرج في الحر الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل، ولا تبالي بردا ولا حرا.
قال: وما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟ قلت: بلى، واللَّه كنت معكم، قال: فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله ويحبه
__________
[ (1) ]
وزاد أبو نعيم: وقال سليمان: فبسط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصابعه، ثم وضع كفه بين ترائبها، فرفع رأسه وقال: «اللَّهمّ مشبع الجاعة، وقاضى الحاجة، ورافع الوضيعة، لا تجع فاطمة بنت محمد، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك، يا عمران.(11/278)
اللَّه ورسوله يفتح اللَّه عليه ليس بفرار، قال: فدعاني، فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئا.
قال: فتفل في عيني، ثم قال: اللَّهمّ اكفه الحر والبرد، قال: فما أذاني بعد حر ولا برد [ (1) ] .
وخرّجه من حديث محمد بن عمران بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع إليّ نفر من أهل المسجد، فقالوا: إنا قد رأينا من أمير المؤمنين شيئا أنكرناه، قلت: وما هو؟، قالوا: يخرج علينا في الشتاء في إزار، ورداء، وفي الصيف في قباء محشو، فدخلت فذكرت ذلك لأبي، فلما راح إلى على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إن الناس قد رأوا منك شيئا أنكروه، قال: وما هو؟ قلت: لباسك، قال: أوما كنت معنا حين دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أرمد فتفل في راحتيه وألصق بهما على عيني، وقال: اللَّهمّ أذهب عنه الحر والبرد، والّذي بعثه بالحق ما وجدت لواحدة منهما أذى حتى الساعة [ (2) ] .
قال كاتبة حديث
لأعطين الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله، حديث. خرّجه البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] ، وسيأتي في طرقه عن قريب إن شاء اللَّه،
وليست فيه قصة الحر والبرد، ولكن وقعت في النسائي.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 212- 213، باب ما جاء في بعث السرايا إلى حصون خيبر، وإخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتحها على يدي علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ودعائه له وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالات الصدق، وقد ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) :
9/ 122، وقال: ورواه الطبراني في (الأوسط) وإسناده حسن.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 463، حديث رقم (391) ، رواه الطبراني في (الأوسط) ، وإسناده حسن.
[ (3) ] أخرجه في المغازي، باب (38) في غزوة خيبر.
[ (4) ] أخرجه في فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (34) .(11/279)
خرّجه من حديث عبد اللَّه قال: حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم والمنهال، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أنه قال لعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان يسير معه: إن الناس قد أنكروا منك أنك تخرج في البرد في الملاءتين، وتخرج في الحر في الحشو والثوب الغليظ.
قال: أولم تكن معنا بخيبر؟ قال: بلى، قال: فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
بعث أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وعقد له لواء، فرجع الناس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطينّ الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله ليس بفرار.
قال: فأرسل إلي وأنا أرمد، فتفل في عيني، وقال: اللَّهمّ [أذهب عنه] الحر والبرد، قال: فما وجدت حرا بعد ذلك ولا بردا.
ومن حديث فردوس الأشعري قال: حدثنا مسعود بن سليمان: حدثنا حبيب ابن أبي ثابت، عن الجعد مولى سويد بن غفلة، أنه قال: لقيت عليا- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو في ثوبين في شدة الشتاء، فقلت: لا تغني بأرضنا هذه، فإنّها أرض مقرة [ (1) ] ، وليست مثل أرضك فقال: أما إني كنت مقرورا [ (2) ] ، فلما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر قلت: ما لي لا أدفأ به، وإني لأرمد، فتفل في عيني، ودعا لي فما وجدت بردا بعد، ولا رمدت عيناي.
وخرّج أبو نعيم من حديث محمد بن فضيل، عن أبي حيان التيمي، عن شبرمة بن الطفيل قال: رأيت عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بذي قار عليه إزار ورداء، وهو يهنأ بعيرا له في يوم شديد البرد، وإن جبينه ليرشح عرقا.
__________
[ (1) ] مقرة: باردة شديدة البرودة.
[ (2) ] المقرور: من أصابه القر، وهو شدة البرد.(11/280)
وأما شفاؤه مما يشكو من الوجع بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، قال:
أخبرني عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن سلمة يقول: سمعت عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا شاك أقول: اللَّهمّ إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فأرفق بي [ (2) ] .
وإن كان بلاء فصبرني، فضربني برجله، وقال: كيف قلت؟ فأعدت عليه، فقال: اللَّهمّ اشفه، أو قال: اللَّهمّ عافه، قال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فما اشتكيت وجعي ذاك بعد.
وخرّجه النسائي من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن سلمة يحدث عن علي- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: مر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أقول: اللَّهمّ إن كان أجلى حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فأرفق بي، وإن كان بلاء فصبرني، فضربني برجله، وقال: اللَّهمّ اشفه، اللَّهمّ عافه، فما اشتكيت بعد ذلك، وخرّجه عبد بن حميد من حديث شعبة.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 6/ 179، باب ما جاء في دعائه لعلي ابن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ولغيره بالشفاء، وإجابة اللَّه تعالى به فيما دعاه.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) :
«فار، عنى» .(11/281)
وأما شفاؤه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من رمد ببصاق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعائه له
فخرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] والنسائي من حديث يعقوب بن عبد الرحمن بن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم خيبر:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 605، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4210) ،
قوله: «لأعطينّ الراية غدا أو ليأخذنّ، الراية غدا»
هو شك من الراويّ، والراية يم، عنى اللواء، وهو العلم الّذي في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر.
[ (2) ] من فضائل علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: «كانت راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سوداء ولواؤه أبيض» مثلة، عند الطبراني، عن بريدة، وعند ابن عدي، عن أبي هريرة وزاد «مكتوبا فيه لا إله لا اللَّه محمد رسول اللَّه» ، وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية، وقد ذكر ابن إسحاق وكذا أبو الأسود، عن عروة أن أول ما وجدت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية» .
قوله: (يحبه اللَّه ورسوله) زاد في حديث سهل بن سعد «ويحب اللَّه ورسوله» ، وفي رواية ابن إسحاق «ليس بفرار،» وفي حديث بريدة «لا يرجع حتى يفتح اللَّه له» .
قوله: (فنحن نرجوها) في حديث سهل «فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها» وقوله: «يدوكون» بمهملة مضمومة أي باتوا في اختلاط واختلاف، والدوكة بالكاف: الاختلاط، وعند مسلم من حديث أبي هريرة «إن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ» ، وفي حديث بريدة» فما منا رجل له منزلة، عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا وهو يرجوا أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، فدعا عليا وهو يشتكي عينه فمسحها، ثم دفع إليه اللواء «ولمسلم من طريق إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: «فأرسلني إلى علي قال: فجئت به أقوده أرمد فبزق في عينه، فبرأ» قوله: (فقيل هذا علي) كذا وقع مختصرا، وبيانه في رواية إياس بن سلمة، عند مسلم،
وفي حديث سهل بن سعد الّذي بعده «فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلهم يرجوا أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طلب؟ قالوا: يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتوا به»(11/282)
__________
[ () ] وقد ظهر من حديث سلمة بن الأكوع انه هو الّذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم بخيبر ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فحضر من المكان الّذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة فصادف حضوره.
قوله: (فبرأ) بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم، وعند الحاكم من حديث على نفسة قال: فوضع رأسي في حجره، ثم بزق في ألية راحته، فدلك بها عيني» وعند بريدة في «الدلائل البيهقي «فما وجعها على حتى مضى لسبيله» أي مات، عند الطبراني من حديث علي: «فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الراية يوم خيبر» ، وله من وجه آخر «فما اشتكيتها حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: اللَّهمّ أذهب، عنه الحر والقر، قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا» .
قوله: (فأعطاه ففتح عليه) في حديث سهل «فأعطاه الراية» ، وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد «فانطلق حتى يفتح اللَّه عليه خيبر وفدك، وجاء بعجوتهما» وقد اختلف في فتح خيبر هل كان، عنوة أو صلحا، وفي حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس التصريح بأنه كان، عنوة وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.
والّذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر «: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتل أهل خيبر، فغلب على النخل والجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها، وله الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا» الحديث وفي آخره «فسبى نساءهم وذريتهم، وقسم أموالهم للنكث الّذي نكثوا، وأراد أن يجليهم فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها «الحديث أخرجه أبو دواد والبيهقي وغيرهما، وكذلك أخرجه أبو الأسود في المغازي، عن عروة، فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم منّ عليهم بترك القتل وإبقائهم عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، ولذلك أجلاهم عمر- كما تقدم في فتح فرض الخمس احتجاج الطحاوي على أن بعضها صلحا بما أخرجه هو وأبو داود من طريق بشير بن يسار» : أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه، وقسم نصفها بين المسلمين» وهو حديث اختلف في وصله وإرساله، وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا، واللَّه اعلم.(11/283)
لأعطينّ هذه الراية رجلا يفتح اللَّه عليه يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلهم يرجون أن يعطاها.
فقال أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول اللَّه يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتى به، فبصق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول اللَّه أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: أنفد على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام،
__________
[ () ] قوله:
في حديث سهل (فقال علي يا رسول اللَّه، أقاتلهم)
هو بحذف همزة الاستفهام.
قوله: (حتى يكونوا مثلنا)
أي حتى يسلموا
قوله: (فقال انفذ)
بضم الفاء بعدها معجمة.
قوله: (على رسلك)
بكسر الراء أي على هينتك.
قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام)
ووقع في حديث أبي هريرة، عند مسلم «فقال علي يا رسول اللَّه علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن إله إلا اللَّه وان محمدا عبده ورسوله» واستدل بقوله: «ادعهم»
أن الدعوة شرط في جواز القتال، والخلاف في ذلك مشهور فقيل:
يشترط مطلقا، وهو، عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم، قال: إلا أن يعجلوا المسلمين، وقيل: لا مطلقا و، عن الشافعيّ مثله، وعنه لا يقاتل من لم تبلغهم حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء، وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل ما في حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وكانت قصة على بعد ذلك، وعن الحنفية تجوز الإغارة عليهم مطلقا وتستحب الدعوة.
قوله: (فو اللَّه لأن يهدى اللَّه بك رجلا إلخ)
يؤخذ منه تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله (فتح الباري) ، هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وقد سبق بيان أن تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا، وإنما هو التقريب من الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة (شرح النووي) .(11/284)
وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه فيه، فو اللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
هكذا سياقة مسلم، وقال فيه البخاري: والنسائي: لأعطين هذه الراية غدا، ولم يذكر النسائي فيه قوله: فبات الناس يذكرون ليلتهم أيهم يعطاها.
ذكره البخاري في غزوة خيبر، وذكره مسلم في المناقب، وذكره النسائي في فضائل على، وذكره البخاري أيضا في الجهاد في باب فضل من أسلم على يديه رجل [ (1) ] ، وذكره في المناقب [ (2) ] من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح اللَّه على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلهم يرجو أن يعطاها.
فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول اللَّه، قال: فأرسلوا إليه، فأتى [ (3) ] به، فلما جاء بصق في عينيه، فدعا له حتى كأن لم يكن به وجع، الحديث إلى آخره مثله.
وخرّجه في كتاب الجهاد، في باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام والنبوة [ (4) ] ، من حديث عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، عن سهل بن سعد، سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يفتح اللَّه على يديه، فناموا يرجون ذلك
__________
[ (1) ] حديث رقم (3009) ، باب (143) .
[ (2) ] باب (9) مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي: «أنت مني وأنا منك»
وقال عمر: «توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو، عنه راض» ، حديث رقم (3701) .
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي البخاري:
«فأتوني به» .
[ (4) ] باب (102) دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون اللَّه، وقوله- تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79] ، حديث رقم (2942) .(11/285)
أيهم يعطي؟ إذ كلهم يرجون أن يعطي [ (1) ] ، فقال: أين علي؟، فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعا به فبصق في عينيه. فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال علي رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فو اللَّه لأن يهدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم.
وخرّج البخاري في الجهاد في باب ما قيل في لواء النبي [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مناقب علي، وخرّج مسلم في المناقب: كلاهما من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سلمة بن الأكوع، قال: كان علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قد تخلف عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في خيبر كان رمدا، وقال البخاري: وكان به رمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فلما كان في مساء الليلة التي فتحها اللَّه في صباحها، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه اللَّه ورسوله، أو قال: يحب اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه عليه، فإذا نحن بعلي، وما نرجوه. فقالوا: هذا على فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ففتح اللَّه عليه،
لفظهما فيه متقارب.
وخرّج النسائي [ (3) ] من حديث الحسين بن واقد، عن عبد اللَّه بن بريدة، قال: سمعت أبي بريدة يقول: حاصرنا خيبر، فأخذ اللواء أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولم يفتح له وأخذه من الغد عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فانصرف ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رافع لوائي غدا إلى رجل يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له ربنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدا فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغداة، ثم قام قائما، ودعا باللواء والناس على مصافهم، فما منا إنسان له منزلة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا هو يرجو أن يكون صاحب اللواء فدعا علي بن
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي البخاري: «فغدوا وكلهم يرجو أن يعطي» .
[ (2) ] باب (121) ، حديث رقم (2975) .
[ (3) ] في كتاب الجهاد من (الكبرى) .(11/286)
أبي طالب، وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء، وفتح اللَّه له، وقال: أنا فيمن تطاول لها.
وخرّجه من حديث ميمون أبي عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن بريدة حدثه عن بريد الأسلمي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: لما كان حيث نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اللواء عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فنهض معه من نهض من الناس فلقوا أهل خيبر، فانكشف هو وأصحابه، فرجعوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين اللواء رجلا يجب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله، فلما كان من الغد تصادر أبو بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فدعا عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو أرمد، فتفل في عينيه، ونهض معه من الناس من نهض، فلقى أهل خيبر،
فإذا مرحب يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تلهب
وخرّج أبو نعيم من حديث محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن منذر الثوري قال: سمعت الربيع بن خيثم يقول: أتيت عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فسألته عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لأعطين الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله لا يرجع حتى يفتح اللَّه عليه، فجعل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتصدونه، فقال: أين على بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول اللَّه إنه أرمد لا يبصر، فأخذ الراية، فدعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتى به فتفل في عينيه فأبصر، ثم نهر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فو الّذي نفسي بيده ما صعد آخرنا حتى فتح اللَّه على أولنا.
ومن حديث عباد بن يعقوب، والنضر بن سعد بن صهيب قالا: حدثنا عبد اللَّه بن بكير، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم خيبر: لأدفعن الراية إلى رجل يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح اللَّه(11/287)
عليه، فأصبح الناس طيبة وجوههم رجاء أن يدفها إليهم، فدعا عليا، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثم دفع الراية إليه، ففتح اللَّه عليه.
وخرّج من حديث أبي عوانة، عن أبي فليح، عن عمرو بن ميمون قال:
كنت عند ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فجاءه نفر تسعة، فقالوا:
يا ابن عباس قم معنا، فقام معهم، فما ندري ما قالوا غير أنه رجع ينفض ثوبه، ويقول: أف وأف وقعوا في رجل قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأدفعن رايتي هذه إلى رجل يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه على يديه، فأرسل إلى علي وهو في الرحل يطحن، وما كان أحدهم ليطحن، فجاءوا به رمدا. فقال: يا رسول اللَّه: ما أكاد أبصر، فنفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه وأخذ الراية بيده، فهزها ثلاثا ثم دفعها إليه، ففتح له،
فجاء بصفية بنت حيي.
ومن حديث بكير بن مسمار قال: سمعت عاصم بن سعد يقول: أن أباه سعدا، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين هذه الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله فتطاولنا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أين علي، فقالوا: هو أرمد، قال: فدعوناه، فبصق في عينيه، ثم أعطاه الراية، ففتح اللَّه عليه.
ومن حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن مسلم الملامى، عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية رجلا يحبه اللَّه ورسوله، ويحب اللَّه ورسوله، لا يرجع حتى يفتح عليه، فلما أصبح صلّى الفجر، ثم نظر صلّى اللَّه عليه وسلّم في وجوه الناس، فرأى عليا منكسا في ناحية القوم يشتكي عينيه، فدعاه فقال: يا رسول اللَّه، إني أرمد فأخذ يفتح عينيه، ودعا له، قال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فو الّذي بعثه بالحق ما اشتكيتها بعد.
وخرّج من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، ومن حديث أبي عوانة، وأبي بكر بن أبي شيبة عن جرير، ومن حديث هشيم كلهم عن مغيرة، عن أم موسى سرية علي، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ما(11/288)
رمدت، ولا صدعت، منذ تفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عيني حين بعثني في خيبر، قال: ورواه الحكم [ (1) ] وعيسى عن ابن أبي ليلى، عن علي.
وخرّج من حديث عباد بن يعقوب، قال: حدثنا عمر بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: كنت أرمد من دخان الحصن، فدعاني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فتفل في عيني، فما رمدت بعده.
وخرّج من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر بن أبي قحافة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- برايته إلى حصن من خيبر، فقاتل، ولم يك فتح، وقد جهد، ثم بعث عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالغد، فقاتل ولم يك فتح، وقد جهد. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله يفتح اللَّه على يديه ليس بفرار، فدعا بعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو أرمد، فتفل في عينيه، فقال: خذ هذه الراية وامض بها، حتى يفتح اللَّه عليك.
قال سلمة: فخرج بها واللَّه يهرول هرولة، وأنا لخلفه متتبع أثره، حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: يقول اليهودي:
غلبتم [ (2) ] وما أنزل على موسى، أو كما قال، فما رجع حتى فتح اللَّه على يديه [ (3) ] .
قال أبو نعيم، ورواه عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه،
قال: فما رواه سلمة يدل على تقدم علم اليهودي من رواياتهم وكتبهم
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «عليتم» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 209- 2110، باب ما جاء في بعث السرايا إلى حصون خيبر وإخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتحها على يدي علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ودعائه له، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالات الصدق.(11/289)
بتوجيه من وجه إليهم ويكون الفتح على يديه، ويكون فيه فضيلة شريفة لعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ورواه يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة.
وخرّج من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب أظنه، عن أبي هريرة، ومن حديث معمر، عن عثمان الجريريّ، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب اللَّه ورسوله، ليس بفرار يفتح اللَّه خيبر على يديه، فتشرف لها المهاجرون والأنصار، فسأل، عن عليّ فقالوا: هو أرمد، فدعاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنفث في عينيه، ثم دعا له وأعطاه الراية، ففتح اللَّه على يديه.
ومن حديث مسدد قال: حدثنا أبو عوانة، حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله يفتح اللَّه على يديه، فدعا عليا فنفثه، ثم قال: اذهب فقاتل حتى يفتح اللَّه عليك.
وخرّجه من طريق إسرائيل، عن عبد اللَّه بن عصمة، عن أبي سعيد الخدريّ، ومن حديث منصور بن المعتمر، عن ربعي بن خراش، عن عمران ابن حصين، ومن حديث الخليل بن مرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه.
ومن حديث أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه
- وبعضهم يزيد على بعض وينقص في حديثه- فالمعنى واحد.
وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد المعروف بالزاهد غلام ثعلب في كتاب (اليواقيت) قال ابن الأعرابي: كانت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وأبو طالب غائب، فوضعته فسمته أسدا يحيي اسم أبيها، فقدم أبو طالب، فسماه عليا، فكانت أم مرحب كاهنة، فقالت: يا مرحب لا تبرز في الحرب إلى رجل يكتنى ويرتجز بحيدرة، فإنه قاتلك، قال: فلما كانت ليلة خيبر قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لأعطين الراية غدا الرجل يحبه اللَّه ورسوله، ويحب اللَّه ورسوله.
قال بعض الأنصار فما زالوا يدوكون تلك الليلة من هو فلما كان الغد، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أين علي؟ فإذا هو عليل، قالوا: هو عليل، قال: أين علي؟
فإذا هو أرمد العين، قال: فجاء وعينه رمدة، فقال: ادن مني، فدنا منه،(11/290)
فوضع رأسه في حجره، فتفل فيها صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسحها بألية يده، قال: فانفتحت عين علي فرأيتها، وكأنها جزعة من حسنها، قال: فمشى والراية معه، فسمعت صياحه بالنداء، ووجهه إلى العدو وظهره إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول: يا رسول اللَّه، علام أقاتل الناس؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: على أن يقولوا لا إله إلا اللَّه وأنى محمد رسول اللَّه.
قال: فجاء إلى اليهود أجمع ما كانوا فشدوا عليه شدة رجل واحد، فيثبت، ثم حملوا عليه، فثبت، فحمل عليهم فانهزموا إلى الحصون، فلما رأوا إمرة علي داروه، وكان مرحب أشجع اليهود فصاحوا: يا مرحب اليوم.
قال: فخرّج مبادرا مدلا، فلما توافقا قال مرحب: ما اسمك يا فتى؟
قال: عليّ، فاطمأن قلبه، وأقبل نحو عليّ وهو يرتجز.
أنا الّذي سمتني أمي مرحب ... شاك سلاحي بطل مجرب
[إذا الليوث أقبلت نلهب ... وأحجمت، عن صولة المغلب] [ (1) ]
قال: فقال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-:
أنا الّذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات غليظ القسورة
ويروى:
أنا الّذي سمتني أمي حيدرة ... أضرب بالسيف رءوس الكفرة
أكيلهم بالصاع كيل السندرة
قال: فضربه على ضربه قده [ (2) ] باثنتين
قال ابن عباس: كانت لعلي ضربتان إذا تطاول قد، وإذا تقاصر قط. قال ثعلب: اختلف الناس في قوله:
السندرة، فقال ابن الأعرابي: هو مكيال كبير مثل القنقل [ (3) ] ، وقال غيره:
__________
[ (1) ] هذا البيت زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] القد: الشق طولا، والقط: الشق عرضا. قال تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ.
[ (3) ] السندرة: السرعة، والسندرة: الجرأة، والسندر: الجريء المتشبع، والسندرة: ضرب من الكيل غراف جراف واسع، والسندر: مكيال معروف:
وفي حديث على- عليه السلام:
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
قال أبو العباس أحمد بن يحيى: لم تختلف الرواة أن هذه الأبيات
لعلي- عليه السلام:(11/291)
السندرة امرأة كانت تبيع القمح، وكانت توفى الكيل، قال ثعلب: فعلى هذا إني أكيلكم كيلا وافيا. قال: وقال غيرهما: السندرة العجلة، فعلى هذا إني أبادركم، قبل الفرار.
وقال ابن قتيبة: ويحتمل أن يكون مكيالا اتخذ من السندرة، وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي.
قال الأنصاري: فرأيت أم مرحب وهي تندبه وهو بين يديها، فقلت من قتل مرحبا؟ قالت: من كان يقتله إلا أحد رجلين، قلت: من الرجلين؟ قالت:
محمد أو علي، قلت: فمن قتله منهما؟ قالت: علي، قال: وأنشدني:
للَّه در أبي طالب ودر ... رمنجبه لقد انحبى
قال: وكنت في الجيش، فو اللَّه ما استتم به آخرنا حتى فتح على أولنا بركة علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- هكذا ساق غلام ثعلب.
وخرّج البيهقي من حديث يونس بن بكير بن مسلم الأزدي قال: حدثنا عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربما أخذته الشقيقة، فيلبث اليوم، واليومين لا يخرج، ولما نزل خيبر أخذته الشقيقة [ (1) ] فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أخذ راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع. فأخذها عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقاتل قتالا هو أشد من القتال الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول
__________
[ () ]
أنا الّذي سمتني أمى حيدرة ... كليت غابات غليظ القصرة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
قال: واختلفوا في السندرة. فقال ابن الأعرابي وغيره: هو مكيال كبير ضخم مثل القنقل والجراف، أي أقتلكم قتلا واسعا كبيرا وذريعا، وقيل: السندرة امرأة كانت تبيع القمح وتوفى الكيل، أي أكيلكم كيلا وافيا، وقال آخر: السندرة العجلة، والنون زائدة، يقال: رجل سندرى إذا كان عجلا في أموره حادا، أي أقاتلكم بالعجلة وأبادركم قبل الفرار، ويحتمل أن يكون مكيالا اتخذت من السندرة، وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي، ومنه قيل: سهم سندري. (لسان العرب) : 4/ 382 مختصرا.
[ (1) ] الشقيقة: صداع يعرض في مقدم الرأس.(11/292)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لأعطينها غدا رجلا يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله، يأخذها عنوة وليس ثم علي، فتطاولت لها قريش ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح وجاء على بعيره حتى أناخ قريبا، وهو أرمد قد عصب عينه بشقة برد قطري.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مالك؟ قال: رمدت بعدك!! قال: ادن منى، فدنا منه، فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى بسبيله، ثم أعطاه الراية، فنهض بالراية وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر، وعليه مغفر يماني، وحجر قد نقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي سلاحي بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب ... وأحجمت عن صولة المغلّب
فقال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
أنا الّذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات شديد القسورة
أكيلهم بالصاع كيل السندرة
فاختلفا ضربتين، فبدره على فضربه فقد الحجر والمغفرة، ورأسه ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة [ (1) ] .
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي بالهداية والسداد، وقد ضرب بيده المقدسة في صدره فأجيب فيه دعواته صلوات اللَّه وسلامه عليه
فخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل اليمن لأقضي بينهم، فقلت: يا رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 211- 212.(11/293)
لا علم لي بالقضاء [ (1) ] ، فضرب بيده على صدري [ (2) ] ، قال: اللَّهمّ اهد قلبه، وسدد [ (3) ] لسانه، قال: فو الّذي فلق الحبة [ (4) ] فما شككت في قضاء بين اثنين [ (5) ] حتى جلست مجلسى هذا.
وخرّجه عبد بن حميد من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال:
بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه تبعثني وأنا شاب أقضى بينهم ولا أدري ما القضاء، فضرب بيده في صدري، وقال: اللَّهمّ أهد قلبه، وثبت لسانه، قال: والّذي فلق الحبة ما شككت بعد في قضاء بين اثنين [ (6) ] .
وخرّجه النسائي من حديث أبي معاوية بمثله قال النسائي: روى هذا الحديث شعبة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، فقال: أخبرني من سمع عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وأرضاه.
__________
[ (1) ] كذا
في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «يا رسول اللَّه تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدرى ما القضاء؟.
[ (2) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل البيهقي) :
«في صدري» .
[ (3) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل البيهقي) :
«وثبت» .
[ (4) ] ما بين الحاضرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 397، باب بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى أهل بحران، وبعثه الى اليمن بعد خالد بن الوليد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهذا الحديث إسناده ضعيف لانقطاعه، وأبو البختري ثبت، ولم يسمع من علي شيئا، قاله ابن معين، والحديث في (طبقات ابن سعد) ، (سنن ابن ماجة) ، (ومسند أحمد) ، وله إسناد متصل، عند أبي داود، وروى الترمذي بعضه وحسنة،
ورواه الإمام أحمد في (المسند) باسناد صحيح، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، أنك تبعثني إلى قوم هم أنس منى لأقصى بينهم، قال: اذهب، فإن اللَّه- تعالى- سيثبت لسانك ويهدى قلبك.
(هامش الدلائل) .
[ (6) ] راجع التعليق السابق.(11/294)
قال النسائي والبختري: لم يسمع من على شيئا، ولم يره أيضا، وقال يحيى بن معين: أبو البختري الطائي اسمه سعد، وهو ثبت ولم يسمع من علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- شيئا.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة سمع أبا البختري يقول: حدثني من سمع عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: لما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه تبعثني وأنا رجل حديث السن لا علم لي بكثير من القضاء، قال: فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده في صدري، وقال: إن اللَّه- عز وجل- سيثبت لسانك، ويهدي قلبك، قال: فما أعياني قضاء بين اثنين.
وخرّجه ابن عساكر من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
ومن حديث جعفر بن محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومن حديث شريك، عن سماك، عن حنش، عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومن حديث سلمة الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
وأما صرف الوباء عن المدينة النبويّة وانتقال الحمى عنها إلى الجحفة ببركة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر وبلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قالت:
فدخلت عليهما يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال [فقلت:] كيف تجدك؟ قالت:
وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أخذته الحمى يقول
كل امرئ مصح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل(11/295)
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فقال: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أشد وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها، فاجعلها بالجحفة.
ذكره في باب من دعا برفع الوباء والحمى [ (1) ] ، وفي كتاب الهجرة [ (2) ] ، وفي كتاب المرضي في باب عيادة النساء [ (3) ] الرجال.
__________
[ (1) ] حديث رقم (5677) باب (22) من كتاب المرضي قوله: (باب الدعاء برفع الوباء والحمى) الوباء يهمز، وجمع المقصور بلا همز أوبية، وجمع المهموز أوباء، يقال أوبأت الأرض فهي مؤبئة، ووبئت بضم الواو فهي موبوءة، قال عياض: الوباء عموم الأمراض، وقد أطلق بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده، لكن ليس كل وباء طاعونا، وعلى ذلك يحمل قول الداوديّ لما ذكر الطاعون: الصحيح أنه الوباء، وكذا جاء، عن الخليل بن أحمد أن الطاعون هو الوباء، وقال ابن الأثير في النهاية: الطاعون المرض العام، والوباء الّذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال ابن سيناء: الوباء ينشأ، عن فساد جوهر الهواء الّذي هو مادة الروح ومدده، قلت: ويفارق الطاعون الوباء بخصوص سببه الّذي ليس هو كونه من طعن الجن كما سأذكره مبينا في «باب ما يذكر من الطاعون» من كتاب الطب إن شاء اللَّه تعالى.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 333، كتاب مناقب الأنصار، باب (46) مقدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه المدينة، حديث رقم (3926) قوله: (قدمنا المدينة) في رواية أبي أسامة، عن هشام «هي أوبأ أرض اللَّه» وفي رواية محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة نحوه وزاد «قال هشام وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له انهق، فينهق كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر لعمري لئن غنيت من خفة الردى ... نهيق حمار أننى لمروع قوله: (وعك) بضم أوله وكسر ثانيه أي أصابه الوعك وهي الحمى. قوله: (كيف تجدك) أي تجد نفسك أو جسدك، وقوله: (مصبح) بمهملة ثم موحدة وزن وقد يفجأه الموت في بقية النهار وهو مقيم بأهله. قوله: (شراك) بكسر المعجمة وتخفيف الراء: السير الّذي يكون في وجه النعل، وألم، عنى أن الموت أقرب إلى الشخص من شراك نعله لرجله. قوله: (أقلع، عنه) بفتح أوله أي الوعك وبضمها، والإقلاع الكف، عن الأمر. قوله: (يرفع عقيرته) أي صوته(11/296)
وخرّجه في آخر كتاب الحج [ (1) ] ، من حديث أبي أسامة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: لما قدم
__________
[ () ] ببكاء أو بغناء، قال الأصمعي: أصلة أن رجلا انعقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال: رفع عقيرته، وإن لم يرفع رجلة قال ثعلب وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها. قوله: (وجليل) بالجيم موضع على أميال من مكة وكان به سوق، تقدم بيانه في أوائل الحج. قوله «يبدون» أي يظهر، وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة، وقال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلان حتى ثبت، عندي أنهما عينان، وقوله: «أردن ويبدون» بنون التأكيد الخفيفة، وشامة بالمعجمة والميم مخففا، وزعم بعضهم أن الصواب بالموحدة بدل الميم والمعروف بالميم، وزاد المصنف أخر كتاب الحج من طريق أي اسامة، عن هشام به «ثم يقول بلال: اللَّهمّ العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا» أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا، وزاد ابن إسحاق في روايته، عن هشام وعمرو بن عبد اللَّه ابن عروة، عن عائشة عقب قول أبيها «فقلت واللَّه ما يدري أبي ما يقول» . قالت: «ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة وذلك أن يضرب علينا الحجاب- فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقة ... كالثور يحمي جسمه برقه
وقالت في آخره: «فقلت: يا رسول اللَّه انهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى» .
والزيادة في قوله عامر بن فهيرة رواها مالك أيضا في «الموطإ» ، عن يحيى بن سعيد، عن عائشة منقطعا.
[ (3) ] باب (8) ، حديث رقم (5654) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 124، كتاب فضائل المدينة، باب (12) بدون ترجمة، حديث رقم (1889) ، وفيه بعد
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وانقل حماها إلى الجحفة» :
«قالت وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض اللَّه، فكان بطحان يجرى نجلا، تعنى ماء أجنا قوله: (قالت) يعنى عائشة، والقائل عروة متصل. قوله: (وهي أوبأ) بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور يهمز ويغير همز هو المرض العام، ولا يعارض قدومهم عليها وهي بهذه الصفة نهيه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن القدوم على الطاعون، لأن ذلك كان قبل النهى، أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا(11/297)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر، وبلال، وكان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللَّهمّ العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء، قم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللَّهمّ بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة. قالت:
وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت: فكان بطحان يجرى ثجلا يعني ماء أجنا.
__________
[ () ] المرض ولو عم. قوله: (قالت فكان بطحان) يعنى واد بالمدينة وقولها: (يجرى نجلا، تعنى ماء آجنا) هو من تفسير الراويّ، عنها، عرضها بذلك بيان السبب في كثرة الوباء بالمدينة، لأن الماء الّذي هذه صفته يحدث، عنده المرض، وقيل: النخل الزيتون وزاي، يقال استنجل الوادي إذا ظهر نزورة. و «نجلا» بفتح النون وسكون الجيم وقد تفتح حكاه ابن التين، وقال ابن فارس: النجل بفتح الجيم سعة العين وليس هو المراد هنا، وقال ابن السكيت: النجل العين حين تظهر وينبع عين الماء. وقال الحربي نجلا أي واسعا، ومنه عين نجلاء أي واسعة، وقيل: هو الغدير الّذي لا يزال فيه الماء. قوله: (تعنى ماء آجنا) بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون أي متغيرا، قال عياض: هو خطأ ممن فسره فليس المراد هنا الماء المتغير. قلت: وليس كما قال فأن عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير» وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة.
أما أثر عمر فذكر ابن سعد سبب دعائه بذلك، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح، عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها أن عمر شهيد مستشهد، فقال لما قصها عليه أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي ثم قال: بلى بها اللَّه إن شاء.(11/298)
وخرّجه في كتاب الدعاء من حديث سفيان، عن هشام بن عروة، عن عائشة قالت: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللَّهمّ بارك لنا في مدنا وصاعنا،
ذكره في باب الدعاء برفع الوباء [ (1) ] .
وخرّجه مسلم [ (2) ] من حديث عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قدمنا المدينة وهي وبئة، فاشتكى أبو بكر واشتكى بلال- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شكوى أصحابه قال: اللَّهمّ حبب
__________
[ (1) ] حديث رقم (6372) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 158- 159، كتاب الحج، باب (86) الترغيب في سكنى المدينة والصبر على وبائها، حديث رقم (1374) ، قولها (قدمنا المدينة وهي بيئة) وهي بهمزة ممدودة يعنى ذات وباء بالمد والقصر وهو الموت الذريع هذا أصلة ويطلق أيضا على الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض لا سيما للغرباء الذين ليسوا مستوطنيها. فإن قيل كيف قدموا على الوباء وفي الحديث الآخر في الصحيح النهى، عن القدوم النهى عن القدوم عليه فالجواب من جهتين ذكرهما القاضي أحدهما أن القدوم كان قبل النهي، لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها، والثاني أن المنهي، عنه هو القدوم على الوباء الذريع والطاعون، وأما هذا الّذي كان المدينة فإنما كان وخما يمرض بسببه كثير من الغرباء واللَّه أعلم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (وحول حماها إلى الجعفة)
قال الخطابي وغيره: كان ساكنو الجحفة في ذلك الوقت يهودا، ففيه دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد، عنهم وهذا مذهب العلماء كافة قال القاضي وهذا خلاف قول بعض المتصرفة أن الدعاء قدح في التوكل والرضا وانه ينبغي تركه وخلاف قول بعض المتصوفة ان الدعاء قدح في التوكل والرضا وانه ينبغي تركه وخلاف قول المعتزلة أن لا فائدة في الدعاء مع سبق القدر ومذهب العلماء كافة أن الدعاء عبادة مستقلة ولا يستجاب منه إلا ما سبق به القدر واللَّه اعلم، وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم فان الجعفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب أحد من مائها إلا حم. ورواه الإمام مالك في (الموطأ) في الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة.(11/299)
إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها، ومدها وحول حماها إلى الجحفة.
وخرّجه أيضا من حديث أبي أسامة، وابن نمير، عن هشام بن عروة [ (1) ]
قال ابن عبد البر: وقد ذكر حديث خالد، عن هشام، ولم يختلف رواة الموطأ فيها علمت، عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في متنه، ولم يذكر مالك- رحمه اللَّه- فيه قول عامر بن فهيرة، وسائر رواة هشام يذكرون عنه فيه بهذا الإسناد.
وذكره مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد قال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: وكان عامر بن فهيرة يقول:
قد رأيت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
قال: ورواه ابن عيينة، ومحمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فجعلا الداخل على أبي بكر وبلال وعامر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
وقد تابع مالكا على روايته في ذلك سعيد بن عبد الرحمن، فذكر من طريق ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أنها قالت: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة، قالت: فدخلت عليهم، وهم في بيت، فقلت: يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
ويقول عامر بن فهيرة:
قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
وكان بلال إذا أقلع عنه يقول: ألا ليت شعرى، فذكر البيتين والحديث إلى آخره كرواية مالك سواء إلا أنه ذكر فيه قول عامر بن فهيرة كما ترى، وجعل الداخلة عليهم عائشة.
__________
[ (1) ] الحديث الّذي يليه بدون متن وبدون رقم.(11/300)
وأما
حديث سفيان بن عيينة، فذكره من طريق الحميدي قال: حدثنا سفيان حدثنا هشام بن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت دخل رسول اللَّه المدينة مع أصحابه، فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يعوده، فقال: كيف تجدك يا أبا بكر؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: ودخل على عامر بن فهيرة، فقال: كيف تجدك؟ فقال:
وجدت وجدت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كالثور يحمى جلده بروقه
قالت: ودخل على بلال، فقال: كيف تجدك؟ فقال:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
وربما قال سفيان براد:
وهل أردن يوما مياة مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لأهل مكة، اللَّه بارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، وبارك لنا في مدينتنا.
قال سفيان: ورواه، قال في فرقنا اللَّه: اللَّهمّ حببنا فيها ضعفي ما حببت إلينا مكة أو أشد، وصححها، وانقل وباءها إلى خم أو الجحفة،
هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو كان الداخل على أبي بكر وعلي بلال وعامر بن فهيرة يعودهم، وهو كان المخاطب لهم، وشك في قوله بلال في البيت الّذي أنشده بفج أو بواد.
وقال في حديثه: وانقل وباءها إلى مهيعة وهي الجحفة،
قال ابن عبد البر:
وقد روي ابن أبي الزناد، عن موسى ابن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة ثقيلة، أخرجت من المدينة فأسكنت مهيعة، فأولتها وباء المدينة ينقله اللَّه إلى مهيعة.
قال كاتبه وقد خرج البخاري في هذا الحديث من طريق سليمان بن بلال، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت(11/301)
كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس [ (1) ] ، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة وهي الجحفة، فأولت أن وباء المدينة ينقل إليها.
ترجم عليه باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة، فأسكنه موضعا آخر [ (2) ] .
وخرّجه في باب المرأة السوداء، من حديث فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني سالم بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في المدينة: رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة، وهي الجحفة [ (3) ] .
وخرّجه في باب المرأة الثائرة الرأس [ (4) ] من حديث سليمان ابن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت....
وقد خرّج البيهقي [ (5) ] وغيره من حديث مسدد حدثنا حماد بن زيد، عن هشام، عن عروة، عن عائشة قالت: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وهي وبئة،
__________
[ (1) ] في (الأصل) :
«ثائرة الشعر»
وما أتيناه من البخاري.
[ (2) ] باب (41) ، حديث رقم (7038) من كتاب التعبير.
[ (3) ] باب (42) ، حديث رقم (7039) من كتاب التعبير.
[ (4) ] باب (43) ، حديث رقم (7040) من كتاب التعبير.
[ (5) ] (دلائل النبوة) : 2/ 586، باب ما لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وباء المدينة حين قدموها، وعصمة اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عنها، ثم ورد في دعائه بتصحيحها لهم ونقل وبائها عنهم إلى الجحفة، واستجابة دعائه، ثم تحريمه المدينة ودعائه لأهلها بالبركة، وعنه نقله الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأسرف عليه إنسان قيل له: انهق كنهق الحمار! فإذا فعل ذلك لم يضرة وباء ذلك الوادي، وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة:
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهيق الحمار إنني لجزوع(11/302)
فذكر الحديث، قال: وقال: هشام: فكان المولود يولد بالجحفة، ولا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
وقال الواقدي في غزوة بدر: لما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيوت السقيا، فحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد اللَّه بن قتادة، عن أبيه أن رسول اللَّه عند بيوت السقيا، ودعا يومئذ لأهل المدينة، فقال: اللَّهمّ إن إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيك دعاك لأهل مكة، وإني محمد عبدك ونبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم، ومدهم، وثمارهم، اللَّهمّ حبب إلينا المدينة واجعل ما بها من الوباء بخم [ (1) ] ، اللَّهمّ إني قد حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة [ (2) ] .
__________
[ () ] قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فاشتكى أبو بكر وبلال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وذكر الحديث بنحو حديث أبي أسامة، إلا أنه قال: فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أصاب أصحابه، دعا اللَّه، فذكره
وقال فيه: وبارك لنا في صاعها ومدها. (دلائل البيهقي) : 2/ 576.
[ (1) ] خم: على ميلين من الجحفة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 22.(11/303)
وأما شفاء سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وإتمام اللَّه تعالى هجرته بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ووقوع ما أشار به صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري من حديث الجعيد، عن عائشة بنت سعد أن أباها قال:
تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاءني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعودني، فقلت: يا نبي اللَّه إني أترك مالا، وإني لا أترك إلا ابنة واحدة، وأوصى بثلثي مالي، وأترك الثلث؟
قال: لا، فقلت: فأوصى بالثلث وأترك لها الثلثين؟ قال: الثلث، والثلث كثير، ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي وبطني، ثم قال: اللَّه اشف سعدا وأتمم له هجرته، فما زلت أجد برد يده على كبدي فيما يخيل إلى حتى الساعة.
ذكره في كتاب المرضي، وترجم عليه باب وضع اليد [ (1) ] على المريض.
وخرّجه النسائي [ (2) ] بهذا الإسناد بمعناه، قال: وصح وجهي وصدري وبطني، وقال: فما زلت أجد أحد برد يده على كبدي حتى الساعة.
وخرّجه مسلم من حديث الثقفي، عن أيوب السختياني، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدث، عن أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على سعد يعوده بمكة، فبكى، فقال: ما يبكيك؟
فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اشف سعدا- ثلاث مرات، فقال: يا رسول اللَّه إن لي مالا كثيرا، وإنما ترثني أفأوصى بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبالثلثين؟ قال: لا،
__________
[ (1) ] باب (12) وضع اليد على المريض، حديث رقم (5659) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 6/ 553، كتاب الوصايا، باب (3) الوصية بالثلث، حديث رقم (3631) ، وقد الفرد به النسائي في (المجتبى) ، ولكن حديث الباب في عشرة النساء من (الكبرى) باب ثواب النفقة التي يبتغى بها وجه اللَّه- تعالى، حديث رقم (325) .(11/304)
قال فبالنصف؟ قال: لا قال: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إن صدقتك من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإنك تدعهم يتكففون الناس وقال بيده [ (1) ] .
وخرّجه أيضا من حديث حماد بن زيد قال: حدثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد، قالوا:
مرض سعد بمكة، فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده، فذكره بنحو حديث الثقفي [ (2) ] .
وخرّجه من حديث عبد الأعلى، حدثنا هشام، عن محمد بن حميد بن عبد الرحمن، قال: حدثني ثلاثة من ولد سعد بن مالك كلهم يحدثنه بمثل حديث صاحبه، فقال: مرض سعد بمكة، فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده بنحو حديث عمرو بن سعيد، عن الحميري [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث زكريا بن عدي: حدثنا مروان، عن هاشم بن هاشم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: مرضت عادني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه ألا يردني على عقبي، قال: لعل اللَّه يرفعك وينفع بك ناسا، فقلت: أريد أن أوصى وإنما لي ابنة، فقلت: أوصى بالنصف؟
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 90، كتاب الوصية باب (1) الوصية بالثلث، حديث رقم (8) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (9) قوله: (عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على سعد يعوده بمكة) في الرواية الأخرى، عن حميد، عن ثلاثة من ولد سعد قالوا مرض سعد بمكة فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده فهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة لأن أولاد سعد تابعيون وانما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك قال القاضي وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في مواضعها، فظن ظانون أنه يأتي بها مفردة، وانه توفى قبل ذكرها والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه كما أوضحناه في أول هذا الشرح، ولا بقدح هذا الخلاف في صحة هذه الرواية ولا في صحة أصل الحديث، لأن أصل الحديث ثابت من طرق من غير جهة حميد، عن أولاد سعد، وثبت وصله، عنهم في بعض الطرق التي ذكرها مسلم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث رقم (9) بدون رقم.(11/305)
قال: النصف كثير، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كبير وكثير، قال: فأوصى الناس بالثلث، فجاز ذلك لهم ذكره في باب الوصية بالثلث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 464، كتاب الوصايا، باب (3) الوصية بالثلث وقال الحسن: لا يجوز للذمي وصية إلا الثلث، وقال اللَّه عز وجل: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:
49] ، حديث رقم (2744) قوله: (باب الوصية بالثلث) أي جوازها أو مشروعيتها، وقد سبق تقرير ذلك في الباب الّذي قبله، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف فيمن كان له وارث، وسيأتي تحريره في «باب لا وصية الوارث» وفيمن لم يكن له وارث خاص فمنعه الجمهور وجوزه الحنففية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية فقيدتها السنة بمن له وارث فيبقى من لا وارث له على الأطلاق، وقد تقدم في الباب الّذي قبله توجيه لهم آخر، واختلفوا أيضا هل يعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك وأكثر العراقيين وهو قول النجعى وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني أبو حنيفة وأحمد والباقون وهو قول علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه وجماعة من التابعين، وتمسك الأولون بأن الوصية عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله، اعتبر ذلك حالة النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل جهة، ولذلك لا تعتبر بها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع عنها والنذر يلزم بما علمه الموصي دون ما خفي غليه أو تجدد له ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك وحجة أنه لا يشترط ان يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصية اتفاقا، ولو كان عالما بجنسه، فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية، اختلفوا أيضا: هل يحسب الثلث من جميع المال أو تنفذ (فائدة) : أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراء بن المعرور بمهملات، أوصى به للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان قد مات قبل أن يدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة بشهر، فقبله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورده على ورثته، أخرجه الحاكم وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن جده.
قوله: (وقال الحسن) أي البصري (لا يجوز للذمي وصية إلا بالثلث) ، قال ابن بطال:
أراد البخاري بهذا الرد على من قال كالحنفية بجواز الوصية بالزيادة على الثلث لمن لا وارث له، قال: ولذلك احتج بقول اللَّه- تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ والّذي حكم به(11/306)
وقد خرّج البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق إبراهيم بن سعد، قال:
حدثنا ابن شهاب، حدثنا عامر بن سعد عن أبيه، ومن حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه، ومن حديث سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه.
وخرّجه مسلم من حديث زهير: حدثنا سماك بن حرب قال: حدثني مصعب بن سعد، عن أبيه، ولم يذكر دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لسعد بالشفاء.
__________
[ () ] النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الثلث هو الحكم بما أنزل اللَّه، فمن تجاوز ما حده فقد أتى ما نهى عنه، وقال ابن المنير: لم يرد البخاري هذا، وإنما أراد الاستشهاد بالآية على أن الذمي إذا تحاكم إلينا ورثته لا ينفذ من وصيته إلا الثلث، لأنا لا نحكم فيهم إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية، قوله: (، عن هاشم بن هاشم) أي ابن عتبة بن أبي وقاص، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين، لأنه يروى، عن مكي بن إبراهيم، ومكي يروى، عن هاشم المذكور، وسيأتي في مناقب سعد له بهذا الإسناد حديث، عن مكي، عن هاشم، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قوله: (فقلت يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن لا يردني على عقبي) هو إشارة إلي ما تقدم من كراهية الموت بالأرض التي هاجر منها وقد تقدم توجيهه وشرحه في الباب الّذي قبله،
قوله: (لعل اللَّه يرفعك)
زاد أبو نعيم في (المستخرج) في روايته من وجه آخر، عن زكريا بن عدي «عنى يقيمك من مرضك» ،
قوله: في هذه الرواية (قلت أوصى بالنصف؟
قال: النصف كثير)
لم أر في غيرها من طرقه وصف النصف بالكثرة فكيف امتنع النصف دون الثلث؟ وجوابه أن الرواية الأخرى التي فيها جواب التي فيها جواب النصف دلت على منع النصف ولم يأت مثلها في الثلث بل اقتصر على وصفه بالكثرة، وعلل بأن إبقاء الورثة أغنياء أولى، وعلى هذا فقوله: «الثلث» خبر مبتدإ محذوف تقديره مباح، ودل قوله: «والثلث كثير» على أن الأولى أن ينقص منه، واللَّه- تعالى- أعلم، قوله: (قال وأوصى الناس بالثلث فجاز ذلك لهم) ظاهرة أنه من قول سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أن يكون من قول من دونه واللَّه- تعالى- أعلم، وكان البخاري قصد بذلك الإشارة إلى أن النقص من الثلث في حديث ابن عباس للاستحباب لا للمنع منه، جمعا بين الحديثين، واللَّه أعلم.(11/307)
ذكره البخاري في حجة الوداع، وفي كتاب الهجرة [ (1) ] ، وفي كتاب الدعاء في باب الدعاء برفع الوباء والوجع [ (2) ] ، وذكره في الفرائض في باب ميراث البنات [ (3) ] ، وذكره في كتاب الوصايا [ (4) ] ، وفي كتاب النفقات في باب فضل النفقة على الأهل [ (5) ] .
وأورده مالك (في الموطأ) [ (6) ] ، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: جاءني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعودني في عام حجة الوداع وبي وجع قد اشتد بي، فقلت: يا رسول اللَّه قد اشتد بي الوجع، ما ترى وأنا ذو مال ولا ترثني ألا كلالة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت:
فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير وكبير، ما إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك، قال: قلت: يا رسول اللَّه أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم، لا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثى له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن مات بمكة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 343، كتاب (مناقب الأنصار) ، باب (49)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّهمّ أضمن لأصحابي هجرتهم» ،
ومرثيته لمن مات بمكة، حديث رقم (3936) ، والمرئية تعديد محاسن الميت، والمراد هنا التوجع له، لكونه مات في البلد الّذي هاجر منه.
[ (2) ] باب (42) الدعاء برفع الوباء والوجع، حديث رقم (6373) .
[ (3) ] باب (6) ميراث البنات، حديث رقم (6733) .
[ (4) ] باب (2) أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، حديث رقم (2742) .
[ (5) ] باب (1) فصل النفقة على الأهل، وقول اللَّه- عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وقال الحسن: العفو: الفضل، حديث رقم (5354) .
[ (6) ] (الموطأ) : 541، الوصية في الثلث لا يتعدى.(11/308)
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث قد اتفق أهل العلم على صحة إسناده إلا أن في بعض ألفاظه اختلافا عند نقلته، فمن ذلك أن ابن عيينة قال فيه: عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه: مرضت عام الفتح، انفرد بذلك، عن ابن شهاب، وقد روينا هذا الحديث من طريق معمر ويونس ابن يزيد، وعبد العزيزي بن أبي سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي عتيق وإبراهيم بن سعد، وكلهم قال فيه:، عن ابن شهاب عام حجة الوداع، كما قال مالك، قال يعقوب ابن شبة، سمعت علي بن المدني، وذكر الحديث فقال: وقال معمر ويونس، وذلك حجة الوداع وقال ابن عيينة عام الفتح، قال: والذين قالوا حجة الوداع أصوب.
قال أبو عمر بن عبد البر، لم أجد ذكر عام الفتح إلا في رواية ابن عيينة، لهذا الحديث، وفي حديث عمر والقاري رجل من الصحابة في هذا الحديث.
رواه عفان بن مسلم، عن وهيب بن جابر، عن عبيد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن عمرو بن القاري، عن أبيه، عن جده عمرو القاري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قدم مكة عام الفتح، فخلف سعدا مريضا، حتى يخرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرا، دخل عليه وهو وجع مغلوب، فقال سعد: يا رسول اللَّه إن لي مالا وإني أورث كلالة أفأوصى بمالي كله؟ أو تصدق بمالي كله؟ قال: لا،
وذكر الحديث هذا في حديث عمرو القاري أفأوصى على الثلث أيضا.
وأما حديث ابن شهاب، فلم يختلف عنه أصحابه لا ابن عيينة ولا غيره أنه قال فيه: أفأتصدق بمالي كله؟ أو بثلثي مالي؟ ولم يقل: أفأوصى.
قال أبو عمرو: وأما قول سعد أأخلف بعد أصحابي؟ فمعناه عندي:
أتخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين والمنصرفين معك إلى المدينة، ويحتمل أن يكون لما سمع
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه،
وتنفق فعل مستقبل أنفق أنه لا يموت من مرضه ذلك، فأستفهمه هل يبقى بعد أصحابه؟
فأجابه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بضرب من قوله: لن تنفق نفقه تبتغي بها وجه اللَّه، وهو قوله: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون،
وهذا كله ليس(11/309)
بصريح، ولكنه قد قال كل ما قاله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدق في ذلك ظنه، وعاش سعد حتى انتفع به قوم، واستضر به آخرون.
روى أن وهبا قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشبح، قال: سألت عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبيه عام حجة الوداع: لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. فقال:
أمر سعد على العراق، فقتل أقواما على ردة، فأضربهم، واستتاب قوما سجعوا سجع مسيلمة، فتابوا، فانتفعوا به.
قال أبو عمر: مما يشبه قوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسعد هذا الكلام قوله للرجل الشعث: ما له ضرب اللَّه عنقه؟ فقال الرجل: في سبيل اللَّه؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: في سبيل اللَّه، فقتل الرجل في تلك الغزوة
ومثله
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة مؤتة أميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة.
فقال بعض أصحابه: نعى إليهم أنفسهم، فقتلوا بالاسهم في تلك الغزاة، وتلك ومثل ذلك أيضا
قصة عامر بن سنان حين ارتجز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى خيبر، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: غفر لك ربك يا عامر؟ فقال له عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه لو أسعدتنا به؟ قال: وذلك أنه ما استغفر لإنسان قط إلا استشهد،
فاستشهد عامر يوم خيبر، وهذا كله ليس بتصريح من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القول، ولا يبقين في المراد والمعنى، ولكنه كان يخرج كله كما ترى.
وقد خلف سعد بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بعد حجة الوداع نحو خمسين وأربعين سنة، وتوفى في سنة خمس وخمسين.(11/310)
وأما شفاء أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث بشر بن المفضل قال: حدثنا شاكر أبو الفضل قال: حدثني رجل من آل الزبير أن أسماء بنت أبي بكر أصابها ورم في رأسها، ووجهها، وأنها بعثت إلى عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: اذكري وجعي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعل اللَّه يشفيني، فذكرت عائشة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجع أسماء، فانطلق حتى دخل على أسماء، فوضع يده على وجهها ورأسها من فوق الثياب، فقال: بسم اللَّه أذهب سوءه، وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم اللَّه- ضع ذلك ثلاث مرات- فأمرها أن تقول ذلك، فقالت: ثلاثة أيام فذهب الورم،
قال أبو الفضل: يصنع ذلك عند حضور الصلوات المكتوبة يقولها ثلاثا.
وأما استجابة دعاء المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم لابن المرأة
فخرّج البيهقي [ (2) ] من طريق ابن عون، عن محمد بن سيرين: أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: هذا ابني، وقد أتى عليه كذا وكذا، على اللَّه أن يميته، فقال: أدعو اللَّه- عز وجل- أن يشفيه ويثبت به، ويكون رجلا صالحا، فيقاتل في سبيل اللَّه- تعالى- فيقتل فيدخل الجنة، فدعا له، فشفاه اللَّه عز وجل وثبت، وكان رجلا صالحا، فقاتل في سبيل اللَّه، فقتل فدخل الجنة،
قال البيهقي: هذا من تمثيل جيد.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 181- 182، باب ما جاء في دعائه لعلى بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولغيره بالشفاء، وإجابة اللَّه تعالى فيما دعاه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 182.(11/311)
وأما ظهور بركة دعائه في طول قامة رجل ولد صغير الخلقة
فقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، قال: ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو ألطف من ولد، فأخذه جده أبو أمه أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري في ليفة فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذا منك يا أبا لبابة؟، قال: ابن ابنتي يا رسول اللَّه: أرأيت مولودا أصغر خلقة منه؟! فحنكه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومسح على رأسه، ودعا فيه بالبركة. قال: فما رئي عبد الرحمن بن زيد مع قوم في صف إلا فرعهم طولا
[قال مصعب: كان عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فيما زعموا أطول الرجال وأتمهم [ (1) ]] .
وأما شفاء الصبى من الجنون بمسح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه ودعائه له
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن مرقد السنجى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن امرأة جاءت بابن لها، فقالت: يا رسول اللَّه إن بابني جنون وإنه يأخذه عند غدائنا، وعشائنا، فيفسد علينا، قال: فمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه ودعائه فثع ثعة، فخرج من جوفه مثل الجر والأسود يسعى، وخرّجه أبو نعيم [ (3) ] من حديث حجاج بن المنهال، عن حماد بمثله.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 2/ 833، ترجمة رقم (1415) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 186، باب ما جاء في المرأتين اللتين اغتابتا وهما صائمتان، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالة صدق القرآن، وفيه حديث الصبى الّذي كان يجن فدعا له فخرج من جوفه جرو أسود.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 465، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشفاء المريض، حديث رقم (395) ، أخرجه الإمام أحمد في (المسند) برقم (2133) و (2288) ، والدارميّ برقم (19) ، ثغ: قاء.(11/312)
وأما استجابة اللَّه دعاءه صلّى اللَّه عليه وسلّم للمرأة التي كانت تنكشف إذا صرعت
فخرّج البخاري من حديث مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عمران أبو كر قال: حدثني عطاء ابن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت:
بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع اللَّه لي، قال: إن شئت صبرت، ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه أن يعافيك، قالت: أصبر، فقالت: أنى أتكشف فادع اللَّه لي ألا أتكشف، فدعا لها [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 141، كتاب المرضي، باب (6) فضل من يصرع من الريح، حديث رقم (5652) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
قوله: «باب فضل من يصرع من الريح» ، انحباس الريح قد يكون سببا للصراع، وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسية، عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الرماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصراع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الّذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها، وممن نص على ذلك أبقراط، فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الّذي سببه أخلاط، وأما الّذي يكون من الأرواح فلا، قوله:
(وأني أتكشف)
بمثناة وتشديد المعجمة من التكشف، وبالنون الساكنة مخففا من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر، وذكر ابن سعد وعبد الغنى في «المبهمات» من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالزيارة كما سيأتي ذكرها في كتاب الأدب إن شاء اللَّه تعالى، وقد يؤخذ من الطرق التي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط،
وقد أخرجه(11/313)
وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث عبيد اللَّه القواريري، عن يحيى بن سعيد وبشر ابن المفضل قالا: حدثنا عمران أبو الفضل، فذكره وخرّجه النسائي أيضا، وقد أورد البخاري في كتاب المرضي، في باب من صرع من الريح،
وقال بعده:
__________
[ () ] البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- شبيها بقصتها ولفظه «جاءت امرأة بها لمم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: ادع اللَّه. فقال: إن شئت دعوت اللَّه فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك. قالت: بل أصبر ولا حساب على»
وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف، عن التزام الشدة، وفيه من العلاج بالعقاقير، وان تأثير ذلك وانفعال البدن، عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين:
أحدهما العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوى وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، واللَّه- تعالى- أعلم.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 367، كتاب البر والصلة والآداب، باب (14) ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة بشاكها، حديث رقم (2576) . وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 156- 157، باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للمرأة التي كانت تصرع وتتكشف بالعافية إن لم تصبر أو بأن لا تنكشف إن صبرت ولها الجنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وقال: أخره: لفظ حديث مسدد رواه البخاري في الصحيح، عن مسدد، ورواه مسلم، عن عبيد اللَّه القواريري، عن يحيى، بسنده إلى قال: أخبرني عطاء: أنه رأى أم زمر تلك المرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 571، حديث رقم (3230) من مسند عبد اللَّه بن عباس، ولفظه: «قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه السوداء أنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: إني أصرع وأتكشف- فادع اللَّه لك أن يعافيك؟ قالت: لا، بل أصبر فادع اللَّه أن لا أتكشف- أو لا ينكشف، عنى- قال: فدعا لها
وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها والالتجاء إلى اللَّه- تبارك وتعالى- أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك انفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجح بأمرين أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوى بحسن التوكل» .(11/314)
حدثني محمد أنبأنا مخلد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء أنه رأى أم رومان امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وأما شفاء عبد اللَّه بن رواحة من وجع ضرسه بوضع يده ودعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم له
فخرّج البيهقي من حديث يحيى بن يحيى، قال: أخبرني إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن نوح بن ذكوان أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما بعث عبد اللَّه بن رواحة مع زيد وجعفر إلى مؤتة، قال: يا رسول اللَّه إني أشتكي ضرسي، آذاني، واشتد عليّ، فقال: ادن مني، والّذي بعثني بالحق [نبيا] [ (1) ] لأدعون لك بدعوة لا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف اللَّه عنه كربه، فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده على الخد الّذي فيه الوجع، وقال: اللَّهمّ أذهب عنه سوء ما يجد، وفحشه، بدعوة نبيك المبارك، المكين عندك، سبع مرار، قال: فشفاه اللَّه عز وجل قبل أن يبرح.
هذا منقطع [ (2) ] .
وأما شفاء بطن رافع بن رفاعة بمسح المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بطنه
فخرج البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان قال: حدثنا أبو صالح، قال:
حدثني الليث، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي أمية الأنصاري، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أنه قال، ومن حديث سعيد بن شرحبيل، وعبد اللَّه بن صالح قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن خالد ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي أمية الأنصاري، عن عبيد بن
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) وليست في (الدلائل) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 183، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى، عنه- ولغيره بالشفاء، وإجابة اللَّه تعالى له فيما دعاه.(11/315)
رفاعة، عن رافع بن خديج قال: دخلت يوما على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعنده قدر يفور بلحم، فأعجبتني شحمة، فأخذتها، فازدردتها فاشتكيت منها سنة، ثم إني ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له: كان فيها أنفس سبعة أناسى، ثم مسح بطني، فألقيتها خضراء، فو الّذي بعثه بالحق ما اشتكيت بطني حتى الساعة.
قال البيهقي: [كذا عن رافع في الكتاب] والصحيح رواية يعقوب.
قال يعقوب: وأظن أن المدائني كان صيره، عن رافع [بن خديج] ، وكان كما شاء اللَّه، وكان عند ابن أبي بكير، عن عبيد بن رفاعة، ليس فيه، عن أبيه، وغلط، عبيد ليست له صحبة.
وخرّجه من طريق ابن وهب قال: أخبرني يزيد بن عياض، عن عبد الكريم، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أنه دخل بيتا من بيوت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا قدر يجيش بلحم، وإذا فيها شحمة، فأهويت فأخذتها فالتقمتها، فاشتكيت بطني عليها سنة، فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكرت ذلك له. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنها كانت فيها أنفس سبعة أناس، قال: فمسح بطني فوضعتها خضراء، فما اشتكيت بطني بعد [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 183- 184.(11/316)
وأما شفاء أبي طالب بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج الحفاظ أبو أحمد بن عدي [ (1) ] ، وأبو نعيم أحمد، وأبو بكر البيهقي ...
من حديث الهيثم بن جماز الحنفي البصري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن أبا طالب مرض فعاده النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا ابن أخي ادع ربك الّذي تعبد أن يعافيني، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اشف عمي، فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال، قال: يا ابن أخي إن ربك الّذي تعبد ليطيعك، قال: وأنت يا عماه!! لئن أطعت اللَّه ليطيعك.
قال البيهقي [ (2) ] تفرد به الهيثم بن جماز، عن ثابت البناني، والهيثم ضعيف عند أهل العلم بالحديث.
وفي رواية أبي نعيم، عن أنس قال: لما مرض أبو طالب مرضه الّذي مات فيه أرسل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادع ربك أن يشفيني، فإن ربك يعطيك، وابعث إلى بقطف من قطاف الجنة، فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأنت يا عم إن أطعت اللَّه أطاعك.
قال أبو نعيم: رواه عقبة بن مكرم، فقال: حدثنا شريك بن عبد المجيد حدثنا الهيثم حدثنا ثابت، عن أنس. فذكر الحديث، وزاد فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اشف عمي، قال: فقام كأنما نشط من عقال.
__________
[ (1) ] (الكامل في ضعفاء الرجال) : 7/ 102، في ترجمة الهيثم بن جماز- بمعجمتين- الحنفي البكاء بصري معروف، روى، عن يحيى بن أبي كثير، وثابت البناني. قال يحيى بن معين:
كان قاضيا- أو قاصا- بالبصرة، ضعيف، قال مرة: ليس بذاك، وقال أحمد والنسائي والساجي: متروك الحديث، وذكره البرقي في (الكذابين) ، وضعفه أبو حاتم، وزاد: منكر الحديث، ترجمته في (لسان الميزان) : 6/ 246، ترجمة رقم (108/ 9864) ، و (الكامل) :
7/ 101، ترجمة رقم (1/ 2018) ، وقال ابن حبان: كان من العباد والبكاءين ممن غفل، عن الحديث والحفظ، واشتغل بالعبادة حتى كان يروى المعضلات، عن الثقات توهما، فلما ظهر ذلك منه بطل الاحتجاج به. (هامش دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 184- 185.(11/317)
قال كاتبه: قد ذكر ابن عدي الهيثم هذا في كتاب (الكامل) [ (1) ] على ما لخصته في (مختصره) ، فقال: كان قاضيا بالبصرة.
قال ابن معين: ضعيف، ومرة قال: ليس بشيء، وفي موضع آخر:
ليس بذاك، يروي عنه هشيم، وقال أحمد بن حنبل: كان منكر الحديث، ترك حديثه.
وقال السعدني: ضعيف، روى عن ثابت معاضيل، وقال ابن عدي:
وأحاديثه أفراد، عن ثابت بن عدي، وفيه ما ليس بالمحفوظ.
وأما مسح المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ساق علي بن الحكم السلمي [ (2) ] وقد دق جدار الخندق فبرئ من وقته
فقال أبو عمر بن عبد البر: وروى كثير بن معاوية بن الحكم، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنزى أخي علي بن الحكم فرسا له خندقا، فدق جدار الخندق ساقه، فأتينا به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ساقه فما نزل عنها حتى برئ [ (3) ] ، فقال معاوية بن الحكم في قصيدته:
وأنزاها عليّ فهي تهوى ... هوى الرجل تنزعه برجل
فقصت رجله فسما عليها ... سمو الصقر صادف يوم طل
فقال محمد صلّى عليه ... مليك الناس قولا غير فعل
__________
[ (1) ] سبق تخريج الحديث وذكر الترجمة و (مختصر الكامل لا بن عدي) أحد مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
[ (2) ] هو علي بن الحكم السلمي، أخو معاوية بن الحكم، له صحبة، من أهل قباء. (الإستيعاب) :
3/ 1089، ترجمة رقم (1853) .
[ (3) ] سياق هذا الحديث مضطرب في (الأصل) ، ولم أجده في (الاستيعاب) ، وصوبناه من (الإصابة) : 4/ 562- 563، ترجمة على بن الحكم السلمي رقم (5687) ،
وقال فيه: «فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسحها وقال: بسم اللَّه، فما آذاه منها شيء،
ثم قال الحافظ: قال ابن منك: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الحافظ أيضا: في الإسناد صفار بن حميد لا يعرف.(11/318)
لعا لك فأستمر بها سويا ... وكانت بعد ذاك أصح رجل
ومعاوية بن الحكم السلميّ كان ينزل بالمدينة، ويسكن في بني سليم، روى عنه عطاء بن يسار، وأخوه عليّ بن الحكم له صحبة، وأيضا ذكرهما ابن عبد البر في كتاب (الصحابة) . وقد ذكر البيهقي [ (1) ] هذا الحديث بنحو ما تقدم من غير ذكر الشعر.
وأما ذهاب البلاء عن ابن الخثعمية بشربة ماء غسل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها يديه وتمضمض
فخرج أبو نعيم من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا أحمد بن راشد، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن عمر ابن الأحوص، عن أمه أم جندب، قالت: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اتبعته امرأة من خثعم، ومعها صبي لها به بلاء، فقالت: يا رسول اللَّه إن صبيي هذا وبقية أهلي به بلاء لا يتكلم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائتوني بشيء من الماء، فأتي بماء، فغسل يديه، ثم مضمض فاه، ثم أعطاها، فقال: اسقيه منه، وصبي عليه منه، واستشفي اللَّه له.
قالت: فلقيت المرأة، فقلت: لو وهبت لي منه، فقالت: إنما هو لهذا المبتلى. قالت: فلقيت المرأة من الحول، فسألتها عن الغلام، فقالت: برئ
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 185، ولفظه:
وفي كتاب (المعجم) لأبي القاسم البغوي، بإسناده، عن كثير، عن معاوية بن الحكم، عن أبيه، قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنزى أخي عليّ ابن الحكم فرسا له خندقا، فأصاب رجله جدار الخندق فدمّتها فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما نزل، عن فرسه فمسحها وقال: بسم اللَّه، فما آذاه منها شيء.(11/319)
وعقل عقلا ليس كعقول الناس [ (1) ] قال. أبو نعيم: رواه عبد اللَّه بن إدريس عن يزيد بنحوه.
وأما نفثه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم غلام يأخذه الجنون كل يوم مرارا فذهب عنه
فخرج أبو نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد اللَّه بن نمير حدثنا عثمان بن حكيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن يعلي ابن مرة قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي، فقالت: يا رسول اللَّه، ابني هذا أصابه بلاء، وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم لا ندري كم من مرة. قال: ناولينيه، قال:
فرفعته إليه.
قال: فجعله بينه وبين وسط الرحل، ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا، ثم قال:
بسم اللَّه، أنا عبد اللَّه، اخس عدو اللَّه، قال: ثم ناولها إياه. ثم قال: ألقينا به
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 464- 465، حديث رقم (393) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) :
7/ 523- 524، حديث رقم (26590) ، من حديث أبي سليمان بن عمر بن الأحوض- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأخرجه الحافظ بن حجر في (الإصابة) : 4/ 652، في ترجمة على ابن الحكم السلمي، وقال: رواه البغوي، والطبراني، وابن السكن، وابن مندة، من طريق كثير بن معاوية بن الحكم السلمي، عن أبيه، وقال ابن مندة: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قال الحافظ ابن حجر: في الإسناد صفار بن حميد لا يعرف. وزاد الطبراني في روايته، فقال في ذلك معاوية بن الحكم من قصيدته:
فأنزاها عليّ فهو يهوى ... هويّ الدلو مشرعة بحبل
فعصّب رجله فسما عليها ... سموّ الصقر صادف يوم ظل
فقال محمد صلّى عليه ... مليك الناس قولا غير فعل
لعا لك فاستمر بها سويا ... وكانت بعد ذاك أصحّ رجل(11/320)
في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل، قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، قال فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما فعل الخبيث؟
قالت: والّذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة، فاختر [ (1) ] هذه الغنم، قال: انزل فخذ منها شاة ورد البقية [ (2) ] .
وخرّجه من حديث علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد ابن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن يعلى بن مرة الثقفي قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان بمكان كذا وكذا جاءته امرأة بابن لها، فذكرت أن به جنون، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منخريه، فقال: اخرج أي عدو اللَّه أنا محمد رسول اللَّه، اخرج بسم اللَّه أنا محمد رسول اللَّه، ثم قال: اذهبي فتعاهدينا في مرجعنا فاعتدت له جرزا ولبنا وسمنا، فلما رجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أهدت إلينا الجزر واللبن والسمن، فرد عليها الجزر والسمن، وقال: اسق أصحابي اللبن، قالت: ما عرض لابني شيء بعدك. قلت: وقد تقدم هذا الحديث بطوله في سجود البعير من حديث جابر بن عبد اللَّه.
وخرّجه ومن حديث يعلي بن مرة، خرجه أبو نعيم من حديث أسامة بن زيد قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجته التي حجها فعارضته امرأة فذكر نحوه.
__________
[ (1) ] كذا في (دلائل أبي نعيم) ، وفي (ابن أبي شيبة) و (الأصل) : «فاختز» . وفي (مسند أحمد) : «فاجترر» .
[ (2) ] دلائل أبي نعيم: 465، حديث رقم (394) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 179180، حديث رقم (17097) ، من حديث يعلى مرة الثقفيّ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.(11/321)
وأما برء غلام من الجنون بمسح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه ودعائه له
فخرج أبو نعيم من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال: حدثتني أم أبان بنت الوازع عن ابنها، أن الوازع [ (1) ] انطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بابن له مجنون، أو بابن أخت له مجنون، فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يفضل عليه.
وأما خروج الشيطان وإزالة النسيان وذهاب الوسوسة في الصلاة عن عثمان بن أبي العاص بتفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فمه وضربه صدره
فخرج أبو نعيم من حديث عثمان بن عبد الوهاب حدثنا أبي عن يونس، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: شكيت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سوء حفظي القرآن، فقال: ذاك شيطان يقال له خنزب، أدن منى يا عثمان، ثم تفل في فمي، ووضع يده على صدري، فوجدت بردها بين كتفي، وقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان، قال: فما سمعت شيئا بعد ذلك إلا حفظته [ (2) ] . [قال أبو نعيم: رواه عنبسة بن أبي رائطة، عن الحسن بنحوه [ (3) ]] .
__________
[ (1) ] هو الوازع العبديّ، والد أم أبان، وقد ذكره في الصحابة: الإمام أحمد، وابن نافع، أبو بكر بن أبي علي، وآخرون (الإصابة) : 6/ 593، ترجمة رقم (9097) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 466، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بطرد الشيطان من صدر عثمان بن أبي العاص، حديث رقم (396) . قال في (مجمع الزوائد) : أخرجه الطبراني، وفيه عثمان بن يسر، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.(11/322)
وله من حديث عقبة بن مكرم، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، حدثنا أبي عن عثمان بن أبي العاص [ (1) ] قال: لما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف عرض لي شيء في صلاتي حتى كنت لا أدري ما أصلى، فلما رأيت ذلك أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فلم يرعه مني إلا وأنا أمشي إلى جنبه، فقال: ابن أبي العاص؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟، قلت: عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فقال: ذاك الشيطان. ادن، فدنوت حتى جلست على صدور قدمي بين يديه.
__________
[ (1) ] هو عثمان بن أبي العاص بن بشر عبد دهمان- أو عبد بن دهمان بن عبد اللَّه بن همام الثقفيّ، أبو عبد اللَّه، نزيل البصرة. أسلم في وفد ثقيف، فاستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الطائف، وأقره أبو بكر، ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية قبل سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وكان هو الّذي منع ثقيفا، عن الردة، خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أولهم ارتدادا.
وجاء، عنه أنه شهد آمنه لما ولدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي قصة أخرجها البيهقي في (الدلائل) ، والطبراني من طريق محمد بن أبي سويد الثقفي، عنه قال: حدثتني أمى ... ، فعلى هذا يكون عاش نحوا من مائة وعشرين سنة. كذا في (الإصابة) ، وفي (سير الأعلام) : أن أمه هي التي شهدت ولادة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاللَّه أعلم أي ذلك كان.
روي عثمان، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث في (صحيح مسلم) ، وفي (السنن) ، روى، عنه ابن أخيه يزيد بن الحكم بن أبي العاص، ومولاه أبو الحكم، وسعيد بن المسيب، وموسى بن طلحة، ونافع بن جبير بن مطعم، وأبو العلاء، ومطرف ابنا عبد اللَّه بن الشخير، وآخرون.
وعثمان بن أبي العاص، كان سبب إمساك ثقيف، عن الردة حين ارتدت العرب، لأنه قال لهم حين هموا بالردة: يا مشعر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أول الناس ردة، وهو القائل: الناكح مغترس، فلينظر أين يضع غرسه، فإن عرق السوء لا بدّ أن ينزع ولو بعد حين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 2/ 374، ترجمة رقم (78) ، (الإستيعاب) :
3/ 1035- 1036، ترجمة رقم (1772) ، (تهذيب التهذيب) : 7/ 117- 118، ترجمة رقم (270) ، (المعارف) : 368، (طبقات خليفة) : 53، 182، (تاريخ خليفة) : 149، 152، (التاريخ الكبير) : 6/ 12، (شذرات الذهب) : 1/ 36.(11/323)
فقال: افغر فاك، فضرب صدري بيده وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو اللَّه، قال ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك. قال عثمان: فلا أحسبه عرض لي بعد.
وله من حديث حجاج بن المنهال حدثنا حماد بن سلمة، عن شعيب الجريريّ، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان بن أبي العاص، أنه شكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الوسوسة في الصلاة، فقال: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا وجد أحدكم منه شيئا، فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ باللَّه منه.
قال أبو نعيم: رواه الثوري وعبد الواحد بن زيد ومروان بن معاوية وابن علية وسالم بن نوح، عن الجريريّ، عن أبي العلاء، عن عثمان فلم يذكر مطرفا.
قال كاتبه: وخرّج مسلم حديث الجريريّ هذا عن أبي العلاء، عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت: يا رسول اللَّه إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي [يلبسها عليّ] ، قال: فقال ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ باللَّه منه، واتفل عن يسارك ثلاثا، قال: ففعلت فأذهبه اللَّه عنى [ (1) ] .
وله من حديث محمد بن عمر الواقدي: حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب، عن عبد ربه بن الحكم، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت أنسى القراءة، فقلت: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لأنسى القرآن، فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 440، كتاب السلام، باب (25) التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، حديث رقم (2203) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه. وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان، عند وسوسته مع التفل، عن اليسار ثلاثا، ومعنى يلبسها: أي يخلطها ويشككني فيها، وهو بفتح أوله وكسر ثالثه، ومعنى حال بيني وبينها: أي نكدني فيها، ومن، عنى لذتها، والفراغ للخشوع فيها. (شرح النووي) .(11/324)
في صدري ثم قال: اخرج يا شيطان من صدر عثمان، فما نسيت شيئا حفظته [ (1) ] .
وله من حديث عبد الأعلى: حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد اللَّه بن الحكم، عن عثمان بن بشر، سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: شكوت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نسيان القرآن، قال: فضرب صدري بيده، فقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان، قال عثمان: فما نسيت منه شيئا بعد أن أحببت أن أذكره [ (2) ] .
وأما ردّ اللَّه عز وجل بصر الأعمى عليه بتعليم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له دعاء يدعو به
فخرج البيهقي [ (3) ] من حديث محمد بن يونس قال: حدثنا عثمان بن عمر قال: حدثنا شعبة عن أبي جعفر الخطميّ قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ادع اللَّه لي أن
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 307- 308 باب تعليم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عثمان بن أبي العاصي الثقفي- رضي اللَّه تبارك وتعالى، عنه- ما كان سببا لشفائه ودعائه له حتى فارقه الشيطان وذهب، عنه النسيان.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 308، وفيه: «شيئا بعده أريد حفظه» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 166- 167، باب في تعليمه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، ثم قال البيهقي: هذا لفظ حديث العباس، زاد محمد بن يونس في روايته: قال: فقام وقد أبصر. ورويناه في كتاب (الدعوات) بإسناد صحيح، عن روح ابن عبادة، عن شعبة، ففعل الرجل فبرأ. كذلك رواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطميّ وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب (119) ، حديث رقم (3578) من كتاب الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ، عن محمود بن غيلان.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 1/ 441، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (198) ما جاء في صلاة الحاجة، حديث رقم (1385) .(11/325)
يعافيني، قال: فإن شئت أخرت ذلك وهو خير لك، وإن شئت دعوت اللَّه، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى ركعتين، ويدعو بهذا [الدعاء] : «اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فيقضيها لي، اللَّهمّ شفعه في، وشفعني في نفسي» ، فقام وقد أبصر.
قال البيهقي [ (1) ] : ورويناه في كتاب (الدعوات) بإسناد صحيح عن روح بن القاسم، عن شعبة قال: ففعل الرجل فبرأ. وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطميّ، وخرّجه أبو نعيم من طريق ابن وهب قال: حدثني شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطميّ، عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف أن أعمى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه علمني دعاء أدعو به يرد اللَّه تعالى عليّ بصري، فقال: قل: «اللَّهمّ إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي، اللَّه شفعه في وشفعني في نفسي» ، فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر.
قال أبو نعيم ورواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطميّ، عن عمارة ابن خزيمة، عن عثمان بن حنيف بنحوه.
وخرّجه البيهقي من حديث ابن شبيب بن سعيد الحبطيّ قال: حدثني أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدني وهو الخطميّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاءه رجل ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد وقد شق على، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل «اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك نبيك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري اللَّهمّ شفعه فيّ، وشفعني في نفسي» . قال
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 167.(11/326)
عثمان: فو اللَّه ما تفرقنا، ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضرّ قط [ (1) ] .
وخرّج أيضا من حديث إسماعيل بن شبيب قال: حدثنا أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في حاجة، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقى عثمان بن حنيف، فشكا إليه ذلك. فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: «اللَّهمّ إني أسالك وأتوجه إليك بنيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربى فتقضى حاجتي» واذكر حاجتك، ثم راح حتى أزمع، فانطلق الرجل، وصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فجاء البواب، فأخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة [ (2) ] ، فقال: انظر ما كانت لك من حاجة، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقى عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك اللَّه خيرا، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلى حتى كلمته، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكني
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاءه ضرير، فشكى إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو تصبر؟ فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد، وقد شق عليّ.
فقال: ائت الميضأة فتوضأ، وصل ركعتين ثم قل: «اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللَّهمّ شفعه في وشفعني في نفسي» . قال عثمان: فو اللَّه ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضرر.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 167، باب ما جاء في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] الطنفسة، بضم الفاء الأخيرة، عن كراع: النمرقة فوق الرحل، وجمعها طنافس، وقيل: هي البساط الّذي له حمل رقيق، ولها ذكر في الحديث [الّذي معنا] ، [وفي القرآن الكريم في قوله تعالى وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ [الغاشية: 15] .(11/327)
قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب، عن سعيد، عن أبيه أيضا بطوله:
أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر ابن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، فذكره بطوله. وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سن أربع وأربعين.
قال: ورواه أيضا هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه، وهو عثمان بن حنيف [ (1) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.(11/328)
وأما رد بصر من كانت عيناه مبيضتين لا يبصر بهما شيئا بنفث المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه
فخرج الحافظان أبو نعيم [ (1) ] والبيهقي [ (2) ] من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن بشر حدثنا عبد العزيز بن عمر، قال: حدثني رجل من بني سلامان بن سعد، عن أمه أن خالها حبيب بن فويك [ (3) ] حدثها، أن أباه خرج به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا. فسأله ما أصابه، فقال: إني كنت أمرن جملا لي، فوضعت رجلي على بيض حية، فأصيب
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 466- 467، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم برد بصر أعمى، حديث رقم (397) ، أخرجه ابن أبي شيبة، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 173، باب ما جاء في نفثه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينين كانتا مبيضتين لا يبصر صاحبها بهما حتى أبصر.
[ (3) ] هو حبيب بن فويك، أو فديك، أو فريك، روت بنت أخيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا له وهو أعمى مبيضة عيناه فأصبر، (الاستيعاب) : 1/ 322، ترجمة رقم (475) ، 3/ 1271، ترجمة رقم (2096) . قال الحافظ ابن حجر: ذكره البغوي وابن السكن وغيرهما، وروى ابن أبي شيبة وعتبة، من طريق عبد العزيز بن عمر، عن رجل من بني سلامان، عن أمه، أن خالها حبيب ابن فويك حدثها أن أباه خرج به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فسأله فقال: كنت أروض جملا لي فوقعت رجلي على بيض حية، فأصيب بصرى، فنفث في عينيه فأبصر، قال: فأنا رأيته يدخل الخيط في الإبرة. وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان.
ذكره ابن أبي شيبة، عن محمد بن بشر العبديّ، عن عبد العزيز بن عمر، عن رجل عن سلامان ابن سعد، عن أمه أن خالها حبيب بن فويك حدثها أن أباه فويكا خرج إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر الحديث، ولا أعلم لحبيب غيره.
قال الحافظ ابن حجر: روى ابن منك من طريق عبد العزيز بن عمر أيضا، عن الحليسي السلاماني، عن أبيه، عن جده حبيب بن فويك بن عمرو، أنه عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقية من العين فأذن له فيها، فدعا له بالبركة. (الإصابة) : 2/ 23- 24، ترجمة رقم (1598) .(11/329)
بصري، فنفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عينيه فأبصر، قال: فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وإنه لابن ثمانين، وإن عينيه لمبيضتان.
وأما رد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عين قتادة [ (1) ] بعد ما سالت على خده فكان يقال له: ذو العين
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر بن قتادة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رمى يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها [ (3) ] ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (4) ]- وقد ذكر يوم أحد-: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته.
قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: أي رسول اللَّه، إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني، فأخذها
__________
[ (1) ] هو قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر الأمير المجاهد. أبو عمر الأنصاري الظفري البدري، من نجباء الصحابة، وهو أخو أبي سعيد الخدريّ لأمه، وهو الّذي وقعت عينه على خده يوم أحد، فأتى بها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فغمزها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده الشريفة، فردها، فكانت أصح عينيه.
له أحاديث، وكان على مقدمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لما سار إلى الشام، وكان من الرماة المعدودين. عاش خمسا وستين سنة، وتوفى في سنة ثلاث وعشرين بالمدينة، ونزل عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يومئذ في قبره، (تهذيب سير الأعلام) : 1/ 66- 67، ترجمة رقم (170) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 251- 253، باب ما ذكر في المغازي من وقوع عين قتادة بن النعمان على وجنته، ورد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عينه إلى مكانها وعودتها إلى حالها.
[ (3) ] سية القوسي: طرفها.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 242، غزوة أحد.(11/330)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فردها فأبصرت وعادت كما كانت، ولم تضرب عليه ساعة من ليل ولا نهار، فكان يقول بعد أن أيس: هي أقوى عيني، وكانت أحسنهما.
وخرّج البيهقي من حديث إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة [يحدث] ، عن عياض بن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدريّ، عن قتادة بن النعمان وكان أخوه لأمه: أن عينه ذهبت يوم بدر فجاء بها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فردها فاستقامت [ (1) ] .
وخرّج أبو نعيم من حديث يحيى اليماني حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن قتادة بن النعمان: أنه أصيبت عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فقال: لا] فدعا به فغمز عينه براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.
وخرّج أيضا من حديث مالك بن أنس [ (2) ] ، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن عبيد، عن قتادة بن النعمان، أنه سقطت [ (3) ] عينه يوم أحد فوقعت على وجنته [ (4) ] ، فردها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، فكانت أصح عينيه وأحدّهما [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 253، وأخرجه الدارقطنيّ في (السنن) ، و، عن البيهقي نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) .
[ (2) ] سنده في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا أبو بكر بن خلاد قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن قتادة بن النعمان.
[ (3) ] في (الأصل) : «أصيبت» وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين في (الأصل) فقط.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 483- 484، باب ومن الأخبار في غزوة أحد من الدلائل، حديث رقم (416) ، وهذا الحديث مبثوث في كتب السيرة والمغازي في أحداث غزوة أحد، وغزوة بدر، واللَّه تعالى أعلم.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 334، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب قتادة بن النعمان الظفري، وهو أخو أبي سعيد الخدريّ لأمه، قال: وشهد قتادة بن النعمان العقبة مع(11/331)
ومن حديث عبد اللَّه بن الفضل بن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد الأنصاري قال: حدثنا أبي الفضل عن أبيه عاصم، عن أبيه عمر، عن أبيه قتادة بن النعمان بن زيد قال: أهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قوس، فدفعها إليّ يوم أحد، فرميت بها بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى اندقت سيتها، ولم أزل في مقامي نصب وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتقى [ (1) ] السهام ووجهي [ (2) ] دونه، فكان آخرها سهم ندرت منه [ (3) ] حدقتي، فأخذت حدقتي بيدي فسعيت بها في كفى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدقتي في كفي دمعت عيناه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ ق قتادة كما وقى وجه نبيك [ (4) ] ، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرا [ (5) ] .
[وفي حديث منصور بن أحمد المعدل: فردها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده فكانت أصحّ عينيه وأحدهما] [ (6) ] .
__________
[ () ] السبعين من الأنصار، وكان الرماة المذكورين من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، شهد بدرا وأحدا ورميت عينه يوم أحد فسالت حدقته على وجنته، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! إن، عندي امرأة أحبها، وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرها، فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده فاستوت، ورجعت، وكانت أقوى عينيه وأصحهما بعد أن كبر. وشهد أيضا الخندق والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت معه راية بنى ظفر في غزة الفتح. قال محمد بن عمر: أخبرنى محمد بن صالح بن هاني، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: مات قتادة بن النعمان سنة ثلاث وعشرين، وهو يومئذ ابن خمس وستين سنة، وصلّى عليه عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ونزل في قبره أخوه لأمه أبو سعيد الخدريّ، ومحمد بن مسلمة، والحارث بن خزمة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم. [هذا الحديث حذفه الحافظ الذهبي من التلخيص]
[ (1) ] في (الأصل) : «ألقي» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (الأصل) : «بوجهي» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] ندرت: سقطت.
[ (4) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل أبي نعيم) : «كما وقى نبيك عليه السلام بوجهه» .
[ (5) ] (المرجع السابق) حديث رقم (417) .
[ (6) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(11/332)
وخرّج من حديث مالك، عن محمد، عن عبد اللَّه بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم بدر فسقطتا على وجنتي فأتيت بهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعادهما مكانهما وبزق فيهما، فما عادتا تبرقان.
وخرّجه البيهقي [ (1) ] من حديث ابن أبي خيثمة، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن الغسيل، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن جده قتادة: أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأراد القوم أن يقطعوها، فقال: أنأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نستشيره في ذلك؟ فجئناه، فأخبرناه الخبر، فأدناه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه، فرفع حدقته حتى وضعها موضعها، ثم غمزها براحته، وقال: اللَّهمّ اكسه جمالا، فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت.
وخرّجه من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه قتادة بن النعمان:
أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لا، فدعا به فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت [ (2) ] .
قال البيهقي [ (3) ] : وفي الروايتين جميعا، عن ابن الغسيل أن ذلك كان يوم بدر، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وقال أبو عمر بن عبد البر [ (4) ]- وقد ذكر قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر ابن سوداء بن كعب في كتاب (الصحابة) -: وأصيبت عينه يوم بدر، وقيل:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 251- 252، باب ما ذكر في المغازي من وقوع عين قتادة بن النعمان على وجنتيه، وردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عينه إلى مكانها، وعودتها إلى حالها.
[ (2) ] (المرجع السابق) 252.
[ (3) ] (المرجع السابق) 252.
[ (4) ] (الإستيعاب) : 3/ 1274- 1277، ترجمة رقم (2107) ، قال أبو عمر بعد ذلك: الأصح واللَّه تعالى أعلم، أن عين قتادة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أصيبت يوم أحد، روى(11/333)
يوم الخندق، وقيل: يوم أحد، فسالت حدقته، فأرادوا قطعها، ثم أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرفع حدقته بيده حتى وضعها موضعها، ثم غمزها براحته، وقال: اللَّهمّ اكسه جمالا، فمات وإنها لأحسن عينيه وما مرضت بعد.
وقال عمر بن عبد العزيز- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كنا نتحدث أنها تعلقت بعرق فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: اللَّهمّ اكسها جمالا،
قال عمر ابن عبد العزيز:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وقال عبد اللَّه بن محمد بن عمارة: إن قتادة بن النعمان رميت عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجهه، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه إن عندي
__________
[ () ] عبد اللَّه بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن جابر ابن عبد اللَّه، قال: أصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد، وكان حديث عهد بعرس، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذها بيده فردّها، فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا.
وقال عمر بن عبد العزيز: كنا نتحدث أنها تعلقت بعرق فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال:
اللَّهمّ اكسها جمالا.
وذكر الأصمعي، عن أبي معشر المدني، قال: وفد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بديوان أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، رجل من ولد قتادة ابن النعمان، فلما قدم عليه قال له: ممن الرجل؟ فقال:
أنا ابن الّذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكف المصطفى أحسن الردّ
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما ردّ
فقال عمر بن عبد العزيز- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا.(11/334)
امرأة أحبها، وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرنى، فردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، فاستوت ورجعت وكانت أقوى عينيه وأصحهما [بعد أن كبر] [ (1) ] .
وخرّج أبو بكر بن الأنباري من حديث أبيه، حدثنا أحمد بن عبيد، عن الهيثم بن عدي، عن أبيه قال: أصيبت عين قتادة بن النعمان الظفري يوم أحد، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي في يده، فقال: ما هذا يا قتادة؟ قال: هذا ما ترى يا رسول اللَّه، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت اللَّه لك، فلم تفقد فيها شيئا، فقال: يا رسول اللَّه، واللَّه إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، ولكني رجل مبتلى بحب النساء وأخاف أن يقلن: أعور، فلا يردننى، ولكن تردها لي، وتسأل اللَّه لي الجنة، فقال: أفعل يا قتادة، ثم أخذها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده، فأعادها إلى موضعها، فكانت أحسن عينيه إلى أن مات، ودعا اللَّه له بالجنة.
قال: فدخل ابنه على عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه، فقال له عمر: من أنت يا فتى؟ فقال:
أنا ابن الّذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأحسن حالها ... فيا حسن ما عين ويا طيب ما رد
فقال عمر: بمثل هذا فليتوسل إلينا المتوسلون ثم قال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(11/335)
وأما برء يد محمد بن حاطب [ (1) ] بنفث المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم عليها
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت محمد بن حاطب يقول: وقعت على يدي القدر، فاحترقت، فانطلقت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعل يتفل عليها ويقول: أذهب البأس رب الناس، فأحسبه قال: واشف أنت الشافي.
__________
[ (1) ] هو محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، أبو القاسم القرشي الجمحيّ، وقيل: أبو إبراهيم، وقيل أبو وهب، أمه أم جميل، يقال: ولد بأرض الحبشة، وقيل ذلك على سبيل المجاز، لأنه ولد في السفينة قبل أن يصلوا إلى الحبشة. هاجر أبوه، ومات أبوه بها، فقدمت به أمه إلى المدينة مع أهل السفينتين، فروى عبد اللَّه بن الحارث ابن محمد بن حاطب، عن أبيه، عن جده قال: لما قدمنا أرض الحبشة خرجت بي أمي- يعنى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه! هذا ابن أخيك- وقد أصابه هذا الحرق من النار فادع اللَّه له ... الحديث.
ورواه أيضا عبد الرحمن بن عثمان بن محمد الحاطبي، عن أبيه، عن جده، أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة والبغوي، وفيه أن أمه قالت: يا رسول اللَّه! هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمى بك. قالت: فمسح على رأسك، وتفل في فيك، ودعا لك بالبركة.
وأخرج ابن أبي خيثمة، عن محمد بن سلام الجمحيّ، قال: وحدثني بعض أصحابنا، قال: هو أول من سمى في الإسلام محمدا. ولد بأرض الحبشة، وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبد اللَّه بن جعفر، وأرضعت أم محمد عبد اللَّه بن جعفر، فكانا يتواصلان على ذلك حتى ماتا. وقال ابن شاهين: سمعت البغوي يقول: هو أول من سمي في الإسلام محمدا، قال:
وكان يكنى أبا القاسم: وجزم ابن سعد بأن كنيته أبو إبراهيم. وقال الهيثم: مات في ولاية بشر على العراق، وقال غيره: سنة أربع وسبعين، وقيل: مات سنة ست وثمانين. (الإصابة) : 6/ 810، ترجمة رقم (7770) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 174، باب في نفثه صلّى اللَّه عليه وسلّم في يد محمد بن حاطب، وقد احترقت حتى برئت.(11/336)
ومن طريق يعقوب بن سفيان الفسوي، قال: حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا شريك، عن سماك، عن محمد بن حاطب، قال: أدنيت إلى قدر لنا، فوضعت يدي فيه فاحترقت، فذهبت بي أمي إلى البطحاء، فقالت: يا رسول اللَّه، إن ابني هذا احترقت يده، فجعل يتكلم الكلام ولا أدري ما هو، ولكنه ينفث، فسألت في إمارة عثمان، - رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقالوا:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أظنه قال: ما رويناه من حديث شعبة [ (1) ] .
ومن طريق جعفر بن عون قال: أخبرنا مسعر عن سماك، عن محمد بن حاطب قال: صنعت أمى مريقة [ (2) ] فأهراقت على يدي، فذهبت بي أمي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال كلاما لم أحفظه، وسألت عنه في إمارة عثمان ما قال؟ قالت:
قال: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت.
وخرّج البيهقي وأبو نعيم، كلاهما من حديث سعيد بن سليمان قال: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم، عن جده معمر بن حاطب، عن أمه أم جميل أم محمد بن حاطب، قالت: أقبلت بك من أرض الحبشة، حتى إذا كنت من المدينة بليلة أو ليلتين، طبخت لك طبيخا، ففني الحطب فرجعت [ (3) ] أطلب الحطب فتناولت القدر، فانكفأت على ذراعك القدر، فقدمت بك المدينة، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمى بك فمسح على رأسك ودعا لك بالبركة، ثم تفل في فيك، وجعل يتفل على يديك وهو يقول: أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما. قالت: فما قمت بك من عنده حتى برئت [ (4) ] يداك.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وهو أجود للسياق، وفي (دلائل البيهقي) : «مريعة» .
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فرحت» .
[ (4) ] في (الأصل) : «قويت» وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) ، و (دلائل أبي نعيم) ، والحديث أخرجه أيضا أبو نعيم في (الدلائل) : 467، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشفاء يد محمد بن حاطب، حديث رقم (398) ، وأخرجه البخاري في (التاريخ الكبير) : 1/ 11/ 17، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 70،(11/337)
وقال أبو عمر بن عبد البر: محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحيّ، ولد بأرض الحبشة، كانت أمه أم جميل، ويقال: جويرية بنت المجلل بن عبد اللَّه بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ القرشية العامرية، قد هاجرت إليها مع زوجها حاطب، فولدت له هناك محمدا والحارث ابنا حاطب، وكان محمد بن حاطب يكنى أبا القاسم، وقيل: أبا إبراهيم، توفي في خلافة عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين بمكة، وقيل: بالكوفة وعداده في الكوفيين.
وقال مصعب: كان محمد بن حاطب في حين قدومه من أرض الحبشة وهو صبي، قد أصابته نار في إحدى يديه فأحرقته، فذهبت به أم جميل بنت المجلل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرقاه ونفث عليه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال:
أخبرني أبي عثمان، عن جده محمد بن حاطب، عن أمه أم جميل أم محمد بن حاطب قالت: خرجت بك من أرض الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخا، فخرجت أطلب الحطب، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت المدينة وأتيت بك إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللَّه! هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمى باسمك، فمسح على رأسك ودعا بالبركة، ثم تفل في فيك وجعل يتفل على يديك ويقول: أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقما. فما قمت بك من عنده حتى برئت يدك [ (1) ] .
قال كاتبه [ (2) ] : رواية البخاري هذه خارج (الصحيح) [ (3) ] .
__________
[ () ] كتاب معرفة الصحابة، ذكر فاطمة بنت المجلل القرشية أم جميل أم محمد بن حاطب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (6909) ، وقد سكت، عنه حافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1368- 1369، ترجمة محمد بن حاطب رقم (2324) .
[ (2) ] هو التقي المقريزي عليه رحمة اللَّه.
[ (3) ] رواها الإمام البخاري في (التاريخ الكبير) : 1/ 1/ 17.(11/338)
وأما ذهاب السلعة [ (1) ] من كف شرحبيل [ (2) ] بنفث الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ووضع يده عليها
فخرج البيهقي [ (3) ] من طريق البخاري خارج (الصحيح) قال: قال لي على: حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مخلد بن عقبة بن عبد الرحمن بن شرحبيل الجعفي، عن جده عبد الرحمن، عن أبيه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبكفى سلعة، فقلت: يا رسول اللَّه! هذه السلعة آذتني، تحول بيني وبين قائم السيف أن أقبض عليه عنان الدابة، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فقال: افتح كفك، ففتحتها، ثم قال: اقبضها فقبضتها، ثم قال: ادن منى، فدنوت منه، فقال: افتحها، ففتحتها، فنفث في كفى، ووضع كفه على السلعة، فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها، وما أدرى أين أثرها.
__________
[ (1) ] السلعة: غدة تظهر بين الجلد واللحم إذا غمزت باليد تحركت.
[ (2) ] هو شراحيل أو شرحبيل الجعفي. ذكر علي بن المديني، عن يونس بن محمد، عن حماد بن زيد، عن مخلد بن عقبة بن عبد الرحمن بن شراحيل الجعفي، عن جده عبد الرحمن، عن أبيه شراحيل، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبيدي سلعة ... الحديث. (الاستيعاب) : 2/ 697، ترجمة شراحيل رقم (1162) ، ترجمة رقم (1170) ، وقال فيه: شرحبيل.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 176- 177، باب ما جاء في نفثه في كف شرحبيل الجعفي، ووضع كفه على السلعة التي كانت بكفه حتى ذهبت، ثم قال البيهقي: وقرأت في كتاب الواقدي، أن أبا سبرة قال: يا رسول اللَّه؟ إن لي بظهر كفى سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح، فجعل يضرب به على السلعة ويمسحها فذهبت، فدعا له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولابنيه، أحدهما: سبرة، والآخر، عزيز، فسماه عبد الرحمن، وهو أبو خيثمة بن عبد الرحمن.
وقرأت في كتاب محمد بن سعيد، عن الحميدي، عن فرح بن سعيد الواقدي، عن عمه ثابت بن سعيد، عن أبيه، عن جده أبيض حمال، أنه كان بوجهه جدرة- يعنى القوباء- وقد التمعت وجهه، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح وجهه، فلم يمس ذلك اليوم ومنها أثر.(11/339)
وقال ابن عبد البر: شرحبيل الجعفي وقال: بعضهم فيه شراحيل، حديثه في أعلام النبوة في قصة السلعة التي كانت به، شكاها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنفث فيها، ووضع يده عليها.
وأما برء خبيب [ (1) ] بتفل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على موضع مصابه
فروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن، قال: ضرب خبيب يعنى ابن على يوم بدر، فمال شقه، فتفل عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأمه ورده فانطبق، فلم ير لها أثر. وروى عنه ابنه عبد الرحمن.
__________
[ (1) ] هو خبيب، بالتصغير، ابن إساف بهمزة مكسورة، وقد تبدل تحتانية- يساف- بن، عنبة، بكسر المهملة وفتح النون، بعدها موحدة، ابن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن الأوس الأنصاري الأوسي. ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا. وقال الواقدي: كان تأخر إسلامه. إلى أن خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بدر، فلحقه في الطريق، فأسلم، وشهدها وما بعدها، ومات في خلافة عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-. وقال ابن إسحاق، عن مكحول، عن سعيد ابن المسيب، قال: بعث عمر بن الخطاب خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج على بعض العمل، وكان بدريا. وروى أحمد، والبخاري في (تاريخه) من طريق مسلم ابن سعيد، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه رواه أحمد بن منيع، فقال في روايته: عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب.
وقال ابن إسحاق: حدثني ابن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب جدي يوم بدر، فمال سيفه، فتفل عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وردّه ولأمه. وذكر الواقدي أن الّذي ضربه هو أمية بن خلف، ويقال:
إنه هو الّذي قتل أمية. قال الحافظ: وفي حديثه المذكور، عند أحمد أنه قال: ضربني رجل من المشركين على عاتقي فقتلته، ثم تزوجت ابنته فكانت تقول لي: لاعدمت رجلا وشحك هذا الوشاح، فأقول: لاعدمت رجلا عجله إلى النار! (الإصابة) : 2/ 261- 262، ترجمة رقم (2221) .(11/340)
وأما ذهاب السلعة من كف أبي سبرة بمسح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال البيهقي [ (1) ] : وقرأت في كتاب الواقدي أن أبا سبرة قال: يا رسول اللَّه إن بظهر كفى سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح، فجعل يضرب على السلعة ويمسحها، فذهبت، فدعا له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأبنيه:
أحدهما، سبرة، والآخر.. عزيز، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد الرحمن، وهو أبو خيثمة [بن عبد الرحمن] [ (2) ] قال ابن عبد البر [ (3) ] : أبو سبرة الجعفي اسمه يزيد ابن مالك بن عبد اللَّه بن ذؤيب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مروان بن جعفي، والد سبرة بن أبي سبرة، وعبد الرحمن بن أبي سبرة، له صحبة، وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه ابناه عزيز وسبرة، فسمى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عزيزا عبد الرحمن، روى، عنه ابناه في القراءة في الوتر وفي الأسماء حديثا مرفوعا، جد هو خيثمة بن عبد الرحمن [بن أبي سبرة] .
وقال ابن الكلبي: وولد سلمة بن عمرو يعني ابن ذهل بن مروان بن جعفي بن سعد العشيرة بن مالك، وهو مذحج بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الذؤيب، والمعترض منهم أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد اللَّه بن ذؤيب بن سلمة، وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه ابناه سبرة عبد الرحمن، وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء، وأقطعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وادى جعفي باليمين.
وكان اسم الوادي جردان، وكان الحجاج ولى عبد الرحمن بن أبي سبرة أصبهان وابنه خيثمة بن عبد الرحمن الفقيه، ومحمد بن عبد الرحمن كان من فرسان العرب وولى مسايح الري. انتهى [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 176.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (الاستيعاب) : 4/ 1667، ترجمة رقم (2985) وما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (4) ] (جهرة أنساب العرب لابن حزم) : 409- 410.(11/341)
وقال المعافي بن زكريا: حدثنا ابن دريد أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه قال: حدثنا الوليد بن عبد اللَّه الجعفي عن أبيه، عن أشياخ قومه، قالوا: كانت عند أبي سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد اللَّه بن الذؤيب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مروان بن جعفي امرأة منهم، فولدت له سبرة وعزيز، ثم ماتت فورثها ابناها إبلا، ثم تزوج أبو سبرة أخرى، فجفا ابنيه ونجاهما عنه، فكانا في إبلها التي ورثاها من أمها، فلما بلغهما مهاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال سبرة لمولى لأمه، كان يرعى عليه: ابغني ناقة كنازا، يعني كثيرة اللحم مجتمعة الجسم ذات لبن، فأتاه بها فركبها، وهو يقول لأبيه:
ألا بلغا عني يزيد بن مالك ... أما بال الشيخ أن يتذكرا
رأيت أبانا صدّ عنا بوجهه ... وأمسك عنا ماله وتمرا
ثم توجه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأقبل أخوه عزيز، فقال للمولى: أين أخي؟ قال:
ندت ناقته، فذهب في طلبها، فنظر في الإبل فلم ير شيئا، فقال للمولى:
لتخبرني، فأخبره وأنشده البيتين فدعا بناقة فركبها وهو يقول:
ألا بلغا عني معاشر مذجح ... فهل لي من بعد ابن أمي معشرا؟
ولحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم أقبل أبو سبرة، فقال للمولى: أين أخي؟ قال:
ندت ناقته، فذهب في طلبها، فنظر في الإبل فلم ير شيئا، فقال للمولى: أين ابناي؟ فأخبره خبرهما وأنشده شعريهما، فركبها وهو يقول:
وسبرة كان النفس لو أن حاجة ... ترد ولكن كتان أمرا تيسرا
وكان عزيز خلتي فرأيته ... تولى ولم يقبل عليّ وأدبرا
ثم لحق بهما، وخلف عند المولى غلاما له يقال له: شنقرا فمكث المولى أياما، ثم لحق بهم، وأنشأ يقول:
بدلت إيناسا حيالا وشنقرا ... بأهلي لا أرضى به أولئك
فأتى أبو سبرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه ابناه فأسلموا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لعزيز: ما اسمك؟ فقال عزيز، قال: لا عزيز إلا اللَّه، أنت عبد الرحمن [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال الحافظ ابن حجر: عبد الرحمن بن أبي سبرة عداده في أهل الكوفة، وقال ابن حبان: يقال له صحبة، وقال:
وأخرج أحمد، وابن حبان في (صحيحه) من طريق أبي إسحاق، عن خثيمة(11/342)
وقال أبو سبرة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني بظهر كفي سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح، فجعل يضرب به على السلعة، ويمسحها، فذهبت، ودعا له ولابنيه، وأقطعه جردان [ (1) ] واديا في بلاد قومه. قال ابن الكلبيّ: فلم يسمع بأهل بيت أجابوا إلى الإسلام طوعا مثل هؤلاء.
__________
[ () ] ابن عبد الرحمن، عن أبيه قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أبي وأنا غلام، فقال: ما اسم ابنك هذا؟
قال: اسمه عزيز، قال: لا تسمّ عزيزا، ولكن سمه عبد الرحمن، فإن أحب الأسماء إلى اللَّه تعالى، عبد اللَّه، وعبد الرحمن، والحارث، تابعه العلاء بن المسيب بن خيثمة، عن أبيه.
وأخرجه ابن مندة من طريق شعيب بن سليمان، عن عباد بن العوام، عن العلاء، أرسله إبراهيم بن زياد، وعن عباد، فقال بهذا السند، عن خيثمة: كان اسم أبي عزيزا، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنت عبد الرحمن. وكأن الصواب: كان اسم أخي.
وأخرجه ابن مندة من طريق حجاج بن أرطاة، عن عمر بن سعيد، عن سبرة بن أبي سبرة، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعى ابني، فقال: ما اسم ولدك؟ قلت: فلان، وفلان، وعبد العزى، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: سمّه عبد الرحمن. (الإصابة) : 4/ 308، ترجمة رقم (5129) .
[ (1) ] جردان، بالدال المهملة وآخره نون: بلد قرب كابلستان، بين غزنة وكابل، به يصيف أهل ألبان (معجم البلدان) : 2/ 144، موضع رقم (3036) .(11/343)
وأما ذهاب القوباء من وجه أبيض بن حمال [ (1) ] بمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه
فخرّج محمد بن سعد، عن الواقدي عن الحميدي، عن فرح بن سعيد، عن عمه ثابت بن سعيد، عن أبيه، عن جده أبيض أنه كان بوجهه جدرة يعنى القوباء.
وقد التمعت وجهه، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح وجهه فلم يمس من ذلك اليوم، ومنها أثر هكذا رواه البيهقي [ (2) ] .
وأما برء جراحة خبيب بتفل المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها
فخرّج البيهقي من حديث خلاد الواسطي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المستلم بن سعيد، حدثنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب، عن أبيه عن جده، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه، فقلنا: إنا نشتهي معك مشهدا. قال: أسلمتم، قلنا: لا قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، فأسلمت وشهدت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فأصابني ضربة على عاتقي فخانتني، فتعلقت يديي فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتفل فيها وألزقها، فالتأمت، فبرأت، وقتلت الّذي ضربني، ثم تزوجت ابنة الّذي قتلته وكانت تقول:
عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح، فأقول: لا عدمت رجلا أعجل أباك إلى النار [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لم أجد له ذكر فيما بين يدي من كتب التراجم.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 177.
[ (3) ] سبق تخريجه.(11/344)
قال كاتبه [ (1) ] : وخبيب هذا بخاء معجمه مضمومة، وبعدها باء مفتوحة معجمة بواحدة، وقد اختلف في اسم أبيه [ (2) ] ، فقيل إساف بهمزة وقيل يساف بياء آخر الحروف ابن عنبة بكسر العين، وفتح النون والباء الموحدة ابن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أسلم بطريق بدر وما بعد، وتزوج حبيبة بنت خارجة بعد أبي بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومات في خلافة عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو جد خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يساف.
__________
[ (1) ] هو التقى المقريزي عليه رحمة اللَّه.
[ (2) ] سبق أن أشرنا إلى مصادر ترجمته.(11/345)
وأما عدم شيب عمرو بن أخطب [ (1) ] بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجمله اللَّه
فخرّج أبو نعيم من حديث حسين بن واقد ويحيى الحماني، قالا: حدثنا أبو نهيك الأزدي قال: حدثني عمرو بن أخطب، قال: استسقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتيته بجمجمة وفيها ماء وفيها شعرة، فرفعتها فناولته فنظر إليّ، فقال: اللَّهمّ جمله، قال: فرأيته وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء [ (2) ] .
وخرّجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين بن واقد مثله، وقال: هو ابن أربع وتسعين سنة.
وخرّجه البيهقي من طريق الإمام أحمد، قال: حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا عروة بن ثابت، حدثنا علباء بن أحمر، قال: حدثني أبو زيد الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لي: ادن مني، قال: فمسح بيده علي رأسي ولحيتي، ثم قال: اللَّهمّ جمله، وأدم جماله، قال: فبلغ بضعا ومائة سنة، وما في لحيته بياض إلا نبذ يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه، ولم ينقبض وجهه حتى مات [ (3) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح موصول،
قد رواه أيضا الحسين بن واقد، قال:
__________
[ (1) ] هو عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري الخزرجي، أبو زيد، مشهور بكنيته، غزا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث عشرة مرة، ومسح رأسه،
وقال: اللَّهمّ جمله،
ونزل البصرة، وروى عنه ابنه بشير، وآخرون، وحديثه في (صحيح مسلم) ، و (السنن) ، وهو ممن جاوز المائة. ويقال: إنه من بني الحارث بن الخزرج، بلغ مائة سنة ونيفا وما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض، هو عزرة بن ثابت، روى عنه أنس بن سيرين، وأبو الخليل، وعلباء بن أحمر وتميم بن حويص، وأبو نهيك، وسعيد بن قطن. (الإصابة) : 4/ 599) ، ترجمة رقم (5763) ، (الإستيعاب) :
3/ 1162، ترجمة رقم (1889) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 458، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن أخطب، حديث رقم (384) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 211، باب ما جاء في شأن أبي زيد، عمرو بن أخطب الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ودعائه له، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.(11/346)
حدثنا أبو نهيك [الأزدي] [ (1) ] عن عمرو بن أخطب، وهو أبو يزيد، قال: استسقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة، فرفعتها ثم ناولته، فقال: اللَّهمّ جمله، قال: فرأيته ابن ثلاث وتسعين، وما في رأسه، ولحيته شعرة بيضاء [ (2) ] .
قال ابن عبد البر: عمرو بن أخطب أبو زيد الأنصاري هو مشهور بكنيته، يقال إنه من بني الحارث بن الخزرج غزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوات، ومسح على رأسه ودعا له بالجمال، فيقال إنه بلغ مائة سنة ونيفا ما في رأسه ولحيته إلا نبذ من شعر أبيض.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 212، ثم قال بعقبة: وهو فيما ذكره أبو عبد اللَّه الحافظ فيما أنبأنى به قال: أنبأنا أبو العباس: القاسم بن القاسم السياري، حدثنا محمد بن موسى الباشاني، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا الحسين بن واقد.(11/347)
وأما أن عمرو بن الحمق [ (1) ] بلغ الثمانين ولم يبيض شعره بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم له
__________
[ (1) ] هو عمرو بن الحمق- بفتح أوله وكسر الميم بعدها قاف، ابن كاهل، ويقال: الكاهن بن حبيب ابن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي الكعبي. قال ابن السكن: له صحبة، وقال أبو عمر: هاجر بعد الحديبيّة، وقيل: بل أسلم بعد حجة الوداع.
والأول أصح. قال الحافظ ابن حجر: قد أخرج الطبراني من طريق صخر بن الحكم، عن عمه، عن عمرو بن الحمق قال: هاجرت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبينا أنا عنده ... فذكر قصة على، وسنده ضعيف وقد وقع في (الكنى) للحاكم أبي أحمد في ترجمة أبي داود المازني، من طريق الأموي، عن ابن إسحاق، ما يقتضي أن عمرو بن الحمق شهد بدرا.
وجاء عن أبي إسحاق بن أبي فروة، أحد الضعفاء، قال: حدثنا يوسف بن سليمان عن جده معاوية، عن عمرو بن الحمق أنه سقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبنا- فقال: اللَّهمّ أمتعه بشبابه. فمرت ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء، يعنى أنه استكمل الثمانين،
لا أنه عاش بعد ذلك ثمانين. قال أبو عمر:
سكن الشام، ثم كان يسكن الكوفة، ثم كان ممن قام على عثمان مع أهلها، وشهد مع علي حروبه، ثم قدم مصر.
فروى الطبراني وابن قانع من طريق عميرة بن عبد اللَّه المعافري، عن أبيه أنه سمع عمرو بن الحمق يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر الجند العربيّ، قال عمرو: فلذلك قدمت عليكم مصر.
وأخرج النسائي وابن ماجة، عن رواية رفاعة بن سواد عنه حديث: من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا.
وروى عنه أيضا عبد اللَّه بن عامر المعافري، وجبير بن نفير الحضرميّ، وأبو منصور مولى الأنصار.
وذكر الطبري عن أبي مخنف أنه كان من أعوان حجر بن عدي، فلما قبض زياد على حجر بن عدي، وأرسله مع أصحابه إلى الشام هرب عمرو بن الحمق.
وذكر ابن حبان أنه توجه به إلى الموصل، فدخل غارا فنهشته حية فمات فأخذ عامل الموصل رأسه فأرسله إلى زياد، فبعث به إلى معاوية وذلك سنة خمسين. وقال خليفة: سنة إحدى وخمسين، وزاد أن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي قتل بالموصل، وبعث برأسه. وقيل:
بل عاش إلى أن قتل في وقعة الحرة سنة ثلاث وستين. قال ابن السكن: يقال إن معاوية(11/348)
فخرج أبو نعيم من حديث عبد الأعلى بن مسهر، قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه عن يوسف بن سليمان، عن جدته ميمونة ناثرة عن عمرو بن الحمق أنه سقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبنا، فقال: اللَّهمّ أمتعه بشبابه، فمرت عليه ثمانون سنة، لم ير له شعرة بيضاء.
وخرّجه ابن عساكر من طريق هشام بن عمار، قال: حدثنا يحيى بن حمزة الحضرميّ، حدثني إسحاق بن أبي فروة، حدثنا يوسف بن سليمان، عن جدته ميمونة، عن عمرو بن الحمق: أنه سقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبنا ... الحديث.
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليهودي بالجمال فاسودت لحيته بعد بياضها
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث محمد بن إبراهيم بن عزرة بن ثابت عن أبيه، عن عزرة بن ثابت الأنصاري، عن ثمامة، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن يهوديا أخذ من لحية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ جمله، فاسودت لحيته بعد ما كانت بيضاء [ (2) ] .
وخرّج من طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: حلب يهودي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ جمله، قال: فاسودّ شعره حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا.
__________
[ () ] أرسل في طلبه، فلما أخذ فزع، فمات، فخشوا أن يتهموا، فقطعوا رأسه، وحملوه إليه، ثم ذكر بسند جيد إلى أبي إسحاق السبيعي، عن هنيدة الخزاعي، قال: أول رأس أهدي في الإسلام، رأس عمرو بن الحمق، بعث به زياد الى معاوية.
(الإصابة) : 4/ 632- 624، ترجمة رقم (5822) ، (الإستيعاب) : 3/ 1173- 1174، ترجمة رقم (1909) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 210، باب ما روى في شأن اليهودي الّذي أخذ من لحية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] قال البيهقي بعقبة: له شاهد بإسناد مرسل.(11/349)
قال معمر وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش نحوا من تسعين سنة، فلم يشب [ (1) ] .
قال البيهقي: ورأيته في كتاب (المراسيل) لأبي داود مختصرا: إن يهوديا حلب للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: اللَّهمّ جمله، فاسود شعره [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .(11/350)
وأما تمتع السائب بن يزيد [ (1) ] بحواسه وسواد شعره بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له
فخرّج البخاري [ (2) ] من حديث إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا الفضل بن موسى عن الجعد بن عبد الرحمن، قال: رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا، فقال: قد علمت ما متعت سمعي وبصري إلا بدعاء
__________
[ (1) ] هو السائب بن يزيد بن سعيد بن يمامة أو ثمامة، ويقال عائد بن الأسود الكندي أو الأزدي، وقيل: هو كناني، ثم ليثى، وقيل: هذلي، يعرف بابن أخت النمر، والنمر خال أبيه يزيد، وهو النمر بن جبل، ووهم من قال إنه النمر بن قاسط، وقال الزهري: هو أزدى، حالف بني كنانة، له ولأبيه صحبة. روى البخاري من طريق محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، قال: حج أبي مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا ابن ست سنين. ومن طريق الزهري عنه، قال: خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من تبوك. وفي الصحيحين أيضا من طريق محمد بن يوسف، عن السائب، أن خالته ذهبت به وهو وجع، فسمح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه، ودعا له وتوضأ وشرب من وضوئه، ونظر إلى خاتم النبوة. وأم السائب: أم العلاء بنت شريح الحضرمية، وكان العلاء بن الحضرميّ خاله. قال الزبيري: استعمله عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على سوق المدينة، وهو وسليمان بن أبي خيثمة، وعبد اللَّه بن عتبة بن مسعود. قال أبو نعيم:
مات سنة اثنتين وثمانين، وقيل: بعد التسعين وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنة أربع، وقال ابن أبي دواد: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة ووهم يعقوب بن سفيان فذكره فيمن قتل يوم الحرة. له ترجمة في: (الاستيعاب) : 2/ 576- 577، ترجمة رقم (902) ، (الإصابة) :
3/ 26- 28، ترجمة رقم (3079) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 695، كتاب المناقب، باب (21) بدون ترجمة حديث رقم (3540) .
وأخرج في باب (22) خاتم النبوة، حديث رقم (3541) ، ولفظه: حدثنا محمد بن عبد اللَّه، حدثنا حاتم عن الجعد بن عبد الرحمن قال: سمعت السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول اللَّه، فقالت: يا رسول اللَّه- إن ابن أختي وقع فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه.(11/351)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن خالتي ذهبت بي إليه، فقالت: يا رسول اللَّه، إن ابن أختي شاك، فادع اللَّه له، فدعا لي.
وخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث عكرمة بن عمارة، قال: حدثنا عطاء مولى السائب قال: كان رأس السائب أسود من هذا المكان ووصف بيده أنه كان أسود الهامة أي مقدم رأسه، وكان سائر مؤخرة لحيته وعارضاه أبيض.
فقال: يا مولاي ما رأيت أحدا أعجب شعرا منك، قال: وما تدري [يا بني] لم ذاك؟ إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مر بي وأنا مع الصبيان، فقال: من أنت؟
قلت: السائب بن يزيد أخو النمر، فمسح يده على رأسي، وقال: بارك اللَّه فيك، فهو لا يشيب أبدا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 209، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم للسائب بن يزيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وما ظهر فيه ببركة دعائه من الآثار، ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) ، وقال: أخرجه الطبراني في (الكبير) ، ورجال (الكبير) رجال الصحيح، غير عطاء مولى السائب، وهو ثقة.(11/352)
وأما عدم شيب موضع يد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأس محمد بن أنس [ (1) ]
__________
[ (1) ] هو محمد بن أنس بن فضالة بن عبيد بن يزيد بن قيس بن ضبيعة بن الأصرم بن جحجبي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي. ذكره في الصحابة، وقال: قال لي يحيى بن موسى، عن يعقوب بن محمد، أنبأنا إدريس بن محمد بن يونس بن محمد ابن أنس الظفري، حدثني جدي عن أبيه، قال: قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتى بي إليه، فمسح برأسي، وحج بى حجة الوداع، وأنا ابن عشر سنين، وقال: دعا لي بالبركة، وقال: سموه باسمي، ولا تكنوه بكنيتي. وقال يونس: ولقد عمّر أبى حتى شاب كل شيء فيه، ومات وما شاب موضع يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأسه. وكذا أخرجه مطين، عن أبي أمية الطرسوسي، وعن يعقوب بن محمد- هو الزهري به. واختصره ابن أبي حاتم، فقال: محمد ابن أنس بن فضالة، قال: السكن مطولا من وجه أخر، عن يعقوب بن محمد بهذا السند، لكن قال: محمد بن فضالة، فنسب محمد إلى جده. قال ابن شاهين: سمعت عبد اللَّه بن سليمان بن الأشعث يقول: محمد بن أنس بن فضالة، هو الّذي كان تصدق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بماله وابن مندة، من طريق سفيان بن حمزة، عن عمرو بن أبي فروة، عن مشيخة أهل بيته، قال: قتل أنس بن فضالة يوم أحد، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمحمد بن أنس بن فضالة فتصدق عليه بعتق لا يباع ولا يوهب.
قال ابن مندة: لا يروي إلا بهذا الإسناد محمد بن فضالة عن أبيه- وكان أبوه ممن صحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو وجده: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاهم في بني ظفر. ووصله البغوي عن أبي كامل، وهو فضيل بن حسين، والصلت بن مسعود كلاهما عن فضيل بن سليمان بهذا، وزاد فجلس على صخرة ومعه ابن مسعود ومعاذ، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قارئا فقرأ، حتى إذا بلغ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً بكى بكر حتى اضطرب لحياه، وقال: رب على هؤلاء شهدت، فكيف بمن لم أره. وهكذا أخرجه ابن شاهين عن البغوي، وقال: قال البغوي: لا أعلم روى محمد بن فضالة غير هذا الحديث. وفرق البغوي وابن شاهين وابن قانع وغيرهم بين محمد بن أنس بن فضالة، وبين محمد بن فضالة، والراجح أنهما واحد: لكن قال ابن شاهين أنس ابن فضالة شهد فتح مكة والمشاهد بعدها. واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (الإصابة) : 6/ 4- 5، ترجمة رقم (7762) ، (الإستيعاب) : 3/ 365، ترجمة رقم (317) .(11/353)
فخرّج البخاري في (التاريخ) [ (1) ] على ما أورده البيهقي [ (2) ] من حديث يحيي بن موسى، عن يعقوب بن محمد [بن إبراهيم الفارسيّ] قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد اللَّه الأصبهاني قال: [ (3) ] أنبأنا إدريس بن محمد بن يونس ابن محمد بن أنس بن فضالة الظفري قال: حدثني جدي يونس عن أبيه قال:
قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتى بي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح رأسي وحج بي حجة الوداع، وأنا ابن عشر سنين، ودعا لي بالبركة، وقال: سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي قال: قال يونس: فلقد عمر أبي حتى شاب كل شيء من أبي، وما شاب موضع يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأسه ولحيته.
__________
[ (1) ] (تاريخ البخاري) : 1/ 1/ 16.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 213- 214، باب ما جاء في مسحه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأس محمد بن أنس، وحنظلة وعينهما، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(11/354)
وأما تبين بركة يد حنظلة بن حذيم [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه بالبركة
فخرّج البيهقي من حديث أبي القاسم البغوي، قال: حدثنا هارون بن عبد اللَّه أبو موسى حدثنا محمد بن سهل بن مروان، حدثنا الذيال بن عسكر بن
__________
[ (1) ] هو حنظلة بن حذيم بن حنيفة التميمي، ويقال: الأسدي، أسد خزيمة، ويقال له: المالكي، ومالك بطن من بني أسد بن خزيمة. له ولأبيه ولجده صحبه، وقد قال فيه العقيلي في رواية حنظلة بن حنيفة بن حذيم فقلبه. وقد حكى البخاري ذلك عن بعض الرواة.
قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو سعيد مولى بنى هاشم، حديثا الذيال بن عبيد، سمعت جدي حنظلة بن حذيم، حدثني أبي أن جدي حنيفة قال لحذيم: اجمع لي بني، فأوصاهم، فقال: إنّ ليتيمي الّذي في حجري مائة من الإبل. فقال حذيم: يا أبت، إني سمعت بنيك يقولون: إنما نقر بهذا لتقر عين أبينا، فإذا مات رجعنا، فارتفعوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجاء حنيفة وحذيم ومن معهما ومعهم حنظلة وهو غلام وهو رديف أبيه حذيم- فقص حنيفة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قصته، قال: فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجثا على ركبتيه، وقال: لا، لا الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فعشرون، وإلا فثلاثون، فإن كثرت فأربعون. قال: فودعوه ومع اليتيم هراوة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عظمت هذه هراوة يتيم. فقال حذيم: إن لي بنين ذوي لحي، وإن هذا أصغرهم- يعنى حنظلة- فادع اللَّه له، فمسح رأسه وقال: بارك اللَّه فيك. أو قال: بورك فيك. قال الذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالإنسان الوارم وجهه، فيتفل على يديه ويقول: بسم اللَّه، ويضع يده على رأسه موضع كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيمسحه، ثم يمسح موضع الورم، فيذهب الورم. ورواه الحسن بن سفيان في (مسندة) من وجه آخر عن الذيال، وزاد أن اسم اليتيم: ضريس بن قطيعة، وأنه كان شبيه المحتلم. ورواه الطبراني بطوله منقطعا، ورواه أبو يعلى من هذا الوجه، وليس بتمامه، وكذا رواه يعقوب بن سفيان والمنجنيقى في (مسندة) وغيرهم.
وأخرج له الحسن بن سفيان والباوردي وابن السكن من طريق مسلم بن قتيبة عن الذيال: سمعت جدي حنظلة سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يتم بعد احتلام، ولا تصلي جارية إذا هي إلا بخمار. (الإصابة) :
2/ 132- 134، ترجمة رقم (1857) ، (الاستيعاب) : 2/ 382، ترجمة رقم (550) .(11/355)
حنظلة بن حذيم بن حنيفة قال: سمعت جدي حنظلة يحدث أبي وأعمامه أن حنيفة جمع بنيه.
فذكر الحديث في وصيته، وقدومه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه حذيم وحنظلة، وفي آخره قال: بأبي أنت وأمي، أنا رجل ذو بنين [ (1) ] هذا ابني حنظلة، فسمّت عليه [ (2) ] .
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام وأخذ بيده، فمسح رأسه، وقال له: بورك فيك، أو قال: بارك اللَّه فيك، ورأيت حنظلة يوما بالشاة الوارم ضرعها والبعير والإنسان به الورم فيتفل في يده ويمسح بصلعته، ويقول: بسم اللَّه على أثر يد رسول اللَّه، فيمسحه فيذهب عنه [ (3) ] .
وخرّج من طريق البخاري في (التاريخ) [ (4) ] قال: حنطلة بن حذيم، قال يعقوب بن إسحاق حنظلة بن حنيفة بن حذيم، قال: قال حذيم: يا رسول اللَّه إني رجل ذو بنين، وهذا أصغر بني، فسمت عليه. قال: فقال: يا غلام فأخذ بيده ومسح برأسه، وقال: بارك اللَّه فيك أو بورك فيك، فرأيت حنظلة يؤتي بالإنسان الوارم، فيمسح بيده ويقول: بسم اللَّه فيذهب الورم.
وخرّجه الإمام أحمد [ (5) ] من حديث أبي سعيد مولى بني هاشم، حدثنا ذيال ابن عتيك فذكره بطوله إلى أن قال: فدنا أبي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إن لي بنين ذوي لحي، ودون ذلك وإن ذا أصغرهم فادع اللَّه له، فمسح رأسه، وقال:
بارك اللَّه فيك أو بورك فيك. قال ذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتي بالإنسان
__________
[ (1) ] في (الأصل) : ذو بنين، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] فادع له.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 213- 214، باب ما جاء في مسحه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأس محمد بن أنس، وحنظلة بن حنيفة التيمي، وعينيهما، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (4) ] (التاريخ الكبر) 2/ 1/ 37.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 6/ 62، حديث رقم (20142) بقية حديث حنظلة بن حذيم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو حديث طويل، اكتفى المقريزي- رحمه اللَّه تعالى- على ما يشهد به منه لأحاديث الباب.(11/356)
الوارم وجهه أو بالبهيمة الوارمة الضرع، فيتفل على يده، ويقول: بسم اللَّه ويضع يده ويقول على موضع كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيمسحه عليه، فيذهب الورم.
وقال أبو عمر بن عبد البر: حنظلة [ (1) ] بن حذيم بن حنيفة أبو عتيبة الحنفي من بني حنيفة، ويقال: حنظلة بن حنيفة بن حذيم التميمي السعدي.
هكذا قال العقيلي، وقال البخاري [ (2) ] : حنظلة بن حذيم، ولم ينسبه، قال: وقال يعقوب بن إسحاق: عن حنظلة بن حنيفة بن حذيم، قال: قال حذيم:
يا رسول اللَّه إن حنظلة أصغر بني ... الحديث، هكذا ذكره البخاري ولم يجوده.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 2/ 382، ترجمة رقم (550) .
[ (2) ] (التاريخ الكبير) : 2/ 1/ 73.(11/357)
وأما سلامة موضع يد المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأس أبي سفيان مدلوك [ (1) ] فلم يشب دون سائر رأسه
فخرّج البخاري في (التاريخ) [ (2) ] على ما أورده البيهقي، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن مطر بن العلاء الفزاري، عن عمته وقطعة مولاة لهم قالتا:
سمعنا أبا سفيان واسمه مدلوك أنه ذهب إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم، ودعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسح رأسه بيده، ودعا له بالبركة فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود مما مسته يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وسائره أبيض.
__________
[ (1) ] هو مدلوك الفزاري، مولاهم، أبو سفيان، قال ابن أبي حاتم: له صحبة، وذكره محمد بن سعد فيمن نزل الشام من الصحابة، وذكره السبرديجى في (الأسماء المفردة من الصحابة) .
وأخرج البخاري في (التاريخ الكبير) ، وابن سعد، والبغوي، والطبراني، من طريق مطر ابن العلاء الفزاري، وحدثتني عمتي آمنه أو أمية بنت الشعثاء، وقطبة مولاة لنا، قالتا: سمعنا أبا سفيان، وزاد البغوي في روايته مدلوكا، يقول: ذهب بي مولاي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت، فدعا لي بالبركة، ومسح رأسي بيده، قالت: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود مما مسه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسائره أبيض! وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم من وجه آخر عن مطر: فقال في السند: عن آمنة، بالنون، ولم يشك. وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) في ترجمة ضمضم بن قتادة:
ومن طريق مطر بن العلاء عن عمته قطبة بنت هرم بن قطبة، أن مدلوكا حدثهم أن ضمضم ابن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل، فأوجس لذلك، فشكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: فيها الأحمر، والأسود وغير ذلك.
قال: فأنى ذلك؟ قال: عرق نزع، قال: وهذا عرق نزع ذلك. قال: فقدم عجائز من بنى عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء. قال أبو موسى في (الذيل) : إسناده عجيب. قال الحافظ: أصل القصة في الصحيحين من حديث أبي هريرة من غير تسمية الرجل ولا الزيادة التي في آخره، واستدركه ابن فتحون أيضا من هذا الوجه. (الإصابة) : 3/ 493- 494، ترجمة رقم (4202) ، 6/ 62- 63، ترجمة رقم (8765) ، 7/ 181، ترجمة رقم (10024) ، (الاستيعاب) : 4/ 1680، ترجمة رقم (3007) .
[ (2) ] (التاريخ الكبير) : 4/ 2/ 55.(11/358)
وخرّجه البيهقي [ (1) ] من طريق علي بن حجر قال: أخبرنا مطر بن العلاء الفزاري قال: حدثتني عمتي آمنة بنت أبي الشعثاء عن مدلوك أبي سفيان فذكره [ (2) ] ، وقال ابن عبد البر [ (3) ] : أبو سفيان مدلوك ذهب مع مولاه إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم معه، ومسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برأسه ودعا له بالبركة، فكان مقدم رأسه ما مسّ منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسود وسائره أبيض.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 215.
[ (2) ] ثم قال الحافظ البيهقي عقب ذلك: وأخبرناه أبو عبد اللَّه الحافظ قال: انبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حدثنا الحسين بن محمد بن زياد القباني، قال: ذكر على بن حجر فيما كتب به إلينا، قال: أنبأنا فطر بن العلاء الفزاري، قال: حدثتني عمتي آمنة بنت أبي الشعثاء، عن مدلوك أبي سفيان.
[ (3) ] (الإستيعاب) : 4/ 1680، ترجمة رقم (3007) .(11/359)
وأما سلامة عبد اللَّه بن عتبة [ (1) ] وذريته من الهرم بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم له بالبركة ولذريته رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث الفضل بن عون المسعودي أبي حمزة قال:
حدثتني أم عبد الرحمن بنت حمزة بن عبد اللَّه عن جدتها، وكانت أم ولد عبد اللَّه بن عتبة، قالت: قلت لسيدي عبد اللَّه بن عتبة: أيش تذكر عن [ (3) ] النبي
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود الهذلي، ابن أخي عبد اللَّه بن مسعود أبو عبد الرحمن، ويقال:
أبو عبيد اللَّه بالتصغير. كان صغيرا على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد حفظ عنه يسيرا، قال أبو عمر:
ذكره العقيلي في (الصحابة) ، وغلط، وإنما هو تابعي، قال الحافظ ابن حجر: المعروف أن أباه مات في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكر ابن البرقي فيمن أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يثبت عنه رواية، ولم يزد البخاري في ترجمته على قوله: سمع عمر. يروى عن حميد بن عبد الرحمن، وذكره ابن سعد فيمن ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم روى بسند صحيح إلى الزهري، أن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- استعمله على السوق. قال الحافظ: ولهذا ذكرته في هذا القسم لأن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لا يستعمل صغيرا، لأنه مات بعده بثلاث عشرة سنة وتسعة أشهر، فأقل ما يكون عبد اللَّه أدرك من حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ست سنين، فكأن هذا عمدة العقيلي في ذكره في (الصحابة) ، وقد اتفقوا على ثقته. وروى عنه عمه، وعمر، وعمار، وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبيد اللَّه وهو الفقيه المشهور، وعوف، والشعبي، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن سيرين وآخرون. وقال ابن سعد: كان رفيعا أي رفيع القدر، كثير الحديث والفتيا، فقيها. وقال ابن حبان في (الثقات) : كان يؤم الناس بالكوفة، ومات في ولاية بشر بن مروان على العراق سنة أربع وسبعين. وقيل: سنة ثلاث (الإصابة) :
4/ 166- 167، ترجمة رقم (4816) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 282، (الثقات) : 5/ 17.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 215.
[ (3) ] في (الأصل) : «من» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .(11/360)
صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: أذكر أني غلام خماسي أو سداسي [ (1) ] أجلسني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجره، ودعا لي ولولدي بالبركة، قالت جدتي: فنحن نعرف ذلك أنا لا نهرم [ (2) ] .
قال كاتبه: [ (3) ] هو عبد اللَّه بن عتيبة بن مسعود ابن أخي عبد اللَّه بن مسعود.
قال ابن عبد البر [ (4) ] : ذكره العقيلي في الصحابة فغلط، وإنما هو تابعي من كبار التابعين بالكوفة، وهو والد عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة الفقيه المدني الشاعر شيخ ابن شهاب.
روي عنه ابنه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، وحميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن سيرين، وروي ابنه حمزة بن عبد اللَّه بن عتبة، قال: أذكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده علي رأسي.
قال: وذكره البخاري في التابعين، وإنما ذكره العقيلي في (الصحابة) لحديث حدثه به محمد بن إسماعيل الصايغ، عن سعيد بن منصور، عن خديج ابن معاوية أخي زهير بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي النجاشي نحوا من ثمانين رجلا منهم ابن مسعود، وجعفر بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن أبي عرفطة، وأبو موسى الأشعري وعثمان بن مظعون، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. الحديث.
قال أبو عمر: لو صحّ هذا الحديث لثبتت هجرة عبد اللَّه بن عتبة إلى أرض الحبشة، ولكنه وهم وغلط، والصحيح فيه أن أبا إسحاق رواه عن عبد اللَّه ابن عتبة، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي أرض النجاشي، ونحن نحوا من ثمانين رجلا منهم: ابن مسعود وجعفر ... الحديث، ولعل الوهم أن يكون دخل على من قال ذلك، لما في الحديث، منهم: ابن مسعود، وليس
__________
[ (1) ] ابن خمس سنين أو ست سنين.
[ (2) ] من الهرم، وهو الكبر.
[ (3) ] هو التقى المقريزي رحمة اللَّه عليه.
[ (4) ] (الاستيعاب) : 3/ 945- 946، ترجمة رقم (1603) .(11/361)
بمشكل عند أحد من أهل هذا الشأن أن عبد اللَّه بن عتبة ليس ممن أدرك زمن الهجرة إلي النجاشي. انتهى كلام ابن عبد البر.
وقد خرّج لعبد اللَّه بن عتبة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وعده المزني والذهبي في الصحابة، وقالا: رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو خماسي أو سداسي.
وأما سلامة عمرو بن ثعلبة [ (1) ] من الشيب بلمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه بيده المقدسة
فخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث أبي القاسم البغوي قال: حدثنا أحمد بن عباد الفرغاني، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا وهب بن عطاء بن يزيد الجهنيّ قال:
حدثني الوضاح بن سلمة الجهنيّ عن أبيه، عن عمرو بن ثعلبة الجهنيّ قال:
لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت ومسح على وجهي، فمات عمرو بن ثعلبة، وقد أتت عليه مائة سنة، وما شاب منه شعرة مستها يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وجهه ورأسه.
__________
[ (1) ] هو عمر بن ثعلبة الجهنيّ أو الخشنيّ، ثم الزهري، قال ابن السكن: له صحبة، وروى البغوي، وابن السكن، وابن مندة، من طريق الوضاح بن سلمة الجهنيّ، عن أبيه، عنه، قال: لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيالة [مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة] ، فأسلمت فمسح على وجهي، فمات عمرو بن ثعلبة عن مائة سنة، وما شابت منه شعرة. وقال ابن مندة: لا يعرف إلا من هذا الوجه، قال الحافظ ابن حجر: وفي إسناده من لا يعرف. وقد خلطة ابن مندة بالذي قبله، فوهم. (الإصابة) : 4/ 610- 611، ترجمة رقم (5791) ، (الإستيعاب) : 3/ 168، ترجمة رقم (1901) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 215- 216، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(11/362)
واما أن موضع مس يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأس مالك بن عمير [ (1) ] ووجهه لم يشب
فقال البيهقي: روينا عن مالك بن عمير الشاعر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده على رأسه، ثم على وجهه، ثم على صدره، ثم على بطنه، ثم عمر مالك حتى شاب رأسه ولحيته، وما شاب موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] . وقال أبو عمر بن عبد البر: مالك بن عمير السلمي، شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الفتح وحنينا والطائف، وكان شاعرا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو مالك بن عمير السلمي الشاعر، ذكره البغوي وغيره في الصحابة،
وأخرج هو والحسن بن سفيان والطبراني من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن واصل بن يزيد بن واصل السلمي، ثم الناصري، حدثنا أبي وعمومتي عن جدي مالك بن عمير، قال: شهدت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الفتح وحنينا والطائف: فقلت: يا رسول اللَّه، إني امرؤ شاعر، فأفتنى في الشعر، فقال: لأن يمتلئ ما بين لبتك إلى عاتقك قيحا خير لك من أن يمتلئ شعرا! قلت: يا رسول اللَّه، فامسح عنى الخطيئة. قال: فمسح يده على رأسي، ثم أمرها على كبدي ثم على بطني، حتى إني لأحتشم من مبلغ يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فلقد كبر مالك حتى شاب رأسه. ولحيته، ثم لم يشب موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من رأسه ولحيته. وفي رواية البغوي: فإن كان ولا بد منه فشبب بامرأتك، وامدح راحلتك. قال: فما قلت بعد ذلك شعرا. وأخرجه ابن مندة من هذا الوجه مختصرا.
وأخرج الطبراني في (الأوسط) ، من طريق سعيد بن عبيد القطان، عن واصل بن يزيد به، ولكن لم يقل: عن جدي، وإنما قال: عن مالك، وقال: لا يروى عن مالك إلا بهذا الإسناد.
تفرد به سعيد، كذا قال، ورواية يعقوب ترد عليه. وذكره المرزباني في (معجم الشعراء) وقال: له خبر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكأنه أشار إلى هذا الحديث، قال: وهو القائل:
ومن يفتزع ما ليس من سوس نفسة ... فدعه ويغلبه على النفس خيمها
(الإصابة) : 5/ 740- 741، ترجمة رقم (7676) ، و (الاستيعاب) : 3/ 1356، ترجمة رقم (2287) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 216.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 3/ 1356، ترجمة رقم (2287) .(11/363)
أما طيب رائحة عتبة بن فرقد [ (1) ] بمسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده على ظهره وبطنه
فقال البيهقي [ (2) ] : وروينا عن حصين بن عبد الرحمن عن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد أن عتبة بن فرقد كان لا يزيد على أن يدهن رأسه ولحيته، وكان أطيبنا ريحا، فسألته فذكر عتبة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما شكا إليه، أخذ إزار عتبة فوضعه، على فرجه، ثم بسط يديه، ونفث فيها، ومسح إحداهما على ظهره، والأخرى على بطنه، قال: فهذه الريح من ذلك.
وقال ابن عبد البر [ (3) ] : عتبة بن فرقد السلمي أبو عبد اللَّه له صحبة ورواية، وكان أميرا لعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على فتوحات العراق.
__________
[ (1) ] هو عتبة بن فرقد بن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة السلمي أبو عبد اللَّه. وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد. وروى أبو المعافي في (تاريخ الموصل) ، من طريق هشيم، عن حصين، أنه شهيد خيبر، وقسم له منها فكان يعطيه لبني أخواله عاما، ولبني أعمامه عاما، وقال: وكان حصين من أقربائه، وإن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ولاه في الفتوح الموصل سنة ثمان عشرة مع عياض بن غنم. وروى شعبة عن حصين، عن امرأة عتبة بن فرقد وأن عتبة غزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوتين. وروى الطبراني في (الصغير) ، و (الكبير) ، من طريق أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد، قال: أخذني الشري على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمرني فتجردت، فوضع يده على بطني وظهري، فعبق بى الطيب من يومئذ. وقالت أم عاصم: كنا عنده ثلاث أو أربع نسوة، فكنا نجتهد في الطيب، وما كان يمس الطيب. وإنه لأطيب منا.
وقال أبو عثمان النهدي: جاءنا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد. وأخرجاه ونزل عتبة بعد ذلك الكوفة ومات بها. (الإصابة) : 4/ 439- 440، ترجمة رقم (5416) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 26.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 216.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 3/ 1029، ترجمة رقم (1765) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(11/364)
قال: وينسبونه عتبة بن يربوع بن حبيب بن مالك وهو فرقد بن سعد رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم السلمي أمه آمنة بنت عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف.
ثم ذكر من حديث ابن وضاع قال: حدثنا محمد بن فروخ، حدثنا علي ابن عاصم حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال: حدثتني أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد، [قالت: كنا عند عتبة بن فرقد] ثلاث [نسوة] ما منا واحدة إلا وهي تجتهد في التطيب لتكون أطيب ريح من صاحبتها، وما يمسّ عتبة طيبا إلا أن يلتمس دهنا، وكان أطيب ريح منا، فقلت له في ذلك، فقال: أصابني الشري على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقعدني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين يديه، وتجردت وألقيت ثيابي على عورتي، فنفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في كفه ثم دلك بها ثم والأخرى، أمرهما على ظهري وبطني فعبق به ما ترون.
وروى عن شعبة عن حصين، عن امرأة عتبة بن فرقد أنه غزا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوتين.
وخرّج هذا الحديث أبو القاسم الطبراني من حديث آدم بن أبي إياس قال:
حدثنا شيبان وورقاء، عن حصين بن عبد الرحمن قال: حدثني أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمي قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمس عتبة الطيب إلا أن يمس دهنا يمسح به لحيته، وهو أطيب ريحا منا.
وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنا لنجتهد في الطيب، ولأنت أطيب ريح منا. فمم ذلك؟ قال: أخذني الشري على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرد، فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثم مسح يده على ظهري وبطني، فعبق على هذا الطيب من يومئذ.(11/365)
وأما وضاءة وجه قتادة بن ملحان [ (1) ] بمسح المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم له
فخرّج الإمام أحمد [ (2) ] من حديث معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن أبي العلاء قال: كنت عند قتادة بن ملحان في مرضه الّذي مات فيه، فمر رجل في مؤخر الدار، فرأيته في وجه قتادة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسح وجهه، قال: كنت قل ما رأيته إلا رأيته كان على وجهه الدهان.
__________
[ (1) ] هو قتادة بن ملحان القيسي، قال البخاري وابن حبان: له صحبة، يعد في البصريين، روى همام عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان عن أبيه، وقال أبو الوليد: وهم فيه ابن سعد، فقال عبد الملك بن المنهال عن أبيه. قال الحافظ ابن حجر: ومتن الحديث في صوم أيام البيض أخرجه أبو دواد من طريق همام أيضا، والبغوي، وأخرج ابن شاهين من طريق سليمان، عن حيان بن عمرو، قال: مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجه قتادة بن ملحان، ثم كبر، فبلى منه كل شيء غير وجهه: قال فحضرته عند الوفاة، فمرت امرأة فرأيتها في وجهه كما أراها في المرآة روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، روى عنه ابنه عبد الملك، وأبو العلاء بن الشخير، ووقع في بعض الطرق: عبد الملك بن قدامة، بدل قتادة، وفي بعضها: ابن المنهال، والأول أصوب.
(الإصابة) : 5/ 416، ترجمة رقم (7079) ، و (الإستيعاب) : 3/ 1274، ترجمة رقم (2106) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 664، حديث رقم (19806) ، من حديث قتادة بن ملحان، 6/ 18، حديث رقم (20239) ، (20240) ، من حديث المهاجر بن قنفذ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 217، باب ما روى في شأن قتادة بن ملحان، وما ظهر على وجهه ببركة مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إياه من النور، من حديث معتمر بن سليمان وعبد اللَّه بن أحمد حنبل.(11/366)
وأما تمتع النابغة [ (1) ] بأسنانه وقد نيف على المائة عام بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له بذلك
__________
[ (1) ] هو النابغة الجعديّ الشاعر المشهور المعمر، اختلف في اسمه، فقيل: هو قيس بن عبد اللَّه بن عبس بن ربيعة بن جعدة، وقيل بدل عدس: وحوح. وجعدة هو ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل: سمى النابغة عبد اللَّه، وقيل: حبان بن قيس بن عبد اللَّه بن قيس، وقيل بتقديم قيس على عبد اللَّه وبه جزم القحذمي، وأبو الفرج الأصبهاني، وبالأول جزم ابن الكلبي، وأبو حاتم السجستاني، وأبو عبيدة، ومحمد بن سلام الجمحيّ، وغيرهم، وحكاه البغوي عنه، وحكى أبو الفرج الأصبهاني أنه غلط، لأنه كان له أخ اسمه وحوح بن قيس قتل في الجاهلية، فرثاه النابغة. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون وحوح أخاه لأمه، وقد أخرج الحسن بن سفيان في مسندة عن أبى وهب الوليد بن عبد الملك، عن يعلى بن الأشدق: حدثني قيس بن عبد اللَّه بن عدس بن ربيعة، نابغة بنى جعدة، فذكر حديثا، قال أبو الفرج: أقام مدة لا يقول الشعر، ثم قاله، فقيل: نبغ، وقيل: كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية ثم عاد إليه بعد أن أسلم فقيل: نبغ. وقال القحذمي: كان النابغة قديما شاعرا مغلقا طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام، قال: وكان أسنّ من النابغة الذبيانيّ، ومن شعره الدال على طول عمره:
ألا زعمت بنو أسد بأنى ... أبو ولد كبير السن فاني
فمن يك سائلا عنى فإنّي ... من الفتيان أيام الخنان
أتت مائة عام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان
وقد أبقت صروف الدهر منى ... كما أبقت من السيف اليماني
وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب (المعمرين) : عاش مائتي سنه، وهو القائل:
قال أمامة كم عمرت زمانة ... وذبحت من عتر على الأوثان
ولقد شهدت عكاظ قبل محلها ... فيها وشهدت يوم هجائن النعمان
والمنذر بن محرق في ملكه ... وشهدت يوم هجائن النعمان
وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى ... وقوارع تتلى من القرآن
ولبست في الإسلام ثوبا واسعا ... من سيب لا حرم ولا منان
قال ابن عبد البر: استدلوا بهذا على أنه كان أسن من النابغة الذبيانيّ لأنه ذكر أنه شهد المنذرين بن محرق، والنابغة إنما أدرك النعمان بن المنذر، وتقدمت وفاة النابغة الذبيانيّ قبله(11/367)
__________
[ () ] بمدة ولذلك كان يظن أن النابغة الذبيانيّ أكبر من الجعديّ. وذكر عمر بن شبة عن أشياخه أنه عمر مائة وثمانين سنة، وأنه أنشد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
لبست أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا
فقال له عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كم لبثت مع كل أهل؟ قال: ستين سنة، وقال ابن قتيبة: عمر بعد ذلك الى زمن ابن الزبير، ومات بأصبهان وله مائتان وعشرون سنة، وذكر المرزباني نحوه إلا قدر عمره، وزاد أنه كان من أصحاب على وله مع معاوية أخبار، وعن الأصمعي أنه عاش مائتين وثلاثين سنة. وروينا في كتاب الحاكم من طريق النضر بن شميل، أنه سئل عن أكبر شيخ لقيه المنتجع الأعرابي، قال: قلت له: من أكبر من لقيت؟
قال: النابغة الجعديّ، قال: قلت له: كم عشت في الجاهلية؟ قال: دارين. قال النضر:
يعني مائتي سنة، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان النابغة ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر والسكر، وهجر الأزلام، واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم، وهو القائل القصيدة التي فيها:
الحمد للَّه لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
قال أبو عمر: في هذه القصيدة ضروب من التوحيد، والإقرار بالبعث، والجزاء، والجنة، والنار، على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل: إنها لأمية، لكن صحح حماد الراوية، ويونس بن حبيب، ومحمد بن سلام الجمحيّ، وعلى بن سليمان الأخفش للنابغة قرأت على عليّ بن محمد الدمشقيّ بالقاهرة، عن سليمان بن حمزة، أنبأنا أبو النصر الطوسي، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا دواد بن رشيد، حدثنا يعلي بن الأشدق، قال: سمعت النابغة الجعديّ يقول: أنشدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة. قال: أجل- إن شاء اللَّه تعالى، ثم قال:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا(11/368)
__________
[ () ] فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يفضض اللَّه فاك، مرتين، وهكذا أخرجه البزار، والحسن بن سفيان في (مسنديهما) ، وأبو نعيم في (تاريخ أصبهان) ، والشيرازي في (الألقاب) ، وكلهم من رواية يعلي بن الأشدق،
قال: وهو ساقط الحديث.
قال أبو نعيم: رواه عن يعلى جماعة، منهم هاشم بن القاسم الحراني، وأبو بكر الباهلي:
فقد وقعت لنا قصة في غريب الحديث للخطابي: وفي كتاب (العلم) للمرهبى، وغيرهما، ومن طريق مهاجر بن سليم، عن عبد اللَّه بن جراد: سمعت نابغة بنى جعدة يقول: أنشدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قولي:
علونا السماء مجدنا وجدودنا
البيت فغضب صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة، قال: أجل- إن شاء اللَّه- ثم قال: أنشدني من قولك. فأنشدته البيتين:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
فقال لي: أجدت، ولا يفضض اللَّه فاك، فرأيت أسنانه كالبرد المنهل، فما انقصمت له سنّ، ولا انفلت، ورويناه في (المؤتلف والمختلف) للدارقطنيّ، وفي (الصحابة) لابن السكن، وفي غيرهما من طريق الرحال بن المنذر: حدثني أبي عن أبيه كرز بن أسامة، وكانت له وفادة مع النابغة الجعديّ، فذكرها بنحوه،
ورويناها في (الأربعين البلدانية) للسلفي، من طريق أبي عمرو ابن العلاء، عن نصر بن عاصم الليثي، عن أبيه: سمعت النابغة يقول: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنشدته قولي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- إن شاء اللَّه- فلما أنشدته:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... ولا خير في جهل إذا لم يكن له
فقال لي: صدقت، لا يفضض اللَّه فاك، فبقي عمره أحسن الناس ثغرا، كلما سقطت سن عادت أخرى، فكان معمرا، ورويناه في (مسند الحارث بن أبي أسامة) ، ومن طريق الحسن ابن عبيد اللَّه العنبري، قال: حدثني من سمع النابغة الجعديّ يقول: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنشدته:(11/369)
__________
[ () ]
وإنا لقوم ما نعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا
ورويناها مسلسلة بالشعراء من رواية دعبل بن علي الشاعر، عن أبي نواس عن والبة بن الحباب، عن الفرزدق، عن الطرماح، عن النابغة، وهي في كتاب (الشعراء) لأبي زرعة الرازيّ المتأخر، وقد طولت ترجمته في كتاب (من جاوز المائة) مما دار بينه وبين من هاجاه من الماجريات كليلى الأخيلية صاحبة توبة، وأوس المزني، وغيرهما. وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) ، انه قيس بن عبد اللَّه، وأنه مات بأصبهان، قال: وكان معاوية سيره إليها مع الحارث بن عبد اللَّه بن عبد عوف بن أصرم، وكان ولى أصبهان من قبل علي، ثم أسند من طريق الأصمعي، عن هانئ بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن صفوان، قال: عاش النابغة، مائة وعشرين سنة. قال ابن عبد البر: قصيدة النابغة مطولة نحو مائتي بيت، أولها:
خليلي غضاعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
يقول فيها:
أتيت رسول اللَّه إذا جاء بالهدى ... ويتلو كتابا كالمجرة نيرا
ومنها:
وجاهدت حتى ما أحس ومن معى ... سهيلا إذا ما لاح ثم تحورا
أقيم على التقوى وأرضى بفعلها ... وكنت من النار المخوفة أحذرا
ثم أورد أبو عمر بإسناده إلى أبي الفرج الرياشي منها أربعة وعشرين بيتا، وذكر عمر بن شبة عن مسلمة بن محارب، أن النابغة الجعديّ دخل على على فذكر قصة، وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) : وأخرج ابن أبي خثيمة في تاريخه عن الزبير بن بكار، وحدثني أخي هارون ابن أبي بكر، عن يحيى بن أبي قتيلة، عن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن عمه عبد اللَّه بن عروة قال: ألحت السنة على نابغة بني جعدة، فدخل علي ابن الزبير في المسجد الحرام، فأنشده:
حكيت لنا الصديق لما وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا ... فعاد صباحا حالك الليل مظلم(11/370)
فخرّج أبو نعيم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن عبد اللَّه بن خالد الرقي قال:
حدثنا يعلى بن الأشهل قال: سمعت النابغة- نابغة بني جعدة- يقول: أنشدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا الشعر فأعجبه وهو:
بلغنا السماء مجدنا وثراءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال لي: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: إلى الجنة، قال: - إن شاء اللَّه تعالى- فلما أنشدته:
__________
[ () ]
أتاك أبو ليل تجوب به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عرمرم
لجبر منه جانبا دعدعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فقال ابن الزبير: هون عليك يا أبا ليلى فإن الشعر أيسر وسائلك عندنا، لك في مال اللَّه حقان: لرؤيتك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده، فدخل به دار النعم، وأعطاه
فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى لقد بلغ به الجهد
، فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما وليت فعدلت، واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فراط التابعين،
[يريد أنهم يتقدمون الأمم إلى الجنة، وهم على إثره متدافعين ومزدحمين] ، وقد وقع لنا عاليا جدا من حديث ابن الزبير موافقة: قرأت على فاطمة بنت محمد بن المنجي بدمشق، عن سليمان بن حمزة، أنبأنا محمود بن إبراهيم في كتابه، أنبأنا مسعود بن الحسن، أنبأنا أبو بكر السمسار، أنبأنا أبو إسحاق بن خرشة، أنبأنا ابو الحسن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، به بتمامه، وأخرجه ابن جرير في (تاريخه) ، عن ابن أبي خثيمة، وأخرجه أبو الفرج الأصبهاني في (الأغاني) عن ابن جرير. وأخرجه ابن أبي عمر في (مسندة) ، عن هارون. وأخرجه ابن السكن، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي، والطبراني في (الصغير) ، عن حسين بن الفهم، وأبو الفرج الأصبهاني، عن حرمي بن العلاء، ثلاثتهم عن الزبير، فوقع لنا بدلا عاليا.
وأخرج أبو نعيم عن الطبراني طرفا منه (الإصابة) : 6/ 391- 398، ترجمة رقم (8645) ، (الاستيعاب) : 4/ 1514- 1522، ترجمة رقم (2648) ، (الشعر والشعراء) : 177- 181، (المؤتلف والمختلف للدارقطنيّ) : 4/ 1957، 2168.
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 458- 459، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن أخطب والنابغة الجعديّ، حديث رقم (385) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(11/371)
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أجدت لا يفضض اللَّه فاك، قال يعلي: فلقد رأيته وقد أتى عليه نيفا ومائة سنة وما ذهب له سن.
قال كاتبه: فذكر ابن عبد البر أنه اختلف في اسم النابغة هذا، فقيل قيس ابن عبد اللَّه، وقيل حبان بن قيس بن عبد اللَّه بن عمر بن عبس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل اسمه حبان بن قيس عبد اللَّه بن وحوح بن عبس بن ربيعة بن جعدة، وإنما قيل له النابغة لأنه قال الشعر، ثم تركه نحو ثلاثين سنة، ثم سعى فيه بعد فقال، فسمى النابغة. قال ابن قتيبة: عمره مائتين وعشرين سنة، وقيل: أقل من ذلك.
قال أبو عمر: وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مسلما وأنشده، فدعا له صلّى اللَّه عليه وسلّم
وذكر أبو عمر من حديث قاسم بن أصبغ قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا العباس ابن الفضل، حدثنا محمد بن عبد اللَّه التميمي، قال: حدثنا الحسن بن عبيد اللَّه، قال: حدثني من سمع النابغة الجعديّ يقول: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنشدته قولي:
وإنا لقوم ما تعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى يحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحا ولا مستنكر أن تعقرا
بلغنا السماء مجدنا وثناءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: فقلت: إلى الجنة، قال: نعم إن شاء اللَّه، فلما أنشدته:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يفضض اللَّه فاك، قال: وكان من أحسن الناس ثغرا، كان إذا سقطت له سن نبتت.(11/372)
وفي رواية عبد اللَّه بن جراد لهذا الخبر قال: فنظرت إليه كأن فاه البرد المتهلل [ (1) ] يتلألأ، وما سقطت له سن ولا تقلقلت بقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: له أجدت، لا يفضض اللَّه فاك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في بعض النسخ: المنهل.
[ (2) ] وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 232- 233، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم للنابغة الجعديّ، وإجابة اللَّه- تعالى- له فيما دعا له به.(11/373)
وأما برء ساق سلمة بن الأكوع [ (1) ] بنفث الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها
فخرّج البيهقي [ (2) ] في (الدلائل) من حديث المكيّ بن أبي عبيدة قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة التي أصابتها
__________
[ (1) ] وهو سلمة بن الأكوع، هكذا يقول جماعة أهل الحديث، ينسبونه إلى جده وهو سلمة بن عمرو ابن الأكوع، والأكوع هو سنان بن عبد اللَّه بن قشير بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن الأقصى الأسلمي. يكنى أبا مسلم، وقيل: يكنى أبا إياس. وقال بعضهم: يكنى أبا عامر، والأكثر: أبو إياس [بابنه إياس] ، كان ممن بايع تحت الشجرة، سكن بالربذة، وتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة، وهو معدود في أهلها، وكان شجاعا، سخيا، فاضلا.
روى عنه جماعة من تابعي أهل المدينة. قال ابن إسحاق: وقد سمعت أن الّذي كلمة الذئب سلمة بن الأكوع، قال سلمة: رأيت الذئب قد أخذ ظبيا، فطلبته حتى نزعته منه، فقال: ويحك! ما لي ولك ولها؟ عمدت إلى رزق رزقنيه اللَّه، وليس من مالك تنتزعه مني؟ قال: قلت: أيا عباد اللَّه، إن هذا لعجب! ذئب يتكلم؟ فقال الذئب: أعجب من هذا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة اللَّه، وتأبون إلا عبادة الأوثان قال: فلحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت فاللَّه أعلم أي ذلك كان، ذكر ذلك ابن إسحاق بعد ذكر رافع بن عميرة الّذي كلمه الذئب، عمر سلمة بن الأكوع عمرا طويلا، روى عنه إياس بن سلمة، ويزيد بن أبي عبيد. وقال: يزيد بن أبي عبيد: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة؟ قال:
على الموت، قال يزيد: وسمعت سلمة بن الأكوع يقول: غزوت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبع غزوات، وخرجت فيما بعث من البعوث سبع غزوات، وقال عنه ابنه إياس: ما كذب أبي قط
وروى عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: خير رجالنا سلمة ابن الأكوع،
وروى عبد اللَّه بن موسى عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: بينا نحن قائلون نادى مناد أيها الناس، فذلك قول اللَّه عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 18] . (الاستيعاب) 2/ 639- 460، ترجمة رقم (3391) .
(الإصابة) : 3/ 143، ترجمة رقم (3364) ، ترجمة رقم (3391) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 251، باب ما جاء في نفث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جرح سلمة بن الأكوع يوم خيبر وبرؤه من ذلك.(11/374)
قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر؟ فقال الناس: أصيب سلمة [ (1) ] ، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة [ (2) ] .
وأما برء قرحة في رجل بوضع المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ريقه بإصبعه عليها
فخرّج البيهقي [ (3) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرنا ابن لهيعة عن عمارة ابن غزية أن محمد بن إبراهيم التيمي حدثه، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال حدثه أن محمد بن إبراهيم حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتي برجل برجله قرحة قد أعيت الأطباء فوضع إصبعه على ريقه، ثم رفع طرف الخنصر، فوضع إصبعه على التراب، ثم رفعها فوضعها على القرحة، ثم قال:
باسمك اللَّهمّ ريق بعضنا، بتربة أرضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا.
قال البيهقي: هذا الدعاء في حديث عائشة موصولا، قلت: أوردته في الطب.
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «فما اشتكيتها» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 603، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر حديث رقم (4206) ، وفيه:
«أصابتها يوم خيبر» أي أصاب ركبته، يوم بالنصب على الظرفية، قوله: «فنفث فيه» أي في موضع الضربة، والنفث: فوق النفخ ودون التفل، وقد يكون بغير ريق بخلاف التفل وقد يكون بريق خفيف بخلاف النفخ، وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 219، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى؟ حديث رقم (3894) من حديث مكي بن إبراهيم أيضا.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 170، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم لصاحب القرحة حتى صح وبرئت القرحة.(11/375)
وأما ظهور بركة تفله صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم عبد اللَّه بن عامر [ (1) ]
فخرّج البيهقي من حديث عمر بن شبة قال: أخبرني أبو عبيدة النحويّ، أن عامر بن كريز أتي بابنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن خمس سنين أو ست سنين، فتفل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فيه، فجعل يزدرد ريق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويتملظ.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ابنك هذا مسقي [ (2) ] علي وفي رواية: أرجو أن يكون مسقيا [ (3) ] .
قال: وكان يقال: لو أن عبد اللَّه قدح حجرا أمامه يعني يخرج من الحجر الماء من بركته [ (4) ] .
وقال ابن عبد البر: عبد اللَّه بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس ابن عبد مناف القرشي العبشمي: ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو صغير، فقال: هذا شبيهنا، وجعل يتفل عليه، عوذة فجعل عبد اللَّه يتسوع ريق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لمسقى، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء. وقيل: لما أتي بعبد اللَّه بن عامر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لبني عبد شمس هذا أشبه بنا منكم، ثم تفل في فيه فازدرده، فقال: أرجو أن يكون مسقيا [ (5) ] ،
فكان كما قال [النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] فإنه هو الّذي اتخذ النباج وأنبط عيونا
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان. أم عثمان أروى بنت كريز، وأمها وأم عامر بن كريز البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب. وأم عامر بن ربيعة دجاجة بنت أسماء بن الصلت.
(الاستيعاب) : 2/ 931، ترجمة رقم (1587) .
[ (2) ] في (الأصل) : «يسقي» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 225، باب ما جاء في تغله صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم عبد اللَّه بن عامر بن كريز، وما أصابه من بركته.
[ (5) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) ، ثم قال أبو عمر: وقد أتى عبد المطلب بن هاشم بأبيه عامر بن كريز وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء، فتأمله عبد المطلب، وقال: ما ولدنا ولدا أحرص منه وكانت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم تحت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد(11/376)
تعرف به، ثم اتخذ النهر الّذي عرف بنهر أم عبد اللَّه، وهي أمه دجاجة بنت أسماء بن الصلت السلمي، وقال: لو تركت لخرجت المرأة ترد كل يوم ماء حتى توافي مكة يعني البصرة.
__________
[ () ] شمس، فولدت له عامرا أبا عبد اللَّه بن عامر هذا، وقد روى عبد اللَّه بن عامر هذا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما أظنه سمع منه ولا حفظ عنه.
ذكر البغوي عن مصعب الزبيري، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن حنظلة بن قيس، عن عبد اللَّه بن الزبير وعبد اللَّه بن عامر بن كريز، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» رواه موسى بن هارون الحمال، عن مصعب، بإسناده.
قال الزبير وغيره: كان عبد اللَّه بن عامر سخيا، كريما، حليما، ميمون النقيبة، كثير المناقب، هو افتتح خراسان، وقتل كسرى في ولايته، وأحرم من نيسابور شكرا للَّه تعالى، وهو الّذي عمل السقايات بعرفة، وقال صالح بن الوجيه، وخليفة بن خياط: وفي سنة تسع وعشرين عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص، عن فارس، وجمع ذلك كله لعبد اللَّه بن عامر بن كريز، وقال صالح: وهو ابن أربع وعشرين سنة: وقال أبو اليقظان: قدم ابن عامر البصرة واليا عليها، وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة، ولم يختلفوا أنه افتتح أطراف فارس كلها. وعامة خراسان، وأصبهان، وحلوان وكرمان، وهو الّذي شق نهر البصرة، ولم يزل واليا لعثمان على البصرة، إلى أن قتل عثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان ابن عمته، لأن أم عثمان أروى بنت كريز، ثم عقد له معاوية على البصرة ثم عزله عنها، وكان أحد الأجواد، أوصى إلى عبد اللَّه بن الزبير، ومات قبله بيسير، وقد رثاه كل من زياد، وزياد الأعجم بأبيات ذكرها ابن عبد البر في (الإستيعاب) : 3/ 931- 933، ترجمة رقم (1587) .(11/377)
وأما قيام تفله صلّى اللَّه عليه وسلّم في أفواه الرضعاء [يوم عاشوراء] مقام الغذاء
فخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث عبيد اللَّه بن عمر القواريري، قال: حدثتنا عليه بنت الكميت العتكية عن أمها أميمة قالت: قلت لأمه اللَّه أسمعت أمك رزينة تذكر أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يذكر صوم يوم عاشوراء؟ قالت: نعم يعظمه ويدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة، فيتفل في أفواههم، ويقول للأمهات: لا ترضعوهن إلى الليل [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 226، باب ما جاء في تفلة في أفواه المرتضعين يوم عاشوراء فتكفوا به إلى الليل. وما بين الحاصرتين في عنوان الفصل زيادة للسياق منه.
[ (2) ] ثم قال البيهقي: وأخبرنا أبو الحسن، أنبأنا أحمد بن الحسن أنه علي بن المتوكل، حدثنا عبيد اللَّه بن عمر القواريري، فذكره بإسناد نحوه، إلا أنه لم يقل العتكية، وقال: حدثتني أمي أميمة، ولم يقل مولاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال الحافظ ابن حجر: رزينة مولاة صفية زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي أيضا خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [حديثها عند البصريين في يوم عاشوراء]
أخرجه ابن أبى عاصم، وابن مندة من طريق، عن مسلم بن إبراهيم، عن عليلة مطولا: ولفظه: حدثتنا عليلة بنت الكميت صلّى اللَّه عليه وسلّم يقال لها: أمة اللَّه، وكانت أمها خادما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قالت: نعم، حدثتني أمي رزينة أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يذكر يوم عاشوراء ويعظمه] حتى إن كان ليدعو صبيانه وصبيان فاطمة المراضع في ذلك اليوم، فيتفل في أفواههم، ويقول لأمهاتم: لا ترضعوهم إلى الليل،
ورزينة: ضبطت بفتح أولها، وقيل فيها بتقديم الزاى على الراء:
وأخرج أبو يعلى [بسنده] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تزوج صفية أمر ببرها خادما وهي رزينة (الإصابة) : 7/ 644- 645، ترجمة رقم (11170) .(11/378)
وأما قيام ريقه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فم محمد بن ثابت [ (1) ] وتحنيكه بتمره مقام لبان أمه
فخرّج البيهقي من حديث زيد بن الحباب قال: حدثني أبو ثابت يزيد بن إسحاق بن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: حدثني إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس أن ثابت بن قيس فارق جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبيّ، وهي حامل بمحمد، فلما ولدته حلفت أن لا تلبنه من لبنها، فدعا به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبزق في فيه وحنكه بتمر عجوة، وسماه محمدا، وقال: اختلف به [إليّ] [ (2) ] فإن اللَّه رازقه، فأتينه اليوم الأول، والثاني، والثالث، فإذا امرأة
__________
[ (1) ] هو محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي المدني، أمه جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبي بن سلوك التي اختلعت من ثابت، وأتى به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما ولد فحنكه، وأورده في الصحابة على قاعدتهم فيمن له رؤية،
فأخرج البغوي، وابن أبي داود، وابن شاهين، من طريق زيد ابن الحباب: حدثنا أبو ثابت، من ولد ثابت بن قيس بن شماس عن إسماعيل بن محمد بن ثابت، عن أبيه، أن أباه ثابتا فارق جميلة بنت عبد اللَّه بن أبي وهي حامل بمحمد، فلما وضعته حلفت أن لا تلبنه بلبنها، فجاء به ثابت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبزق في فيه، وسماه محمدا وقال اذهب به، فإن اللَّه رازقه؟
قال: فتلقتني امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن قيس، فقلت: أنا ثابت بن قيس، ما تريدين؟ قالت رأيت في ليلتي هذه أنى أرضع ابنا يقال له محمد، قال: فهذا ابني، فأخذته وإن ضرعها ليعصر من لبنها من ثديها، لفظ البغوي، وقال ابن مندة:
غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، ولا يصح لمحمد بن ثابت صحبة، وأخرج الحديث البيهقي من وجه آخر، عن زيد بن الحباب، وسمى أبا ثابت زيد بن إسحاق بن إسماعيل ابن محمد بن ثابت، وقد سبق لمحمد ذكر في ترجمة أخيه عبد اللَّه بن ثابت، وروي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أبيه، وسالم مولى أبى حذيفة. وروى عنه ابناه: إسماعيل ويوسف، والزهري وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وقال: هو أخو عبد اللَّه بن حنظلة لأمه، وقتل يوم الحرة هو وأولاده: عبد اللَّه، وسليمان، ويحيى: وقال خليفة: قتل هو وأخواه: عبد اللَّه ويحى يوم الحرة، (الإصابة) : 6/ 246- 247، وترجمة رقم (8301) .
[ (2) ] في (الأصل) فقط.(11/379)
من العرب تسأل عن ثابت بن قيس، فقلت لها: ما تريدين منه؟ أنا ثابت، قالت: رأيت في منامي هذه الليلة كأني أرضع ابنا له يقال له: محمد، فقال: أنا ثابت وهذا ابني محمد، قال: وإذا درعها ينعصر من لبنها [ (1) ] . وخرّجه الحاكم في مستدركه.
وأما ذهاب الصداع عن فراس بن عمرو [ (2) ] بأخذ المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بجلدة ما بين عينيه وما ظهر من أعلام النبوة في ذلك
فخرّج البيهقي [ (3) ] من حديث أبي أسامة الكلبي قال: حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا أبو يحيى التيمي وإسماعيل بن إبراهيم قال: حدثني سيف بن وهب ابن أبي الطفيل أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو أصابه صداع شديد، فذهب به أبواه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشكا إليه الصراع الّذي به فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فراسا فأجلسه بين يديه، فأخذ بجلدة ما بين عينيه فجذبها حتى تنقضت،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 227، باب ما جاء في تحنيكة محمد بن ثابت بن قيس بن شماس وبزاقة في فيه، وما ظهر في ذلك ببركته من صلّى اللَّه عليه وسلّم الآثار.
[ (2) ] هو فراس بن عمرو الكناني ثم الليثي. وقال ابن حبان: له صحبة وقال غيره: له رؤية، ولأبيه صحبة، وروى الباوردي وابن مندة من طريق أبى يحيى التيمي- وهو إسماعيل بن يحيى أحد الكذابين قال: حدثني يوسف بن هارون، عن أبي الطفيل، أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو، أصابه صداع شديد، فذهب به أبوه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فشكا إليه الصداع الّذي به، فدعا رسول اللَّه فراسا فأجلسه بين يديه، وأخذ جلدة ما بين عينيه فمدها، فنبتت في موضع أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جبين فراس شعرة، فذهب عنه الصداع، فلم يصدع، زاد الباوردي في روايته: قال أبو الطفيل: فأراد أن يخرج مع الخوارج يوم حروراء فأوثقه رباطا، فسقطت الشعرة التي بين عينيه، ففزع لذلك، وأحدث توبة قال أبو الطفيل: فلما تاب نبتت، قال: ورأيتها قد سقطت. ثم رأيتها بعد نبتت، ورواه محمد بن قدامة المروزي في كتاب (أخبار الخوارج) له، من هذا الطريق، (الإصابة) : 259- 260، ترجمة رقم (6972) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 230- 231، باب ما جاء في شأن من شكا إليه الصداع.(11/380)
فنبتت في موضع أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جبينه شعرة فذهب عنه الصداع، فلم يصدع.
قال أبو الطفيل: فرأيتها كأنها شعره قنفذ، قال: فهم بالخروج على عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- مع أهل حروري قال: فأخذه أبوه فأوثقه وحبسه فسقطت تلك الشعرة، فما رآها [قد سقطت] [ (1) ] شق عليه ذلك، فقيل له:
هذا ما هممت به؟ [فأحدث] [ (2) ] توبة وتاب.
قال أبو الطفيل: فرأيتها قد سقطت ثم رأيتها بعد ما نبتت، قال البيهقي:
تفرد به أبو يحيى التيمي.
قال كاتبه: أبو يحيى هذا هو إسماعيل بن إبراهيم الأحول أبو يحيي التيمي الكوفي [ (3) ] يروي عن عطاء بن السائب وإبراهيم بن الفضل، والأعمش، وزيد بن أبي زياد.
ويروي عنه أبو كريب وأبو سعيد الأشج، وإبراهيم بن يوسف الكندي وجماعة.
قال البخاري: ضعفه لي ابن نمير جدا، وقال ابن معين: يروي عنه سجادة، وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وليس فيما يرويه حديث منكر المتن ويكتب حديثه.
وقد خرّج الإمام أحمد هذا الحديث في (المسند) [ (4) ] من طريق حماد ابن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبي الطفيل، أن رجلا ولد له غلام
__________
[ (1) ] من (الأصل) فقط.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] ضعيف جدا يخطى كثيرا حتى خرج عن حد الاحتجاج به، ضعفه غير واحد، ترجمته في:
(الضعفاء الكبير) : 1/ 73، (المجروحين) : 1/ 122، (ميزان الاعتدال) : 1/ 213.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 6/ 637، حديث رقم (23293) من حديث أبى الطفيل عامر بن وائلة، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(11/381)
على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتي به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذ ببشرة وجهه [ (1) ] ودعا له بالبركة، [قال:] فنبتت شعره في جبهته كهيئة [ (2) ] الفرس، وشب الغلام، فلما كان زمن الخوارج أحبهم، فسقطت الشعرة من جبهته، فأخذه أبوه فقيده وحبسه مخافة أن يلحق بهم، قال: فدخلنا عليه فوعظناه، وقلنا له: فيما تقول؟ ألم تر أن [ (3) ] بركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد وقعت عن جبهتك [فما زلنا به حتى رجع عن رأيهم] ، فرجع [ (4) ] فرد اللَّه- عز وجل- عليه الشعرة بعد في جبهته وتاب.
وخرّجه البيهقي هكذا من حديث حماد [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «جبهته» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (2) ] في (الأصل) : «كذؤابة» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (3) ] في (الأصل) : «إلي» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (4) ] من (الأصل) فقط.
[ (5) ] ثم قال بعقبه: وفيما أنبأنا أبو عبد الرحمن السلمي، انبأنا أبو عبد اللَّه العكبريّ، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا حماد ابن سلمة، حدثنا علي بن زيد، فذكره.(11/382)
وأما ذهاب البرد عن حذيفة بن اليمان [ (1) ] بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم له بذلك
فخرّج مسلم من حديث جرير عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة، [بن اليمان] فقال رجل: لو أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتلت معه وأبليت [ (2) ] ، فقال له حذيفة: أنت تفعل ذلك؟ لقد رأينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة [ (3) ] وقر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله اللَّه معي يوم القيامة؟ فسكتنا، فلم يجبه منا أحد، ثم قال:
ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله اللَّه معي يوم القيامة؟ فسكتنا، فلم يجبه منا أحد فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] هو حذيفة بن اليمان، من نجباء أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو صاحب السر، واسم اليمان: حسل ويقال: حسيل- بن جابر العبسيّ اليماني، أبو عبد اللَّه، حليف الأنصار، ومن أعيان المهاجرين حدث عنه أبو وائل، وزر بن حبيش، وزيد بن وهب، وهمام بن الحارث، وخلق سواهم. له في الصحيحين اثنا عشر حديثا، وفي البخاري ثمانية، وفي مسلم سبعة عشر حديثا، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأمة، وقد ناشد عمر: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك. وحذيفة هو الّذي ندبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو، وعلى يده فتح الدينور عنوة، ومناقبه تطول- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، ولى حذيفة إمرة المدائن لعمر، فبقي عليها إلى بعد مقتل عثمان، وتوفى بعد عثمان بأربعين ليلة، (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 61، ترجمة رقم (181) - (الإصابة) : 2/ 44- 45، ترجمة رقم (1649) ، (الاستيعاب) : 1/ 334- 335، ترجمة رقم (492) .
[ (2) ] أبليت: من البلاء الحسن وهو المبالغة في النصرة.
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «في ليلة ذات ريح شديدة» .
[ (4) ] أي لا تحركهم عليك، فإنّهم إن أخذوك كان ضررا على لأنك رسولي وصاحبي.(11/383)
فلما وثبت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيته فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار [ (1) ] ، فوضعت سهما في كبد قوسي، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تذعرهم عليّ ولو رميته لأصبته، فأخبرته خبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فقال: قم أيا نومان [ (2) ] .
__________
[ (1) ] يصلى ظهره: يدفئه.
[ (2) ] النومان: كثير النوم، (دلائل البيهقي) : 3/ 449- 450، باب إرسال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حذيفة بن اليمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى عسكر المشركين، وما ظهر له في ذلك من آثار النبوة بوقوفة ليلتئذ على ما أرسل على المشركين من الريح والجنود، وتصديق اللَّه- سبحانه- قول نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما وعد حذيفة من حفظ اللَّه إياه عن الأسر والبرد، باختلاف يسير في اللفظ، وأخرجه الإمام مسلم (في صحيحه) ، كتاب الجهاد والسير، باب (36) غزوة الأحزاب، حديث رقم (1788) . قوله: «كنا عند حذيفة، فقال رجل: لو أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة ما قال» : معناه أن حذيفة فهم منه أنه لو أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبالغ في نصرته، ولزاد على الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فأخبره. بخبره في ليلة الأحزاب، وقصد زجره عن ظنه أنه يفعل أكثر من فعل الصحابة. قوله: «وأخذتنا تاريخ شديدة وقر» ، هو بضم القاف، وهو البرد وقوله بعد هذا: «قررت» هو بضم القاف وكسر الراء، أي بردت،
قوله: «اذهب فأتني بخير القوم ولا تذعرهم علي»
هو بفتح التاء وبالذال المعجمة، معناه: لا تفزعهم على ولا تحركهم علي، وقيل: معناه لا تنفرهم، وهو قريب من المعنى الأول، والمراد: لا تحركهم عليك، فإنّهم إن أخذوك كان ذلك ضررا على لأنك رسولي وصاحبي قوله: «فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشى في حمام حتى أتيتهم» ، يعنى أنه لم يجد البرد الّذي يجد الناس، ولا من تلك الريح الشديدة ودعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم له، واستمر ذلك اللطف به ومعافاته من البرد حتى عاد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رجع ووصل عاد إليه البرد الّذي يجده الناس، وهذه من معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. ولفظة الحمام عربية، وهو مذكر مشتق من الحميم، وهو الماء الحار. قوله:
«فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره» ، هو بفتح الياء وإسكان الصاد، أي يدفئه، ويدنيه فيها، وهو الصلا، بفتح الصاد والقصر، والصلاء بكسرها والمد. وقوله: «كبد القوس» ، هو مقبضها،(11/384)
وخرّج البيهقي [ (1) ] من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يوسف ابن عبد اللَّه بن أبي المختار عن بلال العبسيّ، عن حذيفة بن اليمان: أن الناس تفرقوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأتاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا جاثم من البرد.
قال يا بن اليمان: قم فانطلق إلي عسكر الأحزاب، فانظر إلى حالهم، قلت: يا رسول اللَّه والّذي بعثك بالحق نبيا ما قمنا إليك إلا حياء منك من البرد.
قال: انطلق يا بن اليمان، فلا بأس عليك من حرّ ولا برد حتى ترجع إليّ، فانطلقت إلي عسكرهم، فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله وقد تفرق الأحزاب عنه، قال: حتى إذا جلست فيهم، قال: فحس أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، قال: ليأخذ كل رجل منكم يبد جليسه، قال: فضربت بيدي على الّذي عن يميني، فأخذت بيده [ثم ضربت يدي على الّذي عن يساري فأخذت بيده] فكنت فيهم هنية ثم قمت فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو قائم يصلي، فأومأ بيده أن ادن، فدنوت ثم أومأ إليّ أيضا أن ادن، فدنوت حتى أسبل على من الثوب الّذي كان عليه وهو يصلي.
__________
[ () ] وكبد كل شيء وسطه. قوله: «فألبسنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها» ، العباءة بالمد والعباية بزيادة، لغتان، مشهورتان، معروفتان، وفي الحديث: جواز الصلاة في الصوف وهو جائز بإجماع من يعتد به، وسواء الصلاة عليه وفيه، ولا كراهية في ذلك. قال العبدري من أصحابنا: وقالت الشيعة: لا تجوز الصلاة على الصوف، ولا تجوز فيه. وقال مالك: يكره كراهة تنزيه. قوله: «فلم أزل نائما حتى أصبحت
قال: قم يا نومان،
هو بفتح النون وإسكان الواو، وهو كثير النوم، وأكثر ما يستعمل في النداء كما استعمله هنا. قوله:
«أصبحت» ، أي طلع الفجر وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو، واللَّه- تبارك وتعالى- أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 450- 451، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 33، كتاب المغازي والسرايا، حديث رقم (4325) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(11/385)
فلما فرغ من صلاته قال ابن اليمان: اقعد [ما الخبر؟] ، قلت: يا رسول اللَّه، تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار، قد صب اللَّه عليه من البرد مثل الّذي صب علينا ولكنا نرجو من اللَّه ما لا يرجو.
وله من طريق عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد أبي قدامة الحنفي، عن عبد العزيز بن أخي [ (1) ] حذيفة قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال جلساؤه: أما واللَّه لو كنا شهدنا ذلك، لفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، أبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم علي ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحد منا إصبعه.
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويقولون: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ [ (2) ] ، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له فيأذن لهم فيتسللون ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا رجلا حتى مر عليّ وما عليّ جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي.
قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، فقال: حذيفة؟ فتقاصرت بالأرض، فقلت: بلى يا رسول اللَّه، كراهية أن أقوم، قال: قم، فقمت فقال: إنه كائن في القوم خبر فأتيني [ (3) ] بخبر القوم، قال وأنا من أشد الناس فزعا، وأشدهم قرا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، قال:
فو اللَّه- ما خلق اللَّه فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج، وما أجد منه شيئا، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدث [ (4) ] في القوم شيئا حتى تأتيني،
فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقوم بيده
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «أبي» وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] الأحزاب: 13.
[ (3) ] في (الأصل) : «فأت» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «لا تحدثن» .(11/386)
علي النار، ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه، فذكرت قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تحدثن شيئا حتى تأتيني فأمسكت ورددت سهمي في كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، فإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو اللَّه- إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما انتصف بي الطريق أو غير ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن اللَّه كفاه القوم، فرجعت إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مشتمل شملة يصلي، فو اللَّه ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف [ (1) ] ، فأومأ إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل عليّ شملته، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا حزبه أمر صلى.
فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يترحلون، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (2) ] .
وخرّج هذا الحديث أبو نعيم من طرق، والمعني واحد وإن تقاربت ألفاظه.
__________
[ (1) ] أقرقف: أرتعد من البرد.
[ (2) ] الأحزاب: 9، وتمامها: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.(11/387)
وأما استئذان الحمي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرسالها إلي أهل قباء لتكون كفّارة لهم
فخرّج البيهقي [ (1) ] والإمام أحمد [ (2) ] من حديث يعلي بن عبيد، قال: حدثنا الأعمش عن جعفر [ (3) ] بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أم طارق مولاة سعد، قالت: جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلي سعد فاستأذن، فسكت سعد وأعاد فسكت سعد، فأرسلني سعد إليه أنه لم يمنعنا أن نأذن لك إلا أنا أردنا أن تزيدنا، قالت:
فسمعت صوتا على الباب يستأذن ولا أري شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أنت؟
قالت: أنا أم ملدم [ (4) ] ، قال: لا مرحبا بك ولا أهلا، أتهدين إلي قباء؟ قالت: نعم، قال: فاذهبي إليهم.
ولهما من طريق يعلي قال: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر ابن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: إن أهل قباء أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: إن الحمى قد اشتدت علينا فقال: إن شئتم أن ترفع عنكم رفعت، وإن شئتم كانت طهورا، قالوا: بل تكون لنا طهورا [ (5) ] .
ومن حديث يحيى بن المغيرة قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: أتت الحمى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستأذنت عليه، فقال: من أنت؟
قالت: أم ملدم، قال أتريدين أهل قباء؟ قالت: نعم قال: فحموا ولقوا منها شدة فاشتكوا إليه فقالوا: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقينا من الحمى، قال: إن شئتم دعوت اللَّه فكشفها عنكم، وإن شئتم كانت لكم طهورا [قالوا: بل تكون لنا طهورا] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 158، باب ما جاء في استئذان الحمى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرساله إياها إلى أهل قباء لتكون لهم كفارة، وظهور ما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 522- 523، حديث رقم (26586) ، من حديث أم طارق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (3) ] في (الأصل) : «جبير» ، وما أثبتناه من (الدلائل) و (المسند) .
[ (4) ] اسم الحمى.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 158- 159.(11/388)
ومن طريق الإمام أحمد قال: حدثني أبى [ (1) ] ، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان المدائني، حدثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان المهدي، عن سلمان الفارسيّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: استأذنت الحمى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا الحمى أبرئ اللحم وأمصّ الدم، قال اذهبي إلي أهل قباء، فأتتهم وجوههم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد اصفرت وجوههم، فشكوا الحمى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما شئتم إن شئتم دعوت اللَّه- عز وجل- فكشفها عنكم، وإن شئتم تركتموها، فأسقطت ذنوبكم، قالوا: بل ندعها يا رسول اللَّه [ (2) ] .
ومن حديث قرة بن حبيب الغنوي قال: حدثنا إياس بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاءت الحمى إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه ابعثني إلي أحب قومك، أو إلى أحب أصحابك إليك، شك قرة، فقال: اذهبي إلى الأنصار، قال: فذهبت فصبت عليهم فصرعتهم، فجاءوا إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه: قد أتت الحمى علينا فادع اللَّه لنا بالشفاء قال: فدعا لهم، فكشف عنهم، فاتبعته امرأة فقالت: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ادع اللَّه [لي] إني لمن الأنصار، وإن أبي لمن الأنصار فادع اللَّه لي كما دعوت لهم. فقال: أيما أحب إليك؟ أن أدعو لك فيكشف عنك أو تصبرين و [تجب] لك الجنة؟ قالت: لا- واللَّه- يا رسول اللَّه بل أصبر ثلاثا، ولا أجعل من اللَّه بجنته خطرا ابدا،
قال البيهقي: [واللَّه تعالى أعلم] [ (3) ] يحتمل أن يكون هذا في قوم آخرين من الأنصار.
وخرّجه البخاري في (الأدب المفرد) من حديث قرة به، ولفظه: عن أبي هريرة قال: جاءت الحمى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: ابعثني إلى آثر أهلك عندك، فبعثها إلى الأنصار فبقيت عليهم ستة أيام ولياليها فاشتد ذلك عليهم، فأتهم في ديارهم، فشكوا ذلك إليه، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يدخل دارا دارا، وبيتا بيتا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 159.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 159- 160.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 160، وما بين الحاصرتين تصويبات وزيادات للسياق منه.(11/389)
يدعو لهم بالعافية، فلما رجع تبعته امرأة منهم، فقالت: والّذي بعثك بالحق إني لمن الأنصار وإن أبي لمن الأنصار فادع اللَّه لي كما دعوت للأنصار. قال: ما شئت! إن شئت دعوت اللَّه أن يعفو عنك، وإن شئت صبرت ولك الجنة.
قالت: بلي، أصبر ولا أجعل إلي الجنة خطرا [ (1) ] .
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء الحادي عشر ويليه الجزء الثاني عشر وأوله: وأما ذهاب الحمى عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها بدعاء علّمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.(11/390)
[المجلد الثاني عشر]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
وأما ذهاب الحمى عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها بدعاء علّمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرّج أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل قال:
حدثنا منصور بن حمزة عن ولد أنس بن مالك، عن جده أنس بن مالك قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وهي موعوكة، فقال: ما لي أراك هكذا؟!، قالت: بأبي وأمي، هذه الحمى، وسبتها، فقال: لا تسبيها [فإنّها مأمورة] ولكن إن شئت أعلمك كلمات إذا تلوتهن أذهبها اللَّه- تعالى- عنك، قالت: فعلمني.
قال: قولي: اللَّهمّ ارحم جلدي الرقيق، وعظمي الدقيق، من شدة الحريق، يا أم ملدم إن كنت آمنت باللَّه العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع اللَّه إلها آخر. قال: فقالتها، فذهب عنها [ (1) ] .
وأما قيء من اغتاب وهو صائم لحماً عبيطاً بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فكان ذلك من أعلام النبوة
فخرّج البيهقي [ (2) ] وأحمد [ (3) ] من حديث محمد بن عبد الملك الدقيقي قال:
حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلا يحدث في مجلس
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 169، باب ما جاء في تعليمه صلّى اللَّه عليه وسلم عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- دعاء الحمى فقالته فذهبت.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 186- 187، باب ما جاء في المرأتين اللتين اغتابنا وهما صائمتان، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، ودلالة صدق القرآن، وفيه حديث الصبي الّذي كان يجن، فدعا له، فخرج من جوفه جرو أسود.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 599- 600، حديث رقم (23141) ، من حديث عبيد مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.(12/3)
أبي عثمان النهدي، عن عبيد مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه إن هاهنا امرأتين صامتا، وإنهما قد كادتا تموتان من العطش قال: فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد قال: أراه قال بالهاجرة فقال: يا نبي اللَّه إنهما واللَّه قد ماتتا أو كادتا تموتان، فقال: ادعهما، فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عس فقال لإحداهما: قيئى، فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح ثم قال: قيئي، فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا، وغيره حتى ملأت القدح، ثم إن هاتين المرأتين صامتا عما أحل اللَّه لهما، وأفطرتا على ما حرم عليهما. فجلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس، قال البيهقي: كذا قال عبيد وهو الصحيح.
وخرّج أيضا من حديث مسدد بن مسهر قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن عثمان بن غياث قال: حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان، عن سعد مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنهم أمروا بصيام، فجاء رجل في بعض النهار، فقال: يا رسول اللَّه! فلانة، وفلانة قد بلغتا الجهد، فأعرض عنه- مرتين أو ثلاثا، فقال:
ادعهما، فجاءتا بعس أو قدح- لا أدري أيهما، قال، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت لحما عبيطا ودما، وقال للأخرى: [ (1) ] قيئي مثل ذلك فقال: إن هاتين صامتا عما أحل لهما، وأفطرتا على ما حرم عليهما، أتت إحداهما الأخرى، فلم يريا إلا [ (2) ] يأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحا، كذلك قال سعد، والأول أصح.
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل البيهقي) : «وقال للأخرى مثل ذلك» .
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) «فلم يزالا يأكلان»(12/4)
وأما سماع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم أصوات المقبورين
فخرّج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث عبد الصمد: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز عن أنس قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في نخل لأبي طلحة يتبرز لحاجته، قال: وبلال يمشي وراءه يكرم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يمشي إلى جنبه، فمر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بقبر، فقام حتى قام إليه بلال، فقال: ويحك يا بلال! هل تسمع ما أسمع؟ قال: ما أسمع شيئا!! قال: إن صاحب القبر يعذب، قال: فسأل عنه فوجده يهوديا.
وخرّج من حديث فليح عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك قال:
أخبرني من لا أتهم من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وبلال يمشيان بالبقيع إذ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا بلال هل تسمع ما أسمع؟ قال: واللَّه يا رسول اللَّه ما أسمعه!! قال: ألا تسمع؟ أهل هذه القبور يعذبون؟ يعني قبور أهل الجاهلية [ (2) ] .
وخرّج من حديث أبي معاوية، حدثنا الأعمشي عن أبي سفيان عن جابر، عن أمّ مبشر قال: دخل علي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم قد ماتوا في الجاهلية، فسمعهم يعذبون، فخرج وهو يقول استعيذوا باللَّه من عذاب القبر.
قال: قالت يا رسول اللَّه، وإنهم ليعذبون في قبورهم؟ فقال: نعم عذابا تسمعه البهائم [ (3) ] .
وخرّج أبو نعيم من حديث عبد الملك بن إبراهيم بن جبر، عن رباح بن صالح بن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 621، حديث رقم (12121) ، من مسند أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 155- 156، حديث رقم (13308) ، من مسند أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 7/ 505، حديث رقم (26504) ، من حديث أم مبشر، امرأة زيد بن حارثة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها.(12/5)
من جوف الليل يدعو بالبقيع ومعه أبو رافع، فدعا بما شاء اللَّه، ثم انصرف مقبلا، فمر على قبر فقال: أف ... أف ... أف، ثلاثا!! فقال أبو رافع: يا نبي اللَّه بأبي وأمي ما معك أحد غيري فمني أففت؟ فقال: لا، ولكني أففت من صاحب هذا القبر الّذي سئل علي فشك في.
وأما سماعه صلّى اللَّه عليه وسلم أطيط السماء
فخرّج الترمذي [ (1) ] من حديث أبي أحمد الزبير: حدثنا إسرائيل عن إبراهيم ابن المهاجر عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون، واسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا للَّه، واللَّه لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجنم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه، لوددت أني كنت شجرة تعضد. [والّذي عن أبي ذرّ موقوف] .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، ويروي من غير هذا الوجه: أن أبا ذر قال: لوددت أني شجره تعضد.
وخرّجه أبو بكر بن أبي شيبة: من حديث عبيد اللَّه بن موسى قال حدثنا إسماعيل فذكره [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 481- 482، كتاب الزهد، باب (9) في
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ،
حديث رقم (2312) ،
قوله: «أطت» ،
الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، والمعنى: أن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط. «الصعدات» ، جمع صعيد، وهو التراب، والمراد: الطرق مثل طريق وطرق وطرفات، و «تجأرون» ، الجؤار: الصياح والضجة، يعنى تستغيثون، و «تعضد» عضدت الشجرة ونحوه: إذا قطعته. (جامع الأصول) :
4/ 13- 14، شرح غريب الحديث رقم (1985)
[ (2) ] هو متن حديث أبي نعيم.(12/6)
وخرّج أبو نعيم [ (1) ] من حديث عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن صفوان بن محرز، عن حكيم بن حزام، قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، ولا تلام أن تئط وما فيها موضع شبر ألا وعليه ملك ساجد أو قائم.
قال كاتبه: قد خرّج البخاري طرفا من هذا الحديث، فخرّج في كتاب الأيمان [والنذور] [ (2) ] من حديث هشام عن همام، عن أبي هريرة- رضي اللَّه
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 442، سماعه ما لا يسمع الناس، ورؤيته ما لا يرون، حديث رقم (360) ، وأخرجه من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عن اللَّه بن موسى، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم ابن المهاجر، عن مسروق، عن أبي ذر، وذكره بنحو حديث الترمذي وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1402، كتاب الزهد، باب (19) الحزن والبكاء، حديث رقم (4190) . وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 544، كتاب التفسير، باب (76) تفسير سورة: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ، حديث رقم (3883) ، ولفظه: قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً حتى ختامها، ثم قال: إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون ... » الحديث.
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، وعن إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، قال يحيى ابن سعيد: لم يكن بالقوى، وقال أحمد: لا بأس به، وروى عباس عن يحيى: ضعيف.. وقال ابن عدي: يكتب حديثه في الضعفاء، (ميزان الاعتدال) : 1/ 67، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 219، حديث رقم (21005) ، من حديث أبي ذر الغفاريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 643، كتاب الأيمان والنذور، باب (3) كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟ حديث رقم (6637) ، قوله: «باب كيف كانت يمين النبي» ؟ أي التي كان يواظب على القسم بها أو تكثر، وجملة ما ذكر في الباب أربعة ألفاظ: أحدها: والّذي نفسي بيده، وكذا نفس محمد بيده، فبعضها مصدر بلفظ لا، وبعضها بلفظ أما، وبعضها بلفظ أيم. ثانيا: لا ومقلب القلوب ثالثا: واللَّه، رابعها: ورب الكعبة، وأما قوله: «لاها اللَّه إذا» فيؤخذ منه مشروعيته من تقريره لا من لفظه والأول أكثرها ورودا، وفي سياق الثاني إشعار بكثرته أيضا،
وقد وقع في حديث رفاعة بن.(12/7)
تبارك وتعالى عنه- قال: قال أبو القاسم: والّذي نفس محمد بيده- لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا.
وخرّجه في الرقاق [ (1) ] من حديث يحيي بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا.
__________
[ () ] عرابة عند ابن ماجة والطبراني: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا حلف قال: والّذي نفسي بيده» ،
ولابن أبي شيبة من طريق عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: لا والّذي نفسي بيده»
ولابن ماجة من وجه آخر في هذا الحديث: «كانت يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم التي يحلف بها أشهد عند اللَّه، والّذي نفسي بيده»
ودل ما سوى الثالث من الأربعة، على أن النهى عن الحلف بغير اللَّه لا يراد به اختصاص لفظ الجلالة بذلك، بل يتناول كل اسم وصفة تختص به سبحانه وتعالى. وقد جزم ابن حزم، وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، وكذا الصفات صريح في اليمين تنعقد به، وتجب لمخالفته الكفارة، وهو وجه غريب عند الشافعية، وعندهم وجه أغرب منه، أنه ليس في شيء من ذلك صريح إلا لفظ الجلالة، وأحاديث الباب ترده، والمشهور عندهم وعند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام: أحدها: ما يختص به كالرحمن. ورب العالمين، وخالق الخلق، فهو صريح فتنعقد به اليمين، سواء قصد اللَّه أو أطلق، ثانيهما: ما يطلق عليه، وقد يقال لغيرة، ولكن بقيد، كالرب، والحق، فتنعقد به اليمين، وإلا أن قصد به غير اللَّه. ثالثها: ما يطلق على السواء، كالحيّ، والموجود، والمؤمن، فإن نوى غير اللَّه أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى به اللَّه انعقد على الصحيح، وإذا تقرر هذا، فمثل «والّذي نفسي بيده» ينصرف عند الإطلاق للَّه جزما، فإن نوى به غيره كملك الموت مثلا، لم يخرج عن الصراحة على الصحيح، وفيه وجه عن بعض الشافعية وغيرهم، ويلتحق به «والّذي فلق الحبة، ومقلب القلوب» وأما مثل «والّذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلى له» فصريح جزما. (فتح الباري) .
[ (1) ]
(فتح الباري) : 11/ 387، كتاب الرقاق، باب (27) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا لبكيتم كثيرا» حديث رقم (6485) ،
قال الحافظ: والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة اللَّه وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع، والموت، وفي القبر، ويوم القيامة. ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف، وقد(12/8)
وخرّجه مسلم [ (1) ] من حديث مالك بن أنس وعبد اللَّه بن نمير وأبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا.
__________
[ () ] جاء لهذا الحديث سبب
أخرجه سنيد في (تفسيره) بسنده، والطبراني عن أبي عمر: «خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المسجد، فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: والّذي نفسي بيده
«فذكر هذا الحديث، وعن الحسن البصري:» من علم يحكم أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي اللَّه- تعالى- مشهده، فحق أن يطول في الدنيا حزنه «قال الكرماني: في هذا الحديث من صناعة البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كل منهما.
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 15/ 120- 121، كتاب الفضائل، باب (37) توقيره صلّى اللَّه عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، حديث رقم (2359) ، من حديث موسى بن أنس، عن أنس بن مالك- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن أصحابه شيء، فخطب فقال: عرضت على الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا،
قال: فما أتى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم أشد منه، قال:
غطوا رءوسهم ولهم حنين، قال: فقام عمر، فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم نبيا، قال: فقاوم ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. قال الإمام النووي: مقصود أحاديث الباب أنه صلّى اللَّه عليه وسلم نهاهم عن إكثار السؤال، والابتداء بالسؤال عما لا يقع، وكره ذلك لمعان منها: أنه ربما كان سببا لتحريم شيء على المسلمين فيلحقهم به المشقة ومنها: أنه ربما كان في الجواب ما يكره السائل ويسوؤه، ولهذا أنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وكما صرح به الحديث في سبب نزولها. ومنها: أنهم ربما أحفوه بالمسألة، وألحفوه المشقة والأذى، فيكون ذلك سببا لهلاكهم. قال الخطابي وغيره: هذا الحديث فيمن سأل تكلفا، أو تعنتا فيما لا حاجة به إليه، فأما من سأل لضرورة: بأن وقعت له مسألة فسأله عنها فلا إثم عليه ولا عتب، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ قال صاحب (التحرير) وغيره: فيه دليل على أن من عمل ما فيه إضرارا بغيره كان آثما.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: عرضت على الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
«فيه أن الجنة والنار مخلوقتان، ومعنى الحديث: لم أر خيرا أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرا أكثر مما رأيته(12/9)
ومنها أن خالد بن الوليد رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ]
__________
[ () ] في النار، ولو رأيتم ما رأيت، وعلمتم ما علمت مما رأيته اليوم وقبل اليوم، لأشفقتم إشفاقا بليغا، ولقل ضحككم، وكثر بكاؤكم، وفيه دليل على أنه لا كراهة في استعمال لفظة «لو» في مثل هذا.
واللَّه تعالى أعلم. قوله: «غطوا رءوسهم ولهم خنين» هو بالخاء المعجمة، هكذا هو في معظم النسخ، ولمعظم الرواة، ولبعضهم بالحاء المهملة، وممن ذكر الوجهين: القاضي، وصاحب التحرير) ، وآخرون. قالوا: ومعناه بالمعجمة صوت البكاء، وهو نوع من البكاء دون الانتحاب، قالوا: وأصل الحنين خروج الصوت من الأنف، كالحنين بالمهملة من الفم. وقال الخليل: هو صوت فيه غنة. وقال الأصمعي: إذا تردد بكاؤه، فصار في كونه عنه فهو حنين.
وقال أبو زيد: الحنين مثل الخنين، وهو شديد البكاء (شرح النووي) .
[ (1) ] هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن كعب، سيف اللَّه تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد، والسيد الإمام، الأمير الكبير، قائد المجاهدين، أبو سليمان القرشي المخزومي المكيّ، وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. هاجر مسلما في صفر سنة ثمان، ثم سار غازيا، فشهد غزوة مؤتة، واستشهد أمراء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الثلاثة:
مولاه زيد، وابن عمه جعفر ذو الجناحين، وابن رواحة، وبقي الجيش بلا أمير فتأمر عليهم في الحال خالد، وأخذ الراية وحمل على العدو، فكان النصر.
وسماه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سيف اللَّه، فقال: «إن خالد سيف سله اللَّه على المشركين» ،
وشهد الفتح وحنينا، وتأمر في أيام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
واحتبس أدراعه ولأمته في سبيل اللَّه، وحارب أهل الردة ومسيلمة الكذاب، وغزا العراق، واستظهر، ثم اخترق البرية السماوية، بحيث إنه قطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، ومناقبه غزيرة، أمره الصديق على سائر أمراء الأجناد، حاصر دمشق فافتتحها هو وأبو عبيدة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما. توفى رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بحمص سنة إحدى وعشرين، ومشهده على باب حمص عليه جلالة، له أحاديث قليلة: وقال خليفة: ولى عمر أبا عبيدة على الشام، فاستعمل يزيد على فلسطين، وشرحبيل على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق، وحبيب بن مسلمة على حمص. وقال سحيم: مات بالمدينة، قلت: الصحيح موته بحمص، وله مشهد يزار، وله في (الصحيحين) حديثان، وفي (مسند بقي) واحد وسبعون.
(تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 40، ترجمة رقم (84) .(12/10)
لم يقاتل إلا ونصره اللَّه ببركة شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنه لم يؤذه السم
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من طريق سعيد بن منصور قال: حدثنا هشام حدثنا الحميد بن جعفر، عن أبيه، أن خالد بن الوليد، فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال:
اطلبوها، فوجدوها فإذا هي قلنسوة خلقة، فقال خالد: اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره، قال: فسبقتهم إلى ناصيته، فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصر.
وخرج من حديث سعيد بن عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت خالد بن الوليد أتى بسم، فقال:
ما هذا، قالوا: سم، قال: بسم اللَّه، وازدرده.
ومن حديث يعقوب بن الوليد حيث كان هناك، أتى بسم ساعة واحدة، فجعله على كفه، ثم ألقاه في فيه، وقال: بسم اللَّه، فلم يضره شيئا.
ومن حديث يحيى بن زكريا عن أبي زائدة، عن يونس بن إسحاق، عن أبى السفر قال: نزل خالد بن الوليد رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه الحيرة على [امرأة من] [ (2) ] المرازية، فقالوا: احذر السمّ لا يسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به، فأتى بشيء منه فأخذه بيده، ثم اقتمحه، وقال: بسم اللَّه، فلم يضره شيئا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 444- 445، باب شعر الرسول الموجود في قلنسوة خالد، حديث رقم (367) . وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 338- 339، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب خالد بن الوليد رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حديث رقم (5299) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : منقطع. وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 249، باب ما جاء في قلنسوة خالد ابن الوليد واستنصاره بما جعل فيها من شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (في الأصل) : «على أم بني» وما أثبتناه من (دلائل أبى نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبى نعيم) : 445، باب عدم تأثير السم في خالد، حديث رقم (386) . قال الهيثمي:
أخرجه أبو يعلى والطبراني بنحوه، وأحد إسنادي الطبراني، رجاله رجال الصحيح، وهو(12/11)
وأما تفقه عبد اللَّه بن عباس [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بذلك له
__________
[ () ] مرسل، ورجالهما ثقات، إلا أن أبا السفر وأبا بردة بن أبي موسى لم يسمعا من خالد. واللَّه تعالى أعلم. (مجمع الزوائد) : 9/ 350.
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عباس البحر، حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، وأبو العباس عبد اللَّه، ابن عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، العباس بن عبد المطلب، شيبة بنى هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكيّ الأمير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين. وصحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نحوا من ثلاثين شهرا، وحدث عنه بجملة صالحة، وعن عمر وعلى، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وخلق. وقرأ على أبى بن كعب، وزيد. وقرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة.
روى عنه ابنه على، وابن أخيه عبد اللَّه بن معبد، ومواليه: عكرمة، ومقسم، وكريب، وأنس بن مالك، وطاووس، وخلق سواهم، وكان وسيما جميلا، مديد القامة مهيبا كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال. انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: كنت أنا وأمى من المستضعفين: أنا من الولدان وأمي من النساء. عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رأسي، ودعا لي بالحكمة. وقال الزبير بن كار: توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولابن عباس ثلاث عشرة سنة. قال أبو سعيد بن يونس:
غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبي سرح، وروى عنه من أهل مصر خمسة عشر نفسا.
عن سعيد بن جبير، عن عبد اللَّه قال: بت في بيت خالتي ميمونة، فوضعت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم غسلا، فقال:
من وضع هذا؟ قالوا: عبد اللَّه. فقال «اللَّهمّ علمه التأويل وفقهه في الدين.
وقال مجاهد:
ما رأيت أحدا قط مثل ابن عباس لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة. قال أبو عبيدة في تسمية أمراء على يوم صفين: فكان على الميسرة ابن عباس، ثم رد بعد إلى ولاية البصرة. ومسندة ألف وست مائة وستون حديثا، وله من ذلك في (الصحيحين) خمسة وسبعون، وتفرد البخاري له بمائة وعشرين حديثا، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث قال علي بن المديني: توفى ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 101- 102، ترجمة رقم (285) .(12/12)
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث هاشم بن القاسم، حدثنا ورقاء عن عبيد اللَّه ابن أبي يزيد، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءا قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال اللَّهمّ فقهه في الدين. ذكره في كتاب الطهارة، وترجم عليه باب وضع الماء عند الخلاء وذكره في المناقب [ (2) ] .
وخرجه من حديث زهير بن حرب وأبي بكر عن أبي النضر قالا: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا ورقاء بن عمر اليشكري قال: سمعت عبيد اللَّه بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أتي الخلاء، فوضعت له وضوءا، فلما خرج قال. من وضع هذا؟ وفي رواية زهير: قالوا، وفي رواية أبي بكر قلت:
ابن عباس، قال: اللَّهمّ فقهه.
وقال أبو عبيد محمد بن أبي نضر، وحكي المسعودي: اللَّهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل،
ولم أجده في (الكياس) ، وخرج أبو بكر بن أبي شيبة، من حديث جابر بن أبي صغيرة عن عمرو بن مسعود أن كريبا أخبره عن ابن عباس قال: دعا لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يزيدني اللَّه علما وفهما.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 325، كتاب الوضوء باب (10) وضع الماء عند الخلاء، حديث رقم (143) ، قال التيمي: فيه استحباب المكافأة بالدعاء، وقال ابن المنير: مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاثة أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئا، فرأى الثاني أوفق، لأن في الأول تعرضا للاطلاع، والثالث يستدعى مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على ذكائه، فناسب أنه يدعى له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع وكذا كان. (فتح الباري) .
[ (2) ]
(فتح الباري) : 7/ 125- 126، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب (24) ذكر ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (3756) ، من حديث مسدد، حدثنا عبد الوارث عن خالد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «ضمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى صدره، وقال: «اللَّهمّ علمه الحكمة» .
حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث «وقال: اللَّهمّ علمه الكتاب» ، حدثنا موسى حدثنا وهيب عن خالد مثله. والحكمة: الإصابة في غير النبوة.(12/13)
وخرج البخاري في المناقب [ (1) ] من حديث مسدد حدثنا عبد الوارث عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى صدره وقال:
اللَّهمّ علمه الحكمة، وحدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث وقال: علمه الكتاب حدثنا موسى حدثنا وهيب عن خالد مثله. الحكمة الإصابة من غير النبوة.
وخرجه في كتاب العلم [ (2) ] في باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ علمه الكتاب.
وله من حديث أبي معمر حدثنا عبد الوارث، حدثنا خالد عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال: اللَّهمّ علمه الكتاب. وقال في أول كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة [ (3) ] حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إليه، وقال: اللَّهمّ علمه الكتاب.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد
__________
[ (1) ] سبق تخريجه، قال الحافظ في (الفتح) : واختلف في المراد بالحكمة هنا، فقيل: الإصابة في القول. وقيل: الفهم عن اللَّه، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك. وكان ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من أعلم الصحابة بتفسير القرآن. وروى يعقوب بن سفيان في (تاريخه) بإسناد صحيح، عن ابن مسعود قال: «لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل» . وكان يقول: «نعم ترجمان القرآن ابن عباس» ، وروى هذه الزيادة ابن سعد من وجه آخر عن عبد اللَّه ابن مسعود، وروى أبو زرعة الدمشقيّ في (تاريخه) عن ابن عمر قال: «هو أعلم الناس بما أنزل اللَّه على محمد» ، وأخرج ابن أبي خثيمة نحوه بإسناد حسن، وروى يعقوب أيضا بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: «قرأ ابن عباس سورة النور، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت» . ورواه أبو نعيم في (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) من وجه آخر بلفظ «سورة البقرة» وزاد أنه كان على الموسم، يعنى سنة خمس وثلاثين، كان عثمان أرسله لما حضر. (فتح الباري) .
[ (2) ]
(المرجع السابق) : 1/ 224، كتاب العلم. باب (17) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «اللَّهمّ علمه الكتاب» .
حديث رقم (75) . قوله: ضمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم «كان ابن عباس إذ ذاك غلاما مميزا، فيستفاد منه جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 305، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنه، حديث رقم (7270) .(12/14)
ابن سلمة، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خيثمة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كنت في بيت ميمونة بنت الحارث، فوضعت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طهوره، فقال: من وضع هذا؟ قالت ميمونة: وضعه عبد اللَّه بن عباس، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل.
وخرجه جعفر الفرياني، فقال: حدثنا علي بن حكيم السمرقندي، حدثنا هاشم بن مخلد الفرياني، عن شبل، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. أنه سكب للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وضوءا، فقال: من وضع لي وضوئي هذا؟ فقالت أم هانئ: ابن أخى، فقال: اللَّهمّ فقهه في الدين، وعلمه التأويل.
وقال ابن أبي خيثمة: وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب بن خالد عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: اللَّهمّ علمه الحكمة وفقه في الدين.
أخبرنا الشافعيّ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش، عن إبراهيم قال:
قال عبد اللَّه: لو أن هذا الغلام من بني عبد المطلب أدرك ما أدركنا ما تعلقنا عنه بشيء.
حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: قال ابن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد. قال: وكان يقول نعم ترجمان القرآن ابن عباس.
وخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن بكير، حدثنا هاشم بن أبي صغيرة عن عمرو بن دينار، أن كريبا أخبره أن ابن عباس قال: صليت خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من آخر الليل، فجعلني حذاءه، فلما انصرف قلت: وينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول اللَّه الّذي أعطاك اللَّه؟ فدعا اللَّه تعالى أن يزيدني فهما وعلما.
__________
[ (1) ] (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) : 1/ 315، ترجمة رقم (45) .(12/15)
ومن حديث حاتم بن العلاء، حدثنا عبد المؤمن بن خالد حدثنا أبو نهيك، عن ابن عباس قال: دعاني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأجلسني في حجره، وجعل يمسح رأسي، ودعا لي بالحكمة، فلم تخطئني دعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ومن حديث عبد العزيز بن يحيى، حدثنا سليمان بن بلال، عن حسين بن عبد اللَّه، عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: اللَّهمّ أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل.
وعنه أخذ أكثر التفسير، فسمى البحر والحبر [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 316، وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 192- 193، باب ما جاء في دعائه لعبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما بالفقه في الدين والعلم بالتأويل وإجابة اللَّه دعاءه فيه. وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 615، كتاب معرفة الصحابة، ذكر عبد اللَّه ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (6280) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/16)
وأما كثرة مال أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] وولده وطول عمره بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلم له بذلك
فخرج البخاري [ (2) ] في كتاب الدعوات في باب الدعاء بكثرة المال مع البركة من حديث غندر، وخرج مسلم [ (3) ] في المناقب، والترمذي [ (4) ] من حديث
__________
[ (1) ] هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي ابن النجار، الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقرابته من النساء وتلميذه، وتبعه، آخر الصحابة موتا.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم علما جما، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاذ، وأسيد بن الحضير، وأبى طلحة، وأم سليم بنت ملحان، وخالته أم حرام، وزوجها عبادة بن الصامت، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبى هريرة، وفاطمة النبويّة، وعدة. وعنه خلق عظيم ومنهم الحسن، وابن سيرين، والشعبي، وخلق، وبقي أصحابه الثقات الى بعد الخمسين ومائة. وكان أنس يقول: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشرة ومات وأنا ابن عشرين وكن أمهاتى يحثثنى على الملازمة، منذ هاجر وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة، ولم يعده أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيا، ما قاتل، بل بقي في رحال الجيش، فهذا وجه الجمع. وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من ابن أم سليم- يعنى أنسا. وقال أنس بن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر. مسندة ألفان ومائتان وستة وثمانون. اتفق له البخاري ومسلم على مائة وثمانين حديثا وانفرد البخاري بثمانين حديثا، ومسلم بتسعين. أما موته فاختلف فيه، فروى معمر عن حميد أنه مات سنة إحدى، وتسعين، وروى معين بن عيسى عن ابن لأنس بن مالك: سنة اثنين وتسعين، فيكون عمره على هذا مائة وثلاث سنين. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 105، ترجمة رقم (296) .
[ (2) ] باب (47) ، حديث رقم (6378) ، (6379) ، (6380) ، (6381) ، كلهم من حديث شعبة عن قتادة.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 272- 273، كتاب فضائل الصحابة، باب (32) من فضائل أنس ابن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2480) . وقال الإمام النووي: هذا من أعلام نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم في إجابة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم، وفيه فضائل لأنس، وفيه دليل لمن يفضل الغنى(12/17)
محمد بن جعفر قالا جميعا: حدثنا شعبه قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك عن أم سليم رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها أنها قالت: يا رسول اللَّه خادمك أنس ادع اللَّه له، فقال: اللَّهمّ أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وزاد البخاري متصلا به: وعن هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك بمثله. وقال مسلم بعد حديثه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: فأتت أم سليم فقالت: يا رسول اللَّه خادمك أنس.
فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول بمثل ذلك.
وخرج البخاري في كتاب الدعوات في باب قول اللَّه تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ من حديث سعيد بن الربيع قال: حدثنا شعبة، عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول اللَّه خادمك فادع اللَّه له، قال: اللَّهمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته. ذكره في دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لخادمه بطول العمر وكثرة المال [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث هاشم بن القاسم قال: حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم علينا وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام، وخالتي فقالت
__________
[ () ] على الفقير، ومن قال بتفضيل الفقير أجاب عن هذا بأن هذا قد دعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بأن يبارك له فيه، ومتى بورك فيه لم يكن فيه فتنه، ولم يحصل بسببه ضرر، ولا تقصير في حق، ولا غير ذلك من الآفات التي تتطرق إلى سائر الأغنياء بخلاف غيره. وفيه هذا الأدب البديع، وهو أنه إذا دعا بشيء له تعلق بالدنيا ينبغي أن يضم إلى دعائه طلب البركة فيه والصيانة ونحوهما. وكان أنس وولده رحمة وخيرا، ونفعا بلا ضرر بسبب دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 5/ 640، كتاب المناقب، باب (46) مناقب لأنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3829) .
[ (1) ] باب (26) ، حديث رقم (6344) .(12/18)
أمى: يا رسول اللَّه، خويدمك ادع اللَّه له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي أن قال: اللَّهمّ أكثر ماله، وولده، وبارك له فيه
[ (1) ] .
ومن حديث عمر بن يونس قال: حدثنا عكرمة، حدثنا إسحاق قال:
حدثني أنس قال: جاءت أمي أم سليم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أزرتنى بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول اللَّه، هذا أنس ابني أتيتك به يخدمك، فادع اللَّه له، فقال: اللَّهمّ أكثر ماله وولده، قال أنس: فو اللَّه إن مالي لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليتعادون على نحو المائة اليوم
[ (2) ] .
ولمسلم [ (3) ] والترمذي [ (4) ] من حديث جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عمر قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: مر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فسمعت أم سليم صوته، فقالت: بأبي وأمى يا رسول اللَّه! أنيس، قال: فدعا لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاث دعوات قد رأيت منهن [ (5) ] اثنتين في الدنيا، وأما الثالثة في الآخرة.
قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روى هذا الحديث من غير وجه، عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
خرج البيهقيّ [ (6) ] من حديث أبي حاتم الرازيّ قال: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الأنصاريّ قال: حدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول اللَّه إن لي خويصة [ (7) ] قال: وما هي؟ قالت: خادمك أنس، قال: فما ترك
__________
[ (1) ] باب (32) ، حديث رقم (2481) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (143) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (144) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 5/ 639- 640، كتاب المناقب، باب (46) مناقب لأنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3827) .
[ (5) ] وفي بعض الأصول: «فيها» .
[ (6) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 195، باب دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم لأنس بن مالك الأنصاري رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بكثرة المال والولد، وإجابة اللَّه تعالى له فيه.
[ (7) ] خويصة بتشديد الصاد وبتخفيفها: تصغير خاصة.(12/19)
خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، ثم قال: اللَّهمّ ارزقه مالا وولدا، وبارك له فيه، قال: فإنّي من أكثر الأنصار مالا.
قال أنس: وحدثتني ابنتي أمينة أنه قد دفن من صلبي إلى مقدم الحجاج البصرة تسع وعشرون ومائة.
ومن طريق الترمذيّ قال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود، عن أبي خلدة قال: قلت لأبي العالية سمع أنس من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: خدمه عشر سنين، ودعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان كان يجيء منه ريح المسك [ (1) ] .
ومن حديث نوح بن قيس قال: حدثني ثمامة بن أنس، عن أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول اللَّه خادمك أنس ادع اللَّه له، قال: اللَّهمّ عمره وأكثر ماله.
وقال الإمام أحمد [ (2) ] : حدثنا معتمر عن حميد أن أنسا عمر مائة سنة إلا سنة، ومات سنة إحدى وتسعين.
وخرج البخاري في (الأدب المفرد) من طريق عارم قال: حدثنا سعيد ابن زيد، عن سنان قال: حدثنا أنس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يدخل علينا أهل البيت، فدخل يوما، فدعا لنا، فقالت أم سليم خويدمك، ألا تدعو له؟ قال: اللَّهمّ أكثر ماله، وولده، وأطل حياته، واغفر له،
فدعا لي بثلاث، فدفنت مائه وثلاثة، وإن ثمرتي لتطعم في السنة مرتين، وطالت حياتي حتى استحييت من الناس، وأرجو المغفرة.
وخرج البخاريّ في (الصحيح) [ (3) ] من حديث خالد بن الحارث، حدثنا حميد الطويل، عن أنس قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال:
__________
[ (1) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 641، كتاب المناقب، باب (46) مناقب لأنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3833) ، ثم قال: هذا حديث حسن، وأبو خلدة اسمه خالد بن دينار، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد أدرك أبو خلدة أنس بن مالك، وروى عنه.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 3/ 547، حديث رقم (11642) ، 4/ 36، حديث رقم (12541) ، 4/ 138، حديث رقم (13182) ، ثلاثتهم من مسند أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/20)
أعيدى سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإنّي صائم. ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول اللَّه! إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنيس، فما ترك خير آخرة، ولا دنيا إلا دعا له به: اللَّهمّ ارزقه مالا وولدا، وبارك له فيه،
فإنّي لمن أكثر الأنصار مالا. حدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبى مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة. وترجم عليه: باب من زار قوما، فلم يفطر عندهم.
__________
[ () ] (3) (فتح الباري) : 4/ 285، كتاب الصوم، باب (61) من زار قوما فلم يفطر عندهم، حديث رقم (1982) ، وقال في آخره: قال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد سمع أنسا رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. قال الحافظ: ابن أبي مريم هو سعيد، وفائدة ذكر هذه الطريق بيان سماع حميد لهذا الحديث من أنس، لما اشتهر من أن حميدا كان ربما دلس عن أنس، ووقع في رواية الكريمي والأصيلي في هذا الموضوع: «حدثنا ابن أبي مريم» فيكون موصولا.
وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز التصغير على معنى التلطف لا التحقير، وتحفه الزائر بما حضر بغير تكليف، وجواز رد الهدية إذا لم يشق ذلك على المهدي، وأن أخذ من رد عليه ذلك ليس من العود في الهبة. وفيه حفظ الطعام وترك التفريط فيه، وجبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده بالدعاء له، ومشروعية الدعاء عقب الصلاة، وتقديم الصلاة أمام طلب الحاجة، والدعاء بخيرى الدنيا والآخرة، والدعاء بكثرة المال والولد، وأن ذلك لا ينافي الخير الأخروي، وأن فضل التقلل من الدنيا يختلف باختلاف الأشخاص. وفيه زيارة الإمام بعض رعيته، ودخول بيت الرجل في غيبته، لأنه لم يقل في طرق هذه القصة أن أبا طلحة كان حاضرا. وفيه إيثار الولد على النفس، وحسن التلطف في السؤال، وأن كثرة الموت في الأولاد لا ينافي إجابة الدعاء بطلب كثرتهم، ولا طلب البركة فيهم، لما يحصل من المصيبة بموتهم، والصبر على ذلك من الثواب.
وفيه التحدث بنعم اللَّه تعالى، وبمعجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما في إجابة دعوته من الأمر النادر، وهو اجتماع كثرة المال مع كثرة الولد، وكون بستان المدعو له صار يثمر مرتين في السنة دون غيره. وفيه التاريخ بالأمر الشهير، ولا يتوقف ذلك على صلاح المؤرخ به، وفيه جواز ذكر البضع فيما زاد على عقد العشر، خلافا لمن قصره على ما قبل العشرين. (فتح الباري) .(12/21)
وأما إجابة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم لرجل وامرأة
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث عطاء بن مسلم قال: حدثنا جعفر بن برقان عن عطاء بن أبي رباح، عن الفضل بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: شدوا رأسي لعلى أخرج إلى المسجد، فشددت رأسه بعصابة صفراء، ثم خرج إلى المسجد يهادي بين رجلين، فذكر كلاما ثم قال:
من غلبته نفسه إلى أمر يخفيه اليه، فليقم، وليسألنى حتى أدعو اللَّه له.
فقامت امراة، فأومأت بإصبعها إلى لسانها، فقال: انطلقي إلى بيت عائشة حتى آتيك. فقال رجل آخر: يا رسول اللَّه إني لبخيل وإني لجبان، وإني لنؤوم، فادع اللَّه أن يسخى نفسي، وأن يشجع جبنى، وأن يذهب بكثرة نومي. قال الفضل: فلقد رأيته بعد ذلك أراه في الغزو معنا، وما منا رجل أسخى نفسا، ولا أشد بأسا، ولا أقل نوما منه.
ووضع صلّى اللَّه عليه وسلم قضيبا على رأس المرأة، ثم دعا لها، فقالت عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: فإن كنت لأعرف دعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى إن كانت لتقول: يا عائشة أحسنى صلاتك!.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 451، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم بشفاء الأمراض النفسية والعضوية، حديث رقم (376) .(12/22)
وإما إجابة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم لحمل أم سليم [ (1) ]
فخرج البخاريّ [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا عبد اللَّه ابن عون، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبوه طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم: هو أسكن ما كان. وقال مسلم: مما كان، فقربت إليه العشاء، فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأخبره، فقال: أعرستم الليلة؟ فقال: نعم.. قال:
اللَّهمّ بارك لهما، فولدت غلاما، فقال لي أبو طلحة: احفظه. وقال مسلم:
احمله حتى آتى به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأتى به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أمعه شيء؟ قالوا: تمرات، فأخذها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فمضغها، ثم أخذ من
__________
[ (1) ] هي أم سليم الغميصاء- ويقال: الرميصاء- ويقال: سهلة، ويقال: أنيفة. ويقال: رميثة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية الخزرجية، أم خادم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنس بن مالك. فمات زوجها مالك بن النضر، ثم تزوجها أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له: أبا عمير، وعبد اللَّه، شهدت حنينا وأحدا فهي من أفاضل النساء. عن أنس: أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول اللَّه! هذه أم سليم معها خنجر، فقالت: يا رسول اللَّه، إن دنا منى مشرك بقرت بطنه. عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: إني قد آمنت: فإن تابعتنى تزوجتك، قال: فأنا على مثل ما أنت عليه، فتزوجته أم سليم، وكان صداقها الإسلام. روت أربعة عشر حديثا، اتفقا لها على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 64، ترجمة رقم (157) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 733، كتاب العقيقة، باب (1) تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه، وتحنيكه، حديث رقم (5470) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 371، كتاب الأدب، باب (5) استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه، وجواز تسميته يوم ولادته، واستحباب التسمية بعبد اللَّه، وإبراهيم، وسائر أسماء الأنبياء، عليهم السلام، حديث رقم (23) .(12/23)
فيه فجعله في في الصبى وحنكه به، وسماه عبد اللَّه. ذكره البخاريّ في أول كتاب العقيقة.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: مات ابن [أبي] طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت له عشاءه، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع عليها، فلما رأت أنه قد شبع، وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت إن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال:
لا، قالت: فاحتسب ابنك قال: فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتنى؟ يا بنى فانطلق حتى آتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبره بما كان، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بارك اللَّه لكما في غابر ليلتكما،
قال: فحملت، قال: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر وهي معه، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقا فدنوا من المدينة، فضربها المخاض فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الّذي كنت أجد، انطلق فانطلقنا، قال: وضربها المخاض حين قدما فولدت غلاما، فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال: فصادفته ومعه ميسم، فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت، قلت:
نعم، قال: فوضع الميسم، قال: وجئت به فوضعته في حجره، ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في في الصبي، فجعل الصبي يتلمظها، قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: انظروا إلى حب
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 244- 246، كتاب فضائل الصحابة، باب (20) من فضائل أبي طلحة الأنصاري رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (2144) .(12/24)
الأنصار التمر، قال: فمسح وجهه وسماه عبد اللَّه. تفرد به مسلم من هذا الطريق وهذه الألفاظ
[ (1) ] .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر بن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان لأم سليم من أبي طلحة ابن، فمرض مرضه الّذي مات فيه، فلما مات غطته أمه بثوب، فدخل أبو طلحة فقال: كيف أمسى ابني؟ قالت: أمسى هادئا، فتعشى، ثم قالت له في بعض الليل: أريت لو أن رجلا أعارك عارية، ثم أخذها منك إذا جزعت؟ قال: لا.
قالت: فإن اللَّه أعارك ابنك، وقد أخذه منك، قال: فغدا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبره بقولها، وقد كان أصابها تلك الليلة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: بارك اللَّه لكما في ليلتكما.
قال: فولدت له غلاما كان اسمه عبد اللَّه، قال: فذكروا أنه كان من خير أهل زمانه [ (2) ] .
وخرج البيهقيّ من حديث مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص، حدثنا سعيد بن مسروق عن عباية بن رافع، قال: كانت أم أنس بن مالك تحب أبي طلحة،
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث فوائد: منها: تحنيك المولود عند ولادته، وهو سنة بالإجماع، ومنها أن يحنكه صالح من رجل أو امرأة، ومنها التبرك بآثار الصالحين وريقهم، وكل شيء منهم، ومنها كون التحنيك بتمر وهو مستحب ولو حنك بغيره حصل التحنيك، ولكن التمر أفضل، ومنها جواز لبس العباءة، ومنها التواضع، وتعاطى الكبير أشغاله، وأنه لا ينقص ذلك مروءته، ومنها استحباب التسمية بعبد اللَّه، ومنها استحباب تفويض تسميته إلى صالح فيختار له اسما يرتضيه، ومنها جواز تسميته يوم ولادته. واللَّه تعالى أعلم.
[ (2) ] وفي هذا الحديث مناقب لأم سليم رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها من عظيم صبرها، وحسن رضاها بقضاء اللَّه تعالى، وجزالة عقلها في إخفائها موته على أبيه في أول الليل ليبيت مستريحا بلا حزن، ثم عشته وتعشت ثم تصنعت له، وعرضت له بإصابته فأصابها. وفيه استعمال المعاريض عند الحاجة لقولها: هو أسكن ما كان، فإنه كلام صحيح، مع أن المفهوم منه أنه قد هان مرضه وسهل وهو في الحياة، وشرط المعاريض المباحة أن لا يضيع بها حق أحد. واللَّه تعالى أعلم.(12/25)
فولدت له غلاما فمات، فخرج أبو طلحة إلى حاجته، فلما كان من الليل جاء أبو طلحة فأتته امرأته بجفنته [ (1) ] التي كانت تأتيه بها، ثم طلب منها ما يطلب الرجل من امرأته، ثم قال: ما فعل ابني؟.
فقالت: يا أبا طلحة ما رأيت كما فعل جيراننا هؤلاء؟ أنهم استعاروا عارية فجاء أصحابها يطلبونها، فأبوا أن يردوها عليهم. قال: بئس ما صنعوا قالت: فأنت هو، كان ابنك عارية من اللَّه عز وجل، وانه قد مات، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ بارك لهما في ليلتهما، فتلقت فولدت غلاما،
فقال: عباية لقد رأيت لذلك الغلام سبعة بنين كلهم قد قرأ القرآن. قال البيهقيّ [ (2) ] : ورواه إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك موصولا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل البيهقي) : «بتحفته» . وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الجنائز، باب (41) من لم يظهر حزنه عند المصيبة، وقال محمد بن كعب القرظي: الجزع القول السيء والظن السيء. وقال يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ حديث رقم (1301) قال الحافظ في (الفتح) : وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد أيضا جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عند المصائب، وتزين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها أن لا تبطل حقا لمسلم. وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر والتسليم لأمر اللَّه تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تكند عليه وقته، ولم تبلغ الغرض الّذي أرادته، فلما علم اللَّه صدق نيتها بلغها مناها، وأصلح لها ذريتها. وفيها إجابة دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأن من ترك شيئا عوضه اللَّه خيرا منه، وبيان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأى وقوة العزم. وقد كانت أم سليم تشهد القتال، وتقوم بخدمة المجاهدين إلى غير ذلك مما انفردت به عن معظم النسوة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 198- 200، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبركة لحمل أم سليم من أبي طلحة.
[ (3) ] هو الّذي كناه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بأبي عمير،
فكان صلّى اللَّه عليه وسلم يمازحه بقوله: أبا عمير! ما فعل النغير؟
وسبق شرح ذلك الحديث مستوفي.(12/26)
ومن ذلك الوجه أخرجه البخاريّ، ورواه زياد النميري، عن أنس، وفي آخره قصة تحنيكه ذلك الصبي، ثم مسح ناصيته، وسماه عبد اللَّه، فكانت تلك المسحة غرة في وجهه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 3/ 543، حديث رقم (11617) ، 4/ 24، حديث رقم (12454) ، 4/ 49، حديث رقم (12614) ، 4/ 206، حديث رقم (13651) كلهم من مسند أنس ابن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/27)
وأما زوال الشك من قلب أبيّ بن كعب [ (1) ] في الحال بضرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في صدره ودعائه له
فخرج مسلم [ (2) ] من حديث ابن نمير قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده عن أبي بن كعب
__________
[ (1) ] هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك النجار، وسيد القراء، وأبو منذر، الأنصاري، النجاري، المدني، المقرئ، البدري، ويكنى أيضا أيا الطفيل. شهد العقبة، وبدرا، وجمع القرآن في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وعرض على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وحفظ عنه علما مباركا، وكان رأسا في العلم والعمل، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قال أنس: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي بن كعب: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ، وفي لفظ: «أمرنى أن أقرئك القرآن» قال: اللَّه سماني لك؟ قال:
«نعم» ، قال: وذكرت عند رب العالمين؟ قال: «نعم» ، فذرفت عيناه.
قال أنس بن مالك: جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي.
وروى أبو قلابة عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «أقرأ أمتى أبى» .
قال الواقدي: وفاة أبى بن كعب في خلافة عمر، ورأيت أهله وغيرهم يقولون. مات في سنة اثنتين وعشرين بالمدينة. ولأبى في الكتب الستة نيف وستون حديثا له عند بقي بن مخلد مائة وأربعة وستون حديثا، منها في البخاري ومسلم ثلاثة أحاديث، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بسبعة. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 40- 41، ترجمة رقم (88) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 349، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف التخفيف، والتسهيل، ولهذا
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم هون على أمتى.
واختلف العلماء في المراد بالسبعة أحرف، قال القاضي عياض: هو توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر، قال:
وقال الأكثرون: هو حصر للعدد سبعة، ثم قيل: هي سبعة في المعاني: كالوعيد، والمحكم، والمتشابه، والحلال، والحرام، والقصص، والأمثال، والأمر، والنهي، ثم اختلف هؤلاء في تعيين السبعة، وقال آخرون: هي في أداء، التلاوة وكيفية النطق بكلماتها: من إدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وإمالة، ومد، لأن العرب مختلفة اللغات في هذه الوجوه، فيسر اللَّه تعالى عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته، ويسهل على لسانه. وقال آخرون: هي الألفاظ والحروف، وإليه أشار ابن شهاب بما رواه مسلم عنه في الكتاب، ثم اختلف هؤلاء فقيل: سبع قراءات وأوجه،(12/28)
قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلى فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقرأ فحسن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من
__________
[ () ] وقال أبو عبيد: سبع لغات العرب، يمنها ومعدها، وهي أفصح اللغات وأعلاها، وقيل: بل السبعة كلها لمضر وحدها، وهي متفرقة في القرآن غير مجتمعة في كلمة واحدة، وقيل: بل هي مجتمعة في بعض الكلمات، كقوله تعالى: عَبَدَ الطَّاغُوتَ، نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وبِعَذابٍ بَئِيسٍ، وغير ذلك. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وضبطها، وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواترا. وأن هذه الأحرف تختلف معانيها تارة، وألفاظها أخرى، وليست متضاربة، ولا متنافية، وذكر الطحاوي أن القراءة بالأحرف السبعة كانت في أول الأمر خاصة للضرورة، ولاختلاف لغة العرب، ومشقة أخذ جميع الطوائف بلغة، فلما كثر الناس والكتاب، وارتفعت الضرورة، كانت قراءة واحدة. قال الداوديّ: وهذه القراءات السبع التي يقرأ الناس اليوم بها، ليس كل حرف منها هو أحد تلك السبعة، بل تكون متفرقة فيها، وقال أبو عبيد اللَّه بن أبي صفرة: هذه القراءات السبع إنما شرعت من حرف واحد من السبعة المذكورة في الحديث، وهو الّذي جمع عليه عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه المصحف، وهذا ذكره النحاس وغيره.
وقال غيره: ولا تكن القراءة بالسبع المذكورة في ختمة واحدة، ولا يدرى أي هذه القراءات كان آخر العرض على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وكلها مستفيضة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضبطتها عنه الأمة، وأضافت كل حرف منها إلى من أضيف إليه من الصحابي، أي أنه كان أكثر قراءة به، كما أضيفت كل قراءة منها إلى من اختار القراءة بها من القراء السبعة وغيرهم. قال المازردى: وأما قول من قال: المراد سبعة معان مختلفة: كالاحكام والأمثال والقصص فخطأ، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف، وقد تقرر إجماع المسلمين أنه يحرم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وقال: وقول من قال المراد خواتيم الآية، فيجعل مكان غَفُورٌ رَحِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فاسد أيضا للإجماع على منع تغيير القرآن للناس. وهذا مختصرها، ونقلة القاضي عياض في المسألة. واللَّه تعالى أعلم.(12/29)
التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية [ (1) ] ، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري [ (2) ] ، ففضت عرقا، وكأنما انظر إلى اللَّه عز وجل فرقا.
فقال: يا أبي إني أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي: معناه وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية.
ولأنه في الجاهلية كان غافلا أو متشككا، فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. قال القاضي عياض: معنى قوله: سقط في نفسي: أنه اعترته حيرة ودهشة. قال: وقوله: «ولا إذا كنت في الجاهلية» معناه أن الشيطان نزع في نفسه تكذيبا لم يعتقده، وقال: وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها لا يؤاخذ بها، قال القاضي عياض: قال المازري: معنى هذا أنه وقع في نفس أبي بن كعب نزعة شيطان غير مستقرة، ثم زالت في الحال، حين ضرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بيده في صدره، ففاض عرقا.
[ (2) ] قال القاضي عياض: ضربه صلّى اللَّه عليه وسلم في صدره تثبيتا له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم.
قال: ويقال: فضت عرقا، وفصت عرقا بالضاد المعجمة، والصاد المهملة. وقال: وروايتنا هذه بالمعجمة قال الإمام النووي: وكذا هو في معظم أصول بلادنا، وفي بعضها بالمهملة.
قوله: «أرسل إلى أن اقرأ على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة اقرأه على سبعة أحرف»
هكذا وقعت هذه الرواية الأولى في معظم الأصول، ووقع في بعضها زيادة،
قال: أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فردت إليه أن هون على أمتي فرد إليّ الثانية، اقرأه على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة، اقرأه على سبعة أحرف.
ووقع في الطريق الّذي بعد هذا من رواية ابن أبي شيبة أن قال: اقرأه على حرف، وفي المرة الثانية على حرفين، وفي الثالثة على ثلاثة، وفي الرابعة على سبعة.
هذا مما يشكل معناه، والجمع بين الروايتين، وأقرب ما يقال فيه: أن قوله في الرواية الأولى فرد إلى الثالثة المراد بالثالثة الأخيرة وهي الرابعة، فسماها ثالثه مجازا، وحملنا على هذا التأويل، تصريحه في الرواية الثانية أن الأحرف السبعة إنما كانت في المرة الرابعة وهي الأخيرة، ويكون قد حذف في الرواية الأولى أيضا بعض المرات.
قوله: «ولك بكل ردة رددتها»
وفي بعض النسخ: رددتكها هذا يدل على أنه سقط في الرواية الأولى ذكر بعض الردات الثلاث، وقد جاءت مبينة في الرواية الثانية.
وقوله تعالى: «ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها،»
معناه مسألة مجابة قطعا، وأما باقي الدعوات فمرجوة، ليست قطعية الإجابة.(12/30)
على أمتي، فرددت إلى الثانية أن اقرأه على حرفين، فرددت اليه أن هون على أمتى، فرد إليّ الثالثة أن اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة.
فقلت: اللَّهمّ اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام.
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة [ (1) ] قال: حدثنا محمد بن بشر، قال:
حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثني عبد اللَّه بن عيسى، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: أخبرنى أبي بن كعب أنه كان جالسا في المسجد إذ دخل رجل يصلّى فقرأ قراءة. واقتصّ الحديث بمثل حديث ابن نمير.
وقد خرج هذا الحديث [ (2) ] مسلم أيضا، وخرجه أبو داود والنسائي وقاسم بن أصبغ، والترمذي [ (3) ] بزيادات وبقصة، وقد ذكرتها كلها، وما في معناها، والكلام عليها في كتاب (نهاية الجمع لأخبار القراءات السبع) [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث رقم (820) بدون رقم. وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 188، باب ما جاء في دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي بن كعب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حين شك في القراءة، وإجابة اللَّه تعالى له فيما دعاه في الحال.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (821) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 624، كتاب المناقب، باب (33) مناقب معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبى عبيدة بن الجراح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، حديث رقم (3792) . وقال أبو عيسى:
هذا حديث حسن صحيح، وقد روى عن أبى بن كعب قال: قال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فذكر نحوه.
[ (4) ] وأحد مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه، وله نظير باسم (نهاية الجمع في القراءات السبع) نظما بغير رمز للشيخ زين الدين سريجا بن محمد الملطي، المتوفى سنه (788) هـ-. (كشف الظنون) :
20/ 780.(12/31)
وأما استجابة دعاء سعد بن أبي وقاص [ (1) ] بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم له أن تستجاب دعوته
فخرج الترمذي [ (2) ] من حديث جعفر بن عون، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن سعد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: اللَّهمّ استجب لسعد
__________
[ (1) ] هو سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ، الأمير أبو إسحاق القرشي، الزهري المكيّ، أحد العشرة، وأحد السابقين الأولين، وأحد من شهد بدرا والحديبيّة، وأحد الستة أهل الشوري. روى جملة صالحة من الحديث، وله في (الصحيحين) خمسة عشر حديثا، وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث، ومسلم بثمانية عشر حديثا. عن سعيد بن المسيب، سمعت سعدا يقول: ما أسلم أحد في اليوم الّذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبع ليال وإني ثلث الإسلام. عن قيس قال سعد بن مالك: ما جمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبويه لأحد قبلي. وإني لأول المسلمين رمى المشركين بسهم. ولقد رأيتني مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق السمر، وحتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ثم أصبحت بنو أسد تعزرنى على الإسلام، لقد خبت إذن وضل سعيي. قال ابن المسيب: كان جيد الرمي، سمعته يقول: جمع لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبويه يوم أحد. عن أبي عثمان أن سعدا قال:
نزلت هذه الآية في وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت: 8] ، قال: كنت برا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد! ما هذا الدين الّذي قد أحدثت؟ لتعد عن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي، فيقال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أمه، وإني لا أدع ديني لهذا الشيء، فمكثت يوما وليلة لا تأكل ولا تشرب وليلة، وأصبحت وقد جهدت، فلما رأيت ذلك، قلت: يا أمه! تعلمين واللَّه لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، وإن شئت فكلي أو لا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت. ومن مناقبه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن فتح العراق كان على يديه، وكان هو مقدم الجيوش يوم وقعة القادسية، ونصر اللَّه دينه، ونزل سعد بالمدائن، ثم كان أمير الناس يوم جلولاء، فكان النصر على يده، واستأصل اللَّه تعالى الأكاسرة. كان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه آخر المهاجرين وفاة، قال المدائني: توفى سنة خمس وخمسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 15- 16، ترجمة رقم (5) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 607، كتاب المناقب، باب (27) مناقب سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. حديث رقم (3751) .(12/32)
إذا دعا. قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث عن إسماعيل، عن قيس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: اللَّهمّ استجب لسعد إذا دعاك، وهذا أصح.
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث ابن عون، عن إسماعيل، عن قيس قال سمعت سعدا يقول. فذكره، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وذكر البيهقيّ [ (2) ] حديث ابن عون، عن إسماعيل، عن قيس، ثم قال: هذا مرسل حسن.
وخرج البخاريّ [ (3) ] من حديث أبي عوانه قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 570، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبى إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (6118) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 189، باب ما جاء في دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه باستجابة الدعاء، وما ظهر من إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم فيه.
[ (3) ] (فتح الباري) 2/ 300- 301، كتاب الأذان، باب (59) ، وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت، حديث رقم (755) . وفي هذا الحديث من الفوائد: عزل الإمام بعض عماله إذا شكى إليه وإن لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت ذلك المصلحة، قال مالك: قد عزل عمر سعدا، وهو أعدل من يأتى بعده إلى يوم القيامة، والّذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة، ففي رواية سيف: «قال عمر: لولا الاحتياط وأن لا يتقى من أمير مثل سعد لما عزلته» . وقيل: عزله إيثارا لقربه منه لكونه من أهل الشورى، وقيل: لأن مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين. وقال المازري:
اختلفوا هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين أو لا يعزل حتى يجمع الأكثر على الشكوى منه؟ وفيه استفسار العامل عما قيل فيه، والسؤال عمن شكى في موضع عمله، والاقتصار في المسألة على من يظن به الفضل. وفيه أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه يكون ممن يجاوره، وأن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال. وفيه خطاب الرجل(12/33)
عنه فعزله عنه واستعمل عليهم عمارا، فشكوه حتى أنهم ذكروا أنه لا يحسن يصلّى، فأرسل اليه.
فقال: يا أبا إسحاق إنهم يزعمون أنك لا تحسن تصلّى، فقال: أما أنا فإنّي كنت أصلّى بهم صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلّى صلاة العشي، فأركد في الأولين وأخف في الأخريين. قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، وأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة، فلم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامه بن قتادة يكنى أبا سعدة، فقال: أما إذ نشدتنا، فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما واللَّه لأدعون بثلاث: اللَّهمّ إن كان عبدك هذا كاذبا قام سمعة ورياء فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول شيخ كبير مفتون: أصابتنى دعوة سعد. قال عبد الملك:
فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
__________
[ () ] الجليل بكنيته، والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوؤه. وفيه الفرق بين الافتراء الّذي يقصد به السب، والافتراء الّذي قصد به دفع الضرر، فيعزر قائل الأول دون الثاني، ويحتمل أن يكون سعد لم يطلب حقه منهم أو عفا عنهم، واكتفى بالدعاء على الّذي كشف قناعة في الافتراء عليه دون غيره، فإنه صار كالمنفرد بأذيته. وقد جاء في الخبر: «من دعا على ظالمه فقد انتصر» فلعله أراد الشفقة عليه بأن عجل له العقوبة في الدنيا، فانتصر لنفسه، وراعى حال من ظلمه، لما كان فيه من وفور الديانة، ويقال: إنما دعا عليه لكونه انتهك حرمة من صحب صاحب الشريعة، وكأنه قد انتصر لصاحب الشريعة. وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث أنه يؤدى إلى نكاية الظالم وعقوبته ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة، وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم.
ومن الأول قول موسى عليه السلام: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ. وفيه سلوك الورع في الدعاء، واستدل به على أن الأولين من الرباعية متساويتان في الطول. (فتح الباري) .(12/34)
ذكره البخاريّ في باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها في الحضر والسفر، وما يجهر به، وما يخافت، وذكره مختصرا في باب القراءة في الظهر [ (1) ] .
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث سعيد بن عامر قال: حدثنا شعبة عن أبي بلح، عن مصعب بن سعد أن رجلا نال من علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. فدعا عليه سعد بن مالك، فجاءته ناقة أو جمل، فقتله، فأعتق سعد نسمة وحلف أن لا يدعو على أحد.
وخرجه من حديث سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: كنت بالمدينة [فبينا أنا] [ (3) ] أطوف في السوق، وبلغت أحجار الزيت [ (4) ] ، فرأيت قوما مجتمعين على فارس قد ركب دابة وهو يشتم علي بن أبي طالب والناس وقوف حواليه إذ أقبل سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] (المراجع السابق) : باب (96) القراءة في الظهر، حديث رقم (759) ولفظه: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، ويطول في الأولى ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحيانا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية» . وفيه حجة على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية، وقوله: «أحيانا» يدل على تكرر ذلك منه. وقال ابن دقيق العيد:
فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الإخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين. وهو بعيد جدا. واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (فتح الباري) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 571، كتاب معرفة الصحابة، وذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (6120) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] اسم موضع.(12/35)
وتعالى عنه، فوقف عليهم فقال: ما هذا؟ فقالوا رجل يشتم علي بن أبي طالب فتقدم سعد فأفرجوا حتى وقف عليه. فقال: يا هذا على ما تشتم؟ علي بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلّى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس؟ وذكر حتى قال: ألم يكن ختن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ابنته؟ ألم يكن صاحب رواية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزواته؟ ثم استقبل القبلة ورفع يديه، وقال: اللَّهمّ إن هذا يشتم وليا من أوليائك فلا تفرق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك. قال قيس: فو اللَّه ما تفرقنا حتى ساخت به دابته، فرمته على هامته في تلك الأحجار، فانفلق دماغه ومات. قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] [ (1) ] .
وخرج أيضا من حديث إبراهيم بن يحيى الشجري [ (2) ] ، عن أبيه قال:
حدثني موسى بن عقبة، حدثني إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 573- 574، كتاب معرفة الصحابة، مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (6121) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] هو يحيى بن محمد عباد بن هاني المدني الشجري، روى عن مالك، وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، ومحمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن أخي الزهري، وموسى بن عقبة، وموسى بن يعقوب الزمعي، وعبد اللَّه بن محمد بن عجلان، وهشام بن سعد، وغيرهم. وعنه ابنه إبراهيم، وعبد الجبار بن سعيد المساحقي، ومحمد بن المنذر بن سعيد بن أبي جهم القانوسي، قال أبو حاتم: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ ابن حجر: وقال الساجي: في حديثه مناكير وأغاليط وكان فيما بلغني ضريرا يلقن. (تهذيب التهذيب) :
11/ 239- 240، ترجمة رقم (446) . وابنه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عباد بن هاني الشجري، روى عن أبيه، وعنه البخاري في غير (الصحيح) ، وأبو إسماعيل الترمذي، والذهلي، وابن الضريس، وغيرهم. قال أبو حاتم ضعيف، وذكره ابن الأزدي: منكر الحديث عن أبيه، وقال أبو إسماعيل الترمذي: لم أر أعمى قلبا منه، قلت له: حدثكم إبراهيم بن سعد، فقال: حدثكم إبراهيم بن سعد! (تهذيب التهذيب) 1/ 154، ترجمة رقم (323) .(12/36)
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ سدد رميته وأجب دعوته [ (1) ] .
قال الحاكم: هذا حديث تفرد به إبراهيم بن يحيى بن هاني الشجري، كان ينزل الشجرة [ (2) ] بذي الحليفة، روى عن أبيه إبراهيم بن سعد، ويروي عنه محمد ابن إبراهيم الترمذي وإسحاق بن إبراهيم شاذان، والبخاريّ في غير (الصحيح) ومحمد بن أيوب وجماعة، وذكره ابن حبان في (الثقات) وضعفه أبو حاتم. وقد خرج له الترمذي، وقال: الواقع في غزوة بدر.
وقال سعد بن أبي وقاص: لما كنا بتربان [ (3) ] قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
يا سعد انظر إلى الظبي، فأفوق له سهم، وقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع ذقنه على بين منكبى وأذنى، ثم [قال] ارم، اللَّهمّ سدد رميته، قال: فما أخطأ سهمي عن نحره،
قال فتبسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرجت أعدو فأجده وبه رمق فذكيته، فحملناه حتى نزلنا قريبا، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقسم بين أصحابه [ (4) ] . هكذا ذكره بغير سند [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6122) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : تفرد به الشجري وهو ثقة.
[ (2) ] هي الشجرة التي ولدت عندها أسماء بنت محمد بن أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، بذي الحليفة، وكانت سمرة، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ينزلها من المدينة ويحرم منها، وهي على ستة أميال من المدينة، وإليها ينسب إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عباد بن هاني الشجري المدني، من مدينة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، روى عن أبيه والمدنيين، روى عنه محمد بن يحيى الذهلي، وأبو إسماعيل الترمذي، وهو ضعيف. (معجم البلدان) : 3/ 369، موضع رقم (7012) . وفي (الأصل) :
«تفرد به إبراهيم بن يحيى» ، وفي (المستدرك) : «تفرد به يحيى بن هاني» .
[ (3) ] تربان: بالضم ثم سكون، قال أبو زيد الكلابي: هو واد بين ذات الجيش وملل والسيالة، على المحجة نفسها، وفيه مياه كثيرة، مرية، نزلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة بدر وبها منزل عروة بن أذينة الشاعر الكلابي. (معجم البلدان) : 2/ 23- 24، موضع رقم (2472) .
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 26- 27، في ذكر أحداث غزوة بدر.
[ (5) ] قال الواقدي بعد أن ساق هذا الخبر: حدثني بذلك محمد بن بجاد، عن أبيه، عن سعد.
(المرجع السابق) .(12/37)
وخرج الحاكم من حديث هاشم بن هاشم الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كنت جالسا مع سعد فجاء رجل يقال له: الحارث بن برصاء [ (1) ] وهو في السوق، فقال له: يا أبا إسحاق، إني كنت آنفا عند مروان فسمعته وهو يقول: إن هذا المال مالنا نعطيه من نشاء قال: فرفع سعد يديه وقال: أفأدعو؟، فوثب مروان وهو على سريرة فاعتنقه، وقال: أنشدك اللَّه يا أبا الحسن أن تدعو، فإنما هو مال اللَّه.
وفي رواية عن سعيد بن المسيب، عن سعد قال: جاءه الحارث بن البرصاء وهو في السوق، فقال له: يا أبا إسحاق إني سمعت مروان يزعم أن مال اللَّه ماله، من شاء أعطاه ومن شاء منعه، فقال له: أنت سمعته يقول ذلك؟
قال: نعم، قال سعيد: فأخذ بيدي سعد، ويد حارث حتى دخل على مروان، فقال:
يا مروان أنت تزعم أن مال اللَّه مالك؟ من شئت أعطيته، ومن شئت منعته؟
قال: نعم، قال: فأدعو؟ ورفع سعد يديه، فوثب مروان إليه وقال: أنشدك اللَّه أن تدعو، هو مال اللَّه من شاء أعطاه، ومن شاء منعه. [ (2) ] وخرج البيهقيّ [ (3) ] من حديث ابن عون قال: أنبأنى محمد بن محمد بن الأسود، عن عامر بن سعد قال: بينما سعد يمشى إذا مر برجل وهو يشتم علينا وطلحة والزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فقال له سعد: إنك لتسب قوما قد سبق لهم من اللَّه ما سبق، واللَّه لتكفن عن سبهم أو لأدعون اللَّه عليك. فقال: يخوفني كأنه نبي،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 572، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبى إسحاق سعد بن أبى وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (6123) ، وساقه الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، وقال: رواه مكي بن إبراهيم عن هاشم، وزاد: قال ابن المسيب: فأخذ سعد بيدي الحارث حتى دخل على مروان فقال: أنت تزعم أن مال اللَّه مالك؟ قال: نعم. قال: فأدعو. ورفع سعد يديه، فوثب إليه مروان. الحديث.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6124) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 190، باب ما جاء في دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه باستجابة الدعاء، وما ظهر من إجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله فيه.(12/38)
قال: فقال سعد: اللَّهمّ إن كان يسب قوما قد سبق لهم ما قد سبق فاجعله اليوم نكالا.
قال: فجاءت بختيه، فأفرج الناس فتخبطته، قال: فرأيت الناس يتبعون سعدا، ويقولون: استجاب اللَّه لك أبا إسحاق.
وله من حديث أسد بن موسى [ (1) ] قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال:
حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عن جده قال: دعا سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رب إن لي بنين صغارا فأخّر عنى الموت حتى يبلغوا، فأخّر عنه الموت عشرين سنة!.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 191.(12/39)
وأما وفاء اللَّه تعالى دين أبي بكر الصديق [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج البيهقيّ [ (2) ] من حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني سليمان ابن بلال، عن يونس بن يونس بن مزيد الأيلي، عن الحكم بن عبد اللَّه بن عبد الأعلى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها أن أباها دخل عليها، فقال: هل سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دعاء كان يعلمناه، وذكر أن عيسى عليه السلام كان يعلمه أصحابه؟ يقول: لو كان على أحدكم جبل دين ذهبا قضاه اللَّه عنه، ثم يقول: اللَّهمّ فارج الهم كاشف الغم مجيب دعوة المضطرين رحمان الدنيا والآخرة، ورحيمهما، أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمه من سواك.
قال أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كانت عليّ دنانير من دين، وكنت للدين كارها، فلم ألبث إلا يسيرا حتى جاءني اللَّه بعائدة، فقضى اللَّه ما كان عليّ من الدين.
قالت: عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: وكان لأسماء على دينار وثلاثة دراهم، فكنت أستحيى منها كلما نظرت إليها، فكنت أدعو بذلك الدعاء، فما لبثت إلا يسيرا حتى جاءني اللَّه برزق من غير ميراث ولا صدقة فقضيتها.
وحليت ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر بثلاث أواقي، وفضل لنا فضل حسن [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن أبي قحافة خليفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وصاحبه في الغار. سبقت له ترجمة وافية، وهو غنى عن التعريف.
[ (2) ] (سنن البيهقي) : 6/ 171- 172، باب ما جاء في الدعاء الّذي علمه أبا بكر في الدين فدعا به، فقضى اللَّه عنه دينه.
[ (3) ] ثم قال البيهقي: «لفظ حديث الصغاني» .(12/40)
قال البيهقيّ: تفرد به الحكم الأيلي [ (1) ] . قال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون، ومرة قال: ليس بشيء، لا يكتب حديثه. ومرة قال: ضعيف وقال وهب ابن زمعة، عن عبد اللَّه بن المبارك: أنه ترك حديثه. وقال البخاريّ: تركوه، كان ابن المبارك يوهنه، ونهى أحمد عن حديثه، وقال السعدي: الحكم بن عبد اللَّه جاهل كذاب، وأمر الحكم أوضح من ذلك، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي: وما أمليت للحكم عن القاسم بن محمد والزهري، كلها مما لا يتابعه الثقات عليها وضعفه بيّن على حديثه.
__________
[ (1) ] هو الحكم بن عبد اللَّه بن سعد بن عبد اللَّه الأيلي، يكنى أبا عبد اللَّه، كان ابن المبارك شديد الحمل عليه، وقال أحمد: أحاديثه كلها موضوعة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال السعدي وأبو حاتم: كذاب، وقال النسائي والدار الدّارقطنيّ: متروك الحديث. (الكامل في ضعفاء الرجال) :
2/ 202، ترجمة رقم (20/ 39) ثم قال: وحدث عن الحكم هذا يونس بن يزيد الأيلي، حدثناه عن على بن أحمد بن بسطام، حدثنا يعقوب بن كاسب، حدثنا أنس بن عياض، حدثنا يونس بن يزيد، حدثنا الحكم بن عبد اللَّه، عن القاسم، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت:
دخل على أبو بكر ... وسابق الحديث، ثم قال: حدثنا ابن أبي عصمة، حدثنا أحمد بن إسماعيل، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا عبد اللَّه بن عمر النميري، عن يونس بن يزيد، حدثنا الحكم بن عبد اللَّه، عن القاسم، عن عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: دخل على أبو بكر ...
فذكر نحوه.(12/41)
وأما ظهور البركة في ربح عروة البارقي [ (1) ] بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم له بالبركة في بيعه
فخرج البخاريّ [ (2) ] من حديث سفيان قال: حدثنا شبيب بن غرقدة قال:
سمعت الحي يتحدثون أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أعطاه دينارا يشترى له به شاه، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه.
قال سفيان: كان بن عمارة جاءنا بهذا الحديث عنه، قال: سمعه شبيب من عروة فأتيته فقال شبيب: إني لم أسمعه من عروة، ولكن قال: سمعت الحي
__________
[ (1) ] هو عروة بن عياض بن أبي الجعد البارقي وبارق في الأزد يقال: إن البارق جبل نزله بعض الأزديين، فنسبوا إليه. استعمل عمر بن الخطاب عروة البارقي هذا على قضاء الكوفة، وضم إليه سلمان بن ربيعة، وذلك قبل أن يستقضى شريحا. يعد عروة البارقي في الكوفيين، روى عنه قيس بن أبى حازم، والشعبي، وأبو إسحاق، والعيزار بن حريث. وشبيب بن غرقدة البارقي. قال علي بن المديني: من قال فيه عروة بن الجعد فقد أخطأ، وإنما هو عروة بن أبي الجعد. قال: وكان غندر محمد بن جعفر يهم فيه، فيقول: عروة بن الجعد.
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، قال: وحدثنا سفيان، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن عروة بن عياض بن أبى الجعد البارقي، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم.
وأخبرنا سفيان، عن شبيب بن غرقدة، سمعه عروة البارقي، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: الخير معقود بنواصي الخيل.
وأخبرنا سفيان عن شبيب بن عروة بن غرقدة، قال:
رأيت في دار عروة بن أبى الجعد سبعين فرسا رغبة في رباط الخيل. وهو الّذي أرسله النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليشترى الشاة بدينار، فاشترى به شاتين والحديث مشهور في البخاري وغيره، وكان فيمن حضر فتوح الشام ونزلها، ثم سيره عثمان إلى الكوفة، وحديثه عند أهلها.
(الإصابة) : 4/ 489، 488، ترجمة رقم (5522) ، (الاستيعاب) : 3/ 1065- 1066، ترجمة رقم (1802) .
[ (2) ] (فتح البخاري) : 6/ 784، كتاب المناقب، باب (28) بدون ترجمة، حديث رقم (3642) .(12/42)
يخبرونه عنه، ولكن سمعته يقول: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة،
قال: وقد رأيت في داره سبعين فرسا. قال سفيان: ليشترى له شاة كأنها أضحية [ (1) ] . ذكره في المناقب.
وخرجه الترمذي [ (2) ] من حديث هارون الأعور بن موسى القاري قال:
حدثنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد، عن عروة البارقي قال: رفع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دينارا لأشتري به شاه فاشتريت له شاتين، فبعت إحداهما بدينار، وجئت بدينار وشاة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فذكر له ما كان من أمره، فقال: بارك اللَّه لك في صفقة يمينك، فكان يخرج بعد ذلك الى كناسة الكوفة، فيربح الربح العظيم، فكان أكثر أهل الكوفة مالا.
[ (3) ] قال أبو لبيد: اسمه لمازة [بن زياد] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3643) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 559، كتاب البيوع، باب (34) بدون ترجمة، حديث رقم (1258) .
[ (3) ] ثم قال الترمذي: حدثنا أحمد بن سعيد الدرامي، حدثنا حبان، حدثنا سعيد بن زيد [هو أخو حماد بن زيد] قال: حدثنا الزبير بن خريت فذكر نحوه عن أبي لبيد. قال أبو عيسى: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا به، وهو قول أحمد وإسحاق. ولم يأخذ بعض أهل العلم بهذا الحديث، منهم الشافعيّ، وسعيد بن زيد، أخو حماد بن زيد. وأخرجه أبو دواد في (السنن) : 3/ 677- 678، كتاب البيوع والإجارات، باب (28) في المضارب يخالف، حديث رقم (3384) . وقال الخطابي في (معالم السنن) : هذا الحديث مما يحتج به أصحاب الرأى لأنهم يجيزون بيع مال زيد من عمرو بغير إذن منه أو توكيل، ويتوقف البيع على إجازة المالك، فإذا أجازه صح إلا انهم لم يجيزوا الشراء بغير إذنه، وأجاز مالك بن أنس الشراء والبيع معا.
وكان الشافعيّ لا يجيز شيئا من ذلك، لأنه غرر، لا بدري هل يجيزه أم لا؟ وكذلك يجيز النكاح الموقوف على رضا المنكوحة، أو إجازة الولي، غير أن الخبرين معا غير متصلين، لأن في أحدهما- وهو خبر حكيم بن حزام- رجلا مجهولا، لا يدري من هو؟ وفي خبر عروة أن الحي حدثوه، وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة.
وقد ذهب بعض من لم يجز البيع الموقوف من تأويل هذا الحديث إلى أن وكالته كانت وكالة تفويض وإطلاق، وإذا كنت الوكالة مطلقة فقد حصل البيع والشراء عن إذن. وقال الخطابي: وهذا لا يستقيم، لأن في خبر حكيم أنه تصدق بدينار، فلو كانت الوكالة مطلقة(12/43)
وخرجه أبو نعيم [ (1) ] من حديث الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن شبيب عن غرقدة، عن عروة، عن أبي الجعد البارقي قال: أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دينارا وأمرنى أن أشترى له أضحية فاشتريت، ثم عرض لي رجل فسامنى بها فبعتها منه بدينارين، فأخذت الدينار، فاشتريت به أضحية، فأتيت بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وبالدينار، فقبلها مني، ودعا لي أن يبارك في صفقتي فما اشتريت شيئا إلا ربحت فيه.
ومن حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: حدثنا أبو الأحوص، عن شبيب، عن غرقدة، عن عروة البارقي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعث رجلا يشترى له أضحيه بدينار، فاشترى له شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، ثم أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بشاة ودينار، فدعا له بالبركة، وكان لو اشترى ترابا لربح فيه.
ومن حديث سعد بن زيد قال: حدثنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد، عن عروة البارقي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لقي جلبا فأعطاه دينارا، فقال: اشتر لنا به شاة،
__________
[ () ] طابت له الزيارة. وقد جعل غير واحد من أهل العلم هذا أصلا في أن من وصل إليه مال من شبهة وهو لا يعرف له مستحقا، فإنه يتصدق به. واختلف الفقهاء في المضارب إذا خالف رب المال، فروى عن ابن عمر أنه قال: «الربح لرب المال» . وعن أبي قلابة ونافع: «أنه ضامن والربح لرب المال» . وبه قال أحمد وإسحاق، وكذلك الحكم عند أحمد في من استودع مالا فاتجر فيه بغير إذن صاحبه أن الربح لرب المال. وقال أصحاب الرأى: الربح للمضارب، ويتصدق به، والوضعية عليه، وهو ضامن لرأس المال في الوجهين معا. وقال الأوزاعي: إن خالف وربح فالربح له في القضاء، ويتصدق به في الورع والفتيا، ولا يصلح لواحد منهما. وقال الشافعيّ: إذا خالف المضارب نظر، فإن اشترى السلعة التي لم يؤمر بها بغير المال فالبيع باطل وإن اشتراها بغير العين فالسلعة ملك للمشتري، وهو ضامن للمال. (معالم السنن) .
[ (1) ] (دلائل أبى نعيم) : 388، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لعروة البارقي، حديث رقم (388) من حديث سعيد بن زيد. وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 220، باب ما جاء في دعائه (صلّى اللَّه عليه وسلم لعروة البارقي في البركة في بيعه وظهورها بعده في ذلك، وكذلك في تجارة عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/44)
فانطلق فاشترى شاتين بدينار، فلقيه رجل فباعه شاة بدينار، ثم أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بدينار وشاة.
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: بارك اللَّه لك في صفقة يمينك،
قال: فإن كنت لأقوم في الكناسة [ (1) ] ، فما أرجع إلى أهلي حتى أربح أربعين ألفا.
ورواه عفان، عن سعيد بن زيد، قال: فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين دينارا قبل أن أرجع إلى أهلي [ (2) ] .
قال مؤلفه رحمه اللَّه تعالى: عروة بن عياض بن أبي الجعد البارقي، وبارق في الأزد يعدّ في الكوفيين ولاه عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قضاء الكوفة قبل شريح.
ومن قال فيه عروة بن الجعد، فقد أخطأ إنما هو عروة بن أبي الجعد، خرج له الجماعة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الكناسة: سوق بالكوفة.
[ (2) ] هذا هو الحديث الّذي في (دلائل أبي نعيم) والباقي من (الأصل) .
[ (3) ] راجع ترجمته في أول الفصل.(12/45)
وأما ربح عبد اللَّه بن جعفر [ (1) ] في التجارة بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج البيهقيّ [ (2) ] من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا فطر بن خليفة، عن أبيه زعم أنه سمع عمرو بن حريث قال: انطلق بي أبي إلى رسول
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، السيد العالم، أبو جعفر القرشي الهاشمي، الحبشي، المولد، المدني الدار، الجواد بن الجواد ذي الجناحين. له صحبة ورواية، عداده في صغار الصحابة استشهد أبوه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يوم مؤتة فكفله النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ونشأ في حجره، وهو آخر من رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وصحبه من بني هاشم، وروي أيضا عن عمه على وعن أمه أسماء بنت عميس، حدث عنه أولاده: إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية، وأبو جعفر الباقر، والشعبي وعروة، وآخرون، وله وفادة على معاوية، وكان كبير الشأن كريما، جوادا، يصلح للخلافة.
عن الحسن بن سعد، عن عبد اللَّه بن جعفر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أتاهم بعد ما أخبرهم بقتل جعفر بعد ثالثه فقال: «لا تبكوا أخى بعد اليوم» ، ثم قال «ائتوني ببني أخي» ، فجيء بنا كأننا أفرخ، فقال: «أدعو لي الحلاق» فأمره فحلق رءوسنا، ثم قال: أما محمد، فشبه عمنا أبي طالب، وأما عبد اللَّه: فشبه خلقي وخلقي «، ثم أخذ بيدي، فأشالها، ثم قال: «اللَّهمّ اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد اللَّه في صفقته» . قال: فجاءت أمنا، فذكرت يتمنا، فقال: «العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ رواه أحمد في (المسند) .
قال أبو عبيدة: كان على قريش وأسد وكنانة يوم صفين عبد اللَّه بن جعفر. ولعبد اللَّه بن جعفر أخبار في الجود والبذل، وكان وافر الحشمة، كثير التنعم، وممن يستمع الغناء. وقال الواقدي ومصعب الزبيري: مات في سنة ثمانين، وقال المدائني: توفى سنة أربع أو خمس وثمانين، وقال أبو عبيد: سنة أربع وثمانين، ويقال: سنة تسعين. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 113، ترجمة رقم (327) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 220- 221، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم لعروة البارقي في البركة في بيعه، وظهورها بعده في ذلك، وكذلك في تجارة عبد اللَّه بن جعفر بن أبى طالب. وقد ذكره الهيثمي في (المجمع) وقال: رواه أبو يعلي والطبراني ورجالهما ثقات.(12/46)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا غلام شاب، فمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على عبد اللَّه بن جعفر، وهو يبيع شيئا يلعب به، فدعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: اللَّهمّ بارك له في تجارته.
وخرجه الواقدي في (مغازيه) من حديث محمد بن مسلمة عن يحيى بن موسى قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أمى فنعى لها أبى [ (1) ] . وذكر الحديث بطوله، ثم قال: فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا أساوم بشاة أخ لي [ (2) ] ، فقال: اللَّهمّ بارك له في صفقته.
قال عبد اللَّه: فما بعت شيئا، ولا اشتريت شيئا إلا بورك فيه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «مسلمة» و «موسى» ، وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] وتمامة:
فأنظر إليه وهو يمسح على رأس أخى، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته، ثم قال: اللَّهمّ إن جعفرا قد تقدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته، ثم قال: يا أسماء ألا أبشرك؟ قالت: بلى، بأبي أنت وأمى! قال: فإن اللَّه عز وجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت بأبي وأمي يا رسول اللَّه، فأعلم الناس ذلك! فقام رسول اللَّه وأخذ بيدي، يمسح بيده رأسي حتى رقى على المنبر، وأجلسنى أمامه على الدرجة السفلي، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه، ألا وإن جعفرا قد استشهد، وقد جعل اللَّه له جناحين يطير بهما في الجنة، ثم نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فدخل بيته وأدخلنى، وأمر بطعام فصنع لأهلي، وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده واللَّه غداء طيبا مباركا عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته، ثم نسفته، ثم أنضجته وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا. فتغديت انا وأخى معه، فأقمنا ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كما صار في إحدى بيوت نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا أساوم بشاة أخ لي فقال: اللَّهمّ بارك له في صفقته. قال عبد اللَّه: فما بعت شيئا ولا اشتريت إلا بورك فيه. (مغازي الواقدي) : 2/ 766- 767، غزوة مؤتة.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(12/47)
وأما كثرة ربح عبد اللَّه بن هشام [ (1) ] بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم له بالبركة
فخرج البخاريّ في كتاب الشركة [ (2) ] من حديث عبد اللَّه بن وهب قال:
أخبرني سعيد عن زهرة بن معبد، عن جده عبد اللَّه بن هشام، وكان قد أدرك
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن هشام بن زهرة بن عثمان بن عمرو بن كعب بن أسد بن تيم بن مرة القرشي التيمي. له ولأبيه صحبة. روى عنه حفيده أبو عقيل زهرة بن معبد، قال البغوي: سكن المدينة.
وقال ابن مندة كان مولده سنة أربع. وذكر الذهبي في (التجريد) أن البخاري أخرج حديثه في الأضحية، ولم أره فيه: وإنما
أخرج حديثة البخاري في كتاب الشركة من رواية أبى عقيل عن جده عبد اللَّه بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، بايعه، فقال: هو صغير، فمسح رأسه ودعا له.
هذا أخرجه الإسماعيلي بتمامه، فزاد: فكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله، فهذا مراد الذهبي بقوله:
في الأضحية، ولم يرد أن البخاري أخرجه في كتاب الأضحية. وأخرجه في الأحكام وفي الدعوات عن أبى عقيل أيضا أنه كان يخرج مع جده عبد اللَّه بن هشام إلى السوق، فيشترى الطعام، فيلقاه ابن عمر وابن الزبير، فيقولان له: أشركنا فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قد دعا لك بالبركة.
وأخرجه في مناقب عمر في الاستئذان وفي البدور، عن أبي عقيل، عن جده، قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ... فذكر قصته.
وأخرج أبو داود الحديث الأول، وهذا جميع ماله في الكتب الستة، وذكر البلاذري أنه عاش إلى خلافة معاوية.
وأخرج له أبو القاسم والبغوي من طريق أصبغ، عن ابن وهب بسند الحديث الّذي أخرج له البخاري في الشركة حديثا آخر رواه عن الصحابة، ولفظه: كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يتعلمون الدعاء كما يتعلمون القرآن إذا دخل الشهر أو السنة: اللَّهمّ أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وجواز من الشيطان، ورضوان من الرحمن. وهذا موقوف على شرط الصحيح. (الإصابة) : 4/ 255- 256، ترجمة رقم (5010) ، 5/ 216، ترجمة رقم (6656) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 5/ 170، كتاب الشركة، باب (13) الشركة في الطعام وغيره، حديث رقم (2501) ، (2502) .(12/48)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد [ (1) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه بايعه، فقال: هو صغير، فمسح رأسه ودعاه له.
وعن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به جده عبد اللَّه بن هشام إلى السوق، فيشترى الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له: أشركنا [ (2) ] ، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دعا لك بالبركة، فيشركهم، فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل. ترجم عليه باب الشركة في الطعام، وغيره. وذكره أيضا في كتاب الدعاء [ (3) ] من طريق ابن وهب حدثنا
__________
[ (1) ] وهي معدودة في الصحابة، وأبوه هشام مات قبل الفتح كافرا، وقد شهد عبد اللَّه بن هشام فتح مصر واختط بها، فيما ذكره ابن يونس وغيره، وعاش إلى خلافة معاوية. قال الحافظ في (الفتح) : وقد أخرجه المصنف في الدعوات عن عبد اللَّه بن وهب بهذا الإسناد، وكذلك أخرجه أبو نعيم من وجهين عن ابن وهب، وقال الإسماعيلي: تفرد بن ابن وهب.
[ (2) ] هو شاهد الترجمة لكونهما طلبا منه الاشتراك في الطعام الّذي اشتراه، فأجابهما إلى ذلك، وهم من الصحابة، ولم ينقل عن غيرهم ما يخالف ذلك، فيكون حجة.
وفي الحديث مسح رأس الصغير، وترك مبايعة من لم يبلغ، والدخول في السوق لطلب المعاش، وطلب البركة حيث كانت، والرد على من زعم أن السعة من الحلال مذمومة، وتوفر دواعي الصحابة على إحضار أولادهم عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لالتماس بركته، وعلم من أعلام نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم لإجابة دعائه في عبد اللَّه بن هشام.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 11/ 181،
كتاب الدعوات، باب (31) الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رءوسهم، حديث رقم (6303) وأخرجه أيضا في كتاب الأحكام، باب (46) بيعة الصغير، حديث رقم (7210) من حديث أبى عقيل زهرة بن معبد «عن جده عبد اللَّه بن هشام وكان قد أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وذهبت به أمه زينب ابنة حميد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه بايعه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هو صغير، فمسح رأسه ودعا له،
وكان يضحى بالشاة الواحدة عن جميع أهله «قال الحافظ في (الفتح) : وإنما ذكره البخاري مع أن من عادته أن يحذف الموقوفات غالبا لأن المتن قصير، وفيه إشارة إلى أن عبد اللَّه بن هشام عاش بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم زمانا ببركة دعائه.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 223، باب في دعائه لعبد اللَّه بن هشام بالبركة وظهورها بعده.(12/49)
سعيد بن أبي أيوب، عن أبي عقيل أنه كان يخرج به جده عبد اللَّه بن هشام من السوق. أو إلى السوق. الحديث إلى آخره بمثله، ولم يذكر أوله.
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي أمامة [ (1) ] وأصحابه بالسلامة والغنيمة فكان كما دعا
__________
[ (1) ] هو صديّ- بالتصغير- ابن عجلان بن الحارث. ويقال: ابن وهب، ويقال: ابن عمرو بن وهب ابن عريب بن وهب بن رياح بن الحارث، ويقال ابن الحارث بن معن بن مالك بن أعصر الباهلي، أبو أمامة، مشهور بكنيته. روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وعن عمر، وعثمان، وعلى وأبي عبيدة ومعاذ، وأبى الدرداء، وعبادة بن الصامت، وعمرو بن عبسة، وغيرهم.
روى عنه أبو سلام الأسود، ومحمد بن زياد الألهاني، وشرحبيل بن مسلم، وشداد، وأبو عمار، والقاسم بن عبد الرحمن، وشهر بن حوشب، ومكحول، وخالد بن معدان، وآخرون.
وقال ابن سعد: سكن الشام، وأخرج الطبراني ما يدل على أنه شهد أحدا ولكن بسند ضعيف.
وروى أبو يعلي من طريق أبى غالب، عن أبي أمامة، قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى قوم فانتهيت إليهم وأنا طاو وهم يأكلون الدم، فقالوا: هلم، قلت: إنما جئت أنهاكم عن هذا فنمت وأنا مغلوب، فأتانى آت بإناء فيه شراب، فأخذته وشربته، فكظني بطني فشبعت ورويت، ثم قال لهم رجل منهم، أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تتحفوه، فأتونى بلبن، فقلت: لا حاجة لي به، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم، ورواه البيهقي في (الدلائل) وزاد فيه: أنه أرسله إلى قومه باهلة. وقال ابن حبان كان مع على بصفين، مات أبو أمامة الباهلي سنة ست وثمانين.
وقال ابن البرقي: بغير خلاف، وأثبت غيره الخلاف، فقيل: سنة إحدى قاله محمد بن سعد، وقال عبد الصمد بن سعيد: ولما مات خلف ابنا يقال له المغلس، وله- يعنى صاحب الترجمة- مائة وست سنين، فقد صح عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وأخرجه البخاري في (تاريخه) ، من طريق حميد بن ربيعة: رأيت أبا أمامة خرج من عند الوليد بن عبد الملك في ولايته سنة ست وثمانين، ومات ابنه الوليد سنة ست وتسعين.
قال: وقال الحسن بن رافع عن ضمرة في (فضائل الصحابة) لخيثمة، ومن طريق وهب بن صدقة: سمعت جدي يوسف بن حزن الباهلي، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: لما نزلت: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، قلت: يا رسول اللَّه، أنا ممن بايع تحت(12/50)
فخرج البيهقيّ [ (1) ] من حديث عفان بن مسلم قال: حدثنا مهدي ابن ميمون، حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أنشأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوا، فأتيته، فقلت:
يا رسول اللَّه ادع لي بالشهادة. فقال: اللَّهمّ سلمهم وغنمهم. قال: فغزونا، فسلمنا، وغنمنا، ثم أنشأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوة فأتيته، فقلت: يا رسول اللَّه ادع لي بالشهادة، فقال: اللَّهمّ سلمهم وغنمهم، قال: فغزونا، فسلمنا وغنمنا، ثم أنشأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوة فأتيته فقلت: يا رسول اللَّه إني أتيتك مرتين. أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقال: اللَّهمّ سلمهم، وغنمهم. قال: فغزونا، فسلمنا وغنمنا، ثم أتيته بعد ذلك فقلت: يا رسول اللَّه مرني بعمل آخذه عنك ينفعني اللَّه به، قال: قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له. قال: وكان أبو أمامه وامرأته وخادمه لا يلفون إلا صياما، فإذا رأوا نارا أو دخانا عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف، قال: ثم أتيته بعد ذلك، قلت: فقلت: يا رسول اللَّه! قد أمرتنى بأمر أرجو أن يكون اللَّه قد نفعني به، مرني بأمر آخر ينفعني اللَّه تعالى به. قال:
اعلم أنك لا تسجد للَّه تعالى سجدة إلا رفع بك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة.
قال البيهقيّ: هكذا رواه جرير بن حازم، عن محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، عن رجاء [ (2) ] .
__________
[ () ] الشجرة؟ قال: أنت منى وأنا منك.
وأخرج أبو يعلي من طريق رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: أنشأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوا فأتيته فقلت: ادع اللَّه لي بالشهادة. فقال: اللَّهمّ سلمهم وغنمهم ... الحديث. (الإصابة) : 3/ 420- 421، ترجمة رقم (4063) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 334- 335، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي أمامة وأصحابه حين سأل الدعاء بالشهادة وإصابة الغنيمة فكان كما دعاه.
[ (2) ] رواية رجاء أخرجها الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 330، حديث رقم (21636) ، من حديث أبى أمامة الباهلي الصدي بن عجلان بن وهب الباهلي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأخرجه النسائيّ في (السنن) : 4/ 474، كتاب الصيام، باب (43) ذكر الاختلاف على محمد بن أبى يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، حديث رقم (2219) ، (2220) ، وقال(12/51)
ورواه شعبة عن محمد عن أبي نصر الهلالي، عن رجاء بن حيوة مختصرا [ (1) ] .
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم في شويهات أبي قرصافة ومسحه ظهورهنّ وضروعهن فمن بركاته امتلأت شحما ولبنا
فخرج أبو نعيم [ (2) ] من حديث أيوب بن علي بن الهيصم بن مسلم ابن خيثمة قال: سمعت زيار بن سيار يقول: حدثتني عزة بنت عياض ابن أبي قرصافة أنها سمعت جدها أبا قرصافة صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: كان بدؤ إسلامي أنى كنت يتيما بين أمى وخالتي، وكان أكثر ميلى إلى خالتي، وكنت أرعى شويهات لي، وكانت خالتي كثيرا ما تقول لي: يا بنى لا تمر إلى هذا الرجل يعنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فيغر ربك [ (3) ] ويضلك، فكنت أخرج حتى آتي المرعى، فأترك شويهاتي، ثم آتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ولا أزال عنده أسمع منه، ثم أروح بغنمى ضمرا يابسات الضروع، فقالت لي خالتي: ما لغنمك يابسات الضروع؟ قلت: ما أدرى!! ثم عدت إليه اليوم الثاني ففعل كما فعل اليوم الأول، غير
أنى سمعته يقول: أيها الناس هاجروا وتمسكو بالإسلام، فإن الهجرة لا تنقطع ما دام
__________
[ () ] الحافظ السندي في (حاشيته على سنن النسائي) : قوله: «عليك بالصوم» ، أي الشرعي، فإنه المتبادر «فإنه لا مثل له» في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمارة بالسوء والشيطان. أو لا مثل له في كثرة الثواب، ويحتمل أن المراد بالصوم كف النفس عما لا يليق، وهو التقوى كلها، وقد قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] .
[ (1) ] ورواية شعبة أخرجها النسائي في (المرجع السابق) : حديث رقم (2221) .
[ (2) ] (دلائل أبى نعيم) : 453- 454، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لغنم أبى قرصافة، حديث رقم (378) - وقد أخرجه الطبراني ورجاله ثقات، وأبو قرصافة اسمه جندر بن خشينة الكناني، كما في (الاستيعاب) وغيره.
[ (3) ] في (الدلائل) : «فيغويك» ، وفي الأصل: «فيغربك» ، ولعل ما أثبتناه أقرب إلى الصواب.(12/52)
الجهاد، ثم إني رجعت بغنمى كما رحن اليوم الأول، ثم عدت اليه في اليوم الثالث، فلم أزل عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أسمع منه حتى أسلمت، وبايعته وصافحته بيدي، وشكوت إليه أمر خالتي، وأمر غنمي فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: جئني بالشياه، فجئته بهن، فمسح ظهورهن، وضروعهن، ودعا فيهن بالبركة، فامتلأت شحما ولبنا،
فلما دخلت على خالتي بهن قالت: يا بنى هكذا فارع، فقلت: يا خالة ما رعيت إلا حيث كنت أرعى كل يوم، لكن أخبرك بقصتي، فأخبرتها بالقصة، وإتياني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأخبرتها بسيرته وكلامه فقالت لي أمي وخالتي: اذهب بنا إليه، فذهبت أنا وأمى وخالتي، فأسلمنا [ (1) ] وبايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وصافحهما.
فهذا ما كان من إسلام أبي قرصافة وهجرته [ (2) ] ، قال ابن عبد البر رحمة اللَّه عليه: أبو قرصافة الكناني اسمه جندرة بن خيشنة بن نفير من بنى كنانة له صحبة، ونسبه بعضهم، فقال: أبو قرصافة جندرة بن خشينة بن مرة بن وائلة بن الفاكه بن عمرو بن الحارث بن مالك بن النضر بن كنانة، وقيل:
اسمه قيس بن سهل، ولا يصح، سكن فلسطين، وقيل: أرض تهامة، قال مؤلفه [ (3) ] : حديثه في الطبراني لما أسر ولده ببلاد الروم، وقبره بعسقلان، وتسميه العامة قبر أبي هريرة.
وأما حديثه
فقال الطبراني: حدثنا بشر بن موسى بن بشر الغزيّ بغزة، حدثنا أيوب بن علي بن هيصم، حدثنا زياد بن يسار، عن عزة بنت عياض عن جدها أبي قرصافة جندرة بن خيشنه الليثي قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: نضر اللَّه سامع مقالتي، فوعاها، فحفظها، فرب حامل علم إلى من هو أعلم به منه، ثلاث لا يغل عليهنّ القلب، إخلاص العمل فيه، ومناصحة الولاة، ولزوم الجماعة.
قال الطبراني: لا يروي عن أبي قرصافة إلا بهذا الإسناد، وبلغني أن ابنا لأبي قرصافة أسرته الروم، فكان أبو قرصافة يناديه في سوق عسقلان وقت الصلاة بها ... يا فلان الصلاة، فيسمعه، فيجيبه، وبينهما عرض البحر.
__________
[ (1) ] في (أبى نعيم) : «فأسلمن» وبايعن» وصافحن» ، وما أثبتناه من (الأصل) ، وهو حق اللغة.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (3) ] في (الأصل) كلمة غير واضحة، وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) .(12/53)
وأما ثبات جرير البجلي [ (1) ] على الخيل بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم له بعد أن كان لا يثبت عليها
__________
[ (1) ] هو جرير بن عبد اللَّه، وهو الشليل بن مالك بن نصر- أو نضر- بن ثعلبة بن جشم بن عويف بن خزيمة بن حرب بن علي- أو عدي- بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر، وهو مالك ابن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث البجلي. يكنى أبا عمرو. وقيل: أبا عبد اللَّه، واختلف في بجيلة، فقيل: ما ذكرنا، وقيل: إنهم من ولد أنمار بن نزار على ما ذكرناه في كتاب (القبائل) ، ولم يختلفوا أن بجيلة أمهم نسبوا إليها، وهي بجيلة بنت صعب بن علي بن سعد العشيرة.
قال ابن إسحاق: جرير بن عبد اللَّه البجلي سيد قبيلته، يعنى بجيلة. قال: وبجيلة هو ابن أنمار بن نزار بن معد بن عدنان، وقال مصعب: أنمار بن نزار بن معد بن عدنان، منهم بجيلة.
وقال أبو عمر رحمه اللَّه: كان إسلامه في العام الّذي توفى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال جرير:
أسلمت قبل موت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بأربعين يوما. وروى شعبة وهشيم عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد اللَّه البجلي، قال: ما حجبنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني قط إلا ضحك وتبسم.
وقال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين اقبل وافدا عليه: يطلع عليكم خير ذي يمن، كأن على وجهه مسحة ملك، فطلع جرير، وبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى ذي كلاع وذي رعين باليمن.
وفيه فيما روى، قال رسول اللَّه، صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه،
وروى أنه قال ذلك في صفوان بن أمية الجمحيّ. وفي جرير قال الشاعر:
لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئس القبيلة
فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما مدح من هجى قومه، وكان عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: جرير بن عبد اللَّه يوسف هذه الأمة- يعنى في حسنه- وهو الّذي قال لعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حين وجد في مجلسه رائحة من بعض جلسائه، فقال عمر: عزمت على صاحب هذه الرائحة إلا قام فتوضأ، فقال جرير بن عبد اللَّه:
علينا كلنا يا أمير المؤمنين فاعزم، قال: عليكم كلكم عزمت، ثم قال: يا جرير، ما زلت سيدا في الجاهلية والإسلام. ونزل جرير الكوفة وسكنها، وكان له بها دارا، ثم تحول إلى قرقيسياء، ومات بها سنة أربع وخمسين. وقد قيل: إن جريرا توفى سنة إحدى وخمسين. وقيل مات بالسراة في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة لمعاوية.(12/54)
فخرج النسائيّ من حديث سفيان، عن إسماعيل، عن قيس عن جرير قال:
قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا تكفني ذا الخلصة؟ فقلت: يا رسول اللَّه إني لا أثبت على الخيل فصكّ في صدري فقال: اللَّهمّ ثبته واجعله هاديا مهديا فخرجت في خمسين راكبا من قومي، فأتيناها، فأحرقناها.
وخرج الطبراني من حديث أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: كنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك
__________
[ () ] أخبرنا عبد اللَّه بن محمد، حدثنا حمزة، حدثنا أحمد بن شعيب، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس عن جرير قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا تكفيني ذا الخلصة-[ذو الخلصة- محرك-: بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم، وكان فيه صنم اسمه الخلصة]- فقلت: يا رسول اللَّه، إني رجل لا أثبت على الخيل، فصك في صدري، فقال: اللَّهمّ ثبته، واجعله هاديا مهديا. فخرجت في خمسين من قومي، فأتيناها فأحرقناها.
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جرير بن عبد اللَّه إلى ذي الكلاع وذي ظليم باليمن، وقدم جرير بن عبد اللَّه على عمر بن الخطاب من عند سعد بن أبي وقاص، فقال له: كيف تركت سعدا في ولايته؟
فقال: ولايته؟ أكرم الناس مقدرة، وأحسنهم معذرة، هو لهم كالأم البرة، يجمع لهم كما تجمع الذرة، مع أنه ميمون الأثر، مرزوق الظفر، أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس.
قال: فأخبرني عن حال الناس، قال: هم كسهام الجعبة، منها القائم الرائش، ومنها العضل الطائش، وابن أبي وقاص ثقافها يغمز عضلها، ويقيم ميلها، واللَّه أعلم بالسرائر يا عمر.
قال أخبرني عن إسلامهم، قال: يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويؤتون الطاعة لولاتها. فقال عمر: الحمد للَّه إذا كانت الصلاة أوتيت والزكاة، وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة.
وجرير القائل: الخرس خير من الخلابة، والبكم خير من البذاء. وكان جرير رسول على رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى معاوية، فحبسه مدة طويلة، ثم رده برق مطبوع غير مكتوب، وبعث معه من يخبره بمنابذته له في خبر طويل مشهور.
روى عنه أنس بن مالك، وقيس بن أبى حازم، وهمام بن الحارث، والشعبي وبنوه عبيد اللَّه، والمنذر، وإبراهيم. (الاستيعاب) : 1/ 236- 240، ترجمة رقم (322) ، (الإصابة) :
1/ 475- 476، ترجمة رقم (1138) .(12/55)
لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فضرب يده في صدري، حتى رأيت أثر يده في صدري، فقال:
اللَّهمّ ثبته واجعله هاديا مهديا، فما سقطت عن فرس بعد.
وخرجه البخاريّ [ (1) ] في كتاب الجهاد من حديث إسماعيل عن قيس، عن جرير قال: ما حجبنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ولقد شكوت إليه أنى لا أثبت على الخيل فضربني بيده في صدري. وقال: اللَّهمّ ثبته واجعله هاديا مهديا. وخرجه مسلم أيضا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 190، كتاب الجهاد والسير، باب (154) حرق الدور والنخيل، حديث رقم (3020) ، وباب (162) من لا يثبت على الخيل، حديث رقم (3035) ، (3036) . وفي كتاب المغازي، باب (63) غزوة ذي الخلصة، حديث رقم (4355) ، (4536) ، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب (21) ذكر جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3822) ، (3823) ، وفي كتاب الأدب، باب (68) التبسم والضحك، (حديث رقم (6089) ، (6090) ، وفي كتاب الدعوات، باب (19) قول اللَّه تبارك وتعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ومن خصّ أخاه بالدعاء دون نفسه، حديث رقم (6333) .
وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره، وسواء كان إنسانا أو حيوانا أو جمادا، وفيه استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم، والاستمالة بالدعاء، والثناء والبشارة في الفتوح، وفضل ركوب الخيل في الحرب، وقبول خبر الواحد والمبالغة في نكاية العدو، ومناقب لجرير وقومه، وبركة يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ودعائه، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يدعو وترا، وقد يجاوز الثلاث، وفيه تخصيص لعموم قول أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: «كان إذا دعا دعا ثلاثا» ، فيحمل على الغالب، وكأن الزيادة لمعنى اقتضى ذلك، وهو ظاهر في أحمس لما اعتمدوه من دحض الكفر ونصر الإسلام، ولا سيما مع القوم الذين هم منهم (فتح الباري) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 268- 269، كتاب فضائل الصحابة، باب (29) من فضائل جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (134) ، (135) ، (136) ، (137) ، وفيه استحباب اللطف للواردة، وفيه فضيلة ظاهرة لجرير، وفيه النكاية بآثار الباطل والمبالغة في إزالته، وفيه استحباب إرسال البشير بالفتوح وغيرها. (شرح النووي) .
وأخرجه أيضا أبو داود في (السنن) : 3/ 214، كتاب الجهاد، باب (172) في بعثه البشراء، حديث رقم (2772) ، عن قيس عن جرير قال: قال لي رسول اللَّه: صلّى اللَّه عليه وسلم «ألا(12/56)
أما ظهور البركة بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم في سبعة عشر دينارا أظفر بها المقداد بن عمرو [ (1) ] حتى امتلأت منها غرائر ورقاء
__________
[ () ] تريحني من ذي الخلصة» ؟ فأتاها فحرقها،
ثم بعث رجلا من أحمس إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يبشره يكنى أبا أرطاة. وأحمس: قبيلة جرير، وأبو أرطاة اسمه الحصين بن ربيعة، له صحبة. قال في هامشه: نسبة المنذري للنسائي.
[ (1) ] هو المقداد بن الأسود الكندي: هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود البهراني، وقيل: الحضرميّ. قال ابن الكلبي: كان عمرو بن ثعلبة أصاب دما في قومه، فلحق بحضرموت، فخالف كندة، فكان يقال له الكندي، وتزوج هناك امرأة فولدت له المقداد، فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبى شمر بن حجر الكندي، فضرب رجله بالسيف وهرب إلى مكة، فخالف الأسود بن عبد يغوث الزهري، وكتب إلى أبيه، فقدم عليه فتبني الأسود المقداد فصار يقال: المقداد بن الأسود وغلبت عليه، واشتهر بذلك: فلما نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 5] قيل له: أبا الأسود، وقيل: كنيته أبو عمر، وقيل: أبو سعيد. أسلم قديما، وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ابنة عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان فارسا يوم بدر، حتى إنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. وقال زر بن حبيش، عن عبد اللَّه بن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة، فذكره منهم. وقال مخارق بن طارق، عن ابن مسعود: شهدت مع المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به.
وذكر البغوي، من طريق أبى بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر: أول من قاتل على فرس في سبيل اللَّه المقداد بن الأسود. ومن طريق موسى بن يعقوب الزمعي عن عمتهما قريبة، عن عمتها كريمة بنت المقداد، عن أبيها: شهدت بدرا على فرس لي يقال لها سبحة.
ومن طريق يعقوب بن سليمان عن ثابت البناني، قال: كان المقداد وعبد الرحمن بن عوف جالسين، فقال له مالك: ألا تتزوج؟ قال: زوجني ابنتك، فغضب عبد الرحمن وأغلظ له، فشكا ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: أنا أزوجك.
وعن المدائني، قال: كان المقداد طويلا، آدم، كثير الشعر، أعين [واسع العينين] ، مقرونا [مقرون الحاجبين] ، يصفر لحيته.(12/57)
فخرج أبو بكر بن أبي شيبة [ (1) ] من حديث موسى بن يعقوب قال: حدثتني قريبة بنت عبد اللَّه بن وهب، عن أمها كريمة بنت المقداد بن عمرو، عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد، قالت: كان الناس إنما يذهبون لحاجتهم فرط اليومين وثلاث [ (2) ] ، فيبعرون كما تبعر الإبل، فلما كان [ذات] [ (3) ] يوم خرج المقداد لحاجته، بلغ الحجنة وهو ببقيع الغرقد، فدخل خربه لحاجته فبينما هو جالس إذ خرج جرذ من جحر دينارا.
فلم يزل يخرج دينارا دينارا حتى بلغ سبعة عشر دينارا، فخرجت بها حتى جئت بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأخبرته خبرها، فقال: هل أتبعت يدك الجحر؟ فقلت: لا والّذي بعثك بالحق نبيا،
__________
[ () ] وأخرجه يعقوب بن سفيان، وابن شاهين من طريقه بسنده إلى كريمة زوج المقداد: كان عظيم البطن، وكان له غلام رومي، فقال له: أشق بطنك فأخرج من شحمة حتى تلطف، فشق بطنة ثم خاطه، فمات المقداد، وهرب الغلام.
وقال أبو ربيعة الإيادي، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه عز وجل أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم:
علي، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان، أخرجه الترمذي وابن ماجة، وسنده حسن.
وروى المقداد عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحاديث. روى عنه علي، وأنس، وعبيد اللَّه بن الخيار، وهمام بن الحارث، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وآخرون. اتفقوا أنه مات سنة ثلاثا وثلاثين في خلافة عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قيل: وهو ابن سبعين سنة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. (الإصابة) :
6/ 202- 204، ترجمة رقم (8189) ، (الاستيعاب) : 3/ 1480- 1482، ترجمة رقم (2561) .
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 461- 462، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم للمقداد بالبركة في مال وصل إليه، حديث رقم (389) من حديث أبي بكر بن أبي شيبة وسنده عند أبي نعيم: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا موسى بن يعقوب قال: حدثتني عمتي قريبة بنت عبد اللَّه بن وهب، عن أمها كريمة بنت المقداد بن عمرو عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد، قالت:
الحديث، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] أي بعد اليومين والثلاث.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .(12/58)
فقال: لاصدقه عليك فيها بارك اللَّه فيها، قالت: ضباعة فما فنى آخرها حتى رأيت غرائر الورق في بيت المقداد.
قال أبو نعيم: رواه ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب نحوه.
وأما تصرع أعدائه صلّى اللَّه عليه وسلم عند استغاثته بمالك يوم الدين
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عبد اللَّه البغوي قال: حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ عبد السلام بن هاشم حدثنا حنبل عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزاة فلقى العدو، فسمعته يقول: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، فلقد رأيت الرجال تصرع تضربها الملائكة من بين أيديها، ومن خلفها [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 459- 460، استعانته باللَّه تبارك وتعالى، حديث رقم (386) ، وهذا الحديث انفرد به أبو نعيم.(12/59)
وأما استرضاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم أم شاب قد أمسك لسانه عن شهادة الحق حتى رضيت فشهد بها
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن عطاء قال: حدثنا أبو الورقاء عن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: بينما نحن قعود عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذ أتاه آت، فقال: يا رسول اللَّه إن هاهنا شاب يجود بنفسه يقال له: قل: لا إله إلا اللَّه..
فلا يستطيع، قال فنهض، ونهضنا معه، حتى دخل عليه، فقال: يا شاب قل:
لا إله إلا اللَّه. قال: لا أستطيع، قال: لم؟ قال: أقفل على قلبي كلما أردت أن أقولها، غمر القفل على قلبي، قال: لم؟ قال: بعقوقي والدتي! قال: أحية والدتك؟ قال: نعم، قال: فأرسل إليها. فلما جاءت قال: هذا ابنك؟ قالت: نعم قال: أرأيت إن أججت لك نار ضخمة، فقيل لك: أتشفعين له أم نلقيه فيها؟
فقالت: بل يا رسول اللَّه أشفع له، قال: فأشهدي اللَّه، وأشهديني برضاك عنه.
فقالت: اللَّهمّ إني أشهدك، وأشهد رسولك برضاي عنه، قال: فقال:
يا شاب، قل: لا إله إلا اللَّه فقال: لا إلا أسلم اللَّه وحده لا شريك له، قال: فقال ثلاثا الحمد للَّه الّذي أنقذك بى من النار.
قال مؤلفه رحمة اللَّه عليه: لا يكاد هذا الحديث أن يصح لأنه من رواية أبي الورقاء فائد بن عبد الرحمن أبي الورقاء الكوفي العطار. يروي عن عبد اللَّه بن أبي أوفى وبلال بن أبي الدرداء وغيرهما. ويروي عنه عيسى بن يونس، وعبد اللَّه بن بكر، وأبو عاصم العباد ويزيد بن هارون، ومسلم بن هارون، ومسلم بن إبراهيم، والفرياني في آخرين.
قال ابن معين: ليس بثفة، ومرة قال: ضعيف، قال أحمد بن حنبل متروك الحديث وقال البخاري: فائد عن ابن أبي أوفى منكر الحديث. وقال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه. خرج له ابن ماجة والراويّ عنه عبد الوهاب بن عطاء الحفاف أبو نصر العجليّ مولاهم البصري نزيل بغداد.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 205- 206، ما جاء في الشاب الّذي لم ينفتح لسانه بالشهادة عند الموت، حتى رضيت عنه والدته.(12/60)
يروى عن حميد وسليمان التيمي وابن عون وعدة. ويروى عنه أحمد وابن معين وأبو ثور وخلف.
قال المروزي: قلت لأبي عبد اللَّه: عبد الوهاب ثقة؟ قال: تدري ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان. وقال زكريا الساجي والبخاري قبله والنسائي:
ليس بالقوى. وقال صالح: أنكروا حديثه في فضل العباسي ورواه عن ثور، عن ابن عباس، فكان يحيى بن معين يقول هذا موضوع. ومات بعد سنة مائتين.
خرج له مسلم والأربعة ووثقه ابن معين وغيره. [ (1) ]
وأما إسلام يهودي عند تشميت الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم بقوله: هداك اللَّه
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث محمد بن رزام بن عبد الملك قال حدثنا محمد ابن عبد اللَّه بن عمر وأبو سلمة الأنصاري، عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان يهودي جالسا بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فعطس النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال له اليهودي: يرحمك اللَّه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لليهودي:
هداك اللَّه، فأسلم.
قال البيهقي: هذا إنسان مجهول [ (3) ] .
__________
[ (1) ] ترجمته في (البخاري الكبير) : 7/ 132، (ضعفاء العقيلي) : 3/ 460، قال عنه ابن حبان في (الضعفاء) : 2/ 203: كان ممن يروى المناكير عن المشاهير، ويأتى عن ابن أبي أوفى بالمعضلات، ولا يجوز الاحتجاج به.
[ (2) ]
(دلائل البيهقي) : 6/ 207، باب ما جاء في اليهودي الّذي شمته النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له: هداك اللَّه، فأسلم،
إن صح.
[ (3) ] إسناده في (دلائل البيهقي) : حدثنا أبو جعفر: كامل بن أحمد المستملي، قال: أنبأنا أبو الحسن على بن محمد بن على الخلعانى السمناني بدامغان، حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن يونس السمناني، حدثنا محمد بن رزام السليطي البصري، حدثنا محمد بن عمرو، عن عبد اللَّه الأنصاري، وأنبأنا أبو الحسن على بن الحسين بن علي البيهقي صاحب المدرسة، حدثنا أبو إسحاق: إبراهيم بن محمد بن يزداد، إملاء ببخارى- أنبأنا أبو عبد اللَّه: محمد بن يونس المقرئ بنيسابور، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن إبراهيم، حدثنا محمد رزام، أبو عبد(12/61)
أما ثروة صخر الغامدي [ (1) ] لامتثاله ما أخبر به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم من البركة في البكور
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء، عن عمارة بن حديد، عن صخر الغامدي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بارك اللَّهمّ لأمتى في بكورها [ (3) ] ،
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يبعث سرية إلا بعثهم في أول النهار. قال:
__________
[ () ] الملك الأيلي، حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن عمرو أبو سلمة الأنصاري، عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك ... فذكره.
[ (1) ] هو صخر بن وداعة. وقال ابن حبان: صخر بن وديعة، ويقال: ابن وداعة الغامدي، نسبة إلى غامد بالمعجمة، ابن عمرو بن عبد اللَّه بن كعب بن الحارث [بطن من الأزد] . وقال البغوي: سكن صخر الطائف. وقال ابن السكن مثله، وزاد: يعد في أهل الحجاز، روى حديثه أصحاب السنن، وأحمد، وصححه ابن خزيمة وغيره، وهو:
«اللَّهمّ بارك لأمتي في بكورها» .
وفي بعض طرقه: وكان صخر رجلا تاجرا، فكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار، فأثرى وكثر ماله. وقال الترمذيّ والبغوي: ما له غيره، وتعقب بأن الطبراني أخرج له آخر متنه:
«لا تسبوا الأموات» .
وقال أبو الفتح وابن السكن: لم يرو عنه إلا عمارة بن حديد.
قال أبو عمر بن عبد البر: وعمارة بن حديث رجل مجهول لم يرو عنه غير يعلي بن عطاء الطائفي، ولا أعلم لصخر الغامدي غير حديث:
«بورك لأمتى في بكورها:
، وهو لفظ رواه جماعة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. (الإصابة) : 3/ 418- 419، ترجمة رقم (4058) ، (الاستيعاب) :
2/ 716، ترجمة رقم (1210) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 222، باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبركة لأمته في بكورها.
[ (3) ] كذا في (الأصل) وفي (المرجع السابق) :
«اللَّهمّ بارك ... »
وأخرجه أبو داود في (السنن) :
3/ 79- 80، وأخرجه الترمذيّ في (السنن) : «3/ 517، كتاب البيوع، باب (6) ما جاء في التبكير بالتجارة. حديث رقم (1212) ، قال: وفي الباب عن على وابن مسعود وبريدة وأنس وابن عمر وابن عباس وجابر. وقال أبو عيسى: حديث صخر الغامدي حديث حسن، ولا نعرف لصخر الغامدي، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم غير هذا الحديث، وقد روى سفيان الثوري، عن شعبة، عن(12/62)
وكان صخر رجلا تاجرا، فكان يبعث غلمانه في أول النهار فأثرى وكثر ماله، حتى لم يدر أن يضعه.
قال ابن عبد البر صخر بن وداعة الغامدي، وغامد في الأزد، سكن الطائف وهو معدود في أهل الحجاز.
روى عنه عمارة بن حديد، رجل مجهول لم يرو عنه غير يعلي ابن عطاء الطائفي، ولا أعلم لصخر الغامدي غير حديث:
«بورك لأمتي في بكورها» .
وهو لفظ رواه جماعة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] قال المؤلف رحمه اللَّه: قد خرج أصحاب السنن الأربعة لصخر هذا حديث:
«بورك لأمتى في بكورها» .
وخرج له الطبراني مما لم يخرجوه حديث:
«لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» ،
من طريق الفرياني، حدثنا سفيان عن سعيد، عن يعلى بن عطاء بن حديد، قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في (الثقات) وحسن له الترمذي حديثه الّذي لم يعرف بغير رواية
«بورك لأمتي في بكورها» ،
وأنكر ذلك على الترمذي لمكان عمارة منه، ولا يعتبر ذكر ابن حبان له في (الثقات) [ (2) ] فإنه يذكر المجاهيل الأحوال.
__________
[ () ] يعلى ابن عطاء، هذا الحديث. وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 752، كتاب التجارات، باب (41) ، ما يرجى من البركة في البكور، حديث رقم (2236) .
[ (1) ] راجع ترجمته السابقة.
[ (2) ] (الثقات) : 3/ 193، وراجع ترجمته في أول الفصل.(12/63)
وأما تحاب امرأة وزوجها بعد تباغضهما بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن الزبير الحميدي قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أبي على اللهبي، حدثنا محمد بن المنكدر [ (2) ] ، عن جابر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: مر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بسوق النبط [ (3) ] ، ومعه عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأقبلت امرأة قالت: يا رسول اللَّه إن معى زوجي في البيت مثل المرأة، وأنا امرأة من المسلمين أحب ما تحبه المسلمة.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: عليّ به، فجاءت به، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ما تقول زوجتك هذه؟ فقال: والّذي بعثك بالحق ما جف رأسي من الغسل منها بعد. فقالت:
يا رسول اللَّه وما مرة واحدة في الشهر؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: تبغضينه؟! قالت:
نعم والّذي أكرمك [بالحق] [ (4) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ادنيا إليّ رأسيكما [ (5) ] ، فوضعا جبهتهما على وجهه فقال: اللَّهمّ ألف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه، ثم مر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد ذلك بأيام بهما، وكان زوج المرأة خراز، فإذا هي تحمل أدما على رقبتها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يا عمر، أليست صاحبتنا التي قالت ما قالت؟
فسمعت صوت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فرمت بالأدم، فقبلت [ (6) ] رجل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
ثم قال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كيف أنت وزوجك؟ فقالت: والّذي أكرمك ما في الدنيا ولد ولا والد أحب إلى منه. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إني أشهد أنى رسول اللَّه.
فقال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وأنا أشهد أنك رسول اللَّه. قال أبو نعيم:
رواه ابن المبارك عن محمد بن المنكدر [ (7) ] مرسلا [ (8) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 460، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لزوجين بالتأليف بينهما، حديث رقم (387) .
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «المنذر» .
[ (3) ] النبط: أخلاط الناس من غير العرب.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] في (دلائل أبي نعيم) : «رءوسكما» .
[ (6) ] كذا (بالأصل) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «ثم قبلت» .
[ (7) ] لعله «ابن المنذر» كما في سند الحديث.
[ (8) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط، وليس في النسخة المحققة من (دلائل أبي نعيم) .(12/64)
وخرجه البيهقي [ (1) ] من حديث عبد العزيز بن عبد اللَّه الأويسي قال:
حدثني علي بن أبي علي اللهبي [ (2) ] ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج وعمر بن الخطاب معه، فعرضت له امرأة، فقالت يا رسول اللَّه إني امرأة مسلمة محرومة ومعى زوج لي في بيتي مثل المرأة. فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ادعى زوجك، فدعته وكان خرازا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ما تقول امرأتك يا عبد اللَّه؟ فقال الرجل: والّذي أكرمك ما جفّ رأسي منها؟ فقالت امرأته: ما مرة واحدة في الشهر؟ فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أتبغضينه؟ قالت: نعم، فقال: أدنيا رأسيكما [ (3) ] ، فوضع جبهتها على جبهة زوجة، وقال: اللَّهمّ ألف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه، ثم مر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بسوق النبط ومعه عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فطلعت المرأة تحمل أدما على رأسها، فلما رأت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم طرحته وأقبلت فقبلت رجليه! فقال: كيف أنت وزوجك؟ فقالت والّذي أكرمك ما طارق ولا تالد [ (4) ] ولا ولد أحب إلى منه. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أشهد أني رسول اللَّه،
فقال عمر: وأنا أشهد أنك لرسول اللَّه.
قال أبو عبد اللَّه- يعنى الحاكم-: تفرد به علي بن أبي علي اللهبي، وهو كثير الرواية للمناكير. وقال البيهقي: وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه معنى هذه القصة، إلا أنه لم يذكر فيها عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 228- 229، باب ما جاء في دعائه لزوجين أحدهما يبغض الآخر بالألفة، واستجابة اللَّه تعالى دعاءه فيهما.
[ (2) ] من (الأصل) فقط.
[ (3) ] كذا في (الأصل) وفي (دلائل البيهقي) : «رءوسكما» .
[ (4) ] في (الأصل) : «تليد» ، «ولد» وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .(12/65)
قال المؤلف رحمه اللَّه: علي بن أبي على اللهبي [ (1) ] . مدني، قال الإمام أحمد: يروى أحاديث مناكير عن جابر، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: لم يرضه، أحمد منكر الحديث، وقال السعدي: ضعيف الحديث، روى عن محمد ابن المنكدر فأعضل، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي أمليتها لعلى عن محمد بن المنكدر، عن جابر وغيره، كلها محفوظة، وله غير ما ذكرت وكله يشبه بعضه بعضا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] على بن أبي علي اللهبي، ترجمته في (لسان الميزان) : 4/ 245، (ميزان الاعتدال) :
3/ 147، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 5/ 184- 186، ترجمة رقم (376/ 1344) ، وقال في آخرها، وهذه الأحاديث التي أمليتها لعلى بن أبي على عن محمد بن المنكدر، وغيره كلها غير محفوظة، وله غير ما ذكرت من الحديث وكل يشبه بعضه بعضا.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.(12/66)
وأما هداية اللَّه تعالى أهل اليمن وأهل الشام والعراق بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج الترمذي [ (1) ] من حديث عمران القطّان، عن قتادة، عن أنس، عن زيد ابن ثابت، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نظر قبل اليمن، فقال: اللَّهمّ أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا يعرف من حديث زيد بن ثابت إلا من حديث عمران القطان.
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث عيسى بن المختار عم محمد بن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أنه نظر قبل الشام، فقال: اللَّهمّ أقبل بقلوبهم، ثم نظر إلى كل أفق، فقال: اللَّهمّ أقبل بقلوبهم، ثم قال: اللَّهمّ ارزقنا من كثرات الأرض، وبارك لنا في مدنا وصاعنا.
قال أبو بكر: كثرت الأرض نباتها. قال أبو عيسى الترمذي: وقد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه، قال أحمد: لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى، وقال محمد بن إسماعيل، يعنى البخاري: ابن أبي ليلى صدوق، ولا أروى عنه لأنه لا يدرى صحيح حديثه سقيمه، وكل من كان على مثل هذا فلا أروى عنه شيئا.
وخرج أبو دواد الطيالسي هذا الحديث من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت، قال: نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل اليمن، فقال: اللَّهمّ أقبل بقلوبهم، ثم نظر قبل الشام وقال: اللَّهمّ أقبل بقلوبهم، ثم نظر قبل العراق وقال: اللَّهمّ أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذيّ) : 5/ 682- 683، كتاب المناقب، باب (72) في فضل اليمن، حديث رقم (3934) .(12/67)
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم على مضر حتى قحطوا ثم دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لهم حتى سقوا
خرج مسلم [ (1) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرنى يونس [بن يزيد] [ (2) ] عن ابن شهاب، أخبرنا سعيد المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة [ (3) ] ، ويرفع رأسه: سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم:
اللَّهمّ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين.
اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسنى يوسف، اللَّهمّ العن لحيان، ورعلا، وذكوان، وعصية عصت اللَّه ورسوله* ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [ (4) ] .
وخرّجه من حديث ابن عيينة، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى قوله: واجعلها عليهم كسنى يوسف ولم يذكر ما بعده [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 182- 183، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (54) استجاب القنوت في جميع الصلاة إذا أنزلت بالمسلمين نازلة، حديث رقم (294) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] آل عمران: 128.
[ (5) ] الحديث الّذي يلي الحديث السابق بدون رقم، ثم ذكره كاملا من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، حديث رقم (295) ، وفيه استحباب الجهر بالقنوت في الصلاة الجهرية، وجهان: أصحهما يجهر، ويستحب رفع اليدين فيه، ولا يمسح الوجه، وقيل: يستحب مسحه، وقيل: لا يرفع اليد، وأنفقوا على كراهة مسح الصدر، والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء(12/68)
وخرّجه البخاري [ (1) ] من حديث إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد وأبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قال بعد الركوع، وربما قال: إذا قال:
سمع اللَّه لمن حمده، ربنا لك الحمد، اللَّهمّ أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسنى يوسف. يجتهد بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللَّهمّ العن فلانا وفلانا [ (2) ] لأحياء من العرب حتى أنزل اللَّه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [ (3) ] .
__________
[ () ] مخصوص، بل يحصل بكل دعاء، وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور: «اللَّهمّ اهدني فيمن هديت» إلى آخره، والصحيح أن هذا مستحب لا شرط، ولو ترك القنوت في الصبح سجد للسهو، وذهب أبو حنيفة وأحمد وآخرون إلى أنه لا قنوت في الصبح، وقال يقنت قبل الركوع.
وفيه جواز الدعاء لإنسان معين وعلى معين، وقد سبق أنه يجوز أن يقول: ربنا لك الحمد، وربنا ولك الحمد، بإثبات الواو وحذفها، وقد ثبت الأمران في الصحيح. والوطأة: هي البأس.
قوله: «واجعلها عليهم كسنى يوسف»
وهو بكسر السين وتخفيف الياء أي اجعلها سنين شدادا ذوات قحط وغلاء. (شرح النووي) .
[ (1) ] باب (9) قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، حديث رقم (4560) .
[ (2) ] قال الحافظ في (الفتح) : تقدمت تسميتهم في غزوة أحد من رواية مرسلة أوردها المصنف عقب هذا الحديث بعينه، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام فنزلت» .
وأخرج الإمام أحمد والترمذيّ هذا الحديث موصولا من رواية عمرو بن حمزة، عن سالم عن أبيه، فسماهم، وزاد في آخر الحديث: «فتيب عليهم كلهم» وأشار بذلك إلى قوله في بقية الآية:
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وللإمام أحمد أيضا من طريق محمد بن عجلان عن نافع عن عمر «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدعو على أربعة فنزلت، قال: وهداهم اللَّه للإسلام» وكان الرابع عمرو بن العاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قوله: «الوليد بن الوليد»
أي ابن المغيرة، وهو أخو خالد بن الوليد، وكان شهد بدرا مع المشركين، وأسر، وفدى نفسه ثم أسلم، فحبس بمكة، ثم تواعد هو وسلمة وعياش(12/69)
ذكره في التفسير، وذكره في كتاب الأدب في باب تسمية الوليد [ (1) ] ، من حديث أبي نعيم قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: لما رفع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه من الركعة قال: اللَّهمّ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة ابن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين، بمكة، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللَّهمّ اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف.
وخرجه النسائي [ (2) ] من حديث سفيان قال: حفظناه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: لما رفع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية من صلاة الصبح قال: اللَّهمّ أنج ... ، الحديث، بمثل حديث أبي نعيم غير أنه قال:
«واجعلها» ، ولم يقل: «اللَّهمّ» .
__________
[ () ] المذكورين معه وهربوا من المشركين، فعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمخرجهم فدعا لهم، أخرجه عبد الرزاق بسند مرسل، ومات الوليد المذكور لما قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
قوله: «وسلمة بن هشام» أي ابن المغيرة، وهو ابن عم الّذي قبله، وهو أخو أبي جهل، وكان من السابقين إلى الإسلام، واستشهد في خلافة أبي بكر بالشام سنة أربع عشرة. قوله:
«لأحياء من العرب» وقع تسميتهم في رواية يونس عن الزهري عند مسلم بلفظ: «اللَّهمّ العن رعلا» ، وذكوان، وعصية» .
[ (3) ] آل عمران: 128.
[ (1) ] باب (110) تسمية «الوليد» ، حديث رقم (6200) ، وأخرجه عبد الرزاق في الجزء الثاني من (أماليه) ، عن عمر، كلاهما عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: «ولد لأخى أم سلمة ولد فسماه الوليد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه «قال الوليد بن مسلم في روايته: قال الأوزاعي: فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك. ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه، وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 2/ 545- 547، كتاب التطبيق، باب (26) القنوت بعد الركوع، حديث رقم (1069) ، باب (27) القنوت في صلاة الصبح، حديث رقم (1072) ، (1073) .(12/70)
وخرجه مسلم [ (1) ] وأبو دواد [ (2) ] من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة أن أبا هريرة حدثهم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاة العتمة [ (3) ] شهرا، إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، يقول في قنوته: اللَّهمّ نج الوليد بن الوليد، اللَّهمّ أنج سلمة بن هشام، اللَّهمّ نج عياش بن أبي عياش، اللَّهمّ نج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللَّهمّ اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف.
قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ترك الدعاء بعد، فقلت: أرى رسول اللَّه قد ترك الدعاء لهم، قال: فقال: وما تراهم قد قدموا؟ وقال أبو داود: قال أبو هريرة [ (4) ] أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم، فلم يدع، فذكر ذلك له.
فقال: ما تراهم قد قدموا [ (5) ] ؟ ولم يقل في الحديث: أو قال: سمع اللَّه لمن حمده.
وخرج مسلم [ (6) ] من حديث حسين بن محمد، حدثنا شيبان عن يحيى، عن أبي سلمة أن أباه أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينما هو يصلّى العشاء إذا قال: سمع
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 183، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (54) استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، حديث رقم (295) .
[ (2) ] (سنن أبي دواد) : 2/ 142، كتاب الصلاة، باب (345) القنوت في الصلوات، حديث رقم (442) .
[ (3) ] في (الأصل) : «الفجر» ، وما أثبتناه من (سنن أبي داود) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (سنن أبي دواد) .
[ (5) ] أي كان ذلك الدعاء لهم لأجل تخليصهم من أيدي الكفرة، وقد خلصوا منهم وجاءوا للمدينة، فما بقي حاجة بالدعاء لهم بذلك. وفيه من الفقه إثبات القنوت في غير الوتر، وفيه دليل على أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يقطع الصلاة، وأن الدعاء على الكفار والظلمة لا يفسدها ومعنى «سنى يوسف» القحط والجدب، وهي السبع الشداد التي أصابتهم. (معالم السنن) .
[ (6) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 184، كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها، باب (45) استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، الحديث الّذي يلي رقم (295) ، بدون رقم.(12/71)
اللَّه لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: اللَّهمّ نج عياش بن أبي ربيعة، ثم ذكر بمثل حديث الأوزاعي في قوله: كسنى يوسف، ولم يذكر ما بعده.
وخرج البخاري [ (1) ] في تفسير سورة النساء من حديث أبي نعيم قال حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلّى العشاء إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: اللَّهمّ نج عياش، بن أبي ربيعة، اللَّهمّ نج سلمة بن هشام، اللَّهمّ نج الوليد بن الوليد، اللَّهمّ نج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللَّهمّ اجعلها سنين كسنى يوسف.
وخرّج في كتاب الأدعية في باب الدعاء على المشركين [ (2) ] من حديث هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا قال:
سمع اللَّه لمن حمده في الركعة الأخرى من صلاة العشاء قنت: اللَّهمّ أنج عياش ابن أبي ربيعة، اللَّهمّ أنج الوليد بن الوليد، اللَّهمّ أنج سلمة بن هشام، اللَّهمّ أنج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللَّهمّ اجعلها سنين كسنى يوسف.
وخرّجه في الاستسقاء في باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] من حديث مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: اللَّهمّ أنج عياش بن أبي ربيعة، اللَّهمّ أنج سلمة بن هشام، اللَّهمّ أنج الوليد بن الوليد، اللَّهمّ أنج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللَّهمّ اجعلها سنين كسنى يوسف. وأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: غفار غفر اللَّه لها، وأسلم سالمها اللَّه. قال ابن أبي الزناد عن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 335، كتاب التفسير، باب (21) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً، حديث رقم (4598) .
[ (2) ]
باب (58) ، وقال ابن مسعود: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف، وقال:
اللَّهمّ عليك بأبي جهل،
وقال ابن عمر، دعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في الصلاة وقال: اللَّهمّ العن فلانا وفلأنا حتى أنزل اللَّه عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ حديث رقم (6393) .
[ (3) ] باب (2) دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» ، حديث رقم (1006) .(12/72)
أبيه: هذا كله في الصبح وخرجه في أول كتاب الإكراه [ (1) ] من حديث هلال بن أسامة ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وخرجه في الجهاد في باب الدعاء على المشركين [ (2) ] من حديث سفيان، عن ذكوان، عن الأعرج [ (3) ] ، عن أبي هريرة، وفي كتاب الأنبياء في باب:
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ من حديث شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
خرج أبو نعيم من حديث عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان لا يقنت في الصبح إلا أن يدعو على قوم، وأنه قنت في صلاة الصبح بعد الركوع، وقال: اللَّهمّ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، والمسلمين من أهل مكة، اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، وخذهم بسنين كسنى يوسف، فأكلوا العلهز،
قال: قلت للقاسم بن محمد: ما العلهز؟
قال: الوبر والدم.
ومن حديث محمد بن زكريا قال سفيان: عن منصور، والأعمشي عن أبي الفضل عن مسروق قال: قال عبد اللَّه: إن اللَّه بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال:
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما رأى قريشا استعصوا عليه، دعا عليهم فقال: اللَّهمّ اعنى بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أكلوا فيها الخف، والعظام، وكان يرى في السماء شبه الدخان، فأتى أبو سفيان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إنك كنت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع اللَّه لهم وهو قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
__________
[ (1) ] كتاب (89) قوله اللَّه تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، وقال: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وهي تقية ... حديث رقم (6940) .
[ (2) ] باب (98) الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، حديث رقم (2933) .
[ (3) ] باب (19) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7] ، حديث رقم (3386) .(12/73)
السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله: عائِدُونَ. ثم عادوا في كفرهم، فأخذهم اللَّه يوم بدر، وهو قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ.
قال عبد اللَّه: فقد مضى الدخان، ومضت البطشة يوم بدر ومضى اللزام وهو يوم بدر، الم غُلِبَتِ الرُّومُ [ (1) ] واللزوم قد مضى، فقد مضت الأربع [ (2) ] .
وله من حديث محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن سليمان ومنصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال عبد اللَّه: إن اللَّه بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بالحق، وقال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما رأى قريشا استعصوا عليه قال: اللَّهمّ أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم السنة حتى حصب كل شيء، حتى أكلوا الجلود والعظام. وقال أحدهما: الجلود والميتة وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد إن قومك قد هلكوا فادع اللَّه أن يكشف عنهم، فدعا، ثم قال: يعودون، ثم قرأ هذه الآية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [ (3) ] . فيكشف اللَّه عنهم عذاب الآخرة.
فقد مضى الدخان والبطشة واللزام، وقال أحدهما: واللزوم.
رواه جرير بن حازم، وجرير بن عبد الحميد، وعلى بن مسهر وأبو معاوية ووكيع في آخر، عن الأعمش، وقال الرياشي: لما دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف
قال:
فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر، واشتد الجهد بقيس فقدم وفد قيس على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وفيهم لبيد بن ربيعة [ (4) ] ، فلما مثلوا بين يديه فقام لبيد وقال:
__________
[ (1) ] أول سورة الروم.
[ (2) ]
(فتح الباري) : 2/ 626، كتاب الاستسقاء، باب (2) دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» ، حديث رقم (1007) ، وفيه: «فالبطشة يوم بدر،
وقد مضت الدخان والبطشة واللزام، وآية الروم.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.
[ (4) ] هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، وكان يقال لأبيه: ربيع المقترين لسخائه. وقتلته بنو أسد في حرب بينهم وبين قومه. وقيل غير ذلك. ويكنى لبيد أبا عقيل،(12/74)
أتيناك يا خير البرية كلها ... لترحمنا مما لقينا من الأزل
أتيناك تشكو خطة جل أمرها ... لسبع سنين واقفين على محل
فإن تدع أخرى بالقحوط فإننا ... أحاديث طسم ما دعاؤك بالهزل
وإن تدع بالسقيا وبالعفو ترسل ... السماء لنا والمرء يبقى علنى الأصل
أتيناك والعذراء يدمي لثامها [ (1) ] ... وقد ذهلت [ (2) ] أم الصبي عن الطفل
__________
[ () ] وكان من شعراء الجاهلية وفرسانهم، وكان الحارث بن أبي شمر الغساني- وهو الأعرج- وجه إلى المنذر بن ماء السماء مائة فرس، فلما تمكنوا منه قتلوه وركبوا خيلهم، فقتل أكثرهم ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان فأخبره الخبر، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم، وهو يوم حليمة. وكانت حليمة بنت ملك غسان طيبت هؤلاء الفتيان حين توجهوا وألبستهم الأكفان والدروع وبرانس الإضريج [ضرب من الأكسية] . وأدرك لبيد الإسلام، وقدم لبيد الكوفة وبنوه، فرجع بنوه إلى البادية بعد ذلك، فأقام لبيد إلى أن مات بها، فدفن في صحراء بنى جعفر بن كلاب، ويقال: إن وفاته كانت في أول خلافة معاوية، إنه مات وهو ابن مائة وسبع وخمسين، ولم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا واختلف في البيت. قال أبو اليقظان هو:
الحمد للَّه إذا لم يأتنى أجلى ... حتى كساني من الإسلام سربالا
وقال له عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنشدنى من شعرك، فقرأ سورة البقرة وقال: ما كنت لأقول شعرا بعد إذ علمني اللَّه سورة البقرة وآل عمران، فزاده عمر في عطائه خمسمائة درهم، وكان ألفين، فلما كان في زمن معاوية، قال معاوية: هذان الفودان، فما بال العلاوة يعنى بالفودين الألفين، وبالعلاوة الخمسمائة- وأراد أن يحطه إياها، فقال: أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان. فرمد له معاوية، وترك عطاءه على حاله، فمات بعد ذلك بيسير.
ومما يستجد من شعره:
وكل امرئ سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل
وهذا البيت يدل على أنه قيل في الإسلام، وهو شبيه بقول اللَّه تبارك وتعالى: وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات: 10] ، أو كان لبيد قبل إسلامه يؤمن بالبعث والحساب. (الشعر والشعراء) : 167- 174، ترجمة لبيد بن ربيعة مختصرا.
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «لبانها» .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «شغلت» .(12/75)
وألقى بكفيه الشجاع [ (1) ] استكانة ... من الجوع صمتا [ (2) ] ما يمر وما يحل
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز الفشل
[ (3) ]
[ليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل]
[ (4) ]
فأنت لديننا وأنت لدنيانا ... تؤمل للدنيا وللآخرة الفصل
لنا منك في يوم الحساب شفاعة ... تزحزح عنا والشفاعة في الأهل
قال: فبكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى اخضلت لحيته، ثم قال: اللَّهمّ اسقنا غيثا عاجلا غير آجل. قال البراء بن عازب: واللَّه ما كان في السماء قذعة، ولقد رأيت السحاب يتداعى من نواحي السماء حتى التأم، ثم أمطرت بشيء عجيب فجاء أهل أسافل المدينة فقالوا: يا رسول اللَّه الغرق؟ فقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا فقشعت.
وخرج أبو نعيم من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، أن شرحبيل بن السمط قال لكعب بن مرة: حدثنا حديثا واحدا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على مضر، فأتيته، فقلت: إن اللَّه قد نصرك وأعطاك واستجاب لك؟ وإن قومك هلكوا؟ فادع اللَّه لهم. فقال: اللَّهمّ اسقنا غيثا، مريعا، طبقا، غدقا، عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار، قال: فما أتى علينا جمعة حتى مطرنا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «الصبى» .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «ضعفا» .
[ (3) ] في (دلائل البيهقي) : «الغسل» .
[ (4) ] هذا البيت زيادة للسياق من (المرجع السباق) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 139، استسقاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وإجابة اللَّه تعالى إياه في سقياه، ثم دعاؤه، بالكشف حين شكوا إليه كثرة المطر، وإجابة اللَّه تعالى إياه فيما دعاه، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.(12/76)
وخرّجه من حديث بدل بن المحبر [ (1) ] ، قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن دينار ومنصور وقتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بنحوه.
ومن حديث أبي داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سالم بن أبي الجعد أن كعب بن مرة [ (2) ] قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: جئت من عند قوم لا يحظم لهم بعير، ولا يتزود لهم راع.
وخرّجه البيهقي من حديث شبابة قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد أن ابن السمط قال لكعب بن مرة أو مرة بن كعب الفهري، حدثنا بحديث سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للَّه أبوك، واحذر، قال: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على مضر، فأتاه أبو سفيان، فقال: يا رسول اللَّه إن قومك قد هلكوا فادع اللَّه لهم، قال شعبه: وزاد حبيب بن أبي ثابت فيه بهذا الإسناد أن أبا سفيان قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: إني آتيك من عند قوم لم يخطم لهم فحل، ولم يتزود لهم راع، ثم رجع الى حديث عمرو، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا غيثا، مغيثا، [غدقا] [ (3) ] ، طبقا، مريعا، نافعا غير ضار عاجلا، غير رائث. قال شعبة، وزاد حبيب بن أبي ثابت، قال: فما لبثت إلا جمعة حتى مطرنا.
قال المؤلف رحمة اللَّه عليه: كعب بن مرّة [ (4) ] هذا يقال فيه: مرّة بن كعب البهزي السلمي نزل البصرة، ثم الأردن، روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وروى عن شرحبيل بن الصمت وسالم بن أبي الجعد، وقيل: لم يلقه، وجبير بن نفير، وأبو الأشعث الصغاني، وطائفة. وخرج له أبو دواد.
قال ابن عبد البر: الأكثر يقولون: كعب بن مرّة قال: وله أحاديث مخرجها عن أهل الكوفة يروونها عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مرة
__________
[ (1) ] هو بدل بن المحبر بن المنبه التميمي اليربوعي أبو المنير المصري. ترجمته في (تهذيب التهذيب) : 1/ 371، ترجمة رقم (782) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 146.
[ (4) ] له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 8/ 395- 396 ترجمة رقم (797) .(12/77)
السلمي البهزي، وأهل الشام يروون تلك الأحاديث بأعيانها، من شرحبيل بن السمط عن عمرو بن السمط عن عمرو بن عبسة.
وخرج الحاكم من [ (1) ] من حديث الحسين بن واقد، حدثني يزيد النحويّ أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: يا محمد أنشدك اللَّه والرحم قد أكلنا العلهز يعنى الوبر، فأنزل اللَّه تعالى وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ [ (2) ] قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) [ (3) ] من حديث الحسين بن واقد، حدثنا أبي حدثنا يزيد النحويّ فذكره.
وخرج أبو نعيم من حديث محمود بن بكر بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن دواد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه عن جده، أن ناسا من مضر أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فسألوه أن يدعو اللَّه عز وجل أن يسقيهم، فقال: اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا، هنيئا، مريئا، غدقا، طبقا، نافعا، غير ضار، عاجلا غير رائث، فأطبقت عليهم حتى مطروا سبعا.
وقال نجدة بن نفيع، سألت ابن عباس عن قوله تعالى إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [ (4) ] قال: استنفر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا، فأمسك عنهم المطر، فكان عذابهم. خرجه الحاكم وصححه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 248، كتاب التفسير، تفسير سورة المؤمنون، حديث رقم (3488) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] المؤمنون: 76.
[ (3) ] الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 247، كتاب الرقائق، باب (9) الأدعية، ذكر السبب الّذي من أجله أنزل اللَّه جل وعلا: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ، حديث رقم (967) .
[ (4) ] التوبة: 39.
[ (5) ] (المستدرك) : 2/ 114- 115، كتاب الجهاد، حديث رقم (2504) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/78)
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لأهل جرش [ (1) ] برفع قتل صرد بن عبد اللَّه [ (2) ] الأزديّ وأصحابه عنهم، فنجوا بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلم
فروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق [ (3) ] قال: قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صرد بن عبد اللَّه الأزدي، فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد.
فأمّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج صرد يسير [بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (4) ] في جيش حتى نزل بجرش وهي يومئذ مغلقة به قبائل من اليمن وقد
__________
[ (1) ] (جرش أو جرش- بالتحريك- اسم مدينة عظيمة كانت، وهي الآن خراب. حدثني من شاهدها وذكر لي أنها خراب، وبها آبار عادية تدل على عظم، قال: وفي سطحها نهر جار يدير عدة رحى عامرة إلى هذه الغاية، وهي في شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وحوران من عمل دمشق، وهي في جبل يشتمل على ضياع وقرى، يقال للجميع: جبل جرش، اسم رجل، وهو: جرش بن عبد اللَّه بن عليم بن جناب بن هبل بن عبد اللَّه بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة، ويخالط هذا الجبل جبل عوف، وإليه ينتهى حمى جرش، وهو من فتوح شرحبيل رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في أيام عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. (معجم البلدان) : 2/ 148- موضع رقم (3048) مختصرا.
[ (2) ] هو صرد بن عبد اللَّه الأزدي، قال ابن حبان: جرش، له صحبة. وقال ابن إسحاق في (المغازي) : وقدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صرد بن عبد اللَّه الأزدي، فأسلم وحسن إسلامه- وأمره أن يجاهد المشركين، فذكر قصة طويلة، قال: وكان ذلك في سنة عشر. وروى الواقدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم توفى وعامله على جرش صرد بن عبد اللَّه الأزدي. وأخرجه في المغازي.
(الإصابة) : 3/ 421- 422، ترجمة رقم (4064) ، (الاستيعاب) : 2/ 737، ترجمة رقم (1238) .
[ (3) ] سنده في (دلائل البيهقي) : أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس عن ابن إسحاق، قال: ...
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(12/79)
ضوت إليهم جشعم، فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرهم بماء قريبا من شهر وامتنعوا منه فيها، ثم رجع قافلا حتى إذا كان في جبل يقال له كشر ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقاتلهم قتالا شديدا.
وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينما هما عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عشية بعد الفطر، إذا قال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] :] بأي بلاد شكر؟ فقام الجرشيان فقالا: يا رسول اللَّه ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك تسميه أهل جرش. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إنه ليس بكشر، ولكنه شكر قال: فما له يا رسول اللَّه؟ إن بدن اللَّه لتنحر عنده الآن، فجلس الرجلان إلى أبي بكر وإلى عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما فقالا [لهما] [ (2) ] : ويحكما! إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لينعى إليكما، قومكما، فاسألاه أن يدعوا للَّه- عز وجل- فيرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألا ذلك. فقال: اللَّهمّ ارفع عنهم.
فخرجا من عنده راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبد اللَّه في اليوم الّذي قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما قال، في الساعة التي ذكر فيها ما ذكر.
فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، والراحلة، وللمثيرة، وهي بقرة الحرث [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 372- 373، باب قدوم صرد بن عبد اللَّه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في وقد من الأزد، وإسلامه، ورجوعه إلى جرش وقدوم رجلين من جرش على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وإخباره إياهما بإصابة صرد قومهما في الساعة التي أصابهم فيها، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ورواه ابن هشام في (السيرة) .(12/80)
وأما تمكين اللَّه تعالى قريشا من العزّ والشرف والملك بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج أبو نعيم من حديث أبي يحيى عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، عن الأعمش، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: كما أذقت أول قريش نكالا، فارزق آخرهم نوالا. قال أبو نعيم: رواه أبو كرب والمتقدمون، عن أبي يحى الحماني.
وله من طريق أبي دواد، قال حديثنا جعفر بن سليمان، عن النضر بن معبد، عن الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أذقت أول قريش عذابا ووبالا، فأذق آخرها نوالا.
وخرجه الترمذي من حديث أبي يحيى بسنده ومتنه كما تقدم، وقال: هذا حديث حسن وغريب [ (1) ] .
قال المؤلف رحمه اللَّه: قد استجاب اللَّه تعالى دعوة نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لقريش وملّكله مشارق الأرض ومغاربها، فلم يقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان حتى بلغت الدعوة الإسلامية كل ما تطؤه الأقدام، وتمر فيه السفن، ومكن اللَّه لقريش في الأرض حتى لقد نقل أن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نظر مرة إلى السحاب، فقال: أمطرى حيث شئت، إن أمطرت في البر حمل إلى البدر، وإن أمطرت في البحر حمل إلى الدار.
وامتد ملك بنى أمية من عانة [ (2) ] إلى فرغانة [ (3) ] وأنت أن كنت ممن تبحر في الأخبار، فاعلم كيف كان أجيال الخليقة تبين لك أن الّذي تهيأ لقريش من
__________
[ (1) ] وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 404، حديث رقم (2171) ، من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
[ (2) ] عانة: بلد مشهور بين الرقة وهيت، يعد في أعمال الجزيرة، وجاء في الشعر، عانات كأنه جمع بما حوله، ونسبت إليه العرب الخمر، وهي مشرفة على الفرات قرب حديثة النورة، وبها قلعة حصينة. وعانة أيضا بلد بالأردن. (معجم البلدان) : 4/ 81، موضع رقم (8128) .(12/81)
اتساع المملكة وكثرة العساكر، وزيارة الأموال، لم يكن مثله لملوك فارس والروم، واللَّه تعالى يؤتى ملكه من يشاء، واللَّه واسع عليم.
وأما تأييد اللَّه عز وجل من كان معه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وتيقن الصحابة ذلك
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد قال: سمعت سلمة بن الأكوع قال: مر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ارموا بنى إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما لكم لا ترمون، قالوا:
__________
[ () ] (3) فرغانة: بالفتح ثم السكون وعين معجمة، وبعد الألف نون: مدينة فرغانة وكورة واسعة بما وراء النهر، متاخمة لبلاد تركستان، في زاوية من ناحية هيطل، من جهة مطلع الشمس على يمين القاصد لبلاد الترك، كثيرة الخير واسعة الرستاق، ويقال: كان بها أربعون منبرا، بينهما وبين سمرقند خمسون فرسخا، ومن ولايتها جخندة. (المرجع السابق) : موضع رقم (9128) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 113، كتاب الجهاد والسير، باب (78) التحريض على الرمي، وقول اللَّه عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] ويستفاد من هذا الحديث أن من صار السلطان عليه في جملة المناضلين له أن لا يتعرض لذلك كما فعل هؤلاء القوم، حيث أمسكوا، لكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مع الفريق الآخر، خشية أن يغلبوهم، فيكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مع من وقع عليه الغلب، فأمسكوا عن ذلك تأدبا معه. وتعقب بأن المعنى الّذي أمسكوا له لم ينحصر في هذا، بل الظاهر أنهم أمسكوا لما استشعروا من قوة قلوب أصحابهم بالغلبة حيث صار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم معهم، وذلك من أعظم الوجوه المشعرة بالنصر. واستدل بهذا الحديث على أن اليمن من بنى إسماعيل، وفيه نظر، لما سيأتي في مناقب قريش من أنه استدلال بالأخص على الأعم، وفيه أن الجد الأعلى يسمى أبا، وفيه التنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضلة، وتطييب قلوب من هم دونه، وفيه حسن خلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومعرفته بأمور الحرب، وفيه الندب إلى اتباع خصال الآباء المحمودة والعمل بمثلها، وفيه حسن أدب الصحابة مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.(12/82)
كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ارموا فأنا معكم كلكم. ترجم عليه باب التحريض على الرمي.
وذكره في كتاب (الأنبياء) [ (1) ] من حديث مسدد قال. أخبرنا يحيى عن يزيد ابن أبي عبيد، أخبرنا سلمة قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق فقال: أرموا بنى إسماعيل. الحديث بمعناه. ذكره في كتاب (نسبة اليمن) إلى إسماعيل [ (2) ] منهم أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر ابن خزاعة.
وخرج البيهقي [ (3) ] من حديث يحيى بن حسان قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن محمد بن إياس بن سلمة، عن أبيه عن جده.
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مر على ناس من أسلم ينتضلون، فقال: حسن هذا اللهو، مرتين أو ثلاثا ارموا، وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا:
لا واللَّه لا نرمي معه وأنت معهم يا رسول اللَّه إذا يفضلنا! فقالوا: ارموا وأنا معكم جميعا، فقال: لقد رموا عامة يومهم ذلك، ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا. قال البيهقي: وكذلك رواية أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 510، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (12) قول اللَّه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] ، حديث رقم (3373) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 666، كتاب المناقب، باب (4) نسبة اليمن إلى إسماعيل، منهم أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، حديث رقم (3507) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 255، باب ما جاء في
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم للرماة: ارموا وأنا مع ابن الأدرع،
وما ظهر في ذلك من الآثار. وأخرجه البيهقي أيضا في (السنن الكبرى) : 10/ 17.(12/83)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاءه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى صرع ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف [ (1) ] وكان أحد لا يصرعه
فروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لركانة بن عبد يزيد: أسلم، فقال: لو أعلم أن ما تقول حقا لفعلت. فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- وكان ركانة من أشد الناس-:
أرأيت إن صرعتك تعلم أن ذلك حق؟ فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصرعه، فقال له:
عد يا محمد، فعاد له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخذه الثانية فصرعه على الأرض،
__________
[ (1) ] هو ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي، قال البلاذري: حدثني عباس بن هشام، حدثني أبي عن ابن خربوذ وغيره، قالوا قدم ركانة من سفر، فأخبر خبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلقيه في بعض جبال مكة، فقال: يا ابن اخي، بلغني عنك شيء، فإن صرعتني علمت أنك صادق، فصارعه فصرعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأسلم ركانة في الفتح، وقيل: إنه أسلم عقب مصارعته. قال ابن حبان: في إسناد خبره في المصارعة نظر. يشير إلى الحديث أخرجه أبو داود والترمذيّ من رواية أبي الحسن العسقلانيّ، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه، أن ركانة صارع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فصرعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. قال الترمذيّ: غريب، وليس إسناده بقائم. وقال الزبير: ركانة بن عبد يزيد الّذي صارع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة قبل الإسلام، وكان أشد الناس، فقال:
يا محمد، إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: أشهد أنك ساحر، ثم أسلم بعد، وأطعمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خمسين وسقا.
وفي الترمذيّ من طريق الزبير بن سعيد، عن عبد اللَّه بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إني طلقت امرأتي البته، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: ما أردت بها؟ قال: واحدة ... الحديث،
وفي إسناده اختلاف على أبي داود وغيره.
وروى عنه نافع بن عجيرة، وابن ابنه على بن يزيد بن ركانة. قال الزبير: مات بالمدينة، في خلافة معاوية، وقال أبو نعيم: مات في خلافة عثمان، وقيل: عاش إلى سنة إحدى وأربعين.
(الاستيعاب) : 2/ 507، ترجمة رقم (801) ، (الإصابة) : 2/ 497- 498، ترجمة رقم (2691) .(12/84)
فانطلق ركانة [وهو] [ (1) ] يقول: هذا ساحر لم أر مثله قط، ولم أر مثل سحر هذا، واللَّه ما ملكت من نفسي شيئا حتى وضع جنبي على الأرض [ (2) ] .
وروى أبو أويس المدني عن محمد بن عبد اللَّه بن يزيد بن ركانة، عن جده ركانة بن عبد يزيد- وكان من أشد الناس- قال: كنت أنا والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم في غنيمة لأبي طالب نرعاها في أول ما رأى إذ قال لي ذات يوم: هل لك أن تصارعني؟ قلت: أنت؟ قال: أنا، فقلت: على ماذا؟ قال: على شاة من الغنم فصارعته، فصرعني، فأخذ منى شاة، فقال: هل لك في الثانية؟ قلت:
نعم، فصارعته، فصرعني، وأخذ منى. فجعلت ألتفت هل يراني إنسان، فقال: مالك؟ قلت: لا يراني [بعض] [ (3) ] الرعاة فيجترئون عليّ وأنا في قومي من أشدهم، قال: هل لك في الصراع الثالثة وشاة؟ قلت: نعم، فصارعته فصرعني، وأخذ شاة، فقعدت كئيبا حزينا، فقال: مالك؟ قلت: إني أرجع إلى عبد يزيد وقد أعطيت ثلاثا من غنمه، والثانية أنى كنت أظن أنى أشد قريش.
فقال: هل لك في الرابعة؟ فقلت: لا بعد ثلاث، فقال: أما قولك في الغنم فإنّي أردها عليك، فردها عليّ، فلم يلبث أن ظهر أمره، فأتيته، فأسلمت،
فكان مما هداني اللَّه عز وجلّ أنى علمت أنه لم يصر عنى يومئذ بقوته، ولم يصرعني يومئذ إلا بقوة غيره [ (4) ] .
وخرج البيهقي [ (5) ] من حديث أبي عبد الملك، عن القاسم عن أبي أمامة قال: كان رجل من بنى هاشم يقال له ركانة، وكان من أفتك الناس وأشدهم [ (6) ] ،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 250، باب ما جاء في استنصار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بأسماء اللَّه تعالى على ركانة في المصارعة، ونصرة اللَّه تعالى إياه عليه، وما روى في تلك القصة من آثار النبوة.
[ (3) ] زيادة لسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 250- 251.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 252- 254.
[ (6) ] (دلائل البيهقي) : «أشده» ، وما أثبتناه أجود للسياق.(12/85)
وكان مشركا يرعى غنما له في واد يقال له إضم [ (1) ] فخرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بيت عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها ذات يوم، وتوجه قبل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحد، فقام إليه ركانة فقال: يا أحمد أنت الّذي تشتم [آلهتنا] [ (2) ] اللات والعزى، وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم، ولولا رحم بيني وبينك ما كلمتك الكلام- يعنى حتى أقتلك- ولكن ادع إلهك العزيز الحكيم ينجيك منى اليوم وسأعرض عليك أمرا،
هل لك أن أصارعك وتدعوا إلهك العزيز الحكيم يعينك [ (3) ] ؟ وأنا أدعو اللات والعزى؟ فإن أنت صرعتني فلك عشر من غنمي هذه تختارها.
فقال عند ذلك نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن شئت، فاتعدا [ (4) ] ، ودعا نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة اللات والعزى: أعني على محمد، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فصرعه وجلس على صدره.
__________
[ (1) ] إضم بالكسر ثم الفتح وميم: ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة، وقيل: ذو إضم جوف هناك به ماء وأماكن يقال لها الحناظل، وله ذكر في سرايا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. وقال السيد عليّ:
إضم واد بجبال تهامة، وهو الوادي الّذي فيه المدينة، ويسمى من عند المدينة القناة، ومن أعلى منها عند السد يسمى الشظاة، ومن عند الشظاة أسفل يسمى إضما إلى البحر. قال ابن السكيت:
إضم القناة التي تمر دوين المدينة. وقيل: إضم واد لأشجع وجهنية، ويوم إضم من أيامهم.
وعن نصر: إضم ماء بين مكة واليمامة عند السمينة، يطؤه الحاج وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعث محلما في نفر من المسلمين، فلما كانوا ببطن إضم مرّ بهم عامر، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقام إليه محلم فقتله لشيء كان بينهما، فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. [النساء: 94] . (معجم البلدان) : 1/ 254، موضع رقم (755) ، (معجم ما استعجم) : 1/ 166.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] في (المرجع السابق) : «فاتخذا» ، وفي (الأصل) : «فاتعدى» .(12/86)
فقال ركانة: قم، فلست أنت الّذي فعلت بي هذا، إنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، وما وضع أحد قط جنبي قبلك! فقال له ركانة:
عدّ، فإن أنت صرعتني فلك عشر أخرى تختارها.
فأخذه نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرة، فصرعه نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجلس على كبده، فقال له ركانة: قم، فلست أنت فعلت [بي] [ (1) ] هذا، إنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، وما وضع جنبي أحد قبلك ثم قال له ركانة: عدّ، فإن أنت صرعتني فلك عشر أخرى تختارها، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ودعا كل واحد إلهه، فصرعه نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الثالثة.
فقال له ركانة: لست أنت الّذي فعلت [بي هذا] [ (2) ] ، وإنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، فدونك ثلاثين شاة من غنمي، فاخترها.
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ما أريد ذلك، ولكنى أدعوك إلى الإسلام يا ركانة، وأنفس بك أن تصير إلى النار، وإنك إن تسلم تسلم.
فقال له ركانة: لا إلا أن تريني آيه، فقال له نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [اللَّه عليك] [ (3) ] شهيد إن أنا دعوت ربى فأريتك آية لتجيبننى إلى ما أدعوك إليه؟ قال: نعم.
وقريب منه شجرة ثمر ذات فروع وقضبان فأشار إليها نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال لها: أقبلى بإذن اللَّه فانشقت باثنتين وأقبلت على نصف شقها [ (4) ] وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وبين ركانة، فقال له ركانة:
أريتنى عظيما فمرها فلترجع، فقال له نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: شهيد لئن أنا دعوت ربى عز وجل فرجعت لتجيبننى إلى ما أدعوك إليه؟ قال: نعم، فأمرها فرجعت بقضبانها وفروعها حتى التأمت بشقها.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] في بعض المصادر: (ساقها) .(12/87)
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: [أسلم] [ (1) ] تسلم؟ فقال له ركانة: ما بي إلا أن أكون رأيت عظيما، ولكنى أكره أن يتحدث نساء أهل المدينة وصبيانهم، أنى إنما أجبتك لرعب دخل على قلبي [ (2) ] منك، ولكن قد علمت نساء أهل المدينة وصبيانهم أنه لم يضع جنبي أحد قط، ولم يدخل قلبي رعب قط ليلا، ولا نهارا، ولكن دونك فاختر غنمك.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ليس لي حاجة إلى غنمك إذا أبيت أن تسلم، فانطلق نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم راجعا، وأقبل أبو بكر وعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما يلتمسانه في بيت عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، فأخبرتهما أنه قد توجه قبل وادي إضم، وقد عرفا أنه وادي ركانة لا يكاد يخطئه.
فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرف، ويتشوفان مخرجا، إذ نظرا إلى نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقبلا، فقالا: يا رسول اللَّه! كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك؟ وقد عرفت أنه جهة ركانة، وأنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيبا لك، فضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: أليس اللَّه عز وجل يقول لي: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (3) ] إنه لم يكن يصل إليّ واللَّه معي، فأنشأ يحدثهما حديثه، والّذي فعل به، والّذي أراه، فعجبا من ذلك، وقالا: يا رسول اللَّه: أصرعت ركانة؟ فلا والّذي بعثك بالحق ما نعلم أنه وضع جنبه إنسان قط.
فقال لهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إني دعوت ربي فأعاننى عليه، وإن ربي عز وجل أعانني ببضع عشرة وقوة عشرة [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] في (الأصل) : «على» وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] المائدة: 67.
[ (4) ] وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 511، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب ركانة بن عبد يزيد، حديث رقم (5903) مختصرا جدا، وقد حذفه الحافظ الذهبي من (التلخيص) .(12/88)
قال البيهقي: أبو عبد الملك هذا على بن يزيد الشامي، وليس بالقوى إلا أنه معه ما يؤكد حديثه. قال كاتبه: هو على بن يزيد بن أبي هلال أبو عبد الملك [ (1) ] ، ويقال: أبو الحسن الألهاني، ويقال: الهلالي من أهل دمشق.
روى عن القاسم بن عبد الرحمن ومكحول، روى عنه يحيى بن الحارث الدنارى وعثمان بن أبي العاتكة، وعبيد اللَّه بن زحر، ومطرح بن يزيد ومعاذ ابن رفاعة، وعمرو بن واقد ومدرك بن أبي سعد، والوليد بن سليمان بن أبي السائب، وبكر بن عمرو المعافري، قال البخاري، منكر الحديث، وقال ابن يونس: وفيه نظر:، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال مرة: متروك الحديث.
وقال أبو أحمد الحاكم: سمعت البخاري يقول: علي بن يزيد بن عبد الملك الألهاني ضعيف وفي رواية منكر الحديث. وقال محمد بن يزيد المستملي:
قلت لأبى مسهر فعليّ بن يزيد؟ قال: ما علم إلا خبرا انظر من يروى عنه ابن أبي عاتكة ليس من أهل الحديث، ونظراؤه.
وقال حارث بن إسماعيل: قلت لأحمد بن حنبل: عليّ بن يزيد، قال:
هو دمشقي كان ضعيفا، وقال ابن معين: عليّ بن يزيد الشامي ضعيف.
وفي رواية عليّ بن يزيد، عن القاسم بن أبي أمامة: هي ضعاف كلها.
وقال أبو إسحاق السعدي، عليّ بن يزيد الدمشقيّ رأيت غير واحد من الأئمة ينكر أحاديثه التي يرويها عنه عبيد اللَّه بن زحر، وعثمان بن أبي العاتكة، ثم رأينا أحاديث جعفر بن الزبير، وبشر بن نمير يرويان عن القاسم أحاديثه تشبه تلك الأحاديث. وكان القاسم خيارا فاضلا، ممن أدرك أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار، وأظننا أتينا من قبل عليّ بن يزيد، على أن بشر بن نمير وجعفر بن الزبير ليسا ممن يحتج بهما على أحد من أهل العلم.
وقال عمر بن شبة: عليّ بن يزيد واهي الحديث كثير المنكرات. وقال محمد بن أبي حاتم: وسألت أبي عن عليّ بن يزيد، فقال: ضعيف الحديث منكره، فإن كان ما روى عن عليّ بن يزيد، عن القاسم على الصحة، فيحتاج
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 7/ 346- 347، ترجمة رقم (642) ، وهو عليّ بن يزيد ابن أبي هلال الألهاني، ويقال الهلالي أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحسن الدمشقيّ.(12/89)
أن ينظر في أمر علي بن يزيد. وسألت أبا زرعة عن عليّ بن يزيد فقال: ليس بقوىّ، وقال أبو زكريا الساجىّ: وأحاديث عبيد اللَّه بن زحر، وعليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامه مرفوعة ضعيفة. وفي رواية عليّ بن يزيد مضعف. وقال أبو عيسى الترمذي: وقد تكلم بعض أهل العلم في عليّ بن يزيد وضعفه، وهو شامىّ.
وقال في موضع آخر عليّ بن يزيد يضعف في الحديث ويكنى أبا عبد الملك، وقال في موضع آخر. قال محمد يعنى البخاري: القاسم ثقة، وعليّ بن يزيد ضعيف، وقال أبو عبد اللَّه محمد بن إبراهيم الكنانيّ الأصبهانيّ: قلت لأبى حاتم: ما تقول في أحاديث عليّ بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة؟
فقال: ليست بالقوية هي ضعاف. وقال أبو أحمد بن عدىّ: ولعلىّ بن يزيد أحاديث ونسخ، وعبيد اللَّه بن زحر يروى عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أحاديث، وهو في نفسه صالح إلا أن يروى عنه ضعيف، فيؤتى من قبل ذلك الضعيف.
وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب: هذا ما وافقت عليه أبا الحسين الدار الدّارقطنيّ من المتروكين عليّ بن يزيد الدمشقيّ أبو عبد الملك، عن القاسم بن عبد الرحمن. وقال الحافظ أبو نعيم: عليّ بن يزيد منكر الحديث. وقاله البخاري، قال كاتبه: خرج لعليّ بن يزيد هذا الترمذيّ وابن ماجة وقال ابن حبان عن حديث مصارعة ركانة: في إسناده نظر وقال عبد الغنىّ: هو أصل ما روى في المصارعة، ومصارعة أبي جهل فليس لها أصل.(12/90)
وأما كون إنسان يصلح يبن القبائل لأن المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم سمّاه مطاعا
فخرّج أبو نعيم من حديث أبي مسعود عبد الرحمن بن المثنى بن مطاع بن عيسى بن مطاع بن زياد، بن مسعود، بن الضحاك [ (1) ] [بن خالد] [ (2) ] بن عدي بن أراش بن جزيلة بن اللخم اللخميّ قال: حدثني أبي المثنى عن أبيه مطاع، عن أبيه عيسى، عن أبيه مطاع، عن أبيه زياد، عن جده مسعود أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سماه مطاعا، وقال له: أنت مطاع في قومك، وقال له: امض إلى أصحابك، فمن دخل تحت رايتك هذه فهو آمن من العذاب، فمضى مطاع إلى أصحابه فقال لهم: أنتم سامعون مطيعون.
قالوا: نعم يا مسعود، فقال لهم: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سماني مطاعا، وحملني على هذا الفرس وأعطاني هذه الراية، وقال لي: امض إلى أصحابك، فمن دخل تحت هذه الراية فقد أمن من عذابي. فأقبلوا معه الى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فصاروا من أصحابه وقالوا: يا رسول اللَّه ادع لنا على حدس، فقال لهم: حدس الأحداس يكثرون ويقل الناس.
__________
[ (1) ] هو مسعود بن الضحاك بن عدي بن أراش بن حرملة بن لخم اللخمي، وقد ينسب مسعود إلى جده، وسمى أبو عمر جده: حرملة، كأنّه نسب أباه إلى جده الأعلى، وقال: زعم أهله وولده أن له صحبة، وروى الحديث عن جماعة من ولده.
وقال الطبراني: حدثنا أبو مسعود عبد الرحمن بن المثنى بن المطاع بن عيسى بن المطاع بن زياد بن مسعود بن الضحاك بن عدي بن أوس بن حرملة بن لخم، حدثني أبي عن أبيه، عن جده المطاع، عن أبيه زيادة، عن جده مسعود، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سماه مطاعا، وقال له: أنت مطاع في قومك، امض إلى أصحابك، وحمله على فرس أبلق، وأعطاه الراية، وقال:
من دخل تحت رايتي هذه فقد أمن من العذاب. رواه عبد السلام بن المثنى بن المطاع، عن أبيه، عن جده مثله، لكن قال: زائدة بدل زيادة. (الاستيعاب) : 3/ 1393، ترجمة رقم (2383) ، (الإصابة) : 6/ 100- 101، ترجمة رقم (7958) .
[ (2) ] من الأصل فقط.(12/91)
فقالوا: يا رسول اللَّه دعوت لهم بالكثرة؟ فقال: جاءني جبريل فأخبرني أن مسعودا يقابلني بكرة مشركا ويأتيني بالعشي مؤمنا، فلما كان مع زوال الشمس قالوا: يا نبي اللَّه إنا نرى شخصا مقبلا، فأقبل مسعود إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم،
قال أبو مسعود: أخبرنى أبي عن جدي مطاع أنه كان يأخذ الراية إذا وقع بين القبائل فيصلح بينهم، وكان قد كبر وبلغ أرجح من مائة سنة، وكان يربط العمامة على حاجبيه حتى تنكشف عيناه، ويقاتل على كبره.(12/92)
وأما استجابة اللَّه سبحانه وتعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلم في دعائه على عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر هوازن بن منصور ابن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر، وأربد بن قيس ابن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب
فخرج البخاري من حديث همام بن إسحاق عن عبد اللَّه بن أبي طلحة قال: حدثني أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعثه خاله أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رأس المشركين عامر بن طفيل، خير بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، وأكون خليفتك أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان، فقال: غدة كغدة البعير [ (1) ] في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم هو ورجل أعرج ورجل من بنى فلان، قال: كونا قريبا منى حتى آتيهم، فإن آمنوا بى كنتم. وإن قتلوني أتيتما أصحابكما، فقال: أتؤمنونني حتى أبلغ رسالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجعل يحدثهم، وأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه، فطعنه.
قال همام: أحسبه قال حتى أنفذه بالرمح، قال: اللَّه أكبر فزت ورب الكعبة، فأنزل اللَّه علينا، ثم كان من المنسوخ: «وإنا قد لقينا ربنا فرضي عنا [وأرضانا] [ (2) ] » فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبني [ (3) ] لحيان وعصية الذين عصوا اللَّه ورسوله.
__________
[ (1) ] في البخاري: «البكر» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 490- 491، كتاب المغازي باب (29) غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان، وبئر معونة، حديث عضل والقارة- وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه، قال ابن إسحاق:
حدثنا عاصم بن عمر أنها كانت بعد أحد. حديث رقم (4091) . قوله: «ثم كان من المنسوخ» أي المنسوخ تلاوته، فلم يبق له حكم حرمة القرآن كتحريمه على الجنب، وغير ذلك. (فتح الباري) .(12/93)
وخرّج الحاكم من طريق عبد اللَّه بن الزبير الحميدي حدثنا على بن يزيد بن أبي حكيمة، عن أبيه وغيره، عن سلمة بن الأكوع أن عامر بن الطفيل لم يدخل المدينة إلا بأمان من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال له: أسلم تسلم قال: نعم، على أن لي الوبر ولك المدر.
قال: هذا لا يكون أسلم تسلم يا عامر، يا عامر اذهب حتى تنظر في أمرك إلى غد فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الأنصار، فقال: ماذا ترون؟ إني دعوت الرجل فأبى أن يسلم إلا أن يكون له الوبر ولي المدر، فقالوا: ما شاء اللَّه، ثم شئت يا رسول اللَّه ما أخذوا منا عقالا إلا أخذنا منهم عقالين، فاللَّه ورسوله أعلم، فرجع عامر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الغد، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: تسلم يا عامر؟ قال: لا إلا أن يكون لي الوبر ولك المدر.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ليس إلى ذلك، فأبى إلا أن يكون له الوبر، وللنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم المدر، فأبى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال عامر: أما واللَّه لأملأنها عليك خيلا ورجالا، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يأبى اللَّه ذلك عليك، وأبناء قيلة الأوس والخزرج، ثم ولى عامر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اكفنيه، فرماه اللَّه بالذبحة قبل أن يأتى أهله،
قال:
فقال عامر حين أخذته الذبحة: يا آل عامر كغدة البكر، فهلك ساعة أخذته دون أهله [ (1) ] .
وقال يونس بن محمد بن إسحاق، قال: قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وخالد بن جعفر، وجبار بن سلمى بن مالك. فكان هؤلاء النفر رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم عامر بن الطفيل عدو اللَّه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يريد أن يغدر به، فقال له قومه:
يا عامر إن الناس قد أسلموا، فقال: واللَّه لقد كنت آليت ألا ننتهي حتى تتبع العرب عقبى، فأنا أتبع هذا الفتى من قريش، ثم قال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإنّي شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 92- 93، كتاب معرفة الصحابة، ذكر فضيلة أخرى للأوس والخزرج، لم يقدر ذكرها من فضائل الأنصار، حديث رقم (6983) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .(12/94)
فلما قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال عامر: يا محمد خالني، فقال:
لا، حتى تؤمن باللَّه وحده لا شريك له، فلما أبي عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أما واللَّه لأملأنها عليك خيلا حمرا، ورجلا، فلما ولى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اكفني عامر بن الطفيل،
فلما خرجوا من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال عامر لأربد:
ويحك يا أربد! أين ما كنت أمرتك به؟ واللَّه ما كان على الأرض رجل أخوف عندي على نفسي منك، وأيم اللَّه لا أخاف بعد اليوم أحدا، قال: لا أبا لك، لا تعجل عليّ فو اللَّه ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل! أفأضربك بالسيف؟ ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث اللَّه عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله في بيت امرأة من بنى سلول، ثم خرج أصحابه حتى واروه حين قدموا أرض بنى عامر أتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: قد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي فأرميه بنبلى هذه حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين ومعه جمل يبيعه، فأرسل اللَّه عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وكان أربد أخا للبيد بن ربيعة لأمه فبكاه ورثاه [ (1) ] .
وخرّج البيهقي من حديث محمد بن إسحاق قال: حدثنا معاوية بن عمر وأخبرنا أبو إسحاق، عن الأوزاعي، عن عبد الحق بن عبد اللَّه بن أبي سلمة في قصة بئر معونة، قال الأوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: اللَّهمّ اكفني عامر بن الطفيل وابعث عليه داء يقتله، فبعث اللَّه طاعونا فقتله [ (2) ] .
ومن طريق همام عن إسحاق بن أبي طلحة قال: حدثني أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في قصة حرام بن ملحان قال: وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، كان أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: أخيرك بين ثلاث
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 3118- 320، باب وفد بنى عامر، ودعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على عامر بن الطفيل، وكفاية اللَّه تعالى شره، وشر أربد بن قيس بعد أن عصم منها نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 320.(12/95)
خصال: يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل المدر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر، وألف شقراء.
قال: فطعن في بيت امرأة فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان؟ ائتونى بفرس، فركب، فمات على ظهر فرسه [ (1) ] .
ومن طريق الزبير بن بكار قال: حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن مؤملة ابن جميل قال: أتى عامر بن الطفيل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال له: يا عامر أسلم، قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، فولّى وهو يقول: واللَّه يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخله فرسا.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اكفني عامرا واهد قومه،
فخرج عامر حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة يقال لها: سلولية، فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقة، فوثب على فرسه، وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول:
غدة كغدة البكر؟ وموت في بيت سلولية؟ فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 320.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 321.(12/96)
وأما استجابة اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلم فيمن أكل بشماله
فخرج مسلم من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار قال: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع ان أباه حدثه أن رجلا أكل عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشماله، فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال [صلّى اللَّه عليه وسلم] : لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم [ (2) ] من طريق أبي داود الطيالسي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أبصر بسر بن راعى العير [ (3) ] يأكل بشماله، فقال: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، قال [صلّى اللَّه عليه وسلم] :
لا استطعت، فما نالت يمينه إلى فيه بعد.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 203، كتاب الأشربة، باب (13) آداب الطعام والشراب وأحكامهما، حديث رقم (107) . وفي أحاديث الباب استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهتهما بالشمال، وقد زاد نافع الأخذ والإعطاء، وهذا إذا لم يكن عذر، فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال. قوله: «إن رجلا أكل» ، هذا الرجل هو بسر بضم الباء وبالسين المهملة ابن راعى العير بفتح العين وبالمثناة الأشجعي. كذا ذكره ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني، وابن ماكولا وآخرون، وهو صحابى مشهور عده هؤلاء وغيرهم في الصحابة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم. وأما قول القاضي عياض رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن قوله: ما منعه إلا الكبر، يدل على أنه كان منافقا فليس بصحيح، فإن مجرد الكبر والمخالفة لا يقتضي النفاق والكفر، لكنه معصية إن كان الأمر أمر إيجاب. وفي هذا الحديث جاز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر، وفيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في كل حال، حتى في حال الأكل، واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه (شرح النووي) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] هو بسر بن راعى العير الأشجعي،
روى الدارميّ، وعبد بن حميد، وابن حبان، والطبراني، من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أبصر بسر.(12/97)
ومن حديث محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، أن رجلا كان يأكل عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بشماله، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا استطعت، قال: فما رفعها بعد إلى فيه.
وخرج البيهقي [ (1) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها، فقال: ما لها تأكل بشمالها؟ أخذها داء غزة. فقالت: يا نبي اللَّه إن في يميني قرحة، قال: وإن، قال يزيد: إن سبيعة لما مرت بعزة أصابها الطاعون وقتلها.
قال ابن لهيعة: وأخبرنى عثمان بن نعيم الرعينيّ، عن مغيرة بن نهيك الحجري، عن دخين الحجري، أنه سمع عقبه بن عامر يذكر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
بسر هذا بضم الباء الموحدة وبالسين والراء المهملتين. ذكره ابن مندة وأبو نعيم، وابن ماكولا وعدّ من الصحابة.
وذكر القاضي عياض أن قوله: ما منعه إلا الكبر يدل على أنه كان منافقا.
ورده النووي بأن مجرد الكبر لا يقتضي النفاق والكفر، ولكنه معصية إذا كان الأمر أمر إيجاب [ (2) ] .
__________
[ () ] ابن راعى العير يأكل بشماله فقال: كل بيمينك. فقال: لا أستطيع فقال: لا استطعت فما نالت يمينه إلى فيه بعد.
وفي رواية: فما نالت يده فمه بعد. وقد قيل فيه: بشر بالمعجمة، وبذلك ذكره ابن مندة وأنكر عليه أبو نعيم، ونسبه إلى التصحيف، ولم يحك الدار قطنى وابن ماكولا فيه خلافا أنه بالمهملة، وأما البيهقي فحكى في (السنن) أنه بالمعجمة أصح، وأغرب ابن فتحون فاستدركه فيمن اسمه بشير (الإصابة) : 1/ 291- 292، ترجمة رقم (645) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 239.
[ (2) ] راجع ترجمته السابقة في أول الفصل.(12/98)
وأما استجابة اللَّه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام في الحكم بن مروان
فخرج البيهقي [ (1) ] وغيره من حديث ضرار بن صرد قال: حدثنا عائذ عن حبيب، بن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد اللَّه المزني قال: سمعت عبد الرحمن ابن أبي بكر يقول: كان فلان يجلس إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فإذا تكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بشيء اختلج بوجهه فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كن كذلك، فلم يزل يختلج حتى مات.
ومن حديث عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا صدقة بن أبي سعيد الحنفي عن جميع بن عمير التميمي، قال: سمعت عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما يقول: كنا على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ننتظره فخرج فاتبعناه حتى أتى عقبة من عقاب المدينة، فقعد عليها، [وقال] : يا أيها الناس لا يتلقين أحدكم سوقا، ولا يبيع مهاجر لأعرابى، ومن باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها مثل، أو قال: مثلي لبنها قمحا. قال: ورجل خلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يحاكيه ويلحظه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كذلك كن، قال: فرفع إلى أهله فلبط به شهرين، فغشى عليه، ثم أفاق حين أفاق، وهو كما حكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (2) ] .
ومن حديث السري بن يحيى، عن مالك بن دينار قال: حدثني هند بن خديجة [ (3) ] زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فرآه فقال: اللَّهمّ اجعل به وزغا، فزحف مكانه، [والوزغ ارتعاش] [ (4) ] .
وقال أبو القاسم البغوي: عن محمد بن إسحاق بإسناده، قال: مر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالحكم، فجعل [الحكم] [ (5) ] يغمز [النبي] [ (6) ] بإصبعه، ثم ذكر الباقي.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 239.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 239- 240.
[ (3) ] هو هند بن أبي هالة.
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : 240.
[ (6) ] (المرجع السابق) : 240.(12/99)
وقال ابن عبد البر في ترجمة الحكم بن أبي العاصي [ (1) ] بن أميه بن عبد شمس، ذكروا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا مشى يتكفأ، فكان الحكم بن أبي العاص يحكيه، فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوما، فرآه يفعل ذلك، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: فكذلك فلتكن، وكان
__________
[ (1) ] هو الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي، عم عثمان بن عفان، أبو مروان بن الحكم، كان من مسلمة الفتح، وأخرجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من المدينة وطرده عنها، فنزل الطائف، خرج معه ابنه مروان. وقيل: إن مروان ولد بالطائف إلى أن ولى عثمان، فرده عثمان إلى المدينة، وبقي فيها وتوفى في آخر خلافة عثمان، قبل القيام على عثمان بأشهر فيما أحسب، واختلف في السبب الموجب لنفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إياه، فقيل: كان يتحيل ويستخفى ويتسمع ما يسره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى كبار الصحابة في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين، فكان يفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عليه، وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته، إلى أمور غيرها كرهت ذكرها.
ذكروا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا مشى يتكفأ، وكان الحكم بن أبي العاصي يحكية، فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوما فرآه يفعل ذلك. فقال صلّى اللَّه عليه وسلم:
فكذلك فلتكن، فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ فعيره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه:
إن اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلّجا مجنونا
يمسى خميص البطن من عمل التقي ... ويظل من عمل الخبيث بطينا
فأما قول عبد الرحمن بن حسان: إن اللعين أبوك، فروى عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره أنها قالت لمروان، إذ قال في أخيها عبد الرحمن ما قال [لما امتنع عن البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد] : أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه. وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عثمان بن حكيم، قال: حدثنا شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدخل عليكم رجل لعين. قال عبد اللَّه: وكنت قد تركت عمرا يلبس ثيابه ليقبل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلم أزل مشفقا أن يكون أول من يدخل فدخل الحكم بن أبي العاصي.
(الاستيعاب) : 1/ 359- 360، ترجمة رقم (529) .(12/100)
الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ،
فعيره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه:
إن اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمسى خميص البطن من عمل التقى ... ويظل من عمل الخبيث بطينا(12/101)
وأما استجابة اللَّه تعالى دعاء رسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلم على قريش حين تظاهروا عليه بمكة حتى أمكنه اللَّه منهم وقتلهم يوم بدر بسيوف اللَّه
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث زكريا، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأزدي، عن ابن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [يصلى] [ (2) ] عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا [ (3) ] جزور بنى فلان، فيأخذه، فيضعه في بين كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فأخذه، فلما سجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وضعه بين كتفيه! قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم، أنظر ولو كان لي منعة طرحته على ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان، فأخبر فاطمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم.
فلما قضى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: اللَّهمّ عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: اللَّهمّ عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط.
وذكر السابع [ (4) ] ، ولم أحفظه، فو الّذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 393- 394، كتاب الجهاد والسير، باب (39) ما لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم (107) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] هي الجلدة التي يكون فيها الولد من البهائم، وأما من الآدميات فهي المشيمة. وفي رواية:
«فيعمد إلى فرثها، ودمها، وسلاها» .
[ (4) ] السابع هو عمارة بن الوليد كما وقع في رواية (البخاري) .(12/102)
قال مسلم: الوليد بن عقبة: غلط في هذا الحديث. قال كاتبه: وقع في رواية في كتاب مسلم: الوليد بن عقبة والصواب الوليد بن عقبه بن ربيعة.
وخرجه البخاري من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساجد. ومن حديث إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق قال: حدثني عمرو بن ميمون أن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حدثه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى [ (1) ] جزور بنى فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا انظر لا أغنى [ (2) ] شيئا لو كانت لي منعة.
قال: فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض [ (3) ] ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساجد [ (4) ] لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللَّهمّ عليك بقريش ثلاث مرات، فشق عليهم، قال وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى، اللَّهمّ عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط وعد السابع، فلم يحفظه قال: فو الّذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر. ذكره في كتاب (الطهارة) في باب إذا ألقى على ظهر المصلّى قذرا وجيفة لم تفسد عليه صلاته [ (5) ] .
__________
[ (1) ] سبق شرحها، وهي تمد وتقصر.
[ (2) ] في (الأصل) : «أغير» وما أثبتناه من (البخاري) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (5) ] باب (69) ، حديث رقم (240) ، وفي الأصل: (كتاب الطهارة) . وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيما، وفيه معرفة الكفار بصدقة صلّى اللَّه عليه وسلم لخوفهم من دعائه، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له، وفيه حلمه صلّى اللَّه عليه وسلم عمن أذاه، ففي رواية الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث أن ابن مسعود قال لم أره دعا عليهم إلا يومئذ.(12/103)
وخرّج في كتاب الصلاة أيضا [ (1) ] من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يصلّى عند الكعبة
__________
[ () ] وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما أقدموا عليه من الاستحقاق به حال عبادة ربه، وفيه استحباب الدعاء ثلاثا، وفيه جواز الدعاء على الظالم، ولكن قال بعضهم: محله ما إذا كان كافرا، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له، والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكفار لما كان بعيدا لاحتمال أن يكون اطلع صلّى اللَّه عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعى لكل حي بالهداية. وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها، لشرفها في قومها ونفسها، لكونها صرحت بشتمهم وهم رءوس قريش، فلم يردوا عليها. وفيه أن المباشرة آكد من السب والإعانة لقوله في عقبة «أشقى القوم» ، مع أنه كان فيهم أبو جهل، وهو أشد منه كفرا وأذى للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، لكن الشقاء هنا بالنسبة إلى هذه القصة لأنهم اشتركوا في الأمر والرضا، وانفرد عقبه بالمباشرة فكان أشقاهم ولهذا قتلوا في الحرب، وقتل هو صبرا. واستدل به على أن من حدث له في الصلاة ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته ولو تمادى، وعلى هذا ينزل كلام المصنف، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها صحت اتفاقا، واستدل به على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف، وحمله على ما سبق أولى. وتعقب الأول بأن الفرث لم يفرد، بل كان مع الدم كما في رواية إسرائيل، والدم نجس اتفاقا، وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخلي السلى وجلدة السلى الظاهرة طاهرة. فكان كحمل القارورة المرصصة وتعقب بأنها ذبيحة وثني، فجميع أجزائها نجسة لأنها ميتة، وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم، وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفى فيه الاحتمال، وقال الإمام النووي: الجواب المرضى أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابا لأصل الطهارة، وتعقب بأنه يشكل على قولنا بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة. وأجاب بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة، فالوقت موسع، فلعله صلّى اللَّه عليه وسلم أعاد، وتعقب بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن اللَّه تعالى لا يقره على التمادي في صلاة فاسدة، وقد تقدم أنه صلّى اللَّه عليه وسلم خلع نعليه وهو في الصلاة، لأن جبريل أخبره أن فيهما قذرا، ويدل على أنه علم بما ألقي على ظهره أن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقب هو صلاته بالدعاء عليهم.
(فتح الباري) .
[ (1) ] باب (109) المرأة تطرح عن المصلّى شيئا من الأذى، حديث رقم (520) .(12/104)
وجمع قريش في مجالسهم، إذا قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي! أيكم يقوم إلى جزور آل فلان [ (1) ] ، فيعمد إلى فرثها، ودمها، وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق [ (2) ] إلى فاطمة وهي جويرية، فأقبلت تسعى وثبت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم،
فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الصلاة قال: اللَّهمّ عليك بقريش [ثلاثا] ، ثم سمى: اللَّهمّ عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد.
قال عبد اللَّه: فو اللَّه لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: وأتبع أصحاب القليب لعنة.
ترجم عليه باب المرأة تطرح عن المصلّى شيئا من الأذى.
وأخرجاه معا من حديث شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه قال: بينما رسول اللَّه ساجد وحوله ناس من قريش إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام، فأخذته عن ظهره، ودعت على من صنع ذلك.
فقال: اللَّهمّ عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف أو أبي بن خلف [شعبة الشاك] . قال: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر،
فألقوا في بئر غير أن أمية أو أبيا تقطعت أوصاله، فلم يلق في بئر. اللفظ لمسلم، ولفظ البخاري قريب منه [ (3) ] . وفي
__________
[ (1) ] يشبه أن يكون آل معيط لمبادرة عقبة بن أبي معيط إلى إحضار ما طلبوه منه، وهو المعنى بقوله: أشقاهم.
[ (2) ] يحتمل أن يكون هو بن مسعود الراويّ.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 347، كتاب الجزية والموادعة، باب (21) طرح جيف المشركين في البئر، ولا يؤخذ لهم ثمن، حديث رقم (3185) ، (مسلم بشرح النووي) : 12/ 394- 395، كتاب الجهاد والسير، باب (39) ما لقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم (108) .(12/105)
حديث عبدان غير أمية أو أبي فإنه كان رجلا ضخما، فلما جروه تقطعت أوصاله قبل أن يلقى في البئر [ (1) ] .
وخرجاه أيضا من حديث سفيان الثوري، عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحوه [ (2) ] ، وزاد مسلم، وكان يستحب ثلاثا يقول: اللَّهمّ عليك بقريش، اللَّهمّ عليك بقريش، اللَّهمّ عليك بقريش ثلاثا [ (3) ] . وذكر فيهم الوليد بن عتبة وأمية بن خلف لم يشك، قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.
وسياق البخاري في كتاب الجهاد عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في ظل الكعبة، فقال أبو جهل وناس من قريش ونحرت جزور بناحية مكة، فأرسلوا، فجاءوا من سلاها وطرحوا عليه، فجاءت فاطمة فألقته عنه قال: اللَّهمّ عليك بقريش، اللَّهمّ عليك بقريش، اللَّهمّ عليك بقريش، لأبى جهل وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وأبيّ بن خلف، وعقبة بن أبي معيط. قال عبد اللَّه: فلقد رأيتهم في قليب بدر قتلى. قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.
قال أبو عبد اللَّه: قال يوسف بن أبي إسحاق: أمية بن خلف وقال شعبه:
أمية أو أبي، والصحيح أمية. ذكره في باب الدعاء على المشركين [ (4) ] . وخرجاه أيضا من حديث زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق. فذكره البخاري في أول المغازي في غزوة بدر [ (5) ] ومن حديث زهير قال أبو إسحاق: عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: استقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الكعبة، فدعا على نفر
__________
[ (1) ] ذكره في كتاب مناقب الأنصار، باب (29) ما لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة، حديث رقم (3854) .
[ (2) ] ذكره في كتاب الجهاد والسير، باب (98) الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، حديث رقم (2934) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 395، كتاب الجهاد والسير، باب (39) ما لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم (109) .
[ (4) ] باب (9) ، حديث رقم (2934) .
[ (5) ] باب (7) دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على كفار قريش: شيبة وعتبة، والوليد، وأبي جهل بن هشام، وهلاكهم، حديث رقم (3960) .(12/106)
من قريش على شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبى جهل ابن هشام، فأشهد باللَّه لقد رأيتهم صرعى، قد غيرتهم الشمس، وكان يوم حار.
وسياق مسلم له من حديث زهير قال: حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه قال: استقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم البيت، فدعا على ستة نفر من قريش، فيهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، فأقسم باللَّه لقد رأيتهم صرعى على بدر، قد غيرتهم الشمس، وكان [يوما] حارا [ (1) ] .
وخرّج البيهقي [ (2) ] من طريق أبي نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم قال: أخبرنى سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: جاءت فاطمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تبكى، فقالت: تركت الملأ من قريش تعاقدوا في الحجر، فحلفوا باللات، والعزى، وإساف، ونائلة، إذا هم رأوك يقومون إليك، فيضربونك بأسيافهم، فيقتلوك، وليس فيهم رجل إلا قد عرف نصيبه منك.
قال: لا تبكى يا بنية، ثم قام فتوضأ، ثم أتاهم، فلما نظروا إليه طأطئوا، ونكسوا رءوسهم إلى الأرض، فأخذ كفا من تراب، فرماهم به، ثم قال: شاهت الوجوه. قال ابن عباس: ما أصاب ذلك التراب منهم أحدا إلا قتل يوم بدر كافرا.
__________
[ (1) ] باب (39) ما لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم (110) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 240- 241.(12/107)
وأما إقعاد من مرّ بين يدي الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يصلي بدعائه عليه
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث أبي سلمة قال: حدثنا البيهقي من حديث عمرو بن أبي سلمة قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: حدثني مولى ابن نمران، عن يزيد بن نمران قال: رأيت معقدا بتبوك، فسألته عن إقعاده، فقال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي، فمررت بين يديه، فقال: قطع صلاتنا قطع اللَّه أثره، قال: فقعدت، قال: وكان علي أتان أو حمار.
وخرجه أبو داود من حديث وكيع، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران قال: رأيت رجلا بتبوك مقعدا، فقال:
مررت بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا على حمار، وهو يصلي، فقال: اللَّهمّ اقطع أثره، فما مشيت عليهما بعد [ (2) ] .
وذكره أبو داود من حديث أبي حيوة، عن سعيد بإسناده ومعناه وزاد.
فقال: قطع صلاتنا قطع اللَّه أثره [ (3) ] .
وذكره أيضا من حديث ابن وهب قال: أخبرني معاوية عن سعيد بن غزوان، عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو خارج، فإذا رجل مقعد، فسألته عن أمره، فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت إلي حىّ إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نزل بتبوك إلي نخلة فقال: هذه قبلتنا، ثم صلي إليها، فقال: فأقبلت وأنا غلام
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 241، ثم قال البيهقي: وقد رويناه في غزوة تبوك من وجهين آخرين عن سعيد بن عبد العزيز، وروي أن واحدا من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دعا علي كلب مر بهم وهم في الصلاة فمات في الحال.
[ (2) ] (سنن أبي دواد) : 1/ 454، كتاب الصلاة، باب (110) ما يقطع الصلاة، حديث رقم (705) ، وفي إسناده مجهول هو مولى سعيد بن غزوان.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (706) .(12/108)
أسع، حتى مررت بينه وبينهما، فقال: قطع صلاتنا، فقطع اللَّه أثره، قال:
فما قمت إلى يومي هذا [ (1) ] .
وأما موت الكلب بدعاء بعض من كان يصلي معه صلّى اللَّه عليه وسلم حين أراد المرور بين يديه
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث سليمان بن طريف السلمي، عن مكحول، عن أبي الدرداء رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فصلى بنا العصر في يوم جمعة، إذ مر بهم كلب، فقطع عليهم الصلاة، فدعا عليه رجل من القوم، فما بلغت رجله الأرض حتى مات، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
من الداعي على هذا الكلب آنفا؟ فقال: رجل من القوم: أنا يا رسول اللَّه، قال:
والّذي بعثني بالحق لقد دعوت اللَّه باسمه الّذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ولو دعوت بهذا الاسم لجميع أمة محمد أن يغفر لهم لغفر لهم.
قالوا: كيف دعوت قال: قلت: اللَّهمّ إني أسالك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام اكفنا هذا الكلب بما شئت، وكيف شئت، فما برح حتى مات [ (3) ] .
ومن حديث عمر بن ذر قال: أخبرنا يحيى بن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة الأنصاري أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان في صلاة العصر يوم الجمعة فسبح كلب أحمر بين يديه، فمر الكلب فمات قبل أن يمر بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أقبل على القوم بوجهه، فقال: أيكم دعا على هذا
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (707) ، وإسناده ضعيف، قال ابن القطان: سعيد بن غزوان مجهول.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 241- 242.
[ (3) ] قال البيهقي: وله شاهد من وجه آخر كذلك مرسلا مختصرا.(12/109)
الكلب؟ فقال رجل من القوم: أنا دعوت عليه يا رسول اللَّه! فقال عليه السلام:
دعوت عليه في ساعة يستجاب فيها الدعاء [ (1) ] .
فهذا حديث مرسل.
وأما تشتت رجل في الأرض بدعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث حنبل بن إسحاق قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثتنا أم الأسود الخزاعية، قالت: حدثتني أم نائلة الخزاعية قالت:
حدثتني بريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سأل عن رجل يقال له قيس، فقال: لا أقرته الأرض، فكان لا يدخل أرضا يستقر بها، حتى يخرج منها.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 242.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 242- 243.(12/110)
وأما إجابة اللَّه دعوة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم على معاوية بن أبي سفيان [ (1) ] بعدم الشبع
__________
[ (1) ] هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أمير المؤمنين، ملك الإسلام. أبو عبد الرحمن القرشي الأموي المكيّ. أمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وقيل: إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف اللحاق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، من أبيه، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم الفتح، حدث عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكتب له مرات يسيرة،
وحدث أيضا عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة، وعن أبي بكر وعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما. عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني- وكان من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال لمعاوية: «اللَّهمّ علمه الكتاب والحساب وقه العذاب.
وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق. قال خليفة:
جمع عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه الشام كلها لماوية وأقره عثمان، قلت: حسبك بمن يؤمره عمر، ثم عثمان على إقليم- وهو ثغر- فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك. وإن كان غيره من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خيرا منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد، وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، واللَّه الموعد. وكان محببا إلى رعيته، عمل نيابة الشام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغير ذلك. قال أحمد بن حنبل: فتحت قيسارية سنة تسع عشرة، وأميرها معاوية، وقال يزيد بن عبيدة غزا معاوية قبرص سنة خمس وعشرين. وقال الزهري: نزع عثمان عمير بن سعد، وجمع الشام لمعاوية. وأقبل معاوية في أهل الشام، فالتقوا، فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن جعل له العهد بالخلافة من بعده. ثم إن معاوية أجاب إلى الصلح وسر بذلك، ودخل هو والحسن الكوفة راكبين، وتسلم معاوية الخلافة في ربيع الآخر، وسمى عام الجماعة لاجتماعهم على إمام، وهو عام أحد وأربعين.(12/111)
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث أمية بن خالد قال: حدثنا شعبة عن أبي حمزة القصاب، عن ابن عباس قال: كنت مع الصبيان، فجاء فحطأني حطأه، وقال:
اذهب ادع معاوية، قال: فجئته فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع معاوية، فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع اللَّه بطنه. قال ابن مثنى:
قلت لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدني قفده [ (2) ] .
__________
[ () ] مجالد: عن الشعبي عن قبيصة بن جابر، قال صحبت معاوية، فما رأيت رجلا أثقل حلما، ولا أبطأ جهلا، ولا أبعد أناة منه. قال الزبير بن بكار: كان معاوية أول من اتخذ الديوان للختم وأمر بالنيروز والمهرجان، واتخذ المقاصير في الجامع، وأول من قتل مسلما صبرا، وأول من قام على رأسه حرس، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخدام الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، وكان يقول:
أنا أول الملوك. قلت: نعم،
فقد روى سفينة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا،
فانقضت خلافة النبوة ثلاثين عاما وولى معاوية، فبالغ في التجمل والهيئة، وقل أن بلغ سلطان إلى رتبته، وليته لم يعهد بالأمر إلى ابنه يزيد، وترك الأمة من اختياره لهم، ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو ببريء من الهنات، واللَّه تبارك وتعالى يعفو عنه. مسندة في (مسند بقي) مائة وثلاثة وستون حديثا، وقد عمل الأهوازي مسندة في مجلد، واتفق له البخاري ومسلم علي أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة. قال أبو مسهر: صلي الضحاك بن قيس الفهري على معاوية، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير فيما بلغني. قال أبو معشر، والليث، وعدة: مات معاوية في رجب سنة ستين، وقيل: في نصف رجب وقيل: لثمان بقين منه. وعاش سبعا وسبعين عاما. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 89- 91، ترجمة رقم (257) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 392- 393، كتاب البر والصلة والآداب، باب (25) من لعنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاه وأجرا ورحمة، حديث رقم (97) .
[ (2) ] وفسر الراويّ: أي قفدني أو حطأني، فبحاء ثم طاء مهملتين وبعدها همزة، وقفدني بقاف ثم فاء ثم دال مهملة. وقوله: حطأة، بفتح الحاء وإسكان الطاء بعدها همزة، وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين، وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيسا، وأما دعاؤه علي معاوية أن لا يشبع(12/112)
وخرجه أيضا من حديث إسحاق بن منصور قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: حدثنا شعبة حدثنا أبو حمزة قال: سمعت ابن عباس يقول كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاختبأت منه. فذكر الحديث بمثله [ (1) ] .
وقال البيهقي: وقد روى عن أبي عوانه عن أبي حمزة أنه استجيب له فيما دعا في هذا الحديث على معاوية. وذكر من حديث موسى بن إسماعيل قال:
حدثنا أبو عوانة، عن أبي حمزة قال: سمعت ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد جاء فقلت: ما جاء إلا إليّ، فاختبأت على باب، فجاء فحطأني حطأة فقال: اذهب فادع لي معاوية، وكان يكتب الوحي، قال:
فذهبت فدعوته له، فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته، فقال:
فاذهب فادعه فأتيته، فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع اللَّه بطنه، قال فما شبع بطنه أبدا.
قال البيهقي: وروي عن هزيم عن أبي حمزة في هذا الحديث زيادة تدل على الاستجابة [ (2) ] .
__________
[ () ] حين تأخر، ففيه الجوابان السابقان: أحدهما: أنه جرى على اللسان بلا قصد، والثاني: أنه عقوبة له لتأخيره. وقد فهم مسلم رحمة اللَّه من هذا الحديث، أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه في الحقيقة يصير دعاء له. وفي هذا الحديث جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام، وفيه اعتماد الصبي فيما يرسل فيه من دعاء إنسان ونحوه، من حمل هدية، وطلب حاجة، وأشباهه، وفيه جواز إرسال صبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا، ولا يقال: هذا تصرف في منفعة الصبي، لأن هذا قدر يسير، ورد الشرع بالمسامحة به للحاجة، واطرد به العرف، وعمل المسلمين، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (98) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 242- 243.(12/113)
وأما استجابة اللَّه تعالى لرسوله اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قوله لرجل: ضرب اللَّه عنقه
فقال الواقدي [ (1) ] : وحدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن جابر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فذكر غزوة ذات الرقاع إلى أن قال: وقد جهرنا صاحبا لنا يرعى ظهرنا وعليه ثوب متخرق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أما له ثوب غير هذا؟ فقلنا: بلي يا رسول اللَّه إن له ثوبين جديدين في العيبة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذ ثوبيك، فأخذ ثوبيه فلبسهما، ثم أدبر فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أليس هذا أحسن؟ ما له! ضرب اللَّه عنقه، فسمع ذلك الرجل فقال: في سبيل اللَّه يا رسول اللَّه؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: في سبيل، فقال جابر: فضربت عنقه بعد ذلك في سبيل اللَّه.
وخرج الحاكم [ (2) ] من طريق سعيد بن سليمان الواسطي، حدثنا الليث بن سعد، عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن جابر قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في بعض مغازيه، فخرج رجل في ثوبين متخرقين يريد أن يسوق بالإبل، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما له ثوبا غير هذا؟ قيل: إن في عيبته ثوبين جديدين، قال: ائتوني بعيبته ففتحها فإذا فيها ثوبان فقال للرجل:
خذ هذين البسهما وألق المتخرقين، ففعل، ثم ساق بالإبل، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أثره كالمتعجب من بخلة على نفسه بالثوبين، فقال له: ضرب اللَّه عنقك، فالتفت إليه الرجل وقال: في سبيل اللَّه؟ فقتل يوم اليمامة:
قال الحاكم [ (3) ] : هذا
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 398، وجهرنا أي صبحنا.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 203، كتاب اللباس، حديث رقم (7369) ، (7370) .
[ (3) ] ثم قال: حدثناه أبو العياس محمد بن يعقوب، حدثنا بحر بن نصر، قال عبد اللَّه بن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : ورواه مالك عن زيد بن أسلم عن جابر نفسه.
وأخرجه الإمام مالك في (الموطأ) : 654، كتاب الجامع، باب ما جاء في لبس الثياب للجمال(12/114)
حديث صحيح على شرط مسلم، قد احتج في غير موضع بهشام بن سعد. ولم يخرجاه، إلا أن الحديث عند مالك بن أنس عن يزيد بن أسلم عن جابر.
وأما استجابة اللَّه تعالى دعاءه صلّى اللَّه عليه وسلم على من احتكر الطعام
فقد خرج البيهقي [ (1) ] من حديث الهيثم بن رافع الباهلي حدثنا أبو يحيى، عن فروخ مولى عثمان، قال: ألقي على باب مسجد مكة طعام كثير وعمر يومئذ أمير المؤمنين، فخرج إلي المسجد فرأى الطعام فقال: ما هذا الطعام؟
قالوا: طعام جلب إلينا، قال: بارك اللَّه فيه وفيمن جلبه إلينا، قالوا: يا أمير المؤمنين قد احتكر. قال: من احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان وفلان مولاك، قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللَّه بالجذام أو بالإفلاس،
قال فروخ: أعاهد اللَّه يا أمير المؤمنين ألا أعود، فحول تجارته إلى بر مصر، وأما مولى عمر فقال: نشتري بأموالنا ونبيع، فزعم أبو يحيى أنه رأى مولى عمر بعد حين مجذوما، وذلك رواه جماعة عن الهيثم، وأبو يحيى هو مكي.
__________
[ () ] بها، حديث رقم (1645) ، لكن بسياقة أتم. وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 244، باب ما جاء في قوله للرجل ضرب اللَّه عنقه في سبيل اللَّه، فقتل الرجل في سبيل اللَّه!.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 246. باب ما جاء في دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم علي من احتكر بالجذام وإجابة اللَّه تعالى دعاءه فيمن احتكر من زمان عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقال في هامشه: نقله السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 127 وعزاه إلى المصنف.(12/115)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاءه صلّى اللَّه عليه وسلم على أبي ثروان
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه عن جده، عن أبي ثروان قال: كان أبو ثروان راعيا لبني عمرو بن تيم في إبلهم، فخاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من قريش، فخرج فنظر إلى سواد الإبل فقصد له، فإذا هي إبل، فدخل بين الأراك، فجلس، فنفرت الإبل، فقام أبو ثروان فأطاف بالإبل فلم ير شيئا، ثم تخللها، فإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالس، فقال له:
من أنت فقد أنفرت على إبلي، فقال: لم ترع، أردت أن أستأنس بإبلك، فقال أبو ثروان: من أنت؟ قال: لا تسأل، رجل أردت أن أستأنس إلى إبلك، فقال: إني أراك الرجل الّذي يزعمون أنه خرج نبيا فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أجل، فأدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال أبو ثروان: اخرج، فلا تصلح إبل أنت فيها، وأبي أن يدعه، فدعا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اللَّهمّ أطل شقاءه وبقاءه.
قال عبد الملك: قال أبي: فأدركته شيخا كبيرا يتمنى الموت، فقال له القوم: ما نراك إلا قد هلكت، دعا عليك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: كلا، إني قد أتيته بعد حين ظهر الإسلام، فأسلمت معه، فدعا لي واستغفر، ولكن الأولى قد سبقت.
قال ابن عبد البر: أبو ثروان روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وروى عنه عنترة أبو وكيع.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 452- 453، دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم علي أبي ثروان بطول الشقاء والبقاء، حديث رقم (377) ، باختلاف يسير.(12/116)
وأما افتراس الأسد عتيبة بن أبي لهب بدعاء المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم ربه عز وجل أن يسلط عليه كلبا من كلابه
فخرج الحارث بن أبي أسامه من حديث الأسود بن شيبان، قال أبو نوفل، عن أبيه قال: كان عتيبة بن أبي لهب يسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اللَّهمّ سلط عليه كلبك،
قال: فخرج يريد الشام في قافلة مع أصحابه، قال:
فنزلوا منزلا، فقال: واللَّه إني لأخاف دعوة محمد، فقالوا له: كلا، قال:
فحطوا المتاع حوله، وقعدوا يحرسونه، فجاء السبع فانتزعه، فذهب به.
وقال سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن عثمان بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن هبار بن الأسود، قال: كان أبو لهب وابنه عتيبة قد تجهزا إلي الشام، وتجهزت معه، فقال ابنه عتيبة: لأنطلقنّ إليه، ولأوذينه في ربه، فانطلق حتى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: يا محمد هو يكفر بالذي دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ ابعث عليه كلبا من كلابك،
ثم انصرف عنه، فرجع إليه، فقال: أي بني! ما قلت له؟ قال:
كفرت بإلهه الّذي يعبد، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال: اللَّهمّ ابعث عليه كلبا من كلابك، قال: أي بني! واللَّه ما آمن عليك دعوة محمد، قال: فسرنا حتى نزلنا الشراة- وهي مأسدة- فنزلنا إلى صومعة راهب فقال: يا معشر العرب! ما أنزلكم هذه البلاد وإنها مسرح الضيغم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم سني وحقي؟ قلنا: أجل، فقال: إن محمدا قد دعا على ابني دعوة، واللَّه لا آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلي هذه الصومعة، ثم افترشوا لابني عتيبة عليه، ثم افترشوا حوله.
قال: ففعلنا، جمعنا المتاع حتى ارتفع، ثم فرشنا له عليه، وفرشنا حوله فبتنا نحن حوله، وأبو لهب معنا أسفل، وبات هو فوق المتاع، فجاء الأسد، فشم وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد، تقبض ثم وثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه، ثم هزمه هزمة فنضخ رأسه، فقال: سبعي يا كلب لم(12/117)
يقدر على غيرك، ووثبنا، فانطلق الأسد، وقد نضخ رأسه، فقال أبو لهب: قد عرفت واللَّه ما كان لينفلت من دعوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق في كتاب (المغازي) عن يزيد بن زياد، عن محمد ابن كعب القرظي، وعن عثمان بن عروة بن الزبير، عن رجال من أهل بيته، قالوا: كانت بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عند عتيبة بن أبي لهب، فطلقها، فلما أراد الخروج إلى الشام قال: لآتين محمدا وأوذينه في ربه، قال: فأتى فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ثم تفل في وجهه، ثم رد عليه ابنته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ سلط عليه كلبا من كلابك.
قال: وأبو طالب حاضر، فوجم عنها وقال: ما أغناك عن دعوة ابن أخي، فرجع إلي أبيه فأخبره بذلك، وخرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير، فقال لهم: هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب:
يا معشر قريش اغنونا هذه الليلة، فإنّي أخاف عليه دعوة محمد فجمعوا أحمالهم، ففرشوا لعتيبة في أعلاها، وناموا حوله، فجاء الأسد، فجعل يشم وجوههم، ثم ثني ذنبه، فوثب، عنه فضربه بذنبه ضربه واحدة، فخدشه، فقال: قتلني، ومات مكانه، فقال حسان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
سائل بني الأشعر جئتهم ... ما كان أنباء أبي واسع
لا وسع اللَّه له قبره ... بل ضيق اللَّه على القاطع
رحم نبي جده ثابت ... يدعو إلى نور اللَّه ساطع
أسبل بالحجر لتكذيبه ... دون قريش نهزة القاذع
فاستوجب الدعوة منه بما ... تبين للناظر والسامع
أن سلط اللَّه بها كلبه ... يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه وسط أصحابه ... وبه علتهم سنة الهاجع
فالتقم الرأس من يافوخه ... والنحر منه فغرة الجائع
[ (1) ]
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 454- 457، قصة عتيبة بن أبي لهيب، حديث رقم (380) ، (381) ، حديث رقم (383) .(12/118)
[أسلمتموه وهو يدعوكم ... بالنسب الأدنى وبالجامع]
[والليث يعلوه بأنيابه ... منعفرا وسط الدم الناقع]
[لا يرفع الرحمن مصروعكم ... ولا يوهن قوة الصارع]
[من يرجع العام إلي أهله ... فما أكيل السبع بالراجع]
[قد كان فيه لكم عبرة ... للسيد المتبوع والتابع]
[من عاد فالليث له عائد ... أعظم به من خبر شائع
[ (1) ]]
وقال الواقدي: حدثني معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: تلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قال عتيبة بن أبي لهب كفرت برب النجم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سلط اللَّه عليك كلبا من كلابه.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: خرج عتيبة مع أصحابه في عير إلى الشام، حتى إذا كانوا بالشام، فزأر الأسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: من أي شيء ترعد؟ فو اللَّه ما نحن وأنت إلا سواء، فقال: إن محمدا دعا عليّ، لا واللَّه ما أظلت هذه السماء على ذي لهجة أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه، ثم جاء النوم فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم، وناموا. فجاءهم الأسد يهمس يستنشق رءوسهم رجلا رجلا، حتى انتهى اليه، فضغمه ضغمة كانت إياها، ففزع وهو بآخر رمق وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس؟ ومات [ (2) ] .
وقال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا إسرائيل عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى، قال: أراد ابن أبي لهب أن يأتي بتجارته إلى الكعبة، فقال:
__________
[ (1) ] الأبيات التي بين الحاصرتين زيادة للسياق من (ديوان حسان بن ثابت) : 162- 163، قصيدة رقم (53) ،
وفيه: وقال حسان لعتبة بن أبي لهيب- وكان يكنى أبا واسع- وكان شديد الإيذاء للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ سلط عليه كلبا من كلابك.
وخرج أبو واسع في سفر له، ومعه عدة من قومه فتخطى إليه السبع من بينهم حتى أكله.
(المرجع السابق) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 457- 458، حديث رقم (383) ، وقال محقق (الدلائل) : لم أجده عن غير أبي نعيم، وهو مرسل ومن رواية الواقدي.(12/119)
أنا أكفر بمن قال: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: عسى أن يرسل عليه كلبا من كلابه،
فبلغ ذلك والده أبا لهب، فأوصى أصحابه، فقال: إذا نمتم فاجعلوه وسطكم، ففعلوا، حتى إذا كانت ذات ليله، بعث اللَّه تعالى سبعا فقتله.
ذكر ذلك أبو نعيم.
وأما أن دعوته صلّى اللَّه عليه وسلم تدرك ولد الولد
فخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث وكيع، قال: أنبأنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابن لحذيفة عن أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 533، حديث رقم (22766) .(12/120)
وأما كفاية المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم كيد سراقة بقوله صلّى اللَّه عليه وسلم اللَّهمّ اصرعه
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث الليثي عن عقيل، قال: قال ابن شهاب:
فأخبرني عروة ابن الزبير، أن عائشة رضي اللَّه وتبارك وتعالى عنها قالت:
لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان بالدين، فذكر الحديث إلى أن قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك ابن جعشم، أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءتنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبي بكردية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له:
إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا يبغون ضالة لهم.
ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي، أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها عليّ. وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجة الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي إلي كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها، أضرهم أم لا.
فخرج الّذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي حتى بلغتا الراكبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمه إذ لأثر يدها غثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الّذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم،
ووقع في نفسي- حين لقيت ما ألقيت من الحبس عنهم- أن سيظهر أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت له:
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 11/ 587- 588، كتاب ذكر الهجرتين، حديث رقم (9203) .(12/121)
إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني شيئا، ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا ما استطعت، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرج أيضا من حديث عبد الصمد [ (1) ] قال: حدثني أبي، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: قال: أقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه شيخ يعرف، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقي الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر! من هذا الرجل الّذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني السبيل هو الخير،
فالتفت أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال:
يا رسول اللَّه هذا فارس قد لحقنا، فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اللَّهمّ اصرعه، فصرعته فرسه، فقال: يا نبي اللَّه، مرني بما شئت، فقال: قف مكانك، لا تتركن أحدا يلحق بنا،
قال: فكان أول النهار جاهدا [ (2) ] على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة له [ (3) ] . وذكر الحديث.
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبه قال: سمعت أبا إسحاق الهمدانيّ يقول: سمعت البراء يقول: لما أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة، قال: تبعه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: فدعا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فساخت [قوائم] فرسه، فقال: ادع اللَّه لي ولا أخبر بك، فدعا اللَّه.
الحديث [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (9206) .
[ (2) ] الجاهد: المبالغ الباذل غاية ما يقدر عليه.
[ (3) ] المسلّحة: قوم ذوو سلاح، والمسلحة أيضا ك كالثغر، والمرقب، وهو الموضع الّذي يقيم فيه قوم يحفظون من ورائهم من العدو، لئلا يهجموا غليهم، ويدخلوا إليهم، وهو بالأعجمية:
اليزك. (جامع الأصول) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 596- 597، حديث رقم (9204) .(12/122)
وخرجا من حديث البراء مطولا، وفيه: ثم قال: ألم يأن للرحيل؟ قلت بلى، قال: فارتحلنا بعدا ما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، قال:
ونحن في جدد من الأرض، فقلت: يا رسول اللَّه أتينا، فقال: لا تحزن إن اللَّه معنا،
فدعا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي، فادع اللَّه لي، فاللَّه لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا اللَّه فنجا، فرجع لا يلقي أحدا إلا رده. اللفظ المسلم.
وفي لفظ لهما: فلما دنا دعا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه،
وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع اللَّه لي أن يخلصني مما أنا فيه، ولك على لأعمين على من ورائي، وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك ستمر على إبلي وغلماني، بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، قال: لا حاجة لي في إبلك [ (1) ] .
وذكر أبو نعيم [ (2) ] عن محمد بن إسحاق أنه قال: قال أبو بكر الصديق رضي اللَّه وتبارك وتعالى عنه فيما يزعمون- واللَّه تعالى أعلم- في دخوله الغار مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومسيره معه حين ساروا، في طلب سراقة بن جعشم إياهم:
قال النبي ولم أجزع يوقرني ... ونحن في سدنة في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن اللَّه ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفار
واللَّه مهلكهم طرا بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار
وأنت مرتجل عنهم وتاركهم ... إما غدوا وإما مدلج سار
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا ... قوم عليهم ذوو عز وأنصار
حتى إذا الليل وارانا جوانبه ... وسد من دون من نخشى بأستار
سار الأريقط يهدينا وأنيقه ... ينعبن بالقوم نعبا تحت أكوار
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 598.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 334- 336، حديث رقم (237) ، وما بين الحاصرتين تصويبات منه.(12/123)
يعسفن عرض الثنايا بعد أطولها ... وكل سهب دقيق الترب موار
حتى إذا قلت قد أنجدن عارضنا ... من مدلج فارس في منصب وار
يردي به مشرف الأقطار معترم ... كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري
فقال كروا، فقلنا إن كرتنا ... من دونها لك نصر الخالق الباري
إن تخسف الأرض بالأخرى وفارسها ... فانظر إلى مربع في الأرض خوار
فهيل لما رأى أرساغ مقربة ... قد سخن في الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلوا فرسي ... وتأخذوا موثقي في نصح أسرار
وأصرف الحي عنكم إن لقيتهم ... وأن أعور منهم عين عواد
فادع الّذي هو عنكم كف عدوتنا ... يطلق جوادي فأنتم خير أبرار
فقال قولا رسول اللَّه مبتهلا: ... يا رب إن كان ينوي غير إخفار
فنجه سالما من شر دعوتنا ... ومهرة مطلقا من كل آثار
فأظهر اللَّه- إذ يدعو- حوافره ... وفاز فارسه من هول أخطار
وقال أبو جهل [بن هشام] فيما يزعمون حين سمع بشأن سراقة [بن مالك] ، وما يذكر من أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما رأى من أمر الفرس حين أصابه ما أصابه، وتخوف أبو جهل سراقة أن يسلم حين رأى ما أرى:
بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغو لنصر محمد
عليكم به لا يفرقن جموعكم ... فتصبح شتي بعد عز وسؤدد
يظن سفيه الحي أن جاء شبهة ... على واضح من سنة الحق مهتد
فأني يكون الحق ما قال إذ غدا ... ولم يأت بالحق المبين المسدد
ولكنه ولي غريبا بسخطة ... إلى يثرب منا، فيا بعد مولد
ولو أنه لم يأت يثرب هاربا ... لأشجاه وقع المشرفي المهند
فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل فيما قال:
أبا حكم واللَّه لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبي وبرهان ذا يكاتمه
عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أن يوما ما ستبدو معالمه
بأمر يود النصر فيه بالبها ... لو أن جميع الناس طرا يسالمه(12/124)
وأما قتل اللَّه عز وجل كسرى بن أبرويز بن هرمز [بن أنوشروان] وتمزيق ملك فارس بدعاء المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج البخاري من حديث ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود أن عبد اللَّه بن عباس أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعث بكتابه رجلا [ (1) ] وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى [ (2) ] ، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
وخرّج البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده، ولتقسمن كنوزهما في سبيل اللَّه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن حذافة السهمي.
[ (2) ] كسرى: هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وهم من قال هو أنوشروان. وأخرجه أيضا في كتاب الجهاد والسير، باب (101) دعوة اليهود والنصارى، وعلى ما يقاتلون عليه؟ وما كتب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلي كسرى وقيصر، والدعوة قبل القتال، حديث رقم (2939) ، وفيه الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة، وأن الكتابة تقوم مقام النطق، وفيه إرشاد المسلم إلى الكافر، وأن العادة جرت بين الملوك بترك قتل الرسل، ولهذا مزق كسرى الكتاب، ولم يتعرض للرسول.
وأخرجه في كتاب المغازي، باب (83) كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى كسرى وقصير، حديث رقم (4424) . وكسرى بفتح الكاف وبكسرها، لقب كل من تملك الفرس، ومعناه بالعربية المظفري.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 403، حديث رقم (2185) ، من مسند عبد اللَّه ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 776، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3618) ، (3619) ، وسبب الحديث
أن قريشا كانوا يأتون الشام والعراق تجارا، فلما أسلموا(12/125)
وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: بينا كسرى مغلق بيته الّذي يخلو فيه إذا دخله، إذا رجل قد خرج إليه في يده عصا، فقال: يا كسرى إن اللَّه تعالى قد بعث رسولا وأنزل كتابا، فأسلم تسلم، وأتبعه يبق له ملك.
قال كسرى: أخر عن هذا أثراما، فدعا حجابه وبوابه، فتوعدهم، وقال: من هذا الّذي دخل على؟ قالوا: واللَّه ما دخل عليك أحد، وما ضيعنا لك بابا.
ومكث حتى إذا كان العام القابل أتاه فقال له مثل ذلك: إلا تسلم اكسر العصا، قال لا تفعل، أخر ذلك أثراما، ثم جاءه العام الثالث فقال له مثل ذلك، فكسرها وخرج من عنده.
قال: فحدثني محمد بن الحصين، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال: أغلق كسرى عليه بابه أي لا تدخلوا على أحدا من العرب وذلك حين
__________
[ () ] خافوا انقطاع سفرهم إليهما لدخولهم في الإسلام، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك تطييبا لقلوبهم، وتبشيرا لهم بأن ملكهما سيزول عن الاقليميين المذكورين.
وقيل: الحكمة في أن قصير بقي ملكه، وإنما ارتفع من الشام وما والاها، وكسرى ذهب ملكه أصلا ورأسا، أن قيصر لما جاءه كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قبله وكاد أن يسلم كما مضى، كسرى لما أتاه كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مزقه، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يمزق ملكه كل ممزق، فكان كذلك.
قال الخطابي: معناه فلا قيصر بعده يملك بمثل ما يملك، وذلك أنه كان بالشام، وبها بيت المقدس، الّذي لا يتم للنصارى نسك إلا به، ولا يملك على الروم أحد إلا كان قد دخله، إما سرا وإما جهرا، فانجلى عنها قيصر واستفتحت خزائنه ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعد. (فتح الباري) مختصرا.
وأخرجه مسلم في الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت، حديث رقم (2918) ، (2919) .
وأخرجه البخاري في الجهاد، باب الحرب خدعة، وباب
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أحلت لكم الغنائم،
وفي الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأخرجه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في الفتن، حديث رقم (2127) .(12/126)
انصرف عبد اللَّه بن حذافة حين أرسله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم يجبه، فلما أغلق بابه إذا رجل واقف بين يديه، وبيده عصا، فقال: يا كسرى، أسلم، فإن اللَّه قد بعث رسولا يدعو إلى كتاب اللَّه والحق، قال: أخر عني اليوم حتى ترجع.
فذكر مثل حديث أبي سلمة، قال: فضرب بالعصا على رأسه وقتله ابنه فلذلك كسرها وخرج من عنده.
قال: فحدثني محمد بن الحصين عن داود بن الحصين عن عكرمة قال:
أغلق كسرى عليه بابه وقال لا تدخلوا علي أحد من العرب وذلك حين انصرف عبد اللَّه من حذافة حين أرسله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم يجبه فلما أغلق بابه إذا رجل واقف بين يديه وبيده عصا فقال: يا كسرى أسلم فإن اللَّه قد بعث رسولا يدعو إلى كتاب اللَّه والحق.
قال: أخر عني اليوم حتى ترجع فذكر مثل حديث أبي سلمة قال:
فضرب بالعصا على رأسه وقتله ابنه تلك الليلة، فلذلك كتب ابن كسرى باذان ومن معه ينهاه أن يحرك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وخاف ما رأى، وكان باذان قد سبق بالإسلام ومن معه.
قال: وحدثني عبد الملك بن محمد عن ثابت بن عجلان عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامه الباهلي رضي اللَّه عنه قال: مثل بين يدي كسرى رجل في بردين أخضرين معه قضيب أخضر قد حني ظهره وهو يقول:
يا كسرى أسلم وإلا كسرت ملكك كما أكسر هذه العصا فقال كسرى: لا تفعل، ثم تولى عنه.
قال الواقدي: حدثني صالح بن جعفر قال: سمعت محمد بن كعب يقول دخلت مدائن كسرى سنه ثمانين عام العجاف فنظرت إلى بناء كسرى وعجبت له، فإذا شيخ هرم يهدج قائم معي فسألته عن بعض امره فقال: إن كسرى أول من أنكر من ملكه أنه أصبح في الليلة التي أوحي فيها إلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ودجانة قد أسلمت عليه وأصبح طاق ملكه الّذي كان يغلق عليه تاجه منعدما وأشار لي إليه وأشار إلى حديث أسلمت دجانة وكان يجلس في ذلك الطاق فاغتم واحتسب نفسه وقال: ما انصدع هذا الطاق من غير ثقل وانبعثت دجلة من مأمنها إلا من أمر قد حدث، فانظروا إليه، فإن عندكم كل ساحر، وكاهن،(12/127)
وعائف، ومنجم، فذكر القصة إلى أن قال: ثم إن كسرى رأى في النوم أن سلما وضع في الأرض إلى السماء وحشر الناس حوله إذ أقبل رجل عليه عمامة وإزار ورداء فصعد السلم حتى إذا كان بمكان منه نودي أين فارس ورجالها، ونساؤها، ولأمتها، وكنوزها؟ فأقبلوا فجعلوا في جوالق ثم دفع الجوالق إلى ذلك الرجل فأصبح كسرى بئيس النفس محزونا بتلك الرؤيا، فذكرها لأساورته فجعلوا يهونون عليه الأمر فيقول كسرى: هذا من فضل الأمر الّذي يراد به فارس، فلم يزل مهموما حتى قدم عليه كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقدم به عبد اللَّه بن حذافة.
قال: وحدثني سعيد بن بشير عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: إن كسرى رأى في النوم أن سلما وضع في الأرض إلى السماء وحشر الناس من حوله فذكر مثله وزاد فكتب كسرى إلى عامل اليمن باذان إني لم أبعثك لتأكل وتشرب إلى هذا الرجل الّذي خالف دين قومه فمره فليرجع إلى دين قومه وإلا فليواعدك يوما تلتقون فيه تقتلون، فلما ورد كتابه على باذان بعث بكاتبه مع رجلين،
فلما وردا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أذن لها وأمرهما بالمقام فأقاما ثم أرسل إليهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات غداة فقال: انطلقا إلى باذان وأعلما أن ربي قد قتل كسرى في هذه الليلة،
فانطلقا حتى قدما على باذان فأخبراه بذلك، فقال: إن يكن الأمر كما قال فإن خبر ذلك يوافي يوم كذا، وأتاه الخبر كذلك فاجتمعت أساودته إليه وهو مريض فقالوا: من يرأس علينا؟ فقال ملك مقبل وملك مدبر فاتبعوا هذا الرجل وادخلوا في دينه وأسلموا، ومات باذان وبعثوا وفدهم بإسلامهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
هكذا ساق أبو نعيم هذه الأخبار عن الواقدي ثم قال ورواه على بن عاصم عن داود بن أبي هند عن الشعبي، قال: كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كتابا إلى هرقل [ (1) ] وكتابا إلى صاحب دومة الجندل [ (2) ] ، وكتابا إلى النجاشي [ (3) ] وكتابا إلى
__________
[ (1) ] ولفظه:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم. من محمد عبد اللَّه ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ(12/128)
كسرى [ (1) ] بن هرمز، فلما دخل صاحب كتاب كسرى عليه لم يقرأه وأمر به فمزقه وقال: من يلي هذا من عمالي قالوا: باذان صاحب اليمن فدعا الكاتب فأملي عليه: من كسرى إلى باذان، أما بعد فيا ابن الخبيثة إني لم أستعملك على اليمن لتأكل خيرها ولتلبس حريرها وإنما استعملتك لتقاتل من عاداني وإنه بلغني
__________
[ () ] أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
[آل عمران: 64] (مجموعة الوثائق السياسية) : 35، وثيقة رقم (26) .
[ (2) ] ولفظه:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللَّه لأكيدر حين أجاب إلي الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف اللَّه في دوماء الجندل وأكنافها. إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي، وأغفال الأرض والحلقة، والسلاح والحافر، والحصن، ولكم الضامنه من النخل، والمعين من المعمور لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد اللَّه والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء شهد تبارك وتعالى اللَّه ومن حضر من المسلمين. (مجموعة الوثائق السياسية) : 181، وثيقة رقم (190) ، (الأموال) : 188، مسأله رقم (509) ،
قال أبو عبيد: أما هذا الكتاب فأنا قرأت نسخته، وأتاني به شيخ من هناك مكتوبا في صحيفة بيضاء فنسخته حرفا بحرف.
[ (3) ] ولفظه:
هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللَّه ورسوله، وشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. لم يتخذ صاحبه ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإنّي رسول اللَّه فأسلم تسلم يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك. (مجموعة الوثائق السياسية) : 22، وثيقة رقم (22) .
[ (1) ] ولفظه:
من محمد رسول اللَّه إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللَّه ورسوله وشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأدعوك بدعاء اللَّه، فإنّي رسول اللَّه إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين. فأسلم تسلم فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك. (مجموعة الوثائق السياسية) .(12/129)
أن رجلا من أهل تهامة خرج عن دين قومه ومنسكهم، ويزعم أنه رسول اللَّه يقال له أحمد، فإذا جاءك كتابي فاختر رجلين من أهل فارس ممن ترضى عقله فابعثمها إليه واكتب معهما إليه، أن يرجع إلى دين قومه ومنسكهم أو تواعده يوما تلقاه فيه، فإنه يزعم أنه نبي يغلبني على ملكي فلما جاء باذان الكتاب اختار رجلين من أهل فارس
وكتب إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بما كتب به كسرى فقدما عليه فأعطياه الكتاب، فردّوهما شهرا يختلفان إليه فلا يجيبها إلى جواب كتابهما، فدعوا عليه يوما فقال ما أحسبني إلا قد حبستكما وشققت عليكما، قال: أجل قال: فانطلقا وتلبسا واركبا ثم مرا بي ففعلا فقال لهما: أما كتابه الىّ أن أرجع إلى دين قومي ومنسكهم، أو أعده موعدا ألقاه فيه، فموعدة بيني وبينه أبواب صنعاء أنا بنفسي وخيلي، وأبلغاه عني أن ربي عز وجل قتل ربّه الغداة،
قال:
فكتبا ذلك اليوم ثم قدما على باذان فقال ما حبسكما؟ قالا: هو حبسنا وأبلغاه ما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: وتحفظان اليوم الّذي قال إن ربي قتل ربه؟ قالا نعم، قال:
فأمر به فكتب فما لبثوا إلا أياما قليلة حتى جاء كتاب من شيرويه بن كسرى: أما بعد فإنّي قتلت أبي يوم كذا وكذا، فادع من قبلك من أهل فارس إلى بيعتي، وأن يسمعوا ويطيعوا، قال: فسألهما باذان: أي رجل أحمد؟ قالا:
وما يصنع بالحرس؟ لهو أحبّ إلى أصحابه من أنفسهم وأولادهم قال: هذا الملك الهنيء قال: فنادوا أن يا أهل فارس بايعوا شيرويه، واسمعوا وأطيعوا له، يا أهل فارس، هذا الملك قد أقبل ملك محمد، وهذا الملك قد أدبر، ملك فارس فأنا أهلك فيما بينهما، قال عامر: فأقبل ملك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأدبر ملك فارس وهلك باذان فيما بينهما، قتله العبسيّ الكذاب وتزوج امرأته [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال الثعالبي أبو إسحاق بن محمد بن إبراهيم ويقال: الثعالبي، المتوفى سنه (427) في تفسيره المسمى ب (الكشف والبيان في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: عن ابن عباس قال: أهدى كسرى بغله لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فركبها بحبل من شعر، وأردفه خلفه. وإن صح هذا- لأن البغوي ذكره أيضا في تفسير(12/130)
وقال البيهقي [ (1) ] أخبرني أبو سعيد بن أبي عمرو قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا الشافعيّ، حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والّذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه.
قال الشافعيّ: ولما أتى كسرى بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مزقه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: مزق اللَّه ملكه، قال: وحفظنا إن قيصر أكرم كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ووضعه في مسك فقال: النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثبت اللَّه ملكه.
قال البيهقي: فخرجه مسلم في (الصحيح) [ (2) ] من حديث ابن عيينة وخرجاه [ (3) ] من وجه آخر عن الزهري، قال: كتابه وسيرد بطريقة عن قريب إن شاء اللَّه.
__________
[ () ] سورة الأنعام- فيتحمل أن يكون الّذي أرسل البغلة شيرويه، أو ابن عمه كسرى بن قباذ بن هرمز، أو أردشير بن شيرويه، أو جرهان، هؤلاء كلهم ملكوا بعد قتل أبرويز،
ثم ملك بعدهم بوران بنت كسرى وبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أمرها فقال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.
قاله ابن قتيبة في (المعارف) 2/ 666، باب ملوك العجم، (المصباح المضيء) : 2/ 157- 158. واللَّه تعالى أعلم أي ذلك كان.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 393، باب ما جاء في الجمع بين
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعد،
وما
روى عنه من قوله في قيصر حين أكرم كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ثبت اللَّه ملكه،
وما ظهر من صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه، وفيما أخبر عنه من هلاك كسرى، وهو الصادق الصدوق صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 257، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (76) .
قال الإمام النووي: قال الشافعيّ وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، كما كان. قال صلّى اللَّه عليه وسلم: فأما كسرى فانقطع ملكه، وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق، واضمحل بدعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأما قيصر فانهزم من الشام، ودخل(12/131)
قال الشافعيّ [ (1) ] : كانت قريش تنتاب الشام انتيابا كثيرا وكان كثير من معاشها منه، وتأتي العراق، فيقال لما دخلت في الإسلام وذكرت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق إذا فارقت الكفر ودخلت في الإسلام، مع خلاف ملك الشام والعراق لأهل الإسلام،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده. فلم يكن بأرض العراق كسرى يثبت له أمر بعده.
وقال: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده،
وأجابهم على ما قالوا له وكان كما قال لهم صلّى اللَّه عليه وسلم وقطع اللَّه الأكاسرة عن العراق وفارس، وقطع قيصر ومن قام بالأمر بعده عن الشام،
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في كسرى: مزّق ملكه فلم يبق للأكاسرة ملك، وقال في قيصر: ثبت ملكه
فثبت له ملك ببلاد الروم إلى اليوم وتنحى ملكه عن الشام وكل هذا مؤتفق يصدق بعضه بعضا.
قال كاتبه: يقال: إن كسرى أبرويز بن هرمز هذا خلع، وقيل بعد ما سهل، وقد مضى من الهجرة النبويّة أربع سنين وأربعه أشهر واثنان وعشرون يوما.
__________
[ () ] أقاصي بلاده، فافتتح المسلمون بلادهما، واستقرت للمسلمين واللَّه الحمد، وأنفق المسلمون كنوزهما في سبيل اللَّه، كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم وهذه معجزات ظاهرة.
[ (3) ] أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام، وفي الجهاد، باب الحرب خدعه، وباب
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أحلت لكم الغنائم،
وفي الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين ولنبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأخرجه مسلم برقم (2918) في كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت (جامع الأصول) : 11/ 312، الباب الخامس في معجزاته صلّى اللَّه عليه وسلم ودلائل نبوته.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 394، باب ما جاء في الجمع بين
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده،
وما
روى عنه من قوله في قيصر حين أكرم كتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ثبت ملكه،
وما ظهر من صدقه فيهما، وفيما أخبر عنه من هلاك كسرى، وهو الصادق المصدوق صلّى اللَّه عليه وسلم.(12/132)
قال الواقدي: فلبط عليه ابنه شيرويه فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع، وملك بعده ابنه شيرويه، واسمه قباذ بن أبرويز، ثمانية أشهر، وهلك في الطاعون لأشهر من السنة الخامسة من الهجرة بعد ما قتل من آخرته ثمانية عشر، وملك بعده ابنه أردشير بن شيرويه وله من العمر سبع سنين، وقتل بعد سنة وستة أشهر [ (1) ] ، وملك بعده شهر آران مقدم الفرس، ثم قتل، وأقيمت بعده بوران دخت بنت كسرى أبرويز شهر خرهان [ (2) ] وقدم خالد بن الوليد رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بجيوش المسلمين في ولايتهما لاثنتي عشرة سنة مضت من الهجرة فهلكت بعد قدوم خالد بسبعة أشهر، وهلكت لأربعة أشهر من خلافة عمر رضي اللَّه عنه، فكانت مدتها سنة وأربعة أشهر، وملك خشنشدة من بني عم أبرويز شهرا، وقيل: سنة [فأقيمت] [ (3) ] بعده أزرميدخت ولم [يكن] [ (3) ] من بيت الملك، وملك [بعدها] [ (3) ] خرذاوخر ابن أبرويز وهو طفل فأقام شهرا واحدا وملك يزدجرد بن شهريار من أبرويز وعمره خمس عشرة سنة، ثم قنل بمرو سنة إحدى وثلاثين من الهجرة بعد ما أقام في المملكة تسع عشرة سنة، وقيل: عشرين سنة ولم يقم بعده ملك فارس وتمزقوا حتى فنوا ولم يعرف اليوم منهم أحد.
__________
[ (1) ] قال ابن قتيبة في (المعارف) : 665، وكان ملكه خمسة شهور.
[ (2) ] قال ابن قتيبة في (المرجع السابق) : ولم يكن من أهل بيت الملك، فاحتالت له امرأة من أهل بيت الملك يقال لها [بوران] فقتلته، فكان ملكه اثنين وعشرين يوما، ثم ملك بعده من ولد هرمز رجلا يقال له كسرى بن قباذ، وكان ولد بأرض الترك، وقدم عند ما بلغه من الاختلاف، فوثب عليه ملك خراسان فقتله، وكان ثلاثة أشهر. انظر (تاريخ الطبري) : 2/ 218- 234، ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند.
[ (3) ] في (الأصل) : «فأقيم» ، «يكن» ، «بعده» ، وصوبناه من (المعارف) : 666.(12/133)
وأما استجابة اللَّه تعالى دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على المشركين وهزيمتهم يوم بدر
فخرج البيهقي من حديث سفيان عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي ليلة بدر ويدعو ويقول: اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد [ (1) ] .
وخرّج البخاري [ (2) ] عن طريق سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قال: هم واللَّه كفار قريش، قال عمرو: هم قريش، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم نعمة اللَّه وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قال: النار يوم بدر. ذكره في المغازي،
وذكره في التفسير من طريق سفيان، عن عمرو عن وهب عن عبد اللَّه، عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا قال: من الذين بدلوا نعمة اللَّه كفرا؟ قال الأفجران، بنو أمية وبنو مخزوم كفيتهم يوم بدر.
وفي رواية لغير عبد الرزاق
__________
[ (1) ] وتمامه من (الدلائل) :
«لم تعبد في الأرض أبدا، فقال له جبريل عليه السلام: خذ قبضة من تراب، فأخذ قبضة من التراب فرمي بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين» .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 382، كتاب المغازي، باب (8) قتل أبي جهل، حديث رقم (3977) ، كتاب التفسير وباب (3) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، حديث رقم (7400) .
وروي الطبري من طريق أخرى، عن ابن عباس أنه سأل عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن هذه الآية، فقال: من هم؟ قال: هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية أخوالي وأعمامك، فأما أخوالي فاستأصلهم اللَّه يوم بدر، وأما أعمامك فأملي اللَّه لهم إلى حين.
ومن طريق على قال: هم الأفجران بنو أمية وبنو المغيرة فقطع اللَّه ودابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وهو عند عبد الرزاق أيضا والنسائي وصححه الحاكم. قال الحافظ: والمراد بعضهم لا جميع بني أمية وبني مخزوم، فإن بني مخزم لم يستأصلوا يوم بدر، بل المراد بعضهم، كأبي جهل من بني مخزوم، وأبي سفيان من بني أمية. (فتح الباري) .(12/134)
قال: هم كفار قريش الذين فروا يوم بدر. وقال يونس بن بكير [بسنده] :
حدثني يحيى بن عباد من عبد اللَّه بن الزبير: بين أول يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (1) ] وبين قول اللَّه تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [ (2) ] حبي اللَّه قريشا بالرفعة يوم بدر.
وقال الأعمش: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أخذتهم يوم بدر ريح عقيم، وقال مجاهد: عن أبي بن كعب في قوله: يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ (3) ] قال، يوم بدر، وعن أبي هريرة في قوله تعالى: أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [ (4) ] قال: يوم بدر. وقال مجاهد: السيوف يوم بدر، وعن عبد اللَّه بن مسعود قال: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [ (5) ] يوم بدر، وعن قتادة في قوله تعالى:
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً قال أبي بن كعب هو القتل يوم بدر، وقال مغيرة عن إبراهيم: اللزوم يوم بدر، وعن مجاهد فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً قال: هزموا يوم بدر، وقال سعيد، عن ابن مسعود قال: اللزام القتل يوم بدر، وقال الضحال فقد كذبتم بقول الكفار: كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم أجابه ابن عبد اللَّه قد مضى اللزام كان اللزام يوم بدر وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى [ (6) ] قال: يوم بدر، وعن ابن عباس وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [ (7) ] قال: يوم بدر لا ينفع الذين كفروا إيمانهم.
__________
[ (1) ] المزمل: 1.
[ (2) ] المزمل: 11.
[ (3) ] الحج: 55.
[ (4) ] المؤمنون: 64.
[ (5) ] السجدة: 21.
[ (6) ] السجدة: 21.
[ (7) ] السجدة: 28- 29.(12/135)
وخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ أهل المدينة، فخرجوا ومعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يريدون العير فبلغ أهل مكة ذلك فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلب عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه فسبقت العير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وكان اللَّه وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا إن بلغوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنما، فلما سبقت العير وفاتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمسلمين بينهم وبين الماء رسلة دعصة [ (2) ] ، فأصحاب المسلمين ضعف شديد فألقى الشيطان في قلوبهم القنط ويوسوسهم:
تزعموا أنكم أولياء اللَّه وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر اللَّه عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب اللَّه رجز الشيطان وانتسق الرمل [ (3) ] حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم وأمدّ اللَّه نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة، قال: اصطف القوم قال أبو جهل: اللَّهمّ أولانا بالحق فانصره،
ورفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده فقال: اللَّهمّ إنك ان تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض فقال جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشتركين أحد إلا أصاب عينيه، ومخريه، وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
ومن حديث الأعمش [ (4) ] ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، أو أبي عبيدة، عن عبد اللَّه قال لما كان يوم بدر قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قعد يدعو قال:
اللَّهمّ عهدك الّذي عهدت إليّ، اللَّهمّ وعدك الّذي وعدتني، اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض أبدا.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 469، ذكر ما جرى من الآيات في غزواته وسراياه صلّى اللَّه عليه وسلم، ما حدث من المعجزات في غزوة بدر، حديث رقم (400) .
[ (2) ] أي أرض مرملة، رملها زلق تغوص الأقدام فيه.
[ (3) ] انتسق الرمل: انتظم بعضه إلى بعض وزال زلفة.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 474، حديث رقم (408) بسند آخر وسياقه أتم.(12/136)
وخرج البخاري [ (1) ] من حديث عبد الوهاب ووهيب قالا: حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه وتبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال وهو في قبته يوم بدر: اللَّهمّ أنشدك عهدك ووعدك اللَّهمّ إن تشأ لا تعبد بعد اليوم فأخذ أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بيده فقال: حسبك يا رسول اللَّه ألححت على ربك وهو يثب في الدرع، فخرج وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ (2) ] ذكره في كتاب التفسير في باب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [ (3) ] وذكره في غزوة بدر [ (4) ] .
وخرج مسلم [ (5) ] والترمذي [ (6) ] من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك الحنفي. قال: سمعت ابن عباس يقول لما كان يوم بدر. ذكره مسلم في
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 796- 797، كتاب التفسير، باب (5) قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، حديث رقم (4875) ، باب (6) قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ، حديث رقم (4877) .
[ (2) ] القمر: 45.
[ (3) ] القمر: 46.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 264، كتاب المغازي، باب (4) قول اللَّه تبارك وتعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ* إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال: 9- 12] ، حديث رقم (3953) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 292، كتاب الجهاد والسير، باب (7) استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو، حديث رقم (1743) مختصرا.
[ (6) ] (سنن الترمذي) : 4/ 168، كتاب الجهاد، باب (8) ما جاء في الدعاء عند القتلى، حديث رقم (1678) ، قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن مسعود، وهذا حديث حسن صحيح.(12/137)
الجهاد وذكره الترمذي في التفسير. وخرجه مسلم [ (1) ] أيضا من حديث عكرمة بن عمار قال: أخبرني أبو زميل قال حدثني عبد اللَّه بن عباس قال لما كان يوم بدر نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه: اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللَّهمّ آتني ما وعدتني، اللَّهمّ إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداءه
فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا بني اللَّه! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل اللَّه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (2) ] فأمده اللَّه بالملائكة. وذكر الحديث.
وخرج البيهقي [ (3) ] من حديث ابن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب، عن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحت سمرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
ومن حديث إسماعيل بن عوف عن عبد اللَّه بن أبي رافع، عن عبد اللَّه ابن محمد بن عمر بن على بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن أبيه، عن جده، عن على بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما فعل؟ فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، لا يزيد
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 327- 330، كتاب الجهاد والسير باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر إباحة الغنائم، حديث رقم (1763) .
[ (2) ] الأنفال: 9.
[ (3) ] (سنن البيهقي) : 3/ 49، باب ما جاء في دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على المشركين قبل التقاء الجمعين وبعده، ودعاء أصحابه عليهم، واستغاثتهم ربهم، واستجابة اللَّه تعالى لهم، وإمدادهم بالملائكة، وإخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن مصارع القوم قبل وقوعها، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
والحديث أخرجه النسائي في (الكبرى) ، في الصلاة، عن محمد بن المثنى، عن محمد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب.(12/138)
عليها فرجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك فلم يزل يقول ذلك حتى فتح اللَّه عليه.
ومن حديث يحيى، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد اللَّه، قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم يوم بدر، جعل يقول: اللَّهمّ إني أنشدك عهدك ووعدك اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد، ثم التفت كأن شق وجهه القمر فقال: كأنما انظر إلى مصارع القوم عشية [ (1) ] .
وقال الواقدي: في غزوة بدر: ثم سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أتى الروحاء فحدثني عبد الملك بن عبد العزيز، عن أبان بن صالح، عن سعيد بن المسيب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة وقال: اللَّهمّ لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللَّهمّ لا تفلتن زمعة ابن الأسود، اللَّهمّ واسخن عين أبي زمعة، وأعم بصر أبي زمعة، اللَّهمّ لا تفلتن لا يغلبن سهيلا، اللَّهمّ أنج سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين.
قال: والوليد بن الوليد، لم يدع له يومئذ، أسر ببدر، ولكنه لما رجع إلى مكة بعد بدر أسلم، فأراد أن يخرج إلى المدينة، فجلس، فدعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد ذلك. هكذا ذكر الواقدي هذا الحديث مرسلا [ (2) ] .
قال: فحدثني محمد بن عبد اللَّه عن الزهري عن عروة بن الزبير ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، ويزيد بن رومان، قالا: لما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قريشا تصوب من الوادي، وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوأ للقوم منزلا.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إنك أنزلت عليّ الكتاب وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين، وأنت لا تخلف الميعاد، اللَّهمّ إن هذه قريش قد أقبلت
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 51، (مسند أحمد) : 1/ 51، حديث رقم (208) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 46.(12/139)
بخيلائها وفخرها تحادّك، وتكذّب رسولك، اللَّهمّ نصرك الّذي وعدتني، اللَّهمّ أحنهم الغداة [ (1) ] .
حدثني معمر بن راشد عن الزهري، عن عبد اللَّه بن ثعلبة بن صعير قال: واستفتح أبو جهل يوم بدر فقال: اللَّهمّ أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة [ (2) ] . فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ (3) ] الآية.
وحدثني عمر بن عقبه، عن سعيد مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما يقول: لما تواقف الناس أغمي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبريل في جند من الملائكة في ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر في ميسرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وإسرافيل في جند آخر بألف [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 59.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 70.
[ (3) ] الأنفال: 19.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 1/ 70- 71.(12/140)
وأما تصديق اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم في تعيينه مصارع المشركين ببدر
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأعرض عنه ثم تكلم عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأعرض عنه، فقام سعد بن عباده رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: إيانا تريد يا رسول اللَّه؟ والّذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.
قال: فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه، وكان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان فيقول: ما لي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأميّة بن خلف، فإذا ذلك ضربوه، فقال: نعم أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال ما لي بأبي سفيان علم، ولكن أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم، أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس،
فإذا قال هذا أيضا ضربوه، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم ويصلي.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 366- 368، كتاب الجهاد والسير، باب (30) غزوة بدر، حديث رقم (1779) . قال الإمام النووي: قال العلماء: إنما قصد صلّى اللَّه عليه وسلم اختبار الأنصار، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان، أراد أن يعلم أنهم يوافقون على ذلك، فأجابوه أحسن جواب بالموافقة التامة في هذه المرة وغيرها. وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرأى والخبرة. (شرح النووي) .(12/141)
فلما رأى ذلك انصرف، قال: والّذي نفسي بيده لتضربونه إذا صدقكم، وتتركونه إذا كذبكم قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هذا مصرع فلان، قال:
ويضع يده علي الأرض، هاهنا وهاهنا، قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث موسى بن إسماعيل عن حماد فذكره إلي أن، قال: وقال أنس قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض وهذا مصرع فلان وفلان غدا ووضع يده على الأرض، فقال:
والّذي نفسي بيده ما جاوز واحد منهم عن موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأمر بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخذ بأرجلهم فسحبوا في قليب بدر.
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت عن أنس قال، كنا مع عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بين مكة والمدينة، قال:
فتراءينا الهلال- وكنت رجلا حديد البصر- فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال: أقول لعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أما تراه؟ فجعل لا يراه.
قال: يقول عمر: بينا سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر
فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يرينا مصارع القوم بالأمس يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللَّه. قال: فقال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فو الّذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: فجعلوا في بئر
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 130- 131، كتاب الجهاد، باب (125) في الأسير ينال منه، ويضرب ويقرر، حديث رقم (2681) ، وفيه دليل على جواز ضرب الأسير الكافر، إذا كان في ضربه طائل. (معالم السنن) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 211، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب (17) عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، حديث رقم (2873) ، وفيه معجزة ظاهرة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، قال القاضي عياض: يحمل سماعهم على ما يحمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر وفتنته التي لا مدفع لها، وذلك بإحيائهم، أو إحياء، جزء منهم يعقلون به ويسمعون، في الوقت الّذي يريد اللَّه، هذا كلام القاضي، وهو الظاهر المختار الّذي يقتضيه أحاديث السلام على القبور، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (شرح النووي)(12/142)
بعضهم على بعض، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللَّه ورسوله حقا؟ فإنّي وجدت ما وعدني اللَّه حقا قال عمر: يا رسول اللَّه! كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟
قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئا.
وخرّج البيهقي [ (1) ] من طريق أبي نعيم قال: حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: لما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من القتلى قيل له: عليك العير [ (2) ] ليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه: أنه لا يصلح لك قال: لأن اللَّه وعدك إحدى الطائفتين وقد أنجز ما وعدك.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 96، باب إجابة اللَّه عز وجل دعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على كل من كان يؤذيه بمكة من كفار قريش حتى قتلوا مع إخوانهم من الكفرة ببدر. وأخرجه الترمذي في (صحيحه) في تفسير سورة الأنفال، حديث رقم (3080) ، عن عبد بن حميد، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
[ (2) ] وهي عير أبي سفيان التي خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من المدينة يريدها، وليس دونها شيء، أي ليس دون العير شيء يزاحمك.(12/143)
وأما تبرّؤ إبليس من قريش في يوم بدر
بعد ما زين لهم أن يخرجوا لقتال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال إني جار لكم فقال اللَّه تبارك وتعالى:
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ... إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [ (1) ] فقوله: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ هي ما كانوا فيه من الشرك باللَّه وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر، وعزمهم على قتال الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، وقوله: جارٌ لَكُمْ أي مجيركم من بني كنانة والفئتان جمعا المؤمنين والكافرين، وقيل: فئة المؤمنين وفئة الملائكة، نَكَصَ رجع على عقبيه في ضد إقباله، وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم، لم يكتف بالفعل حتى أكد ذلك بالقول أَرى ما لا تَرَوْنَ أي خرق العادة، ونزول الملائكة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قال قتادة، وابن الكلبي: معذرة كاذبة لم يخف اللَّه قط.
وقال الزجاج وغيره: بل خاف مما رأى أن يكون اليوم الّذي انظر اليه وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قال ذلك بسطا لعذره عندهم وهو متحقق أن عقاب اللَّه شديد، ويحتمل أن يكون من كلام اللَّه تعالى، استأنفه تهديدا لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش وغيرهم، واتفق الجمهور على أن هذا التزيين والنكوص والقول صدر حقيقة، وزعم الزمخشريّ جريا على عادته في بدعته أنه وسوس إليهم أنهم لا يغلبون، ولا يطاقون وأن نكوصه وتبرئه منهم هو بطلان كيده حين تزل جنود اللَّه، فيكون ما ذكر اللَّه يعبر عن إبليس على قوله: إنما هو على سبيل المجاز.
__________
[ (1) ] الأنفال: 48.(12/144)
ونقل عن الحسن أن ذلك كان على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم، هذا مبني على ما أصّله المعتزلة من امتناع رؤية الجن أو امتناع وجودهم، والقرآن والسنة وآثار السلف يردون [ (1) ] ذلك، قال ابن إسحاق، وقد ذكر الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الّذي بينها وبين بني بكر فكان يثنيهم فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم، فخرجوا سراعا.
ثم ذكر محمد بن إسحاق من رواية أبي محمد عبد الملك بن هشام وقعه بدر إلى أن قال: وعمير بن وهب أو الحارث بن هشام فذكر أحدهما رأى إبليس حين نكص على عقيبة يوم بدر فقال: أين سراقة؟ ومثل عدو اللَّه فذهب فأنزل اللَّه فيه.
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فذكر استخراج إبليس أباهم وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر من عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم بقول اللَّه عز وجل فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ ونظر عدو اللَّه إلى جنود اللَّه من الملائكة قد أيّد اللَّه بهم رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على عدوهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وصدق عدو اللَّه، رأى ما لم يروا وقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان نكص على عقبيه فأوردهم ثم أسلمهم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في الأصل: «يردان» ، وما أثبتناه حق اللغة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 215- 216، من رأى إبليس عند ما نكص على عقبيه يوم بدر، وقال في هامشه: وذكر غير ابن إسحاق: أن الحارث بن هشام تشبث به، وهو يرى أنه سراقة ابن مالك، فقال: إلى أين يا سراقة؟ أين تفر؟ فلكمه لكمة طرحه إلى قفاه.(12/145)
وقال يونس بن بكير عن إسحاق حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصرى لأخبركم بالشعب الّذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى، فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى اللَّه إليهم أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول أبشروا فإنّهم ليسوا بشيء كروا عليهم واللَّه معكم، كروا عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحرض أصحابه ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه، ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى تقرن محمد وأصحابه في الجبال، فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا [ (1) ] .
وقال عثمان بن سعيد الدرامي: حدثنا عبد اللَّه بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ أهل المدينة ذلك فخرجوا ومعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ () ] وإنما تمثل في صورة سراقة المدلجي، لأنهم خافوا من بني مدلج أن يعرضوا لهم، فيشغلوهم من أجل الدماء التي كانت بينهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة المدلجي، وقال:
إني جار لكم من الناس، أي من بني مدلج.
ويروى أنهم رأوا سراقة بمكة بعد ذلك، فقالوا له: يا سراقة! أخرقت الصف، وأوقعت بنا الهزيمة، فقال: واللَّه ما علمت بشيء من أمركم حتى هزيمتكم، وما شهدت، وما علمت، فما صدقوه، حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل اللَّه تعالى، فعلموا أنه إبليس تمثل لهم. وقول اللعين: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ لأهل التأويل فيه أقوال، أحدها: أنه كذب من قوله: إني أخاف اللَّه، لأن الكافر لا يخاف اللَّه، والثاني: أنه رأى جنود اللَّه تنزل من السماء، فخاف أن يكون اليوم الموعود الّذي قال اللَّه فيه: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، الثالث:
إنما خاف أن تدركه الملائكة لما رأي من فعلها بحزبه الكافرين.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 52- 53.(12/146)
يريدون العير فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلب عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكان اللَّه تعالى وعدهم إحدى الطائفتين وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأحضر مغنما، فلما سبقت العير وفاتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم، فنزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والمسلمون وبينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم القنط، يوسوسهم: تزعمون أنكم أولياء اللَّه وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذلك فأمطر اللَّه عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا، فأذهب اللَّه عنهم رجز الشيطان وصار الرمل كذا [ (1) ] ، ذكر كلمة أخبر أنه أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم وأمدّ اللَّه نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة وكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل عليه السلام في خمسمائة مجنبة، وجاء إبليس لعنه اللَّه في جند من الشياطين معه، رأيته في صورة رجال بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين:
لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطفّ القوم قال أبو جهل: اللَّهمّ أولانا بالحق فانصره،
ورفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه وقال: اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين،
وأقبل فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولّى مدبرا وشيعته، فقال رجل:
يا سراقة ألم تزعم أنك لنا جار؟ قال: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [ (2) ] وذلك حين رأى الملائكة.
وذكره موسى بن عقبة في مغازيه في غزوة بدر إلى أن قال: وأقبل المشركون ومعهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يحدثهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا للنصر وقال: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ
__________
[ (1) ] في بعض النسخ: «مستقا» ، أي يصلح للسير عليه بعد جفافه.
[ (2) ] الأنفال: 48.(12/147)
[ (1) ] لما أخبرهم من مسير بني كنانة، وقال: وأنزل اللَّه تعالى:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ [ (2) ] هذه الآية والتي بعدها ثم ساق القصة ونزول الملائكة إلى أن قال: ونكص الشيطان على عقبيه حين رأى الملائكة وتبرأ من نصر أصحابه.
وقد ذكر ذلك الواقدي أيضا في (مغازيه) [ (3) ] قال: فلما أجمعت قريش المسير وذكروا الّذي بينهم وبين بني بكر من العداوة وخافوهم على من تخلف وكان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة، وكان يقول: يا معشر قريش إنكم وإن ظفرتم بالذي تريدون فإنا لا نأمن على من تخلف إنما تخلف نساء وذرية، ومن لا طعم به فارتأوا رأيكم فتصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال: يا معشر قريش قد عرفتم شرفي ومكاني في قومي، وأنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فطابت نفس عتبة فقال له أبو جهل: فما تريد؟
هذا سيد كنانة هو لنا جار على من تخلف. فقال عتبة: لا شيء أنا خارج.
ثم ذكر القصة وقال [ (4) ] : فحدثني عمر بن عقبة عن سعيد مولى بن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف الناس أغمي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر في ميسرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وإسرافيل في جند آخر بألف، وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن جعشم يذمر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس فلما أبصر عدو اللَّه الملائكة نكص على عقبيه وقال:
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [ (5) ] ، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يرى أنه سراقة، لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث
__________
[ (1) ] الأنفال: 48.
[ (2) ] الأنفال: 47.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 37- 38.
[ (4) ] الأنفال: 48.
[ (5) ] الأنفال: 48.(12/148)
وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر، فرفع يديه وقال: يا رب موعدك الّذي وعدتني.
وأقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال، وقال: لا يغرنكم خذلان سراقة إياكم فإنما كان على ميعاد من محمد وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه لا يهولنكم مقتل عتية وشيبة والوليد، فإنّهم عجلوا وبطروا حتى قاتلوا، وأيم اللَّه لا نرجع اليوم حتى نقرن محمد وأصحابه في الحبال، ولا ألفين أحدا منكم قتل منهم أحدا، ولكن خذوهم أخذا نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤكم.
وحدثني أبو إسحاق بن محمد عن إسحاق بن عبد اللَّه عن عمر بن الحكم قال: نادى يومئذ نوفل بن خويلد بن العدوية: يا معشر قريش إن سراقة وقد عرفتم قومه وخذلانهم لكم في كل موطن فاصدقوا القوم الضرب فإنّي أعلم أن ابني ربيعة قد عجلا في مبارزتهما من يبارز.
وحدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن رافعة بن رافع عن أبيه قال: إن كنا لنسمع من إبليس خورا، ودعا بالويل والثبور، وتصور في صورة سراقة بن جعشم حتى هرب فاقتحم البحر ورفع يديه مدا يقول: يا رب ما وعدتني، ولقد كانت قريش بعد ذلك ثعير سراقة بما صنع يومئذ فيقول: واللَّه ما صنعت منه شيئا [ (1) ] .
وحدثني أبو إسحاق الأسلمي عن الحسن بن عبيد اللَّه بن حنين مولى بني العباس عن عمارة بن أكيمة الليثي قال: حدثني شيخ عرّاك من الحي كان يومئذ على الساحل مطلا على البحر، قال: سمعت صياحا: يا ويلاه! قد ملأ الوادي، يا حزناه، فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه فقال مالك: فداك أبي وأمي؟ فلم يرجع إليّ شيئا، ثم أراه اقتحم البحر فرفع يديه مدا يقول:
يا رب ما وعدتني، فقلت في نفسي: جنّ وبيت اللَّه سراقة، وذلك حين زاغت الشمس وذلك عند انهزامهم يوم بدر [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 74- 75.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 75، وعراك يعني صياد.(12/149)
وقال الضحاك: جاءهم إبليس يومئذ برايته وجنوده وألقى في قلوبهم أنهم انهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم.
وخرج مالك [ (1) ] رحمه اللَّه في (الموطأ) عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أدحر، ولا أغيظ منه، في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر فقيل: ما رأى يوم بدر يا رسول اللَّه؟ فقال أما إنه قد رأى جبريل يزع [ (2) ] الملائكة.
قال أبو عمر بن عبد البر: هكذا هذا الحديث في (الموطأ) عند جماعة الرواة له عن مالك. ورواه أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجليّ عن مالك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز، عن أبيه ولم يقل في هذا الحديث: عن أبيه غيري وليس بشيء، وطلحة بن عبيد اللَّه بن كريز هذا خزاعيّ من أنفسهم، تابعي، مدني، ثقة سمع ابن عمر وغيره، قال البخاري: سمع أم الدرداء. قال أبو عمر: هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك، قال ومعني هذا الحديث محفوظ من وجوه كثيرة واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (الموطأ) : 291، جامع الحج، حديث رقم (954) .
[ (2) ] أي يصفهم للقتال ويدفع بهم لنصر المؤمنين.(12/150)
وأما تصديق اللَّه تعالى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم في إخباره بمكة لأبي جهل أنه يقتل فقتله اللَّه ببدر وأنجز وعده لرسوله
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا سعيد بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال أبو جهل بن هشام: إن محمدا يزعم أنكم إن لم تطيعوه كان لكم منه ذبح، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنا أقول ذلك، فلما نظر إليه يوم بدر مقتولا قال: اللَّهمّ قد أنجزت لي ما وعدتني،
فوجه أبا سلمة بن عبد الأسد قبل أبي جهل، فقيل لابن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أنت قتلته؟ قال: بل اللَّه قتله، فقال أبو سلمة: فأنت قتلته؟ قال: نعم، فقال أبو سلمة: لو شاء لجعلك في كفه، قال ابن مسعود: فو اللَّه لقد قتلته وجردته، قال: فما علامته؟ قال: شامة سوداء ببطن فخذه اليسرى، فعرف أبو سلمة النعت، فقال جردته ولم تجرد قرشيا غيره،
وقد تقدم قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ عليك بأبي جهل بن هشام
ودعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم على قوم آخرين، وقول ابن مسعود: فو الّذي بعث محمدا بالحق لقد رأيت الّذي سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر.
وخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث يوسف بن الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عوف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: بينما أنا
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 477- 478، حديث رقم (411) بسند اخر، (سيرة ابن هشام) :
3/ 182- 185، فقتل أبي جهل، (دلائل البيهقي) : 3/ 84- 86.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 303، كتاب فرض الخمس، باب (18) من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس، وحكم الإمام فيه، حديث رقم (3141) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 402، كتاب الجهاد والسير، باب (41) قتل أبي جهل، حديث رقم (118) .(12/151)
واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانها فتمنيت أن لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟
قال: أخبرت أنه يسبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم! والّذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يومت الأعجل منا قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يرفل إلى الناس.
وقال البخاري: يجول في الناس، فقلت: ألا تريان هذا صاحبكم الّذي تسألان عنه؟ قال: فابتدراه فضرباه بسيفهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما فقالا: لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء [ (1) ] ، ذكره البخاري في كتاب فرض الخمس في باب من لم يخمس الأسلاب.
وقال محمد بن إسحاق [ (2) ] حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما وعبد اللَّه بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة [ (3) ] وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فو اللَّه ما أشبهها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخه النوى حين تضرب بها، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي فأجهضني القتال عنه، ولقد قاتلت عامة
__________
[ (1) ] ثم قال بعد ذلك: قال محمد سمع يوسف صالحا، وسمع إبراهيم أباه عبد الرحمن بن عوف.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 182- 184، فقتل أبي جهل عليه لعنة اللَّه تعالى.
[ (3) ] قال ابن هشام: الحرجة: الشجر الملتف، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أنه سأل أعرابيّا عن الحرجة، فقال: هي شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. (المرجع السابق) .(12/152)
يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت حتى طرحتها، قال [ (1) ] : ثم عاش معاذ بعد ذلك حتى كان زمان عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: ثم مرّ بأبي جهل معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركته وبه رمق، وقاتل معوذ، فمر عبد اللَّه بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يلتمس في القتلى،
قال: ولقد قال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- فيما بلغني-: انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته
فإنّي ازدحمت أنا وهو على مأدبة لعبد اللَّه بن جدعان ونحن غلمان، فكنت أسن منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في إحداهما، جحشا لم يزل أثره [به] [ (2) ] . قال عبد اللَّه بن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه، وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني [ولكزني] [ (3) ] ثم قلت: هل أخزاك اللَّه أي عدو اللَّه؟ قال: وبماذا أخزاني عدا رجل قتلتموه، أخبرني لمن الدبرة؟ قلت اللَّه ورسوله أعلم،
وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، هذا رأس عدو اللَّه أبي جهل! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: آللَّه الّذي لا إله غيره؟ قلت: نعم واللَّه الّذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يديه، فحمد اللَّه [ (4) ] معنا.
وخرج البخاري [ (5) ] من حديث إسماعيل بن عليّة قال: حدثنا سليمان التميمي، حدثنا أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم بدر: من ينظر ما يصنع أبو جهل
فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد فقال: أأنت أبو جهل؟ قال: وهل فوق رجل قتلتموه؟ قال
__________
[ (1) ] أي ابن إسحاق في (المرجع السابق) . ومرضخة النووي: كالإرزبة يدق بها النوى للعلف وأجهضتني: غلبتني.
[ (2) ] في (الأصل) : «بعد ذلك» وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) . وضبث: قبض عليه ولزمه.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 184- 185، رأس عدوّ اللَّه بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 372، كتاب المغازي باب (8) قتل أبي جهل (3962) ، (3963) .(12/153)
سليمان أو قال: قتله قومه. قال: وقال أبو مجلز: قال أبو جهل «فلو غير أكار قتلني. وخرج من طريق إسماعيل أنبأنا قيس عن عبد اللَّه أنه أتى أبا جهل وبه رمق يوم بدر، فقال أبو جهل هل أعمد من رجل قتلتموه [ (1) ] .
ومن طريق زهير حدثنا سليمان أن أنسا حدثهم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: من ينظر ما صنع أبو جهل؟
فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد قال: أنت أبو جهل؟ وقال أحمد بن يونس: عن زهير أنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته قال: وهل فوق رجل قتلتموه أو قتله قومه؟ [ (2) ] . وخرجه مسلم [ (3) ] من طريق ابن علية.
وخرج البيهقي [ (4) ] من طريق غنام بن على قال: حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق، عن عبد اللَّه قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة، ومعه سيف جيد، ومعي سيف رث، فجعلت أنقف رأسه بسيفي وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة حتى ضعفت يدي فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال على من كانت الدبرة؟ لنا أم علينا؟ أليست رويعينا بمكة؟
قال: فقتلته، ثم أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت قتلت أبا جهل؟ قال: آللَّه الّذي لا إله إلا هو؟ فاستحلفني ثلاث مرات ثم قام معي إليهم فدعا عليهم.
ومن طريق أبي صالح قال: حدثنا أبو إسحاق الفراري، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم بدر فقلت أبا جهل، فقال اللَّه الّذي لا إله إلا هو؟ قلت اللَّه الّذي لا إله إلا هو، مرتين أو ثلاثا قال: اللَّه أكبر، الحمد للَّه الّذي صدق عده، ونصر عبده، وهزم
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : باب (8) قتل أبي جهل، حديث رقم (3962) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2963) .
[ (3) ]
(مسلم بشرح النووي) : 12/ 402، كتاب الجهاد والسير، باب (41) قتل أبي جهل، حديث رقم (1800) ، ثم قال حدثنا حامد بن عمر البكراوي، حدثنا أنس، قال: قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من يعلم لي ما فعل أبو جهل،
بمثل حديث ابن علية، وقول أبي مجلز كما ذكره إسماعيل.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 87- 88، باب إجابة اللَّه عز وجل دعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على كل من كان يؤذيه بمكة من كفار قريش حتى قتلوا مع إخوانهم.(12/154)
الأحزاب وحده، ثم قال «انطلق فأرنيه فانطلقت فأريته فقال: هذا فرعون هذه الأمة [ (1) ] .
وقال الإمام أحمد [ (2) ] حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيده عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: إن هذا فرعون أمتي، يعني أبا جهل.
وقال الواقدي [ (3) ] : وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على مصرع ابني عفراء فقال يرحم اللَّه ابني عفراء فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول اللَّه ومن قتله معهما؟ قال: الملائكة وابن مسعود شرك في قتله.
قال الواقدي: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: الحمد اللَّه الّذي جعل خدّ أبي جهل الأسفل، وصرعة، وشفانا منه.
وذكر يونس بن بكير عن عنبة بن الأزهر، عن أبي إسحاق قال: لما جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم البشير يوم بدر بقتل أبي جهل استحلفه ثلاث أيمان باللَّه الّذي لا إله إلا هو، لقد رأيته قتيلا فحلف له فخرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا وقد جاء أنه صلّى اللَّه عليه وسلم صلي ركعتين.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 88، وأخرجه أبو داود في الجهاد، باب (142) في الرخصة في السلاح يقال به في المعركة، حديث رقم (2709) عن محمد بن العلاء، عن إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأخرجه النسائي في السير من (السنن الكبرى) ، عن عمرو بن يزيد الجرمي، عن أبيه عن خالد القيسي، عن شعبة عنه ببعضه.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 665، حديث رقم (3814) مطولا، 666، حديث رقم (3815) مختصرا، كلاهما من مسند عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ]
(مغازي الواقدي) : 1/ 91، وفيه: «فقيل يا رسول اللَّه ومن قتله معهما؟ قال: الملائكة، وذافّه ابن مسعود، فكل قد شرك في قتله،
وما أثبتناه من (الأصل) . وذافّه: أجهز عليه.
(الصحاح) .(12/155)
وأما إجابة اللَّه تعالى دعاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم على أمية بن خلف وقتله ببدر
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتى بمكة وأحفظه في صاغتيه بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الّذي كان في الجاهلية، فاكتبته عبد عمرو، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال أمية بن خلف: لا نجوت إن نجا أمية، فجمع معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا، خلفت لهم ابنه لأشغلهم به فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا. وكان رجلا ثقيلا فلما أدركونا قلت له:
ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فجللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
قال البخاري سمع يوسف صالحا وإبراهيم إياه ذكر البخاري هذا الحديث في كتاب الوكالة، وترجم عليه إذا وكل المسلم حربيا في دار الحرب أو في دار السلام جاز، وخرجه في غزوة بدر [ (2) ] ، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق [ (3) ]
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 604، كتاب الوكالة، باب (2) إذا وكل المسلم حربيا في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز، حديث رقم (2301) قال الحافظ في (الفتح) : ووجه أخذ الترجمة من هذا الحديث أن عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو مسلم في دار الإسلام، فوض إلى أمية بن خلف وهو كافر في دار الحرب ما يتعلق بأموره، والظاهر اطلاع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عليه ولم ينكره. قال ابن المنذر: توكيل المسلم حربيا مستأمنا، وتوكيل الحربي المستأمن مسلما لا خلاف في جوازه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 379، كتاب المغازي، باب (8) قتل أبي جهل، حديث رقم (3971) .
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 179- 181، مقتل أمية بن خلف، عليه لعنة اللَّه تعالى.(12/156)
قال: حدثني يحيى بن عباده بن عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه، وحدثني صالح بن إبراهيم عن عبد الرحمن بنو عوف قالا: كان عبد الرحمن بن عوف يقول كان أمية بن خلف صديقا لي بمكة وكان اسمي عبد عمرو، فلما أسلمت سميت عبد الرحمن، فلقيني فقال: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك به أبوك؟ فأقول نعم هداني اللَّه للإسلام فسميت عبد الرحمن قال إني لا أعرف الرحمن أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك باسمك الآخر فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به تجيبني، فقلت: يا أبا على فقل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، وكان إذا لقيني قال يا عبد الإله فلما كان يوم بدر وهزم الناس استلبت أدراعا فمررت بهم أحملهن فرآني أمية وهو قائم مع ابنه عليّ آخذ بيده فقال: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله فقلت: نعم، فقال: هل لك فىّ وفي ابني فنحن خير لك من الأدراع التي تحمل؟ فقلت: نعم هايم اللَّه [ (1) ] إذا فألقيت الأدراع فأخذت بيده وبيد ابنه فجعل يقول: ما رأيت كاليوم قط أما لكم حاجه في اللبن؟ يقول الفداء فو اللَّه إني لأمشي معهما إذ رآهما معي بلال فقال رأس الكفر أمية بن خلف: لا نجوت إن نجوت! فقلت: أي بلال أبأسيري، فقال لا نجوت إن نجا، فصرخ بأعلى صوته يا معشر الأنصار رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وجعلت أذب عنهما وأقول أسيري إذ أخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فطرحها فصاح أمية صيحة واللَّه ما سمعت صيحة مثلها قط، فقلت: أنج بنفسك فو اللَّه ما أغني عنك شيئا ونجاة فهبروه واللَّه بأسيافهم، حتى فرغوا منه، وكان عبد الرحمن يقول يرحم اللَّه بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيريّ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، في (المرجع السابق) : «ها اللَّه ذا» ، ها: حرف تنبيه، وذا: اسم إشارة يشير به إلى نفسه، وقال بعضهم: إلى القسم، أي أضمره، وقام التنبيه مقامه، كما يقوم الاستفهام مقامه، فكأنه قال: ها أنا ذا مقسم، وفعل بالاسم المقسم به بين ها، وذا، فعلم أنه هو القسم فاستغنى عن أنا، وكذا في قول أبى بكر: لاها اللَّه ذا. (هامش المرجع السابق) .
[ (2) ] سبق تخريجه. والمسكة: الحلقة. وأخلف: سلّ.(12/157)
وخرج أبو نعيم من طريق يحيى بن بكير قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد اللَّه بن مسعود أن سعد بن معاذ خرج معتمرا فنزل على أمية بن خلف وكان أمية إذا خرج إلي الشام نزل على سعد فقال له: أمهل حتى يسكن أو يهدأ الناس ثم تطوف بالبيت فبينا هو يطوف بالبيت إذا رآه أبو جهل فقال من ذا الّذي يطوف بالبيت؟ قال: أنا سعد بن معاذ، قال: تطوف بالبيت وقد آويتم محمدا وأصحابه؟ فقال له سعد: واللَّه لئن منعتني لأقطعن عليك متجرك من الشام، فجعل أمية يمسك سعدا ويقول: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيّد أهل الوادي، فغضب سعد ودفع في صدر أمية وقال: دعنا عنك فقد سمعت محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال:
نعم، قال: فو اللَّه ما يكذب محمد، فلما رجع إلى أم صفوان قال لها: أما تعلمين ما قال أخي اليثربي؟ قالت فو اللَّه ما يكذب محمد فلما جاء الصريخ فخرجوا إلى بدر قالت له امرأته: أما تذكر ما قال أخوك اليثربي؟ فأراد أن يقعد فقال له أبو جهل- أخزاه اللَّه-: إنك من أشراف أهل الوادي فسر بنا يوما أو يومين فسار معهم فقتله اللَّه تعالى.
وقال الواقدي [ (1) ] : وكان عبد الرحمن بن عوف يقول إني لأجمع أدراعا يوم بدر بعد أن ولى الناس فإذا أمية بن خلف وكان لي صديقا في الجاهلية، وكان اسمي عبد عمرو فلما جاء الإسلام تسميت عبد الرحمن، فكان يلقاني فيقول: يا عبد عمرو، فلا أجيبه فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن إن مسيلمة باليمامة يسمى عبد الرحمن، فأنا لا أدعوك إليه، فكان يدعوني عبد الإله، فلما كان يوم بدر، [رأيته] كأنه [جمل] أورق ومعه ابنه [عليّ] ، فناداني: يا عبد عمرو، فأبيت أن أجيبه، [فنادى] : يا عبد الإله، فأجبته، فقال: أما لكم حاجة في اللبن نحن خير لك من أدراعك هذه، فقلت: امضيا، فجعلت أسوقهما أمامي وقد رأى أميه أنه قد أمن بعض الأمن فقال لي أمية: رأيت رجلا فيكم اليوم معلما في صدره ريش نعامة من هو؟ فقلت: حمزة بن عبد المطلب، فقال: ذاك الّذي فعل بنا الأفاعيل، ثم قال: فمن رجل دحداح قصير معلم
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 82- 84.(12/158)
حمراء؟ قلت: ذاك رجل من الأنصار بقال له سماك بن خرشة. فقال: وبذاك [أيضا] يا عبد الإله صرنا اليوم جزرا لكم! قال: فبينما هو معي أزجيه أمامي ومعه ابنه إذ بصر به بلال وهو بعجن عجينا له فترك العجين وجعل [يفتل] يديه من اليمين [العجين] [فتلا] وهو ينادي يا معشر الأنصار، أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوت إن نجا فأقبلوا كأنهم عوذ [ (1) ] حنت إلى أولادها، حتى طرح أمية على ظهره، واضطجعت عليه، وأقبل الحباب بن المنذر فأدخل سيفه فاقتطع أرنبه أنفه، فلما فقد أمية أنفه قال: إيه عنك أي خل بيني وبينهم. قال عبد الرحمن: فذكرت قول حسان*
أو عن ذلك الأنف جادع،
قال: ويقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله، وقد [ضرب] أمية خبيب بن يساف حتى قطع يده من المنكب، فأعادها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بيده فالتحمت واستوت، وتزوج خبيب بعد ذلك ابنة أبيّ بن خلف فرأت تلك الضربة فقالت: لا يشلل اللَّه يد رجل فعل هذا، فقال خبيب وأنا واللَّه قد أوردته شعوب، فكان خبيب يحدث قال: فأضربه فوق العاتق فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره وعليه الدرع وأنا أقول: خذها وأنا ابن يساف، وأخذت سلاحه ودرعا مقطوعا فأقبل عليّ ابن أمية فيعرض له الحباب [فقطع] رجله [ (2) ] .
وذكر الواقدي [ (3) ] أن رفاعة بن رافع هو الّذي قتل أمية في خبر ذكره.
واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
__________
[ (1) ] العوذ: الصبية الصغار. (لسان العرب) : 3/ 500.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 82- 84. وما بين الحاصرتين تصويبات وزيارات للسياق منه.
[ (3) ] سبق تخريجه.(12/159)
وأما إنجاز اللَّه تعالى وعده للرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وقتله صناديد قريش وإلقاؤهم في القليب
فخرج مسلم [ (1) ] من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم ثم ناداهم فقال: يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربي حقا، فسمع عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه كيف يسمعون؟ وأني يجيبون وقد جيفوا؟ قال: والّذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر.
وخرج مسلم [ (2) ] من طريق روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فألقوا في طوى من أطواء بدر. وساق الحديث بمعنى حديث ثابت عن أنس
وخرج البخاري [ (3) ] حديث روح، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك، عن أبى طلحة أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا:
ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفير الركى، فجعل يناديهم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 212- 213، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب (17) عرض مقعد الميت من الجن أو الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، حديث رقم (2874) . وهذا السحب إلى القليب ليس دفنا لهم، ولا صيانة، ولا حرمة، بل لدفع رائحتهم المؤذية، واللَّه أعلم.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2875) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 382، كتاب المغازي، باب (8) قتل أبي جهل، حديث رقم (3976) .(12/160)
بأسمائهم وأسماء آبائهم فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟
قال: فقال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه ما تكلم من أجساد ولا أرواح لها فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والّذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم
قال قتادة: أحياهم اللَّه حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا [ (1) ] ، ونقيمة [ (2) ] وحسرة وندما.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (3) ] : قالوا: وأمر اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم بدر بالقلب أن تغور، ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها اللَّهمّ إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اتركوه ونظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى عتبة يجر إلى القليب وكان رجلا جسيما في وجهه أثر الجدري تغير وجه ابنه أبي حذيفة، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا أبا حذيفة كأنك ساءك ما أصاب أباك؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ولكني رأت لأبي عقلا وشرفا، كنت أرجو أن يهديه اللَّه للإسلام فلما أخطأه ذلك، ورأيت ما أصابه غاظني قال أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كان واللَّه يا رسول اللَّه أتقى في العشيرة من غيرة وقد كان كارها لوجهه، ولكن الحين ومصارع السوء.
فلما توافوا في القليب وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يطوف عليهم وهم مصرعون وأبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يخبره بهم رجلا رجلا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بحمد اللَّه ويشكره ويقول: الحمد للَّه الّذي أنجز لي ما وعدني، فقد وعدني إحدى الطائفتين.
__________
[ (1) ] في رواية الإسماعيلي: «وتندّما وذلة وصغارا» ، وأراد قتادة بهذا التأويل الرد على من أنكر أنهم يسمعون، كما جاء عن عائشة أنها استدلت بقوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 3/ 610، حديث رقم (1206) من مسند أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، 4/ 610، حديث رقم (15921) ، من حديث أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري.
[ (2) ] في بعض المصادر: «تقمئة» ، «نقمة» ، «نقيمة» .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 111- 112.(12/161)
قال: ثم وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا:
يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنّي قد وجدت ما وعدني ربي حقا، بئس القوم كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس، قالوا: يا رسول اللَّه! تنادي قوما قد ماتوا؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: قد علموا أن ما وعدهم ربهم حقا.(12/162)
وأما تصديق اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم في قتل عتبة بن أبي معيط بمكة والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم مهاجر بالمدينة فكان يقول بمكة فيه بيتين من شعر
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما بلغه قوله اللَّهمّ أكبه لمنخره واصرعه،
فجمح به فرسه يوم بدر، فأخذه عبد اللَّه بن سلمه العجلاني فأمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عاصم بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا.
وقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] وكان عقبه بن أبي معيط والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم مهاجر بالمدينة فكان يقول بمكة:
يا راكب الناقة القصواء هاجرنا ... عما قليل تراني راكب الفرس
أعلّ رمحي فيكم ثم أنهله ... والسيف يأخذ منكم كل ملتبس
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وبلغه قوله: اللَّهمّ أكبه لمنخره واصرعه،
فجمح به فرسه يوم بدر، فأخذه عبد اللَّه بن سلمه العجلاني فأمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا.
وخرج أبو نعيم [ (2) ] من طريق محمد بن السائب عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه جبرانه أهل مكة كلهم، قال: وكان يكثر مجالسة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ويعجبه حديثه، ويغلب عليه الشقاء، فقدم ذات يوم من سفره فصنع طعاما ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى طعامه، فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، قال: أطمعها يا ابن أخي قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك، فطعم من طعامه فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة؟ - وكان خليله- فقال: لا واللَّه ما
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 82.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 470- 471، ذكر ما جرى من الآيات في غزواته وسراياه، من غزوة بدر إلى غزوة تبوك، وفي جميع ذلك دليل على أنه لم يخل شيء من أحواله صلّى اللَّه عليه وسلم عن آية شاهدة له، ومعجزة جارية على يديه، خليق كون ذلك له، وإذ النبوة مختومة به، والشريعة إلى قيام الساعة قائمة به صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (401) .(12/163)
صبوت، ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، قال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه، قال: ففعل عقبة ذلك وأخذ رحما فألقاه بين كتفيه فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا،
ولم يقتل من الأسارى يومئذ غيره، قتله ثابت بن أبي الأقلح.
قال: ورواه جعفر أبي المغيرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما أن ابن أبي معيط كان يجلس مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلا حليما وكان يقيه من قريش، وكانت قريش إذا جلسوا معه آذوه وكان ابن أبيّ خلف غائب عنه بالشام فقالت قريش: صبأ ابن أبي معيط فقدم خليله من الشام ليلا، فقال لامرأته: ما فعل محمد فيما كان عليه؟ فقالت: هو أشد ما كان أمرا، فقال لها ما فعل خليلي؟
ابن أبي معيط؟ فحيّاه فلم يردّ عليه التحية، فقال: مالك لا ترد عليّ تحيتي؟
فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: وقد فعلتها قريش؟ قال: نعم قال: يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه على مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم،
فلم يزد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفتت إليه فقال: لئن وجدتك خارجا من جبال مكة لأضربن عنقك صبرا، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه، أبي أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا فقال وعدني هذا الرجل إن أخذني خارجا من جبال مكة لضرب عنقي صبرا، فقالوا: لك جملا حمولا بدرك فإن كانت الهزيمة طرت، فخرج معهم، فلما هزم اللَّه المشركين وحل به جمله في جدد من الأرض، فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أسيرا في سبعين من قريش، فيهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، فجعل عليهم الفداء أربعين أوقية من ذهب، وجعل على العباس مائه أوقية، وعلى عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية، وقدم إليه ابن أبي معيط فقال:
أتقتلني من بين هؤلاء، وأنا أكبرهم سنا وأكثرهم مالا؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي،
فأنزل اللَّه تعالى في ابن أبي معيط وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ(12/164)
يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا [ (1) ] .
فقال عباس: القرابة صنعت هذا، فو الّذي يحلف به العباس، لقد تركتني فقير قريش، وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل، ثم أقبلت إليّ فقلت لها: إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت، وإن أرجع فلا يهمنك شيء، فقال: إني أشهد أن الّذي تقوله قد كان، وما اطلع عليه إلا اللَّه قال: فأنزل اللَّه تعالى على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [ (2) ] الآية فقال العباس حين نزلت [ (3) ] : لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافها، فأتاني اللَّه خيرا منها [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الفرقان: 27- 29.
[ (2) ] الأنفال: 70، وتمامها: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[ (3) ] (البحر المحيط) : 5/ 352.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 476- 477، حديث رقم (410) مختصرا، وقال الحافظ في (الفتح) : إسناده حسين، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 581- 582، حديث رقم (3300) من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.(12/165)
وأما إجابة دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في نوفل بن خويلد [ (1) ]
قال الواقدي في (مغازيه) [ (2) ] فحدثني معمر عن الزهري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اكفني نوفل بن خويلد، وأقبل نوفل يومئذ وهو مرعوب قد رأى قتل أصحابه، وكان في أول ما التقوا هم والمسلمون يصيح بصوت له زجل رافعا صوته: يا معشر قريش، إن هذا اليوم يوم العلاء والرفعة، فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار: ما حاجتكم إلى دمائنا؟ أما ترون من تقتلون؟ أما لكم في اللبن من حاجة؟ فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار- وقد رأى عليا رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه مقبلا نحوه: يا أخا الأنصار، من هذا؟ واللات والعزى إني لأرى رجلا إنه ليريدني، قال: هذا عليّ بن أبي طالب، قال: ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه منه فيصمد له عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فيضربه فنشب سيف عليّ في جحفته ساعة، ثم نزعه فيضرب ساقيه ودرعه مشمرة فقطعهما، ثم أجهز عليه فقتله فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من له علم بنوفل بن خويلد؟ فقال علي أنا قتلته قال: فكبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: الحمد للَّه الّذي أجاب دعوتي فيه.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 91- 92.
[ (2) ] كان يقال لنوفل بن خويلد: أسد قريش، وأسد المطيبين،
وروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال يوم بدر: «اللَّهمّ اكفنا ابن العدويّة!» ،
يعني نوفلا. وكانت أمه من عدي بن خزاعة. وتقول عامة الرواة: إنّ عليّا قتله، وله من الولد: الأسود بن نوفل. (جمهرة أنساب العرب) : 120.(12/166)
وأما إعلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عمه العباس بما كان بينه وبين امرأته أم الفضل، لم يطّلع عليه أحد
فخرج أبو نعيم [ (1) ] من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني الحسن بم عمارة عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان الّذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن سلمة، ويقال: كعب بن عمرو بن مالك بن عمرو بن عباد بن عمر بن تميم بن شداد بن عثمان بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا [ (2) ] ، وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا أبا اليسر كيف أسرت العباس؟
فقال: يا رسول اللَّه لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، وهيئته كذا وكذا فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم.
وذكر الكلبي أن عبيد بن أوس بن مالك بن سواد بن كعب وهو ظفر ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس أبا النعمان الأنصاري الظفري أسر العباس وعقيلا.
وقال ابن عبد البر [ (3) ] : هو الّذي أسر عقيل بن أبي طالب ويقال: إنه أسر العباس ونوفلا وعقيلا فقرنهم في حبل وأتى بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لقد أعانك عليهم ملك كريم، وسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقرنا،
وبنو سلمة يدّعون أن أبا اليسر كعب بن عمرو أسر العباس وكذلك قال ابن إسحاق.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 471- 472، حديث رقم (402) ، وأخرجه الإمام أحمد من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بسياقة أتم، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) : 4/ 12 في ترجمة العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
[ (2) ] مجموعا: دميما.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 3/ 1015، ترجمة رقم (1725) .(12/167)
وخرج أبو نعيم [ (1) ] من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد اللَّه بن موسى، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وذكر وقعة بدر، قتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين، قال: فجاء رجل من الأنصار فصير بالعباس أسيرا، فقال العباس: يا رسول اللَّه إن هذا واللَّه ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول اللَّه فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لقد أيّدك اللَّه بملك كريم.
ومن طريق عبد اللَّه بن المبارك قال: حدثني جرير بن حازم، عن على ابن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قلت لأبي: يا أبت كيف أسرك أبو اليسر ولو شئت لجعلته في كفك؟ قال:
يا بني! لا تقل ذلك لقد لقيني وهو أعظم في عيني من الحندمة [ (2) ] .
ومن طريق محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [ (3) ] كان العباس يقول: في نزلت هذه الآية حين أخبرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بإسلامي فسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأعطاني بالعشرين أوقية عشرين عبدا كلهم تاجر بمال معه في يده معها أرجو مغفرة اللَّه ورحمته.
وعن الكلبي، عن أبي صالح، عن بن عباس، عن جابر، عن عبد اللَّه ابن دياب قال: قال العباس في نزلت هذه الآية حين ذكرت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إسلامي فسألته أن يقاضيني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبي فعوضني اللَّه بها بعشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بماله، ومعها أرجو رحمة اللَّه تعالى ومغفرته [ (4) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] الحندم: شجر حمر العروق، واحدته حندمة: (لسان العرب) : 12/ 162.
[ (3) ] الأنفال: 70.
[ (4) ] (طبقات ابن سعد) : 4/ 15، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 28- 83، ترجمة رقم (11) .(12/168)
قال ابن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان الّذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو وكان أبو اليسر مجموعا وكان العباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه رجلا جسيما فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للعباس: أفد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم أخا بلحارث بن فهر، فإنك ذو مال، قال:
يا رسول اللَّه إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني، قال: اللَّه أعلم بإسلامك ولكن إن يك ما تقول حقا فاللَّه يجزيك به فأما ظاهر أمرك فكان علينا، فافد نفسك، وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فقال العباس: يا رسول اللَّه أحسبها من فدائي، قال: لا ذاك شيء أعطاناه اللَّه منك، قال: فإنه ليس لي مال قال: فأين المال الّذي وضعت بمكة حين خرجت من عند أم الفضل ابنة الحارث، وليس معكما أحد؟ ثم قلت: إن أصبت في سفري فللفضل كذا، ولعبد اللَّه كذا؟ قال: والّذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول اللَّه، ففدى العباس نفسه وابني أخيه وحليفه.
وقال جرير عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر أسر سبعون فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعين أوقية ذهب، وجعل على عمه العباس مائة، وعلى عقيل ثمانين، فقال العباس:
ألقرابة صنعت هذا؟ والّذي يحلف به العباس لقد تركتني فقير قريش ما بقيت، قال: كيف تكون فقير قريش وقد استودعت أم الفضل بنادق الذهب؟ ثم أقبلت إليّ فقلت لها: إن قتلت تركتك غنية وإن رجعت فلا يهمنك شيء،
فقال: إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أنك رسول اللَّه، ما أخبرك بهذا إلا اللَّه عز وجل، وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (1) ] فقال حين نزلت: يا نبي اللَّه لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافها، وآتاني اللَّه خيرا منها [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الأنفال: 70.
[ (2) ] سبق تخريجه.(12/169)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عمير بن وهب بن خلف بن وهب ابن حذافة بن جمح الجمحيّ أبا أمية وهو المضرّب بما همّ به من قتله [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم]
فقال إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق [ (1) ] ، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال: جلس عمير بن وهب الجمحيّ مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير وهو في الحجر، وكان عمر بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه به ويلقون منه عنتا وهم بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى أصحاب بدر.
قال: فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان: واللَّه إن في العيش خير بعدهم، فقال له عمير: صدقت واللَّه أما واللَّه لولا دين عليّ ليس عندي قضاء له، وعيال أخشى عليهم الضّيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي [أو اسيهم] ، لا يسعني شيء ويعجز، عنهم قال له عمير: فأكتم عليّ شأني [وشأنك] ، قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر ابن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في نفر من المسلمين في المسجد يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم اللَّه به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا بالسيف، فقال: هذا الكلب عدو اللَّه عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، وهو الّذي حرّش بيننا وحزرنا [للقوم] يوم بدر.
ثم دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا نبي اللَّه! هذا عدو اللَّه عمير بن وهب قد جاء متوشحا بسيفه، قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 212- 215، إسلام عمير بن وهب بعد تحريض صفوان له على قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وما في ذلك من دلائل نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق وتصويبا منه.(12/170)
بحمالة سيفه في عنقه فلبه بها، وقال لرجال ممن كان معه من الأنصار:
ادخلوا على رسول اللَّه فاجلسوا عنده، واحذروا [عليه من] هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
فلما رآه صلّى اللَّه عليه وسلم وعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: انعموا صباحا- وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: قد أكرمنا اللَّه بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة، قال: أما واللَّه يا محمد إن كنت لحديث عهد بها، قال فما أقدمك؟ قال: جئتك لهذا الأسير الّذي في أيديكم، فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها اللَّه من سيوف، وهل أغنت شيئا؟ قال: أصدقني ما الّذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك.
قال بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك حتى تقتلني له، واللَّه حائل بينك وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك رسول اللَّه، وقد كنا [يا رسول اللَّه] نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو اللَّه إني لأعلم إنه ما أتاك به إلا اللَّه، فالحمد للَّه الّذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد بشهادة الحق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، قال:
ففعلوا.
ثم قال: يا رسول اللَّه، إني كنت جاهدا على إطفاء نور اللَّه، شديد الأذى لمن كان على دين اللَّه، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم إلي اللَّه وإلى الإسلام، لعل اللَّه أن يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك.
قال: فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلحق بمكة، وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه فحلف لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا، فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى(12/171)
الإسلام ويؤذي من خالفه إيذاء شديدا، وكان رجلا شهما منعيا، فأسلم على يديه ناس كثير، [فلما انقضى أمر بدر أنزل اللَّه فيه القرآن [سورة] الأنفال بأسرها] [ (1) ] .
وقد ذكر قصة عمير بن وهب موسى بن عقبه رحمه اللَّه تعالى وذكرها الواقدي في (مغازيه) [ (2) ] فقال: ثم قال: حدثني محمد بن أبي حميد عن عبد اللَّه بن عمرو بن أمية قال: لما قدم عمير بن وهب في أهله ولم يقرب صفوان بن أمية فأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ صفوان فقال: قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد ارتكس، وحلف باللات والعزى لا أكلمه من رأسي أبدا ولا أنفعه ولا عياله بنافعة أبدا، فوقف عليه عمير وهو في الحجر فأعرض عنه، فقال عمير: أنت سيد من ساداتنا أرأيت الّذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له، أهذا دين؟ أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين ليس في (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 127- 128.(12/172)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم قباث بن أشيم [ (1) ] بن عامر بن الملوّح الكناني ويقال الليثي- بما قاله في نفسه، وقد انهزم فيمن انهزم يوم بدر
فقال الواقدي في (مغازيه) [ (2) ] : وكان قباث بن أشيم الكنانيّ يقول:
شهدت مع المشركين بدرا وإني لأنظر لقلة أصحاب محمد في عيني، وكثرة ما منعنا من الخيل والرجال، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه وإني لأقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا الأمر فرّ منه إلا النساء، وصاحبني رجل، فبينما هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا، فقلت لصاحبي: أبك نهوض؟ قال: لا واللَّه، ما هو بي، قال: وعقر فترفعت، فلقد صبحت غيقة قبل الشمس، كنت هاديا بالطريق ولم أسلك المحاج وخفت من الطلب فتنكيت عنها، فلقيني رجل من قومي بغيقة [ (3) ] ، فقال: ما وراءك؟ قلت:
لا شيء! قتلنا، وأسرنا، وانهزمنا، فهل عنك من حملان؟ قال: فحملني على بعير، وزودني زادا حتى لقيت الطريق بالجحفة، ثم مضيت حتى دخلت مكة،
__________
[ (1) ] هو قباث بن أشيم بن عامر بن الملوح الكناني ويقال التميمي، والأكثر قول من نسبه في كتاب، سكن دمشق. روي عنه عامر بن زياد الليثي وأبو الحويرث فإنه قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم قال: بل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل. ووقفت بي أمي على روث الفيل، وأنا أعقله.
وقال البخاري: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور، عن يونس بن يوسف، عن عبد الرحمن بن زياد، عن قباث بن أشيم الليثي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: صلاة رجلين يؤمهما أحدهما أزكى عند اللَّه من صلاة ثمانية تتري، وصلاة ثمانية يؤمهما أحدهم أزكى عند اللَّه من صلاة مائة تتري. ذكره البخاري في (التاريخ) . (الاستيعاب) : 3/ 1303- 1304، ترجمة رقم (2165) ، (الإصابة) : 5/ 407- 408، ترجمة رقم (7061) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 97- 98. وترفعت: من رفع البعير في السير، أي بالغ.
(الصحاح) .
[ (3) ] غيقة: بين مكة والمدينة في بلاد غفار. (معجم البلدان) : 4/ 251، موضع رقم (8967) .(12/173)
وإني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم، فعرفت أنه تقدم ينعى قريشا بمكة، فلو أردت أن أسبقه لسبقته، فتكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار، فقدمت وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم وهم يلعنون الخزاعي ويقولون:
ما جاءنا بخير، فمكث بمكة، فلما كان بعد الخندق قلت: لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد،
وقد وقع في قلبي الإسلام فقدمت المدينة فسألت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته، وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت، فقال: يا قباث بن أشيم، أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فرّ منه إلا النساء؟ قلت: أشهد أنك رسول اللَّه وأن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط وما ترمرمت [ (1) ] به إلا شيئا حدثت به نفسي فلولا أنك نبي ما أطلعك اللَّه عليه، هلم حتى أبايعك. فعرض علي الإسلام فأسلمت.
__________
[ (1) ] ترمرم: حرك فاه: بالكلام. (الصحاح) .(12/174)
وأما قيام سهيل بن عمرو [ (1) ] والمقام الّذي خبّر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يوم بدر
فقال الواقدي [ (2) ]- رحمه اللَّه- ولما أسر سهيل بن عمرو يوم بدر، قال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه انزع ثنيته يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل اللَّه بي، وإن كنت نبيا، ولعله يقوم مقاما لا تكرهه،
فقام سهيل بن عمرو حين جاءه وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بخطبة أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حين بلغه كلام سهيل: أشهد أنك رسول اللَّه، يريد حيث
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لعله يقوم مقاما لا تكرهه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: [ (3) ] سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ بن غالب القرشي العامري، يكنى أبا يزيد، كان أحد أشراف قريش وساداتهم في الجاهلية أسر يوم بدر كافرا، وكان خطيب قريش، فقال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه:
يا رسول، اللَّه انزع ثنيته فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: دعه فعسى أن يقوم مقاما تحمده،
وكان الّذي أسره مالك بن الدخشم، فقدم مكرز بن حفص بن الأحنف العامري فقاطعهم في فدائه، وقال: ضعوا أرجلى في القيد حتى يأتي الفداء، ففعلوا ذلك.
وكان سهيل أعلم، أي مشقوق الشفة العليا، وهو الّذي جاء في الصلح يوم الحديبيّة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين رآه: قد سهل أمركم،
وعقد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الصلح يؤمئذ وهو كان يتولى ذلك دون سائر قريش.
وكان المقام الّذي قام به في الإسلام الّذي
قاله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: دعه فعسى أن يقوم مقاما تحمده،
فكان مقامه ذلك أنه لما هاج أهل مكة عند وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وارتدّ من ارتد من العرب، قام سهيل بن
__________
[ (1) ] ترجمته في (الإصابة) : 3/ 212- 215، ترجمة رقم (3575) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 107.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 2/ 669- 672، ترجمة رقم (1106) .(12/175)
عمرو خطيبا، فقال: واللَّه أعلم أن هذا الذين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم، يعنى أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنه قد ختم على صدره حسد بنى هاشم، وأتى في خطبته بمثل ما جاء به أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بالمدينة، فكان ذلك معنى قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه لعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أعلم.
وقال أسد بن موسى عن سعيد بن عبد اللَّه الجمحيّ، عن عبد اللَّه بن عمير الليثي، عن أبيه قال: مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وعلى مكة وعاملها عتاب بن أسيد، فلما بلغهم موت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضج أهل المسجد، فبلغ عتاب، فخرج حتى دخل شعبا من شعاب مكة، وسمع أهل مكة الضجيج، فوافى رجالهم إلى المسجد، فقال سهيل بن عمرو: أين عتاب؟ وجعل يستدل عليه، حتى أتى عليه الشعب، فقال: مالك؟ قال: مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم! فقال: قم في الناس فتكلم، قال: لا أطيق الكلام مع موت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فاخرج معي فأنا أكفيكه، فخرجا، حتى أتيا المسجد، فقام سهيل خطيبا فحمد اللَّه وأثنى عليه، وخطب مثل خطبه أبي بكر، لم يجزم منها شيئا
وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب وسهيل في الأسرى يوم بدر: ما يدعوك إلى نزع ثناياه؟ دعه فعسى أن يقيمه اللَّه مقاما يسرك،
فكان ذلك المقام الّذي قال، وضبط عتاب عمله وما حوله.
وخرج البيهقي [ (1) ] من طريق سفيان، عن عمر، عن الحسن قال: قال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه دعني أنزع ثنية سهيل ابن عمرو، فلا يقوم خطيبا في قومه أبدا، فقال: دعها فلعلها أن تسرك يوما،
قال سفيان: فلما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نفر منه أهل مكة فقام سهيل بن عمرو عند الكعبة فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، واللَّه حىّ لا يموت.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 367، باب إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بما يرجع إليه مقال سهيل بن عمرو بن عبد شمس، ورجوعه إلى ذلك، فكان كما أخبر. وفيه: من كان محمد إلهه فإن محمدا قد مات» ، وما أثبتناه من (الأصل) .(12/176)
قال البيهقي [ (1) ] ثم لحق سهيل في أيام عمر بالشام مرابطا في سبيل اللَّه حتى مات بها في طاعون عمواس.
وذكر ابن سعد أن سهيلا قال يومئذ: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه فإن اللَّه حي لا يموت، وقد نعى اللَّه نبيكم إليكم، وهو بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت الّذي لا يبقى أحدا، ألم تعلموا أن اللَّه قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [ (2) ] وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [ (3) ] وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [ (4) ] ثم تلا: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ (5) ] فاتقوا اللَّه واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين اللَّه قائم وكلمة اللَّه تامة، وإن اللَّه تعالى ناصر من نصره، ومعز لدينه، وقد جمعكم اللَّه على خيركم.
فلما بلغ عمر كلام سهيل بمكة قال: أشهد أن محمدا رسول اللَّه وأن ما جاء به حق، هذا هو المقام الّذي تمنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين قال لي: لعله يقوم مقاما لا تكرهه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] الزمر: 30.
[ (3) ] آل عمران: 144.
[ (4) ] آل عمران: 185، الأنبياء 35.
[ (5) ] القصص: 88.
[ (6) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 107.(12/177)
وأما دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن خرج معه إلى بدر وإجابة اللَّه تبارك وتعالى دعاءه
فقال الواقدي [ (1) ] : حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: خرجنا إلى بدر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومعنا سبعون بعيرا وكانوا يتعاقبون الثلاثة والأربعة والاثنان على بعير، وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم غناء، أرجلهم رجلة، وأرماهم بسهم، لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين فصل من بيوت السقيا: اللَّهمّ إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك.
قال: فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل، البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى.
وأما قتل كعب بن الأشرف اليهودي أحد بني النضير بسؤال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ربه تعالى أن يكفيه إياه بما شاء
فقال الواقدي في (مغازيه) [ (2) ] : حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، ومعمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، وإبراهيم بن جعفر، عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه، فكل قد حدثني منه بطائفة، فكان الّذي اجتمعوا لنا عليه قالوا: إن ابن الأشرف كان شاعرا وكان يهجو النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه، ويحرض عليهم كفار قريش في شعره.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، فيهم أهل الحلقة والحصون، ومنهم حلفاء للحيين
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 26.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 184- 193.(12/178)
جميعا، الأوس والخزرج، فأراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشركا، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه أذى شديدا، فأمر اللَّه عز وجل نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم والمسلمين بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، وفيهم أنزل اللَّه تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ (1) ] وفيهم أنزل وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ (2) ] .
فلما أبي ابن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأذى المسلمين وقد بلغ منهم، فلما قدم زيد بن حارثة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بالبشارة من بدر بقتل المشركين، وأسر من أسر منهم، ورأى الأسرى مقرنين كبت وذل، ثم قال لقومه: واللَّه لبطن الأرض خير لكم من ظهرها اليوم، هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا. قال وما أنتم وقد وطئ قومه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريش فأحضها وأبكى قتلاهم، فلعلهم ينتدبون، وأخرج معهم.
فخرج حتى قدم مكة ووضع رحله عند أبي وداعة بن ضميرة السهمىّ، فجعل يرثى قريشا يقول [ (3) ] :
طحنت رحى بدر لتهلك أهلها ... ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضه ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع
ويقول أقوام أذل بسخطهم ... إن ابن أشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا ... ظلت تسيخ بأهلها وتصدع
كم قد أصيب بها من أبيض ماجد ... ذي بهجة يأوي إليه الضّيّع
__________
[ (1) ] آل عمران: 186.
[ (2) ] البقرة: 109.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 186.(12/179)
طلق الدين إذا الكواكب أخلفت ... حمال أثقال يسود ويربع
نبئت أن بني المغيرة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدّعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبّه ... هل نال مثل المهلكين التبّع
[ (1) ]
صار الّذي أثر الحديث بطعنة ... أو عاش أمي مرعشا لا يسمع
نبئت أن الحارث بن هشام ... في الناس يبنى الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما ... يحمي على الحب الكريم الأروع
نبئت أن بني كنانة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الوليد وجدّعوا
قال فأجابه حسان بن ثابت رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وقليلا قال:
بكت عين كعب [ (2) ] ثم علّ بعبرة ... منه وعاش مجدعا لا يسمع
ولقد رأيت ببطن بدر منهمو ... قتلى تسح لها العيون وتدمع
وفأبكي فقد أبكيت عبدا رافعا ... شبه الكليب للكليبة يتبع
ولقد شفى الرحمن منهم سيدا ... وأهان قوما قاتلوه وصرّعوا
ونجا وأفلت منهم من قلبه ... شعف يظل لخوفه يتصدع
[ (3) ]
نجا وأفلت منهم متسرعا ... فلّ قليل هارب يتهزّع
[ (4) ] ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حسان بن ثابت، فأخبره بنزول كعب على من نزل، فقال حسان:
ألا أبلغا عني أسيدا رسالة ... فخالك عبد بالسراب مجرب
لعمرك ما أوفي أسيد بجاره ... ولا خالد ولا المفاضة زينب
وعتاب عبد غير موف بذمة ... كذوب شئون الرأس قرد مدرب
[ (5) ]
__________
[ (1) ] إلى هنا آخر الأبيات في (المغازي) .
[ (2) ] كذا في (الأصل) ، وفي (ديوان حسان) ، و (مغازي الواقدي) : «أبكى لكعب» ،
[ (3) ] هذه الشطرة في (الديوان) هكذا:
شعف يظل لخوفه يتصدع
[ (4) ] هذا البيت من (الأصل) فقط.
[ (5) ] هذه الأبيات ليست في (الديوان) وأثبتناه من (الأصل) ، وصوبناها من (المغازي) . والمفاضة من النساء الضخمة البطن.(12/180)
فلما بلغها [ (1) ] هجاؤه نبذت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنعه بنا حسان؟ فتحول، فكلما تحول عند قوم دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حسانا، فقال: ابن الأشرف نزل على آل فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحله، فلما لم يجد مأوى قدم المدينة
فلما بلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قدوم ابن الأشرف قال: اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من لي بابن الأشرف؟ فقد آذاني، فقال محمد بن مسلمة أنا له يا رسول اللَّه وأنا أقتله، قال فافعل فمكث محمد بن مسلمة: أياما لا يأكل، فدعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا محمد، تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول اللَّه قلت لك قولا فلا أدري أفي لك به أم لا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إنما عليك الجهد، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أشاور سعد بن معاذ في أمره.
فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس، منهم عباد بن بشر وأبو نائلة سلكان بن سلامة وأبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، فقالوا: يا رسول اللَّه نحن نقتله، فأذن لنا فلنقتله فإنه لا بدّ لنا منه، قال: قولوا، فخرج أبو نائلة إليه فلما رآه كعب أنكر شأنه، وكاد يذعر، وخاف أن يكون وراءه كمين، فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجة إليك، قال وهو في نادي قومه وجماعتهم: أدن إليّ، فخبرني بحاجتك، وهو متغير اللون مرعوب وكان أبو نائلة ومحمد بن مسلمه أخويه من الرضاعة، فتحدثنا ساعة وتناشدا الأشعار وانبسط كعب وهو يقول بين ذلك: حاجتك وأبو نائلة يناشده الشعر، فقال كعب حاجتك، لعلك تحب أن يقوم من عندنا؟ فلما سمع ذلك القوم قاموا.
قال أبو نائلة: إني كرهت أن يتسمع القوم ذرو [ (2) ] كلامنا فيظنون، كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس، وضاعت العيال، أخذنا الصدقة، ولا نجد ما نأكل، فقال كعب: قد كنت واللَّه أحدثك بهذا يا ابن سلامة، إن الأمر سيصير إليه.
__________
[ (1) ] الضمير عائد على عاتكة بنت أسيد.
[ (2) ] ذرو القول: طرفه.(12/181)
وقال أبو نائلة: ومعي رجال على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك ثقة بهم، فنبتاع منك طعاما وتمرا وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه، قال كعب إما إن رفاقي تقصف تمرا من عجوة تغيب فيها الضرس، أما واللَّه يا أبا نائلة ما كنت أحب أني أرى هذه الخصاصة بك، وإن كنت من أكرم الناس عليّ، أنت أخي نازعتك الثدي.
قال سلكان اكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد، قال كعب: لا أذكر منه حرفا ثم قال كعب: يا أبا نائلة اصدقني ذات نفسك، ما الّذي تريدون في أمره؟
قال: خذلانه والتنحي عنه، قال: سررتني يا أبا نائلة فما الّذي ترهنونني، أترهنونني أبناءكم ونساءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا، ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به، قال كعب: إن في الحلقة لوفاء وإنما يقول ذلك سلكان لئلا ينكرهم إذا جاءوا في السلاح، فخرج أبو نائلة من عنده على ميعاد فأتى أصحابه وأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده،
ثم أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عشاء، فأخبروه فمشى معهم، حتى أتى البقيع [ (1) ] ، ثم وجههم، ثم قال:
امضوا على بركة اللَّه وعونه.
ويقال: وجههم بعد أن صلوا العشاء في ليلة مقمرة مثل النهار، ليلة أربعة عشرة من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا.
قال: فمضوا حتى أتوا ابن الأشرف فلما انتتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس، فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت: أين تذهب؟ إنك رجل محارب، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة، فقال:
ميعاد، إنما هو أخى أبو نائلة، واللَّه لو وجدني نائما ما أيقظني، ثم ضرب بيده الملحفة وهو يقول: لودعي الفتي لطعنة لأجاب، ثم نزل إليهم فحياهم، ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى انبسط إليهم، ثم قالوا له: يا ابن الأشرف هل لك أن نتمشى إلى شرج العجوز [ (2) ] فنتحدث فيه بقية ليلتنا؟ قال: فخرجوا يتماشون حتى وجهوا قبل الشرج فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم قال: ويحك ما
__________
[ (1) ] البقيع: بقيع الغرقد، وهو مقبرة المدينة.
[ (2) ] شرج العجوز: موضع قرب المدينة.(12/182)
أطيب عطرك هذا يا ابن الأشرف! وإنما كان كعب يدهن بالمسك الفتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد في صدغيه، وكان جعدا جميلا، ثم مشى ساعة فعاد بمثلها حتى اطمأن إليه، وسلت يداه في شعره، فأخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه:
اقتلوا عدو اللَّه، فضربوه بأسيافهم، فالتفت عليه فلم تغن شيئا، ورد بعضها بعض ولحق بأبي نائلة.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا كان في سيفي فانتزعته فوضعته في سرته ثم تحاملت عليه فقططته [ (1) ] حتى انتهى إلى عانته، فصاح عدو اللَّه صيحة ما بقي أطم من آطام يهودي إلا أوقدت عليه نار فقال: ابن سنينة- يهودي من يهود بني حارثة وبينهما ثلاثة أميال- إني لأجد ريح دم بيثرب مسفوح وقد كان أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيفه وهم يضربون كعبا، فكلمه في رجله فلما فرغوا احتزوا رأسه ثم حملوه معهم، ثم خرجوا يشتدون وهم يخافون من يهود الإرصاد، حتى أخذوا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، وإن نيرانهم في الآطام لعاليه، ثم على بعاث، حتى إذا كانوا بحرة العريض نزف الحارث فأبطأ عليهم فناداهم: أقرئوا رسول اللَّه مني السلام، فعطفوا عليه حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أنهم قد قتلوه.
ثم انتهوا يعدون حتى وجدوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واقفا على باب المسجد، فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: ووجهك يا رسول اللَّه، ورموا برأسه بين يديه فحمد اللَّه على قتله،
ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل في جرحه فلم يؤذه، فقال:
صرخت به ولم يجفل لصوتي ... ووافى طالعا من فوق قصر
فعدت فقال من هذا المنادي ... فقلت أخوك عباد بن بشر
فقال محمد أسرع إلينا ... فقد جئنا لتشكرنا وتقري
وترفدنا فقد جئنا سغابا ... بنصف الوسق من حب وتمر
وهذه درعنا رهنا فخذها ... لشهر إن وفي أو نصف شهر
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، و (المغازي) ، والأولى: «فقددته» لأن القدّ: الشق طولا، والقطّ: الشق عرضا، قال تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ.(12/183)
فقال معاشر سغبوا وجاعوا ... لقد عدموا الغني من غير فقر
وأقبل نحونا يهوي سريعا ... وقال لنا لقد جئتم لأمر
وفي أيماننا بيض حداد ... مجرية بها الكفار نفري
فعانقه ابن مسلمة المرادي ... به الكفان كالليث الهزبر
وشد بسيفه صلتا عليه ... فقطره أبو عبس بن جبر
وصلت وصاحباني فكان لما ... قتلناه الخبيث كذبح عتر
[ (1) ]
ومر برأسه نفر كرام ... هم ناهوك من صدق وبر
وكان اللَّه سادسا فأبنا ... بأفضل نعمة وأعز نصر
[ (2) ]
قال فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه،
[فخافت اليهود] فلم يطلع عظيم من عظمائهم، ولم ينطقوا، وخافوا أن يبيتوا كما بيّت ابن الأشرف، وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة، وكان حليفا لحويصة بن مسعود، وقد أسلم بعد. [فعدا محيّصة علي ابن سنية فقتله] .
فجعل حويصة يضرب محيصة وكان أسنّ منه، يقول: أي عدوّ اللَّه أقتله؟ واللَّه لرب شحم في بطنك من ماله، فقال محيصة: واللَّه لو أمرني بقتلك الّذي أمرني بقتله لقتلتك، قال واللَّه لو أمرك محمد أن تقتلني لقتلتني؟
قال: نعم قال حويصة إن دينا يبلغ هذا لدين معجب فأسلم حويّصة يومئذ، فقال محيصة:
يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله ... لطبقت ذفراه بأبيض فاضب
حسام كلون الملح أخلص صقله ... متى ما تضرب به فليس بكاذب
ما سرني أني قتلت طائعا ... وما أن لي ما بين بصري ومأرب
ففزعت يهود ومن معها من المشركين، فجاءوه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين أصبحوا، فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قتل غيلة من غير جرم ولا حدث علمناه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: لو قر كما قر غيره من هو على مثل
__________
[ (1) ] العتر: العتيرة، وهي شاه كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 191. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(12/184)
رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف.
ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينهم وبينه كتابا [تحت العذق] في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود وخافت [وذلت] من يوم قتل ابن الأشرف [ (1) ] .
فحدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النضري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين:
كان غدرا، ومحمد بن مسلمة جالس شيخا كبيرا، فقال: يا مروان، أيغدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [عندك] ؟ واللَّه [ما قتلناه إلا بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] واللَّه لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد، وأما أنت يا ابن يامين فلله عليّ إن أفلت وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك! فكان ابن يامين لا ينزل في بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعة نزل فقضى حاجته ثم صدر وإلا لم ينزل.
فبينا محمد بن مسلمة في جنازة وابن يامين بالبقيع فرأى محمد نعشا عليه جرائد رطبة لامرأة، فجاء فحله فقام إليه الناس فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع نحن نكفيك؟ فقام إليه فلم يزل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك فيه مصحا، ثم أرسله ولا طباخ به، ثم قال:
واللَّه لو قدرت على السيف لضربتك به [ (2) ] .
وقال موسى بن عقبة وكان كعب بن الأشرف اليهودي أحد بني النضير- أو فيهم- قد آذى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالهجاء، وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستغواهم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أناشدك اللَّه أديننا أحب إلى اللَّه أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدي في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فإنا نطعم الجزور والكوماء [ (3) ] ، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت السماء، فقال
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 192، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 193. والطّباخ: القوة.
[ (3) ] الكوماء من الإبل: عظيمة السنام. (لسان العرب) .(12/185)
ابن الأشرف: أنتم أهدى منه سبيلا، ثم خرج مقبلا وقد أجمع رأى المشركين على قتال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من لنا بابن الأشرف؟ قد استعلن بعد عداوتنا وهجائنا خرج إلى قريش فجمعهم علينا قد أخبرني اللَّه عز وجل بذلك ثم قدم على أخبث ما كان ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم، ثم قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علي المسلمين ما أنزل اللَّه فيه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا وآيات في قريش معها،
وذكر لنا- واللَّه أعلم- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: اللَّهمّ اكفني ابن الأشرف بما شئت فقال له محمد بن مسلمة أنا يا رسول اللَّه أقتله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: نعم فقام محمد بن مسلمة منقلبا إلى أهله فلقى سلكان بن سلامة في المقبرة عامدا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال له محمد: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أمرني بقتل ابن الأشرف وأنت نديمه في الجاهلية، ولن يأمنن غيرك، فقال له سلكان: إن أمرني فعلت، فرجع معه ابن مسلمة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا رسول اللَّه أمرت بقتل كعب بن الأشرف؟ قال: نعم قال سلكان: يا رسول اللَّه فاحللني فيما قلت لابن الأشرف فقال: أنت في حلّ مما قلت،
فخرج سلكان، ومحمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وسلمة بن ثابت، وأبو عبس بن جبر، حتى أتوه في ليلة مقمرة فتواروا في ظلال جذوع النخل، وخرج سلكان فصرخ:
يا كعب، فقال له كعب: من هذا؟ فقال له سلكان: هذا أبو ليلى يا أبا نائلة وكان كعب يكنى أبا نائلة، فقالت له امرأته: لا تنزل يا أبا نائلة إنه قاتلك، فقال ما كان أخي ليأتيني إلا بخير لو يدعى الفتى لطعنة أجاب، فخرج كعب، فلما فتح باب الرض قال من أنت؟ قال: أخوك، قال: فطأطئ لي رأسك، فطأطأ فعرفه، فنزل إليه فمشى به سلكان نحو القوم، وقال له سلكان: جعنا وأصابتنا شدة مع صاحبنا هذا، فجئتك لأن تحدث معك، ولأرهنك درعي في شعير، فقال له كعب قد حدثتكم أنكم ستلقون ذلك، ولكن نحن عندنا تمر وشعير وعبير، فأتونا، فقال: لعلنا أن نفعل، ثم أدخل سلكان يده في رأس كعب فشمها فقال:
ما أطيب عبيركم هذا! صنع ذلك مرة أو مرتين حتى أمّنه، ثم أخذ سلكان برأسه أخذة فصأه منها، فجأر واللَّه جأرة رفيعة وصاحت امرأته، وقال يا صباحاه، فعانقه سلكان وقال: اقتلوا عدوّ اللَّه، فلم يزالوا يتخلصون(12/186)
بأسيافهم حتى طعنه أحدهم في بطنه طعنة بالسيف، خرج مصرانه، وخلصوا إليه، فضربوه بأسيافهم، وكانوا في بعض ما يتخلصون إليه وسلكان معانقة، أصابوا عابد بن بشر في يده أو في رجله ولا يشعرون، وخرجوا يشتدون سراعا حتى إذا كانوا بجرف بعاث [ (1) ] فقدوا صحابهم، ونزفه الدم، فرجعوا فوجدوه من وراء الجرف، فاحتملوه حتى أتوا به أهلهم من ليلتهم، فقتل اللَّه ابن الأشرف، بعد أذيته اللَّه ورسوله، وهجائه إياه، وتأليبه قريشا، وإعلانه عليه قريشا بذلك.
وخرج البيهقي [ (2) ] من طريق سفيان قال: حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: قدم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالوا لهم أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العناة ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام، قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، قالوا: لا، بل أنتم خير منهم وأهدى سبيلا فأنزل اللَّه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [ (3) ] إلى آخر الآية، قال سفيان: وكان غفار أهل سلة [في الجاهلية [ (4) ]] يعني سرقة.
__________
[ (1) ] جرف بعاث: اسم موضع على ميل من المدينة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 193- 194، باب ما جاء في قتل كعب بن الأشرف، وكفاية اللَّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم والمسلمين شره.
[ (3) ] النساء: 51.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(12/187)
وخرج البخاري [ (1) ] من حديث سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من لكعب ابن الأشرف فإنه قد أذى اللَّه ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول اللَّه أتحب أن أقتله؟ قال: نعم،
قال: فأذن لي أن أقول شيئا، قال، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وأنه قد عنانا، وأني قد أتيتك استسلفك، قال: وأيضا واللَّه لتملنه، قال: إنّا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى تنظر إلي أي شيء يصير أمره، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين فقال: أرهنوني، قال أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم! قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فأرهنوني أبنائكم، قال: كيف نرهنك
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 427، كتاب المغازي، باب (15) قتل كعب الأشرف، حديث رقم (4037) ، قال السهيليّ: في قصة كعب بن الأشرف قتل المعاهد إذا سب الشارع، خلافا لأبي حنيفة. قال الحافظ: وفيه نظرا، وصنيع المصنف في الجهاد يعطي أن كعبا كان محاربا حيث ترجم لهذا الحديث: «الفتك بأهل الحرب» وترجم له أيضا: «الكذب في الحرب» ، وفيه جواز قتل المشرك بغير دعوة إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته، وفيه جواز الكلام الّذي يحتاج إليه في الحرب، ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته. (فتح الباري) .
وأخرجه مسلم في (صحيحه) : 12/ 403، كتاب (الجهاد والسير) ، باب (42) قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، وقد استدل بهذا الحديث بعضهم على جواز قتل من بلغته الدعوة من الكفار، وتبييته من غير دعاء إلى الإسلام. (شرح النووي) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 211- 212، كتاب الجهاد، باب (169) في العدوّ يؤتى على غرة ويتشبه بهم، حديث رقم (2768) . وفي هذا الحديث من الفقه إسقاط الحرج عن تأول الكلام فأخبر عن الشى بما لم يكن إذا كان يريد بذلك استصلاح أمر دينه، أو الذود عن نفسه وذويه، ومثل هذا الصنيع جائز في الكافر الّذي لا عهد له، كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغفلة وأوان الغرة.
وكان كعب لهج بسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهجائه فاستحق القتل مع كفره بسبه رسول صلّى اللَّه عليه وسلم. (معالم السنن) .(12/188)
أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ولكن نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السّلاح، فواعده أن يأتيه فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة، وقال غير عمرو، قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لودعى إلى طعنة بليل لأجاب، قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين وقال غير عمرو، أبو عبس بن حيبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر. قال عمرو: جاء برجلين فقال إذا جاء فإنّي شام شعره فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم: قال:
فلما نزل وهو متوحش قال: إنا نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة، هي أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم، فشمّ، فتناول فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستكمنت من رأسه ثم قال:
دونكم، قال: فقتلوه.
قال: ابن إسحاق [ (1) ] فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، حدثني عبد الأشهل وكان أخا لكعب من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، وأبو عبس بن جبر، أخو بني حارثة.
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال بعثني معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قال: انطلقوا على اسم اللَّه، اللَّهمّ أعنهم.
قال مؤلفه: ولقتل كعب بن الأشرف طرق كثيرة، وقد تضمن أربعه أعلام من أعلام النبوة، وهي: إخبار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن اللَّه تعالى بما كان من تحريض كعب قريشا بمكة على محاربة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعائه اللَّه تعالى بإعانة من بعثهم لقتله، وأعانهم اللَّه تعالى على ذلك إجابة لدعاء المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، وثالثها دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يكفيه كعبا فكفاه أمره، ثم نفثه صلّى اللَّه عليه وسلم في جرح الحارث بن أوس فلم يؤذه.
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 322- 323، مقتل كعب بن الأشرف.(12/189)
وأما كفاية اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم دعثور بن الحارث إذ عزم على قتله وقد أمكنته الفرصة
فقال الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] : حدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة، حدثنا زيد بن أبي عتاب، وحدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان، وحدثني:
عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر عن عبيد اللَّه بن أبي بكر، فزاد بعضهم على بعض في الحديث، وغيرهم قد حدثنا أيضا، قالوا: بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب بذي أمرّ [ (2) ] قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، جمعهم رجل منهم بقال له دعثور بن الحارث بن محارب، فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المسلمين وخرج في أربعمائة رجل وخمسين، ومعهم أفراس، فذكر الخبر إلى أن قال: وهربت منه الأعراب فوق الجبال وقبل ذلك ما قد غيبوا سرحهم في ذرى الجبال، فلم يلاق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أحدا، إلا أنه ينظر إليهم في رءوس الجبال، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذا أمر وعسكر معسكره، فأصابهم مطر شديد فذهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لحاجته فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وادي ذي أمرّ بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها والأعراب ينظرون كل ما يفعل، فقالت الأعراب لدعثور- وكان سيدها وأشجعها-: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتل، فاختار سيفا من سيوفهم صارما،
ثم أقبل مشتملا بالسيف حتى قام على رأس النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد! من يمنعك مني اليوم؟ قال: اللَّه! وقال: ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقام
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 194- 196. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] موضع غزاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال الواقدي: هو من ناحية النخيل، وهو بنجد من ديار غطفان، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج في ربيع الأول من سنة ثلاث للهجرة لجمع بلغه أنه اجتمع من محارب وغيرهم، فهرب القوم منهم الى رءوس الجبال، وزعيمها دعثور بن الحارث المحاربي، فعسكر المسلمون بذي أمرّ.(12/190)
به على رأسه، فقال: من يمنعك منى اليوم؟ قال: لا أحد، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، واللَّه لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سيفه، ثم أقبل بوجهه فقال: أما واللَّه لأنت خير مني، قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنا أحق بذلك منك،
فأتى قومه فقالوا: أين ما كنت تقول؟
وقد أمكنك والسيف في يدك؟ فقال: قد واللَّه كان ذلك، ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري، فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك، وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، ولا أكثر عليه، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية فيه، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [ (1) ] .. الآية، وكانت غيبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إحدى عشرة ليلة. [واستحلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على المدينة عثمان بن عفان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه] .
قال البيهقي: كذا قال الواقدي، وقد روي في غزوة ذات الرقاع [ (2) ] قصة أخرى في الأعرابي الّذي قام على رأسه بالسيف وقال: من يمنعك مني؟ فإن كان الواقدي حفظ ما ذكر في هذه الغزوة فكأنهما قصتان. قال المؤلف رحمه اللَّه: وذكر الواقدي قصة ثالثة في غزوة حنين [ (3) ] سيأتي ذكرها إن شاء اللَّه تعالى، والحمد اللَّه رب العالمين.
__________
[ (1) ] المائدة: 11.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 395.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 855.(12/191)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم باستشهاد زيد بن صوحان العبديّ [ (1) ]
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث الهذيل بن بلال المدائني الفزاري، عن عبد الرحمن بن مسعود العبديّ، عن على رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة سبقه بعض أعضائه إلى الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان.
قال البيهقي: هذيل بن بلال غير قوي [ (3) ] . قال المؤلف: قال ابن معين ليس بشيء وقال البخاري: سمع منه ابن مهدي وأبو داود. وقال النسائي:
ضعيف. وقال ابن عدي: وليس في حديثه حديث منكم.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وروى من وجوه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان في مسير له فبينما هو يسير إذ هوّم فجعل يقول: زيد وما زيد، جندب وما جندب، فسئل عن ذلك فقال: رجلان من أمتي، أما أحدهما فتسبقه يده أو قال: بعض جسده إلى الجنة، ثم يتبعه سائر جسده، وأما الآخر فيضرب ضربة يفرق بها بين الحق والباطل.
قال أبو عمر: أصيبت يد زيد يوم جلولاء [ (4) ] ثم قتل يوم الجمل مع عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وجندب قاتل الساحر.
__________
[ (1) ] ذكره ابن حجر في (الاصابة) : 2/ 610، ترجمة رقم (1912) وقال: يقال: إن له صحبة.
وقال ابن عبد البر: ولا أعلم له صحبة، ولكنه ممن أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بسنه مسلما، وكان فاضلا دينا سيدا في قومه هو وإخوته. (الاستيعاب) : 2/ 555- 557، ترجمة رقم (852) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 416- 417، باب ما روي في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عن قتل زيد بن صوحان شهيدا، فكان كما أخبر، قتل يوم الجمل.
[ (3) ] ترجمته في: (ميزان الاعتدال) : 4/ 294، ترجمة رقم (9213) ، ضعفه النسائي والدار الدّارقطنيّ. وقال يحيى ليس بشيء، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، فصار متروكا. قال أحمد: لا أرى به بأسا. وقال أبو زرعه: ليس بالقوى.
[ (4) ] اسم موضع في طريق خراسان، بها كانت الوقعة المشهورة على الفرس للمسلمين سنة (16) فسميت: جلولاء الوقيعة، لما أوقع بهم المسلمون. (معجم البلدان) : 2/ 181، موضع رقم (3198) مختصرا.(12/192)
وللبيهقي [ (1) ] من حديث إسحاق الأزرق قال: حدثنا عوف عن ابن سيرين قال: قال خالد بن الواشمة: لما فرغ من أصحاب الجمل ونزلت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- منزلها دخلت عليها فقلت: السلام عليك يا أم المؤمنين فقالت: من هذا؟ قلت: خالد بن الواشمة، قالت: ما فعل طلحة؟
قلت أصيب! قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، ورحمه اللَّه، قالت ما فعل الزبير؟ قلت أصيب! قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، يرحمه اللَّه، قلت: بل نحن للَّه وإنا إليه راجعون في زيد بن صوحان، قالت: وأصيب؟ قلت: نعم، قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون- يرحمه اللَّه- فقلت: يا أم المؤمنين ذكرت طلحة فقلت: يرحمه اللَّه، وذكرت الزبير فقلت: يرحمه اللَّه، وذكرت زيدا فقلت: يرحمه اللَّه، وقد قتل بعضهم بعضا، واللَّه لا يجمعهم اللَّه في الجنة أبدا، قالت: أو لا تدري أن رحمة اللَّه واسعة وهو على كل شيء قدير؟
وخرجه من طريق إسحاق، حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن خالد بن الواشمة بنحوه [ (2) ] .
وقال ابن عبد البر [ (3) ] : روى إسماعيل بن عليه عن أيوب عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن عائشة [أم المؤمنين] [ (4) ]- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- سمعت [كلام] [ (5) ] خالد يوم الجمل فقالت: خالد بن الواشمة؟ قال: نعم، قالت: أنشدك اللَّه، أصادق أنت إن سألتك؟ قلت: نعم، وما يمنعني أن أفعل؟
قالت: ما فعل طلحة؟ قلت: قتل. قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، قلت: بل
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 416- 417.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (الاستيعاب) : 2/ 557، ترجمة زيد بن صوحان رقم (852) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (الأصل) : «سمعت خالدا» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .(12/193)
نحن للَّه ونحن إليه راجعون على زيد وأصحاب زيد، قالت: زيد بن صوحان؟
قلت: نعم، قالت: له خير، فقلت: واللَّه لا يجمع بينهم في الجنة أبدا، قالت:
لا تقل [ (1) ] ، فإن رحمة اللَّه واسعة وهو على كل شيء قدير.
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بوقعة صفين
فخرّج البخاري [ (2) ] من حديث شعيب، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما [ (3) ] واحدة وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول اللَّه، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل وحتى يكثر فيكم المال [فيفيض] [ (4) ] ، حتى يهم بهم صاحب [ (5) ] المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الّذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنت أجمعون، فذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [ (6) ] أو لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «لا تفعل» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 102، كتاب الفتن، باب (25) بدون ترجمة حديث رقم (7121) .
والمراد بالفئتين: على ومن معه، ومعاوية ومن معه، ويؤخذ من تسميتهم مسلمين، ومن قوله: دعوتهما واحدة، الرد على الخوارج ومن تبعهم في تكفيرهم كلّا من الطائفتين. (فتح الباري) .
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «دعوتهما» ، وما أثبتناه من (الأصل) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (5) ] في (البخاري) : «رب» .
[ (6) ] الأنعام: 158.(12/194)
وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه [ (1) ] ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها. هكذا ذكر البخاري هذا الحديث مجتمعا.
وذكره مسلم [ (2) ] أو أكثره مفرقا في كتاب الفتن وغيره من كتابه، فخرج في كتاب الفتن من حديث عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال:
هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فذكر أحاديث منها، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة.
وخرجة البخاري [ (3) ] في كتاب استتابه المرتدين والمعاندين وقتالهم، من حديث سفيان، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة. وخرجه في باب علامات النبوة في الإسلام [ (4) ] من حديث شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة.
ومن حديث عبد الرزاق [ (5) ] أنبأنا معمر عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان فتكون بينهما مقتلة عظيمة،
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «منه» .
[ (2) ] أخرجه مسلم برقم (57) في الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، وفي الإيمان، باب بيان الزمن الّذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم (2912) ، (2922) ، (157) في الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء.
(جامع الأصول) : 10/ 405، في أحاديث جامعة لأشراط الساعة، تعليقا على الحديث رقم (7920) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 12/ 374. كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب (8)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تقول الساعة حتى تقتل فئتان دعواهما واحدة،
حديث رقم (6935) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 764، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3608) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3609) .(12/195)
دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول اللَّه.
وخرج الحافظ أبو القاسم على بن الحسن بن هبة اللَّه بن عساكر من حديث عبد السلام عن حرب عن يزيد بن أبي خالد الدالاني، عن مالك بن الحويرث، عن أبي هريرة قال: بلغني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ذكر فتنة فقربها، قال: فأتيته بالبقيع وعنده أبو بكر، وعمر، وعليّ، وطلحة، والزبير، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فقلت: يا رسول اللَّه بلغني أنك ذكرت.. قال: نعم، كيف أنتم إذا اقتتلت فئتان دينهما واحد، وحجمهما واحد، قال أبو بكر: أدركها يا رسول اللَّه؟ قال: لا، قال: اللَّه أكبر، قال عمر: أدركها يا رسول اللَّه؟
قال: لا، قال: الحمد للَّه، قال عثمان: أدركها يا رسول اللَّه؟ قال: نعم وبك يبتلون، وبك يقتتلون، قال عليّ: أدركها يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، تقود الخيل بأزمتها.
وخرجه الحافظ أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد اللخمي، حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجده الحوطي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا ماعز التميمي قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار وهو ينتظرها، قال: كيف لو رأيتم خيلين من الناس يقتتلان دعواهما واحدة وأصلهما واحد؟ قال: يكون هذا؟
قال: نعم، قال أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أأدرك ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: لا، قال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أفأدرك أنا ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: بك يبتلون، قال عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، أفأدرك أنا ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: أنت القائد لها والآخذ بزمامها.
وذكر البيهقي [ (1) ] من طريق يعقوب بن سفيان حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو، قال: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفا قتل منهم عشرون ألفا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 418- 419، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم باقتتال فئتين عظيمتين تكون بينهما مقاتلة عظيمة، ودعواهما واحدة، فكان كما أخبر في حرب صفين.(12/196)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بأن عمار بن ياسر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه تقتله الفئة الباغية، فقتله أهل الشام بصفين
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي مسلمة قال: سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدريّ قال: أخبرني من هو خير مني، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لعمار بن ياسر حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية.
ومن حديث خالد بن الحارث والنضر بن شميل عن شعبة، عن أبي مسلمة بهذا الإسناد نحوه، غير أن في حديث النضر قال: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة.
وفي حديث خالد بن الحرث قال: أراه يعني أبا قتادة. وفي حديث خالد ويقول: ويس أو يا ويس ابن سمية [ (2) ] .
وخرج من حديث غندر وعبد الصمد بن عبد الوارث كلاهما قالا: حدثنا شعبه: قال: سمعت خالد الحذاء عن سعيد بن أبي الحسن والحسن، عن أمه عن أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية [ (3) ] .
ومن حديث إسماعيل بن إبراهيم [ (4) ] عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تقتل عمارا الفئة الباغية.
وخرج البخاري [ (5) ] في كتاب الصلاة، في باب التعاون في بناء المسجد، من حديث مسدد قال: حدثنا عبد العزيز بن جمعان [ (6) ] قال: حدثنا خالد الحذاء
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 255- 256، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (70) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (71) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (72) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (73) .(12/197)
عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما ولابنه عليّ: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثة، فانطلقنا، فإذا في حائط له يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين [لبنتين] [ (1) ] ، فرآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار! قال: يقول عمار: أعوذ باللَّه من الفتن.
وخرجه في الجهاد [ (2) ] من حديث عبد الوهاب، حدثنا خالد عن عكرمة أن ابن عباس قال له ولعليّ بن عبد اللَّه: ائتيا أبا سعيد فاسمعا من حديثه. فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما يسقيانه، فلما رآنا جاء فاحتبى وجلس فقال: كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومسح عن رأسه الغبار، وقال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى اللَّه ويدعونه إلى النار!.
وخرج البيهقي [ (3) ] من طريق يوسف الماجشون، عن أبيه، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مولاة لعمار قالت: اشتكى عمار شكوى أرق منها فغشى عليه، فأفاق، ونحن نبكي حوله، فقال: ما تبكون،
__________
[ () ] (5) (فتح الباري) : 1/ 712، كتاب الصلاة، باب (63) التعاون في بناء المسجد، حديث رقم (447) ، وفيه ما كان السلف عليه من التواضع وعدم التكبر، وتعاهد أحوال المعاش بأنفسهم، والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، وإكرام طلبة العلم، وتقديم حوائجهم على حوائج أنفسهم.
[ (6) ] في (البخاري) : «ابن مختار» .
[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (2) ] (المرجع السابق: 6/ 36، كتاب الجهاد باب (17) مسح الغبار عن الرأس في سبيل اللَّه تبارك وتعالى حديث رقم (2812) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 421، باب ما جاء في إخباره عن الفئة الباغية منهما، بما جعله علامة كمعرفتهم، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 418، حديث رقم (18404) ، من حديث عمار بن ياسر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/198)
أتخشون أن أموت على فراشي؟ أخبرنى حبيبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر أدمى من الدنيا مذقة من لبن.
ومن حديث أبي نعيم [ (1) ] ومحمد بن كثير قالا: حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت، عن البحتري أن عمار بن ياسر أتى بشربة من لبن فضحك، فقيل له ما يضحك؟ فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: آخر شراب أشربه حتى أموت.
وخرجه الحاكم [ (2) ] وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وللبيهقي [ (3) ] من حديث يعقوب بن سفيان قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البحتري قال: لما كان يوم صفين، واشتد الحرب قال عمار: ائتوني بشراب أشربه، ثم قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: آخر شراب تشربه من الدنيا شربة لبن، ثم تقدم فقتل.
وخرج الحاكم [ (4) ] من طريق محمد بن عمر قال: حدثني عبد اللَّه بن أبي عبيدة عن أبيه، عن لؤلؤة مولاة أم الحكم ابنة عمار بن ياسر قالت: لما كان اليوم الّذي قتل فيه عمار والراية يحملها أبو هاشم بن عتبة، وقد قتل أصحاب عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه ذلك اليوم حتى كان العصر، ثم تقدم عمار بن ياسر ورأى أبا هاشم تقدمه، وقد جنحت الشمس للغروب، ومع عمار ضيح من لبن ينتظر وجوب الشمس أن يفطر فقال حين وجبت الشمس وشرب الضيح: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول آخر زادك من الدنيا ضيح من لبن،
قال:
ثم اقترب فقاتل حين قتل وهو ابن أربع وتسعين سنة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 439، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (5669) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 421.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 435، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (5657) ، أورده الحافظ الذهبي في (التلخيص) مختصرا.(12/199)
قال ابن عمر [ (1) ] : وحدثني عبد اللَّه بن الحارث عن أبيه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة بن ثابت رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يوم الجمل وهو لا يسلّ سيفا [وشهد صفين] [ (2) ] فقال: أن لا أضل أبدا بقتل عمار، قال خزيمة: قد حانت له الضلالة ثم اقترب فقاتل حتى قتل.
وكان الّذي قتل عمار أبو غادية المزني، طعنه برمح فسقط، وكان يومئذ يقاتل وهو ابن أربع تسعين سنة، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاحتز رأسه فأقبلا يختصمان، كلاهما يقول: أنا قتلته، فقال عمرو بن العاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: واللَّه إن تختصمان إلا في النار، فسمعها منه معاوية رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو:
وما رأيت مثل ما صنعت يوم بذلوا أنفسهم دوننا، نقول لهم: إنكم تختصمان في النار، فقال له عمرو: واللَّه ذاك، واللَّه إنك لتعلمه، ولوددت أني مت من قبل هذا بعشرين سنة. يقال: إن الّذي قتلة ابن الحارث وشريك بن سميّ اشتركا فيه.
وخرج الحاكم [ (3) ] وأحمد [ (4) ] من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أخبره قال: لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية،
فقال له معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله عليّ وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال:
سيوفنا.
قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه بهذه السياقة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 436، حديث رقم (5659) وقال: صحيح على شرطها، ولم يخرجاه بهذه السياقة، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 5/ 224، حديث رقم (17324) من حديث عمرو بن العاص رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/200)
قال المؤلف- رحمه اللَّه: إن كان عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه هو الّذي قتل عمارا إلا أنه جاء به حتى قاتل فقتل، فقياسه أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هو الّذي قتل [حمزة] ، لأنه هو الّذي جاء به حتى قتل يوم أحد، ومعاذ اللَّه من ذلك، فما قتل عمارا إلا البغاة أهل الشام كما قتل حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء مشركو مكة.
وخرّج الحاكم [ (1) ] من حديث عطاء بن مسلم الحلبي قال: سمعت الأعمش يقول: قال أبو عبد الرحمن السلمي: شهدت صفين فكنا إذا تواعدنا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، ودخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، فرأيت أربعة يسيرون: معاوية بن أبي سفيان، وأبو الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وابنه، فسمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه ما قال! قال: أي رجل؟
قال عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المسجد فكنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين، وأنت ممن حضر، قال: أما إنك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من أهل الجنة،
فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما قال؟ فقال: اسكت فو اللَّه ما تزال ترحض في بولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله عليّ وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بيننا.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: إني لأعجب كيف ذهل الحاكم أبو عبد اللَّه عن هذا الوهم؟ فإن عمرو بن العاص لم يحضر بناء مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بلا خلاف، فإنه كان يوم بنائه على دين قومه، وإنما أسلم بعد ذلك بسنتين في سنة ثمان قبل الفتح، وقيل: أسلم بين الحديبيّة وخيبر، وقيل: أسلم عام خيبر، والصحيح أنه أسلم في صفر سنة ثمان قبل الفتح بستة أشهر، ولا خلاف في أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بني مسجده عند قدومه إلى المدينة مهاجرا.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 436- 437، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (5660) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : هو كما ترى خطأ، فأين كان عمرو وابنه يوم بناء المسجد؟ وعطاء ضعفه أبو داود.(12/201)
وخرج أيضا من حديث ابن وهب قال: أخبرني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، سمعت عمار بن ياسر بصفين في اليوم الّذي قتل فيه وهو ينادي: أزلفت الجنة، وزوجت الحور العين، اليوم نلقي حبيبنا محمدا، عهد إليّ إن آخر زادك من الدنيا ضيح من لبن [ (1) ] . قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
وخرج من حديث أبي أسامة، حدثنا مسلم بن عبد اللَّه الأعور عن حبة العرني قال: دخلنا مع أبي مسعود الأنصاري على حذيفة بن اليمان أساله عن الفتن فقال: دوروا مع كتاب اللَّه حيث دار، وانظروا الفئة التي فيها ابن سمية فاتبعوها فإنه يدور مع كتاب اللَّه حيث ما دار. قال: فقلنا له: ومن ابن سمية؟ قال: عمار بن ياسر فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول له لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية، تشرب شربة ضياح تكون آخر رزقك من الدنيا
[ (2) ] .
ولعبد الرزاق عن معمر، عن من سمع الحسن يحدث عن أبيه عن أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد فجعل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يحمل كل رجل منهم لبنة [ويحمل عمار لبنتين] فقام إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فمسح ظهره، وقال: ابن سمية لك أجران [ (3) ] وللناس أجر، آخر زادك شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية.
وخرج البيهقي [ (4) ] من حديث عمار الذّهني عن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل إلى عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن اللَّه قد أمّننا من أن يظلمنا، ولم يؤمننا من أن يفتننا، أرأيت إن أدركت فتنة؟ قال: عليك بكتاب اللَّه، قال: أرأيت إن كان كلهم يدعو إلى
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 439، حديث رقم (5668) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5676) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] سبق تخريجه.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 421- 422، باب ما جاء في إخباره عن الفئة الباغية منهما بما جعله علامة لمعرفتهم.(12/202)
كتاب اللَّه؟ قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إذا اختلفت الناس كان ابن سمية مع الحق.
ومن طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة قال: أخبرني عمرو بن دينار عن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما: أما علمت أنا كنا نقرأ:
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [ (1) ] «في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله» قال: فقال عبد الرحمن ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كان بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء [ (2) ] .
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالحكمين اللذين حكما بين عليّ ومعاوية بعد صفّين
فخرج البيهقي [ (3) ] من حديث قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن زكريا بن يحيى [ (4) ] ، عن عبد اللَّه بن يزيد، وحبيب بن يسار عن سويد بن غفلة قال: إني لأمشي مع عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بشطّ الفرات، فقال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين فضلّا وأضلّا، وأن هذه الأمة ستختلف، فلا يزال اختلافهم بينهم حتى
__________
[ (1) ] الحج: 78
[ (2) ] (المرجع السابق) : 422.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 423، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عن الحكمين اللذين بعثا في زمان عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (4) ] ترجمته في (ميزان الاعتدال) : 2/ 75، وفيه: زكريا بن يحيى الكندي، عن الشعبي، قال يحيى: ليس بشيء، قلت: وكان ضريرا.(12/203)
بعثوا حكمين فضلا وأضلّا، وأن هذه الأمة ستختلف، فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين، فضلّا وضلّ من اتبعهما [ (1) ] .
وفي (كتاب صفين) ، حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن صفوان بن موسى البارقي عن سويد بن غفلة، قال: كنت أساير أبا موسى الأشعري على شاطئ الفرات فقال: يا سويد حدثني، فقلت: أحدثك وأنت صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن الفتن لم تزل ببني إسرائيل تخفضهم وترفعهم، حتى حكموا حكمين ضلا وضل من اتبعهما، وإن الفتن لم تزل بهذه الأمة تخفضهم وترفعهم، حتى يحكما حكمين يضلان ويضل من تبعهما،
قال سويد بن غفلة: فقلت: يا أبا موسى فلعل أحدهما، قال: فأخذ بأسفل ثوبه ثم قال: اللَّهمّ يوم يكون أبو موسي ذلك فلا تجعل له في السماء مصعدا ولا في الأرض مهبطا، فقال سويد: فما مات حتى رأيته أحدهما [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وعن البيهقي نقله الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 240- 241 وقال: هكذا أورده ولم يبين شيئا من أمره، وهو حديث منكر جدا، وآفته من زكريا بن يحيى هذا، وهو الكندي الحميري الأعمى. قال ابن معين: ليس بشيء.
والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما عمرو بن العاص السهمي، من جهة أهل الشام، والثاني أبو موسى عبد اللَّه بن قيس الأشعري، من جهة أهل العراق، وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين، وحقن لدمائهم، وكذلك وقع، ولم يضل بسببها إلا فرقة الخوارج من حديث أنكروا على الأميرين التحكيم، وخرجوا عليهما وكفروهما. حتى قاتلهم علي بن أبي طالب، وناظرهم ابن عباس، فرجع منهم شرذمة إلى الحق، واستمر بقيتهم حتى قتل أكثرهم بالنهروان وغيره من المواقف المرذولة عليهم.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.(12/204)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بأن مارقة تمرق بين طائفتين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق فخرجوا على عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى اللَّه عنه وقتلهم فاقتضي ذلك أنه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه على الحق
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث القاسم بن الفضل الحداني قال: حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق.
وخرج من حديث أبي عوانه [ (2) ] عن قتادة، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق.
ومن حديث سفيان عن حبيب [ (3) ] بن أبي ثابت عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في حديث ذكر فيه قوما يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحقّ.
وخرج البيهقي [ (4) ] من طريق يعقوب بن سفيان الحميدي، حدثنا سفيان عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي قال: خطبنا الحسن بن على بالنخيلة حين صالح معاوية فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: إن أكيس الكيس التّقي، وإن أعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الّذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق أتركه لمعاوية
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 174، كتاب الزكاة، باب (47) ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (150) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (51) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (152) ، (153) .
[ (4) ] (تاريخ الطبري) : 5/ 163، أحداث سنة (41) .(12/205)
إرادة استصلاح المسلمين وحقن دماءهم، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [ (1) ] أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم.
وخرج من طريق حمّاد بن واصل قال: حدثتني فاطمة بنت الحارث عن أبيها أن عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان يقول: الحسن- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- خالع سرباله.
ومن طريق محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت يزيد بن حمير يحدث أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يحدث عن أبيه قال: قلت للحسن بن علي: إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة قال: قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت تركتها ابتغاء وجه اللَّه وحقن دماء أمة محمد، ثم ابتزها بأتياس أهل الحجارة.
قال المؤلف- رحمه اللَّه: كان أبو عبد اللَّه الحسن بن عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أعلم باللَّه وأخوف له وأشحّ على دينه وأفقه من أن يأخذ بالإمامة التي وجبت له من اللَّه ورسوله عرضا من الدنيا، أو يعتاض بها شيئا من معاوية، وإنما كان الأمر في ذلك أنه ندب الناس إلي حرب معاوية وجهد فيه ووجّه قيس بن سعد وعبد اللَّه بن عباس على مقدمته، وأتبعهم بنفسه مرتحلا في عسكره فاختلف أصحابه عليه ميلا منهم إلى إيثار الدنيا، وغشوه وكاتبو معاوية، وسألوه الدنيا الخبيثة، ثم وثبوا على الحسن فانتبهوا رحله، فلما لم يجد رحمه اللَّه للحق ناصرا، ولا لدين اللَّه ثائرا، ولا معينا، إلا شرذمة قليلة، خاف إن هو حارب بهم أن يصطلموا فلم يبق لدين اللَّه ناصر، ولا داع إليه، ولا قائم بحقه، فضن بأهل بيته عن الهلكة، كما فعل أبوه أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، كرم اللَّه وجهه، فلما رأى الحسن رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من فعل من معه، ما استدل به على خلافهم له، وميلهم
__________
[ (1) ] الأنبياء: 111.
وأخرجه البيهقي في (الدلائل) : 6/ 444- 445، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بسيادة ابن ابنته الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وإصلاحه بين فئتين عظيمتين من المسلمين فكان كما أخبر.(12/206)
عنه إلى الدنيا، وزهدهم في الآخرة، ورفضهم الحق، لم يسعه فيما بينه وبين اللَّه عز وجل إلا الإبقاء على نفسه وأهل بيته فراوغ حينئذ معاوية، ووثق في الشرط عليه، والأمان للناس جميعا، وأخذ عليه أشد ما أخذ اللَّه على أحد بالوفاء، إعطاء من نفسه، مثل ما دخل فيه عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من الشورى، فتنبه رحمك اللَّه لما أوضحته، ولا تكن كأحد اثنين: أحدهما يرى أن الحسن حين رغب، عن معاوية حتى أنبه وقال: يا مسود وجوه المؤمنين [ (1) ] ! والثاني لقلة تفطنه أن الحسن باع الإمامة بعرض من الدنيا حتى لقد جعل ذلك بعض من زعم أنه فقيه، دليلا على بيع الجند الإقطاعات، والفقهاء الوظائف، وما كان الأمر إلا ما أوضحته، فتنبه لعلل الحوادث، وافحص عن أسباب الموجود، أن تظفر بأسرار اللَّه الكامنة في طي مخلوقاته، واحذر أن تعدّ من الذين يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [ (2) ] فتكون ممن انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [ (3) ] نسأل اللَّه العصمة في القول والعمل، من الزيغ والزلل. [آمين] .
__________
[ (1) ] فقال: لا تعذلني، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم رأى في المنام بنى أمية ينزون على منبره رجلا فرجلا، فساءه ذلك، فأنزل اللَّه عز وجلّ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وهو نهر في الجنة، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلى قوله تعالى: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يملكها بعدك بنو أمية. (الكامل في التاريخ) : 4/ 407، ذكر تسليم الحسن بن عليّ الخلافة إلى معاوية، في أحداث سنة إحدى وأربعين.
[ (2) ] الروم: 7.
[ (3) ] الحج: 11.(12/207)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بملك معاوية
فخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث عبد اللَّه بن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر [ (1) ] قال: سمعت عبد اللَّه بن عمير قال: قال معاوية: ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما قال: إن ملكت يا معاوية فأحسن.
وخرج البيهقي [ (2) ] من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن إسماعيل، عن عبد اللَّه قال: قال معاوية: واللَّه ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
إن ملكت فأحسن.
قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث غير أن لهذا الحديث شواهد.
قال المؤلف- رحمه اللَّه: إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر البجلي كوفي: قال الدارميّ: سألت يحيى عنه فقال: هو ضعيف وقال عباس عنه:
إبراهيم بن مهاجر ضعيف وابنه إسماعيل ضعيف. وقال عبد اللَّه بن أحمد:
سألت أبي عنه عن إبراهيم بن مهاجر فقال: ليس به بأس وسألته عن ابنه إسماعيل فقال: أقوى في الحديث منه وقال البخاري: إسماعيل بن إبراهيم بن
__________
[ (1) ] ذكره العقيلي في (الضعفاء الكبير) : 1/ 73 وضعفه، وقال ابن حبان في (المجروحين) :
1/ 122: إسماعيل بن مهاجر الكوفي، يروي عن أبيه وعبد الملك بن عمير روى عنه أبو نعيم والكوفيون، كان فاحش الخطأ. وقال الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) : 1/ 112، ترجمة رقم (827) : إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي، عن أبيه وعبد الملك بن عمير، وعنه أبو نعيم وطائفة، ضعفه غير واحد وقال البخاري: في حديثه نظر، وقال أحمد: أبوه أقوى منه. قال الحافظ الذهبي: من مناكيره، قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عمرو بن حريث ألا يبارك له فيه إلا أن يجعله في مثله.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 446، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بملك معاوية بن أبي سفيان إن صح الحديث فيه، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.(12/208)
مهاجر عن أبيه، وعبد اللَّه بن عمير سمع منه أبو نعيم، عنده عجائب وقال، مرة: فيه نظر، وقال ابن عدي: في حديثه بعض النكرة وأبوه خير منه [ (1) ] .
وذكر البيهقي [ (2) ] من شواهد حديث إسماعيل بن مهاجر المذكور حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص عن جده سعيد، أن معاوية أخذ الاداوة وتبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فنظر إليه وقال له: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق اللَّه واعدل،
قال: فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] [حتى ابتليت] [ (4) ] .
ومنها حديث راشد بن سعيد، عن معاوية قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم
يقول أبو الدرداء- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فنفعه اللَّه بها [ (5) ] .
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن معين، ومن حديث عمرو بن عون كلاهما قال: حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان [ (6) ] ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: الخلافة بالمدينة والملك بالشام.
__________
[ (1) ] راجع ترجمته فيما أشرنا إليه من مراجع في ما سبق من تعليقات.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 446- 447.
[ (3) ] أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 69، حديث رقم (16486) ، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] (سنن أبي داود) : 5/ 199، كتاب الأدب، باب (44) في النهي عن التجسس، حديث رقم (4888) .
[ (6) ] ترجمته في (ميزان الاعتدال) : 2/ 211، ترجمة رقم (3476) ، (تهذيب التهذيب) :
4/ 171، لا يكاد يعرف روى عنه العوام بن حوشب وحده، وفي روايته عنه اختلاف.(12/209)
وخرج من طريق يعقوب بن سفيان [ (1) ] قال: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف حدثنا يحيى بن حمزه عن زيد بن واقد قال: حدثني بر بن عبد اللَّه قال: حدثني أبو إدريس عائذ اللَّه الخولانيّ، عن أبي الدرداء- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: بينما أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصرى فعمد به إلى الشام، وأن الإيمان حين تقع الفتنة بالشام [ (2) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح وروي من وجه آخر فذكره من طريق عقبة بن علقمة قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن عبد اللَّه بن عمرو- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام.
وذكره من حديث الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة، عن عبد اللَّه بن عمر.
ومن حديث الوليد قال: حدثني عفير بن معدان أنه سمع سليم بن عامر يحدث عن أبي أمامة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فذكره [ (3) ] .
ومن حديث أبي ضمرة محمد بن سليمان السلمي قال: حدثني عبد اللَّه ابن أبي قيس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
__________
[ () ] قال إسحاق بن منصور عن ابن معين لا أعرفه روى له الترمذي حديثا واحدا لما خلق اللَّه الأرض جعلت تميد. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات في التابعين، وقال الدار الدّارقطنيّ في (العلل) : مجهول لم يرو عنه غير قتادة فهذا يؤيده. ترجمة رقم (333) .
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 448- 449.
[ (2) ] أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 222، حديث رقم (17321) من حديث عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقال فيه: «حيث تقع الفتن بالشام» وفي (الأصل) :
«في الشام» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 448.(12/210)
يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: رأيت عمودا من نور خرج من تحت رأسي ساطعا حتى استقر بالشام [ (1) ] .
وخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد اللَّه بن صفوان قال: قال رجل يوم صفين: اللَّهمّ العن أهل الشام فقال عليّ رضي اللَّه تبارك تعالى عنه: لا تسب أهل الشام جمّا غفيرا فإن بها الأبدال [ (2) ] ، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال.
وروى أبو سعيد، عن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المصري من طريق يحيى بن عبد اللَّه بن بكير أخبرني عبد اللَّه بن سويد، عن عياش بن عباس الكنعي، عن أبي خارجة أنه خرج إلى عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في زمانه ليقاتل معه، فسمعته يقول: إنما أنا سبط من الأسباط أقاتل على حق، ولن يقوم والأمر لهم واللَّه تبارك وتعالى أعلم بالصواب.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 449.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 449، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على (المسند) : إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عبيد الحمصي لم يدرك عليا، بل لم يدرك إلا بعض متأخري الوفاة من الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم.
وقال الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) : في (مسند أحمد) جملة من الأحاديث الضعيفة، مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها، وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة، لكنها قطرة في بحر.
وللسخاوي في (المقاصد الحسنة) : 43- 47، كلام كثير، ذكره تعليقا على الحديث رقم (8) ، حديث الأبدال، وقال: له طرق عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- مرفوعا بألفاظ مختلفة، كلها ضعيفة. وراجع في ذلك: (كشف الخفا) : حديث رقم (35) ، (ضعيف الجامع الصغير) : حديث رقم (2266) ، (الأسرار المرفوعة) : حديث رقم (67، 491) ، (اللآلئ المصنوعة) : 2/ 2/ 330، و (حلية الأولياء) : 1/ 8، و (الفوائد المجموعة) : 245.(12/211)
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في موت ميمونة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها بغير مكة
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الواحد ابن زياد حدثنا عبد اللَّه بن الأصم: نقلت ميمونة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها بمكة وليس عندها من بني أختها أحد فقالت: أخرجوني من مكة فإنّي لا أموت بها، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بمكة، فحملوها حتى أتوا بها سرف، إلى الشجرة التي بني بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحتها، في موقع القبة، فماتت.
ومن حديث عفان قال [ (2) ] : حدثنا عبد الواحد بن زياد فذكره وزاد: فماتت، فلما وضعتها في لحدها أخذت ردائي فوضعته تحت خدها في اللحد فأخذه ابن عباس فرمى به.
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في ركوب أم حرام البحر مع غزاة في سبيل اللَّه كالملوك على الأسرة
فخرج البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 437، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم زوجته ميمونة بنت الحارث رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنها لا تموت بمكة، فماتت بسرف سنة ثلاث وثلاثين.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 12، كتاب الجهاد والسير، باب (3) الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، حديث رقم (2788) ، (2789) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 61- 62، كتاب الإمارة، باب (49) فضل الغزو في البحر، حديث رقم (1912) . وفيه معجزات للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم منها إخباره ببقاء أمته بعده وأنه تكون لهم شوكة وقوة وعدد، وأنهم يغزون، وأنهم يركبون البحر، وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان، وأنها(12/212)
كان يدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أم حرام بنت ملحان تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه فنام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت يا رسول اللَّه ما يضحكك؟ قال: ناس من أمتي غزاة في سبيل اللَّه يركبون ثبج البحر
__________
[ () ] تكون معهم وقد وجد بحمد اللَّه تعالى كل ذلك. وفيه فضيلة لتلك الجيوش وأنهم غزاة في سبيل اللَّه. واختلف العلماء متى جرت الغزوة التي توفيت فيهما أم حرام في البحر وقد ذكر في هذه الرواية في مسلم أنها ركبت البحر في زمان معاوية فصرعت عن دابتها فهلكت قال القاضي:
قال أكثر أهل السير والأخبار أن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وأن فيها ركبت أم حرام وزوجها الى قبرس فصرعت عن دابتها هناك. فتوفيت ودفنت هناك.
وعلى هذا يكون قوله في زمان معاوية معناه في زمان غزوة في البحر لا في أيام خلافته قال: وقيل: بل كان ذلك في خلافته قال وهو أظهر في دلالة قوله في زمانه.
وفي هذا الحديث جواز ركوب البحر للرجال والنساء وكذا قاله الجمهور، وكره مالك ركوبه للنساء لأنه لا يمكنهن غالبا التستر فيه ولا غض البصر عن المتصرفين فيه ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفيان مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال.
قال القاضي- رحمه اللَّه تعالى- وروى عن عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- منع ركوبه، وقيل: إنما منعه العمران للتجارة وطلب الدنيا لا للطاعات وقد روى ابن عمر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم النهي عن ركوب البحر إلا لحاج أو معتمر أو غاز.
وضعف أبو داود هذا الحديث وقال: رواته مجهولون واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن في القتال في سبيل اللَّه تعالى والموت فيه الأجر، لأن أم حرام ماتت ولا دلالة فيه لذلك لأنه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يقل: إنهم شهداء، إنما يغزون في سبيل اللَّه، ولكن قد ذكر مسلم في الحديث الّذي بعد هذا بقليل حديث زهير بن حرب من رواية أبي هريرة من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات في سبيل اللَّه فهو شهيد، وهو موافق لمعنى قول اللَّه تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.(12/213)
ملوكا على الأسرة، أو كالملوك على الأسرة، تشك أيهما، قال: قالت: فقلت:
يا رسول اللَّه، قال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل اللَّه كما قال في الأول، قال: فقلت يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
وخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث مالك بهذا الإسناد مثله أو نحوه ولم يقل:
تشك أيهما، قال: ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
قال: وأم حرام بنت ملحان هي أخت أم سليم وهي خاله أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وترجم عليه البخاري باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء.
وخرج في كتاب الاستئذان [ (2) ] من حديث مالك بهذا الإسناد: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل إلى أم حرام بنت ملحان فتطعمه ... الحديث.
وخرجه أبو داود [ (3) ] عن مالك به وقال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل إلى أم حرام، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما.
الحديث.
وخرجوه من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن أنس، وترجم عليه البخاري باب ركوب البحر [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 152- 153، كتاب فضائل الجهاد، باب (15) ما جاء في غزو البحر، حديث رقم (1645) .
[ (2) ] باب (41) من زار قوما فقال عندهم، حديث رقم (6282) ، (6283) .
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 3/ 14، كتاب الجهاد، باب (10) فضل الغزو في البحر، حديث رقم (2490) .
[ (4) ] (سنن النسائي) : 6/ 347- 348، كتاب الجهاد، باب (40) فضل الجهاد في البحر، حديث رقم (3171) ، وثبيج البحر: أي وسطه ومعظمه. وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب (75) ركوب البحر، حديث رقم (2894) ، (2895) .(12/214)
وخرجه البخاري [ (1) ] من حديث الليث، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن أنس، عن أم حرام. ومن حديث أبي إسحاق عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أنس [ (2) ] .
وخرجه في باب ما قيل في قتال الروم [ (3) ] من حديث ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العقبي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو نازل في ساحل حمص، وهو في بناء له، ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام: أنها سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوجبوا، قالت أم حرام: قلت:
يا رسول اللَّه أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، قالت: ثم قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت أنا فيهم يا رسول اللَّه؟ قال: لا.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: وكان ركوب أم حرام البحر مع زوجها عبادة بن الصامت- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فلما وصلوا إلى جزيرة قبرس، خرجت من البحر فقربت إليها دابة لتركبها، فصرعتها، وماتت فذهبت في موضعها، وذلك في خلافة عثمان رضي اللَّه وتبارك وتعالى عنه سنة ثمان وعشرين، وأمير تلك الغزاة معاوية بن أبي سفيان، فقد تضمن هذا الخبر ضروبا من علامات النبوة منها: إعلامه ببقاء أمته بعده، وأن فيهم أصحاب قوة وشوكه ونكاية في العدو، وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزو البحر، وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان، وأنها تكون مع من يغزو البحر، وأنها تدرك زمان الغزوة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 21- 22، كتاب الجهاد والسير، باب (8) فضل من يصرع في سبيل اللَّه فمات وهو منهم، وقول اللَّه عزّ وجلّ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] ، وقع: وجب، حديث رقم (2799- 2800) ، وفي الإسناد تابعيان، هو وشيخه، وصحابيان، أنس وخالته، وكان ذلك سنة ثمان وعشرين في خلافه عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، (فتح الباري) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (63) غزو المرأة في البحر، حديث رقم (2877) (2878)
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (93) ما قيل في قتال الروم، حديث رقم (2924) .(12/215)
قال ابن عبد البر: وأما
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل اللَّه
فإنه أراد- واللَّه أعلم- أنه رأى الغزاة في البحر من أمته ملوكا على الأسرة في الجنة ورؤياه وحي، ويشهد لقوله:
ملوكا على الأسرة،
ما ذكر اللَّه تعالى في أهل الجنة عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [ (1) ] قال أهل التفسير: الأرائك السرر في الحجال، ومثله قوله تعالى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [ (2) ] وهذا الحديث إنما ورد تنبيها على فضل الجهاد في البحر وترغيبا فيه.
__________
[ (1) ] ياسين: 56.
[ (2) ] الحجر: 47.(12/216)
وأما ظهور صدقة في إخباره [بتكلم] رجل [من أمته] بعد موته [من خير التابعين فكان كما أخبر]
فخرج البيهقي [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن موسى قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش، قال: أتيت فقيل لي: إن أخاك قد مات فجئت فوجدت أخى مسجّى، فأنا عند رأسه أستغفر له وأترحم عليه، إذا كشف الثوب عن وجهه فقال: السلام عليكم، فقلت: سبحان اللَّه أبعد الموت؟! قال: بعد الموت، إني قدمت على اللَّه عز وجل بعدكم، فتلقيت بروح وريحان، ورب غير غضبان، وكساني ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، ووجدت الأمر أيسر مما تظنون، وتتكلوا. إني استأذنت ربي أن أخبركم وأبشركم، فاحملوني إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقد عهد اليّ أن لا أبرح حتى ألقاه ثم طفى كما هو. قال البيهقي [ (2) ] هذا إسناد صحيح لا يشك حديثي في صحته.
وخرج أيضا من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق [ (3) ] ، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش، قال: توفى أخى وكان أصومنا في اليوم الحار، وأقومنا في الليلة الباردة، فسجيته [ (4) ] ، وخرجت في شراء كفنه، فرجعت إليه، أو قال: البيت، وقد كشف الثوب عن وجهه، وقال: السلام عليكم، فقلنا: بعد الموت؟! قال: نعم، إني قدمت على ربي بعدكم، فتلقاني بروح وريحان، ورب غير غضبان، وكساني ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، وإني لقيت محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد أقسم أن لا أبرح حتى آتيه،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 454، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بتكلم رجل من أمته بعد موته من خير التابعين فكان كما أخبر.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 454- 455.
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «فجئته» .(12/217)
فعجلوا بى، ولا تحبسونى [ (1) ] ، والأمر أيسر مما في أنفسكم، فلا تغتروا، قال:
فما شبهت نفسه عند ذلك إلا حصاة ألقيتها في ماء فرسبت.
قال: فذكرت ذلك لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: قد بلغنا أنه سيكون في هذه الأمة رجل يتكلم بعد موته [ (2) ] .
ومن طريق أبي بكر بن أبي الدنيا قال: حدثنا شريح بن يونس، حدثنا خالد بن نافع، عن علي بن عبد اللَّه الغطفانيّ، وحفص بن يزيد، قالا: بلغنا أن ابن خراش حلف أن لا يضحك أبدا حتى يعلم أهو في الجنة أو في النار، فمكث كذلك لا يراه أحد يضحك حتى مات، فذكر نحو حديث عبد الملك بن عمير، غير أنه
قال: فبلغ ذلك عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: صدق أخو بني عيسى رحمه اللَّه، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول يتكلم رجل من أمتي بعد الموت من خير التابعين [ (3) ] .
ومن حديث شريك عن منصور [ (4) ] ، عن ربعي قال: مات الربيع فسجيته فضحك، فقلت يا أخى أحياة بعد الموت؟ قال: لا، ولكن لقيت ربي تبارك وتعالى فلقيني بروح وريحان، ووجه غير غضبان، فقلت: كيف رأيت الأمر؟ قال: يسر ولا تغتروا، قال: فذكر لعائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-
فقالت: صدق ربعي، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: من أمتي من يتكلم بعد الموت.
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «تجسونى» .
[ (2) ] (دلائل النبوة) : 6/ 454- 455، وأخرجه الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء) :
4/ 367- 368، ترجمة ربعي بن خراش رقم (281) بسياقة أتم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 455.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 455.(12/218)
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في قتل نفر من المسلمين ظلما بعذراء [ (1) ] من أرض الشام [فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم]
[ (2) ]
فخرج البيهقي [ (3) ] من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا ابن بكير قال:
حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني الحارث بن سويد، عن عبد اللَّه بن زرير الغافقي، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، فقتل حجر وأصحابه،
قال يعقوب: قال أبو نعيم: ذكر زياد بن سمية، على بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- على المنبر، فقبض حجر على الحصباء ثم أرسلها، وحصبت من حوله زيادا، فكتب إلى معاوية يقول إن حجرا حصبني وأنا على المنبر، فكتب إليه معاوية: أن يحمل إليه حجرا، فلما قرب من الشام بعث من يتلقاهم فالتقى معهم بعذراء فقتلهم.
قال البيهقي: لا يقول عليّ مثل هذا إلا بأن يكون سمعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقد روى عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- بإسناد مرسل مرفوعا فذكر من طريق يعقوب بن سفيان، قال: حدثني حرملة قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: ما حملك على قتل أهل
__________
[ (1) ] عذراء: بالفتح ثم السكون والمد، وهو في الأصل الرملة التي لم توطأ، والدرة العذراء التي لم تتقب. وهي قرية بغوطة دمشق من إقليم خولان معروفة، وبها منارة، وبها قتل حجر بن عدي الكندي، وبها قبره، وقيل إنه هو الّذي فتحها. (معجم البلدان) : 4/ 103، موضع رقم (8251) ، مختصرا.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] دلائل البيهقي) : 6/ 456، باب ما روي في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بقتل نفر من المسلمين ظلما بعذراء من أرض الشام، فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم.(12/219)
عذراء، حجر وأصحابه، فقال: يا أم المؤمنين، رأيت قتلهم صلاحا للأمة، وأن بقاءهم فساد للأمة،
فقالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول سيقتل بعذراء ناس يغضب اللَّه لهم، وأهل السماء [ (1) ] .
قال ابن عساكر: رواه ابن المبارك، عن ابن لهيعة فلم يرفعه.
وذكر بإسناد آخر، فأخرجه من حديث عبد اللَّه بن المبارك، عن ابن لهيعة، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، أن معاوية حج فدخل على عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها فقالت: يا معاوية! قتلت حجر بن الأدبر وأصحابه؟ أما واللَّه لقد بلغني أنه سيقتل سبعة نفر يغضب اللَّه لهم وأهل السماء.
وخرج البيهقي من طريق يعقوب حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن مروان بن الحكم، قال: دخل معاوية على أم المؤمنين عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: سمعت يا معاوية أنك قتلت حجرا وأصحابه، وفعلت [ (2) ] ما فعلت، أما خشيت أنّ اختبأ لك رجل [ (3) ] فيقتلك؟ فقال: لا، إني في بيت أمان، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول الإيمان قيد الفتك،
لا يفتك مؤمن يا أم المؤمنين، كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك؟ قالت: صالح، قال: فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 457.
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «وفعلت الّذي فعلت» .
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «اختبأ لك رجلا» ، وما أثبتناه حق اللغة.(12/220)
وأما ظهور صدقه فيمن قتل عمرو بن الحمق بن الكاهن ابن حبيب بن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو ابن سعد بن كعب بن عمرو الخزاعي الكعبي
[ (1) ] فذكر الحافظ أبو القاسم على بن الحسن بن هبة اللَّه بن عساكر في (تاريخه) من طريق غياث بن إبراهيم، عن الأجلح بن عبد اللَّه الكندي، قال:
سمعت زيد بن علي وعبد اللَّه بن الحسن وجعفر بن محمد، ومحمد بن عبد اللَّه ابن الحسن يذكرون تسمية من شهد مع عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كلهم ذكره عن آبائه، وعمن أدرك من أهله، وسمعته أيضا من غيرهم فذكرهم، وذكر فيهم عمرو بن الحمق الخزاعي
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال له: يا عمرو، أتحب أن أريك آية الجنة؟
قال: نعم يا رسول اللَّه، فمرّ عليّ فقال هذا وقومه آية الجنة،
فلما قتل عثمان وبايع الناس عليا رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لزمه، وكان معه حتى أصيب، ثم كتب معاوية في طلبه، وبعث من يأتيه به.
قال الأجلح: فحدثني عمران بن سعيد البجلي، وكان مؤاخيا لعمرو بن الحمق، أنه خرج معه حين طلب، فقال لي: يا رفاعة، إن القوم قاتليّ، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخبرنى أن الجن والإنس تشترك في دمي، وقال لي: يا عمرو إن أمّنك رجل على دمه فلا تقتله فتلقى اللَّه بوجه غادر
[ (2) ] ، قال رفاعة: فما أتم حديثه حتى رأيت أعنة الخيل فودعته وواثبته حية فلسعته، وأدركوه، فاحتزوا رأسه، فكان أول رأس أهدي في الإسلام.
وذكر من طريق أبي سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد العامري، قال:
حدثنا موسى بن زياد أبي هارون الزيات قال: حدثنا على بن هاشم بن البريد عن محمد بن عبيد اللَّه بن علي بن أبي رافع، عن عون بن عبيد اللَّه بن أبي
__________
[ (1) ] النسب في (الأصل) أطول من ذلك، واكتفينا بما أمكن تحقيقه من (الإصابة) : 4/ 623- 624، ترجمة رقم (5822) ، (الاستيعاب) : 3/ 1173- 1174، ترجمة رقم (1909) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 482- 483.(12/221)
رافع عن أبيه عبيد اللَّه، قال: قال موسى بن زياد: حدثنا يحيى بن يعلى عن محمد بن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن أبيه، عن جده، وعن ابن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن أبيه، قال علي بن هاشم في حديثه وكان عبيد اللَّه بن أبي رافع كاتب عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه واللفظ لعبيد اللَّه بن كثير في تسمية من شهد مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه من قريش، والأنصار، ومن مهاجري العرب، فذكرهم، وذكر فيهم عمرو بن الحمق الخزاعي، بقي بعد عليّ فطلبه معاوية ليقتله فهرب منه نحو الجزيرة ومعه رجل من أصحاب علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقال له زاهر، فلما نزلا الوادي نهشت عمرا حية من جوف الليل، فأصبح منتفخا، فقال لزاهر تنح عني فإن خليلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أخبرني أني سيشترك في دمي الجن والإنس، ولا بد لي أن أقتل، فقد أصابتنى بلية الجن بهذا الوادي، فبينما هما على ذلك إذ رأيا نواصي الخيل في طلبه، فأمر زاهرا يتغيب، فإذا قتلت فإنّهم يأخذون رأسي فارجع إلى جسدي فادفنه، فقال له زاهر: بل أنشر نبلى فأرميهم حتى إذا فنيت نبلى قتلت معك، قال: لا، ولكنى سأزودك مني بما ينفعك اللَّه به، فاسمع منى آيه الجنة، محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وعلامتهم عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وتوارى زاهر، فأقبل القوم فنظروا إلى عمرو فنزل إليه رجل منهم أدم فقطع رأسه، وكان أول رأس في الإسلام نصب، وخرج زاهر إليه فدفنه، ثم بقي حتى قتل الحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بالطف.(12/222)
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في إشارته إلى كيف يموت سمرة بن جندب [ (1) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث سفيان قال: حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن أبي [مسلمة عن أبى] [ (3) ] نضرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال لعشرة في بيت من أصحابه: آخركم موتا في النار
فيهم سمرة ابن جندب. قال أبو نضرة: فكان سمرة آخرهم موتا.
قال البيهقي: رواته ثقات، إلا أن أبا نضرة العبديّ لم يثبت له عن أبي هريرة سماع.
وروى من وجه آخر موصولا، عن أبي هريرة فذكره من طريق يونس ابن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن حكيم الضبيّ قال: كنت أمر بالمدينة فألقى أبا هريرة فيسألنى فلا يبدأ بشيء حتى يسألنى عن سمرة، فإذا أخبرت بحياته وصحته فرح وقال: إنا كنا عشرة في بيت، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قام علينا [ (4) ] فنظر في وجوهنا، وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: آخركم موتا في
__________
[ (1) ] هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، نزل البصرة. له أحاديث صالحة، حدّث: ابنه سليمان، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة. وبين العلماء فيما روى الحسن عن سمرة اختلاف في الاحتجاج بذلك، وقد ثبت سماع الحسن من سمرة، ولقيه بلا ريب، صرح بذلك في حديثين.
وكان زياد بن أبيه يستخلفه على البصرة إذا سار إلى الكوفة، ويستخلفه على الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة. وكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه. رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. مات سمرة سنة ثمان وخمسين. وقيل: سنة تسع وخمسين (تهذيب سير الأعلام) : 1/ 94، ترجمة رقم (269) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 458، باب ما روى في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم نفرا من أصحابه بأن آخرهم موتا في النار.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «قام فينا» .(12/223)
النار،
فقد مات منا ثمانية ولمن يبق غيري وغيره، فليس شيء أحب إليّ من أن أكون قد ذقت الموت
وخرج أيضا من طريق حماد عن على بن زيد عن أوس بن خالد، قال: كنت إذا قدمت على أبي محذورة فقلت لأبى محذورة: مالك إذا قدمت عليك وسألتني عن سمرة؟ وإذا قدمت على سمرة سألني عنك؟ فقال إني كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت، فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: آخركم موتا في النار،
فمات أبو هريرة، ثم مات أبو محذورة، ثم سمرة.
قال البيهقي: بهذا وبصحبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، نرجو له بعد تحقيق قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] وقد قال بعض أهل العلم: إن سمرة مات في الحريق، فصدق قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وبلغني عن هلال بن العلاء الرقى أن عبد اللَّه بن معاوية حدثهم عن رجل [قد] [ (2) ] سماه: أن سمرة استجمر فغفل عنه أهله، حتى أخذته النار [ (3) ] .
وقال: ابن عبد البر [ (4) ] : وكان زياد يستخلفه على البصرة ستة أشهر، وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة، فأقره معاوية عليها، عاما أو نحوه، ثم عزله، وكان شديدا على الحرورية، وكان إذا أتى بواحد منهم قتله ولم يقله ويقول: شر قتلى تحت أديم الأرض [ (5) ] يكفرون المسلمين، ويسفكون الدماء، فالحرورية ومن قاربهم في مذهبهم يطعنون عليه وينالون منه.
قال: وكانت وفاته بالبصرة [في خلافة معاوية] [ (6) ] سنة ثمان وخمسين، سقط في قدر مملوءة ماء حارا، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز [شديد] [ (7) ]
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 459.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 460.
[ (4) ] (الاستيعاب) : 2/ 653- 655، ترجمة سمرة بن جندب رقم (1063) .
[ (5) ] كذا في (الأصل) ، وفي (الاستيعاب) : «أديم السماء» .
[ (6) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (7) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(12/224)
أصابه فسقط في القدر الحارة فمات، فكان ذلك تصديقا [ (1) ]
لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم له ولأبى هريرة، وثالث معهما: آخركم موتا في النار.
وروى أبو سعيد بن يونس من حديث داود بن المحبر عن زياد بن عبد اللَّه بن سمرة بن جندب، كان أصابه كزاز شديد، وكان لا يكاد أن يدفأ، فأمر بقدر عظيمة فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ فوقها مجلسا، وكان يصعد إليه بخارها فيدفئه، فبينا هو كذلك إذا خفت به. فظن أن ذلك الّذي قيل فيه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «قصد بها» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] قال البيهقي: وقد قال بعض أهل العلم: إن سمرة مات في الحريق فصدق بذلك قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ويحتمل أن يورد النار بذنوبه، ثم ينجو بإيمانه، فيخرج منها بشفاعة الشافعين. واللَّه تعالى أعلم. (دلائل البيهقي) : 6/ 460.(12/225)
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في موت عبد اللَّه بن سلام [ (1) ] على الإسلام من غير أن ينال الشهادة [فكان كما أخبر- توفي على الإسلام في أول أيام معاوية بن أبي سفيان سنة ثلاث وأربعين-]
فخرج البخاري [ (2) ] من حديث ابن عون عن محمد [بن سيرين] ، عن قيس بن عباد قال: كنت جالسا في مسجد المدينة فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلّى ركعتين فتجوز فيها ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة! قال: واللَّه ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك،
رأيت رؤيا على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأنى في روضة، ذكر من سعتها وخضرتها، وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، فرقيت، حتى كنت في أعلاه فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
تلك العروة الوثقى، فأنت تموت على الإسلام حين تموت وذلك الرجل عبد اللَّه ابن سلام.
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإمام الحبر، المشهود له بالجنة، أبو الحارث الإسرائيلي، حليف الأنصار، من خواص أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حدث عنه أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعطاء بن يسار، وزرارة بن أوفى، وآخرون. له إسلام قديم بعد أن قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة، وهو من أحبار اليهود. اتفقوا على أن ابن سلام توفى سنة ثلاث وأربعين. (تهذيب سير الأعلام) : 1/ 71- 72، ترجمة رقم (190) باختصار. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (الدلائل) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 162- 163، كتاب مناقب الأنصار، باب (19) مناقب عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3813) .(12/226)
وخرجه من حديث ابن عون، عن محمد [بن سيرين] ، حدثنا قيس بن عباد، عن ابن سلام قال: وصيف مكان منصف. ذكره في كتاب التعبير، في باب التعلق بالعروة والحلقة [ (1) ] .
ومن حديث ابن عون، عن محمد [بن سيرين] ، حدثنا قيس بن عباد، عن عبد اللَّه بن سلام، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها، قال: ورأيت في وسط تلك الروضة عمودا وفي أعلى العمود عروة فقيل لي: ارقه، قلت: لا أستطيع، قال: فأتانى وصيف، فرفع ذلك الوصيف ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاه، فقيل لي:
استمسك بالعروة، قال: فاستمسكت بتلك العروة فانتبهت وإنها لفي يدي وأنا متمسك بها، فلما استيقظت أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقصصتها عليه، فقال: تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة العروة الوثقى لا تزال مستمسكا بالإسلام حتى تموت [ (2) ] .
وخرجه مسلم [ (3) ] من حديث عبد اللَّه بن عون بهذا الإسناد أو نحوا أو قريبا مما تقدم أولا.
وخرجاه من حديث حرمي بن عمارة، قال: حدثنا قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين قال: قال قيس بن عباد فذكره.
ولمسلم [ (4) ] من حديث جرير عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر، قال: كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة قال: وفيها شيخ حسن الهيئة وهو عبد اللَّه بن سلام، قال: فجعل يحدثهم حديثا حسنا قال: فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، قال:
__________
[ (1) ] باب رقم (23) التعليق بالعروة الوثقى، حديث رقم (7014) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 496، كتاب التعبير باب (23) التعليق بالعروة والحلقة، حديث رقم (7014) . وأخرجه البيهقي في (الدلائل) : 6/ 461- 462.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 275، كتاب فضائل الصحابة باب (339) باب من فضائل عبد اللَّه بن سلام، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (148) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 276- 277 حديث رقم (150) .(12/227)
فقلت: واللَّه لاتبعنه فلأعلمن مكان بيته قال: فتبعته، قال: فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، قال: فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقال:
ما حاجتك يا ابن أخي؟ فقلت له: سمعت القوم يقولون لك لما قمت: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فأعجبني أن أكون معك، قال: اللَّه أعلم بأهل الجنة، وسأحدثك ممّ قالوا ذاك، إني بينما أنا نائم، إذ أتانى رجل فقال لي: قم، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، قال: فإذا أنا بجواد عن شمالي، قال: فأخذت لآخذ فيها، فقال لي: لا تأخذ فيها، فإنّها طرق أصحاب الشمال، قال: فإذا جواد منهج على يميني فقال لي: خذها هنا، فأتى بي جبلا، فقال لي اصعد، قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي، قال: حتى فعلت ذلك مرارا، قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض، في أعلاه حلقة، فقال لي: اصعد فوق هذا! قلت:
كيف أصعد هذا ورأسه في السماء؟.
قال: فأخذ بيدي فزج بي، قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة، قال: ثم ضرب العمود فخرّ، قال: وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت.
قال: فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقصصتها عليه، فقال: أما الطرق التي رأيت على يسارك، فهي طرق أصحاب الشمال، قال: وأما الطرق التي رأيت عن يمينك، فهي طرق أصحاب اليمين، وأما الجبل فهو منزل الشهداء، ولن تناله، وأما العمود فهو عمود الإسلام، وأما العروة فهي عروة الإسلام، ولن تزال متمسكا بها حتى تموت.
قال ابن عبد البر [ (1) ] : توفي في المدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين، وشهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعبد اللَّه بن سلام بالجنة.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 921- 922، ترجمة رقم (1561) .(12/228)
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في إخباره لرافع بن خديج [ابن رافع بن عدي بن زيد بن عمرو بن زيد ابن جشم الأنصاري، البخاريّ، الخزرجيّ] بالشهادة
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عمرو بن مرزوق الواشحي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد- يعني: ابن رافع- عن جدته أن رافع بن خديج رمى- قال عمرة: لا أدرى أيهما قال؟ يوم أحد أو يوم حنين- بسهم في ثندوته فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه انزع السهم؟ فقال له: يا رفع إن شئت نزعت السهم والقطبة جميعا، وإن شئت نزعت السهم وتركت القطبة وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد، فقال رافع: يا رسول اللَّه، انزع السهم ودع القطبة واشهد لي يوم القيامة أنى شهيد
قال: فعاش بعد ذلك حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى إذا كان خلافة معاوية انتقض ذلك الجرح فمات بعد العصر.
قال كاتبه: وقد ذكر ابن عبد البر [ (2) ] أنه أصيب يوم أحد، انتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان، فمات قبل ابن عمر بيسير سنة أربع وسبعين، وكذا ذكره الحاكم [ (3) ] وغيره عن الواقدي في تاريخ وفاته.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 463، باب ما جاء في شهادة [النبي صلّى اللَّه عليه وسلم] لرافع بن خديج بالشهادة وظهور صدقة في ذلك زمن معاوية. والثندوة: الترقوة.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 2/ 479- 480، ترجمة رقم (727) وما بين الحاصرتين في العنوان زيادة للنسب منه.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 648، كتاب معرفة الصحابة، ذكر رافع بن خديج رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(12/229)
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بهلاك أمته على يد أغيلمة من قريش فكان منذ ولّي يزيد بن معاوية
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرنى جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في مسجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: «سمعت الصادق المصدوق صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: هلكت أمتى على يدي غلمة من قريش،
فقال مروان: لعنة اللَّه عليهم غلمة، فقال أبو هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لو شئت أن أقول بنى فلان بنى فلان لفعلت» ، فكنت أخرج مع جدي إلى بنى مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا: أن أعلم.
وذكره أيضا في باب علامات النبوة [ (2) ] ، وخرج فيه أيضا من حديث شعبة عن أبي التياح، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يهلك الناس هذا الحي من قريش، قالوا فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 10، كتاب الفتن، باب (3)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء،
حديث رقم (7058) ، قال الحافظ: يتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين، مع أن الظاهر أنهم من ولده، فكأن اللَّه تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجة عليهم لعلهم يتعظون.
وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك. (فتح الباري) .
[ (2) ] باب (25) من كتاب المناقب، حديث رقم (3605) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3604) .(12/230)
وخرج مسلم [ (1) ] في كتاب الفتن من حديث أبي أسامة بهذا الإسناد ولفظه:
عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يهلك أمتى هذا الحي من قريش.
الحديث.
وخرج البيهقي [ (2) ] من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ قال: حدثنا حيوة قال: أخبرنى بشير بن أبي عمرو الخولانيّ أن الوليد بن قيس الحسبي أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: وتلا هذه الآية:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [ (3) ] فقال: يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر.
قال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ فقال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به.
وخرجه الحاكم [ (4) ] وقال: هذا حديث صحيح رواته حجازيون وشاميون أثبات.
قال البيهقي [ (5) ] : وقد روي عن علي عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما ما يؤكد هذا التاريخ،
فذكر من طريق أبي أسامة، عن مجالد، عن عامر قال: لما رجع عليّ من صفين قال: يا أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية فإنه لو قد فقدتموه لقد رأيتم الرءوس تنزو من كواهلها كالحنظل.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 256- 257، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (2917) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 464- 467، باب ما جاء في إخباره النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالفتن التي ظهرت بعد الستين من أغيلمة من قريش فكان كما أخبر.
[ (3) ] مريم: 59.
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 406، كتاب التفسير، باب (19) تفسير سورة مريم. حديث رقم (3416) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 466، باب ما جاء في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالفتن التي ظهرت بعد الستين من أغيلمة من قريش فكان كما أخبر.(12/231)
ومن حديث العباس بن الوليد [ (1) ] بن مزيد البيروتي قال: أخبرنا أبي قال:
حدثنا ابن جابر عن عمير بن هانئ أنه حدثه قال: كان أبو هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يمشي في سوق المدينة وهو يقول اللَّهمّ لا تدركني سنة الستين، ويحكم! تمسكوا بصدغي معاوية: اللَّهمّ لا تدركني إمارة الصبيان.
قال البيهقي [ (2) ] : وهما إنما يقولان مثل هذا الشيء سمعاه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرج البيهقي [ (3) ] من طريق هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف بن أبي خلدة عن أبي العالية قال: لما كان يزيد بن أبي سفيان أميرا بالشام غزا الناس فغنموا وسلموا، فكان في غنيمتهم جارية نفيسة فصارت لرجل من المسلمين في سهمه، فأرسل إليه يزيد فانتزعها منه، وأبو ذر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يومئذ بالشام قال: فاستغاث الرجل بأبي ذر على يزيد، فانطلق معه، فقال ليزيد: ردّ على الرجل جاريته- ثلاث مرات-،
قال أبو ذر: أما واللَّه لئن فعلت لقد سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية،
ثم ولّى عنه، فلحقه يزيد فقال: أذكرك باللَّه أنا هو؟ قال: اللَّهمّ لا، وردّ على الرجل جاريته.
قال البيهقي [ (4) ] : يزيد بن أبي سفيان كان من أمراء الأجناد بالشام في أيام أبي بكر وعمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما ولكن سميه يزيد بن معاوية يشبه أن يكون هو، قال: وفي هذا الإسناد إرسال بين أبي العالية وأبي ذر، وقد روى من وجه آخر.
فذكر من طريق يعقوب بن سفيان قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمرو الحراني، حدثنا: محمد بن سليمان، عن ابن غنيم البعلبكي، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، عن أبي عبيدة بن الجراج رضي
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 466- 467.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 467.(12/232)
اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يزال هذا الأمر معتدلا قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية [ (1) ] .
وأما ظهور صدقه صلّى اللَّه عليه وسلم في أن قيس بن خرشة القيسي لا يضره بشر
فخرج الحافظ أبو عمر بن عبد البر [ (2) ] من طريق ابن وهب قال: حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي، قال: اصطحب قيس بن خرشة وكعب الكتابيين حتى إذا بلغا صفين وقف كعب، ثم نظر ساعة، قال: فقال لا إله إلا اللَّه، ليهرقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لم يهرق ببقعة من الأرض، فغضب قيس، ثم قال: وما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا، فإن هذا من الغيب الّذي استأثر اللَّه به، فقال كعب: ما من شبر من الأرض إلا وهو مكتوب في التوراة التي أنزل اللَّه على نبيه موسى بن عمران عليه السلام- ما يكون عليه إلى يوم القيامة، فقال:
محمد بن يزيد: ومن قيس بن خرشة؟ فقال له رجل: تقول: ومن قيس بن خرشة؟ وما تعرفه وهو رجل من أهل بلادك؟ قال: واللَّه ما أعرفه،
قال: فإن قيس بن خرشة قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أبايعك على ما جاءك من اللَّه، وعلى أن أقول بالحق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا قيس عسى إن مر بك
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 467. باب ما جاء في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالفتن التي ظهرت بعد الستين من أغيلمة من قريش فكان كما أخبر. (المطالب العالية) : 4/ 332، باب لعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الحكم بن العاص وبنيه وبني أمية، حديث رقم (4532) .
وقال البوصيري: رواه ابن منيع والحارث وأبو يعلى بسند منقطع وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلي رجال الصحيح إلا أن مكحولا لم يدرك أبا عبيدة.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 3/ 1286- 1288، ترجمة رقم (2129) قيس بن خرشة القيسي.(12/233)
الدهر أن يليك بعدي ولاة لا تستطيع أن تقول لهم [ (1) ] الحق، قال قيس: لا واللَّه، لا أبايعك على شيء إلا وفيت به، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا لا يضرك بشر.
قال: فكان قيس يعيب زيادا أو ابنه عبيد اللَّه بن زياد من بعده، فبلغ ذلك عبيد اللَّه بن زياد، فأرسل إليه فقال: أنت الّذي تفتري على اللَّه وعلى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: [لا واللَّه، ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفتري على اللَّه وعلى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: ومن هو؟ قال: من ترك العمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: [[ (2) ] ومن قال: من ترك العمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله، قال:
ومن ذلك؟ قال: أنت، وأبوك، والّذي أمركما، قال: وأنت الّذي تزعم أنه لا يضرك بشر؟ قال: نعم، قال: لتعلمن اليوم أنك كاذب، ائتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وخزي ابن مرجانة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «معهم» ، وما أثبتناه من (الاستيعاب) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط من (الأصل) ، وأثبتناه من (الاستيعاب) .
[ (3) ] (الاستيعاب) : 3/ 1286- 1288، ترجمة قيس بن خرشة القيسي رقم (2129) .(12/234)
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بقتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما
فخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث مؤمل قال: حدثنا عمارة بن زاذان، حدثنا ثابت عن أنس [بن مالك] [ (2) ] رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن ملك القطر [ (3) ] استأذن [ربه] [ (2) ] أن يأتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأذن له فقال لأم سلمة: املكي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد، قال: وجاء الحسين [بن عليّ] [ (4) ] ليدخل فمنعته، فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وعلى منكبه، وعلى عاتقه، قال: فقال الملك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: أتحبه؟ قال: نعم، قال [أما] [ (2) ] إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الّذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها، قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء.
وخرجه البيهقي من حديث عبد الصمد بن حسان عن عمارة بن زاذان نحوه أو قريبا منه، إلا أنه قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر فأخذته أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها فصرته في طرف ثوبها، فكنا نسمع، أن يقتل بكربلاء، قال: وكذلك رواه سفيان بن فروخ، عن عمارة فذكره نحوه [ (5) ] .
وقال أبو يعلي: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن ليث بن أبي سليم، عن جرير، عن الحسن العبسيّ، عن مولى لزينب، أو عن بعض أهله، عن زينب قالت: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في بيتي وحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عندي حين درج، فغفلت عنه، فدخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجلس على بطنه فبال فانطلق لأخذه، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: دعيه، فتركته
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) 4/ 127، حديث رقم (13127) من مسند أنس بن مالك رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (13383) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (الأصل) ، وفي (المرجع السابق) : «ملك القطر» .
[ (4) ] من (الأصل) فقط.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(12/235)
حتى فرغ، ثم دعا بماء، فقال: إنه يصب من الغلام، ويغسل من الجارية، فصبوا صبا، ثم توضأ، فقام فصلى، فلما قام احتضنه إليه، فإذا ركع أو جلس وضعه ثم جلس فشكا، ثم مدّ يده فقلت حين قضى الصلاة: يا رسول اللَّه، إني رأيتك اليوم صنعت شيئا ما رأيتك تصنعه؟ قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن ابني هذا تقتله أمتي، فقلت: أرني تربته، فأراني تربة حمراء.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث محمد بن شرحبيل بن مدرك الجعفي عن عبد اللَّه بن نجي الحضرميّ، عن أبيه، أنه صار مع عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى عليّ: صبرا أبا عبد اللَّه، بشط الفرات، فقلت: وما ذاك؟ قال: دخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي اللَّه أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفضيان؟ قال: بل قام جبريل من عندي قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال هل لك أن اشمك من تربته؟ قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
وخرج الإمام [ (2) ] أحمد من حديث وكيع قال: حدثني عبد اللَّه بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة، أو أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال لإحداهما لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل عليّ قبلها، فقال: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 137، حديث رقم (649) ، من مسند على بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 418، حديث رقم (25985) ، من حديث أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.(12/236)
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث مصعب قال: حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار شداد بن عبد اللَّه، عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه إني رأيت حلما منكرا الليلة، قال: [وما هو] ؟ قالت:
إنه شديد، قال: [وما هو] ؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: رأيت خيرا، تلد فاطمة إن شاء اللَّه غلاما فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فكان في حجري كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخلت يوما إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تهريقان الدموع، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي، مالك؟ قال: أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا؟ قال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (2) ] [ولم يخرجاه] وخرج من طريق أبي نعيم قال: حدثنا عبد اللَّه بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال:
أوحى اللَّه إلى محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 194، كتاب معرفة الصحابة، أول فضائل أبي عبد اللَّه الحسين بن على الشهيد رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (4818) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل منقطع ضعيف، فإن شدادا لم يدرك أم الفضل، ومحمد بن مصعب ضعيف.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 195- 196، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4822) . وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.(12/237)
وخرّج من حديث قرة بن خالد قال: حدثنا عامر بن عبد الواحد، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين بن عليّ يقتل بالطف [ (1) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة [ (2) ] من حديث يعلي بن عبيد، عن موسى الجهنيّ، عن صالح بن أربد النخعي، قال: قالت أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: دخل الحسين بن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا جالسة على الباب، فاطلعت فرأيت في كفّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا يقلبه وهو نائم على بطنه! فقلت: يا رسول اللَّه تطلعت فرأيتك تقلب شيئا في كفك، والصبي نائم على بطنك، ودموعك تسيل، فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني بالتربة التي يقتل عليها، وأخبرني أن أمتي يقتلونه.
وخرّج أبو نعيم أحمد من حديث عبد اللَّه بن أحمد، قال: حدثني عبد بن زياد الأسدي، حدثنا عمرو بن ثابت عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن أم سلمة قالت: كان الحسين والحسن رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما يلعبان بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في بيتي، فنزل جبريل فقال: يا محمد، إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك، وأومأ بيده إلى الحسين، فبكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وضمه إلى صدره، ثم قال: وديعة عندك هذه التربة، فشمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: ريح كرب وبلاء، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا أم سلمة، إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل،
قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: تحولين دما ليوم عظيم [ (3) ] .
وخرج من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا سليمان بن بلال عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب، عن أم سلمة قالت: كان
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4826) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : حجاج بن نصير متروك.
[ (2) ] (المصنف) : 7/ 477- 478، كتاب الفتن، باب (2) ما ذكر في فتنة الدجال، حديث رقم (37355) .
[ (3) ] سبق تخريجهما.(12/238)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم جالسا في بيتي ذات يوم، فقال: لا يدخلن عليّ أحد، فانتظرت، فدخل الحسين، فسمعت نشيج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يبكي، فاطلعت، فإذا الحسين في حجره، وإلى جنبه يمسح رأسه وهو يبكي، فقلت: واللَّه ما علمت به حتى دخل، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إن جبريل كان معنا في البيت فقال: أتحبه؟ فقلت: أما من حيث الدنيا فنعم، فقال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء، فتناول جبريل من ترابها فأراه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما أحيط بالحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حين قتل، قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: أرض كربلاء، قال: صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أرض كرب وبلاء [ (1) ] .
وخرّج البيهقي [ (2) ] من حديث موسى بن يعقوب عن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة، قال: أخبرتني أم سلمة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اضطجع ذات يوم للنوم فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في الكرة الأولى، ثم اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء يقلبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول اللَّه؟ قال: أخبرني جبريل عليه السلام أن هذا يقتل بأرض العراق- للحسين- فقلت: يا جبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها فهذه تربتها.
تابعه موسى الجهنيّ عن صالح بن زيد النخعي عن أم سلمة وأبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وخرّج البيهقي [ (3) ] من طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم قال: حدثني يحيى بن أيوب قال: حدثني ابن غزية وهو عمارة عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان لعائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها مشربة، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا أراد لقي جبريل عليه السلام لقيه فيها، فرقاها مرة من ذلك، وأمر عائشة أن لا يطلع [إليهم] أحد، قال: وكان رأس الدرجة
__________
[ (1) ] سبق تخريجهما.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 468.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 470. في (الأصل) : «إليه» .(12/239)
في حجرة عائشة، فدخل الحسين بن علي فرقى ولم تعلم حتى غشيها، فقال جبريل: من هذا؟ قال: ابني، فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجعله على فخذه، قال جبريل: سيقتل، تقتله أمتك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أمتي؟ قال: نعم، وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها فأشار جبريل بيده إلى الطف بالعراق، فأخذ تربة حمراء، فأراه إياها.
قال البيهقي [ (1) ] : هكذا رواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية مرسلا.
ورواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن عمارة موصولا فقال: عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة.
وخرّجه الحافظ أبو نعيم [ (2) ] من حديث عطاء بن مسلم الخفاق، عن الأشعث بن سحيم، عن أبيه، عن أنس بن الحارث، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن أمتي تقتل هذا بأرض من أراضي العراق، فمن أدركه منكم فلينصره، قال: فقتل أنس مع الحسين بن علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة [ (3) ] حدثنا: أحوص بن حبان عن يونس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن نعجة قال: إن أول ذل دخل على العرب قتل الحسين بن علي وادّعاه زياد.
وخرّج البيهقي [ (4) ] من حديث شبابة بن سوار، قال: حدثنا يحيى بن سالم الأسدي، قال: سمعت الشعبي يقول: كان ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قدم المدينة، فأخبر أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 470.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 554، إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عن قتل الحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (493) ، ونقله الحافظ السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 451، وقال:
رواه ابن السكن والبغوي في الصحابة.
[ (3) ] (المصنف) : 7/ 258، كتاب الأوائل، باب (1) أول ما فعل ومن فعله، حديث رقم (35849) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 470- 471.(12/240)
طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: إن اللَّه عز وجل خيّر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم بين الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة، ولم يرد الدنيا وإنكم بضعة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واللَّه لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها اللَّه عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، وقال: هذه كتبهم وبيعتهم، قال: فاعتنقه ابن عمر وقال: استودعك اللَّه من قتيل.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث عبد الرحمن، قال: حدثنا: حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في المنام نصف النهار، أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم يلتقطه، أو يتبع فيها شيئا، فقلت: ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم، قال: فحفظنا ذلك فوجدناه قتل ذلك اليوم.
وخرج من حديث عفان، حدثنا حماد، حدثنا: عمار فذكره بنحو منه [ (2) ] .
وخرج البيهقي [ (3) ] من حديث مسلم بن إبراهيم، قال: حدثتنا أم شوق العبدية، قالت: حدثتني نضرة الأزدية قالت: لما قتل الحسين بن على أمطرت السماء دما فأصبحت وكل شيء [لنا] [ (4) ] ملآن [دماء] [ (5) ] .
ومن حديث سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن معمر قال: أول ما عرف الزهري تكلم في مجلس الوليد بن عبد الملك، فقال الوليد:
أيكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي؟ فقال الزهري:
بلغني أنه لم يقلب حجر إلا وجد تحته دم عبيط [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 400، حديث رقم (2166) من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2549) من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 471.
[ (4) ] من (الأصل) : فقط.
[ (5) ] في (الأصل) : دماء، وما أثبتناه من (الدلائل) .
[ (6) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 471.(12/241)
وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق، عن الزهري أن أسماء الأنصارية قالت: ما رفع حجر بإيليا ليلة قتل عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه إلا ووجد تحته دم عبيط.
وخرجه البيهقي [ (2) ] من حديث ابن عفير، حدثنا فحص بن عمران عن السري بن يحيى، عن ابن شهاب قال: قدمت دمشق وأنا أريد الغزو فأتيت عبد الملك يعنى ابن مروان لأسلم عليه، فوجدته في قبة على فرش يفوق القائم، والناس تحته سماطان فسلمت وجلست، فقال: يا ابن شهاب أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل ابن أبي طالب؟ قلت: نعم، قال: هلم، فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة وحوّل وجهه فأحنى عليّ فقال: ما كان؟
فقلت: لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم، قال: فقال: لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك، ولا يسمعن منك، قال: فما تحدثت به حتى توفى.
قال البيهقي هكذا روى في قتل عليّ بهذا الإسناد، وروى بإسناد أصح من هذا عن الزهري، أن ذلك كان في قتل الحسين بن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
قال كاتبه: يريد ما تقدم ذكره من طريق سليمان بن حرب، عن حماد.
وخرج من طريق أيوب بن محمد الرقى حدثنا: سلام بن سليمان الثقفي، عن زيد بن عمرو الطندي، قال: حدثتني أم حبان، قالت: يوم قتل الحسين أظلمت علينا ثلاثا: ولم يمس أحد منا من زعفرانهم شيئا فجعله على وجهه إلا احترق، ولم يقلب حجر في بيت المقدس إلا أصبح تحته دم عبيط.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 155، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بأصح الأسانيد على سبيل الاختصار، حديث رقم (4694) قال الحاكم: قد اختلفت الروايات في مبلغ سنّ أمير المؤمنين حين قتل، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : نوح كذاب.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 440- 441، باب ما روى في إخباره بتأمير علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وقتله فكانا كما أخبر.(12/242)
ومن حديث علي بن مسهر قال: حدثتني جدتي، قالت: كنت أيام الحسين جارية شابة فكانت السماء أياما كأنها علقة [ (1) ] .
ومن حديث أبي بكر الحميدي حدثنا سفيان، قال: حدثتني جدتي، قالت: لقد رأيت الورس عاد رمادا، ولقد رأيت اللحم كأن فيه النار حين قتل الحسين [ (2) ] .
ومن طريق سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثني جميل بن مرة، قال: أصابوا إبلا في عسكر الحسين يوم قتل، فنحروها وطبخوها قال:
فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 472.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 472.
[ (3) ] (المرجع السابق) .(12/243)
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بقتل أهل الحرة وتحريق الكعبة المشرفة
فخرج البيهقي [ (1) ] من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني ابن فليح عن أبيه، عن أيوب بن عبد الرحمن، عن أيوب بن بشير المعافري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج من سفر من أسفاره، فلما مرّ بحرة زهرة وقف فاسترجع فساء ذلك من معه، وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه! ما الّذي رأيت؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أما إن ذلك ليس من سفركم هذا، قالوا: فما هو يا رسول اللَّه؟ فقال: يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي.
قال البيهقي [ (2) ] : هذا مرسل وقد روي عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما في تأويل آيه من كتاب اللَّه تعالى ما يؤكده، فذكر من طريق ثور ابن يزيد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لأتوها [ (3) ] قال:
لأعطوها، يعنى إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة.
وخرج الإمام أحمد [ (4) ] من حديث شعبة بن أوس عن بلال العبسيّ، عن ميمونة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كيف أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة واختلف الإخوان، وحرق البيت العتيق؟.
وذكر محمد بن الحسن بن زبالة، عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه قال:
أمطرت السماء على عهد عمر بن الخطاب فقال لأصحابه: هل لكم في هذا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 473، باب ما روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في إخباره بقتل أهل الحرة فكان كما أخبر.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] الأحزاب: 14، كذا في (الأصل) ، برواية ورش عن نافع وهي برواية حفص عن عاصم:
لَآتَوْها.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 7/ 469، حديث رقم (26289) .(12/244)
الماء الحديث العهد بالعرش لننزل به ونشرب منه؟ فلو جاء من مجيئه راكب لتمسحنا به، فخرجوا حتى أتوا حرة واقم، وشراجها تطرد، فشربوا منها وتوضأنا فقال كعب: واللَّه يا أمير المؤمنين ليسيلن هذا الشراج بدماء الناس كما تسيل بهذا الماء! فقال عمر: دعنا من أحاديثك، قال: فدنا منه عبد اللَّه بن الزبير فقال: يا أبا الحق ومتى ذلك؟ وفي أي زمان؟ قال: إياك أن يكون ذلك على يدك.
وعن موسى بن عقبة، عن عطاء بن أبي مروان الواسطي، عن أبيه، عن كعب الأحبار قال: أفنجد في كتاب اللَّه حرة في المدينة تقتل بها مقتلة تضيء وجوههم يوم القيامة كما يضيء القمر ليلة البدر.
وذكر من حديث زيد بن كثير عن المطلب بن عبد اللَّه، عن ابن أبي ربيعة أنه مر بعروة بن الزبير وهو يبنى قصره بالعقيق، فقال: أردت الحرث يا أبا عبد اللَّه؟ قال: لا، ولكنه ذكر لي أنه سيصيبها عذاب يعنى المدينة، فقلت: إن أصابها شيء كنت منتحيا عنها.
قال كاتبه: وكان من خبر وقعة الحرة [ (1) ] أن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامل المدينة ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بعث بوفد من أهل المدينة إلى يزيد فيهم عبد اللَّه بن حنظلة الغسيل وعبد اللَّه بن عمرو بن أبي حفص، بن المغيرة المجذومي، والمنذر بن الزبير بن العوام، فأكرمهم يزيد وأعظم جوائزهم، فلما عادوا إلى المدينة أظهروا شيم يزيد، وعابوه بشرب الخمر، وعزف القيان، واللعب بالكلاب، وخلعوه، وبايعوا عبد اللَّه بن حنطلة في سنه اثنين وستين، فندب يزيد لحربهم مسلم بن عقبة المزني، ويسمى مسرفا، في اثنى عشر ألف، وعهد إليه إن ظهر عليهم أن يبيح المدينة، وقاتلهم بعد ما دعاهم إلى طاعة يزيد، وأجّلهم ثلاثا فلم يجيبوه، فهزمهم بعد قتال شديد قتل فيه عبد اللَّه بن حنظلة، وعبد اللَّه بن زيد المازني، ومعقل بن سنان الأشجعي، في سبعمائة من حملة القرآن وعدة كثيرة.
قال أبو الهيثم: قتل يوم الحرة حرة واقم نحو من ستين ألف وخمسمائة.
__________
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 5/ 495 من أحداث سنة (63 هـ) .(12/245)
وقال: أبو مخنف: المقتولون من وجوه قريش سبعمائة. وقال أبو جعفر الطبري: قتل من القراء سبعمائة ومن الصحابة أربعة: عبد اللَّه بن يزيد ابن عاصم، ومعقل بن يسار، ومحمد بن عمرو بن حزم، وعبد اللَّه بن حنظلة الغسيل، وأنهب المدينة ثلاثا فانتهبت، وذلك يوم الأربعاء لثلاث أيام، افتضّ فيها ألف عذراء! وكان الّذي أدخل أهل الشام بنو حارثة من خلف الناس حينئذ، فانهزموا حينئذ، ودعا مسرف الناس إلى بيعة يزيد على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، وقتل من امتنع من ذلك حتى أسرف في القتل والظلم، فسموه مسرفا لذلك فبّحه اللَّه [ (1) ] .
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا ابن عون، عن خالد بن عبد الحويرث عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: الآيات خرزات منظومات في سلك، يقطع السلك فيتبع بعضها بعضا.
قال ابن الحويرث: كنا نادين بالصباح وهناك عبد اللَّه بن عمرو وكان هناك امرأة من بني المغيرة يقال لها فاطمة، فسمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول:
ذاك يزيد بن معاوية، فقالت: أكذاك يا عبد اللَّه بن عمرو، تجده مكتوبا في الكتاب؟ قال: لا أجده باسمه ولكن أجد رجلا من شجرة معاوية يسفك الدماء، ويستحل الأموال، وينقض هذا البيت حجرا حجرا، فإن كان ذلك وأنا حي، وإلا فاذكرينى، قال: وكان منزلها على أبي قبيس [ (3) ] فلما كان زمن الحجاج وابن الزبير ورأت البيت ينقض، قالت: رحم اللَّه عبد اللَّه بن عمرو قد كان حدثنا بهذا.
قال كاتبه إنما أحرق البيت في حصار أيام يزيد بن معاوية وقال الليث:
رمى الحجاج البيت بالنار فأحرقه، فجاءت سحابة فمطرت على البيت لم
__________
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 5/ 495، من أحداث سنة (63 هـ) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 520- 521، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8461) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (3) ] أبو قبيس: اسم جبل.(12/246)
تجاوزه وأطفأت النار، وجاءت صاعقة فأحرقت المنجنيق وما فيه، وانكسر الحجر الأسود حين رمى الحجاج البيت [ (1) ] .
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم بذهاب بصر عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فكان كذلك وعمى قبل موته
فخرج البيهقي [ (2) ] من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة، أن بعض بني عبد اللَّه سايره في طريق مكة، قال: حدثني العباس بن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في حاجة فوجد عنده رجلا، فرجع ولم يكلمه من أجل مكان الرجل معه، فلقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العباس بعد ذلك، فقال العباس: أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلا فلم يستطع أن يكلمك، فرجع، قال: ورآه؟ قال: نعم!، قال: أتدري من ذلك الرجل؟ ذاك الرجل جبريل- عليه السلام-، ولن يموت حتى يذهب بصره ويؤتى علما.
وخرّجه الحاكم [ (3) ] من حديث عاصم بن على، قال: حدثتنا زينب بنت سليمان بن عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، قال: حدثني أبي قال: سمعت أبي يقول: بعث العباس ابنه عبد اللَّه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فنام وراءه، وعند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رجلا فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: متى جئت يا حبيبي؟ قال: مذ ساعة قال: هل رأيت عندي أحدا؟ قال: نعم، رأيت رجلا، قال: ذاك جبريل عليه السلام ولم يره خلق إلا عمى إلا أن يكون نبيا، ولكن عسى أن يجعل ذلك في آخر عمرك، ثم قال: اللَّهمّ علّمه التأويل، وفقهه في الدين، واجعله من أهل الإيمان.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
__________
[ (1) ] راجع التعليق: رقم (1) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 478، قال في (مجمع الزوائد) : فيه من لم أعرفه.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 617- 618، كتاب معرفة الصحابة حديث رقم (6287) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : بل منكر.(12/247)
وخرج أبو نعيم [ (1) ] من حديث صالح بن أبي الأسود، عن أبي الجارود، عن شوذب، عن عكرمة، قال: خرجت بابن عباس وهو على راحلته فلما أخرجها من الحرم قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حدثني أنه سيذهب بصري وقد ذهب، وحدثني أنى سأغرق وقد غرقت في بحيرة طبرية، وحدثني أني سأهاجر من بعد فتنة، اللَّهمّ وأني أشهدك أن هجرتي اليوم إلى محمد بن علي بن أبي طالب.
وأما إنذاره صلّى اللَّه عليه وسلم زيد بن أرقم بالعمى فكان كذلك
فخرج البيهقي [ (2) ] من طريق المعتمر قال: حدثنا نباته بن بنت بريد، عن حمادة، عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قال: ليس عليك من مرضك بأس، ولكن كيف بك إذا أعمرت بعدي فعميت؟ قال: إذا احتسب واصبر. قال: إذا تدخل الجنة بغير حساب قال، فعمي بعد ما مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثم ردّ اللَّه عليه بصره ثم مات.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم من يأتي بعده من الكذابين [وإشارته إلى من يكون] منهم من ثقيف فكان كما أخبر
فخرج مسلم [ (3) ] من حديث مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] لم أجده.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 479.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 260، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (18) لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم (84) .(12/248)
خرجه أيضا من طريق عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن همام عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بمثله، غير أنه قال: ينبعث [ (1) ] .
وخرج الحافظ [ (2) ] أبو أحمد بن عدي، من حديث أبي يعلي الموصلي قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا: شريك عن أبي الحق، عن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول صلّى اللَّه عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا منهم مسيلمة والعنسيّ،
والمختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أمه دومة بنت عمرو بن وهب بن معقبة بن مالك بن كعب بن عمرو بن عوف بن ثقيف، كان المختار خارجيا، ثم صار زبيريا، ثم صار رافضيا في ظاهره، وزعم أنه يوحى إليه فيسجع به سجعا. وولاه ابن الزبير الكوفة، ثم خرج يطلب بدم الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فقتل عبيد اللَّه بن زياد في حرب، وقتل أناسا كثيرة، ثم قتله مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، وشر قبائل العرب بنو أمية، وبنو حنيفة، وثقيف.
قال ابن عدي: وهذا لا أعلم رواه عن شريك إلا محمد بن الحسن الأسدي، وله إفرادات، وحدث عنه الثقات من الناس، ولم أجد بحديثه بأسا.
قال البيهقي: ولحديث هذا المختار بن أبي عبيد الثقفي شواهد صحيحة.
وذكر من طريق أبي داود الطيالسي قال: حدثنا الأسود بن سفيان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنها قالت للحجاج بن يوسف: أما إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه قال: فقام عنها ولم يراجعها.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) الحديث الّذي يلي الحديث السابق.
[ (2) ] (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي: 6/ 173- 174، حديث رقم 36/ 1657.(12/249)
خرجه مسلم [ (1) ] في الصحيح من وجه آخر عن الأسود بن شيبان.
وذكر من طريق عبد اللَّه بن الزبير الحميدي قال: حدثنا سفيان هو ابن عيينة حدثنا أبو المحياة عن أمه، قالت: لما قتل الحجاج بن يوسف عبد اللَّه بن الزبير، دخل الحجاج على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: يا أمّه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك بأم، ولكنى أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك بما
سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يقول: يخرج في ثقيف كذاب ومبير،
فأما الكذاب فقد رأيناه يعنى المختار [ (2) ] ، وأما المبير فأنت، فقال الحجاج: مبير المنافقين.
ومن طريق أبي داود الطيالسي قال: حدثنا شريك عن أبي علوان عبد اللَّه بن عصمة، عن ابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إن في ثقيف كذابا ومبيرا.
قال كاتبه: المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف ابن عقدة بن غيرة بن عوف بن قسي بن منبه، وقسي هو ثقيف، كان شابا مع عمه سعد بن مسعود الثقفي وهو على المدائن لعلي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم نزل الكوفة وأنزله في داره، فأراد نصرته، فقبض عليه عبيد اللَّه بن زياد بعد ما ضرب وجهه بقضيب فشتر عينه، ثم حبسه حتى قتل الحسين رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، لأنه كان زوج أخته صفيه بنت أبي عبيد، وأخرجه إلى الحجاز، فأقسم ليأخذن بثأر الحسين وليقتلن بقتله عدة من على دم يحيى بن زكريا عليهما السلام، ونزل الطائف وزعم أنه مبيد الجبارين ثم تبع عبد اللَّه بن الزبير وقاتل معه، فلما مات يزيد بن معاوية مضى إلى الكوفة فكان لا يمر على مجلس إلّا سلّم عليه، قال: أبشروه بالنصر والفتح، أتاكم ما تحبون فأجمعت الشيعة إليه، فقال: لهم إن المهدي يعني محمد بن الحنيفة- بعثني إليكم أمينا ووزيرا، وأمرنى بقتال الملحدين، والطلب بدم أهل بيته، فبايعوه، فقبض عليه
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 332- 334، كتاب فضائل الصحابة، باب (58) ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، حديث رقم (229) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .(12/250)
وسجن، فلما قتل سليمان بن صرد أخرج من السجن، فأخذ يجمع الشيعة وخرج يظاهر الكوفة ليلا في ربيع الأول سنة ستة وستين، ونادى مناديه:
يا منصور أمت، ونادى آخر: يا لثأرات الحسين، فملك الكوفة بعد حروب شديدة، وبايعه الناس، فأحسن السيرة، وسير بعوثة إلى أرمينية، وأذربيجان، والموصل، والمدائن، وغير ذلك، ثم وثب بمن في الكوفة من قتلة الحسين، وقد خرج عليه أهل الكوفة وقاتلوه فظهر بهم في ذي الحجة منها، وقتل منهم نحو الثمانمائة، وتجرد لقتلة الحسين حتى أفناهم، فكانوا ألوفا، فبعث عبد اللَّه ابن الزبير لقتاله أخاه مصعب بن الزبير، فكانت بينهم حروب عظيمة، قتل فيها المختار، وعمره سبع وستون سنة.
قال البيهقي [ (1) ] : وقد شهد جماعة من أكابر التابعين على المختار بن أبي عبيد بما كان يستبطن، وأخبر بعضهم بأنه من جملة الكذابين الذين أخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بخروجهم بعده، فذكر عن أبي داود الطيالسي قال: حدثنا قرة بن خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد، قال: كنت أبطن شيء بالمختار- يعنى: الكذاب- قال: فدخلت عليه ذات يوم، فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل من هذا الكرسي! قال: فأهديت إلى قائم سيفي يعني لأضربه، حتى ذكرت حديثا
حدثته عمرو بن الحمق الخزاعي، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا أمن الرجل الرجل على دمه، ثم قلته رفع له لواء الغدر يوم القيامة،
فكففت عنه، وقال زائدة عن السدي عن رفاعة القتباني: قال: كنت بالسيف على رأس المختار بن أبي عبيد، فسمعته ذات يوم يقول: قام جبريل من هذه النمرقة فأردت أن أسل سيفي فأضرب عنقه فذكرت حديثا
حدثنيه عمرو بن الحمق الخزاعي أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: من أمن رجلا على نفسه فقتله فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرا،
قال: فتركته.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 482، باب ما جاء في إخباره بمن يكون من الكذابين وإشارته إلى من يكون منهم من ثقيف فكان كما أخبر.(12/251)
قال البيهقي [ (1) ] وكذلك رواه سفيان الثوري وأسباط بن نصر، وغيرهما، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السندي.
وخرجه الإمام [ (2) ] أحمد من طريق ابن نمير، حدثنا: عيسى [القاري] أبو عمر حدثنا السدي عن رفاعة القتباني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة فقال: لولا أخى جبريل قام عن هذه لألقيتها لك، قال: فأردت أن أضرب عنقه،
فذكرت حديثا حدثنيه [أخي] عمرو بن الحمق قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله، فأنا من القاتل بريء.
ومن طريق الحميدي [ (3) ] حدثنا: سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي قال: فأخرت أهل البصرة فغلبتهم بأهل الكوفة، والأحنف ساكت لا يتكلم، فلما رآني غلبتهم أرسل غلاما له فجاءه بكتاب فقال لي: هاك اقرأ، فقرأته، فإذا فيه من المختار إليه يذكر أنه نبي فقال: يقول الأحنف: أنى فينا مثل هذا.
قال البيهقي [ (1) ] : وقد روينا عن يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي قصة ما كان في الكتاب من موضوعة الّذي كان يعارض به القرآن.
ومن طريق عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا أبي حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، سمع مرة يعنى الهمذانيّ، قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: القرآن ما منه حرف، أو قال: آية- شك- إلا وقد عمل به قوم أو قال سيعملون بها، قال مرة: فقرأت: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [ (4) ] فقلت من عمل بهذه حتى كان المختار بن أبي عبيد.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 483، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بمن يكون بعده من الكذابين، وإشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى من يكون منهم من ثقيف، فكان كما أخبر.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 294، حديث رقم (21440) ، من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 483.
[ (4) ] الأنعام: 93.(12/252)
قال البيهقي [ (1) ] : ولعكرمة مولى ابن عباس فيما يقال عن الوحي والموضوع [سئل] [ (2) ] يريدون ما كان المختار يدّعيه من أنه يوحى إليه، وأنّ عنده كتاب يسمى الموضوع.
ومن طريق أبي داود حدثنا: عبد اللَّه بن الجراح عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال عبيدة السلماني يعنى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في خروج الكذابين، قال إبراهيم: فقلت له أترى هذا منهم؟ يعنى المختار بن أبي عبيد؟ قال عبيدة:
أما إنه من الرءوس [ (3) ] .
قال جامعه: وكانت سيرة المختار بن أبي عبيد في تتبع قتله الحسين وقتلهم، شاهدة بصدق على ما خرجه الحاكم [ (4) ] من حديث أبي يعلى محمد بن شداد المسمعي، حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد اللَّه بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أوحى اللَّه إلى نبيكم أني قتلت بيحيى سبعين ألفا، وأني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.
قال الحاكم: قد كنت أحسب دهرا أن المسمعي تفرد بهذا الحديث عن أبي نعيم حتى حدثناه أبو محمد السبيعي الحافظ، حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن ناجية حدثنا حميد بن الربيع، حدثنا أبو نعيم، فذكره بإسناد نحوه.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 484.
[ (2) ] في (الأصل) : «يقال» وما أثبتناه من (الدلائل) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 484.
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 219، كتاب التفسير، من سورة البقرة، حديث رقم (3147) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عبد اللَّه ثقة، ولكن المتن منكر جدا، فأما محمد بن شداد، فقال الدار الدّارقطنيّ: لا يكتب حديثه، وأما حميد، فقال ابن عدي: كان يسرق الحديث.(12/253)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه بأمره وما لقي
فخرج الحاكم [ (1) ] ، وأبو نعيم [ (2) ] أحمد من طريق سعد أبي عاصم مولى سليمان بن عليّ، قال: زعم لي كيسان مولى عبد اللَّه بن الزبير قال: دخل سلمان على [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] وإذا عبد اللَّه بن الزبير معه طست بشرب ما فيها، فدخل عبد اللَّه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له: فرغت؟ قال: نعم، قال سلمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: أعطيته غسالة محاجمى يهريق ما فيها، قال سلمان: ذاك شربة، والّذي بعثكم بالحق، قال:
شربته؟ قال: نعم، قال: لم؟ قال: أحببت أن يكون دم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في جوفي فقال بيده على رأس ابن الزبير وقال: ويل للناس منك، وويل لك من الناس، لا تمسك النار إلا قسم اليمين.
وخرجه من طريق الهنيد بن القاسم [ (3) ] بن عبد الرحمن بن ماعز قال:
سمعت عامر بن عبد اللَّه بن الزبير يحدث أن أباه حدثه أنه أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد اللَّه اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برزت عنه صلّى اللَّه عليه وسلم حسوته فلما رجعت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ما صنعت؟ قلت جعلته في مكان ظننت أنه خاف عن الناس، قال: فلعلك شربته؟ قلت: نعم، قال: ومن أمرك أن تشرب الدم؟ ويل لك من الناس وويل للناس منك.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 638، كتاب معرفة الصحابة، ذكر عبد اللَّه بن الزبير بن العوام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (6343) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (2) ] (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) : 1/ 330، ترجمة عبد اللَّه بن الزبير رقم (46) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (المرجع السابق) : باختلاف يسير في اللفظ، والمعنى واحد.(12/254)
وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق الأعمش عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: حدثني البريد الّذي أتى ابن الزبير برأس المختار فلما رآه قال ابن الزبير: ما حدثني كعب بحديث إلا وجدت مصداقة، إلا أنه حدثني أن رجلا من ثقيف سيقتلني، قال الأعمش: وما يدرى أن أبا محمد خذله اللَّه خبأ له.
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالمبير الّذي يخرج من ثقيف فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج مسلم [ (2) ] من حديث يعقوب بن إسحاق الحضري قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل رأيت عبد اللَّه بن الزبير على عقبة المدينة، قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبد اللَّه بن عمر فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما واللَّه لقد كنت أنهاك عن هذا، أما واللَّه لقد كنت أنهاك عن هذا، أما واللَّه لقد كنت أنهاك عن هذا، واللَّه إن كنت ما علمت صواما وصولا للرحم، أما واللَّه لأمة أنت أشرها، لأمة خير، ثم نفذ عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
فبلغ الحجاج موقف عبد اللَّه بن عمر وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه فألقى في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول لتأتين أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك قال: فأبت، وقالت: واللَّه لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبنى بقروني! قال: فقال: أرونى سبتي! فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف حتى دخل عليها، فقال لها: كيف رأيتني صنعت بعدوّ اللَّه؟ قالت: رأيتك أفسدت
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 633، كتاب معرفة الصحابة، ذكر عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (6333) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 332- 334 كتاب فضائل الصحابة، باب (58) ذكر كذاب ثقيف، حديث رقم (229) .(12/255)
عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين، أنا واللَّه ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما
إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا،
فأما الكذاب فرأيناه وأما المبير فلا إخالك إياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها.
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث شريك عن عبد اللَّه بن عصم، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في ثقيف كذاب ومبير.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك، وشريك يقول: عبد اللَّه بن عصم وإسرائيل يقول: عبد اللَّه بن عصمة قال:
أبو عيسى يقال الكذاب المختار بن أبي عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف.
قال الترمذي: حدثنا أبو داود سليمان بن سلم البلخي أخبرنا النضر بن شميل، عن هشام بن حسان قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائه ألف وعشرين ألف قتيل.
قال البيهقي: وقد حذر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم شأن الحجاج بن يوسف، وأخبرا بخروجه، ولا يقولان ذلك إلا توقيفا، فذكر من طريق عثمان بن سعيد الدرامي قال: قرأت على أبي اليمان أن جرير بن عثمان حدثه عن عبد الرحمن بن ميسرة بن أزهر، عن أبي عذبة الحمصي قال:
قدمت على عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه رابع أربعة من الشام، ونحن حجاج فبينا نحن عنده أتاه آت من قبل العراق فأخبرهم أنهم قد حصبوا إمامهم، وقد كان عوضهم به مكان إمام كان قبله فحصبوه، فخرج إلى الصلاة مغضبا فيها في صلاته ثم أقبل على الناس، فقال: من هاهنا من أهل الشام؟ فقمت أنا وأصحابي، فقال: يا أهل الشام، تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، ثم قال: اللَّهمّ إن قد لبّسوا عليّ فألبس عليهم،
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 432- كتاب الفتن، باب (44) ما جاء في ثقيف، حديث رقم (2220)(12/256)
اللَّهمّ عجل لهم الغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم.
قال: أبو اليمان: علم عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أن الحجاج خارج لا محالة، فلما أغضبوه استعجل لهم العقوبة التي لا بدّ لهم منها، قال عثمان: وقلت له: إن هذا أحد البراهين على أمر الحجاج، قال: صدقت.
وقد خرجه الدرامي من حديث عبد اللَّه بن صالح، أن معاوية بن صالح حدثه عن شريح بن عبيد، عن أبي عذبة، وذكر نحو ما تقدم أو قريبا منه، قال: عبد اللَّه: وحدثه ابن لهيعة بمثله قال: وما ولد الحجاج يومئذ.
ومن طريق عبد الرزاق، حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن الحسن، قال: قال علي رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لأهل الكوفة: اللَّهمّ كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال، الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم بحكم الجاهلية،
قال: يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.
ومن طريق المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أيوب بن مالك بن أوس ابن الحدثان عن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: الشاب الذيال أمير المصرين يلبس فروتها، ويأكل خضرتها، ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق، ويكثر منه الأرقّ، يسلطه اللَّه على شيعته.
ومن طريق يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت قال: قال عليّ لرجل: لا متّ حتى تدرك فتى ثقيف، قيل له: يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة أكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين لا يدع للَّه معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم تبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 489، باب ما جاء في إخباره بالمبير الّذي يخرج من ثقيف وتصديق اللَّه سبحانه قوله في الحجاج بن يوسف الثقفي غفر اللَّه لنا ولجميع المسلمين.(12/257)
ومن طريق أبي حاتم الرازيّ: حدثنا: عبد اللَّه بن يوسف التنيسي، حدثنا هشام بن يحيى الغساني قال: قال عمر بن عبد العزيز لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم [ (1) ] .
وقال: أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود قال: ما بقيت للَّه حرمة إلا وقد انتهكها الحجاج [ (2) ] .
وقال: عبد الرزاق أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، قال: دخل رجل على أبي فقال: مات الحجاج بن يوسف يا أبا عبد الرحمن! قال لأبى: أربعوا على أنفسكم حبس رجل عليه لسانه وعلم ما يقول، فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن برح الخفاء هذه نساء وافد بن سلمة قد نشرن أشعارهن وخرقن ثيابهن ينحن عليه، قال: أفعلوا؟ قال: نعم، قال: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [ (3) ] .
وخرج الحاكم [ (4) ] من طريق سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل قال:
اختلفت أنا والمرهبي في الحجاج، فقال: مؤمن، وقلت، كافر.
ومن طريق أبي بكر بن عياش قال: سمعت الأعمش يقول: واللَّه لقد سمعت الحجاج بن يوسف يقول: يا عجبا من عبد هذيل يزعم أنه يقرأ قرآنا من عند اللَّه، واللَّه ما هو إلا رجز من رجز الأعراب، واللَّه لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) .
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 640- 641، كتاب معرفة الصحابة حديث رقم (6351) ، ثم قال بعقبه: وبيان صحته ما أطلق فيه مجاهد بن جبير رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6352) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : يتأسف على ما فاته من قتل ابن مسعود بعد قتل ابن عمر، وابن الزبير.(12/258)
قال الحاكم: هذا بعد قتله عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، يتأسف على ما فاته من قتل عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وعن العبادلة ولعن من أبغضهم وخذلهم.
وقيل للشعبى: الحجاج مؤمن؟ فقال: مؤمن بالجبت والطاغوت وكافر باللَّه، وسئل مجاهد عنه فقال: اسألوني عن الشيخ الكافر، وينقل عنه أنه قال- وقد رأى الناس حول قبر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم-: إنما يطوفون بأعواد ورمّة.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث إسحاق بن سعيد بن عمرو عن عبد اللَّه بن عمرو قال: أشهد باللَّه لسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول يحلها وتحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها.
وخرجه البزار من حديث محمد بن كثير، عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن عمرو، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يلحد رجل بمكة يقال له عبد اللَّه، عليه نصف عذاب العالم. قال البزار لم يتابع محمد بن كثير عليه.
ورواه غيره عن الأوزاعي عن رجل من آل المغيرة، عن المغيرة بن شعبة، عن عثمان بن عفان.
وخرجه الإمام أحمد أيضا [ (2) ] من حديث إسحاق بن سعيد، حدثنا سعيد بن عمرو، قال: أتى عبد اللَّه بن عمرو بن الزبير وهو جالس في الحجر، فقال:
يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم اللَّه، فإنّي أشهد لسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: يحلها وتحل به رجل من قريش، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها،
قال: فانظر ألا تكون هو، قال: يا ابن عمرو! فإنك قد قرأت الكتب وصحبت الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم قال: فإنّي أشهدك أن هذا وجهي إلى الشام مجاهدا.
ومن حديث إسحاق بن سعيد [ (3) ] عن أبيه قال: أتى عبد اللَّه بن عمرو بن الزبير فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحاد في حرم اللَّه فإنّي سمعت رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 2/ 402، حديث رقم (6808) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 2/ 440، حديث رقم (7003) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 298، حديث رقم (6165) .(12/259)
صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت،
قال فانظر ألا تكونه.
وخرج من حديث جعفر بن أبي المغيرة [ (1) ] عن ابن أبزى، عن عثمان بن عفان، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال له عبد اللَّه بن الزبير عند حصره: إن عندي غائبة قد أعددتها لك، فهل لك أن تحول إلى مكة، فيأتيك من أراد أن يأتيك؟ قال: لا،
إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد اللَّه، عليه نصف أوزار الناس.
وقال الزبير بن بكار: وحدثني محمد بن حسن يعنى ابن زبالة، عن إبراهيم بن محمد، عن نافع بن ثابت، عن محمد من كعب القرظي، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها حين ولد عبد اللَّه بن الزبير فقال: أو هو؟ تركت أسماء رضاع عبد اللَّه بن الزبير لما سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أهو هو، فقيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن أسماء تركت رضاع عبد اللَّه بن الزبير لما سمعتك تقول أهو هو؟ فقال:
أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب، ليمنعن الحرم وليقتلن به.
وأما إخباره بأن معترك المنايا بين الستين إلى السبعين فكان كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم
فخرج أبو يعلي الموصلي في مسندة، قال: حدثنا إسحاق بن موسى بن عبد اللَّه الأنصاري، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن إبراهيم بن الفضل بن سليمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم معترك المنايا بين الستين إلى السبعين
ورواته رواة الصحيح، إلا إبراهيم بن الفضل فهو ضعيف.
واختلفت في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن معناه الإشارة إلى الفتن الواقعة فيما بين الستين والسبعين من الهجرة النبويّة، وقال آخرون بل
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 104، حديث رقم (463) .(12/260)
ذلك يشير إلى أن أعمار هذه الأمة المحمدية في الغالب والأكثر تكون ما بين ستين سنة إلى سبعين، ولكل على ما ذهب إليه دليل، وشواهد الأحوال تصدق ذلك وتؤيده، فقد وقعت بين الستين إلى السبعين من سني الهجرة، فمنها: قتل الحسين وقتال الحرة، ومرج راهط، ويوم جبانة السبيع [ (1) ] ، ووقائع المختار بن أبي عبيد، ويوم جازر [ (2) ] ، وفتنة عبد اللَّه بن الزبير، والطاعون الجارف الّذي هلك فيه بالبصرة في ثلاثة أيام في كل يوم سبعون ألفا، ومات فيه لأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ابنا، ويقال ثلاثة وسبعون، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابنا، ومات لصدقة بن عامر الحارثي سبعة بنين في يوم واحد، وطاعون الكوفة.
ويؤيد ذلك ما
خرجه الإمام أحمد [ (3) ] من حديث يحيى بن أبي بكير، حدثنا كامل أبو العلاء، قال: سمعت أبا صالح عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: تعوذوا باللَّه من السبعين، ومن إمارة الصبيان، وقال: لا تذهب الدنيا حتى تصير للكع بن لكع، وله عنده طرق.
والأكثر يتأول قوله: معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين، أن أكثر موت الناس وقد بلغوا من السنين ما بين الستين والسبعين، واحتجوا لذلك بما
خرجه البخاري [ (4) ] من حديث معن بن محمد الغفاريّ عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
__________
[ (1) ] يوم جبانة السبيع، للمختار على أهل الكوفة، وكان هذا اليوم لست ليال بقين من ذي الحجة سنة (66 هـ) وجبانة السبيع: من مواضع الكوفة. (أيام العرب في الإسلام) : 445- 450، يوم جبانة السبيع، رقم (59) .
[ (2) ] يوم خازر، وكان لابن الأشتر على بن زياد، سنة (67 هـ) ، وخازر إلى جنب قرية بينها وبين الموصل خمسة فراسخ. (المرجع السابق) : 451.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 624، حديث رقم (8121) والحديث رقم (8440) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 11/ 286- 287. كتاب الرقاق، باب (5) من بلغ ستين سنة فقد أعذر اللَّه إليه في العمر حديث رقم (6419) .(12/261)
أعذر اللَّه إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة. تابعه أبو حازم وابن عجلان عن المقبري.
وقال عبد الرزاق، عن معمر والثوري، عن أبي خثيم، عن مجاهد عن بن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قال: ستون سنة.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من أتت عليه ستون فقد أعذر اللَّه إليه في العمر.
وعلق البخاري طريق ابن عجلان هذه.
وخرجه أبو بكر بن مردويه في (التفسير) من طريق أبي معشر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من عمر ستين أو سبعين سنة فقد عذر اللَّه إليه في العمر، وأبو معشر فيه ضعف.
وخرج الترمذي [ (2) ] من حديث محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: عمر أمتى من ستين إلى سبعين.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة.
وخرجه في كتاب الدعاء [ (3) ] من حديث عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 2/ 615، حديث رقم (8063) ، من مسند أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 489- 490، كتاب الزهد، باب (23) ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، حديث رقم (2331) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 5/ 517 باب (102) ، في دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (3550) .
وأخرجه ابن ماجة في الزهد، باب الأمل والأجل، حديث رقم (4236) وإسناده حسن.(12/262)
قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أعمار أمتى ما بين ستين إلى سبعين، وأقلهم من يجوز ذلك.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وزعم بعضهم أن التأويل الأول أليق بالحديث، لأن أكثر من الناس يموت في الصغر، ومن تأمل هذا في الأطفال والأحداث عرف الحقيقة.
وقال المبرد في كتاب (الأزمنة) : تأمل حكيم إلى أخ له: لا تغتر بشبابك فإن أكثر من يموت الشباب، والدليل على ذلك أن الشيوخ أقل الناس.
قال أبو الفتح البستي:
لا تغترن بشباب رائع خضل ... فكم يعدم قبل الشيب شبان.(12/263)
أما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بوقوع الشر بعد الخير الّذي جاء به ثم وقوع الخير بعد ذلك الشر، ثم وقوع الشر بعد الخير، فكان كما أخبر
فخرج البخاري [ (1) ] في الفتن، ومسلم [ (2) ] في الإمارة، من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر حدثنا بسر بن عبيد اللَّه
__________
[ (1) ] باب (11) كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ حديث رقم (7084) ، وفيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم.
وفيه إنه متى لم يكن للناس إمام، فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع خشية من الوقوع في الشر. وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها.
وفيه حكمة اللَّه في عباده، كيف أقام كلا منهم فيما شاء، فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعملوا بها، ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه السؤال عن الشر ليجتنبه، ويكون سببا في دفعه عمن أراد اللَّه له النجاة، وفيه سعة صدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ومعرفته بوجوه الحكم كلها، حتى كان يجيب كل مسألة بما يناسبه.
ويؤخذ منه أن كل من حبب إليه شيء فإنه يفوق فيه غيره، ومن ثم كان حذيفة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه صاحب السرّ الّذي لا يعلمه غيره، حتى خصّ بمعرفة أسماء المنافقين، وبكثير الأمور الآتية.
ويؤخذ منه أن من أدب التعليم أن يعلم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلا إليه من العلوم المباحة، فإنه أجدر أن يسرع إلى تفهمه، والقيام به، وأن كل شيء يهدى إلى طريق الخير يسمى خيرا، وكذا بالعكس.
ويؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتاب والسنة، وجعلهما فرعا لذلك الأصل الّذي ابتدعوه.
وفيه وجوب ردّ الباطل، وكل ما خالف الهدى النبوي، ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع.
[ (2) ] باب (13) وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال. وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، حديث رقم (1847) .(12/264)
الحضرميّ أنه سمع أبا إدريس الخولانيّ يقول: سمعت حذيفة بن اليمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: كان الناس يسألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول اللَّه إنّا كنا في جاهلية وشرّ فجاءنا اللَّه بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك شر من خير قال: نعم؟ وفيه دخن، قال: قلت: وما دخنه؟ قال:
قوم يسنتون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتذكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول اللَّه، صفهم لنا، قال: نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول اللَّه، فما تأمرنى إن أدركني ذلك؟ قال:
تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال:
فتعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض [على أصل] شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك. اللفظ لمسلم، ولم يقل فيه البخاري: يسنتون بغير سنتي.
وذكر البخاري هذا الحديث أيضا في باب علامات النبوة في الإسلام [ (1) ] ، ولم يقل يستنون بغير سنتي، وفي رواية الأصيلي: قوم يهدون بغير هديي، وفي رواية أبي ذر: بغير هديي.
وخرجه البخاري [ (2) ] أيضا من حديث يحيى بن سعيد عن إسماعيل، حدثني قيس عن حذيفة، قال: تعلم أصحابى الخير، وتعلمت الشر.
ووجد بخط أبي إسحاق بن قرقول على هذا الحديث، قال أبو الحسن القابسي: ينبغي أن يتخذ هذا الحديث أصلا يرجع إليه عند نزول الحوادث.
وقد خرجه مسلم [ (3) ] أيضا من حديث يحيى بن حسان قال: حدثنا معاوية بن سلام قال: حدثنا زيد بن سلام، عن أبي سلام قال: قال حذيفة:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 763- 764، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3606) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3607) .(12/265)
قلت: يا رسول اللَّه إنّا كنا بشرّ، فجاء اللَّه بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم، قلت:
فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين أئمة في إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول اللَّه إن أدركت ذلك؟
قال: نسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع.
قال الدار الدّارقطنيّ [ (1) ] : هذا عندي مرسل، أبو سلام لم يسمع من حذيفة، ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق، لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقد قال فيه: قال حذيفة، فهذا يدل على إرساله.
وخرج البيهقي [ (2) ] من طريق عباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرنى أبي قال: وسئل الأوزاعي عن تفسير حديث حذيفة حين سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الشر الّذي يكون بعد ذلك الخير، قال الأوزاعي: هي الردة التي كانت بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ () ] (3) (مسلم بشرح النووي) : 12/ 479- 480، كتاب الإمارة، باب (13) وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، حديث رقم (52) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 480، ضمن شرح الحديث رقم (52) ، قال الدار قطنى: هذا عندي مرسل، لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة، وهو كما قال الدار قطنى، لكن المتن صحيح، متصل بالطريق الأول، وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى، وقد قدمنا في (الفصول) وغيرها أن الحديث المرسل إذا روى من طريق آخر متصلا، تبين به صحة المرسل، وجاز الاحتجاج به، وبصير في المسألة حديثان صحيحان.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 491، باب ما جاء في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالشر الّذي يكون بعد الخير الّذي جاء به، ثم بالخير الّذي يكون بعد ذلك، ثم بالشر الّذي يكون بعده، وما يستدل به على إخباره بعمر بن عبد العزيز رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وإشارته إلى ما ظهر من عدله وإنصافه في ولايته.(12/266)
قال الأوزاعي: وفي مسألة حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال:
نعم، وفيه دخن.
قال الأوزاعي: الخير الجماعة، وفي ولاتهم من تعرف سيرته، وفيهم من تنكر سيرته، قال: فلم يأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قتالهم ما صلوا الصلاة.
وخرج من طريق أبي داود الطيالسي [ (1) ] قال: حدثنا داود الواسطي- وكان ثقة- قال: سمعت حبيب بن سالم قال: سمعت النعمان بن بشير بن سعد في حديث ذكره، قال: فجاء أبو ثعلبة، قال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الأمراء، وكان حذيفة قاعدا مع بشير، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة
فقال حذيفة: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إنكم في النبوة ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون جبرية تكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة،
قال:
فقدم عمر يعنى ابن عبد العزيز، ومعه يزيد بن النعمان فكتبت إليه أذكره الحديث، وكتبت إليه أني أرجو أن يكون أمير المؤمنين بعد الجبرية، فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسرّ به وأعجبه.
وخرج الحاكم [ (2) ] من طريق سعيد بن عامر قال: حدثنا أبو عامر صالح بن رستم عن حميد بن هلال، عن عبد الرحمن بن قرط قال: دخلت المسجد فإذا حلقة كأنما قطعت رءوسهم، وإذا فيهم رجل يحدث، فإذا حذيفة قال: كانوا يسألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الخير وكنت أساله عن الشر كيما أعرفه فأتقيه، وعلمت أن الخير لا يفوتني، قال: فقلت: يا رسول اللَّه، هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: يا حذيفة تعلم كتاب اللَّه واعمل بما فيه، ثم قال: في الثالثة: فتنه واختلاف، قلت: يا رسول اللَّه هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال:
يا حذيفة تعلّم كتاب اللَّه واعمل بما فيه قلت: يا رسول أبعد ذلك الشر من خير؟
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 478، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8330) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/267)
قال: فتن على أبوابها دعاة إلى النار، فلأن تموت وأنت عاض على جذل [شجرة] خير لك من أن تتبع أحدا منهم.
قال الحاكم [ (1) ] : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال كاتبه: هو معنى ما خرجاه في الصحيحين وتلك أحسن سياقة وأتم.
وخرج الحاكم [ (2) ] من طريق أبي داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن نضر بن عاصم، عن سبيع بن خالد قال: خرجت إلى الكوفة زمن فتحت تستر لأجلب منها بغالا، فدخلت المسجد، فإذا صدع من الرجال تعرف إذا رأيتهم أنهم من رجال الحجاز، قال: قلت من هذا؟ قال: فحدثني القوم بأبصارهم وقالوا: ما تعرف هذا؟ هذا حذيفة صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
فقال حذيفة: إن الناس كانوا يسألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر.
قال: قلت يا رسول اللَّه! أرأيت هذا الخير الّذي أعطانا اللَّه يكون بعده شر كما كان قبله؟ قال: نعم، قلت: يا رسول اللَّه فما العصمة من ذلك؟
قال: السيف، وقلت وهل للسيف من بقية؟ قال: نعم، قال: قلت: ثم ماذا؟
قال: ثم هدنة على دخن، قال: جماعة على فرقة، فإن كان للَّه عز وجل يومئذ خليفة ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع، وإلا فمت وأنت عاضا بجذل شجرة، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال، ومعه نهر ونار، فمن وقع في ناره أجره وحط وزره، ومن وقع في نهره، وجب وزره، وحط أجره، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم إنما هي قيام الساعة.
وخرج الحاكم [ (2) ] من طريق أبي داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانه عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن سبيع بن خالد قال: خرجت إلى الكوفة زمن فتحت تستر لأجلب منها بغالا فدخلت المسجد فإذا صدع من الرجال تعرف إذا رأيتهم أنهم من رجال الحجاز، قال: قلت من هذا؟ قال: فحدقني القوم
__________
[ (1) ] في (الأصل) : هذا حديث حسن صحيح الإسناد، وما أثبتناه من (المستدرك) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حيث رقم (8332) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(12/268)
بأبصارهم وقالوا: ما تعرف هذا هذا حذيفة صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
كان الناس سيألون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر.
قال: قلت: يا رسول اللَّه! أرأيت هذا الخير الّذي أعطانا اللَّه يكون بعده شر كما كان قبله؟ قال: نعم، قلت: يا رسول اللَّه فما العصمة من ذلك؟ قال:
السيف، وقلت: وهل للسيف من بقية؟ قال: نعم، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال:
ثم هدنة على دخن، قال: جماعة على فرقة، فإن كان للَّه عز وجل يومئذ خليفة ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع، وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال، ومعه نهر ونار، فمن وقع في ناره وحط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره، وحط أجره، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم إنما هي قيام الساعة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث زيد بن أرطاة عن بعض إخوته عن أبي الدرداء عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: كل شيء ينقص إلا الشر، فإنه يزاد فيه.
واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
قال كاتبه: هو معنى ما خرجاه في الصحيحين وتلك أحسن سياقه وأتم.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 594، حديث رقم (26937) ، من حديث أبي الدرداء عويمر.(12/269)
وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بيزيد بن معاوية [ (1) ] وإحداثه في الإسلام الأحداث العظام
فخرج الحاكم [ (2) ] من طريق مجاشع بن عمرو ومنصور بن عمارة قالا:
حدثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل قال حدثني عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي
__________
[ (1) ] هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية، الخليفة، أبو خالد، القرشيّ، الأموي، الدمشقيّ، أمه ميسون بنت بحدل الكلبية.
جعله أبوه ولىّ عهده، وأكره الناس على ذلك. له على هناته حسنة، وهي غزو القسطنطينية، وكان أمير ذلك الجيش، وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
عقد له أبوه بولاية العهد من بعده، فتسلم الملك عند موت أبيه في رجب سنة ستين، وله ثلاث وثلاثون سنة، فكانت دولته أقل من أربع سنين، ويزيد ممن لا نسّبه ولا نحبّه، وله نظراء من خلفاء الدولتين، وكذلك في ملوك النواحي، بل فيهم من هو شرّ منه، وإنما عظم الخطب لكونه ولى بعد وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بتسع وأربعون سنة، والعهد قريب، والصحابة موجودون، كابن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، الّذي كان أولى بالأمر منه، ومن أبيه، وجده.
قال الحسن البصري: أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت، ونال من القراء، فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.
والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي فأقبل معزولا، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال: أمر كنت أوطئه وأهيئه، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك، قال: أو قد فعلت؟ قال: نعم، قال:
ارجع إلى عملك، فلما خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعت رجل معاوية في غرز غيّ لا يزال فيه إلى يوم القيامة. قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة، توفى يزيد في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين.
(تهذيب سير الأعلام) : 1/ 128، ترجمة رقم (389) ، (تاريخ الخلفاء) : 164- 168 مختصرا.(12/270)
اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم متغير اللون فقال: أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم، فإذا ذهب بى فعليكم بكتاب اللَّه، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، أتتكم الموتة، أتكلم بالروح والراحة، كتاب من اللَّه سبق، أتتكم الفتن كقطع الليل المظلم كلما ذهب رسل جاء رسل تناسخت النبوة فصارت ملكا رحم اللَّه من أخذها بحقها وخرج منها كما دخلها،
وذلك أن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أحد رءوس الكفر، جاء يزيد من قبل أبيه فإن أباه معاوية، أمه هند بنت عتبة هذا، وقتله اللَّه يوم بدر، فهو يقول في سفره أنه ينتفى من عتبة رأس الكفر إن لم يأخذ بثأره من أحمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وينعق في شعره بأنه تشفى إذا أخذ بثأر عتبة لما قتل الحسين ابن بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت قتلة الحسين إحدى مصائب الإسلام التي انتهكت فيها بحرمات اللَّه.
ومن شنائع يزيد أنه لما جهز الجيش إلى المدينة مع مسلم بن عقبة المري قال: خذها إليك أبا خبيب إنها كناصية الحصان الأشقر وادع إلهك في السماء فإنني داع إليك رجال سمر وأشعر.
يريد بأبي خبيب عبد اللَّه بن الزبير- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، ويستخف بدعائه إلى اللَّه تعالى فإنه كان قد عاذ بالبيت الحرام. فكانت وقعة الحرة [ (1) ] ، إحدى مصائب الإسلام الشنيعة ومضت جيوش يزيد بعدها من المدينة
__________
[ () ] (2) لم أجده في (المستدرك) .
[ (1) ] قال يعقوب: حدثنا يحى بن عبد بن بكير، عن الليث بن سعد قال: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
أخبرنا أبو الحسن بن الفضل، أخبرنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن مغيرة، قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتضّ فيها ألف عذراء.
ومسرف بن عقبة هو الّذي يقال له: مسلم بن عقبة، الّذي جاء في قتال أهل الحرة، وإنما سماه مسرفا لإسرافه في القتل والظلم. (دلائل البيهقي) .(12/271)