وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبى زرعه عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكرراه من طرق، وخرجه النسائي أيضا. [ (2) ]
وذلك كله من غير مجاهدة نفس، ولا تكلف الهواجر، [ومقاساة] شدة الظمأ، ولا قيام ليل طويل، ولا استغراق الأوقات في الذكر، بل بإفاضة نور النبوة عليه، قد استحال في أقل من طرفة عين هذه الاستحالة الشريفة وارتقى إلى أعلى مقام تتقاصر أعمال العاملين من بعده بأسرهم عن بلوغه.
وأنت إن كنت ممن سلك طريق اللَّه، فإنك تعلم إن إجابة من إجابات الحق [توازى] عمل الثقلين، هذا في حق الأتباع الذين سلكوا منهاج الصحابة وأما الصحبة، فأين الثريا من يد المتناول هيهات أن يحصى الرمل، أو يحصر القطر، فالزم الأدب مع الحق، وقف مع حذاك من العبوديّة، [وأد إلى كل] إلى كل ذي حق حقه، ولا تكونن من المعقدين فتردى أسفل سافلين، وتعجز عن الوصول إلى منازل العارفين واللَّه يهدى من يشاء بمنه.
وهم مع هذه الفضائل الجمة، قد برأهم اللَّه تعالى ونزههم عن أن يمارى أحد فيما يسمع من الكتاب والسنة أو يجادل فيه، ولم يكن بينهم على ذلك بدعة ولا ضلالة، وإذا صلى أحد منهم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلوات المفروضة، أو حج واعتمر، أو جاهد في سبيل اللَّه من صد عن سبيله وكفر، أو أدى زكاة ماله، أو [حض] من يؤديها، أو شاهد قضاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في شيء، أغناه ذلك عن التكلف والدءوب في طلب علم الفقه، ومعاناة المشفقة في حفظه ودراسته.
ولم يكونوا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم مع هذا محتاجين إلى تجربة، ولا سلوك، ولا رياضة، ولا دخول خلوة، ولا سياحة، بل كانوا لمجرد رؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدهم، أو دعايته إياه إلى الإسلام، يحصل له
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 27 كتاب الإمارة باب فضل الجهاد حديث رقم (106) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 6/ 339، كتاب الجهاد، باب (30) تمنى القتل في سبيل اللَّه، حديث رقم (3152) .(9/224)
أجل مقامات العارفين، وأعلى منازل المقربين، و [أعلى] درجات الصديقين، من غير صيام نهار، ولا قيام ليل، ولا مجاهدة نفس، ولا تهذيب أخلاق، بل يستحيل في تلك اللحظة [صديقا] مقربا، ووليا للَّه عارفا، وحبرا من أحبار الأمة عالما قد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وواقفه فيما بقي من عمره وحفظه.
واعتبر بحال أمير المؤمنين، أبى حفص، عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، كيف كان أشد الناس في عداوة اللَّه [عز وجل] ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى لقد هم بقتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما هو إلا أن وقف على دار الأرقم، وطرق الباب،
فقام إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتلقاه، وعانقه، وضرب صدره ثلاث مرات، وهو يقول: اللَّهمّ أخرج ما في صدره من غل، وأبدله إيمانا،
فللحال انصبغ عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، واستحال بعد الشرك باللَّه، وعبادة الأصنام، والأوثان، والطواغيت، وبذل الجهد في إطفاء نور اللَّه، ما سلك فجا، إلا سلك الشيطان فجا غيره، ولو كان بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي لكان عمر.(9/225)
فصل في ذكر من استخلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة في غيبته عنها في غزو، أو حج، أو عمرة
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزا خمسا وعشرين غزاة، وخرج للعمرة مرتين، وحج مرة واحدة بعد الهجرة، واستخلف على المدينة في ذلك اثنى عشر رجلا. وكان عند قدومه المدينة، قد وادع يهودها، وكتب بينه وبينهم كتابا، واشترط عليهم ألا يمالئوا عليه عدوه، وأن ينصروه على من دهمه، وأن لا يقاتل عنهم كما يقاتل عن أهل الذمة.
فلم يحارب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدا ولم يهجه، ولم يبعث سرية، حتى أنزل اللَّه تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ* وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.
فكان أول لقاء عقده لواء حمزة بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. قال سفيان عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: أول آية أنزلت في القتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وقال عبد اللَّه بن المبارك، عن يونس، عن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن عروة أن أول آيه أنزلت في الجهاد: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.(9/226)
وأول غزوة غزاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزاة الأبواء، وهي غزاة ودان، في صفر على أثنى عشر شهرا من هجرته، يريد عير قريش، فلم يلق كيدا.
فأما الذين استخلفهم على المدينة في غيبته عنها فهم: سعد بن عبادة الخزرجي، خلفه في غزوة ودان، خمس عشرة ليلة، وسعد بن معاذ، خلفه في غزوة بواط. وزيد بن حارثة، [خلفه] في غزوة سفوان، وفي غزوة المريسيع. وأبو سلمة بن عبد الأسد. خلفه في غزاة بنى قينقاع، وفي غزاة السويق، وعاصم بن عدي [خلفه] على قباء، وأهل العالية، في غزوة بدر، وقد رده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الروحاء، لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار، وكان قد استخلفه على قباء والعالية، فرده لينظر في ذلك، وضرب له بسهمه مع أهل بدر.
وابن أم مكتوم، خلفه في غزاة قرقرة الكدر، ثم في غزاة بنى سليم، ثم في غزاة أحد، ثم في غزاة حمراء الأسد، ثم في غزاة بنى لحيان، ثم في غزاة بنى النضير، ثم في غزاة الخندق ثم في غزاة بنى قريظة، ثم في غزاة بنى لحيان، ثم في غزاة ذي قرد، ثم في عمرة الحديبيّة. وقيل: بل كان على المدينة في عمرة الحديبيّة أبو رهم، وكان ابن مكتوم على المدينة في غزاة تبوك، وقيل بل كان على المدينة في غزاة تبوك محمد بن مسلمة، وقيل:
أبو رهم، وقيل: سباع بن عرفطة، وكان ابن أم مكتوم على المدينة في حجة الوداع.
وعثمان بن عفان صلّى اللَّه عليه وسلّم وابن رواحة [خلفه] في غزاة بدر الموعد.
وسباع بن عرفطة الكناني، [خلفه] في غزاة دومة الجندل، وفي غزاة خيبر، وقيل: بل كان على المدينة في غزاة خيبر نميلة بن عبد اللَّه الكناني، وكان سباع على المدينة في غزاة وادي القرى. وأبو ذر الغفاريّ [خلفه] في عمرة القضية، وقيل: بل خلف فيها أبو رهم الغفاريّ. وعلى بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [خلفه] على أهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة تبوك واللَّه تبارك وتعالى أعلم.(9/227)
فصل في ذكر من استعمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جيوشه عند عودته صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقام في جهات جيوشه، وعلى عسكره، لما كان يخرج إلى الغزو جماعة من أصحابه، فاستعمل على المشاة لما خرج إلى بدر، قيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمر بن غنم بن مازن بن النجار الأنصاريّ، أحد من شهد بيعة العقبة على المشاة، وأمره حين فصل من بيوت السقيا، أن يعد المسلمين، فوقف لهم [مع] أبى عتبة، فعدهم، ثم أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعله على الساقة يومئذ وقدم يوم أحد طليعتين، هما مالك والنعمان، ابنا خلف بن عوف [بن] دارم بن عمر بن وائلة بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة ابن عمرو مزيقياء، ودفنا في قبر واحد.
قال الكلبي: وجعل في غزاة أحد على الرماة- وهم خمسون رجلا- عبد اللَّه بن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس، واسمه البرك بن ثعلبة ابن عمرو بن عوف الأنصاري، أحد من شهد العقبة، وهو أخو خوات بن جبير،
وتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم، لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم، حتى تدخل عسكرهم، فلا تفارقوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا [ولا تدفعوا عنا] ، اللَّهمّ إني أشهدك عليهم، وأرشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقوم على النبل.
فلما التحمت الحرب، وكانت الدولة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المشركين، قال بعض الرماة لبعض [لما تقيمون] هاهنا في غير شيء، قد هزم اللَّه العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين، فاغنموا مع [إخوانكم]
فقال بعض الرماة لبعض ألم تعلموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لكم:
احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا؟(9/228)
فقال الآخرون: لم يرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا، وقد أذل اللَّه المشركين وهزمهم فادخلوا العسكر، وانتهبوا مع إخوانكم، فخطبهم عبد اللَّه بن [حمير] ، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، وأمر بطاعته، وطاعة رسوله، فعصوا، وانطلقوا حتى لم يبق معه إلا دون العشرة، ومضوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، فبين المسلمون قد شغلوا بالنهب، وضع الرماة [ ... ] دخل المشركون عليهم وهم غارون [آمنون] ، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون في كل وجه.
وكر خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبى جهل إلى موضع الرماة، فحملوا على من بقي منهم، فرموهم حتى أصيبوا، ورمى عبد اللَّه بن جبير، حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتلهم حتى قتل شهيدا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
ولما سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بنى النضير، ورجع بعد أن صلّى العشاء إلى بيته في عشرة من أصحابه، استعمل عليّ بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم لما رجع من الغداة أمر بنخل بنى النضير، فقطعت، وحرقت، واستعمل على قطعها أبا ليلى، عبد الرحمن بن كعب بن عمرو الأنصاري المازني، أخا عبد اللَّه بن كعب المازني، وعبد اللَّه بن سلام بن الحارث، أبا يوسف الإسرائيلي، حليف الأنصار، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان عبد اللَّه بن سلام يقطع اللون، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم، وقال عبد اللَّه بن سلام: قد عرفت أن اللَّه سيغنمه أموالهم، وكانت العجوة خير أموالهم، [فنزل] في ذلك رضاء بما [صنعنا جميعا] قول اللَّه عز وجل: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ، ألوان النخل الّذي فعل بن سلام، أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها، يعنى العجوة، [فبإذن اللَّه] ، وقطع أبو ليلى العجوة، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعنى بنى النضير، [رضا] من اللَّه تعالى، بما صنع الفريقان جميعا ولما نزل بنو قريظة على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بأسراهم، فكتفوا رباطا، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، [ونحوا(9/229)
ناحية] وأخرجوا النساء والذرية من الحصون، فكانوا ناحية، واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي، على سبايا بنى قريظة، وبعثه بهم إلى نجد، فاتباع له بها خيلا وسلاحا.
قال ابن إسحاق، واستعمل سعدا هذا في غزوة الغابة أميرا على الخيل، وكانوا ثمانية، وقدم عباد بن بشير أمامه طليعة في خيل قوتها عشرون فرسا، لما خرج يريد العمرة، فصده المشركون عن البيت بالحديبية، ثم قدمه في فوارس طليعة، لما خرج إلى غزاة خيبر، فأخذ عينا لليهود من أشجع، فقال: من أنت؟ قال: باغ أبغى أبعرة ضلت لي، أنا على إثرها، قال له ألك علم بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فأنتم تسألون عنه، قال:
عن يهود؟ قال: نعم كان كنانة بن أبى الحقيق، وهودة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة، فجاءوا معدين بالكراع، والسلاح، يقودهم عينية بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل حصون لا ترام، وسلاح وطعام كثير، لو أحصروا سنين لكفاهم، فرفع عباد [بن] بشر السوط، فضربه ضربات وقال: ما أنت إلا عين لهم، أصدقني وإلا ضربت عنقك، فقال الأعرابي:
فتؤمنى على أن أصدقك، فقال عباد: نعم، قال الأعرابي: القوم مرعوبون منك، خائفون وجلون، لما قد صنعتم بمن كان [قبلكهم] بيثرب من يهود، [إن يهود] بعثوا ابن عم لي وجدوه بالمدينة، قد قدم بسلعه له يبيعها، فبعثوه إلى كنانة بن أبى الحقيق، يخبرونه بقتالهم وقال، خيلكم وسلاحكم فأصدقوهم الضرب، ينصرفوا عنكم، فإنه لم يلق [قوما] يحسنون القتال، وقريش والعرب قد سروا بمسيره إليكم، لما يعلمون من كثرة عددكم وسلاحكم، وجودة حصونكم، وقد بايعت قريش وغيرهم، ممن يهوى هوى محمد، تقول قريش: إن جاءهم يظهر، ويقول الآخرون: يظهر محمد فإن ظفر محمد فهو ذل الدهر.
قال الأعرابي: وأنا أسمع كل هذا، فقالت لي كنانة: اذهب معترضا للطريق فإنّهم لا يستنكرون مكانك، فاحذرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم(9/230)
ما يقوى به، ثم ألق [إليهم] كثرة عددنا، وموادنا، فهم [لن يدعوا سؤالك] ، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم، فأتى به عباد بن بشر، إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه:
أضرب عنقه، فقال عباد: جعلت له الأمان، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمسكه معك يا عباد فأوثقه رباطا، فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، عرض عليه الإسلام وقال: إني داعيك ثلاثا، فإن لم تسلم وإلا ضرب عنقك، فأسلم، وندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمد بن مسلمة ليرتاد له منزلا، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما نزل على خيبر، بات وأصبح بمنزله، فجاء الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا رسول اللَّه: - إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمر أمرت به، فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأى تكلمنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل هو الرأى: فقال:
يا رسول اللَّه، دنوت من الحصون، ونزلت بين ظهري النخل، إن أهل النطاق لي ولهم معرفة، ليس قوم أبعد مدى، ولا أعدل، وهم مرسون علينا، وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أنى لا آمن بياتهم، يدخلون في خمر النخل، فتحول يا رسول اللَّه إلى موضع يرى من البر، ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم، حتى لا ينالنا نبلهم، ونأمن من نبالهم، ومرتفع من البر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشرت بالرأي، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نقاتلهم هذا اليوم، ودعي محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم يرى من البر لا ننال من نبالهم، فطاف محمد [بن مسلمة] حتى انتهى إلى الرجيع، ثم رجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلا فقال وجدت لك منزلا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: على بركة اللَّه، وقاتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومه ذلك إلى الليل، فقال الحباب: لو تحولت يا رسول اللَّه، فقال: إذا أمسينا إن شاء اللَّه تحولنا فلما أمسى تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع.
واستخلف عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، على العسكر بخيبر، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تحول إلى الرجيع، خاف على أصحابه البيات، فضرب عسكره هناك، وبات فيه، فأقام سبعة أيام، يغدو كل يوم بالمسلمين، ويترك العسكر بالرجيع، ويستخلف عليه عثمان، ويقاتل أهل(9/231)
النطاة يومه إلى الليل، فإن أمسى رجع إلى الرجيع، وكل من خرج من المسلمين يحمل على العسكر.
واستعمل عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على الحرس، وذلك أنه كان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل، مدة مقامه بالرجيع، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر، وفرقهم، فأتى برجل من اليهود في جوف الليل، فأمر به عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يضرب عنقه، فقال: اذهب بى إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسك عنه، وأتى به إلى باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [فوجده] يصلى، فسمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلام عمر، فسلم، وأدخله عليه، فدخل اليهودي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لليهودي: ما وراءك؟ ومن أين أنت؟ فقال تؤمني يا أبا القاسم وأنا أصدقك، قال: نعم، فقال: خرجت من حصن النطاة، من عند قوم ليس لهم نظام [تركتهم] يتسللون من الحصن في هذه الليلة، قال: فأين يذهبون؟ قال: أذل مما كانوا فيه إلى الشق، وقد رغبوا منك، حتى إن أفئدتهم لتخفق، وهنا حصن فيه السلاح، والطعام، والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتل بها بعضهم بعضا، قد غيبوا ذلك في بيت من حصنهم تحت الأرض.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما هو؟ قال: منجنيق مفككة، وسلاح ودروع، وبيض، وسيوف، فإذا دخلت الحصن غدا، وأنت تدخله، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن شاء اللَّه، قال اليهودي: إن شاء اللَّه، أوقعك عليه، فإنه لا يعرفه أحد من اليهود غيري، وأخرى، قال: ما هي؟ قال: تستخرجه ثم انصب المنجنيق على حصن الشق، ويدخل الرجال تحت [الدبابتين] فيحفروا الحصن، فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصون الكتيبة.
فقال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] : إني أحسبه قد صدق، قال اليهودي: يا أبا القاسم: احقن دمي، قال: أنت آمن، قال: ولي زوجة في حصن النزار فهبها لي، قال: هي لك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما لليهود حولوا ذراريهم من النطاة؟ قال: جردوها للمقاتلة،
وتحول الذراري إلى الشق والكتيبة، ثم(9/232)
دعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام، فقال: أنظرني أياما، فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزا بالمسلمين إلى النطاة ففتح اللَّه الحصن، فاستخرج ما كان قال اليهودي فيه، فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمنجنيق أن يصلح وينصب على الشق وعلى حصن النزار، فما رموا عليها بحجر، حتى فتح اللَّه عليهم حصن النزار.
واستعمل [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] على غنائم خيبر، فروة بن عمرو بن ودقة ابن عبيد بن غانم بن بياضه، البياضي، الأنصاري، أحد من شهد العقبة، وحصن الشق، وحصن الكتيبة، فلم يترك على أحد من أهل الكتيبة إلا ثوبا على ظهره، من الرجال، والنساء، والصبيان، وجمعوا أثاثا كبيرا، وبزا، [وقطائف] ، وسلاحا وغنما، وبقرا، وطعاما، وأدما كثيرا، فلم يخمس الطعام، والأدم، والعلف، بل أخذ الناس منه [حاجاتهم، وكل] من احتاج [إلى سلاح] يقاتل به، أخذوه من فروة بن عمرو، صاحب المغنم، حتى فتح اللَّه عليهم فردوا ذلك في المغنم، فلما اجتمع ذلك كله، أمر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجزئ [خمسة] أجزاء، منهم سهم اللَّه، وأمر ببيع أربعة أخماس فيمن يزيد، فجعل فروة بن عمرو يبيعها فيمن يزيد،
فدعا فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اللَّهمّ ألق عليه النفاق،
قال فروة بن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون على، ويتواثبون، حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حينا لكثرته.
واستعمل [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] على إحصاء الناس بخيبر، زيد بن ثابت رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينهم الّذي غنموه من المتاع الّذي بيع، ثم أحصاهم ألفا و [أربعمائة] ، والخيل مائتي فرس، فكانت السهمان على ثمانية عشر سهما، للرجال [أربعمائة] ، وللخيل [أربعمائة] .
واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة الفتح، الزبير بن العوام رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، على مائتين من المسلمين، وقدمه أمامه، وجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم من العرج، أتته الطليعة بعين من هوازن، فقالوا: يا رسول اللَّه رأيناه حين طلعنا عليه، وهو على راحله قد تغيب عنها في هذه، ثم جاء فأوفى على [سهل] فقعد عليه، فركضنا إليه، فأراد أن يهرب منا، وإذا بعيره قد عقله،(9/233)
فأدركناه، فقلنا: ممن أنت؟ قال: رجل من غفار، فقلنا: هم أهل [هذا] البلد، فأى بنى غفار أنت؟ فلم يذكر لنا نسبا، فازددنا به ريبة، وأسأنا به الظن هنالك؟ فلم يقل شيئا، فلما رأينا ما خلط، فقلنا: لتصدقنا، أو لنضربن عنقك قال: فإن صدقتكم ينفعني ذلك [عندكم] قلنا: نعم فإنّي رجل من هوازن، من بنى النضير، بعثتني هوازن عينا، وقالوا: ائت المدينة حتى تلقى محمدا، فتستخبر لنا ما يريد في أمر حلفائه، أيبعث إلى قريش بعثا، أو يغزوهم بنفسه، ولا نراه إلا سيغزوهم، فإن خرج سائرا، أو بعث بعثا، فسر معه، حتى ينتهى إلى بطن سرف، فإن كان يريدنا أولا، فاسلك في بطن سرف حتى يخرج إلينا، وإن كان يريد شيئا، [فسيلزم] الطريق.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأين هوازن؟ قال: تركتهم [شيعا] ، وقد جمعوا الجموع، وأجلبوا في العرب، وبعثوا إلى ثقيف، فأجابتهم، فتركت ثقيفا على ساق، قد جمعوا الجموع، وبعثوا إلى جرش في عمل الرايات والمنجنيق، وهم سائرون إلى جمع هوازن، فيكونون جميعا.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال: إلى مالك بن عوف، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وكل هوازن قد أجاب إلى ما دعي إليه مالك؟
قال: وقد أبطأ من بنى عامر أهل الجد والجلد، قال: من؟ قال: كعب وكلاب، قال ما فعلت هلال؟ قال: ما أقل من ضوى إليه منهم، ومررت بقومك أمس بمكة، وقد قدم عليهم أبو سفيان بن حرب فرأيتهم ساخطين لما جاء به، وهم خائفون وجلون.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، ما أراه إلا صدقنى،
قال الرجل: فلينفعنى ذلك، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يحبسه، وخافوا أن يتقدم ويحذر الناس، فلما نزل العسكر مر الظهران، أفلت الرجل، فطلبه خالد بن الوليد، فأخذه عند الأراك، وقال لولا عهد لك لضربت عنقك، وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأمر به يحبس حتى يدخل مكة، فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وفتحها، أتى به إليه، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، ثم خرج معه، فقتل [بأوطاس] فلما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم(9/234)
في غزاة الفتح قديدا، لقيته سليم في تسعمائة أو في ألف فارس، فجعل معهم خالد بن الوليد في المقدمة، حتى نزلوا مر الظهران معه، فكان أول من قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالدا في بنى سليم، وهم ألف، فيهم لواء يحمله عباس بن مرداس، ولواء يحمله خفاف بن ندبة، وراية يحملها آخر، [فلم يزل] خالد بهم في المقدمة، حتى ورد الجعرانة بعد فتح مكة.
وروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يوم الفتح على المجنة اليمنى، خالد بن الوليد، وعلى المجنة اليسرى الزبير بن العوام، رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] ، وعلى الساقة، أبو عبيدة بن الجراح، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ذكره مسلم.
واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا عامر، بن قيس، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عبيد، وقيل عباد بن قيس، وهو أخو أبى موسى الأشعري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وذلك أن المشركين لما انهزموا بحنين، عسكر منهم طائفة بأوطاس، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في آثارهم أبا عامر الأشعري، وعقد له لواء، وكان معه في ذلك البعث سلمة بن الأكوع، وكان يحدث ويقول: لما انهزمت هوازن عسكروا بأوطاس عسكرا، فإذاهم ممتنعون، فبرز رجل منهم فقال: من يبارز، فبرز له رجل معلم، فبرز له أبو عامر فقتله، فلما كان العاشر، برز له رجل معتم بعمامة صفراء، فقال أبو عامر: اللَّهمّ اشهد، فقال الرجل: اللَّهمّ لا تشهد فضرب أبا عامر فأثبته، فاحتملناه وبه رمق.
واستخلف أبو موسى الأشعري، فأخبر أبو عامر [أبا موسى، أن قاتله صاحب العمامة الصفراء. وأوصى أبو عامر إلى أبى موسى، ودفع إليه الراية وقال: ادفع فرسي وسلاحي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقاتلهم أبو موسى حتى فتح اللَّه عليه، وقتل قاتل أبى عامر، وجاء بسلاحه وبذلته إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وقال: إن أبا عامر أمرنى بذلك، وقال: قل لرسول اللَّه يستغفر لي، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلى ركعتين ثم قال: اللَّهمّ اغفر لأبى عامر، واجعله من أعلى أمتى إلى الجنة، وأمر بتركته [فبعثت] إلى أبيه، فقال أبو موسى:
يا رسول اللَّه إني أعلم أن اللَّه قد غفر لأبى عامر وقتل شهيدا فادع اللَّه لي، فقال:(9/235)
اللَّهمّ اغفر لأبى موسى، واجعله في أعلى أمتى
قال الواقدي: فيرون أن ذلك وقع يوم الخميس.
واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على سبايا حنين، يزيد بن ورقاء بن عبد العزيز ربيعة الخزاعي، وأمر بالسبي أن يوجه إلى الجعرانة، وبالغنائم [فحبست] [ (1) ] أيضا فسيقت إلى الجعرانة، ومضى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف وندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، أبا عمرو، الأنصاري، السلمي، الّذي يقال له ذو الرأى لما نزلوا على الطائف أن يرتاد له مكانا، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل من الطائف قريبا من الحصن، فضرب عسكره هناك، فساعة حل وأصحابه، جاء الحباب بن المنذر فقال: يا رسول اللَّه إنا قد دنونا من الحصن، فإن كان عن أمر سلمنا، وإن كان الرأى، فالتأخر عن حصنهم، فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان عمرو بن أمية الضمريّ يحدث ويقول: لقد طلع علينا من نبلهم ساعة، تركنا بنى سليم كأنه رجل جراء، وترسنا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة،
فدعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحباب فقال: انظر مكانا مرتفعا نتأخر عن القوم.
فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف، وجاء رجل من القرية فجاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره [فأمر] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يتحولوا، قال عمرو بن أمية: إني لأنظر إلى أبى محجن، يرمى به من فوق الحصن كأنها الرماح، فما يسقط لهم سهم.
واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن ثابت الأنصاري، على غنائم أوطاس وأمره بإحصاء الناس والغنائم ثم قسمها على الناس فكانت سهامهم لكل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد، لم يسهم له، وكان أبى حذيفة العدوي على مقاسم الغنم.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في الأصلين، ولعل ما أثبتناه متمم للسياق من كتب السيرة.(9/236)
واستخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على العسكر لما خرج لغزوة تبوك وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عسكر بثنية الوداع والناس كثير، لا يجمعهم كتاب.
واستخلف أبا بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على العسكر يصلى بالناس، [حين] اشتغل صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمسير، وكان صفوان بن المعطل بن رحضة بن خزاعيّ بن محارب بن مرة بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن نهبة ابن سليم السلمي الذكوانيّ أبو عمر، على ساقة العسكر، يلتقط من متاع المسلمين حتى يأتيهم به.
فصل في نصرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرعب
[خرج البخاري من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي] .
قال أبو هريرة: فقد ذهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنتم تنتثلونها.
قال البخاري: بلغني أن جوامع الكلم: أن اللَّه عز وجل يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الاثنين، [أخرجه البخاري ومسلم] .
ذكره في الجهاد وذكره في كتاب التعبير ولفظ منه: «وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، ووضعت في يدي» .
وذكره في كتاب الاعتصام من حديث إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب بسنده وذكره أيضا من حديث أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت مفاتيح الكلم ونصرت بالرعب وبينا أنا نائم البارحة إذا أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي» وقال أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فذهب صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنتم تنتثلونها. وذكره في كتاب الصلاة من حديث هشام، عن سيرين، عن(9/237)
الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عنهم، وفيه «ونصرت بالرعب مسيرة شهر» وهو فيما اتفقا على إخراجه.
وخرجه مسلم في كتاب الصلاة من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي، «قال أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فذهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنتم تنتثلونها» [ (1) ] . ومن حديث الزبيدي، عن الزهري قال: أنبأنا سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
__________
[ (1) ] رواه البخاري في الجهاد، باب
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب مسيرة شهر، في التعبير، باب رؤيا الليل، وباب المفاتيح في اليد، في الاعتصام، باب قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثت بجوامع الكلم.
ومسلم في المساجد في فاتحته، حديث رقم (523) ، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغنيمة، حديث رقم (1553) ، والنسائي في الجهاد، باب وجوب الجهاد.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نصرت بالرعب» ،
الرعب: الفزع والخوف، وذلك أن أعداء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان قد أوقع اللَّه في قلوبهم الرعب، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه، فلا يقدمون على لقائه.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «جوامع الكلم»
أراد به القرآن. جمع اللَّه تعالى بلطفه في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة. كذلك ألفاظه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت قليلة الألفاظ، كثيرة المعاني.
و «مفاتيح الكلم» ،
المفاتيح: كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها، فأخبر عليه السّلام أنه أولى مفاتيح الكلم، وهو ما سهل اللَّه تعالى عليه من الوصول إلى غوامض المعاني، وبدائع الحكم التي أغلقت على غيره وتعذرت.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «مفاتيح خزائن الأرض» ،
أراد به ما سهل اللَّه تعالى له ولأمته من استخراج الممنعات، وافتتاح البلاد المتعذرات، من كان في يده مفاتيح شيء سهل اللَّه عليه الوصول إليه.
قوله: «تنتثلونها» الانتثال: نثر الشيء، يقال نثلت كنانتي: إذا استخرجت ما فيها جميعه ونثرته، والمراد: أنكم تأخذونها جميعا.(9/238)
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: فذكر من حديث يونس ومن حديث معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمثله.
ومن حديث ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة، عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «نصرت بالرعب على العدو، وأعطيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» .
ومن حديث عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث منها «قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصرت بالرعب وأتيت جوامع الكلم» . ذكره مسلم والّذي قبله في كتاب الصلاة.
وخرجه النسائي أيضا من حديث معمر ويونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كما قال مسلم في حديث يونس. وأخرجه أيضا من حديث الزهري، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بمثل ذلك.(9/239)
فصل في ذكر مشورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحرب وذكر من رجع إلى رأيه
قال الترمذي: ويروى عن أبي هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وذكر مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأعرض عنه، ثم تكلم عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقام سعد بن عبادة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فقال إيانا تريد يا رسول اللَّه، والّذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها في البحر لخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى [برك الغماد] لفعلنا، قال: فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس فانطلقوا وذكر الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(تحفة الأحوذي) : 5/ 306، كتاب أبواب الجهاد، باب (34) ما جاء في المشورة، حديث رقم (1767) ولفظه: حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبى عبيدة عن عبد اللَّه قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسارى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما تقولون في هؤلاء؟
وذكر قصة طويلة. وفي الباب عن عمر وأبى أيوب وأنس وأبى هريرة، [قال] : هذا حديث حسن، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه" ويروى عن أبى هريرة قال: " ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال الحافظ في (الفتح) بعد ذكر هذا الحديث: رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
[ (2) ]
(صحيح مسلم) : 6/ 366، كتاب الجهاد والسير باب (30) غزوة بدر، حديث رقم (1779) وتمامه: «فانطلقوا حتى نزلوا بدرا وورد عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه فكان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسألونه عن أبى سفيان وأصحابه فيقول: ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه، فقال نعم أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه، فقال: ما لي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس فإذا قال هذا أيضا ضربوه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائم يصلى فلما رأى ذلك انصرف قال(9/240)
وذكره أبو داود من طريق حماد عن ثابت، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بهذا المعنى، وذكر الثاني في النسائي من حديث محمد بن [المثنى] قال: أنبأنا خالد وقال أنبأنا حميد، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سار إلى بدر فاستشار المسلمون فأشار عليه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم استشارهم فأشار عليه عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم استشارهم فقال الأنصاري: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالوا: إذا لا تقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
اذهب أنت وربك فقاتلا، والّذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادنا إلى برك الغماد لاتبعناك [ (1) ] .
وقد ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن عمر الواقدي وساقه الواقدي أنه قال: ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان [دوين] [ (2) ] بدر أتاه الخبر بمسير قريش فأخبرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمسيرهم واستشار الناس فقام أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال فأحسن، ثم قال يا رسول اللَّه، إنها واللَّه قريش وعزها، واللَّه ما ذلّت منذ عزت، واللَّه ما آمنت منذ كفرت، واللَّه لا تسلم عزها أبدا، ولتقاتلنك، فاتهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال:
يا رسول اللَّه، امض لأمر اللَّه فنحن معك، واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (3) ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والّذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك- وبرك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر، وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن. فقال له رسول اللَّه
__________
[ () ] والّذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم. قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا مصرع فلان قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا
قال فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] سبق تخريج الأحاديث والآثار في شرح غزوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] في (الأصل) : (دون) ، وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] المائدة: 24.(9/241)
صلّى اللَّه عليه وسلّم خيرا، ودعا له بخير ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشيروا عليّ أيها الناس! وإنما يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأنصار، وكان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار، وذلك أنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشيروا عليّ! فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول اللَّه تريدنا! قال: أجل.
قال: إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوى إليك في غيره، وإنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن كل ما جئت به حق، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي اللَّه، فو الّذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والّذي نفسي بيده، ما سلكت هذا الطريق قط، وما لي بها من علم، وما نكره أن يلقانا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل اللَّه يريك منا ما تقر به عينك [ (1) ] .
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم ابن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد قال: قال سعد: يا رسول اللَّه، إنا قد خلفنا من قومنا ما نحن بأشد حبّا لك منهم، ولا أطوع لك منهم لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا يا رسول اللَّه أنك ملاق عدوا ما تخلفوا، ولكن إنما ظنوا أنها العير، نبني لك عريشا فتكون فيه ونعد لك رواحلك، ثم نلقى عدوّنا فإن أعزّنا اللَّه وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا. فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: خيرا.
وقال: أو يقضي اللَّه خيرا من ذلك يا سعد! [ (2) ] قالوا: فلما فرغ سعد من المشورة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سيروا على بركة اللَّه، فإن اللَّه قد وعدني إحدى الطائفتين واللَّه، لكأنّي انظر إلى مصارع القوم
[ (3) ] قال: وأرانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصارعهم يومئذ، هذا مصرع فلان، وهذا
__________
[ (1) ] ، (2) ، (3) (مغازي الواقدي) : 1/ 48- 55 باختلاف يسير.(9/242)
مصرع فلان، فما عدا كل رجل مصرعه. قال: فعلم القوم أنهم يلاقون القتال، وأن العير تفلت، ورجوا النصر لقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الواقدي: ولما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبعة عشر ليلة مضت من رمضان، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: أشيروا علي في المنزل. فقال الحباب بن المنذر: يا رسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه اللَّه فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
قال: فإن هذا ليس بمنزل! انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم، فإنّي عالم بها وبقلبها، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح، ثم نبني عليها حوضا ونقذف فيه الآنية، فنشرب ونقاتل، ونغور ما سواها من القلب [ (1) ] .
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود ابن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزل جبريل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: الرأي ما أشار به الحباب فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: [يا حباب أشرت بالرأي!
فنهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ففعل كل ذلك] [ (2) ] ، وأبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما استشارهما صلّى اللَّه عليه وسلّم في أسرى بدر.
[قال الواقدي: ولما حبس الأسرى ببدر- استعمل عليهم شقران وكان المسلمون قد اقترعوا عليهم- طمعوا في الحيا فقالوا: لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه! فبعثوا إلى أبي بكر، فأتاهم فقالوا: يا أبا بكر، إن فينا الآباء والأبناء والإخوان والعمومة وبني العم، وأبعدنا قريب، كلّم صاحبك فيمن علينا أن يفادنا. فقال:
نعم إن شاء اللَّه، لا آلوكم خيرا.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 53.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 54.(9/243)
ثم انصرف إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالوا: وابعثوا إلى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. فإنه من علمتم، فلا نأمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم فأرسلوا إليه.
فجاءهم فقالوا له مثل ما قالوا لأبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لن آلوكم خيرا، ثم انصرف إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. فوجد أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يلينه. يقول: يا رسول اللَّه بأبي أنت وأمى قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة والإخوان، وبنو العم وأبعدهم منك قريب فامنن عليهم من اللَّه عليك، أو فادهم يستنفدهم اللَّه بك من النار. فتأخذ منهم ما أخذت قوة المسلمين. فلعل يقبل بقلوبهم عليك. ثم قام فتنحى ناحية، وسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يجبه.
ثم جاء عمر، فجلس مجلس أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
فقال: يا رسول اللَّه، هم أعداء اللَّه كذبوك، وقاتلوك، وأخرجوك. اضرب رقابهم. هم رءوس الكفر، وأئمة الضلالة. يوطئ اللَّه بهم الإسلام، ويذل بهم اللَّه أهل الشرك. فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يجبه، وعاد أبو بكر إلى مجلسه الأول، وقال: يا رسول اللَّه بأبي أنت وأمى، قومك فيهم الآباء، والأبناء، والعمومة، والإخوان، وبنو العم وأبعدهم منك قريب. فامنن عليهم، أو فادهم فهم عترتك وقومك لا تكن أول من يستأصلهم، يهديهم اللَّه خيرا من أن تهلكهم فسكت عنه ساعة، ولم يرد عليه شيئا، فقام عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فجلس مجلسه، فقال: يا رسول اللَّه: ما تنتظر بهم؟ اضرب رقابهم يوطئ اللَّه بهم الإسلام، ويذل أهل الشرك، هم أعداء اللَّه كذبوك، وقاتلوك، وأخرجوك، يا رسول اللَّه اشف صدور المؤمنين لو قدروا على مثل هذا منا ما أقالونا أبدا، فجلس فعاد أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكلمه مثل كلامه الّذي كلمه، فلم يجبه، ثم قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدخل، فمكث فيها ساعة، وخرج والناس يخوضون في شأنهم. يقول بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وآخرون يقولون: القول ما قال عمر.(9/244)
فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما تقولون في صاحبيكم هذين دعوهما. فإن لهما مثلا، مثل أبى بكر كمثل ميكائيل ينزل برضاء اللَّه، وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل. أوقد له قومه النار فطرحوه فيها. فما زاد على أن قال: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ (1) ] ، وقال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (2) ] ، ومثله مثل عيسى، إذ يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ (3) ] ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من اللَّه والنقمة على [عباد] اللَّه، ومثله في الأنبياء كمثل نوح، كان أشد على قومه من الحجارة. إذ يقول رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [ (4) ] . فدعى عليهم دعوة أغرق اللَّه الأرض جميعها، ومثل موسى إذ يقول: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [ (5) ] ، وإن بكم عيلة، فلا يفوتكم رجلا من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق، فقال عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يا رسول اللَّه: إلا سهيل بن بيضاء [قال ابن واقد: هذا وهم، سهيل بن بيضاء من مهاجرة الحبشة فما شهد بدرا، إنما هو أخ له يقال له [سهل] [ (6) ] فإنّي رأيته يظهر الإسلام بمكة. فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال عبد
__________
[ (1) ] الأنبياء: 67.
[ (2) ] إبراهيم: 36.
[ (3) ] المائدة: 118.
[ (4) ] نوح: 26.
[ (5) ] يونس: 88.
[ (6) ] من بنى الحارث بن فهر وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث وهو من العشرة الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة وكان عليهم عثمان بن مظعون (سيرة ابن هشام) 2/ 165 وذكره ابن هشام أيضا فيمن ذكر ممن هاجروا من بنى الحارث (المرجع السابق) :
2/ 172. وذكره ابن إسحاق أيضا في العائدين من أرض الحبشة من بنى الحارث (المرجع(9/245)
اللَّه: فما مرت على ساعة قط كانت أشد على من تلك الساعة، فجعلت انظر إلى السماء أتخوف أن تسقط على الحجارة لتقدمى بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالكلام. فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه. فقال إلا سهيل بن بيضاء فما مرت على ساعة أقر لعيني منها. إذ قالها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه عز وجل ليشدد على القلب فيه حتى يكون أشد من الحجارة، وإنه ليلين القلب فيه حتى يكون ألين من الزبد، وقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم الفداء، وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لو نزل من السماء نار يوم بدر ما نجا منه إلا عمر كان يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء،
وكان سعد بن معاذ يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء [ (1) ] .
قال الواقدي: وخرج مسلم [ (2) ] في الجهاد والترمذي [ (3) ] في التفسير من حديث عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر، نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللَّهمّ آت ما وعدتني، اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض،
فما زال يهتف بربه، ومادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي اللَّه! كفاك مناشدتك ربك
__________
[ () ] السابق) : 2/ 213 وذكره ابن إسحاق فيمن صحب عبد اللَّه بن جحش في سريته من بني الحارث بن فهر. (المرجع السابق) 3/ 147.
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 108- 110.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 326، كتاب الجهاد باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم حديث رقم (1763) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 251- 252، كتاب تفسير القرآن باب (9) سورة الأنفال حديث رقم (3081) وقال في آخر الحديث: حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث عمر، إلا من حديث عكرمة بن عمار عن أبى زميل، وأبو زميل اسمه سماك الحنفي، وإنما كان هذا يوم بدر.(9/246)
فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللَّه عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [ (1) ] قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيا، فنظر إليه، فإذا هو قد حطم أنفه، وشق، كضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع،
فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبى بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي اللَّه، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى اللَّه أن يهديهم، للإسلام فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ما أرى الّذي رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنا فتضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان «نسيبا لعمر» فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، فلما كان من الغد، جئت فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت:
يا رسول اللَّه، أخبرنى من أي شيء تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبكى للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى هذه
__________
[ (1) ] الأنفال: 9.
وأخرجه أيضا أبو داود في الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال مختصرا وسياق هذا الحديث مضطربا في (الأصل) وأثبتناه من (صحيح مسلم) .(9/247)
الشجرة
- شجرة قريبة من نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وأنزل اللَّه عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فأحل اللَّه الغنيمة لهم.
وقال الواقدي [ (1) ] : حدثني محمد بن عبد اللَّه عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ورأيت في سيفي فلّا فكرهته، فهو الّذي أصاب وجهه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشيروا عليّ،
ورأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب أن يوافق على مثل ما رأى، وعلى ما عبر عليه الرؤيا فقام عبد اللَّه بن أبىّ فقال: يا رسول اللَّه كنا نقاتل في الجاهلية ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة واللَّه لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة إعدادا لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمى المرأة والصبى من فوق الصياصي والآطام ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول اللَّه، إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه. فدعهم يا رسول اللَّه. فإنّهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس، وأن رجعوا خائبين مغلوبين، لم ينال خيرا. يا رسول اللَّه، أطعني في هذا الأمر، وأعلم أنى ورثت هذا الأمر الرأى من أكابر قومي، وأهل الرأى منهم. فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. فكان رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع رأى ابن أبىّ، وكان ذلك رأى الأكابر من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 209- 211.(9/248)
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، وارموا من فوق الصياصي والآطام،
وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية.
فهي كالحصن. فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا وطلبوا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا، وقال رجال من أهل السن، وأهل النية، منهم حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في غيرهم من الأوس والخزرج رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم: إنا نخشى يا رسول اللَّه أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل، فظفرك اللَّه عليهم، ونحن اليوم بشر كثير قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا اللَّه به، فقد ساقه اللَّه إلينا في ساحتنا. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرى من إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم، يتسامون كأنهم الفحول.
وقال مالك بن سنان أبو أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا رسول اللَّه نحن واللَّه بين إحدى الحسنيين، إما يظفرنا اللَّه بهم، فهذا الّذي نريد، فيذلهم اللَّه لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم الا الشريد، والأخرى يا رسول اللَّه، يرزقنا اللَّه الشهادة، واللَّه يا رسول اللَّه ما أبالى أيهما، كان أن كلّا لفيه الخير، فلم يبلغنا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجع إليه قولا، وسكت. فقال حمزة بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه:
والّذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة. وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائما، ويوم السبت صائما، فلاقاهم وهو صائم.
وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بنى سالم: يا رسول اللَّه، أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك وأنى منهم، فلم تحرمنا الجنة؟ فو الّذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بم؟ قال: إني أحب اللَّه(9/249)
ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صدقت! فاستشهد يومئذ
وقال إياس بن أوس بن عتيك: يا رسول اللَّه، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح، نرجو يا رسول اللَّه أن نذبّح في القوم ويذبّح فينا، فنصير إلى الجنة، ويصيرون إلى النار. مع أنى يا رسول اللَّه لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها! فيكون هذا جرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا، فإذا لم نذب عن عرضنا لم نزرع، وقد كنا يا رسول اللَّه في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيّدنا اللَّه بك، وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا.
وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول اللَّه، إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا وقد قادوا الخيل، وامتطوا الإبل، حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشون الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا ويضعوا العيون والأرصاد علينا مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترئ علينا العرب حولنا حتى يطعموا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم، فنذبهم عن جوارنا وعسى اللَّه أن يظفرنا بهم فتلك عادة اللَّه عندنا، أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتنى وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت حريصا على الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم في النوم أحسن صورة، يسرحى في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: ألحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربى حقا، وقد واللَّه يا رسول اللَّه أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سنى، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربى، فادع اللَّه يا رسول اللَّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعى له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك، فقتل بأحد شهيدا.
وقال أنس بن قتادة: يا رسول اللَّه، هي إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر في قتلهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني أخاف عليكم الهزيمة.(9/250)
فلما أبوا إلا الخروج صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجمعة بالناس، ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بذلك حيث أعلمهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشر كثير من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ثم صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العصر بالناس، وقد حشد الناس وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام. فحضرت بنو عمرو بن عوف ولفها، والنبيت ولفها، وتلبث السلاح.
فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فعمماه ولبساه، وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه. فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا: قلتم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر، إليه فما أمركم، فافعلوه وما رأيتم له فيه هوى أو رأى فأطيعوه.
فبينا القوم على ذلك من الأمر، وبعض القوم يقول: القول ما قال سعد، وبعضهم على البصيرة على الشخوص، وبعضهم للخروج كاره، إذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد لبس لأمته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم، كانت عند آل أبى رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد، واعتم، وتقلد السيف.
فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ندموا جميعا على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما كان لنا أن نلح على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمر يهوي خلافه. وندّمهم أهل الرأي الذين كانوا يشيرون بالمقام،
فقالوا: يا رسول اللَّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى اللَّه ثم إليك، فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه. وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه. ثم قال(9/251)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انظروا ما أمرتكم به فاتّبعوه، امضوا على اسم اللَّه فلكم النصر ما صبرتم.
وقال الواقدي [ (1) ] : حدثنا محمد بن عبد اللَّه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال حصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بضع عشرة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهمّ إنك إن تشأ لا تعبد!
فبينا هم على ذلك من الحال أرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف- ولم يحضر الخندق الحارث بن عوف ولا قومه، ويقال حضرها الحارث بن عوف. قال ابن واقد: وهو أثبت القولين عندنا.
وإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسل إليه وإلى عيينة: أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟ قالا: تعطينا نصف تمر المدينة. فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يزيدها على الثلث، فرضيا بذلك
وجاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر، فجاءوا وقد أحضر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه وأحضر الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فأعطاه الصحيفة وهو يريد أن يكتب الصلح بينهم، وعباد ابن بشر قائم على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقنع في الحديد. فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا يدري بما كان من الكلام فلما جاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاء وعيينة مادّا رجليه بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلم ما يريدون، فقال: يا عين الهجرس [ (2) ] اقبض رجليك! أتمد رجليك بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ - ومعه الرمح- واللَّه، لولا رسول اللَّه لأنفذت صلّى اللَّه عليه وسلّم خصيتك بالرمح! ثم أقبل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فو اللَّه لا نعطيهم إلا السيف! متى طمعوا بهذا
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 476- 480.
[ (2) ] الهجرس بالكسر: ولد الثعلب. (لسان العرب) : 6/ 246.(9/252)
منا؟ فاسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما فاستشارهما في ذلك، وهو متكئ عليهما والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخيفه، وأخبرهما بما قد أراد من الصلح، فقالا: إن كان هذا أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فامض لما كان لك فيه هوى، فسمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأى فما لهم عندنا إلا السيف.
وأخذ سعد بن معاذ الكتاب
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم فقالا: يا رسول اللَّه، إن كانوا ليأكلون العلهز [ (1) ] في الجاهلية من الجهد، وما طمعوا بهذا منا قط أن يأخذوا تمرة الا بشرى أو قرى! فحين أتانا اللَّه تعالى بك وأكرمنا بك، وهدانا بك نعطي الدنية! لا نعطيهم أبدا إلا السيف. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شق الكتاب فتفل سعد فيه، ثم شقه وقال: بيننا السيف! فقام عيينة وهو يقول: أما واللَّه للتي تركتم خير لكم من الخطة التي أخذتم، وما لكم بالقوم طاقة. فقال عباد بن بشر يا عيينة أبا السيف تخوفنا؟ ستعلم أينا أجزع وإلا فو اللَّه لقد كنت أنت وقومك تأكلون العلهز والرمة من الجهد فتأتون هاهنا ما تطمعون بهذا منا ألا ترى وقرى أو شرى ونحن لا نعبد شيئا، فلما هدانا اللَّه وأيدنا بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم سألتمونا هذه الخطة! أما واللَّه لولا مكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما وصلتم إلى قومكم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ارجعوا، بيننا السيف! رافعا صوته.
فرجع عيينة والحارث وهما يقولان: واللَّه، ما نرى أن ندرك منهم شيئا ولقد أنهجت للقوم بصائرهم! واللَّه، ما حضرت إلا كرها لقوم غلبوني، وما مقامنا بشيء، مع أن قريشا إن علمت بما عرضنا على محمد عرفت أنا قد خذلناها ولم ننصرها. قال عيينة: هو واللَّه ذلك! قال الحارث: أما إنا لم نصب بتعرضنا لنصر قريش على محمد، واللَّه لئن ظهرت قريش على محمد
__________
[ (1) ] العلهز: هو شيء يتخذونه في سنى المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. (النهاية) : 3/ 124.(9/253)
ليكونن الأمر فيها دون سائر العرب، مع أنى أرى أمر محمد أمرا ظاهرا.
واللَّه، لقد كان أحبار يهود خيبر وأنهم يحدثون أنهم يجدون في كتبهم أنه يبعث نبي من الحرم على صفته.
قال عيينة: أنا واللَّه ما جئنا. ننصر قريشا ولو استنصرنا قريشا ما نصرتنا ولا خرجت معنا من حرمها، ولكنى كنت أطمع أن نأخذ تمر المدينة فيكون لنا به ذكر مع ما لنا فيه من منفعة الغنيمة، مع أنا ننصر حلفاءنا من اليهود فهم جلبونا إلى ما هاهنا. قال الحارث قد واللَّه أبت الأوس والخزرج إلا السيف، واللَّه لتقاتلن عن هذا السعف، ما بقي منها رجل مقيم، وقد أجدب الجناب، وهلك الحباب وهلك الخف والكراع. قال عيينة لا شيء.
فلما أتيا منزلهما جاءتهما غطفان فقالوا: ما وراءكم؟ قالوا: لم يتم الأمر، رأينا قوما على بصيرة وبذل أنفسهم دون صاحبهم وقد هلكنا وهلكت قريش، وقريش تنصرف ولا تكلم محمدا! وإنما يقع حرّ محمد ببني قريظة، إذا ولينا جثم عليهم فحصرهم جمعة حتى يعطوا بأيديهم. قال الحارث: بعدا وسحقا! محمد أحب إلينا من اليهود.
وقال الواقدي [ (1) ] : حدثني خارجة بن عبد اللَّه عن داود بن الحصين، عن أبى سفيان، عن محمد بن مسلمة قال وتنحى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجلس، ودنت الأوس الى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه حلفاؤنا دون الخزرج وقد رأيت ما صنعت بنى قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبى، وهبت له ثلاثمائة حاسر وأربعمائة دارع. وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد، فهبهم لنا. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساكت لا يتكلم حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟
قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ.
وسعد يومئذ في المسجد في خيمة رفيدة بنت سعد بن عتبة، وكانت تداوى الجرحى، وتلم الشعث، وتقوم على الضائع والّذي لا أحد له. وكان لها خيمة في المسجد وكان رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (المغازي للواقدي) : 2/ 510.(9/254)
صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل سعد بن معاذ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فيها. فلما جعل صلّى اللَّه عليه وسلّم الحكم إلى سعد بن معاذ خرجت الأوس حتى جاءوه، فحملوه على حمار، وعلى الحمار قطيفة وخطامه حبل من ليف، فخرجوا حوله يقولون: يا أبا عمرو إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم فأحسن، فقد رأيت ابن أبىّ وما صنع في حلفائه. والضحاك بن خليفة [ (1) ] يقول: يا أبا عمرو مواليك، مواليك! قد منعوك في المواطن كلها واختاروك على من سواك ورجوا عياذك، ولهم جمال وعدد.
وقال سلمة بن سلامة بن وقش: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك وحلفاءك، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب البقية، نصروك يوم البعاث والحدائق والمواطن كلها، ولا تكن شرا من ابن أبىّ.
قال إبراهيم بن جعفر، عن أبيه: وجعل قائلهم يقول يا أبا عمرو، إنا واللَّه قاتلنا بهم فقتلنا، وعاززنا بهم فعززنا، قالوا: وسعد لا يتكلم، حتى إذا أكثروا عليه قال سعد: قد آن لسعد ألا تأخذه في اللَّه لومة لائم. فقال الضحاك ابن خليفة ثم: وا قوماه! ثم رجع الضحاك إلى الأوس فنعى لهم بنى قريظة.
وقال معتب [ (2) ] بن قشير وا سوء صباحاه! وقال حاطب بن أمية الظفري: ذهب قومي آخر الدهر.
وأقبل سعد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والناس حوله جلوس فلما طلع سعد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قوموا إلى سيدكم.
فكان رجال من بنى عبد الأشهل يقولون
__________
[ (1) ] هو الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهلي، شهد غزوة بنى النضير، وله ذكر وليست له رواية. (الإصابة) : 3/ 475.
[ (2) ] معتب بن قشير بقاف ومعجمة مصغرا، ابن مليل بن زيد بن العطاف بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ، ذكروه فيمن شهد العقبة، وقيل: إنه كان منافقا، وإنه الّذي قال يوم أحد لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وقيل: إنه تاب، وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا. (الإصابة) : 6/ 175، ترجمة رقم (8125) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 34.(9/255)
فقمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقائل يقول: إنما عنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله:
قوموا إلى سيدكم،
يعنى به الأنصار دون قريش. قالت الأوس الذين بقوا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسعد: يا أبا عمرو، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد ولاك الحكم، فأحسن فيهم، واذكر بلاءهم عندك.
فقال سعد بن معاذ: أترضون بحكمي لبني قريظة؟ قالوا: نعم، قد رضينا بحكمك وأنت غائب عنا، اختيارا منا، ورجاء أن تمن علينا كما فعله غيرك من حلفائه من قينقاع، وأثرنا عندك أثرنا، وأحوج ما كنا اليوم إلى مجازاتك، فقال سعد: لا آلوكم جهدا. فقالوا: ما يعنى بقوله هذا؟ ثم قال عليكم عهد اللَّه وميثاقه أنّ الحكم فيكم ما حكمت؟ قالوا: نعم.
قال سعد للناحية الأخرى التي فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو معرض عنها إجلالا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وعلى من هاهنا مثل ذلك؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه: نعم. قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن يقتلا من جرت عليه الموسى [ (1) ] ، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لقد حكمت بحكم اللَّه عز وجل من فوق سبع أرقعة [ (2) ] .
وكان سعد بن معاذ في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قد دعا فقال: اللَّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إليّ أن أقاتل من قوم كذبوا رسول اللَّه، وآذوه
__________
[ (1) ] وفي ذلك كناية عن الإنبات، وهو نبات شعر العانة، فجعله علامة على البلوغ، وليس ذلك حد إلا في أهل الشرك عند الأكثرين، وقال أحمد بن حنبل رحمه اللَّه: الإنبات حد يقام به الحد على من أنبت، ويحكى مثل ذلك عن مالك رحمه اللَّه، فأما من جعله مخصوصا بأهل الشرك:
فيشبه أن يكون أن أهل الشرك لا يوقف على بلوغهم من جهة السن، ولا يمكن الرجوع إلى قولهم لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عنهم، وأداء الجزية، وغير ذلك من الأحكام، بخلاف المسلمين فإنّهم يمكن أن تعرف أوقات بلوغهم وولادتهم. (جامع الأصول) : 8/ 279.
[ (2) ] الأرقعة السموات، والواحدة رقيع.(9/256)
وأخرجوه، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنا وعنهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتنى حتى تقر عيني من بنى قريظة! فأقر اللَّه عينه منهم.
فأمر بالسبي فسيقوا إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية العزار ابنتة الحارث [ (1) ] وأمضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بنى قريظة حكم سعد فضرب أعناق الرجال واسترق النشئ والذرية وقسم الأموال وذكر ابن إسحاق أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب ونزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ الأوسي الأشهلي فحكم فيهم بأن يقتل الرجال ويقسم الأموال ويسبى الذراري والنساء [ (2) ] .
وقد خرج البخاري ومسلم حكم سعد في بنى قريظة من حديث شعبة عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف قال سمعت أبا سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للأنصار: قوموا إلى سيدكم، ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
__________
[ (1) ] رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد الأنصارية النجارية، ذكرها ابن حبيب في (المبايعات) ، وذكر ابن إسحاق في (السيرة النبويّة) أن بنى قريظة لما حكم فيهم سعد ابن معاذ حبسوا في دار رملة بنت الحارث، امرأة من الأنصار من بني النجار.
قال الحافظ في (الإصابة) : وتكرر في السيرة، وأما الواقدي فيقول: رملة بنت الحدث، بفتح الدال المهملة بغير ألف قبلها.
وقال ابن سعد في (الطبقات) : رملة بنت الحارث، وهو الحارث بن ثعلبة بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، تكنى أم ثابت، وأمها كبشة بنت ثابت بن النعمان ابن حرام، وزوجها معاذ بن الحارث بن رفاعة. لها ترجمة في (الإصابة) : 7/ 651، ترجمة رقم (11183) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 327.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 195.(9/257)
قضيت بحكم اللَّه، وربما قال: قضيت بحكم الملك، ولم يذكر محمد بن المثنى من رواية مسلم [ (1) ] : وربما قال قضيت بحكم الملك، وذكر من رواية عبد الرحمن ابن مهدي عن شعبة بهذا الإسناد، وقال في حديثه: وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد حكمت بحكم اللَّه. وقال مرة: حكمت بحكم الملك. وكرره البخاري في [الاستئذان] ، وفي كتاب الجهاد، وفي كتاب المناقب، وغير ذلك مطولا، ومختصرا، وذكره مسلم من عدة طرق [ (2) ] .
وذكر الواقدي: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قام في المسلمين، فأثنى على اللَّه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فكيف ترون يا معشر المسلمين في هؤلاء الذين استنفروا إليّ من أطاعهم ليصدون عن المسجد الحرام؟ أترون أن نمضي لوجهنا إلى البيت فمن صدنا عنهم قاتلناه، أم ترون أن نخلف هؤلاء الذين استنفروا لنا إلى أهليهم فنصيبهم؟ فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنق يقطعها اللَّه، وأن قعدوا قعدوا محزونين موتورين!.
فقام أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: اللَّه ورسوله اعلم! نرى يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نمضي لوجهنا فمن صدنا عن البيت قاتلناه. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإن خيل قريش فيها خالد بن الوليد بالغميم.
فقال أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فلم أر أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت مشاورته أصحابه في الحرب فقط. قال: فقام المقداد ابن عمرو فقال: يا رسول اللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
__________
[ (1) ] (شرح مسلم للنووي) : 12/ 339، كتاب الجهاد باب (22) جواز قتال من نقض العهد حديث رقم (65) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 203، كتاب الجهاد، باب (168) إذا نزل العدو، على حكم رجل، حديث رقم (3043) ، وذكره في المغازي، باب مرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب، وفي فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب مناقب سعد بن معاذ، وفي الاستئذان، باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: قوموا إلى سيدكم، ومسلم في الجهاد، باب جواز قتل من نقض العهد، حديث رقم (1768) ، وأبو داود في الأدب، باب ما جاء في القيام، حديث رقم (5215) ، (5216) .(9/258)
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (1) ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، واللَّه يا رسول اللَّه لو سرت إلى برك الغماد [ (2) ] لسرنا معك ما بقي منا رجل.
وتكلم أسيد بن حضير فقال يا رسول اللَّه نرى أن نصمد لما خرجنا له فمن صدّنا قاتلناه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنا لم نخرج لقتال أحد إنما خرجنا عمار.
ولقيه بديل بن ورقاء في نفر من أصحابه فقال يا محمد لقد اغتررت بقتال قومك جلابيب العرب، واللَّه ما أرى معك أحد له وجه، مع أنى أراكم قوما لا سلاح معكم، قال أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه:
عضضت بظر اللات! قال بديل: أما واللَّه لولا يد لك عندي لأجبتك، فو اللَّه ما أتهم أنا ولا قومي ألا أكون أحب أن يظهر محمد! إني رأيت قريشا مقاتلتك عن ذراريها وأموالها، قد خرجوا إلى بلدح فضربوا الأبنية، معهم العوذ المطافيل، ورادفوا على الطعام، يطعمون الجزر من جاءهم، يتقوون بهم على حربكم فر رأيك.
قال الواقدي: فلما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحديبيّة نزل بمر الظهران ثم نزل عسفان، فأرملوا [ (3) ] من الزاد، فشكى الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنهم قد بلغوا الجهد [ (4) ] من الجوع وفي الناس ظهر، وقالوا: فننحر يا رسول اللَّه، وندهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاء، فأذن لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فجاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه لا تفعل فإن يك في الناس بقية ظهر يكن أمثل، ولكن أدعهم بأزوادهم ثم ادع اللَّه فيها.
__________
[ (1) ] المائدة: 24
[ (2) ] برك الغماد: ووضع وراءه مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وفي كتاب عياض هو موضع أقاصى أرض هجر. (معجم البلدان) : 1/ 475، موضع رقم (1799) .
[ (3) ] أرمل القوم: إذا نفد زادهم.
[ (4) ] كذا في الأصل، وفي (مغازي الواقدي) : «قد بلغوا من الجوع» .(9/259)
فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقية من زاد فلينثره على الأنطاع.
قال أبو شريح [ (1) ] الكعبي: فلقد رأيت من يأتى بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتى بشيء، ويأتى بالكف من الدقيق، والكف من السويق، وذلك كله قليل.
فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليها فدعى فيها بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم،
فجاءوا بأوعيتهم.
قال أبو شريح: فأنا حاضر، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد حتى إن الرجل لأخذه ما لا [يجد له محملا [ (2) ]] .
قال الواقدي: ولما انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى منزله بعين خيبر [ (3) ] جعل مسجدا فصلى إليه من آخر الليل نافلة. فثارت راحلته تجر زمامها. فأدركت توجّه إلى الصخرة لا تريد أن تركب
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوها فإنّها مأمورة حتى بركت عند الصخرة،
فتحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الصخرة، وأمر برحله فحط، وأمر الناس بالتحول إليها، ثم ابتنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليها مسجدا. فهو مسجدهم اليوم.
فلما أصبح جاءه الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأى [تكلمنا] . فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل هو الرأى.
فقال:
__________
[ (1) ] هو أبو شريح الخزاعي ثم الكعبي، خويلد بن عمرو وقيل عمرو بن خويلد وقيل هانئ وقيل كعب بن عمرو وقيل عبد الرحمن والأول أشهر، بكعب جزم ابن نمير وأبو خيثمة وتردد هارون الجمال في خويلد وكعب قال الطيرى هو خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزى بن معاوية من بنى عدي بن عمرو بن ربيعة أسلم قبل الفتح وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 616.
[ (3) ] (معجم البلدان) : 2/ 468 الموضع المذكور في غزاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي على ناحية ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، تشتمل الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير.(9/260)
يا رسول اللَّه دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز [ (1) ] ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدى منهم، ولا أعدل منهم [وهم مرتفعون] ، علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أنى لا آمن بيتهم يدخلون في خمر [ (2) ] النخل، تحول يا رسول اللَّه إلى موضع بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم.
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نقاتلهم هذا اليوم، ودعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمد ابن مسلمة فقال: انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم، بريئا من الوباء، نأمن فيه بياتهم، فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع [ (3) ] ، ثم رجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلا فقال: وجدت لك منزلا فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: على بركة اللَّه تعالى.
وقاتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومه ذلك إلى الليل، يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها، وحشدت اليهود يومئذ،
فقال الحباب بن المنذر: لو تحولت يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا أمسينا إن شاء اللَّه تحولنا.
وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلتقطون نبلهم، ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول اللَّه، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقطع النخل ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال يا:
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن اللَّه عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجز ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنهى عن قطع النخل.
__________
[ (1) ] النزّ: ما يتحلب من الأرض من الماء.
[ (2) ] الخمر بالتحريك: كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره. (النهاية) : 1/ 320.
[ (3) ] الرجيع: واد قرب خيبر.(9/261)
قال وحدثني محمد بن يحيى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت نخلا بخيبر في النطاة مقطعة، فكان ذلك مما قطع أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة قال: قطع المسلمون في النطاة أربعمائة عذق، ولم تقطع في غير النطاة فكان محمد بن مسلمة ينظر إلى صور من كبيس [ (1) ] ، قال: أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالا ينادى: عزمة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يقطع النخل، فأمسكنا.
قال الواقدي [ (2) ] حدثني يحيى بن عبد العزيز، عن بشير بن محمد بن عبد اللَّه بن زيد قال: قدم رجل من أشجع يقال له حسيل بن نويرة، وقد كان دليل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أين يا حسيل؟ قال:
قدمت من الجناب [ (3) ] . فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما وراءك؟ قال: تركت جمعا من غطفان بالجناب، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم: إما تسيروا إلينا وإما نسير إليكم. فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعا، وهم يريدونك أو بعض أطرافك.
قال: فدعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعا: ابعث بشير بن سعد، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيرا فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل ويمكنوا النهار، وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلا، فسار الليل وكمنوا
__________
[ (1) ] الصور: النخل الصغار أو المجتمع. والكبيس: ضرب من التمر. (القاموس المحيط) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 727.
[ (3) ] (معجم البلدان) : 2/ 191، والجناب موضع بعراض خيبر وسلاح ووادي القرى وقيل هو منازل بنى مازن وقال نصر الجناب من ديار بنى فزارة من الدينة وفيد.(9/262)
النهار حتى أتوا أسفل خيبر فنزلوا بسلاح [ (1) ] ، ثم خرجوا من سلاح حتى دنوا من القوم فقال لهم الدليل: بينكم وبين القوم ثلثا نهار أو ونصفه، فإن أحببتم كمنتم وخرجت طليعة آتيكم بالخبر وإن أحببتم سرنا جميعا. فقالوا: بل نقدمك، فقدموه، فغاب عنهم ساعة ثم كرّ عليهم فقال: هذا أوائل سرحهم، فهل لكم أن تغيروا عليهم؟ فاختلف أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال بعضهم: إن أغرنا الآن حذرنا الرجال والطعن. وقال أخرون: نغنم ما ظهر لنا، ثم نطلب القوم، فشجعوا على النعم، فأصابوا نعما كثيرا ملئوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء وخرجوا سراعا، ثم حذروا الجمع فتفرق الجمع وحذروا، ولحقوا بعلياء بلادهم، فخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالهم فيجدها وليس بها أحد.
فرجع بالنعم حتى إذا كانوا بسلاح راجعين لقوا عينا لعيينة فقتلوه ثم لقوا جمع عيينة وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأصاب منهم رجل أو رجلين فأسروهما أسرا، فقدموا بهما على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلما فأرسلهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الواقدي: ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى نزل قريبا من حصن الطائف فضرب عسكره هناك فحين حل وأصحابه جاءه الحباب بن المنذر فقال فأخبره، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يتحولوا. قال عمرو بن أمية إني لأنظر إلى أبى محجن يرمى من فوق الحصن ما يسقط له سهم، وكان عمرو ابن أمية الضمريّ يحدث يقول: لقد طلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا [شيء اللَّه به عليم كأنه رجل من جراد] وترسنا لهم حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، ودعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحباب فقال: انظر مكانا مرتفعا مستأخرا عن القوم فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف خارج من القرية فجاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يتحولوا. قال
__________
[ (1) ] سلاح: موضع أسفل من خيبر، وكان بشير بن سعد الأنصاري لما بعثه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى يمن وجبار في سرية للإيقاع بجمع من غطفان لقيهم بسلاح. (معجم البلدان) : 3/ 263، موضع رقم (6510) .(9/263)
عمرو بن أمية إني لأنظر إلى أبى محجن يرمى من فوق الحصن بعشرته بمعابل كأنها الرماح، ما يسقط له سهم قالوا: وارتفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند مسجد أهل الطائف اليوم.
قال الواقدي [ (1) ] في غزوة تبوك: وكان هرقل قد بعث رجلا من غسّان إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فينظر إلى صفته وإلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، ثم وإلى خاتم النبوة بين كتفيى، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم انصرف إلى هرقل فذكر له ذلك له، فدعى قومه إلى التصديق به، فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف.
وكان الّذي خبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام باطلا ولم يرد ذلك ولم يهم به.
وشاور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه في التقدم، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: إن كنت أمرت بالمسير فسر، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو أمرت به ما استشرتكم فيه،
قال: يا رسول اللَّه فإن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث اللَّه لك في ذلك أمرا.
قال الواقدي [ (2) ] : فلما أجمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسيرة من تبوك أرمل الناس إرمالا شديدا فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فياكلوها، فأذن لهم فلقيهم عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها، ثم دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في خيمة له فقال: أذنت الناس في نحر حمولتهم يأكلونها؟
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شكوا إلى ما بلغ منهم الجوع فأذنت لهم،
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1018.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1037- 1039.(9/264)
بنحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهرهم، وهم قافلون إلى أهليهم.
فقال: يا رسول اللَّه، لا تفعل، فإن يكن للناس فضل من ظهرهم يكن خيرا، فالظهر اليوم رقاق، ولكن أدع بفضل أزوادهم ثم اجمعها فادع اللَّه فيها بالبركة كما فعلت في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرمنا، فإن اللَّه عز وجل يستجيب لك، فنادى منادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كان عنده فضل من زاد فليأت به، وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتى بالمد الدقيق والسويق والتمر، والقبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق [ (1) ] حزرا، ثم قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتوضأ وصلّى ركعتين، ثم دعا اللَّه عز وجل أن يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدثون جميعا حديثا واحدا، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو زرعة الجهنيّ معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
قالوا ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونادى مناديه: هلموا إلى الطعام خذوا منه حاجتكم، فأقبل الناس فجعل كل من جاء بوعاء ملأه. فقال بعضهم لقد طرحت يومئذ كسرة من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت إحداهما سويقا والآخر خبزا، وأخذت في ثوبي دقيقا، ما كفانا إلى المدينة، فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها.
فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنى عبده ورسوله وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وقاه اللَّه حر النار.
وكان الذين رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى رأيهم الحباب بن المنذر بن
__________
[ (1) ] الأفراق: جمع فرق، وهو مكيال المدينة يسع ثلاثة آصع، أو يسع ستة عشر رطلا، أو أربعة أرباع. والحرز: التقدير والخرص. (القاموس المحيط) .(9/265)
الجموح، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأبو بكر، عمر، وسلمان فإنه أشار بحفر الخندق ولم تكن العرب تخندق عليها، وأشار أيضا بعمل المنجنيق.
قال الواقدي [ (1) ] عن عبد الحميد عن سليم بن يسار: أن سلمان الفارسي أشار بنصب المنجنيق على الطائف فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعملوا ثم نصبه. على حصن الطائف.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 927.(9/266)
فصل في ذكر ما كان يقوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا
خرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا قال: اللَّهمّ أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل.
وخرجه أبو داود [ (2) ] والترمذي [ (3) ] بهذا السند ولفظهما: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا قال: اللَّهمّ أنت عضدي وأنت نصيرى، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل،
وذكر أبو داود وأبو بكر البزار هذا الحديث [وقال] : لا يعلم رواه عن قتادة عن أنس إلا المثنى بن سعيد.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 30 حديث رقم (12498) ، ولفظه: إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه عز وجل يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قال وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا قال: اللَّهمّ ... فذكره.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 97، كتاب الجهاد باب (99) ما يدعى عند اللقاء حديث رقم (2623) ، قوله: أحول، معناه أحتال، قال ابن الأنباري: الحول معناه في كلام العرب الحيلة، يقال: ما للرجل حولة وما له محالة، قال: ومنه قولك: لا حول ولا قوة إلا باللَّه. أي لا حيلة في دفع سوء، ولا قوة في درك خير إلا باللَّه، وفيه وجه آخر وهو أن يكون معناه المنع والدفع، من قولك: حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الآخر، يقول: لا أمنع ولا أدفع إلا بك. (معالم السنن) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 534، كتاب الدعوات باب (122) في الدعاء إذا غزا حديث رقم (3584) ، وأخرجه النسائي في (الكبرى) ، و (عمل اليوم والليلة) : 188، باب الاستنصار عند اللقاء.(9/267)
فصل في ذكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها
خرج البخاري [ (1) ] من حديث ابن شهاب قال: أخبرنى عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- وكان قائد كعب من بنيه- قال: سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لم يكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها. حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل غزو عدو كثير، فجلّى للمسلمين أمره ليتأهّبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الّذي يريد.
وخرجه مسلم [ (2) ] من حديث ابن شهاب. وذكراه مطويا في كتاب التوبة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 139- 140 كتاب الجهاد والسير، باب (103) من أراد غزوة فوري بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس، حديث رقم (2947) ، (2948) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 94، كتاب التوبة، باب (9) حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، حديث رقم (2769) .(9/268)
فصل في وقت إغارة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري [ (1) ] من حديث حميد الطويل عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى خيبر ليلا- وكان إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد واللَّه، محمد والخميس. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
ذكره في كتاب الصلاة في باب ما يحقن بالأذان من الدماء. وذكره في كتاب المغازي، ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى خيبر ليلا وكان إذا أتى قوما بليل لم يغزهم حتى يصبح فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم فلما
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 593- 594 كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر حديث رقم (4197) ، قوله: «أتى خيبر ليلا» أي قرب منها، وذكر ابن إسحاق أنه نزل بواد يقال له الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانوا حلفاءهم، قال: فبلغني أن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر، فسمعوا حسا خلفهم فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، فرجعوا فأقاموا وخذلوا أهل خيبر.
قوله: «لم يغز بهم حتى يصبح» كذا للكثر من الإغارة، ولأبى ذر عن المستملي «لم يقربهم»
بفتح أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة، فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار، قال: فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب.
وحكى الواقدي أن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كل يوم متسلحين مستعدين فلا يرون أحدا. حتى إذا كانت الليلة التي قدم فيها المسلمون ناموا فلم تتحرك لهم دابة ولم يصح لهم ديك، وخرجوا بالمساحي طالبين مزارعهم فوجدوا المسلمين.
قوله: «بمساحيهم»
بمهملتين جمع مسحاة وهي من آلات الحرث
«ومكاتلهم»
جمع مكتل وهو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره. وعند أحمد من حديث أبى طلحة في نحو هذه القصة «حتى إذا كان عند السحر وذهب ذو الزرع إلى زرعه وذو الضرع إلى ضرعه أغار عليهم.
يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رأى آلات الهدم أخذ منه أن مدينتهم ستخرب، ويحتمل أن يكون
قال «خربت خيبر»
بطريق الوحي. ويؤيده قوله بعد ذلك:
«إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» . (فتح الباري) مختصرا.(9/269)
رأوه قالوا: محمد واللَّه والجيش فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، وذكره في غزوة خيبر من حديث محمد بن سيرين وثابت البناني، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وخرجه مسلم [ (1) ] من طرق متعددة.
وخرج مسلم [ (2) ] وابن أبى خيثمة من حديث يحيى بن سعيد، عن حماد ابن سلمة قال: أنبأنا ثابت، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلا يقول اللَّه أكبر اللَّه أكبر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خرجت من النار فنظروا فإذا هو راعى معزى.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 405، كتاب الجهاد، باب (43) غزوة خيبر، حديث رقم (1865) ،
قوله: «اللَّه أكبر خربت خيبر»
فيه استحباب التكبير عند اللقاء، قال القاضي: قيل:
تفاءل بخرابها بما رآه في أيديهم من آلات الخراب من الفؤوس والمساحي وغيرها، وقيل أخذه من اسمها، والأصح أنه أعلمه اللَّه تعالى بذلك.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»
الساحة الفناء وأصلها الفضاء بين المنازل، ففيه جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة كما
في فتح مكة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يطعن في الأصنام ويقول: جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد،
وقوله: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
قال العلماء: يكره من ذلك ما كان على ضرب الأمثال في المحاورات والمزح ولغو الحديث فيكره في كل ذلك تعظيم لكتاب اللَّه تعالى. (شرح النووي) مختصرا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 326، كتاب الصلاة، باب (6) الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، حديث رقم 382
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «خرجت من النار»
أي بالتوحيد، واحتج به في أن الأذان مشروع للمنفرد، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهبنا ومذهب غيرنا.
وفي الحديث دليل على أن الأذان يمنع الإغارة على أهل ذلك الموضع فإنه دليل على أسلمهم، وفيه أن النطق بالشهادتين يكون إسلاما وإن لم يكن باستدعاء ذلك منه وهذا هو الصواب.
(شرح النووي) : مختصرا.(9/270)
وخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث عفان فذكره وقال: حديث حسن صحيح وخرجه النسائي [ (2) ] من حديث عبد الأعلى عن سعيد، عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وخرج قاسم بن أصبغ من حديث ابن إسحاق عن حميد، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزي قوما لم يغز عليهم حتى يصبح، فذكره.
فصل في ذكر الوقت الّذي كان يقاتل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرج الإمام مسلم [ (3) ] من حديث الليث، عن أبى الزبير، عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال لم يكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى فإذا حضره ذلك أقام حتى تنسلخ.
وخرج من حديث موسى بن عقبة عن أبى النضر، عن عبد اللَّه بن معقل، عن أبى أوفى رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب ان ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس، وخرج أبو داود [ (4) ] والنسائي من حديث حماد قال أنبأنا أبو عمران الجونى عن علقمة بن عبد اللَّه المزني، عن معقل
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 102 كتاب السير، باب (3) في البيات والغارات، حديث رقم (1550) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 1/ 293، كتاب المواقيت، باب (26) التغليس في السفر، حديث رقم (546) ولفظه: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر صلاة الصبح بغلس وهو قريب منهم، فأغار عليهم وقال: اللَّه أكبر خربت خيبر مرتين، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 4/ 287، حديث رقم (14173) ، 306، حديث رقم (12303) ، وفي الأصل: «خرجه الإمام مسلم» .
[ (4) ] (سنن أبى داود) : 3/ 113، كتاب الجهاد، باب (111) في أي وقت يستحب اللقاء، حديث رقم (2655) ، وأخرجه الترمذي في السير، باب الساعة التي يستحب فيها القتال، حديث رقم (1612) ، ونسبه المنذر للنسائى.(9/271)
ابن يسار، أن النعمان- يعنى ابن مقرن-، قال: شهدت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [كان] [ (1) ] إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، [وتهب الرياح وينزل النصر] [ (2) ] .
وخرجه البخاري [ (3) ] من طريق المعتمر بن سليمان قال أنبأنا [سعيد] ابن عبيد اللَّه، قال النعمان: ربما أشهدك اللَّه مثلها مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يندمك ولم يخزك ولكنى شهدت القتال مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات.
فصل في ذكر دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على المشركين في محاربتهم
خرج البخاري [ (4) ] من حديث خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو في قبة يوم بدر: أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهمّ إن
__________
[ (1) ] زيادة من الأصل.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن أبى داود) .
[ (3) ] (فتح الباري) 6/ 317- 318، كتاب الجزية والموادعة، باب (1) الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، حديث رقم (3160) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 8/ 796، كتاب التفسير، باب (5) قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ حديث رقم (4875) ، قال الحافظ في (الفتح) : هذا الحديث من مرسلات ابن عباس لأنه لم يحضر القصة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة أن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما نزلت سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يثب في الدرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكأن ابن عباس حمل ذلك عن عمر، وكأن عكرمة حمله عن ابن عباس عن عمر، وقد أخرج مسلم من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس: حدثني عمر ببعضه.
وأخرجه في كتاب المغازي، باب (4) قول اللَّه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً-(9/272)
تشأ لا تعبد بعد اليوم. فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول اللَّه، ألححت على ربك- وهو يثب في الدرع، فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. ذكره في كتاب التفسير وفي غزوة بدر في [المغازي] بألفاظ متقاربة.
وخرجه مسلم من طرق مطولا [ (1) ] . وخرجه الترمذي كذلك والنسائي عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة، عن عبد اللَّه قال: لما التقينا يوم بدر فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلى فما رأيت ناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد لربه وهو يقول اللَّهمّ إني أنشدك وعدك وعهدك، اللَّهمّ إني أسألك ما وعدتني، اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض.
وخرج البخاري من حديث عبيدة ووكيع عن إسماعيل بن أبى خالد سمعت عبد اللَّه بن أبى أوفى يقول: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأحزاب فقال:
في كتاب الجهاد [ (2) ] ، من حديث إسماعيل بن أبى خالد أنه سمع عبد اللَّه بن أبى أوفى رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، يقول: دعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحزاب على المشركين فقال: اللَّهمّ منزل الكتاب، سريع الحساب، اللَّهمّ اهزم الأحزاب اللَّهمّ اهزمهم وزلزلهم وفي كتاب الدعاء [ (3) ] .
__________
[ () ] لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ* إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال 9- 13] ، حديث رقم (3953) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 291- 292، كتاب الجهاد والسير، باب (7) استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو حديث رقم (1743) ، مختصرا، ومطولا في باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث رقم (1763) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 131، كتاب الجهاد، باب (98) الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، حديث رقم (2933) .
[ (3) ]
(فتح الباري) : 11/ 231، (كتاب الدعوات) باب (58) ، الدعاء على المشركين، وقال ابن مسعود قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف. وقال: اللَّهمّ عليك بأبي جهل.(9/273)
وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث خالد بن عبد اللَّه عن إسماعيل بن أبى خالد عن عبد اللَّه بن أبى أوفى قال: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مثله ومن حديث وكيع بن الجراح عن إسماعيل مثل حديث خالد، غير أنه قال: هازم الأحزاب. ولم يذكر قوله: اللَّهمّ. ومن حديث ابن عيينة عن إسماعيل بهذا الإسناد وزاد ابن أبى عمر في روايته: [مجرى السحاب] .
وذكره أبو عبد اللَّه البخاري [ (2) ] في كتاب التوحيد من حديث سعفان بن عبد اللَّه عن إسماعيل بن أبى خالد عن عبد اللَّه بن أبى أوفى رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحزاب اللَّهمّ منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب وزلزلهم. وخرجه النسائي.
وخرجه البخاري [ (3) ] في كتاب الجهاد من حديث عبد اللَّه عن إسماعيل ابن أبى خالد أنه سمع عبد اللَّه بن أبى أوفى يقول: دعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحزاب على المشركين فقال: [اللَّهمّ منزل الكتاب سريع الحساب اللَّهمّ اهزمهم] .
وخرج النسائي في الجهاد من حديث معاذ بن هشام قال حدثني أبو قتادة، عن أبى بردة، عن عبد اللَّه بن قيس أن أباه حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خاف قوما قال: [اللَّهمّ إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم] ، وخرجه في كتاب (عمل اليوم والليلة) .
__________
[ () ] وقال ابن عمر: دعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة وقال: اللَّهمّ العن فلانا وفلانا، حتى أنزل اللَّه عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، حديث رقم (6392) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 291، (كتاب الجهاد والسير) ، باب (7) استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو، حديث رقم (21) ، (22) ، (23) ، ذكر في الباب دعاه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند لقاء العدو وقد اتفقوا على استحبابه.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّهمّ اهزمهم وزلزلهم»
أي أزعجهم وحركهم بالشدائد، قال أهل اللغة: الزلزال والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] سبق تخريجه.(9/274)
وقال الواقدي حدثني كثير بن زيد، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن جابر بن عبد اللَّه قال: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأحزاب في مسجد الأحزاب، يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيبت له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء، قال: فعرفنا السرور في وجهه، قال جابر:
فما نزل بى أمر غائظ مهم إلا تحينت تلك الساعة من ذلك اليوم فأدعو اللَّه عز وجل فأعرف الإجابة.
وخرجه البخاري في الأدب المفرد به بمثله، وخرجه أحمد [ (1) ] أيضا في الجهاد، وقال الواقدي: وكان بن أبى ذئب يحدث عن رجل من بنى سلمة، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الجبل الّذي عليه المسجد، فدعا ورفع يديه مدا، ثم جاءه مرة أخرى فصلى ودعا.
فصل في ذكر شعار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حروبه
خرج أبو داود [ (2) ] من حديث يزيد بن هارون، عن الحجاج عن قتادة عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان شعار المهاجرين: عبد اللَّه، وشعار الأنصار: عبد الرحمن.
والنسائي [ (3) ] من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: كنا مع أبي بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو أول من أمّره علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان شعارنا: أمت أمت، وخرجه أبو داود [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 469- 471، حديث رقم (18628) ، (18635) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 73، كتاب الجهاد، باب (78) في الرجل ينادى الشعار حديث رقم (2595) .
[ (3) ] لم أجده في (السنن) ولعله في (الكبرى) .
[ (4) ] (سنن أبى داود) : 3/ 73- 74 كتاب الجهاد، باب (78) في الرجل ينادى بالشعار، حديث رقم (2596) ولفظه: «غزونا مع أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، زمن النبي(9/275)
ولأبى داود [ (1) ] والترمذي [ (2) ] من حديث أبى إسحاق، عن المهلب بن أبي صفرة قال أخبرني من سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن بيتم فليكن شعاركم: حم لا ينصرون. وخرجه النسائي [ (3) ] وابن الجارود.
وقال الواقدي [ (4) ] : فحدثني ابن أبى حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: جعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شعار المهاجرين يوم بدر: يا بنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بنى عبد اللَّه، وشعار الأوس: يا بني عبيد اللَّه، وفي يوم أحد: أمت أمت، وفي بنى النضير: أمت أمت، وفي المريسيع: أمت أمت، وفي الخندق: حم لا ينصرون، وفي قريظة والغابة لم يسم أحدا، وفي حنين: يا منصور أمت، وفي الفتح شعار المهاجرين: بنى عبد الرحمن، ويجعل شعار الخزرج: بنى عبد اللَّه، والأوس: بنى عبد اللَّه، وفي خيبر: بنى عبد الرحمن للمهاجرين، وللخزرج: بنى عبد اللَّه، وللأوس: بنى عبيد اللَّه، وفي الطائف لم يسم أحدا.
__________
[ () ] صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان شعارنا: أمت أمت» ، وأخرجه الدارميّ في السير، باب الشعار، حديث رقم (2455) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 637، حديث رقم: (16063) ، من حديث عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: «كان شعارنا ليلة بيتنا في هوازن مع أبى بكر الصديق أمّره علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أمت أمت، وقتلت بيدي ليلتئذ سبعة أهل أبيات» .
[ (1) ] المرجع السابق من طريق أخرى وبسياقه مختلفة حديث رقم (2597) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 170، كتاب الجهاد، باب (11) ما جاء في الشعار، حديث رقم (1682) ، ونسبه المنذري للنسائى، قال المنذري: ووقع عند غيرهما «يا منصور أمت، أمت» . قيل: هو أمر بالموت، والمراد به التفاؤل بالنصر، بعد الأمر بالإماتة، مع حصول الغرض بالشعار، فإنّهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها، لأجل ظلمة الليل فيعرف بها الرجل وقفاءه. (معالم السنن) .
[ (3) ] لم أجده في (السنن) ولعله في (الكبرى) .
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 8، 71- 72.(9/276)
فصل في ذكر المغازي التي قاتل فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال الواقدي: وكان ما قاتل صلّى اللَّه عليه وسلّم تسعا: بدر القتال، يوم أحد، المريسيع، الخندق، قريظة، خيبر، الفتح، وحنين، والطائف قال: ويقال:
قد قاتل في بني النضير ولكن اللَّه جعلها له خاصة، وقاتل في غزوة تبوك، ووادي القرى منصرفة من خيبر، وقتل بعض أصحابه، وقاتل في الغابة حتى قتل محرز بن فضل، وقتل من العدو ستة.
قال الواقدي في وقعة أحد: ورمى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عن قوسه حتى صارت شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. قال قتادة بن النعمان: فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: أي رسول اللَّه، إن تحتى امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني. فأخذها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فردها فأبصرت وعادت كما كانت، فلم تضرب عليه ساعة من ليل ولا نهار، وكان يقول بعد أن أسن: هي واللَّه أقوى عينىّ! وكانت أحسنهما.
وباشر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القتال، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس، وأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له، فقال: يا رسول اللَّه، لا يبلغ الوتر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مده، يبلغ!
قال عكاشة: فو الّذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس. ثم أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قوسه، فما زال يرمى القوم، وأبو طلحة أمامهم يستره مترسا عنه، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، فأخذها قتادة بن النعمان.
قال الواقدي [ (1) ] : حدثني محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: لما كان يوم أحد أقبل أبيّ بن خلف يركض فرسه، حتى إذا دنا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اعترض له ناس من أصحابه ليقتلوه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استأخروا عنه!
فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحربته في يده فرماه بها بين سابغة البيضة
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 250.(9/277)
والدرع فطعنه هناك، فوقع أبي عن فرسه وكسر ضلع من أضلاعه واحتملوه فمات بالطريق، ونزلت فيه وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (1) ] .
فحدثني يونس بن محمد الظفري. عن عاصم بن عمر، عن عبد اللَّه ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كان أبى بن خلف قدم في فداء ابنه، وكان أسر يوم بدر، فقال: يا محمد، إن عندي فرسا لي أجلها فرقا من ذرة كل يوم، أقتلك عليها. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل- أنا أقتلك عليها إن شاء اللَّه ويقال قال ذلك بمكة فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال: أنا أقتله عليا إن شاء اللَّه.
قالوا وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، وكان يقول لأصحابه: إني أن يأتى أبىّ بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنونى به، فإذا بأبىّ يركض على فرسه، وقد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعرفه، جعل فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد، لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول اللَّه، ما كنت صانعا حين يغشاك؟ فقد جاءك، وإن شئت عطف عليه بعضنا فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ودنا أبيّ فتناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة، ثم انتقض بأصحابه كما ينتقض البعير، فتطايرنا عنه تطاير الشعارير، ولم يكن أحد يشبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جد الجد. ثم أخذ الحربة فطعنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحربة في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور، ويقول له أصحابه: أبا عامر، واللَّه ما بك بأس، ولو كان هذا الّذي بك بعين أحدنا ما ضرّه. فقال واللات والعزى لو كان هذا الّذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون! أليس قال: لأقتلنك؟ فاحتملوه وشغلهم ذلك عن طلب رسول اللَّه
__________
[ (1) ] الأنفال: 17.(9/278)
صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولحق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشّعب. ويقال: تناول الحربة من الزبير بن العوام.
وكان ابن عمر يقول: مات أبىّ بن خلف ببطن رابغ، فإنّي لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل، إذ نار تأجج، فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، هذا أبىّ بن خلف. فقلت: ألا سحقا! ويقال مات بسرف.
ويقال لما تناول الحربة من الزبير حمل أبىّ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير يحول بنفسه دون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فضرب مصعب ابن عمير وجهه، وأبصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور [ (1) ] .
فصل في ذكر ما كان للنّبيّ عليه السلام من الغنيمة
خرج أبو داود [ (2) ] من حديث سفيان عن مطرف، عن الشعبي، قال:
كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم سهم يدعي الصفيّ، إن شاء عبدا، وإن شاء أمة، وإن شاء فرسا، يختاره قبل الخمس.
ومن حديث ابن عون قال: سألت محمدا عن سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والصفي، قال: كان يضرب له بسهم من المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 250- 252، (طبقات ابن سعد) : 1/ 64.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 397- 398، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (21) ما جاء في سهم الصفىّ، حديث رقم (2991) ، قال المنذري: هذا حديث مرسل.(9/279)
ومن حديث سعيد- يعنى ابن بشير- عن قتادة، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاءه، فكانت صفية من ذلك السهم، وكان إذا لم يغز بنفسه ضرب له بسهمه ولم يخير.
ومن حديث سفيان عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان صفية من الصفي [ (1) ] .
ولأبي بكر بن أبي شيبة [ (2) ] من حديث وكيع قال: أنبأنا قرة بن خالد، عن أبي العلاء يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير قال: كنا جلوسا بهذا المسجد بالبصرة فأتى أعرابيّ معه قطعة أديم أو قطعة جراب فقال: هذا كتاب كتبه لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذته فقرأته على القوم فإذا فيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لبني زهير، إنكم إن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم الخمس من المغنم، ثم سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والصفي، فأنتم آمنون بأمان اللَّه وأمان رسول اللَّه قال: قلنا للأعرابي: من أين سمعت هذا؟ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: نعم، سمعته يقول: صوم شهر الصبر يعني رمضان أو ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر،
ثم أخذ الكتاب وانطلق مسرعا ثم قال ألا أراكم تخافون أن أكذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، واللَّه لا أحدثكم اليوم حديثا.
وخرجه أبو محمد بن الجارود من حديث وكيع عن قرة بن خالد بنحوه إلى قوله: وأمان رسوله، وبعد هذا قال: قلنا له: هل سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول شيئا؟ قال سمعته يقول صوم شهر الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحر الصدر.
قال: ثم أخذ الكتاب وانصاع مسرعا.
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) 3/ 398،: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (21) ما جاء في سهم الصفي، حديث رقم (2994) .
[ (2) ] وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 76- 77، حديث رقم (20213) ، وحديث رقم (20216) ، وأخرجه أيضا الإمام الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) 6/ 303، كتاب قسمة الفيء والغنية، باب سهم الصفي، (مجموعة الوثائق السياسة في العهد النبوي والخلافة الرشيدة) :
208- 209، وثيقة رقم 233.(9/280)
وحدثني قدامة بن موسى، عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزام، قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في خلافته أن افحص لي عن الكتيبة [أكانت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر أم كانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالصة] ، قال أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت:
إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما صالح بني أبي الحقيق جزّأ النطاة، والشق، والكتيبة، خمسة أجزاء، وكانت الكتيبة جزء منها، ثم جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمس بعرات، وأعلم في بعرة منها فجعلها للَّه. ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اجعل سهمك في الكتيبة،
فكان أول من خرج منها الّذي فيه مكتوب على الكتيبة، فكانت الكتيبة خمس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت السهمان أغفالا ليس عليها علامات، فكانت فوضى للمسلمين على ثمانية عشر سهما، قال أبو بكر: فكتبت إلى عمر ابن عبد العزيز بذلك.
وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي مالك، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: لما خرج سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان الشق والنطاة أربعة الأخماس للمسلمين فوضى.
وحدثني عبد اللَّه بن عون، عن أبي مالك الحميري، عن سعيد بن المسيب، وحدثني محمد، عن الزهري، قال: الكتيبة خمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطعم من أطعم في الكتيبة وينفق على أهله منها.
قال ابن واقد: والثبت عندنا أنها خمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يطعم من الشق والنطاة أحدا، وجعلها سهمانا للمسلمين، وكانت الكتيبة التي أطعم فيها.
وكانت الكتيبة تخرص ثمانية آلاف وسق تمر، وكان لليهود نصفها أربعة آلاف، كان يزرع في الكتيبة شعير، وكان يحصد منها ثلاثة آلاف صاع، فكان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفه، ألف وخمسمائة صاع شعير، وكان يكون فيها نوى فربما اجتمع ألف صاع، فيكون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفه، فكل هذا قد أعطى منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين من الشعير، والتمر، والنوى ثلاث مائة وسق شعير.(9/281)
أطعم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا تمرا وعشرين وسقا شعيرا. وللعباس بن عبد المطلب مائه وسق، ولفاطمة وعليّ عليهما السلام من الشعير والتمر ثلاث مائة وسق، والشعير من ذلك خمس وثمانين وسق، لفاطمة من ذلك مائتا وسق. ولأسامة بن زيد مائة وخمسون، منها أربعون شعير، وخمسون وسقا نوى، ولأم رمثة بنت عمر بنت هاشم بن المطلب خمسة أو ساق شعير، وللمقداد بن عمر خمسة عشر وسقا شعيرا.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته عن أمها، قالت: بعن طعمة المقداد بن عمرو من خيبر خمسة عشر وسقا شعيرا من معاوية بن أبى سفيان بمائة ألف درهم.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى محمد رسول اللَّه لأبى بكر بن أبى قحافة مائة وسق، ولعقيل بن أبى طالب مائة وأربعين، ولبني جعفر بن أبى طالب خمسين وسقا، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، ولأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مائة وسق، وللصلت بن مخرمة بن المطلب ثلاثين وسقا، ولأبى نبقة خمسين وسقا، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقا، وللقاسم بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقا، ومسطح بن أثاثة بن عباد وأخته هند ثلاثين وسقا، ولصفية بنت عبد المطلب أربعين وسقا، ولبحينة بنت الحارث بن عبد المطلب ثلاثين وسقا، ولضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أربعين وسقا، وللحصين، وخديجة، وهند بنت عبيدة بن الحارث مائة وسق، ولأم الحكم بنت الزبير بن عبد اللَّه ثلاثين وسقا، ولأم هانئ بنت أبى طالب أربعين وسقا، ولجمانة بنت أبى طالب ثلاثين وسقا، ولأم طالب بنت أبى طالب ثلاثين وسقا، ولقيس بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقا، ولأبى أرقم خمسين وسقا، ولعبد الرحمن بن أبى بكر أربعين وسقا، ولأبى بصرة أربعين وسقا، ولابن أبى حبيش ثلاثين وسقا، ولعبد اللَّه بن وهب وابنيه خمسين وسقا، لابنيه أربعين وسقا، ولنميلة الكلبي من بنى ليث خمسين وسقا، ولأم حبيبة بنت جحش ثلاثين وسقا، ولملكان بن عبدة ثلاثين وسقا، ولمحيصة بن مسعود ثلاثين وسقا، وأوصى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للرهاويين بطعمة من خمس(9/282)
خيبر بجادّ مائة وسق، وللداريين بجادّ مائة وسق،
وهم عشرة من الداريين قدموا من الشام إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأوصى لهم بطعمة مائة وسق: هانئ بن حبيب، والفاكه ابن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن برّ، وأخوه الطيب بن برّ، سماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه، وتميم بن أوس، ونعيم ابن أوس، ويزيد بن قيس، وعزيز بن مالك، سماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد الرحمن، وأخوه مرة بن مالك، وأوصى للأشعريين بجادّ مائة وسق [ (1) ] .
قال الواقدي: حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عتبة قال: لم يوص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بثلاثة أشياء، للداريين بجادّ مائة وسق، وللأشعريين بجادّ مائة وسق، وللرهاويين بجادّ مائة وسق، وأن ينفذ جيش أسامة بن زيد، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقد له إلى مقتل أبيه، وألا يترك بجزيرة العرب دينان.
قالوا: ثم استشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل عليه السلام في قسم خمس خيبر، فأشار عليه أن يقسمه في بنى هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد يغوث
وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال جبير ابن مطعم: لما قسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سهم ذوى القربى بخيبر من بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى دخلنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: يا رسول اللَّه، هؤلاء إخواننا من بنى المطلب لا ننكر فضلهم لمكانك الّذي وضعك اللَّه به منهم، أفرأيت إخواننا من بني المطلب، إنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، أعطيتهم وتركتنا. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام، ودخلنا معا في الشّعب، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! وشبك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصابعه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) 2/ 692- 695.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 695- 696، (فتح الباري) 6/ 300، كتاب فرض الخمس، باب (17) ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه يعطى بعض قرابته دون بعض ما قسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبني المطلب وبنى هاشم من خمس خيبر. قال عمر بن عبد العزيز: لم يعمهم بذلك ولم يخص-(9/283)
__________
[ () ] قريبا دون من أحوج إليه، وإن كان الّذي أعطى لما يشكو إليه من الحاجة، ولما مستهم في جنبه من قومهم وحلفائهم، حديث رقم (3140) ولفظه: عن عقيل عن بن شهاب عن ابن المسيب عن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: يا رسول اللَّه، أعطيت بنى عبد المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما بنى المطلب وبنى هاشم شيء واحد.
قال الليث حدثني يونس وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل.
وقال ابن إسحاق: عبد شمس وهاشم والمطلب إخوة. وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وأخرجه البخاري أيضا في كتاب المنقاب، باب (2) مناقب قريش، حديث رقم (3502) ، وأخرجه في كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر حديث رقم (4229) ، وفي حديث حجة للشافعي ومن وافقه أن سهم ذوى القربى لبني هاشم والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قريش، وعن عمر بن عبد العزيز: هم بنو هاشم خاصة، وبه قال زيد بن أرقم وطائفة من الكوفيين، وهذا الحديث يدل لإلحاق بنى المطلب بهم، وقيل هم قريش كلها لكن يعطى الإمام منهم من يراه، بهذا قال أصبغ، وهذا الحديث حجة عليه.
وفيه توهين قول من قال إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما أعطاهم بعلة الحاجة إذ لو أعطاهم بعلة الحاجة لم يخص قوما دون قوم، والحديث ظاهر في أنه أعطاهم بسبب النصرة وما أصابهم بسبب الإسلام من بقية قومهم الذين لم يسلموا، والملخص أن الآية نصت على استحقاق قربى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي متحققة في بنى عبد شمس لأنه شقيق، وفي بنى نوفل إذا لم تعتبر قرابة الأم.
واختلف الشافعية في سبب إخراجهم فقيل: العلة القرابة مع النصرة فلذلك دخل بنو هاشم وبنو عبد المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل لفقدان جزء العلة أو شرطها، وقيل:
الاستحقاق بالقرابة، ووجد ببني شمس ونوفل مانع لكونهم انحازوا عن بنى هاشم وحاربوهم.
والثالث أن القربى عام مخصوص وبينته السنة. قال ابن بطال: وفيه رد لقول الشافعيّ إن خمس الخمس يقسم بين ذوى القربى لا يفضل غنى على فقير، وأنه يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال الحافظ: ولا حجة فيه لما ذكر لا إثباتا ونفيا، وأما الأول فليس في الحديث إلا أنه قسم خمس الخمس بين بنى هاشم والمطلب ولم يتعرض لتفضيل ولا عدمه، وإذا لم يتعرض فالأصل في القسمة إذا أطلقت التسوية والتعميم، فالحديث إذا حجة للشافعي لا عليه.(9/284)
خرجه البخاري [ (1) ] من حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب عن جبير بن مطعم، ومن حديث يحيى بن بكير عن الليث عن يونس، عن ابن شهاب، وخرجه أبو داود [ (2) ] من حديث يونس وابن إسحاق عن ابن شهاب، وخرجه النسائي كذلك،
قال الواقدي: [ (3) ] وكان عبد المطلب بن ربيعة ابن الحارث يحدث قال: اجتمع العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين- لي وللفضل بن عباس- إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكلماه فأمّرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس، وأصابا ما يصيبون من المنفعة.
فبعث بى والفضل فخرجنا حتى جئنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسبقناه وانصرف إلينا من الظهر وقد وقفنا له عند حجرة زينب، فأخذ بمناكبها فقال: أخرجا ما تسران فلما دخلا عليه فكلماه فقالا: يا رسول اللَّه جئناك لتؤمّرنا على هذه الصدقات فنودي ما يودي الناس، ونصيب ما يصبون من المنفعة، فسكت ورفع رأسه إلى سقف البيت، ثم أقبل علينا فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس. ادع لي محمية بن جزء الزبيدي وأبا سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب.
فقال لمحمية: زوج هذا ابنتك- للفضل.
وقال لأبى سفيان: زوج هذا ابنتك- لعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث.
وقال لمحمية: أصدق عنهما مما عندك من الخمس. فكان ابن عباس يقول:
قد دعانا عمر إلى أن ينكح فيه أيامانا، ويخدم منه عائلنا، ويقضى منه غارمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه كله، وأبى ذلك علينا.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 70، كتاب المغازي، باب (58) السرية التي قبل نجد، حديث رقم (4338) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 179- 180، كتاب الجهاد، حديث رقم (2744) . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب (12) الأنفال، حديث رقم (1749) ، وأخرجه الإمام مالك في (الموطأ) في الجهاد.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 696- 697.(9/285)
قلت: خرجه مسلم من حديث جويرية، عن مالك عن الزهري، أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أخبره قال اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا واللَّه لو بعثنا هذين الغلامين «قالا لي والفضل بن عباس» إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكلماه فأمّرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس، وأصابا مما يصيب الناس، قال: فبينما هما في ذلك، جاء على بن أبى طالب، فوقف عليهما، فذكرا له ذلك، فقال على بن أبى طالب: لا تفعلا، فو اللَّه ما هو بفاعل، فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: واللَّه ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا، فو اللَّه لقد نلت صهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فما نفسناه عليك، قال على:
أرسلوهما، فانطلقا.
واضطجع على، قال: فلما صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: أخرجا ما تصرران، ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ هند زينب بنت جحش، قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول اللَّه أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، فجئنا لتؤمّرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدى إليك كما يؤدى الناس، ونصيب كما يصيبون.
قال: فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه، قال: ثم قال: أن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية- وكان على الخمس- ونوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، قال فجاءاه فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك- فضل بن العباس- فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك- لي- فأنكحنى، وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا. قال الزهري ولم يسمه لي [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
قوله: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد»
دليل على أنها محرمة، سواء كانت بسبب العمل، أو بسبب الفقر والمسكنة وغيرهما من الأسباب الثمانية [وهي المذكورة في الآية رقم (60) من سورة التوبة، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها(9/286)
وخرجه أيضا من حديث يونس بن زيد عن ابن شهاب عن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أخبره أن أتاه ربيعة بن الحارث وعباس بن عبد المطلب قالا لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس ائتيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وساق الحديث بنحو حديث مالك إلا ألفاظ متعددة [ (1) ] .
قال الواقدي: حدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير أن أبا بكر وعمرو وعليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم جعلوا هذين السهمين على اليتامى والمساكين. وقال بعضهم: في السلاح والعدة في سبيل اللَّه، وكانت تلك الأطعمة تؤخذ بصاع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حياته، وفي خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، حتى كان يحيى بن الحكم فزاد في الصاع سدس المد، فأعطى الناس بالصاع الّذي زاد، ثم كان أبان بن عثمان فزاد فيه فأعطاهم بذلك، وكان من مات من المطعمين أو قتل في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فإنه يرثه تلك الطعمة من ورث ماله، فلما ولي عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قبض طعمة كل من مات ولم يورثه، فقبض طعمة زيد ابن حارثة، وقبض طعمة جعفر بن أبي طالب، وكلمه فيه علي بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأبى، وقبض طعمة صفية بنت عبد المطلب، فكلمه الزبير في ذلك حتى غالظه فأبى عليه
__________
[ () ] وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وجوز بعض أصحابنا لبني هاشم ولبني المطلب العمل عليها بسهم العامل، لأنه إجارة، وهذا ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إنما هي أوساخ الناس» تنبيه على العلة في تحريمها على بنى هاشم، وبنى المطلب، وأنها لكرامتهم تنزيهم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس: أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة:
103] ، فهي كغسالة الأوساخ. (شرح النووي) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (168) .(9/287)
بردّه، فلما ألح عليه قال: أعطيك بعضه. فقال الزبير لا واللَّه، لا تخلف تمرة واحدة تحبسها عني! فأبى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه تسليمه كله إليه. فقال الزبير: لا آخذه إلا جميعا! فأبى عمر وأبى أن يردّ على المهاجرين.
وقبض طعمة فاطمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها فكلم فيها. فأبى أن يفعل. وكان يجيز لأزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما صنعنا، فماتت زينب بنت جحش في خلافته فخلى بين ورثتها وبين تلك الطعمة، وأجاز ما صنعن فيه من بيع أو هبة، وورث ذلك كل من ورثهن ولم يفعل بغيرهن. وأبى أن يجيز بيع من باع تلك الطعمة، وقال: هذا شيء لا يعرف، إذا مات المطعم بطل حقه فكيف يجوز بيعه؟ إلا أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنه أجاز ما صنعن، فلما ولي عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كلم في تلك الطعمة فرد على أسامة ولم يرد على غيره. فكلمه الزبير في طعمة صفية أمّه فأبى أن يرده وقال: أنا حاضرك حين تكلم عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وعمر يأبى عليك يقول: «خذ بعضه» ، فأنا أعطيك بعضه الّذي عرض عليك عمر، أنا أعطيك الثلثين وأحتبس الثلث، فقال الزبير: لا واللَّه، لا تمرة واحدة حتى تسلمه كله أو تحتبسه.
قال الواقدي: حدثني شعيب بن طلحة بن عبد اللَّه بن عبد بن الرحمن ابن أبى بكر، عن أبيه، قال: لما توفي أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان ولده وورثته يأخذون طعمته من خيبر مائة وسق في خلافة عمر وعثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وورثت امرأته أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية [وحبيبة] بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، فلم يزل جاريا عليهنّ حتى كان زمن بن عبد الملك أو بعده فقطع.
قال أبو عبد اللَّه: سألت إبراهيم بن جعفر عمّن أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمس خيبر فقال: لا تسأل عنه أحدا أبدا أعلم مني، كان من أعطى منه طعمة جرت عليه حتى يموت، ثم يرثه من ورثته يبيعون، ويطعمون، ويهبون،(9/288)
كان هذا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه تعالى عنهم. قلت:
ممن سمعت ذلك؟ قال من أبي وغيره من قومي.
قال أبو عبد اللَّه: فذكرت لعبد الرحمن بن عبد العزيز هذا الحديث فقال: أخبرني من أثق به أن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان يقبض تلك الطعمة إذا مات الميت [في حياة] أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وغيرهن، ثم يقول:
توفيت زينب بنت جحش في سنة عشرين في خلافة عمر فقبض طعمتها، وكلم فأبى أن يعطيها الورثة. وقال: إنما كانت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم طعمة ما كان المرء حيا، فإذا مات فلا حق لورثته. قال: فكان الأمر على ذلك في خلافة عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى توفي، ثم ولى عثمان. وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أطعم زيد بن حارثة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه طعمة من خيبر لم يكن له بها كتاب، فلما توفي زيد جعلها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأسامة بن زيد. قلت: وفأن بعض من يروي يقول كلهم أسامة بن زيد عمر وعثمان في طعمة أبيه فأبى، قال:
ما كان إلا كما أخبرتك. قال أبو عبد اللَّه: هذا الأمر [ (1) ] .
[وقال: أبو زيد عمر بن محمد بن يحيى عن الواقدي عن صالح، عن جعفر، عن المسور بن رفاعة، عن ابن كعب قال: أو صدقة في الإسلام وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمواله، قال: فقلت: لابن كعب يقولون صدقة عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أول، فقال: على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأوصى إن أصيب قاموا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقبضها رسول اللَّه فتصدق بها فهذا قبل ما تصدق عمر إنما تصدق عمر يسمع حين رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر سنة سبع من الهجرة واللَّه أعلم [ (2) ]] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 697- 699.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.(9/289)
فصل في ذكر من جعله النبي عليه السلام على مغانم حروبه
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل على مغانم حروبه غير واحد من أصحابه فجعل على المغانم يوم بدر في قول ابن إسحاق: عبد اللَّه بن كعب بن عمرو ابن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن النجار أبا الحارث. وقيل:
أبا يحيى الأنصاري المازني، وقال أبو عمر بن عبد البر: شهد بدرا وكان على غنائم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر، وشهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وكان على خمس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غيرها. كانت وفاته بالمدينة سنة ثلاثين، وصلّى عليه عثمان [ (1) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وذكر الواقدي [ (2) ] : أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل على غنائم بدر عبد اللَّه بن كعب، هذا أتم. قال: وقد قيل: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل عليها خباب بن الأرتّ [ (3) ] بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، التميمي بالنسب، الخزاعي بالولاء، الدهري بالحلف، أحد المهاجرين الأولين، جعله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أسرى بدر.
ذكر أبو محمد بن حزم بن عبد اللَّه بن عبد يغوث بن عويج بن عمرو أن زيد الأصغر الّذي ولاه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الغنائم يوم بدر. وقال ابن عبد البر
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 981.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 100.
[ (3) ] هو خباب بن الأرت، أصله عربي ولحقه سباء في الجاهلية فبيع بمكة وهو أحد السابقين وممن عذب في اللَّه تعالى وكان سادس ستة في الإسلام، وكان حدادا يصنع السيوف. وشهد بدرا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمشاهد كلها.
قال الشعبي: سأل عمر بن الخطاب خبابا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عما لقي من المشركين فقال: يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري، فنظر، فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل. قال خباب: لقد أوقدت نارا وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. روى عنه ابنه عبد اللَّه ومسروق وقيس بن أبى حازم وغيرهم. نزل الكوفة وتوفى بها سنة (37) وهو أول من دفن بظهر الكوفة من الصحابة. (أسماء الصحابة الرواة) : 100، ترجمة رقم (89) .(9/290)
كان من مهاجرة الحبشة وتأخر إقفاله منها، وأول مشاهده المريسيع واستعمله، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأخماس. وذكر مسلم [ (1) ] في كتاب الزكاة أن محمية بن جزء استعمله الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأخماس.
وقال الواقدي [ (2) ] في غزاة المريسيع: حدثني أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبى سبرة، عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن أبى الجهم، قال: أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ]
(مسلم بشرح النووي) : 7/ 186- 187، كتاب الزكاة باب (51) ترك استعمال آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصدقة، حديث رقم (168) ، ولفظه: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرنى يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل الهاشمي، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب والعباس بن عبد المطلب قالا لعبد المطلب بن ربيعة وللفضل بن عباس ائتيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وساق الحديث بنحو حديث مالك وقال فيه: فألقى عليّ رداءه ثم اضطجع عليه وقال أنا أبو حسن القرم واللَّه لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بحور ما بعثتما به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقال في الحديث: ثم قال لنا: إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولآل محمد، وقال أيضا:
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعوا لي محمية بن جزء
وهو رجل من بنى أسد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمله على الأخماس.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «ادعوا لي محمية بن جزء وهو رجل من بنى أسد» :
أما محمية فبميم مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم ميم أخرى مكسورة ثم ياء مخففة، وأما جزء فبجيم مفتوحة ثم زاي ساكنة ثم همزة، هذا هو الأصح قال القاضي: هكذا تقوله عامة الحفاظ وأهل الإتقان ومعظم الرواة، وقال عبد الغنى بن سعيد: يقال: جزي بكسر الزاى يعنى وبالياء وكذا وقع في بعض النسخ في بلادنا. قال القاضي: وقال أبو عبيد: هو عندنا جزّأ مشدد الزاى، وأما قوله: «وهو رجل من بنى أسد» ، فقال القاضي: كذا وقع والمحفوظ أنه من بنى زبيد لا من بنى أسد. (شرح النووي) .
وقال الواقدي استعمل على الأسرى شقران مولاه، واستعمل على مقسم الخمس وصهبان المسلمين محمية بن جزء الزبيدي، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الخمس من جميع المغنم، فقال يليه محمية بن جزء الزبيد. (مغازي الواقدي) : 1/ 410.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 409- 410.(9/291)
بالأسرى فتكفوا وجعلوا ناحية، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بما وجد في رحالهم من رثة [المتاع] والسلاح فجمع، وعمد إلى النعم والشاء فسيق واستعمل عليهم شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية، واستعمل على المقسم- مقسم الخمس- وسهمان المسلمين محمية بن جزء الزبيدي، فأخرج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس من جميع المغنم، فكان يليه محمية بن جزء.
[ولما نزل بنو قينقاع على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وربطوا جعل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، وأجلاهم محمد بن مسلمة الأنصاري [ (1) ] ، وقبض أموالهم [ (2) ]] .
وقال الواقدي [ (3) ] أيضا: وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبادة بن الصامت [ (4) ] أن يجليهم، فجعلت قينقاع تقول: يا أبا الوليد، من بين الأوس والخزرج- ونحن مواليك- فعلت هذا بنا؟ فقال لهم عبادة: لما حاربتم جئت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللَّه إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم. وكان عبد اللَّه ابن أبيّ ابن سلول، وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف. فقال عبد اللَّه بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذه بيدهم عندك. فذكّره مواطن
__________
[ (1) ] هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة أبو عبد اللَّه وأبو سعيد الأنصاري، ولد قبل البعثة باثنين وعشرين سنة، شهد بدرا وأحدا، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا تبوك ومات بالمدينة سنه (46) أو (47) وله (77) سنة وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف.
واستخلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة في بعض غزواته.. واستعمله عمر على صدقات جهينة.
(أسماء الصحابة الرواة) : 134 ترجمة (140) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) فقط.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 179- 180.
[ (4) ] هو عبادة بن الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري، الخزرجي، توفى سنة (34) بالرملة، عاش (45) سنه. من مناقبه: نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] . لما تبرأ من حلفه من بنى قينقاع لما خانوا المسلمين في غزوة الخندق.
(أسماء الصحابة الرواة) : 51 ترجمة (20) ، (الإصابة) : 3/ 624، (الاستيعاب) : 807- 808.(9/292)
قد أبلوا فيها. فقال عبادة: أبا الحباب، تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما واللَّه إنك لمعتصم بأمر سترى غبه غدا! فقالت قينقاع: يا محمد، إن لنا دينا في الناس. قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: تعجلوا وضعوا! وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس فقال لهم: ولا ساعة من نهار، لكم ثلاث لا أزيدكم عليها!
هذا أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولو كنت أنا ما نفستكم. فلما مضت ثلاث خرج في آثارهم حتى سلكوا الشام، وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى، فأقصى، وبلغ خلف ذباب [ (1) ] ، ثم رجعوا ولحقوا بأذرعات [ (2) ] .
وولى إخراج بني النضير محمد بن مسلمة، الّذي قبض أموالهم والحلقة وكشفهم عنها.
قال الواقدي أيضا [ (3) ] : وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استعمل على أموال بني النضير- يعني التي جعلها اللَّه تعالى خاصة- أبا رافع مولاه، وربما جاءه بالباكورة منها.
وقال في بنى قريظة: فلما جهدهم الحصار ونزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بأسراهم فكتفوا رباطا، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة ونحوا ناحية، وأخرجوا النساء والذرية من الحصون وكانوا ناحية، واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليهم عبد اللَّه بن سلام.
قال الواقدي [ (4) ] : فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن أبيه، قال: لما سبى بنو قريظة النساء والذرية باع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم
__________
[ (1) ] ذباب بكسر أوله وباءين: جبل بالمدينة، له ذكر في المغازي والأخبار، ذكر ابن هشام في سيرته في غزوة تبوك: وضرب عبد اللَّه بن أبىّ مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حدة عسكره أسفل منها، نحو ذباب، فلما سار رسول اللَّه تخلف عنه عبد اللَّه بن أبىّ في من تخلف من المنافقين وأهل الريب. (معجم البلدان) : 3/ 3.
[ (2) ] أذرعات: بالفتح، ثم السكون، وكسر الراء، وعين مهملة، وألف وتاء. كأنه جمع أذرعة، جمع ذراع جمع قلة: وهو بلد في أطراف الشام، يجاور أرض البلقاء وعمان، ينسب إليه الخمر. (المرجع السابق) : 1/ 158.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 378.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 523- 524.(9/293)
من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفة وبعث طائفة، إلى نجد، وبعث طائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، يبيعهم ويشترى بهم سلاحا وخيلا.
ويقال باعهم بيعا من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فاقتسما فسهمه عثمان بمال كثير، وجعل عثمان على كل من جاء من سبيهم شيئا موفيا، فكان يوجد عند العجائز المال ولا يوجد عند الشواب، فربح عثمان مالا كثيرا- وسهم عبد الرحمن- وذلك أن عثمان صار في سهمه العجائز.
ويقال: لما قسم جعل الشواب على حدة والعجائز على حدة، ثم خير عبد الرحمن عثمان، فأخذ عثمان العجائز.
قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: كان السبي ألفا من النساء والصبيان، فأخرج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة قبل بيع المغنم، وجزّأ السبي خمسة أجزاء، فأخذ خمسا، فكان يعتق منه، ويهب منه، ويخدم منه من أراد. وكذلك صنع بما أصاب من رثتهم، قسمت قبل أن تباع، وكذلك النخل، عزل خمسة. وكل ذلك يسهم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة أجزاء ويكتب في سهم منها «للَّه» ثم يخرج السهم، فحيث صار سهمه أخذه ولم يتخير. وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، وهو الّذي قسم المغنم بين المسلمين.
حدثني عبد اللَّه بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يسهم ولا يتخيبر [ (1) ] .
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفرق بين بنى قريظة في القسم والبيع والنساء والذرية.
وذكر ابن فتحون في (الذيل على كتاب الاستيعاب) : أن صاحب المغانم يوم خيبر هو كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري، وعن ابن وهب أنه كان على المغانم يوم خيبر أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 524.(9/294)
سواد بن غنم ابن كعب بن سلمة الأنصاري [ (1) ] ، [وقيل كعب بن عمر بن تميم ابن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي] [ (2) ] .
وقال الواقدي [ (3) ] : واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الغنائم يوم خيبر فروة ابن عمرو البياضي الأنصاري. فكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النطاة، وحصون الشق، وحصون الكتيبة، لم يترك على أحد من أهل الكتيبة إلا ثوبا على ظهره من الرجال والنساء والصبيان، جمعوا أثاثا كثيرا وسلاحا كثيرا، وغنما وبقرا، وطعاما وأدما كثيرا، فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجتهم، وكان من احتاج إلى سلاح يقاتل به أخذه من صاحب المغنم، حتى فتح اللَّه عليهم فرد ذلك إلى المغنم، فلما اجتمع ذلك كله أمر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجزّى خمسة أجزاء، وكتب في سهم منها «اللَّه» وسائر السهمان أغفال، فكان أول ما خرج سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يتخير في الأخماس، ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببيع الأربعة الأخماس فيمن يزيد، فجعل فروة يبيعها فيمن يزيد،
فدعا فيها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبركة، وقال: اللَّهمّ ألق علينا النفاق!
قال فروة ابن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون علي ويتواثبون حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حينا لكثرته.
وفي مسند الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سبى يوم خيبر ستة آلاف بين امرأة وغلام فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عليها أبا سفيان بن الحارث رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] هو كعب بن عمرو الأنصاري. شهد بدرا بعد العقبة، وهو الّذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدر، وهو الّذي انتزع راية المشركين، ثم شهد صفين مع على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، يعد في أهل المدينة، ومات بها وله (55) سنة. (الاستيعاب) : 4/ 1776.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين: زيادة للسياق من (الإصابة) : 7/ 468.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 680.(9/295)
وذكر أبو محمد بن حزم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل أبا الجهم [ (1) ] عامر بن عبيد بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد اللَّه بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي على الغنائم يوم خيبر.
وذكر عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الأثير في كتاب (الكامل في التاريخ) [ (2) ] أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم خيبر أمر بالسبايا والأموال فجمعت إلى الجعرانة، وجعله عليها بديل بن ورقاء [بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى ابن ربيعة بن جرى بن عامر بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة] [ (3) ] بن ربيعة الخزاعي.
وذكر البخاري عند سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه، عن ابن إسحاق قال: حدثني إبراهيم ابن أبي عبلة، عن ابن بديل بن ورقاء، سمع أبيه يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بديلا أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى
__________
[ (1) ] كان من أعلم الناس بأنساب قريش وله صحبة، وكان يخاف للسانه، والجهامة غلظ الوجه وبه سمى الأسد جهمنا. ومنه قولهم: تجاهمنى فلان، إذا لقيني لقاء بشعا. (جمهرة النسب للكلبي) :
108، (الاشتقاق) : 104، (الاستيعاب) : 4/ 1623، ترجمة رقم (2899) .
[ (2) ] (الكامل في التاريخ) : 2/ 266، وكان ذلك في غزوة هوازن بحنين.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للنسب من (الإصابة) ، قال ابن السكن: له صحبة. سكن مكة، وفي (المغازي) عن ابن إسحاق وغيره- أن قريشا لجئوا يوم فتح مكة إلى دار بديل ابن ورقاء ودار رافع مولاه، وكان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح.
وروى البخاري في (تاريخه) والبغوي من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني إبراهيم بن أبى عبلة، عن ابن بديل بن ورقاء، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمره أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم عليه ففعل.
وروى أبو نعيم، من طريق ابن جريج، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أم الحارث بنت عياش بن أبى ربيعة، أنها رأت بديل بن ورقاء يطوف على جمل أورق يمنى يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينهاكم أن تصوموا هذه الأيام، فإنّها أيام أكل وشرب، (الإصابة) : 1/ 275- 276، ترجمة رقم: (614) ، (الاستيعاب) : 1/ 150، ترجمة رقم: (167) .(9/296)
يقدم عليه ففعل. وقال ابن إسحاق كان على المغانم يوم حنين مسعود بن عمرو [الغفاريّ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] .
وقال الواقدي: فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الجعرانة أقام يتربص أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس.
وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد غنم فضة كثيرة، أربعة آلاف أوقية، فجمعت الغنائم بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فجاء أبو سفيان بن حرب وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول اللَّه، أصبحت أكثر قريش مالا! فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال [أبو سفيان] :
أعطنى من هذا المال يا رسول اللَّه! فقال يا بلال، زن لأبى سفيان أربعين أوقية وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه! قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان:
ابني معاوية، يا رسول اللَّه! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل.
قال أبو سفيان: إنك لكريم، فداك أبي وأمي-! واللَّه لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك اللَّه خيرا! وأعطى في بنى أسد.
قال الواقدي: وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، قالا: حدثنا حكيم بن حزام قال: سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحنين مائة من الإبل فأعطانيها. ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حكيم بن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول!
قال: فكان حكيم يقول: والّذي بعثك بالحق، لا أرزأ [ (2) ] أحدا بعدك شيئا! فكان عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يدعوه إلى عطائه فيأبى يأخذه، فيقول عمر: أيها الناس، إني أشهدكم على حكيم أنى
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 129، سبايا حنين وأموالها، ثم قال: وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها. وما بين الحاصرتين زيادة للنسب من (ابن هشام) .
[ (2) ] لا أرزأ: أي لا آخذ من أحد. (النهاية) : 2/ 78.(9/297)
أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه. قال: حدثنا ابن أبى الزناد، قال: أخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك.
وفي بنى عبد الدار: النضير، وهو أخو النضر بن الحارث بن كلدة، مائة من الإبل. وفي بنى زهرة: أسيد بن حارثة حليف لهم، مائة من الإبل.
وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا، وقد رأيت عبد اللَّه بن جعفر ينكر أن يكون أخذ مخرمة في ذلك، وقال: ما سمعت أحدا من أهلي يذكر أنه أعطى شيئا، ومن بنى مخزوم:
الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل.
وأعطى في بنى جمح صفوان بن أمية مائة بعير، ويقال: إنه طاف مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء اللَّه عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه.
فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا بنى، وأشهد أنك رسول اللَّه! وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل.
وفي بنى عامر بن لؤيّ أعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمر خمسين من الإبل، وأعطى في العرب الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن بدر الفزارىّ مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل. وأعطى العباس بن مرداس السلمي أربعا من الإبل، فعاتب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في شعر قاله [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وذكر الواقدي شعر العباس بن مرداس السلمي فقال:
كانت نهابا تلافيتها ... بكرّى على القوم في الأجرع
وحثّى الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع
فأصبح نهى ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
إلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع(9/298)
فرفع أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أبياته إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للعباس: أنت الّذي تقول: «أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة» ؟ فقال أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: بأبي وأمى يا رسول اللَّه، ليس هكذا! قال، قال: كيف؟ قال: فأنشده أبو بكر كما قال عباس، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سواء ما يضرك بدأت بالأقرع أم عيينة! فقال أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: بأبي أنت وأمى، ما أنت بشاعر ولا راوية، ولا ينبغي لك [ (1) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقطعوا لسانه عنى.
فأعطوه مائة من الإبل، ويقال خمسين من الإبل، ففزع منها أناس، وقالوا: أمر بعباس يمثل به. وقد اختلف علينا فيما أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ الناس.
فحدثني عبد اللَّه بن جعفر، عن ابن أبى عون، عن سعد، عن إبراهيم ويعقوب بن عتبة، قالا: كانت العطايا فارعة من الغنائم. قال: حدثني موسى ابن إبراهيم، عن أبيه، قال: كانت من الخمس. فأثبت القولين أنها من الخمس.
__________
[ () ]
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
معاني المفردات:
- كانت: يعنى الإبل والماشية.
- النهاب: جمع نهب، وهو ما ينهب ويغنم.
- الأجرع: المكان السهل.
- العبيد: فرس عباس بن مرداس.
- أفائل: جمع أفيل، وهي الصغار من الإبل.
- ذا تدرإ: أي ذا دفع، من قولك: درأه إذا دفعه.
[ (1) ] يشر بذلك إلى قوله تعالى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ* لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [يس: 69- 70] .(9/299)
قال سعد بن أبى وقاص: يا رسول اللَّه، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمريّ! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما والّذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكنى تالفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس على ما أراه اللَّه، فأتاه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول اللَّه! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر: يا رسول اللَّه، ائذن لي أن أضرب عنقه! قال: دعه، إن له أصحابا! يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر [الرامي] في قذذه فلا يرى شيئا، ثم ينظر في نصله فلا يرى شيئا، ثم ينظر في رصافه فلا يرى شيئا، قد سبق الفرث والدم، يخرجون على فرقة من المسلمين، رأيتهم إن فيهم رجلا أسود، إحدى يديه [مثل ثدي] المرأة وكبضعة تدردر [ (1) ] .
فكان أبو سعيد يقول:
أشهد لسمعت عليا يحدث هذا الحديث [ (2) ] .
قال عبد اللَّه بن مسعود: سمعت رجلا من المنافقين يومئذ ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعطى تلك العطايا، وهو يقول: إنها العطايا ما يراد بها وجه اللَّه! قلت:
__________
[ (1) ] تدردر: أي ترجرج، تجيء وتذهب، والأصل تتدردر، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا (النهاية) 2/ 20.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 766، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام حديث رقم (3610) ، وتمامة: قال أبو سعيد: فأشهد أن سمعت هذا الحديث من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأشهد إن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي نعته. وأخرجه في الأدب باب (95) ، وفي استتابة المرتدين باب (7) ، (مسلم) في الزكاة، (148) - (156) - (157) ، و (أبو داود) : في السنة، باب (38) ، والإمام أحمد في (المسند) : 3/ 459 حديث رقم (11143) ، 3/ 473، حديث رقم (11227) ، كلاهما من مسند أبى سعيد الخدريّ.(9/300)
أما واللَّه لأبلغن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قلت. فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته، فتغير لونه حتى ندمت على ما صنعته، فوددت أنى لم أخبره، ثم قال: يرحم اللَّه أخى موسى! قد أوذى بأكثر من هذا فصبر!
وكان المتكلم بهذا معتب بن قشير العمرى. ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم، لكل رجل أربع من الإبل أو أربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنتي عشرة من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له [ (1) ] .
فصل في ذكر من كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرّج البخاري [ (2) ] من حديث ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل يقال له كركرة [فمات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو في النار،
فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها] [ (3) ] [يعنى يوم خيبر] [ (4) ] .
وخرج مسلم [ (5) ] من حديث سفيان بن عيينة، عن صالح بن كيسان، عن سليمان بن يسار، قال: قال أبو رافع: لم يأمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أنزل
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 944، وما بعدها، مختصرا.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 230، كتاب الجهاد والسير، باب (190) ، القليل من الغلول، حديث رقم (3074) ، وفي الحديث تحريم قليل الغلول وكثيرة، وقوله: «هو في النار» أي يعذب على معصية، أو المراد هو في النار إن لم يعف اللَّه عنه، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) :
2/ 950، كتاب الجهاد، باب (34) الغلول، حديث رقم (2849) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (الأصل) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) 9/ 67، كتاب الحج باب (59) استحباب النزول بالمحصب يوم النفر، والصلاة به، حديث رقم (1313) ، قال الكتاني: ترجمة في (الإصابة) لعبد اللَّه بن زيد بن عمرو بن مازن الأنصاريّ، فقال: ذكره ابن مندة وأخرجه من طريق يونس بن بكير، عن(9/301)
بالأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته، فجاء فنزل.
قال أبو بكر في رواية صالح: قال: سمعت سليمان بن يسار. وفي رواية قتيبة قال: عن أبى رافع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكان على ثقل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [في حجة الوداع واللَّه أعلم] .
فصل في ذكر من حدا [ (1) ] برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أسفاره
اعلم أنه حدا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى خيبر: عامر بن الأكوع وهو عامر بن سنان بن عبد اللَّه بن قشير الأسلمي، المعروف بابن الأكوع، عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان، ويقال أخوه. أحد من بايع تحت الشجرة [ (2) ] .
__________
[ () ] ابن إسحاق، أنه كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعقبه أبو الفتح بأن الّذي كان على الثقل عبد بن كعب بن عمرو بن عوف. وترجم لعبد اللَّه بن كعب الأنصاريّ فذكر أنه كان على ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. (التراتيب الإدارية) 1/ 351- 352، باب في ذكر صاحب الثقل متاع المسافر وحشمه.
[ (1) ] حدا الإبل، وحدا بها، يحدو حدوا وحداء، ممدود: زجرها خلفها وساقها. قال الجوهري:
الحدو سوق الإبل والغناء لها. (لسان العرب) : 14/ 168.
[ (2) ] ثبت ذكره في الصحيح من حديث سلمة في قصة خيبر، قال: فقاتل أخى عامر قتالا شديدا فارتد عليه سيفه فقتله، فقالوا: حبط عمله،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذب من قال، إنه لجاهد ومجاهد قلّ عربىّ نشأ بها مثله.
قال ابن عبد البر: قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة. حدثنا هاشم بن القاسم. حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع، قال أخبرنى أبى قال: لما خرج عمى عامر بن سنان إلى خيبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يرتجز بأصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وفيهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعل يسوق الركاب، وهو يقول:
باللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا-(9/302)
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر فسرنا ليلا، وقال البخاري: فسرنا ليلا. فقال رجل من القوم لعامر: يا ابن الأكوع، يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام ان لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع قال يرحمه اللَّه، قال رجل من القوم: وجببت يا نبي اللَّه، لولا أمتعتنا به، قال:
فأتينا خيبر فحاصرناهم، حتى أصابتنا مخمصة شديدة. ثم قال: إن اللَّه عز وجل فتحها عليكم، قال: فلما أمسى الناس مساء اليوم الّذي فتحت عليهم
__________
[ () ]
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبّت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من هذا؟ قالوا: عامر يا رسول اللَّه. قال: غفر لك ربك. وقال:
وما استغفر لإنسان قط يخصه بالاستغفار إلا استشهد. قال: فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: يا رسول اللَّه، لو متعتنا بعامر، فاستشهد يوم خيبر.
(الإصابة) : 3/ 582- 583، ترجمة رقم (4396) ، (الاستيعاب) : 2/ 785- 787، ترجمة رقم (1317) .
[ (1) ] (فتح الباري) 7/ 589، كتاب (المغازي) ، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4196) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 408- 412، كتاب الجهاد والسير، باب 43 غزوة خيبر، من طرق وبسياقات مختلفة، بنحو حديث البخاري، حديث رقم (123) .(9/303)
أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هذه النيران؟ على أي شيء يوقدون؟ فقالوا: على لحم، قال: أي لحم؟ وقال البخاري: على أي لحم قالوا: لحم حمر الإنسية، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أهريقوها، واكسروها، فقال رجل من القوم أو يهريقوها ويغسلوها؟ وقال البخاري: فقال رجل يا رسول اللَّه أو نهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك، فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه، ويرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
قال: فلما قفلوا، قال سلمة وهو آخذ بيدي: قال فلما رآني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساكتا قال: مالك؟ قلت له: فداك أبى وأمه، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال: من قاله؟ قلت: فلان وفلان، وأسيد بن حضير الأنصاريّ، فقال: كذب من قاله. إن له لأجرين، وجمع بين إصبعيه، إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله. وخالف قتيبة محمدا في الحديث في حرفين. وفي رواية ابن عباد: وألق سكينة علينا.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبى عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وذكر الحديث.
ذكره في الأدب، في باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، وفيه: فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شاحبا، فقال لي: ما لك؟
فقلت: فدى لك أبي وأمي ... الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 658- 659، كتاب الأدب باب (90) ما يجوز من الشعر، والرجز، والحداء، وما يكره منه، وقوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 224- 227] ، قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون، حديث رقم (6148) . قال الحافظ: وأما الرجز فهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوع من الشعر عند الأكثر، وقيل: ليس بشعر لأنه يقال راجز، لا شاعر وسمى رجزا لتقارب أجزائه واضطراب اللسان به، ويقال: رجز(9/304)
وذكره في غزوة خيبر بهذا الإسناد إلى آخره، وقال فيه: فسرنا ليلا، وفيه: قال: على أي لحم؟ وقال: فاغفر، فداء لك ما اتقينا [ (1) ] .
__________
[ () ] البعير إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه، وأما الحداء فهو بضم الحاء وتخفيف الدال المهملتين يمد ويقصر: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداء في الغالب إنما يكون بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر وبذلك عطفه على الشعر والرجز، وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع السير إذا حدى بها.
وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا، وأورده موصولا عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض: إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه على يده فأوجعه فقال: يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء.
ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد.
وأخرجه البخاري (الأدب المفرد) أيضا من حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعا بلفظ:
الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في (الأوسط) ، وقال: لا يروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعيّ. واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر.
وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية والاقتصار على نسبة ذلك للشافعي، وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي، وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 588- 589، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4195) ، قوله: «إنه لجاهد مجاهد» كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما وكسر الهاء والتنوين، والأول مرفوع على الخبر. والثاني إتباع للتأكيد، كما قالوا: جاد مجد. وقال ابن التين:
الجاهد من يرتكب المشقة، ومجاهد أي لأعداء اللَّه تعالى. -(9/305)
وذكره في كتاب الدعاء من حديث مسدد، حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة، حدثنا سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر، قال رجل من القوم: أيا عامر لو أسمعتنا من هنيهاتك، فنزل يحدو بهم يذكر «تاللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا» وذكر شعرا غير هذا، ولكنى لم أحفظه.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع. قال: يرحمه اللَّه. فقال رجل من القوم: يا رسول اللَّه، لولا متعتنا به. فلما صافّ القوم قاتلوهم، فأصيب عامر بقائمة سيف نفسه، فمات. فلما أمسوا أوقدوا نارا كثيرة. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذه النار، على أي شيء توقدون؟ قالوا:
على حمر إنسية. فقال: أهريقوا ما فيها وكسروها. قال رجل: يا رسول اللَّه، ألا نهريق ما فيها ونغسلها؟ قال: أو ذاك [ (1) ] .
وخرّج مسلم [ (2) ] بعد حديث حاتم بن إسماعيل [ (3) ] من حديث ابن وهب قال أخبرني يونس بن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن ونسبه غير ابن وهب، فقال: ابن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن سلمة بن الأكوع قال: لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك وشكّوا فيه: رجل مات في سلاحه، وشكوا في بعض أمره، قال سلمة: فقفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر، فقلت: يا رسول اللَّه ائذن أن أرجز لك، فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: أعلم ما تقول،
قال: فقلت:
__________
[ (-) ] قوله: «قلّ عربي مشى بها مثله» كذا في هذه الرواية بالميم، والقصر من المشي، والضمير للأرض، أو المدينة، أو للحرب، أو للخصلة. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ]
(فتح الباري) : 11/ 163، كتاب الدعوات باب (19) قول اللَّه تبارك وتعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، ومن خص أخاه بدعاء دون نفسه، وقال أبو موسى: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اغفر لعبيد أبى عامر، اللَّهمّ اغفر لعبد اللَّه بن قيس ذنبه، حديث رقم (6331) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 411- 412، كتاب الجهاد والسير، باب (43) غزوة خيبر، حديث رقم (124) .
[ (3) ] حديث حاتم بن إسماعيل هو الحديث رقم (123) .(9/306)
واللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صدقت:
وأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
قال فلما قضيت وجزى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من قال هذا؟ قلت له:
أخي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحمه اللَّه، قال: فقلت: يا رسول اللَّه إن ناسا ليهابون الصلاة عليه، يقولون: رجل مات بسلاحه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
مات جاهدا مجاهدا، قال ابن شهاب: ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك، غير أنه قال حين قلت: إن ناسا يهابون الصلاة عليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبوا، مات جاهدا مجاهدا، فله أجره مرتين، وأشار بإصبعيه.
قال الواقدي [ (1) ] : فلما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى خيبر، قال لعامر بن سنان انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك، فاقتحم عامر عن راحلته ثم ارتجز برسول اللَّه وهو يقول:
واللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحمك اللَّه،
فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: وجبت واللَّه يا رسول اللَّه فقال رجل من القوم لولا متعتنا به يا رسول اللَّه! فاستشهد عامر يوم خيبر.
وخرج النسائي [ (2) ] من حديث يونس عن ابن شهاب قال: أخبرنى عبد الرحمن وعبد اللَّه ابنا كعب بن مالك، أن سلمة بن الأكوع قال: لما كان
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 638- 639.
[ (2) ] (سنن النسائي) 6/ 338- 339، كتاب الجهاد، باب (29) من قاتل في سبيل اللَّه فارتد عليه سيفه فقتله.(9/307)
يوم خيبر قاتل أخى قتال شديدا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وشكوا فيه: رجل مات بسلاحه،
قال سلمة: فقفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر، فقلت: يا رسول اللَّه أتأذن لي أن أرتجز بك؟
فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أعلم ما تقول قلت:
واللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صدقت فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا فلما قضيت رجزى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من قال هذا؟ قلت: أخى، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحمه اللَّه، فقلت: يا رسول اللَّه، واللَّه إن ناسا لا ليهابون الصلاة عليه، يقولون: رجل مات بسلاحه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مات جاهدا مجاهدا.
قال ابن شهاب: ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك، غير أنه قال حين قلت: إن ناسا ليهابون الصلاة عليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
كذبوا مات جاهدا مجاهدا، فله أجره مرتين وأشار بإصبعيه.
وذكر الواقدي [ (1) ] في مسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر: أنه قال لعبد اللَّه بن رواحة: ألا تحرك بنا الركب، فنزل عبد اللَّه عن راحلته فقال:
واللَّه لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ ارحمه،
فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: وجبت يا رسول اللَّه، قال الواقدي: قتل يوم مؤتة شهيدا.
وخرّج الترمذي [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث عبد الرزاق قال: أنبأنا جعفر ابن سليمان، حدثنا ثابت، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن النبي
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 639.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 127- 128، كتاب الأدب، باب (70) ، ما جاء في إنشاد الشعر، حديث رقم (2847) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 5/ 222،(9/308)
صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد اللَّه بن رواحة بين يديه يمشى وهو يقول: -
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي حرم اللَّه تقول الشعر؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: خل عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث أيضا عن معمر عن الزهري عن أنس نحو هذا، وروى في غير هذا الحديث أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبد اللَّه بن رواحة قتل يوم مؤتة، وإنما كانت عمرة القضاء بعد ذلك.
قلت: من قال: أن عمرة القضاء كانت بعد مؤتة، لأنه لم يكن بعد مؤتة الأصح مكة وكانت عمرة الحديبيّة وهي التي صدّ المشركون فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن البيت في ذي القعدة سنة ست وفيها صالح المشركين على أن يرجع إلى المدينة ثم يعتمر من قابل، وكان فتح مكة في رمضان في عمرة القضاء.
__________
[ () ] كتاب المناسك، باب (109) إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام، حديث رقم (2873) ، وأخرجه النسائي أيضا في باب (121) استقبال الحج، حديث رقم (2893) ، وقوله: «فقال له عمر إلخ» كأنه رأى أن الشعر مكروه فلا ينبغي أن يكون بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي حرمه تعالى ولم يلتفت إلى تقرير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لاحتمال أن يكون قلبه مشتغلا بما منعه عن الالتفات إلى الشعر.
قوله: «أسرع فيهم» أي في التأثير في قلوبهم من نضح النبل، بنون وضاد معجمة، وحاء مهملة، من الرمي بالسهم، أي فيجوز للمصلحة واللَّه تعالى أعلم. (حاشية السندي على سنن النسائي) .(9/309)
وقال موسى بن عقبة في عمرة القضاء: أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يكشفوا عن المناكب وأن يسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدكم وقوتكم فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يطوف بالبيت بين أصحابه] أهل مكة والرجال والنساء ينظرون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه وهم يطوفون.
وكان يحدو بالإبل غلام حسن الحداء يقال له أنجشة، فكانت الإبل تزيد في الحركة لحدائه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رويدك يا أنجشة رفقا بالقوارير،
يعني النساء [ (1) ] .
وإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ظلله في الحر أبو بكر وأسامة ظلله من الحر أبو بكر الصديق وأسامة بن زيد وبلال المؤذن [ (2) ] .
فخرج البخاري [ (3) ] من حديث ابن شهاب قال: فأخبرني عروة بن الزبير، فذكر حديث الهجرة وقدوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أن قال: فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بنى عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه للناس وجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار- ممن لم ير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- يحيى أبا بكر، حتى
__________
[ (1) ] كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وكان أنجشة حسن الصوت، وكان إذا حدا أسرعت الإبل، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنجشة رويدك [أي على مهل] بالقوارير [أو انى الزجاج] الواحدة قارورة شبه النساء لضعف قلوبهن بقوارير الزجاج. (التراتيب الإدارية) : 1/ 342- 343، باب في الحادي.
[ (2) ] ذكر ابن إسحاق في خبر هجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووصوله إلى المدينة وخروج الناس إليه سرعانا:
فلما زال الظل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قام إليه أبو بكر فأظله بردائه، وفي صحيح مسلم عن أم الحصين بنت إسحاق الأخمصية أو الأخمسية قالت: حجبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حجة الوداع فرأيت أسامة بن زيد وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 303- 304، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) ، هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3906) .(9/310)
أصابت الشمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقبل أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك، فلبث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بنى عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الّذي أسس على التقوى، وصلّى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم ركب راحلته، فسار يمشى معه الناس، حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة، وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مريدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء اللَّه المنزل.
ثم عاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا، بل نهيه لك يا رسول اللَّه، فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول- وهو ينقل اللبن: -
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللَّهمّ إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
فتمثل بعشر رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا- في الأحاديث- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
ذكره في آخر كتاب الكفالة، في باب جوار أبي بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعقده [ (1) ] .
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث معقل عن زيد بن أبي أنيسه عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: حججت مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 599- 600، كتاب الكفالة، باب (4) جوار أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعقده، حديث رقم (2297) .
[ (2) ]
(صحيح مسلم) : 9/ 51- كتاب الحج باب (51) استحباب رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا، وبيان قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لتأخذوا منا مناسككم، حديث رقم (311) ،
وفيه جواز تسميتها حجة الوداع، وفيه الرمي راكبا كم سبق وفيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره.(9/311)
حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشمس، قالت: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: إن أمّر عليكم عبد مجدع، حسبتها قالت: أسود يقودكم بكتاب اللَّه، فاسمعوا له وأطيعوا.
وفي لفظ [ (1) ] : حججت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة.
خرج عمر بن شبة من حديث يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد أبو مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة بنحو حديث علي بن زيد، عن القاسم بن أبي أمامة عمن رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سائرا إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال في يده عود عليه ثوب يظل به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشمس.
وخرجه الإمام أحمد [ (2) ] من حديث الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبى العاتكة، عن على بن زيد عن القاسم، عن أبى أمامة عمن رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإلى جانبه بلال فذكره.
__________
[ () ] وقال مالك وأحمد لا يجوز وإن فعل لزمته الفدية وعن أحمد رواية أنه لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيرا في المحمل لا فدية وكذا لو استظل بيده.
وعن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال: اضح لمن أحرمت له.
ورواه البيهقي بإسناد صحيح، وعن جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه. رواه البيهقي وضعفه واحتج الجمهور بحديث أم الحصين،
وهذا المذكور في مسلم ولأنه لا يسمى لبسا وأما حديث جابر فضعيف كما ذكرنا مع أنه ليس فيه نهى وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهى ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (312) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 359، حديث رقم (21802) ، من حديث أبى أمامة الباهلي.(9/312)
قال الواقدي: وقدّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن حارثة، وعبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما من الأثيل، فجاءوا يوم الأحد شد الضحى، وفارق عبد اللَّه بن زيد بالعقيق منصرفة من غزوة بدر، فجعل عبد اللَّه ينادي على راحلته: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقتل المشركين وأسرهم! قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة ابن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمر ذو الأنياب في أسرى كثيرة، ونزل آيات في ذلك، قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته فقلت:
أحق ما تقول يا ابن رواحة؟ قال: إي واللَّه، وغدا يقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن شاء اللَّه ومعه الأسرى مقرنين، ثم اتبع دور الأنصار بالعالية، فبشرهم دارا دارا، والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق! حتى انتهوا إلى بنى أمية بن زيد [ (1) ] [وعبد اللَّه بن رواحة يرجز بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متوشحا السيف وهو يقول:] [ (2) ]
[خلوا بني الكفار عن سبيله ... أنى شهدت أنه رسوله
حقا وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله [ (2) ]]
ويذهل الخليل عن خليله
ولأبي داود الطيالسي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان أنجشة يحدو بالنساء،
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) 1/ 114، من أحداث غزوة بدر الكبرى.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين مكانه في المغازي 2/ 736، من أحداث غزوة القضية، وعلى ذلك التلفيق واضح في سياق هذه الفقرة.(9/313)
وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وكان أنجشة حسن الصوت، وكان إذا حدا أعنقت الإبل [ (1) ] ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير.
وخرجه البخاري [ (2) ] من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، وأيوب عن قلابة، عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] العنق، من السير: المنبسط، والعنيق، كذلك وسير عق وعنيق: معروف، وقد اعنقت الدابة، فهي معنق، ومعناق وعنيق.
وفي حديث معاذ وأبى موسى: أنهما كانا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، في سفر ومعه أصحابه فأناخوا ليلة وتوسد كل رجل منهم بذراع راحلته، قالا: فانتبهنا ولم نر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عند راحلته فاتبعناه، فأخبرنا، عليه السّلام، أنه خير بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، وأنه اختار الشفاعة، فانطلقنا معانيق إلى الناس نبشرهم، قال شمر: قوله معانيق أي مسرعين، يقال: أعنقت إليه أعنق إعناقا.
وفي حديث أصحاب الغار: فانفرجت الصخرة فانطلقوا معانقين أي مسرعين، من عانق مثل أعنق إذا سارع وأسرع، ويروى: فانطلقوا معانيق، ورجل معنق وقوم معنقون ومعانيق، قال: والعنق ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير منبسط. مختصرا من (لسان العرب) :
10/ 273- 274.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 675، كتاب الأدب، باب (95) ما جاء في قول الرجل «ويلك» حديث رقم (6161) ، وأخرجه والحديثين بعده في كتاب الأدب باب (90) ، ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه حديث رقم (6149) ، وقال في آخره: قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بكلمات لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه، وأخرجه في باب (111) ، من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا، حديث رقم (620) ، وفيه:
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا أنجش» ،
وفي باب (116) ، المعاريض مندوحة عن الكذب، وقال إسحاق: سمعت أنس: مات ابن لأبى طلحة، فقال: كيف الغلام؟ قالت أم سليم: هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أنها صادقة، حديث رقم (6209) ، وفيه:
«أرفق يا أنجشة- ويحك- بالقوارير» ،
وحديث رقم (6210) ، وفيه: «قال أبو قلابة: القوارير يعنى النساء» ، وحديث رقم (6211) ، وفيه:
«قال قتادة: يعنى ضعفة النساء» . -(9/314)
__________
[ () ] وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (18) ، رحمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للنساء، وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن،
حديث رقم (70) ، وفيه: «يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير»
وحديث رقم (71) ، وفيه: «ويحك يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير»
وحديث رقم (72) ، وفيه: «أي أنجشة رويدا سوقك بالقوارير» ،
وحديث رقم (73) ، وفيه: «رويدا يا أنجشة لا تكسر القوارير
يعنى ضعفة النساء» .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم (يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير)
وفي رواية ويحك يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير،
وفي رواية: يا أنجشة لا تكسر القوارير
يعنى ضعفة النساء، أما أنجشة فهمزة مفتوحة وإسكان النون وبالجيم وبشين معجمة، وأما رويدك فمنصوب على الصفة بمصدر محذوف أي سق سوقا رويدا، ومعناه الأمر بالرفق بهن وسوقك منصوب بإسقاط الجار، أي أرفق في سوقك بالقوارير، قال العلماء: سمى النساء قوارير لضعف عزائمهن تشبيها بقارورة الزجاج لضعفها، وإسراع الانكسار إليها واختلف العلماء في المراد بتسميتهن قوارير على قولين: ذكرهما القاضي وغيره، أصحهما عند القاضي وآخرين وهو الّذي جزم به الهروي وصاحب (التحرير) وآخرون: أن معناه أن أنجشة كان حسن الصوت وكان يحدو بهن وينشد شيئا من القريض والرجز، وما فيه تشبيب، فلم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك، ومن أمثالهم المشهورة: الغناء رقية الزنا، قال القاضي: هذا أشبه بمقصوده صلّى اللَّه عليه وسلّم وبمقتضى اللفظ، قال: وهو الّذي يدل عليه كلام أبى قلابة المذكور في هذا الحديث في مسلم والقول الثاني: أن المراد به الرّفق في السير، لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي، واستلذته فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة، ويخاف ضررهن، وسقوطهن.
وأما «ويحك» فهكذا وقع في مسلم ووقع في غيره «ويلك» قال القاضي: قال سيبويه:
«ويل» كلمة تقال لمن وقع في هلكة، «وويح: تقال لمن أشرف على الوقوع في هلكة، وقال الفراء: «ويل وويح وويس» بمعنى، وقيل: «ويح» كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها- يعنى في عرفنا- فيرثى له، ويترحم عليه، و «ويل» ضده، قال القاضي: قال بعض أهل اللغة: لا يراد بهذه الألفاظ حقيقة الدعاء وإنما يراد بها المدح، والتعجب. -(9/315)
في سفر، وكان معه غلام له أسود يقال له أنجشة يحدو، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير.
وروى عن حماد بن زيد قال أنبأنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال كان عبد أسود يقال له أنجشة فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر وكان أنجشة يحدو، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويحك يا أنشجة رويدك سوقك بالقوارير
وكان يسوق بالنساء وكانت فيهن أم سليم.
قال أبو عمر بن عبد البر [ (1) ] : أنجشة العبد الأسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رويدا يا أنجشة، رفقا بالقوارير،
يعنى النساء.
حديثه عند أنس بن مالك، أخبرنا أحمد بن عبد اللَّه، حدثنا سلمة بن قاسم، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، وكان إذا حدا أعنقت الإبل، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير.
__________
[ () ] وفي هذه الأحاديث جواز الحداء، وهو بضم الحاء، ممدود، وجواز السفر بالنساء، واستعمال المجاز، وفيه مساعدة النساء من الرجال، ومن سماع كلامهم إلا الوعظ، ونحوه.
(شرح النووي) : 15/ 86- 88.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 35، حديث رقم (12532) ، 4/ 102، حديث رقم (12964) ، كلاهما من مسند أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأخرجه الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) : 10/ 227، كتاب الشهادات باب لا بأس باستماع الحداء ونشيد الأعراب كثر أو قل، وفيه:
«رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير» .
[ (1) ] (الاستيعاب) : 1/ 140، ترجمة أنجشة رقم (151) .(9/316)
وروى حماد بن زيد، قال حدثنا أيوب عن أبى قلابة عن أنس، قال: كان عبد أسود يقال له أنجشة، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، وكان أنجشة يحدو بهم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير،
وكان يسوق بالنساء. قال: وكانت فيهن أم سليم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] هي أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، اختلف في اسمها، فقيل: سهلة. وقيل: رميلة. وقيل: رميثة، وقيل: ملكية، ويقال: الغمصياء، أو الرميصاء، كانت تحت مالك بن النضر، أبى أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء اللَّه بالإسلام، أسلمت مع قومها، وعرضت الإسلام على زوجها، فغضب عليها، وخرج إلى الشام، فهلك هناك، ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاريّ، خطبها مشركا، فلما علم أنه لا سبيل له إليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه، فولد له منها غلام كان قد أعجب به فمات صغيرا، فأسف عليه، ويقال: إنه أبو عمير صاحب النغير.
ثم ولدت له عبد اللَّه بن أبى طلحة فبورك فيه، وهو ولد إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وروت أم سليم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث.
وكانت من عقلاء النساء، روى عنها ابنها أنس بن مالك، وروى سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس، قال: أتيت أبا طلحة وهو يضرب أمى. فقلت: تضرب هذه العجوز ... في حديث ذكره، وروى عن أم سليم أنها قالت: لقد دعا لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ما أريد زيادة.(9/317)
فصل في ذكر وزير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
الوزير [ (1) ] الّذي يحمل نعل الملك ويعينه، وقد استوزره، وهي الوزارة بكسر الواو وفتحها والكسر أعلى، وأوزره على الأمر: أعانه وقوّاه، الأصل أوزر، وقد اختلف في اشتقاق الوزير فقيل من الوزر بفتح الواو والزاي وهي الملجأ لأن الوزير يلجأ إلى رأيه، وقيل سمى وزيرا من الوزر بكسر الواو وسكون الزاي وهي النعل لأنه يحمل عن صاحبه نعله ويعينه.
قال ابن قتيبة: وما حمله الإنسان على ظهره، وآزرني فلان أعانني ووازرني صار لي وزيرا، وقال ابن جريج: وأزر الرجل الرجل موازرة أعانه، وكذلك آزره. قال: السبكي الوزير مأخوذ من أزر، وكان الأصل أزير فقيل وزير.
ومن عرف سيرة أبي بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وعمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وكيف كانا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الهوى، والعصبية، وإعراض عن تقليد الآباء والمشيخة، تبين له أنهما كانا منه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنزلة الوزيرين.
__________
[ (1) ] قال الإمام أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري: وازره على الأمر: أعانه وقواه، والأصل آزره. قال بن سيده: ومن هاهنا ذهب بعضهم إلى أن الواو في وزير بدل من الهمزة. وفي التنزيل العزيز: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، [طه: 29] ، قال: الوزير في اللغة اشتقاقه من الوزر، وكذلك وزير الخليفة معناه الّذي يعتمد على رأيه في أموره ويلتجئ إليه، وقيل لوزير السلطان: وزير لأنه يزر عن السلطان أثقال ما أسند إليه من تدبير المملكة أي يحمل ذلك. الجوهري: الوزير الموازر كالأكيل المواكل لأنه يحمل عنه وزره أي ثقله. وقد استوزر فلان، فهو يوازره الأمر ويتوزر له. وفي حديث السقيفة: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، جمع وزير وهو الّذي يوازره فيحمل عنه ما حمله من الأثقال والّذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع. ووزرت الشيء أزره وزرا أي حملته، ومنه قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. [الإسراء: 15] .(9/318)
وقد خرج أبو عيسى الترمذي [ (1) ] من حديث تليد بن سليمان عن أبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من نبي إلا له وزيران من أهل السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وأبو الجحاف واسمه داود بن أبي عوف. ويروى عن سفيان الثوري حدثنا أبو الجحاف وكان رافضيا، وتليد بن سليمان يكنى أبا إدريس وهو شيعىّ.
وخرج الحاكم [ (2) ] من حديث عطاء بن عجلان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وإنما يعرف هذا الحديث
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 576، كتاب المناقب، باب (7) مناقب أبى بكر، حديث رقم 3680، (حلية الأولياء) : 8/ 160، ترجمة وهيب بن الورد رقم (369) ، (تاريخ بغداد) : 3/ 298، ترجمة محمد بن مجيب الثقفي الكوفي رقم (1385) على الحديث رقم (6462) : في سنده محمد بن مجيب الثقفي، وهو كذاب، ومع ذلك فقد قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال الشيخ الألباني: ضعيف كما في المشكاة: (6056) ، (ضعيف الجامع الصغير) ، (55223) ، (ضعيف سنن الترمذي) : (492) ، قوله: «فأما وزيراي من أهل السماء فجبرئيل وميكائيل» فيه دلالة ظاهرة على فضله صلوات اللَّه وسلامه عليه على جبرئيل وميكائيل عليهما السلام كما أن فيه إيماء إلى تفضيل جبرئيل. «وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» فيه دلالة ظاهرة على فضلهما على غيرهما من الصحابة وهم أفضل الأمة وعلى أن أبا بكر أفضل من عمر لأن الواو وإن كان لمطلق الجمع ولكن ترتيبه في لفظه الحكيم لا بد له من أثر عظيم. قوله: «وهذا حديث حسن غريب» ، وأخرجه الحاكم وصححه وأقروه، والحكيم في (نوادره) عن ابن عباس، وغيره وابن عساكر، وأبو يعلى، وغيرهما عن أبى ذر بأسانيد ضعيفة، كذا في (التيسير) ، (تحفة الأحوذي) : 10/ 114.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 290- 291، كتاب التفسير، حديث رقم (3047) ، قال الحافظ الذهبي في (التخليص) : صحيح.(9/319)
من حديث سوار بن مصعب عن عطية العوفيّ عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن لي وزيران من أهل السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض، فأبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: ورواه عبيد بن القاسم بن سلام عن أبى معاوية عن عطية بلفظ آخر.
وخرج أيضا من حديث ربيعة بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب قال: كان أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مكان الوزير، فكان يشاوره في جميع أموره، وكان ثانية في الإسلام، وكان ثانية في الغار، وكان ثانية في العريش يوم بدر، وكان ثانية في القبر، ولم يكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقدم أحدا [ (1) ] [إلا هو هذا] [ (2) ] .
أما ما أخرجه البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث إبراهيم بن سعد قال حدثنا ابن سعد عن أبيه عن سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 66، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4409) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة في الأصل، وليست في (المستدرك) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 454، كتاب المغازي، باب (18) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ حديث رقم (4054) ، 10/ 347، كتاب اللباس، باب (24) الثياب البيض، حديث رقم (5826) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 72- 73، كتاب الفضائل، باب (10) في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، حديث رقم (46/ 3206) ، وحيث رقم (47) من أحاديث الباب ولفظه: « ... حدثنا سعد بن أبى وقاص قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن يساره رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد القتال، ما رأيتها قبل ولا بعد» .
وفي هذا الحديث بيان كرامة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على اللَّه تعالى، وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن الملائكة تقاتل، وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه به، فهذا صريح في الرد عليه.
وفيه فضيلة الثياب البيض، وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء، بل يراهم الصحابة والأولياء. -(9/320)
قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد.
ذكره البخاري في [المغازي] وأخرجه في كتاب اللباس. وأخرجه مسلم في المناقب من حديث سعد عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد قال: رأيت عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل [عليهما السلام] . لم يقل البخاري: يعني جبريل وميكائيل.
قال الواقدي: حدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه، عن عبد الواحد بن أبى عون، عن صالح بن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: لقد رأيت يوم بدر رجلين عن يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من خلفه ثم ربعهما رابع أمامه [ (1) ] . وحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه عن عبد الواحد بن أبي عون، عن زياد مولى سعد، عن سعد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: رأيت رجلين يوم بدر [يقاتلان] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدهما عن يساره والآخر عن يمينه وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة سرورا بما ظفره اللَّه تعالى [ (2) ] .
__________
[ () ] وفيه منقبة لسعد بن أبى وقاص الّذي رأى الملائكة. واللَّه تعالى أعلا وأعلم. (مسلم بشرح النووي) .
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 78
[ (2) ] (المرجع السابق) .(9/321)
فصل في ذكر صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو حذيفة بن اليمان لقب، وإنما هو عبد اللَّه حذيفة بن حسن ويقال: حسيل بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة ويقال لجروة اليمنى أيضا ابن الحارث بن قطيعة العبسيّ بن بغيض بن ريث بن غطفان العبسيّ القطيعي. حليف لبني عبد الأشهل المعروف بالصحابة بصاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، شهد أحدا، وكان من كبار الصحابة، وشهد نهاوند، فأخذ الراية بعد مقتل النعمان بن مقرن، ففتح اللَّه على يديه همذان والري والدينور في سنة اثنين وعشرين، ومات سنة ست وثلاثين على الصحيح [ (1) ] .
خرج البخاري [ (2) ] من حديث إسرائيل عن المغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: قدمت الشام وصليت ركعتين ثم قلت اللَّهمّ يسر لي جليسا صالحا، فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي. فقلت: من هذا؟
قالوا أبو الدرداء رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقلت: إني دعوت اللَّه عز وجل أن ييسر لي جليسا صالحا فيسرك لي، قال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة قال: أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟
أفيكم الّذي أجاره اللَّه يعنى من الشيطان على لسان نبيه؟ أوليس فيكم صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي لا يعلم أحد غيره؟ قال: كيف يقرأ عبد اللَّه
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 1/ 334- 2335 ترجمة رقم 492، (الإصابة) : 2/ 44- 45، ترجمة رقم (1649) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 361- 369، ترجمة رقم (76) ، (كنز العمال) :
13/ 343، (تهذيب التهذيب) : 2/ 193، ترجمة رقم (405) ، (حلية الأولياء) : 1/ 270- 283، (التاريخ الكبير) : 3/ 95، (الجرح والتعديل) : 3/ 256، (تاريخ خليفة) : 182، طبقات خليفة) : 48، 130، (طبقات ابن سعد) : 6/ 15، 7/ 317.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 113- 114، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (20) مناقب عمار وحذيفة رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (3742) .(9/322)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فقرأت عليه وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى فقال: واللَّه لقد أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فيه إلى في.
ومن حديث شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل المسجد قال: اللَّهمّ يسر لي جليسا صالحا، فجلس إلى أبي الدرداء، فقال أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال من أهل الكوفة. قال: أليس فيكم- أو منكم صاحب السر الّذي لا يعلمه غيره؟ يعنى حذيفة. قال: قلت بلى. قال أليس فيكم- أو منكم- الّذي أجاره اللَّه على لسان نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ يعنى من الشيطان، يعنى عمارا، قلت: بلى. قال: أليس فيكم- أو منكم- صاحب السواك، والوساد، أو السرار؟ قال: بلى. قال: كيف كان عبد اللَّه يقرأ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى؟ قلت: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، قال: ما زال بى هؤلاء حتى كادوا يستنزلونى عن شيء سمعته من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكرهما في مناقبهما [ (1) ] وذكر في كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 114، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (20) مناقب عمار وحذيفة، رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (3743) .
قوله: «قال: أوليس عندكم ابن أم عبد» يعنى عبد اللَّه بن مسعود، ومراد أبى الدرداء بذلك أنه فهم منهم أنهم قدموا في طلب العلم، فبين لهم أن عندهم من العلماء من لا يحتاجون معهم إلى غيرهم، ويستفاد منه أن المحدث لا يرحل عن بلده حتى يستوعب ما عند مشايخها.
قوله: «صاحب النعلين» أي نعلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان عبد اللَّه بن مسعود يحملها.
قوله: «الّذي أجاره اللَّه من الشيطان، يعنى على لسان نلبيه» زعم ابن التين أن المراد بذلك
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار
«وهو محتمل، ويحتمل أن يكون المراد بذلك حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها مرفوعا:» ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما أخرجه الترمذي.
ولأحمد من حديث ابن مسعود مثله، أخرجهما الحاكم، فكونه يختار أرشد الأمرين دائما يقتضي أنه أجير من الشيطان.(9/323)
شعبة قريبا [ (1) ] منه. وذكره أيضا في مناقب عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من حديث أبي عوانة عن مغيرة باختلاف ألفاظ [ (2) ] .
__________
[ () ] قوله: «والوساد» في رواية شعبة: «صاحب السواك- بالكاف- أو السواد بالدال، ووقع في رواية الكشميهني هنا: «الوساد» ورواية غيره أوجه. والسواد: السرار- براءين- يقال: ساودته سوادا أي ساررته سرارا، وأصله أدنى السواد، وهو الشخص من السواد.
قوله: «والمطهرة» في رواية السرخسي «والمطهر» بغير هاء، وأغرب الداوديّ فقال: معناه أنه لم يكن يملك من الجهاز غير هذه الأشياء الثلاثة، وكذا قال، وتعقب ابن التين كلامه فأصاب،
وقد روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: «إذنك عليّ أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي»
أي سراري، وهي خصوصية لابن مسعود.
قوله: «أوليس فيكم صاحب سر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي لا يعلم أحد غيره» كذا فيه بحذف المفعول، وفي رواية الكشميهني «الّذي لا يعلمه» والمراد بالسر ما أعلمه به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من أحوال المنافقين.
قوله: ثم قال كيف يقرأ عبد اللَّه" يعنى ابن مسعود، وفي هذا بيان واضح أن قراءة ابن مسعود كانت كذلك، وفي رواية إسرائيل عن مغيرة في المناقب وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بحذف وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى كذا في رواية أبى ذر، وأثبتها الباقون، ومن عداهم قرءوا وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وعليها استقر الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبى الدرداء ومن ذكر معه.
والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة على علقمة وعن ابن مسعود، وإليها تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام، حملوا القراءة عن أبى الدرداء. ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يقوى أن التلاوة بها نسخت.
(فتح الباري) : 7/ 115- 116، 8/ 917 مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 114، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب (20) مناقب عمار وحذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، حديث رقم (3743) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 128، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (27) مناقب عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه حديث رقم (3761) .(9/324)
وخرجه الترمذي من حديث قتادة عن خيثمة بن أبي سبرة قال أتيت المدينة فسألت اللَّه أن ييسر لي جليسا صالحا. [فيسر لي أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فجلست إليه فقلت له: إني سألت اللَّه إن ييسر لي جليسا صالحا] فوفقت لي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة جئت ألتمس الخير وأطلبه فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبغلته؟ وحذيفة صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمار الّذي أجاره اللَّه من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين، قال قتادة: الكتابان الإنجيل والفرقان. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [صحيح] وخيثمة هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة، إنما نسب إلى جده [ (1) ] .
وقال الحاكم في (المستدرك) : اتفق الشيخان على إخراج حديث شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد اللَّه بن يزيد عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: أخبرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما هو كائن إلى يوم القيامة فما من شيء إلا وقد سألته عنه إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة [ (2) ] .
وخرجه الحاكم من حديث إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: قال أبو إدريس [عائذ اللَّه] الخولانيّ: سمعت حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: واللَّه إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما ذاك أن يكون حدثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بها من شيء لم يحدث بها
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) 5/ 633، كتاب المناقب، باب (38) مناقب عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3811) ، وقال الحافظ في (الفتح) : تنبيه: توارد أبو هريرة في وصف المذكورين مع أبى الدرداء بما وصفهم وزاد عليه، فروى الترمذي من طريق خيثمة ابن عبد الرحمن، قال ... وذكر الحديث. (فتح الباري) : 7/ 116، تعقيبا على الحديث رقم (3743) .
[ (2) ] (المستدرك) 4/ 472، كتاب الفتن والملاحم، آخر الحديث رقم (8311) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، وقال أبو عبد اللَّه الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، فليعلم طالب هذا العلم أن حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(9/325)
غيري ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو يحدث في مجلس أنا فيه عن الفتن وهو يعد الفتن فيهن ثلاث لا تذرن شيئا منهن كهياج الصيف منها صغار ومنها كبار فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. قال: هذا حديث صحيح [ (1) ] [على شرط الشيخين ولم يخرجاه] .
وخرجه مسلم عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب قال أنبأنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب [ (2) ] .
وخرج الترمذي من حديث زائدة عن عاصم، عن زر عن حذيفة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: أخبرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما هو كائن إلى يوم القيامة فما من شيء إلا وسألته عنه إلا أنى لم أسأله عن ما يخرج أهل المدينة من المدينة.
قال: قال أبو إدريس الخولانيّ سمعت حذيفة يقول واللَّه إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة وما ذاك أن يكون حدثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيء لم يحدث به غيري، ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو يحدث في مجلس أنا فيه عن الفتن وهو يعد الفتن كذا لا يذرن شيئا منهن كرياح الصيف، ومنها صغارا ومنها كبارا، فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. قال:
هذا حديث صحيح خرجه مسلم عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب قال: أنبأنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب [ (3) ] .
وخرج الترمذي من حديث زائدة عن عاصم عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قام فينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقام خير أخبر فيه ما يكون
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 518، كتاب الفتن والملاحم، حديث رقم (8454) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 231، كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (6) ، إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما يكون إلى قيام الساعة، حديث رقم (2819) .
[ (3) ] سبق تخريجه من طرق.(9/326)
فيه إلى قيام الساعة، عقله منا من عقله، ونسيه من نسيه. قال: حديث صحيح [ (1) ] .
سلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العقبة [وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق خلفه] فبينا إذ سمع حس القوم قد غشوه فغضب وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم فجعل يضرب وجوه رواحلهم [بمحجن في يده] فانحطوا من العقبة وأقبل حذيفة فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 604، كتاب القدر، باب (4) وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، حديث رقم (6604) ولفظه: «عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لقد خطبنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيته، فأعرف كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه» .
قوله: «لقد خطبنا» في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: «قام فينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقاما» .
قوله: «إلا ذكره» ، في رواية جرير: «إلا حدث به» .
قوله: «علمه من علمه وجهله من جهله» في رواية جرير: «حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» وزاد: «قد علمه أصحابى هؤلاء» ، أي علموا وقوع ذلك المقام وما وقع من الكلام (فتح الباري) .
وقد سبق ذكر حديث مسلم من طريق أبى إدريس الخولانيّ عن حذيفة، والّذي قال في آخره: «فذهب لأولئك الرهط غيري» ، وهذا لا يناقض الأول، بل يجمع بأن يحمل على مجلسين، أو المراد بالأول أعم من المراد بالثاني. (فتح الباري) .
قال الحافظ في (الفتح) : أخرج هذا الحديث القاضي عياض في (الشفاء) من طريق أبى داود بسنده إلى قوله: «ثم إذا رآه عرفه» ، ثم قال حذيفة: «ما أدرى أنسي أصحابى أم تناسوه واللَّه ما ترك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلاثمائة إلا قد سماه لنا» . قلت: ولم أر هذه الزيادة في كتاب أبى داود، وإنما أخرجه أبو داود بسند آخر مستقل من وجه آخر عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [في أول كتاب الفتن والملاحم] باب (1) ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4240) ] ولم أجده في (سنن الترمذي) كما ذكر المقريزي عليه رحمة اللَّه.(9/327)
العقبة وترك الناس قال: يا حذيفة هل عرفت أحدا من الركب الذين ركبوا قال:
يا رسول اللَّه عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل [ (1) ] .
قال الواقدي حدثني يعقوب بن محمد عن [ربيح] بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ عن أبيه عن جده قال: كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أرادوا ثلاثة عشر رجلا قد سماهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحذيفة وعمار [ (2) ] .
وحدثني معمر بن راشد عن الزهري فقال نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن راحلته فأوحى إليه وراحلته باركة فقامت تجر زمامها حتى أمسكها حذيفة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأخذ بزمامها فاقتادها حين رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا فأناخها ثم جلس عندها حتى قام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتاه فقال: من هذا؟ قال:
أنا حذيفة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإنّي مسر إليك أمرا فلا تذكرنه: إني- نهيت أن أصلى على فلان وفلان رهط عدة من المنافقين ولا يعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكرهم لأحد غير حذيفة.
فلما توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في خلافته إذا مات الرجل ممن يظن به أنه من أولئك الرهط أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلّى عليه عمر، وإن انتزع يده وأبى أن يمشي انصرف معه.
حدثني ابن أبي سبرة عن سليمان بن أبى سحيم عن نافع بن جبير قال:
لم يخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدا إلى حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. قال الواقدي: وهم اثنا عشر رجلا ليس فيهم قرشي وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا [ (3) ] وأبو ذر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1042- 1043 مختصرا.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 1044.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1044- 1045 مختصرا.
[ (4) ] زيادة في (الأصل) .(9/328)
خرج الإمام أحمد من حديث خالد بن ذكوان حدثني أيوب بن بشير عن فلان الغبرى [الغزى ولم يقل] [ (1) ] أنه أقبل مع أبي ذر فلما رجع تقطع الناس عنه فقلت: يا أبا ذر إني سائلك [عن] [ (2) ] بعض أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن كان سرا من سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم أحدثك به قلت ليس بسر ولكن كان إذا لقي الرجل يأخذ بيده يصافحه قال على الخير سقطت لم يلقني قط إلا أخذ بيدي غير مرة واحدة وكانت تلك آخرهن أرسل إلي في مرضه الّذي توفى فيه، فوجدته مضطجعا فأكببت عليه فرفع يده فالتزمني [ (3) ] [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] .
وخرجه من حديث حماد بن سلمة قال أخبرني ابن أبى الحسين عن أيوب بن بشير بن كعب العدوي عن رجل من عتر أنه قال لأبي ذر حين سير من الشام فذكر الحديث وقال فيه: هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه منه فقال: ما لقيته قط إلا صافحني [ (4) ] [فقال أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه صاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] .
خرج البخاري في كتاب الاستئذان باب حفظ السر من حديث معتمر بن سليمان قال سمعت أبي قال سمعت أنس بن مالك [ (6) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] زيادة من (مسند أحمد) .
[ (2) ] زيادة في (الأصل) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 204، حديث رقم (20932) .
[ (4) ] (مسند أحمد) : 6/ 211، حديث رقم (20965) .
[ (5) ] زيادة في (الأصل) .
[ (6) ] (فتح الباري) : 11/ 97 كتاب الاستئذان، باب (46) حفظ السر، حديث رقم (6289) ولفظه: «سمعت أنس بن مالك أسر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سرا فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به» .
قال بعض العلماء: كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه وقال ابن بطال: الّذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه(9/329)
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث معتمر قال: وسمعت أبى يحدث عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال أسر إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سرا فما أخبرت به أحدا بعد ولقد سألتني عنه أم سليم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فما أخبرتها به.
وخرج مسلم من حديث معمر قال أنبأنا عمار قال أنبأنا ثابت عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا ألعب مع الغلمان قال فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك قلت: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجة قالت: ما حاجته قالت؟ إنها سر،
__________
[ () ] منه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزمه كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة.
قال الحافظ: الّذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت: إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك.
وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الّذي أسار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك.
ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر، حديث أنس «أحفظ سرى تكن مؤمنا» أخرجه أبو يعلى والخرائطى، وفيه على بن زيد، وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج أصله الترمذي وحسنه، ولكن لم يسق هذا المتن، بل ذكر بعض الحديث ثم قال: وفي الحديث طول.
وحديث «إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره» أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبى بكر بن حزم.
وحديث جابر رفعه «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة» . أخرجه ابن أبى شيبة، وأبو داود، والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبى يعلى. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 274، كتاب فضائل الصحابة، باب (32) من فضائل أنس ابن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (146) .(9/330)
قالت: لا تحدثن بسر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدا قال أنس: [واللَّه لو] حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت [ (1) ] .
فصل في ذكر من كان يكتب الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الوحي [ (2) ] على قسمين: متلو، وهو كتاب اللَّه تعالى الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (فصلت: 42) ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) حديث رقم (145- 2482) وسنده: حدثنا أبو بكر بن نافع، حدثنا بهز حدثنا حماد، أخبرنا ثابت عن أنس.
[ (2) ] الوحي: ما يقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة، فإن العبارة يجوز منها إلى المعنى المقصود بها، ولذا سميت عبارة، بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنّها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول، والإفهام الأول، ولا تعجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه، فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحب وحي، ألا ترى أن الوحي هو السرعة، ولا سرعة أسرع مما ذكرنا. فهذا الضرب من الكلام يسمى وحيا، ولما كان بهذه المثابة وأنه تجل ذاتي، لهذا ورد في الحديث الّذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره: أن اللَّه إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاة فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق، فينادون الحق، وهو العلى الكبير، وما سالت فالوحى: ما يسرع أثره من كلام الحق في نفس السامع، ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الإلهية فإنّها عين الوحي الإلهي في العالم وهم لا يشعرون. فافهم.
وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي بالإيمان بما يقع به الإخبار والمفطور عليه كل شيء مما لا كسب فيه من الوحي أيضا، كالمولود يلتقم ثدي أمه، ذلك من أثر الوحي الإلهي إليه كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ
. [الواقعة: 85] ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] وقال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:
68] فلولا أنها فهمت من اللَّه وحيه لما صدر منها ما صدر، ولهذا لا تصور معه المخالفة إذا كان الكلام وحيا، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم، وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا(9/331)
__________
[ () ] خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] ، ولذا فعلت ولم تخالف، والحالة تؤذن بالهلاك، ولم تخالف ولا ترددت، ولا حكمت عليها البشرية بأن هذا من أخطر الأشياء، فدل على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الّذي هو عين نفسه، قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، [ق: 16] ، حبل الوريد من ذاته، فإذا زعمت يا ولى بأن اللَّه أوحى إليك فانظر نفسك في التردد والمخالفة، فإن وجدت لذلك أثر تدبير أو تفصيل أو تفكر فلست بصاحب وحي، فإن حكم عليك وأعماك وأصمك، وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك، وأمضى حكمه فيك، فذلك هو الوحي، وأنت عند ذلك صاحب وحي، وعلمت عند ذلك أن رفعتك وعلو مرتبتك أن تلحق بمن يقول إنه دونك من حيوان أو نبات أو جماد، فإن كل شيء مفطور على العلم باللَّه إلا مجموع الإنس والجان، فإنه من حيث تفضيله منطو على العلم باللَّه كسائر ما سواهما من المخلوقات من ملك وحيوان ونبات وجماد، فما من شيء فيه من: شعر، وجلد، ولحم، وعصب، ودم، وروح، ونفس، وظفر، وناب إلا وهو عالم باللَّه، حتى ينظر ويفكر ويرجع إلى نفسه فيعلم أن له صانعا صنعه، وخالقا خلقه، فلو أسمعه اللَّه نطق جلده، أو يده، أو لسانه، أو عينه، لسمعه ناطقا بمعرفته بربه، مسبحا لجلاله، مقدسا لجماله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ. [النور: 24] . الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ، [يس: 65] ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا. فالإنسان من حيث تفصيله عالم باللَّه، ومن حيث جملته جاهل باللَّه حتى يتعلم، أي يعلم بما في تفصيله، فهو العالم الجاهل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. [السجدة: 17] .
قال أبو القاسم الأصفهاني: الوحي: الإشارة سريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمر وحىّ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو التعريض وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على كل ذلك قوله تعالى فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] . فقد قيل: رمز، وقيل: أشار، وقيل: كتب. وحمل على هذه الوجوه أيضا قوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، [الأنعام: 112] ، وقوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ، [الأنعام: 121] ، فذلك بالوسواس المشار إليه بقوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، [الناس: 4] ، ويقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن للشيطان لمة» الحديث.(9/332)
__________
[ () ] ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى [إلى] أنبيائه وأوليائه وحي، وذلك أضرب حسب ما دل عليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، [الشورى: 51] ، وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل عليه السلام للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في صورة معينة، وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السّلام كلام اللَّه تعالى، وإما بإلقاء في الروع كما ذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن روح القدس نفث في روعي» وإما بإلهام نحو قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، [القصص: 7] ، وإما بتسخير نحو قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ، وإما بمنام كما قاله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» . [أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس] . فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً، [الشورى: 51] ، وسماع الكلام من غير معانية دل عليه: مِنْ وَراءِ حِجابٍ وتبليغ جبريل عليه السّلام في صورة معنية دل عليه: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ وقوله تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، [الأنعام: 93] ، فذلك ذم لمن يدعى شيئا من أنواع ما ذكرنا من الوحي، أي نوع ادعاه من غير أن حصل له.
وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ، [الأنبياء: 25] ، فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية اللَّه تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل بل ذلك يعرف بالعقل والإلهام، كما يعرف بالسمع، فإذا القصد من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية اللَّه تعالى ووجوب عبادته.
وقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، [المائدة: 111] ، فذلك وحي بوساطة عيسى عليه السّلام. وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ، [الأنبياء: 73] فذلك وحي إلى الأمم بوساطة الأنبياء عليهم السّلام. ومن الوحي المختص بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، [الأنعام: 106] ، وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ، [يونس: 87] ، فوحيه إلى موسى بوساطة جبريل، وإلى هارون بوساطة موسى عليه السّلام. وقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، [الأنفال: 12] فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قبل.(9/333)
الأمين [ (1) ] جبريل عليه السّلام على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كتبة الوحي، فيكتبون- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، كما يمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وكانت كتابتهم لذلك في العسب، واللخاف، والأكتاف والرقاع.
والقسم الآخر من الوحي: سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودونت بعد وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان كتاب الوحي: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فإن غابا كتب أبى بن كعب، وزيد بن ثابت، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وكان أبىّ ممن كتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الوحي قبل زيد بن ثابت، وكتب معه أيضا.
وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان زيد وأبىّ يكتبان الوحي بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة، كتب من حضر من الكتاب، وهم: معاوية بن أبى سفيان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرميّ، وحنظلة بن الربيع، وكتب عبد اللَّه بن سعد بن أبى سرح الوحي، ثم ارتد [ (2) ] .
__________
[ () ] وقوله: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، [فصلت: 12] ، فإن كان الوحي إلى أهل السماء فقط فالموحى إليه محذوف ذكره كأنه قال: أوحى إلى الملائكة، لأن أهل السماء هم الملائكة ويكون كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ، وإن كان الموحى إليه هي السماوات فذلك تسخير عند من يجعل السماء غير حي، ونطق عند من يجعله حيا. وقوله:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، [الزلزلة: 5] قريب من الأول. وقوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، [طه: 114] فحث له على التثبت في السماع، وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقنه. (البصائر) : 5/ 177- 182.
[ (1) ] الشعراء: 193.
[ (2) ] قال ابن حديدة الأنصاريّ في (المصباح المضيء) : 1/ 28: وقد كتب له عدة من أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم: الخلفاء الأربعة، وعبد اللَّه بن الأرقم، ومعيقيب بن أبى فاطمة، وخالد ابن سعيد وأخوه أبان، وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن أبىّ بن سلول، وأبىّ بن كعب القارئ، ومعاوية(9/334)
فصل في ذكر خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي كان يختم به
تقدم حديث البخاري عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لن يقرءوا كتابا إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتما من فضة، ونقشه: محمد رسول اللَّه [ (1) ] .
وقال ابن بطال: عن المهلب، كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يختم به، وبه كان يختم الكتب إلى البلدان، وأخرجه يونس عن الزهري، قال: حدثني أنس أن معاذا بعث إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخاتم من اليمن من ورق فصّه حبشىّ، كتب عليه: محمد رسول اللَّه، فكان يتختم به، ويختم أبو بكر، وعمر، وعثمان، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما ست سنين من إمارته، فبينما هو على رأس بئر اريس سقط منه، فبرحت، فلم يوجد [ (2) ] .
وخرج الترمذي في (الشمائل) من حديث أبى عوانة، عن أبى بشر، عن نافع، عن ابن عمر، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اتخذ خاتما من فضة، فكان يختم به ولا يلبسه [ (3) ] .
__________
[ () ] ابن أبى سفيان بعد عام الفتح، وكتب له أيضا الزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل ابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجهيم بن الصلت، وعبد اللَّه بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن سعد ابن أبى سرح، وحنظلة بن الربيع الأسيدي، والعلاء بن الحضرميّ- ذكر معمر بن شبة في كتاب الكتاب له، فجميعهم ثلاثة وعشرون. (المصباح المضيء) : 1/ 27- 28، باب ذكر من كتب له صلّى اللَّه عليه وسلّم من الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
[ (1) ] سبق تخريج أحاديث خاتم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي كان يلبسه ويختم به كتبه ورسائله إلى الملوك والرؤساء، وكان نقشه محمد رسول اللَّه، في الجزء السابع من (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا:
7/ 34 وما بعدها في شأن فص خاتمه صلّى اللَّه عليه وسلّم وسبب اتخاذه، فليراجع هناك.
[ (2) ] سبق تخريجه وشرحه.
[ (3) ] (الشمائل المحمدية) : 88، باب (2) ما جاء في ذكر خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (89) ، وهو حديث صحيح، قال أبو عيسى: أبو بشر اسمه جعفر بن أبى وحشية، وأخرجه(9/335)
وذكر البخاري في (التاريخ) من حديث إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده معيقيب، قال: كان خاتم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديد ملوىّ عليه فضة، فربما كان في يده، وإن معيقيب يلي خاتم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ () ] أيضا النسائي في (السنن) : كتاب الزينة، باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء، حديث رقم (5218) ، وفي باب طرح الخاتم وترك لبسه، حديث رقم (5292) ، عن قتيبة بتمامه وإسناده صحيح، ورجاله رجال الشيخين، وأبو عوانة هو الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري.
[ (1) ] (التاريخ الكبير للبخاريّ) : 8/ 52- 53، حديث رقم (2123) ، وفيه: «وكان المعيقيب على خاتم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» .(9/336)
فصل في ذكر ما كان يختم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتبه
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يختم كتبه بطين، ثم يطبع بالخاتم في الطين.
قال: ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد اللَّه بن الزبير رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استكتب عبد اللَّه بن الأرقم، وكان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك- فيكتب، ويأمره أن يطينه ويختمه، وما يقرأه لأمانته عنده.
قال: إذا أردت أن تجعل على الكتاب طين، فأطن الكتاب، فتقول:
قد طنته، أطينه طينا، وهو كتاب مطين، فإذا أعدت الطين على الكتاب مرة بعد مرة، قلت: طينته بالتشديد تطيينا، فهو مطيّن.
ويقال [للذي] يجعل فيها الطين: مطينة بالكسر، والجمع مطاين [ (1) ] .
واقتدى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك الخلفاء، فوضع معاوية بن أبى سفيان ديوان الخاتم، واستعمل عليه عبد اللَّه بن محصن الحميري، فهو أول من أحدثه، وكان طين الختم في الدولة العباسية يجلب من سيراف، وهو طين أحمر، وقيل: لم تزل الكتب منشورة غير معنونة، حتى كانت قصة المسلمين. وقيل: أول من ختم الكتاب سليمان عليه السّلام، وأول من كتبها بالعربية قسّ بن ساعدة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] قال في (اللسان) والطينة: قطعة من الطين يختم بها الصك ونحوه وطنت الكتاب طينا:
جعلت عليه طينا لأختمه به. وطان: الكتاب طينا وطينه: ختمه بالطين، هذا هو المعروف وقال يعقوب: وسمعت من يقول أطن الكتاب أي اختمه وطينته خاتمه الّذي يطين به.
(لسان العرب) : 13/ 270.
[ (2) ] هو قس بن ساعدة الإيادي، سبق أن أشرنا إلى مصادر ترجمته.(9/337)
فصل في ذكر صاحب خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الّذي كان على خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي كان يختم به معيقيب ابن أبى فاطمة، مولى سعيد بن العاص، وقيل: هو دوسيّ حليف لآل سعيد ابن العاص: أسلم قديما بمكة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وقدم المدينة في السفينتين. وقيل: قبل ذلك، وكان على خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستعمله أبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على بيت المال. وكان قد نزل به داء الجذام، فعولج حتى وقف، ومات سنة أربعين وقيل: قبل ذلك [ (1) ] .
__________
[ (1) ] هو معيقيب بن أبى فاطمة مولى سعيد بن العاص، ويزعمون أنه دوسيّ حليف لآل سعيد ابن العاص، أسلم قديما بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وقدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة في السفينتين.
وكان على خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، واستعمله ابو بكر وعمر على بيت المال. ونزل به داء الجذام فعولج منه بأمر عمر بالحنظل فتوقف أمره. وهو قليل الحديث- قاله ابن عبد البر. فقلت:
روينا عنه في الصحيحين حديثا ليس له فيهما غيره عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن معيقيب
عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الرجل يسوى التراب حيث يسجد قال: إن كنت فاعلا فواحدة.
قال ابن عبد البر: عن أبى راشد مولى معيقيب قال: قلت لمعيقيب: ما لي لا أسمعك تحدث عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كما يحدث غيرك؟ فقال: أما واللَّه إني لمن أقدمهم صحبة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولكن كثرة الصمت خير من كثرة الكلام.
توفى في آخر خلافة عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. وقيل: بل توفى سنة أربعين في آخر خلافة على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
قال السهيليّ: ذكره عمر بن شبة في كتاب (الكتّاب) له. وقال عبد الكريم الحلبي:
معيقيب ابن أبى فاطمة الدوسيّ، ذكره ابن عساكر وابن الأثير وشيخنا الدمياطيّ واللَّه سبحانه وتعالى أعلم له ترجمة في (المصباح المضيء) : 1/ 186، ترجمة رقم (41) ، (طبقات ابن سعد) : 4/ 116، (طبقات خليفة) : 13 و 123، (تاريخ خليفة) : 199- 202،(9/338)
فصل في ذكر أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكتابة الجيش وقسمه العطاء فيهم وعرضهم وعرفائهم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بكتابه المسلمين فكتبوا في عصره، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يقسم الفيء بينهم، وإنما كانوا يكتبون في أوقات دون أوقات. فإذا عين صلّى اللَّه عليه وسلّم طائفة من المسلمين في بعث أو سرية كتبوا، وكذلك كان العطاء في عصره صلّى اللَّه عليه وسلّم في وقت دون وقت، من غير تعيين وقت لذلك، ولا تحديد مقدار لا يزاد عليه [ (1) ] .
واقتدى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خليفته أبو بكر الصديق [ (2) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى، فكان يعطى الناس في خلافته الأعطيات. فلما استخلف أمير
__________
[ () ] (المعارف) : 316 و 584، (الاستيعاب) : 4/ 1478- 1479، ترجمة رقم (2559) ، (سير الأعلام) : 2/ 491- 493، ترجمة رقم (102) ، (التاريخ الكبير) : 8/ 52- 53 ترجمة رقم (2123) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 186، ترجمة رقم (235) (الثقات) :
3/ 404، (الأعلام) : 7/ 274، (الجرح والتعديل) : 8/ 426، (تهذيب التهذيب) :
10/ 227- 228، ترجمة رقم (458) ، (شذرات الذهب) : 1/ 48.
[ (1) ] خرج أبو داود عن عوف بن مالك، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى صاحب الأهل حظين، وأعطى الأعزب حظا، فدعينا، وكنت قبل عمار، فدعيت، فأعطانى حظين، وكان لي أهل، ثم دعا بعدي عمار بن ياسر فأعطاه حظا واحدا. (التراتيب الادارية) :
1/ 224- فصل في ثبوت العطاء في عهده صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] وفي (الموطأ) أن أبا بكر كان إذا أعطى الناس أعطياتهم سأل الرجل: هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة؟ فإن قال: نعم، أخذ من عطائه زكاة ذلك المال، وإن قال: لا، أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا. (المرجع السابق) .(9/339)
المؤمنين عمر بن الخطاب [ (1) ] . وضع الديوان [ (2) ] . وفرض الأعطيات. ورتب الناس في الديوان على منازلهم، وقدر أعطياتهم، وذلك أن الناس كثروا
__________
[ (1) ] قال الإمام أبو يوسف في كتاب (الخراج) : لم يكن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتبة معينة للجنود الذين كانوا يتألفون من جميع أرجاء المسلمين، وإنما كانوا يأخذون مالهم في أربعة أخماس ما يغنمون، وفيما يرد من خراج الأرض التي أبقيت في أيدي أهلها كأرض خيبر، ولما ولى أبو بكر أعطى الناس وسوى بينهم في العطاء قائلا: هذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة. فلما ولى عمر، رأى في ذلك غير رأى أبى بكر، وقسم العطاء مفضلا الأسبق فالأسبق.
وفي ترجمة عمرو بن الغفواء من (طبقات ابن سعد) عنه قال: دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبى سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح فقال: التمس صاحبا، قال: فجاءني عمرو بن أمية الضمريّ، فقال: بلغني أنك تريد الخروج، وأنك تلتمس صاحبا.
قلت: أجل، قال: فأنا صاحب. قال: فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: وجدت صاحبا. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي: إذا وجدت صاحبا فآذنى. قال: فقال من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمريّ، قال:
فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره، فإنه قد قال القائل: أخوك البكريّ ولا تأمنه. (التراتيب الادارية) : 1/ 224- 225، فصلا في ثبوت العطاء في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (الاستيعاب) : 3/ 1198، ترجمة عمرو بن الغفواء رقم (1946) ، (الإصابة) : 4/ 670 ترجمة رقم (5936) .
[ (2) ] الديوان دفتر يكتب فيه أسماء أهل العطاء، والعساكر، على القبائل والبطون. وفي (النهاية) :
الديوان دفتر يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء.
ذكر أبو هلال العسكرىّ في (الأوائل) ، والماورديّ في (الأحكام السلطانية) أن أول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وفي ترجمة عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، في (تهذيب الأسماء واللغات) للنووي:
وكان عمر هو أول من دوّن الديوان للمسلمين ورتب الناس على سابقتهم في العطاء، وفي الإذن، والاكرام، فكان أهل بدر أول الناس دخولا عليه، وكان على بن أبى طالب أولهم، وأثبت أسماءهم في الديوان على قربهم من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبدأ ببني هاشم، وبنى المطلب، ثم الأقرب، فالأقرب.
وفي (صبح الأعشى) للقلقشندىّ أيضا ما نصه: هو- أي عمر- أول من رتب بيت(9/340)
__________
[ () ] المال فيما ذكره العسكرىّ، لكنه ذكر في موضع آخر أن عمر كان على بيت المال من قبل أبى بكر، فيكون أبو بكر قد سبقه إلى ذلك.
وفي ترجمة أبى بكر من (تاريخ الخلفاء) للسيوطي في فصل أولياته: ومنها أنه أول من اتخذ بيت المال، أخرج ابن سعد عن سهل بن أبى خيثمة وغيره أن أبا بكر كان له بيت مال بالسنح، ليس يحرسة أحد، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال عليه قفل، فكان يعطى ما فيه حتى يفرغ، فلما انتقل إلى المدينة حوّله فجعله في داره، فقدم عليه مال فكان يقسمه على فقراء الناس فيسوى بين الناس في القسم، وكان يشترى الإبل، والخيل، والسلاح، فيجعله في سبيل اللَّه، واشترى قطائف أتى بها من المدائن ففرقها في أرامل المدينة.
فلما توفى أبو بكر ودفن، دعا عمر الأمناء ودخل بهنم في بيت أبى بكر، منهم عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه شيئا، لا دينارا، ولا درهما.
وبهذا الأثر يرد قول أبى هلال العسكري في (الأوائل) : إن أول من اتخذ بيت المال عمر، وقد رددت عليه في كتابي الّذي صنفته في (الأوائل) ، ثم رأيت العسكري تنبه له في موضع آخر من كتابه فقال إن أول من ولى بيت المال أبو عبيدة بن الجراح لأبى بكر ويمكن الجمع بأن أبا بكر أول من اتخذ بيت المال من غير إحصاء ولا تدوين، وعمر أول من دون مثلا.
وفي (الكامل في التاريخ) لابن الأثير: وفي سنة (15) من الهجرة فرض عمر الفروض ودوّن الدواوين، وأعطى العطايا.
وفي (الأحكام السلطانية) للماوردى أقوال في السبب الّذي حمل عمر على ذلك، منها:
أن أبا هريرة قدم إليه بمال من البحرين فقال عمر: ماذا جئت به؟ قال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، وقال أتدري ما تقول؟ فقال؟ نعم مائة ألف خمس مرات، فصعد عمر المنبر، وحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلناه لكم كيلا، وإن شئتم عددناه لكم عدا، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدونون لهم ديوانا، فدون أنت ديوانا، فاستشار عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه الناس في تدوين الديوان، فقال عثمان:
أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا، حتى يعلم من أخذ ممن لم يأخذ خشية أن ينتشر الأمر. -(9/341)
__________
[ () ] فقال خالد بن الوليد قد كنت بالشام، فرأيت ملوكا لهم دواوين وجندوا أجنادا فدون ديوانا وجند جنودا، فأخذ عمر بقوله، ودعا عقيل بن أبى طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من شبان قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم.
وفي (وفيات الأسلاف) للشهاب المرجاني: وأول من وضع ديوان العساكر في الدولة الإسلامية عمر في محرم سنة عشرين، أمر عقيل بن أبى طالب، ومخرمة، وجبيرا من كتاب قريش، فكتبوا ديوان الجيش بالابتداء من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بعده على ترتيب الإنسان الأقرب فالأقرب.
وقد استظهر الخزاعي هنا وفصل، أن كتابة الناس في عصر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتدوينهم إنما كانت في أوقات مخصوصة نحو كتبهم، حين أمر حذيفة بإحصاء الناس، وكذلك العطاء في عصره عليه السّلام، لم يكن له وقت معين، ولا مقدار معين، فلما كثر الناس في خلافة عمر، وبيت الأموال وتأكدت الحاجة إلى ضبطهم، وضع الديوان بعد مشاورة الصحابة على ترتيب الأنساب الأقرب فالأقرب، على ما كان يعطيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لرؤساء قريش وصناديدهم، مثل أبى سفيان بن حرب وصفوا بن أمية، والأقرع بن حابس التميمي، وأمثالهم وذكر أن أبا بكر، وعمر، ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا، قال: فإنه روى أنه لما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جاءوا إلى أبى بكر واستبدلوا الحظ منه لسهامهم، فبدل لهم الحظ، ثم جاءوا إلى عمر، وأخبره بذلك، فأخذ الحظ من يدهم، ومزقة، وقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز اللَّه دينه، فانصرفوا إلى أبى بكر، فأخبروه بما صنع عمر، وقالوا: أنت الخليفة أم هو؟ فقال إن شاء اللَّه هو فأنكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ الصحابة فلم ينكروا، وهذا يدل على أن الناس في زمنه عليه السّلام كانوا يأخذون العطاء بالضبط والتقييد، فيدل ذلك على وقوع التدوين، وجعل قوائم للمسلمين وهذا هو الديوان بعينه فتأمل ذلك في (صبح الأعشى) ما نصه: فإن صح ذلك فتكون هذه الدواوين قد وضعت في زمانه عليه السّلام، وانظر الفصل الأول من باب كتاب الجيش، وما نقل فيه عن الحافظ في (الفتح) مما يؤول جميعه، بخلاف ما للمتأخرين في هذه الترجمة.
وفي (أحكام القرآن) لابن العربيّ: وأما ولاية الديوان فهي الكتابة، وقد كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم كتاب، وللخلفاء بعده، وهي ضبط الجيوش لمعرفة أرزاقهم، والأموال، لتحصيل فوائدها لمن يستحقها. -(9/342)
وجبيت الموال، فتأكدت الحاجة إلى ضبطهم، ولذلك اتفق أهل الأثر، وعلماء الأخبار والسير، على أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أول من وضع الديوان في الإسلام. وفرض الأعطيات. وقد أوردت من ذلك في كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) [ (1) ] . ما يكفى ويشفى، إن شاء اللَّه تعالى.
__________
[ () ] وفي (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) للتقى المقريزي: أن معاوية جعل كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول: هل ولد الليلة فيكم مولود، وهل نزل بكم نازل، فيقال: ولد للفلان غلام، ولفلان جارية، فيكتب أسماءهم ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله، فيسميه، وعياله فإذا فرغ من القبيلة أتى إلى الديوان ليثبت ذلك.
[ (1) ] أحد مؤلفات المقريزي المعروف بالخطط المقريزية، حيث وقف المقريزي حياته الخصبة على تدوين تاريخ مصر الإسلامية، وتدوين أمجادها، ومحنها، في مثابرة تثير الدهشة والإعجاب، يدفعه إلى ذلك حب مضطرم لذلك الوطن الّذي نشأ فيه، وترعرع بين ربوعه، وشهد خلال حياته طرفا من محنه وأمجاده، وسحرته معاهده ومعانيه، وصروحه وآثاره.
وأشد ما تبدر هذه القاهرة التي تطبع كتابات المقريزي، في كتابه (الخطط) ، والخطط في الواقع هي أجل ثمار هذه العاطفة المضطرمة، وما أوحت من مثابرة وجلد، وفي الخطط يبلغ المقريزي ذروة الاستيعاب والافتنان والروعة، في وصف الخطط المصرية، وخطط الفسطاط والقاهرة المعزية، نشأة كل منهما، وأحيائها، وصروحها، وتطوراتها الجغرافية، والعمرانية، ومساجدها، وقصورها، ومعاهدها، وكل ما احتوت من بذخ وبهاء وفن، ويقرن ذلك في معظم الأحيان بتاريخ الدول والشخصيات التي قامت في ظلها هذه الصروح، أو أوحت بإنشائها، ثم هو لا يقف عند النواحي التخطيطية والأثرية والفنية، ولكن يفيض في النواحي العمرانية والاقتصادية.
ولهذه المحتويات يلقى كتاب (الخطط) على تاريخ مصر السياسي، والأثري، والاجتماعي، والاقتصادى، في العصور الوسطى، أعظم أضواء اجتمعت في هذا الأثر الخالد.
وقد لبث هذا الأثر الخالد (كتاب الخطط) على كر العصور موضع التقدير والإعجاب، وما يزال إلى يومنا من أنفس المصادر في تاريخ مصر الإسلامية.(9/343)
وخرج البخاري من حديث سفيان عن الأعمش، عن أبى وائل، عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اكتبوا إليّ من تلفظ بالإسلام من الناس،
فكتبنا له الفا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة، ولقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف [ (1) ] ؟
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 218، كتاب الجهاد والسير، باب (181) ، كتابة الإمام الناس، حديث رقم (3060) .
قوله: (اكتبوا من تلفظ بالإسلام)
في رواية أبى معاوية عن الأعمش عند مسلم «أحصوا» بدل «اكتبوا» ، وهي أعم من اكتبوا، وقد يفسر أحصوا باكتبوا. قوله: (فقلنا نخاف) هو استفهام تعجب وحذفت منه أداة الاستفهام وهي مقدرة، وزاد أبو معاوية في روايته" فقال: " إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا، وكأن ذلك وقع عند ترقب ما يخاف منه، ولعله كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها. ثم رأيت في شرح ابن التين الجزم بأن ذلك كان عند حفر الخندق وحكى الداوديّ احتمال أن ذلك وقع لما كانوا بالحديبية لأنه قد اختلف في عددهم، هل كانوا ألفا وخمسمائة؟ أو ألفا وأربعمائة؟.
وأما قول حذيفة: «فلقد رأيتنا ابتلينا إلخ» فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان من ولاية بعض أمراء الكوفة، كالوليد بن عقبة، حيث كان يؤخر الصلاة، أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلى وحده سرا، ثم يصلى معه خشية من وقوع الفتنة، وقيل: كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر، وكان بعضهم يقصر سرا وحده خشية الإنكار عليه، ووهم من قال إن ذلك كان أيام قتل عثمان لأن حذيفة لم يحضر ذلك، وفي ذلك علم من أعلام النبوة، من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، وقد وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره.
قوله: «قال: أبو معاوية ما بين ستمائة إلى سبعمائة» أي أن أبا معاوية خالف الثوري أيضا عن الأعمش بهذا الإسناد في العدة، وطريق أبى معاوية هذه وصلها مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة، وكأن رواية الثوري رجحت عند البخاري، فلذلك اعتمدها لكونه أحفظهم مطلقا، وزاد عليهم، وزيادة الثقة الحافظ مقدمة، وأبو معاوية وإن كان أحفظ أصحاب الأعمش(9/344)
__________
[ () ] بخصوصه، ولذلك اقتصر مسلم على روايته، لكنه لم يجزم بالعدد، فقدم البخاري رواية الثوري لزيادتها بالنسبة لرواية الاثنين ولجزمها بالنسبة لرواية أبى معاوية.
وأما ما ذكره الإسماعيلي أن يحيى بن سعيد الأموي وأبا بكر بن عياش وافقا أبا حمزة في قوله: خمسمائة فتعارض الأكثرية والحفظية، فلا يخفى بعد ذلك الترجيح بالزيادة، وبهذا يظهر رجحان نظر البخاري على غيره. وسلك الداوديّ الشارح طريق الجمع فقال: لعلهم كتبوا مرات في مواطن. وجمع بعضهم بأن المراد بآلاف وخمسمائة جميع من أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبي، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصة، وبالخمسمائة المقاتلة خاصة، وهو أحسن من الجمع الأول، وإن كان بعضهم أبطله بقوله في الرواية الأولى: ألف وخمسمائة رجل لإمكان أن يكون الراويّ أراد بقوله: رجل نفس، وجمع بعضهم بأن المراد بالخمسمائة المقاتلة من أهل المدينة خاصة، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة هم ومن ليس بمقاتل، وبالألف وخمسمائة هم ومن حولهم من أهل القرى والبوادي.
وقال الحافظ: ويخدش في وجوه هذه الاحتمالات كلها اتحاد مخرج الحديث ومداره على الأعمش بسنده، واختلاف أصحابه عليه في العدد المذكور واللَّه أعلم.
وفي الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج الى تمييز من يصلح للمقاتلة بمن لا يصلح، وفيه وقوع العقوبة على الإعجاب بالكثرة، وهو نحو قوله تعالى:
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. وقال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الإعجاب.
ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس «قال رجل: يا رسول اللَّه، إني اكتتبت في غزوة كذا» وهو يرجح الرواية الأولى بلفظ «اكتبوا» لأنها مشعرة بأنه كان من عادتهم كتابة من يتعين للخروج في المغازي. (فتح الباري) مختصرا.(9/345)
أنبأنا عبدان عن أبى حمزة عن الأعمش، فوجدناهم خمسمائة، وقال أبو معاوية: ما بين ستمائة إلى سبعمائة. ترجم عليه: باب كتابه الإمام الناس [ (1) ] .
وخرج مسلم من طريق أبى معاوية عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أحصوا كم تلفظ بالإسلام، قال:
فقلنا: أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ فقال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا،
قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلى إلا سرا.
وقال النسائي: أنبأنا هناد بن السري، عن أبى معاوية بهذا الإسناد.
وقال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحصوا من كان تلفظ بالإسلام، فقلنا: أيخاف علينا؟ ... الحديث، كما قال مسلم. ذكره في الجهاد، وترجم عليه: باب إحصاء الإمام الناس [ (2) ] .
وخرج البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث سفيان بن عيينة قال: حدثنا عمرو بن دينار عن أبى معبد، قال: سمعت ابن عباس رضى اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 537- 538، كتاب الإيمان، باب (67) الاستسرار بالإيمان للخائف، حديث رقم (149) .
[ (2) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) ، وفي التعليق السابق وشرحه ما يفى إن شاء اللَّه تعالى.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 176، كتاب الجهاد والسير، باب (140) من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له؟ حديث رقم (3006) ، 9/ 413، كتاب النكاح، باب (112) لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، حديث رقم (5233) .
ويستفاد منه أن الحج في حق مثله أفضل من الجهاد لأنه اجتمع له مع حج التطوع في حقه تحصيل حج الفرض لامرأته وكان اجتماع ذلك له أفضل من مجرد الجهاد الّذي يحصل(9/346)
__________
[ () ] المقصود منه بغيره، وفيه مشروعيه كتابة الجيش، ونظر الإمام لرعيته بالمصلحة، ومعنى الحديث على نحو ما روى لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان. وهذا الحديث الّذي أشار إليه أخرجه أحمد من حديث عامر بن ربيعة.
وقال النووي: اتفق أهل العلم باللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه، وعمه وأخيه، وابن أخيه، وابن عمه، ونحوهم، وأن الأختان أقارب زوجة الرجل، وأن الأصهار تقع على النوعين. وقد اقتصر أبو عبيد وتبعه ابن فارس والداوديّ على أن الحمو أبو الزوجة، زاد ابن فارس: وأبو الزوج، يعنى أن والد الزوج حمو المرأة، وولد الزوجة حمو الرجل، وهذا الّذي عليه عرف الناس اليوم.
وقال الأصمعي وتبعه الطبري والخطّابى ما نقله النووي، وكذا نقل عن الخليل، ويؤيده قوله عائشة: «ما كان بيني وبين على إلا ما كان بين المرأة وأحمائها» ، وقد قال النووي:
المراد في الحديث أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه، لأنهم محارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت.
قال: وإنما المراد الأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وابن الأخت، ونحوهم. مما لا يحل لها تزويجه لو لم تكن متزوجة، وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبهه بالموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي. وقد جزم الترمذي وغيره كما تقدم، وتبعه المازري بأن الحمو أبو الزوج، وأشعر المازري إلى أنه ذكر للتنبيه على منع غيره بطريق الأولى، وتبعه ابن الأثير في (النهاية) ، ورده النووي فقال: هذا كلام فاسد مردود ولا يجوز حمل الحديث عليه. وسيظهر في كلام الأئمة في تفسير المراد بقوله: «الحمو الموت» ما تبين منه أن كلام المازري ليس بفاسد.
وقال الحافظ في (الفتح) : محرم المرأة من حرم عليه نكاحها على التأييد إلا أم الموطوءة بشبهة والملاعنة، فإنّهما حرامان على التأييد، ولا محرمية هناك، وكذا أمهات المؤمنين، وأخرجهن بعضهم بقوله في (التعريف) : بسبب مباح لا لحرمتها. وخرج بقيد التأبيد أخت المرأة، وعمتها، وخالتها، وبنتها، إذا عقد على الأم ولم يدخل بها.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 117، كتاب الحج، باب (74) سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، حديث رقم (424) . -(9/347)
وتعالى عنه يقول: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخطب يقول: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني أكتتب في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك.
__________
[ () ] قال الإمام النووي في (شرح مسلم)
، قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم»
هذا استثناء منقطع لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوة، فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ومعها ذو محرم»
يحتمل أن يريد محرما لها ويحتمل أن يريد محرما لها أو له، وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها، كابنها، وأخيها، وأمها، وأختها، أو يكون محرما له كأخته، وبنته، وعمته، وخالته، فيجوز القعود معها في هذه الأحوال.
ثم إن الحديث مخصوص أيضا بالزوج، فإنه لو كان معها زوجها كان كالمحرم، وأوله بالجواز، وأما إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يستحى منه لصغره، كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوة أجانب، فإن الصحيح جوازه، وقد أوضحت المسألة في (المختار) : أن الخلوة بالأمرد الأجنبي الحسن كالمرأة، فتحرم الخلوة به حيث حرمت بالمرأة إلا إذا كان في جمع من الرجال المعصومين.
قال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها، ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل يلزمه ذلك، إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا اختلاف فيه، ويدل عليه حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها في قصة الإفك واللَّه تبارك وتعالى أعلم.(9/348)
اللفظ لمسلم. وقال البخاري: اذهب فاحجج مع امرأتك. ذكره البخاري في كتاب الجهاد، وترجم عليه: باب من اكتتب في جيش، فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر، هل يؤذن له [ (1) ] ؟
وقال في النكاح: أنبأنا على بن عبد اللَّه قال: أنبأنا سفيان، قال: أنبأنا عمرو بهذا الإسناد، ولم يقل في هذا: ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم [ (2) ] .
وذكره في الجهاد في باب: كتابة الإمام الناس، من حديث ابن جريح، عن عمرو بن دينار، عن أبى معبد، عن أبى عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: يا رسول اللَّه، إني كتبت في غزوة كذا وكذا، وامرأتي حاجة، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارجع فاحجج مع امرأتك [ (3) ] .
وأخرجاه من حديث حماد عن عمرو بهذا الإسناد نحوه، وذكر البخاري في كتاب الحج في باب: حج النساء، من طريق حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبى معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم. فقال رجل: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: أخرج معها [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 176، كتاب الجهاد، باب (140) من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، أو كان له عذر هل يؤذن له؟ حديث رقم (3006) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 9/ 413، كتاب النكاح، باب (112) لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، حديث رقم (5233) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 219، كتاب الجهاد والسير، باب (181) كتابة الإمام الناس، حديث رقم (3061) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 4/ 89، كتاب جزاء الصيد، باب (26) حج النساء، حديث رقم (1862) .(9/349)
وخرج البخاري من حديث إبراهيم بن طمهان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال، أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بمال من
__________
[ () ] قوله: «بمال من البحرين» روى ابن أبى شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا أنه كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرميّ من خراج البحرين، قال: وهو أول خراج حمل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وعند المصنف في المغازي من حديث عمرو بن عوف: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرميّ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمال فسمعت الأنصار بقدومه..» الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي بالمال، لكن في (الردة) للواقدي: أن رسول العلاء بن الحضرميّ بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفي، فلعله كان رفيق أبى عبيدة، وأما حديث جابر، «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك» وفيه:
«فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم..» الحديث، فهو صحيح كما سيأتي عند المصنف، وليس معارضا لما تقدم، بل المراد أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنه كان مال خراج أو جزية فكان يقدم من سنة إلى سنة.
قوله: «وفأديت عقيلا» أي ابن أبى طالب وكان أسر مع عمه العباس في غزوة بدر.
وقوله «فحثا» بمهملة ثم مثلثة مفتوحة، والضمير في ثوبه يعود على العباس.
قوله: «مر بعضهم» بضم الميم وسكون الراء، وفي رواية «اؤمر» بالهمز، قوله:
«يرفعه» بالجزم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع أي فهو يرفعه.
قوله: «على كاهله» أي بين كتفيه، وقوله: «يتبعه» بضم أوله من الإتباع، و «عجبا» بالفتح، وقوله: «وثم منها درهم» بفتح المثلثة أي هناك.
وفي هذا الحديث بيان كرم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره.
وموضع الحاجة منه هنا جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوه في المسجد، ومحله ما إذا لم يمنع مما وضع له المسجد من الصلاة وغيرها مما بنى المسجد لأجله ويستفاد منه جواز وضع ما يعم نفعه في المسجد كالماء لشرب من يعطش، ويحتمل التفرقة بين ما يوضع للخزن فيمنع الثاني دون الأول، وباللَّه التوفيق.(9/350)
البحرين فقال: انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الصلاة فلم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول اللَّه، أعطنى، فإن فأديت نفسي، وفأديت عقيلا، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله، فلم يستطيع، فقال: يا رسول اللَّه [اؤمر] بعضهم يرفعه إليّ، قال: لا، قال: فارفعه أنت على، قال: لا، فنثلا منه ثم ذهب يقله [ (1) ] ، فقال: يا رسول اللَّه [اؤمر] بعضهم يرفعه على، قال: لا، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله فألقاه على كاهله، ثم انطلق،
فما زال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا من حرصه، فما قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وثم منها درهم [ (2) ] .
وخرج عبد اللَّه بن على بن الجارود. من حديث محمد بن يحيى، قال: أنبأنا أبو المغيرة، قال: أنبأنا صفوان، قال: أنبأنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جاءه سبى فقسمه من يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظا
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «فلم يقله» ، «فلم يستطع» ، وما أثبتناه من البخاري.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 678- 679، كتاب الصلاة، باب (42) القسمة وتعليق القنو في المسجد، حديث رقم (421) .
قال أبو عبد اللَّه: القنو: العذق، الاثنان قنوان، والجماعة أيضا قنوان، مثل صنو وصنوان، وأخرجه أيضا في كتاب الجهاد والسير، باب (172) فداء المشركين، حديث رقم (3049) مختصرا، وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة، باب (4) ، أقطع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولم يقسم الفيء والجزية؟ حديث رقم (3165) .(9/351)
واحدا، قال: فدعيت، وكنت أدعى قبل عمار بن ياسر، فدعيت فأعطانى حظين، وكان لي أهل، ثم دعا بعد عمار، فأعطاه حظا واحدا.
ورواه أبو داود السجستاني [ (1) ] ، عن ابن المصفى، قال حدثنا أبو المغيرة، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن نفير، عن أبى، عن عوف بن مالك، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. كان إذا أتاه الفيء ... الحديث.
ولأبى داود من حديث هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن عبد اللَّه ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، دخل على معاوية فقال: حاجتك يا أبا عبد الرحمن، فقال: عطاء [المحررين، فإنّي رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أول ما جاءه شيء بدأ بالمحررين [ (2) ]] .
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 3/ 359- 360، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (14) قسمة الفيء، حديث رقم (2953) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 358، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (14) في قسم الفيء، حديث رقم (2951) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
قال الخطابي: يريد بالمحررين المعتقتين، وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم، وإنما يدخلون تبعا في جملة مواليهم، وكان الديوان موضوعا على تقديم بنى هاشم، ثم الذين يلونهم في القرابة والسابقة، وكان هؤلاء مؤخرين في الذكر، فأذكر بهم عبد اللَّه بن عمر، وتشفع في تقديم أعطيتهم، لما علم من ضعفهم وحاجتهم.
ووجدنا الفيء مقسوما لكافة المسلمين على ما دلت عليه الأخبار، إلا من أستثني منهم من أعارب الصدقة، وقال عمر بن الخطاب: لم يبق أحد من المسلمين إلا له فيه حق إلا بعض من تملكون من أرقّائكم، وإن عشت إن شاء اللَّه ليأتين كل مسلم حقه، حتى يأتى الراعي بسر وحمير لم يعرق جبينه، واحتج عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في ذلك بقوله تعالى:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .(9/352)
وله من حديث عبد اللَّه بن دينار، عن عروة عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى بظبية [ (1) ] فيها خرز، فقسمها للحرة والأمة، قالت عائشة: كان أبى رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقسم للحر والعبد [ (2) ] .
__________
[ () ] وقال أحمد وإسحاق: الفيء للغنى والفقير إلا العبيد، واحتج أحمد في ذلك بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطى العباس من مال البحرين، والعباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه غنى.
والمشهور عن أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه سوى بين الناس، ولم يفضل بالسابقة، وأعطى الأحرار والعبيد. وعن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه فضل بالسابقة، والقدم، وأسقط العبيد، ثم رد على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، الأمر إلى التسوية بعد، ومال الشافعيّ إلى التسوية، وشبهه بقسم المواريث. (معالم السنن) .
[ (1) ] الظبية: الجراب، أو الخريطة، أو الكيس.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 359، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (14) في قسمة الفيء، حديث رقم (2952) .
قال الخطابي: وكان الشافعيّ يقول: ينبغي للإمام أن يحصى جميع من في البلدان من المقاتلة- وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة من الرجال- ويحصى الذرية- وهي من دون المحتلم، ودون البالغ، والنساء صغيرتهن، وكبيرتهن- ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معايش مثلهم في بلدانهم ثم يعطى المقاتلة في كل عام عطاءهم.
والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله الجهاد، ثم يعطى الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم.
قال: ولم يختلف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة، قال: وإن فضل من المال فضل بعد ما وصفت، وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع، وكل ما قوى به المسلمون. فإن استغنى المسلمون وكملت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى من بينهم كله على قدر ما يستحقون في ذلك المال. قال: ويعطى من الفيء رزق الحكام، وولاة الأحداث، والصلات بأهل الفيء، وكل من قام بأمر الفيء من وال، وكاتب، وجندي- ممن لا غنى لأهل الفيء عنه- رزق مثله.(9/353)
وللبخاريّ من حديث مروان بن الحكم، ومستورد بن مخرمة ... فذكر حديث وفد هوازن إلى أن قال: فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسلمين، فأثنى على اللَّه تعالى بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني [قد] رأيت أن أراد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء اللَّه علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فأرجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم.
فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 609، كتاب الوكالة، باب (7) إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز
لقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لوفد هوازن حين سألوه المغانم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نصيبي لكم،
حديث رقم (2307) ، (2308) ، وأخرجه في كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (10) من رأى الهبة الغائبة جائزة، حديث رقم (2583) ، (2584) ، وفي باب (24) إذا وهب جماعة لقوم، حديث رقم (2607) (2608) ، وأخرجه في كتاب فرض الخمس، باب (15) ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برضاعة فيهم فتحلل من المسلمين، وما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعذ الناس أن يعطيهم من الفيء والأنفال من الخمس، وما أعطى الأنصار، وما أعطى جابر بن عبد اللَّه من تمر خيبر، حديث رقم (3131) ، (3132) .
وأخرجه في كتاب المغازي، باب (55) قول اللَّه تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] .
حديث رقم (4318) ، (4319) ، وأخرجه في كتاب الأحكام، باب (26) العرفاء للناس، حديث رقم (7176) ، (7177) .
قال الحافظ في (الفتح) : قال ابن بطال: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام(9/354)
__________
[ () ] لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه، قال:
والأمر والنهى إذا توجه إلى الجميع يقع التوكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفا لم يسع كل أحد إلا القيام بما أمره به.
وقال ابن المنير في (الحاشية) : يستفاد منه جواز الحكم بالإقرار بغير إشهاد، فإن العرفاء ما أشهدوا على كل فرد شاهدين بالرضا، وإنما أقر الناس عندهم وهم نواب للإمام فاعتبر ذلك. وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته. قال الحافظ في (الفتح) : وقع في (سير الواقدي) : أن أبا رهم الغفاريّ كان يطوف على القبائل حتى جمع العرفاء، واجتمع الأمناء على قول واحد.
وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنع إقامة العرفاء لانه محمول- إن ثبت- على أن الغالب على العرفاء الاستطالة، ومجاوزة الحد، وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية.
والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معديكرب رفعه: «العرافة حق، ولا بد للناس من عريف، والعرفاء في النار.
«ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبى على عن أبى حازم عن أبى هريرة رفعه: ويل للأمراء، ويل للعرفاء» قال الطيبي: قوله: «والعرفاء في النار» ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير أمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار.
قال الحافظ: ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء، فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم، وأن الكل على خطر، والاستثناء مقدر في الجميع.
وأما قوله: «العرافة حق» فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفى في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب.
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 141- 142، كتاب الجهاد، باب (131) فداء الأسير، حديث رقم (2693) .(9/355)
والعرفاء [هم] رؤساء الأخبار وقوادهم، وقيل: العريف:
النقيب، وهو دون الرئيس.
وقال هيثم بن بشرة: أخبرنى عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن أبيه أن أم سمرة بن جندب مات عنها زوجها، وترك ابنه سمرة وكانت امرأة جميلة، فقدمت المدينة فخطبت، فجعلت تقول، لا أتزوج إلا رجلا يضمن لها نفقة ابنها سمرة حتى يبلغ، فتزوجها رجل من الأنصار على ذلك، فكانت معه في الأنصار، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فمر به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فرده، فقال سمرة:
يا رسول اللَّه، لقد أجزت غلاما ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
فصارعه، فصارعته، فصرعته، فأجازنى في البعث [ (1) ] .
__________
[ () ] وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 428، حديث رقم (18435) من حديث المسور بن مخرمة.
[ (1) ] هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة، نزل البصرة، له أحاديث صالحة، حدث عنه ابنه سليمان، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة، وبين العلماء فيما روى الحسن عن سمرة اختلاف في الاحتجاج بذلك، وقد ثبت سماع الحسن من سمرة، ولقيه بلا ريب، صرح بذلك في حديثين: حديث رقم (2838) من (سنن أبى داود) ، وحديث رقم (1522) من (سنن الترمذي) .
وكان زياد بن أبيه يستخلفه على البصرة إذا سار إلى الكوفة، ويستخلفه على الكوفة إذا سار إلى البصرة، وكان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة، وكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
مات سمرة سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين، له ترجمة في:
(طبقات ابن سعد) : 6/ 34، 7/ 49، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (423) ، (1404) (التاريخ الكبير) : 4/ 176، (التاريخ الصغير) : 1/ 106- 107، (المعارف) :
305، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 235، (الوافي بالوفيات) : 15/ 454،(9/356)
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث هشيم، قال: أنبأنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن سمرة بن جندب، قال: أيمت أمى، وقدمت المدينة، فخطبها الناس، فقالت: لا أتزوج إلا برجل يكفل لي هذا اليتيم، فتزوجها رجل من الأنصار. قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فليلحق من أدرك منهم، فعرضت عاما، فألحق غلاما وردني، فقلت: يا رسول اللَّه!! لقد ألحقته ورددتني، ولو صارعته لصرعته، فصارعته، فصرعته، فألحقنى. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
__________
[ () ] (تهذيب التهذيب) : 4/ 236، (مرأة الجنان) : 1/ 131، (الإصابة) : 3/ 178- 179، ترجمة رقم (3477) ، (شذرات الذهب) : 1/ 65.
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 69، كتاب البيوع، حديث رقم (2356) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(9/357)
فصل في ذكر ما أقطعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأرضين ونحوه
خرج أبو داود [ (1) ] والترمذي [ (2) ] من حديث شعبة، عن سماك، عن علقمة بن وائل بن حجر. عن أبيه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطعه أرضا بحضرموت.
زاد الترمذي: وبعث معه معاوية ليقطعها إياه، وقال: هذا حديث حسن [صحيح] [ (3) ] .
ولأبى داود [ (4) ] من حديث فطر، قال: حدثني أبى، عن عمرو بن حريث، قال: خط لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دارا بالمدينة بقوس، وقال: «أزبدك، أزبدك» [ (5) ] .
وله من حديث مالك، عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن، عن غير واحد، قال: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع بلال بن الحارث المزني، معادن القبلية، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 3/ 443، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع الأرضين، حديث رقم (3058) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 665، كتاب الأحكام، باب (39) ما جاء في القطائع، حديث رقم (1381) .
[ (3) ] زيادة من (الأصل) .
[ (4) ] (سنن أبى داود) : 3/ 443، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع الأرضين، حديث رقم (3060) .
[ (5) ] أزبدك: أعطيك وأمنحك، وبابه: ضرب.
[ (6) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3061) ، وهو حديث مرسل، وهكذا رواه مالك في (الموطأ) مرسلا، ولفظه: عن غير واحد من علمائهم.(9/358)
ومن حديث أبى أويس، قال: حدثني كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها [ (1) ] وغوريها [ (2) ] ، وقال غيره: جلسها وغورها، حيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وكتب له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول اللَّه بلال بن الحارث المزني، أعطاه معادن القبلية، جلسيها وغوريها، حيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم [ (3) ] .
قال: أبو أويس: وحدثني ثور بن زيد، مولى بنى الديل بن بكر بن كنانة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما مثله [ (4) ] ، [زاد ابن النضر: وكتب أبى بن كعب [ (5) ]] .
__________
[ (1) ] جلسيها: يريد نجديها، ويقال لنجد: جلس، وقال الأصمعي: وكل مرتفع جلس.
[ (2) ] غوريها: الغور ما انخفض من الأرض، يريد أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطعها وهادها ورباها.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3062) ، (3063) .
[ (4) ] (المرجع السابق) ، قال الخطابي في (معالم السنن) : إنما يقطع الناس من بلاد العنوة ما لم يحزه ملك مسلم، فإذا أقطع الإمام رجلا بياض أرض فإنه يملكها بالعمارة والإحياء ويثبت ملكه عليها فلا تنتزع من يده أبدا. فإذا أقطعه معدنا نظر فإن كان المعدن شيئا ظاهرا كالنفط والقار ونحوهما، فإنه مردود لأن هذه منافع حاصلة، وللناس فيها مرفق وهي لمن سبق إليها ليس لأحد أن يتملكها فيستاثر بها على الناس، وإن كان المعدن من معادن الذهب والفضة أو النحاس وسائر الجواهر المستكنة في الأرض المختلطة بالتربة والحجارة التي لا تستخرج إلا بمعاناة ومؤنة فإن العطية ماضية إلا أنه لا يملك رقبتها حتى يحظرها على غيره إذا عطلها وترك العمل فيها، إنما له أن يعمل فيها ما بدا له أن يعمل، فإذا ترك العمل خلى بينه وبين الناس، وهذا كله على معاني الشافعيّ.
وفي
قوله «ولم يعطه حق مسلم»
دليل على أنه من ملك أرضا مرة ثم عطلها أو غاب عنها فإنّها لا تملك عليه بإقطاع أو إحياء وهي باقية على ملكه الأول.
[ (5) ] زيادة للسياق من (سنن أبى داود) .(9/359)
قال: أبو عمر بن عبد البر، وقد ذكر حديث مالك الّذي بعده: هكذا هو [في] (الموطأ) عند جميع الرواة مرسلا، ولم يختلف فيه عن مالك، وهذا الحديث رواه عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ، عن ربيعة، عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه.
ورواه كثير بن عبد اللَّه، عن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، فذكره [ (1) ] .
ورواه أبو أويس عن كثير، عن أبيه عن جده، وعن الثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وهو غريب من حديث ابن عباس، ليس برواية غير أبى أويس عن ثور ... [ (2) ] .
وانفرد أبو سبرة المزني، عن مطرف، عن مالك، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن بلال بن الحارث مثله سواء، ولم يتابع أبو سبرة على هذا الإسناد، وإسناد ربيعة فيه صالح حسن [ (3) ] .
وخرج أبو داود من حديث ثمامة بن شراحيل، عن سمى بن قيس، عن شمير، قال ابن المتوكل: ابن عبد المدان، عن أبيض بن حمال، أنه وفد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستقطعه الملح، قال ابن المتوكل: الّذي بمأرب، فقطعه له، فلما أن ولى، قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد [ (4) ] . قال: فانتزع منه، قال: وسأله عن ما يحمى من الأراك، قال: ما لم تنله خفاف الإبل [ (5) ] ، وقال ابن المتوكل: أخفاف الإبل فأقر به عليه
__________
[ (1) ] وهو الحديث رقم (3062) من (سنن أبى داود) .
[ (2) ] وهو الحديث رقم (3063) من (سنن أبى داود) .
[ (3) ] (مجموعة الوثائق السياسية) : 160- 161، وثيقة رقم (163) وفي آخرها: «وكتب أبى ابن كعب» ، وثيقة رقم (164) وفي آخرها: «وكتب معاوية» .
[ (4) ] الماء العد: هو الماء الدائم الّذي لا ينقطع.
[ (5) ] (سنن أبى داود) : 3/ 446- 447، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع الأرضين، حديث رقم (3064) . -(9/360)
قال: أبو عيسى [ (1) ] : حديث أبيض غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وغيرهم في القطائع يرون جائزا أن يقطع الإمام، لمن رأى ذلك.
وخرج البخاري من حديث هشام قال: أخبرنى أبى عن أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه تعالى عنهما. قالت: كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رأسي، وهي منى على ثلثي فرسخ.
وقال أبو ضمرة: عن هشام عن أبيه، إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع الزبير رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أرضا من أموال بنى النضير. ذكره في كتاب فرض الخمس [ (2) ] ، وذكره في كتاب النكاح في باب: الغيرة، أتم من هذا [ (3) ] .
وخرجه مسلم أيضا مطولا في كتاب الأدب، وخرجه النسائي كذلك.
ولأبى داود من حديث أبى بكر بن عياش، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أقطع الزبير نخلا [ (4) ] .
__________
[ () ] قال الخطابي في (معالم السنن) . وفيه من الفقه: أن الحاكم إذا تبين الخطأ في حكمه نقضه وصار إلى ما استبان من الصواب في الحكم الثاني.
وقوله: «ما لم تنله أخفاف الإبل» ذكر أبو داود عن محمد بن الحسن المخزومي أنه قال:
معناه أن الإبل تأكل منتهى رءوسها ويحمى ما فوقه [حديث رقم 30/ 65] .
وفيه وجه آخر: وهو أنه إنما يحمى من الأراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الرعي.
وفي هذا: دليل على أن الكلأ والرعي لا يمنع من السارحة وليس لأحد أن يستأثر به دون سائر الناس.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 3/ 664- 665، كتاب الأحكام، باب (39) ما جاء في القطائع، حديث رقم (1380) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 309، كتاب فرض الخمس، باب (19) ، كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، حديث رقم (3151) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 399، كتاب النكاح، باب (108) الغيرة، حديث رقم (5224) . -
[ (4) ] (سنن أبى داود) : 3/ 451، كتاب الخراج والفيء والإمارة، حديث رقم (3069) ، قال الخطابي:
النخل مال ظاهر العين، حاضر النفع كالمعادن الظاهرة، فيشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك من الخمس الّذي هو سهمه، وكان أبو إسحاق المروزي يتأول إقطاع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المهاجرين الدور على معنى العارية.(9/361)
ومن حديث عبد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع الزبير حضر فرسه [ (1) ] ، فأجرى فرسه حتى قام [ (2) ] ، ثم رمى بسوطه، فقال: أعطوه من حيث بلغ السوط [ (3) ] .
وعبد اللَّه بن عمر [ (4) ] هذا ضعفه يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ووثقه ابن معين، وقال على بن المديني: عبد اللَّه بن عمر من الطبقة الثامنة فيتابع، وضعفه. وأخوه عبيد اللَّه من الطبقة الأولى في نافع، ولم يخرج لعبد اللَّه بن عمر هذا في الصحيحين شيء.
وذكر عمر بن شبة من حديث مجزر بن جعفر، عن صالح بن كيسان قال: ضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موضع [النبيط] [ (5) ] فقال: هذا سوقكم، فأقبل كعب بن الأشرف، فدخلها، وقطع أطنابها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا جرم، لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا، فنقلها إلى موضع سوق المدينة. ثم
__________
[ (1) ] حضر فرسه- بضم الحاء وسكون الضاد- أراد قدر ما تعدو عدوة واحدة.
[ (2) ] حتى قام: أي وقف.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 3/ 453، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع الأرضين، حديث رقم (3072) .
[ (4) ] هو عبد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وفيه مقال.
[ (5) ] تكملة للسياق من (سنن ابن ماجة) ، والنبيط: اسم موضع مكانها مطموس في (الأصل) ، ولعل ما أثبتناه يوافق السياق.(9/362)
قال: هذا سوقكم، لا يحجر، ولا يضرب عليه الخراج،
فلما قتل كعب بن الأشرف استقطع الزبير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم البقيع فقطعه، فهو يتبع الزبير [ (1) ] .
وذكر من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى ابن معدة، قال: لما قدم المدينة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع الناس الدور، فجاءه حي من بنى زهرة يقال لهم: بنو عبد زهرة، فقالوا: يكتب عنا ابن أم عبد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلم ابتعثنى اللَّه إذا؟ إن اللَّه لا يقدس أمة لا يؤخذ لضعيف فيهم حقه [ (2) ] .
ذكر ابن عبد البر: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أقطع بلال بن الحارث المزني العقيق، وكتب له فيه كتابا نسخته: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى، محمد رسول اللَّه بلال بن الحارث المزني، أعطاه من العقيق ما صلح فيه معتملا،
وكتب معاوية [ (3) ] .
قال: فلم يعتمل بلال من العقيق [ (4) ] شيئا، فقال له عمر بن الخاطب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في ولايته: إن قريت على ما أعطاك رسول اللَّه
__________
[ (1) ]
وأخرج ابن ماجة في (السنن) : 2/ 751، كتاب التجارات، باب (40) الأسواق ودخولها، حديث رقم (2233) عن أبى أسيد الساعدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذهب إلى سوق النبيط فنظر إليه فقال: ليس هذا لكم بسوق، ثم ذهب إلى سوق فنظر إليه فقال: ليس هذا بسوق، ثم رجع إلى هذا السوق فطاف فيه ثم قال: هذا سوقكم، فلا ينتقص ولا يضربن عليه خراج.
قوله: «فلا ينتقص» أي لا يبطلن هذا السوق، بل يدوم لكم.
قوله: «ولا يضربن عليه خراج» بأن يقال: كل من يبيع ويشترى فيه فعليه كذا.
قال في (الزوائد) : رواة إسناده ضعاف.
[ (2) ] (السنن الكبرى) : 6/ 145 كتاب إحياء الموات، باب سواء كل موات لا مالك له أين كان.
[ (3) ] سبق تخريجه من (الوثائق السياسية) : 161، وثيقة رقم (164) .
[ (4) ] العقيق: بفتح أوله وكسر ثانيه، وقافين بينهما ياء مثناة من تحت، والعرب تقول لكل مسيل ماء شقه السيل في الأرض فأنهره، ووسعه: عقيق، وفي بلاد العرب أربعة أعقة، والعقيق المقصود في هذا الأثر هو من بلاد مزينة، وهو الّذي أقطعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلال بن الحارث(9/363)
صلّى اللَّه عليه وسلّم من معتمل العقيق فاعتمله، فما اعتملت فهو لك، كما أعطاكه، وإن لم تعتمله له قطعته بين الناس، ولم تحجزه عليهم، فقال بلال: تأخذ منى ما أعطانى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال له: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد اشترط عليك فيه شرطا فقطعه عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بين الناس، ولم يعمل فيه بلال شيئا، فلذلك أخذه منه عمر.
وذكر من حديث حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة. عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أرضا كذا وكذا.
وذكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قطع لأبى سفيان بن حرب. داره التي يقال لها: دار معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ () ] المزني. ثم أقطعه عمر الناس. (معجم البلدان) : 4/ 156- 157، موضع رقم (8496) مختصرا.(9/364)
فصل في ذكر أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجزية والخراج
قال: أبو عمر بن عبد البر: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران، وكانوا نصارى، ثم قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجزية من أهل البحرين، وكانوا مجوسا.
فأما أهل نجران: فخرج البخاري [ (1) ] من حديث إسرائيل عن أبى إسحاق عن صلة بن زفر، عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
جاء السيد والعاقب [ (2) ] صاحبا نجران إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريدان [أن] [ (3) ] يلاعناه.
فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فو اللَّه إن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.
قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمة.
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر، عن حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه ابعث لنا رجلا أمينا.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 117- 118، كتاب المغازي، باب (73) قصة أهل نجران، حديث رقم (4380) .
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «العاقب والسيد» .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] (المرجع السابق) حديث رقم (4381) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 201، كتاب فضائل الصحابة، باب (7) فضائل أبى عبيدة ابن الجراح، حديث رقم (2420) .(9/365)
فقال: لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، قال: فاستشرف [له] [ (1) ] الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح [ (2) ] . وقال البخاري: «حق أمين» ، مرة واحدة.
وخرجه الترمذي من حديث سفيان، عن أبى إسحاق، عن صلة بن زفر عن حذيفة بن اليمان، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: جاء العاقب والسيد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالا: ابعث معنا أمينا، فقال: فإنّي سأبعث معكم أمينا حق أمين،
فأشرف لها الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. وقال: وكان أبو إسحاق إذا حدث بهذا الحديث عن صلة، قال:
__________
[ (1) ] في رواية مسلم: «لها» .
[ (2) ] قال الحافظ في (الفتح) : وفي قصة أهل نجران من الفوائد: أن إقرار الكافر بالنّبوّة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضى عليه سنة من يوم المباهلة. ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين.
وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجرى ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام.
وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام.
وفيها منقبة ظاهرة لأبى عبيدة بن الجراح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبى عبيدة، لأن أبا عبيدة توجه معهم فقبض مال الصلح ورجع، وعليّ أرسله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة واللَّه أعلم.(9/366)
سمعته منذ ستين سنة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] .
[وقد روى عن ابن عمر وأنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح] .
ولأبى داود حديث يونس بن بكير قال: أنبأنا أسباط بن نصر الهمذانيّ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي [ (2) ] ، عن ابن عباس قال:
صالح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل نجران على ألفى حلة، النصف في صفر ...
البقية في رجب.... يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد، أو غدرة [ (3) ] على أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 625- 626، كتاب المناقب، باب (33) مناقب معاذ بن جبل، وزيد ابن ثابت، وأبى، وأبىّ عبيدة بن الجراح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3796) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] قال المنذري: هو المعروف بالسدي، وفي سماع السدي من ابن عباس نظر، وإنما قيل:
أنه رآه، ورأى ابن عمر، وسمع من أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
[ (3) ] قال الخطابي: قلت: هذا وقع في كتابي، وفي رواية غيرها: «كيد ذات غدر» وهو أصوب، على أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا.
قال: في هذا دليل على أن للإمام أن يزيد وينقص فيما يقع عليه الصلح من دينار أو أكثر على قدر طاقتهم، ووقوع الرضا منهم به. وفيه دليل على أن العارية مضمونة.
وقوله: «كيد ذات عذر» يريد الحرب، أخبرنى أبو عمر، قال: قال ابن الأعرابي: الكيد:
الحرب، ومنه ما جاء في بعض الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج في بعض مغازيه فلم يلق كيدا، أي حربا. (معالم السنن) .(9/367)
ما لم يحدثوا حدثا، أو يأكلون الربا [ (1) ] . [قال إسماعيل: فقد أكلوا الربا] [ (2) ] ، [قال أبو داود: إذا نقضوا به ما اشترط عليهم فقد أحدثوا] .
وقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق، وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى أهل نجران ليجمع صدقائهم، ويقدم عليه بجزيتهم.
قال ابن الأثير: وذلك في سنة عشر، ففعل، وعاد فلقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة في حجة الوداع [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 3/ 429- 431، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (30) في أخذ الجزية، حديث رقم (3041) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن أبى داود) .
[ (3) ] (الكامل في التاريخ) لابن الأثير: 2/ 294، ثم قال فلما استخلف أبو بكر عاملهم [بذلك] ، فلما استخلف عمر أجلى أهل الكتاب عن الحجاز وأجلى أهل نجران، فخرج بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى نجرانية الكوفة، واشترى منهم عقارهم وأموالهم. وقيل: إنهم كانوا قد كثروا فبلغوا أربعين ألفا فتحاسدوا بينهم، فأتوا عمر بن الخطاب وقالوا: أجلنا، وكان عمر بن الخطاب قد خافهم على المسلمين فاغتنمها فأجلاهم، فندموا بعد ذلك ثم استقالوه فأبى، فبقوا كذلك إلى خلافة عثمان، فلما ولى عليّ أتوه وقالوا: ننشدك اللَّه خطك بيمينك. فقال: إن عمر كان رشيد الأمر وأنا أكره خلافه، وكان عثمان قد أسقط عنهم مائتي حلة، وكان صاحب النجرانية بالكوفة يبعث إلى من بالشام والنواحي من أهل نجران يجبونهم الحلل.
فلما ولى معاوية ويزيد بن معاوية شكوا إليه تفرقهم وموت من مات منهم وإسلام من أسلم منهم، وكانوا قد قلوا، وأروه كتاب عثمان، فوضع عنهم مائتي حلة تكملة أربعمائة حلة. فلما ولى الحجاج العراق وخرج عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث اتهم الدهاقين بموالاته واتهمهم معهم فردهم إلى ألف وثلاثمائة حلة وأخذهم بحلل وشى. فلما ولى عمر بن عبد العزيز شكوا عليه فناءهم ونقصهم وإلحاح العرب عليهم بالغارة وظلم الحجاج، فأمر بهم فأحصوا ووجدوا على العشر من عدتهم الأولى، فقال: أرى هذا الصلح جزية وليس على أرضهم شيء وجزية المسلم والميت ساقطة، فألزمهم مائتي حلة. فلما تولى يوسف بن عمر الثقفي ردهم إلى أمرهم الأول عصبية للحجاج، فلما استخلف السفاح عمدوا إلى طريقه يوم ظهوره من الكوفة فالقوا فيها(9/368)
وأما أهل البحرين، فخرج البخاري من حديث الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، أنه أخبره أن عمرو بن عون الأنصاري، وهو حليف لبني عامر بن لؤيّ، وكان شهد بدرا، أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتى بجزيتها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرميّ، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبى عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما صلّى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له،
فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رآهم، وقال: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء، فقالوا: أجل يا رسول اللَّه، قال: فأبشروا، وأملوا ما يسركم، فو اللَّه لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم. كرره من طرق عن الزهري [ (1) ] ، وأخرجه مسلم بهذا الإسناد أيضا [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث سفيان، قال: سمعت عمرا قال: كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس. فحدثها بجالة، سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة، عند درج زمزم. قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى
__________
[ () ] الريحان ونثروا عليه، فأعجبه ذلك من فعلهم، ثم رفعوا إليه أمرهم وتقربوا إليه بأخواله بنى الحارث بن كعب، فكلمه فيهم عبد اللَّه بن الحارث فردهم إلى مائتي حلة، فلما ولى الرشيد شكوا إليه العمال فأمر أن يعفوا من المال وأن يكون مؤداهم بيت المال.
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 318- 319، كتاب الجزية والموادعة، باب (1) الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، حديث رقم (3158) .
أخرجه في باب (4) ما أقطع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من البحرين وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية؟ حديث رقم (3164) ، وأخرجه في كتاب المغازي، باب (12) بدون ترجمة حديث رقم (4015) .
[ (2) ] غير أنه قال: «وتلهيكم كما ألهتهم» حديث رقم (2961) ، من كتاب الزهد والرقاق، والحديث الّذي يليه بدون رقم.(9/369)
عنه قبل موته بسنة: فرّقوا بين كل ذي محرم من المجوس، ولم يكن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر [ (1) ] .
وخرجه أبو داود من حديث سفيان عن عمرو بن دينار، سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس، وأبا الشعثاء [ (2) ] قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس، إذ جاءنا كتاب عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قبل موته، بسنة: اقتلوا كل ساحر، وفرّقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا في يوم ثلاثة سواحر، وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمة في كتاب اللَّه عز وجل، وصنع طعاما كثيرا فدعاهم، فعرض السيف على فخذه، فأكلوا، ولم يزمزموا، وألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق، ولم يكن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 316، كتاب الجزية والموادعة، باب (1) الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، حديث رقم (3156) ، (3157) .
[ (2) ] أبو الشعثاء: هو جابر بن زيد، من ثقات التابعين.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 3/ 431- 432، كتاب الخراج والفيء والإمارة باب (31) في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم (3043) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : قوله «ألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق» يريد أخلة من الورق يأكلون بها، قلت: ولم يحملهم عمر على هذه الأحكام فيما بينهم وبين أنفسهم إذا خلوا وإنما منعهم من إظهار ذلك للمسلمين، وأهل الكتاب لا يكشفون عن أمورهم التي يتدينون بها ويستعملونها فيما بينهم إلا أن يترافعوا إلينا في الأحكام. فإذا فعلوا ذلك فإن على حاكم المسلمين أن يحكم فيهم يحكم اللَّه المنزل. وإن كان ذلك في الأنكحة فرق بينهم وبين ذوات المحارم كما يفعل ذلك في المسلمين. -(9/370)
وخرجه النسائي من حديث سفيان، عن عمرو، سمع بجالة: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر [ (1) ] .
ولأبى داود من حديث هشيم، قال: أنبأنا داود بن أبى هند، عن قشير ابن عمرو، عن بجالة بن عبدة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: جاء رجل من الأسبذيين [ (2) ] من أهل البحرين، وهم مجوس أهل
__________
[ () ] وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر دليل أن رأى الصحابة أنه لا تقبل الجزية من كل مشرك كما ذهب إليه الأوزاعي وإنما تقبل من أهل الكتاب.
وقد اختلف العلماء في المعنى الّذي من أجله أخذت منهم الجزية فذهب الشافعيّ في أغلب قوليه إلى أنها قبلت لأنهم من أهل الكتاب وروى ذلك عن على بن أبى طالب.
وقال أكثر أهل العلم: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب، ومن المجوس بالسنة.
واتفق عامة أهل العلم على تحريم نسائهم وذبائحهم، وسمعت ابن أبى هريرة يحكى عن إبراهيم الحربي أنه قال: لم يزل الناس متفقين على تحريم نكاح المجوس حتى جاءنا خلاف من الكرخ، يعنى أبا ثور.
والحديث أخرجه أيضا الترمذي في (السنن) : 4/ 124- 125 كتاب السير، باب (3) ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم (1586) .
[ (1) ] أخرجه النسائي في كتاب السير من (الكبرى) .
[ (2) ] الأسبذيين: بفتح الهمزة وسكون السين بعدها باء مفتوحة، فذال-: وقيل: منسوبون إلى أسبذ بوزن أحمد، وهي بلدة بهجر بالبحرين، أو قرية لأنهم نزلوها، وقيل: الكلمة فارسية، ومعناها عبدة الفرس، وكانوا يعبدون فرسا، والفرس في لغة الفرس: أسب. وقال أبو عبيد: هو اسم قائد من قواد كسرى على البحرين، فارسي، وقد تكلمت به العرب.
(معالم السنن) .(9/371)
هجر [ (1) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمكث عنده، ثم خرج فسألته: ما قضى اللَّه ورسوله فيكم؟ قال: شر، فقلت: مه؟ قال: الإسلام أو القتل، قال:، وقال عبد الرحمن بن عوف، قبل منهم الجزية، قال ابن عباس: فأخذ الناس بقول عبد الرحمن بن عوف، وتركوا ما سمعت أنا من الأسبذي [ (2) ] .
قال قتادة: أكبر مال قدم به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثمانون ألفا من جزية مجوس البحرين، فأمر بها، فصبت على حصير فما ترك ساكنا، ولا حرم سائلا.
ولأبى داود من حديث الأعمش، عن أبى وائل عن معاذ بن جبل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم-[يعنى محتملا]- دينارا، أو عدله من المغافر [ (3) ] [ثياب تكون باليمن] .
__________
[ (1) ] هجر- بفتح الهاء والجيم-: مدينة في بلاد البحرين، وهناك قرية صغيرة بجانب المدينة المنورة.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 433، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (31) في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم (3044) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 3/ 428، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (30) في أخذ الجزية، حديث رقم (3038) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه. -
- قال الخطابي في (معالم السنن) : قلت في قوله: «من كل حالم» ، دليل على أن الجزية في قوله: من كل الحالم، دليل على أن الجزية إنما تجب على الذكران منهم دون الإناث، لأن الحالم عبارة عن الرجل فلا وجوب لها على النساء ولا على المجانين والصبيان.
وفيه بيان أن الدينار مقبول من جماعتهم، أغنياؤهم وأوساطهم في ذلك سواء لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثه إلى اليمن وأمره بقتالهم ثم أمره بالكف عنهم إذا أعطوا دينارا، وجعل بذل الدينار حاقنا لدمائهم فكل من أعطاه فقد حقن دمه، وإلى هذا ذهب الشافعيّ، قال: وإنما هو على كل محتلم من الرجال الأحرار دون العبيد.
وقال أصحاب الرأى وأحمد بن حنبل: يوضع على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما وأربعة وعشرون واثنا عشر. -(9/372)
ولأبى داود من حديث محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وعن عثمان بن أبى سليمان أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأخذ، فأتوه به فحقن له دمه، وصالحة على الجزية [ (1) ] .
ولم يأخذ صلّى اللَّه عليه وسلّم [من] يهود خيبر جزية، فإنه صالحهم على أن مقرهم في الأرض ما شاء اللَّه، ولم تكن الجزية نزلت بعد، ثم أمره تعالى أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، فلم يدخل في هذا يهود خيبر، لأن العقد قد تم بينه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبينهم على إقرار، ثم أن يكونوا عمالا في الأرض بالشطر، فلم يطالبهم بغير ذلك، وطلب من إخوانهم من أهل الكتاب، ممن لم يكن بينه وبينهم عهد كنصارى نجران ويهود اليمن، وقد ظن بعضهم أن عدم أخذ
__________
[ () ] وقال أحمد على قدر ما يطيقون، قيل: له فيزداد في هذا اليوم وينقص، قال: نعم على قدر طاقتهم وعلى قدر ما يرى الإمام، وقد علق الشافعيّ القول في إلزام الفقير الجزية.
وأخرجه الترمذي في الزكاة حديث (623) باب زكاة البقر مطولا، والنسائي في الزكاة حديث (2455) سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا، وابن ماجة في الزكاة حديث (1803) باب صدقة البقر، وقال الترمذي: حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا وأن المرسل أصح، وسبق عند أبى داود برقم (1576) .
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 427- 428، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (30) في أخذ الجزية، حديث رقم (3037) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : أكيدر دومة رجل من العرب يقال هو من غسان، ففي هذا من أمره دلالة على جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم، وكان أبو يوسف يذهب إلى أن الجزية لا تؤخذ من عربي، وقال مالك والأوزاعي والشافعيّ، العربيّ والعجمي في ذلك سواء. -
وكان الشافعيّ يقول: إنما الجزية على الأديان لا على الأنساب، ولولا أن نأثم بتمني الباطل وددنا الّذي قال أبو يوسف كما قال وأن لا يجرى على عربي صغار، ولكن اللَّه أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به.(9/373)
الجزية من يهود خيبر يختص بهم، فلا يؤخذ منهم جزية، وليس كذلك، بل الأمر كما بينته لك.
وذكر الواقدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع الجزية على أهل أيلة [ (1) ] ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل وعلى أهل أذرح [ (2) ] مائة دينار في كل رجب [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أيلة: على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام.
[ (2) ] أذرح: قرية بالشام.
[ (3) ] قال الواقدي: وكتب لهم كتابا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا أمنة من اللَّه ومحمد النبي ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة، لسفنهم وسائرهم في البر والبحر ولهم ذمة اللَّه وذمة محمد رسول اللَّه، ولمن كان معه من أهل الشام. وأهل اليمن، وأهل البحر، ومن أحدث حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.(9/374)
فصل في ذكر عمال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الجزية
اعلم أنه قد تبين مما تقدم أن الذين بعثهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأخذ الجزية ثلاثة نفر، فبعث أبا عبيدة عامر، وقيل: عبد اللَّه بن عامر، والصحيح عامر ابن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن اهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشيّ الفهرىّ. أحد العشرة الذين شهد لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجنة، وأحد كبراء الصحابة، وفضلائهم، وأهل السابقة منهم، وأمين هذه الأمة إلى أهل نجران أيضا [ (1) ] ، وبعث معاذ بن جبل [ (2) ] رضى اللَّه
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 3/ 409، (طبقات خليفة) : 27، 300، (تاريخ خليفة) : 138، (التاريخ الكبير) : 6/ 44- 445، (التاريخ الصغير) : 1/ 40، (المعارف) : 427- 428، (الجرح والتعديل) : 6/ 325، (جامع الأصول) :
9/ 20- 21، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 259، (تهذيب التهذيب) : 5/ 263، (الإصابة) : 3/ 586، ترجمة رقم (590) ، (تاريخ الخميس) : 2/ 255، (كنز العمال) : 13/ 214- 219، (شذرات الذهب) : 1/ 29، (سير الأعلام) :
1/ 5- 23، ترجمة رقم (1) .
[ (2) ] هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن سعد ابن على بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج.
روى الواقدي عن رجاله أن معاذا شهد بدرا وله عشرون سنة أو إحدى وعشرون قال ابن سعد:
شهد العقبة في روايتهم جميعا مع السبعين.
قال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عبد اللَّه ابن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبى، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة،
توفى سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة. له ترجمة في (التاريخ الكبير) : 7/ 359- 360، (التاريخ الصغير) : 1/ 41، 47، 49، 52، 53، (المعارف) : 254، (الجرح والتعديل) : 1/ 244- 245، (حلية الأولياء) :
1/ 228- 244، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 98- 100، (كنز العمال) : 13/ 583، -- (شذرات الذهب) : 1/ 29 (سير أعلام النبلاء) : 1/ 443- 461، ترجمة رقم (86) .(9/375)
تبارك وتعالى عنه إلى أهل نجران أيضا، وبعث على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى أهل نجران أيضا، وبعث معاذ بن جبل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى أهل اليمن، لأخذ الجزية، وغير ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
فصل في ذكر عمال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الزكاة
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما صدر من الحج سنة عشر، أقام بالمدينة حتى رأى هلال المحرم سنه إحدى عشر، فبعث المصدقين في العرب [ (1) ] ، فبعث عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على الصدقات، وبعث خالد بن سعيد بن العاص، وقد قدم قرة بن أشقر الجذاعى لملوك كندة، ومباعدا لهم فاستعمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقات زبيد ومذحج كلها، وبعثه معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، وكان معه في بلاده حتى توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبعث معاذ بن جبل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، وفي كل أربعين شاة شاة. رواه أبو داود [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المصدّق بتشديد الدال وكسرها: أي عاملا يستوفي الزكاة من أربابها وفي (معالم السنن) للخطابى: ان المصدق بتخفيف الصاد: العامل، وفي (المطالع) : المصدق بتخفيف الصاد:
آخذ الصدقة، قال ثابت: ويقال أيضا للذي يعطيها من ماله، فإذا شددت الصاد فهو المتصدق لا غير. (التراتيب الادارية) : 1/ 396- 397، باب في العامل على الزكاة.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 2/ 224- 255، كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة، حديث رقم (1568) ، وأخرجه ابن ماجة في الزكاة، باب صدقة الإبل، حديث رقم (1798) ، والترمذي في الزكاة، باب في زكاة الإبل والغنم، حديث رقم (621) وقال: «حديث حسن، والعمل على هذا الحديث عند عامة الفقهاء، وقد روى يونس بن يزيد وغير واحد عن الزهري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمرو الخطاب بهذا الحديث ولم يرفعوه وإنما رفعه سفيان بن حسين» -(9/376)
وبعث أبى بن كعب مصدقا على بلى وعذرة وجميع بنى سعد بن هدم على ما رواه الإمام أحمد، وبعث عدي بن حاتم على طيِّئ وصدقاتها، وعلى بنى أسد.
روى مسلم عن عدي بن حاتم، قال: أتيت عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: إن أول صدقة بيضت وجه رسول اللَّه
__________
[ () ] وسفيان بن حسين أخرج له مسلم واستشهد به البخاري، إلا أن حديثه عن الزهري فيه ما قال، وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وقال الترمذي في (كتاب العلل) :
«سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: أرجو أن يكون محفوظا وسفيان بن الحسين صدوق» . ولفظ الحديث عند أبى داود:
كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه «في خمس من الإبل شاة» ، وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون، إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة، إلى ستين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون، إلى تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان، إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم في كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإن زادت واحدة فشاتان إلى مائتين، فإن زادت [واحدة] على المائتين ففيها ثلاث [شياه] ، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شاة، وليس فيها شيء حتى بلغ المائة، ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، مخافة الصدقة وما كان من خليطين فإنّهما يتراجعان [بينهما] بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب.
قال: قال الزهري: إذا جاء المصدق قسمت الشاء أثلاثا: ثلثا شرارا، وثلثا خيارا، وثلثا وسطا، فأخذ المصدق من الوسط، ولم يذكر الزهري البقر، ثم قال في الحديث رقم (1569) :
حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا: محمد بن يزيد الواسطي، أخبرنا سفيان بن حسين، بإسناده ومعناه، قال: فإن لم تكن ابنة مخاض، فابن لبون، ولم يذكر كلام الزهري.(9/377)
صلّى اللَّه عليه وسلّم ووجوه أصحابه صدقة طيِّئ جئت بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] ، وبعث الزبير، قال ابن زيد وقيس بن عاصم على صدقة بنى سعد، فبعث الزبير [ (2) ] ، قال: على ناحية، وقيس بن عاصم [ (3) ] على ناحية.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 310، كتاب فضائل الصحابة، باب (47) من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيِّئ، حديث رقم (2523) و (مسند أحمد) : 1/ 74، حديث رقم (318) من مسند عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب- حواري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأول من سل سيفه في سبيل اللَّه، وأبو عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أسلم وهو حدث، له ست عشرة سنة.
قتل الزبير في رجب سنة ست وثلاثين عن أربع وستين أو بضع وخمسين سنة بوادي السباع على سبعة فراسخ من البصرة، أما أنه قد بعثه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصدقة، فيعكر على ذلك ما قاله هشام- فيما ذكر الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) : ردّ، وما ولى إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجا، ولا شيئا، إلا أن يكون في غزو مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو مع أبى بكر، وعمر، وعثمان، له ترجمة في (التاريخ الكبير) : 3/ 409، (التاريخ الصغير) : 1/ 75، (المعارف) : 219- 277، (حلية الأولياء) : 1/ 89، (جامع الأصول) : 9/ 5- 10، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 194- 196، (كنز العمال) : 13/ 204- 212، (تاريخ الخميس) : 1/ 172، (سير الأعلام) :
1/ 41- 267 ترجمة رقم (3) (الإصابة) : 3/ 553- 557، ترجمة رقم (2791) .
[ (3) ] هو قيس بن عاصم بن أسيد بن جعونة بن الحارث بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة النميرىّ، قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) : وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضحاك ساعيا فجاء بإبل جلة، فقال: أتيتهم فأخذت جلة أموالهم. ارددها عليهم، وخذ صدقاتهم من مواشى أموالهم. (الإصابة) : 3/ 434- 435، ترجمة قرة بن دعموص النميري رقم (7108) ، 3/ 482- 483، ترجمة قيس بن عاصم بن أسيد رقم (7198) .(9/378)
وذكر ابن قتيبة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمل الزبير قال ابن بدر: على صدقات قومه، وتوفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذهب بالصدقة إلى أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهي سبعمائة بعير.
قال عمر بن شبة: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: أنبأنا يوسف بن الماجشون قال: أخبرنا ابن شهاب أن عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان يلي صدقات الإبل والغنم في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يلي صدقات الثمار، وكان محمية بن جزء يلي الخمس، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل خزانة بلال التي يضع فيها الصدقات، فوجد فيها صبرة من تمر فقال: ما هذا التمر يا بلال؟ قال: يا رسول اللَّه أخذتها لنوائبك، قال: أفأمنت أن تصبح ولها في جهنم بخارا، أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، أو إقتارا [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 347، باب ذكر أخبار رويت في زهده صلّى اللَّه عليه وسلّم في الدنيا وصبره على القوت الشديد فيها، واختياره الدار الاخرة، وما أعد اللَّه تعالى له فيها على الدنيا.
وأخرجه أيضا في (شعب الإيمان) : 2/ 118، باب (13) التوكل والتسليم، حديث رقم (1345) عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم قال: خالفه روح ابن عبادة، فرواه عن عوف، عن محمد قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بلال فوجد تمرا أدخره، فرواه مرسلا، وحديث رقم (1346) من حديث روح بن عبادة فذكر ثم قال:
ورواه مبارك ابن فضالة، عن يونس، عن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة موصولا، وقال في هامشه: قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 3/ 126: رواه الطبراني في الكبير، وفيه مبارك بن فضالة، وهو ثقة وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
قال في (كشف الخفاء) : 1/ 210- 211، حديث رقم (635) : رواه الطبرانىّ في الكبير، والقضاعيّ في مسندة عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على بلال وعنده صبرة من تمر فقال: ما هذا يا بلال؟ قال يا رسول اللَّه: ذخرته لك ولضيفانك، فقال أما تخشى أن يفور لها بخار من جهنم أنفق بلال- الحديث، وذكره النجم عن أبى هريرة أيضا بلفظ أما تخشى يا بلال أن ترى له بخارا في نار جهنم.(9/379)
فصل في ذكر الصدقة على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال الفقيه أبو الليث محمد بن على بن أحمد بن سعيد بن حزم: رحمه اللَّه في كتاب (جوامع السيرة) : وكان كاتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصدقات
__________
[ () ] ورواه العسكري في (الأمثال) وكذا البزار في مسندة عن عائشة بلفظ قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أطعمنا يا بلال فقال: يا رسول اللَّه ما عندي إلا صبرة من تمر خبأته لك، فقال: أما تخشى أن يقذف به في نار جهنم أنفق- الحديث، وأخرجه البزار أيضا عن أبى هريرة بلفظ أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على بلال وعنده صبره من تمر فقال ما هذا قال أدخره فقال أما تخشى أن ترى له بخارا في نار جهنم أنفق- الحديث، ورواه البيهقي في الشعب عن أبى هريرة مرفوعا، ورواه أيضا مرسلا عن ابن سيرين، ورواه أبو يعلى بلفظ أنفق يا بلال ولا تخافن من ذي العرش إقلالا.
قال في (المقاصد) : وما يحكى على لسان كثيرين في لفظ الحديث وإنه «بلالا» ويتكلفون في توجيهه بكونه نهيا عن المنع وبغير ذلك فشيء لم أقف له على أصل. انتهى، وأقول مما قيل فيه أن أصله أنفق بلال، قولك: ومنه إن مصدر بلّ يبلّ مشدد اللام، وقد وجهه الجلال السيوطي في (الأشباه والنظائر) النحوية بأنه من الإتباع وان كان منادى مفردا علما، وعبادته فيها ومنه اتباع كلمة في التنوين لكلمة أخرى منونة صحبتها كقوله تعالى وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ، إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا، في قراءة من نوّن الجميع، وحديث أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش. انتهى، وقال في (الهمع) أواخر الكتاب الخامس: روى البزار في مسندة وغيره: أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا، نون المنادي المعرفة ونصبه لمناسبة إقلالا. انتهى، وأقول ظاهر كلامه في الكتابين أن الرواية بالنصب، ومقتضى ما في المقاصد أنه بالضم فليراجع، وكلام السيوطي لا يفيد حصر الرواية بالنصب.(9/380)
الزبير بن العوام رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فإن غاب أو اعتذر كتب جهم بن الصلت، وحذيفة بن اليمان رضى اللَّه عنهما [ (1) ] .
فصل في ذكر الخارص على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: خرص العود يخرصه، خرصا حزرة، وقيل: الخرص المصدر، والخرص الاسم، والخراص الحراز، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبعث من يخرص الثمار على أربابها لأجل الزكاة الواجبة في تلك الثمار توسعة عليهم، ورفقا بهم، لأنهم لو منعوا من أجل سهم المساكين من أكلها طيبا، ومن التصرف فيها بالصلة والصدقة لأضر بهم ذلك، وكانت عليهم فيه مشقة كبيرة، ولو تركوا، والمتصرف بالأكل وغيره لأضرّ ذلك بالمساكين، ولتلف كثير مما يجب فيه الزكاة، ولهذا كان توجيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الخارص وإرساله إياه.
وقد وقع في (الموطأ) من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال ليهود خيبر [يوم الفتح] : أقركم [فيها] ، ما أقركم اللَّه [عز وجل] [ (2) ] ، على أن الثمر بيننا وبينكم، قال: فكان رسول
__________
[ (1) ] (التراتيب الادارية) : 1/ 398- 399، ثم قال: نقل الحافظ في (تلخيص الحبير) عن القضاعي: كان الزبير وجهم يكتبان أموال الصدقات، وترجم الحافظ في (الإصابة) :
جهم بن سعد، فقال: ذكره القضاعي في كتاب (النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) ، وأنه هو والزبير كانا يكتبان أموال الصدقة، وكذا ذكره القرطبي في (المولد النبوي) من تأليفه.
ونقل القلقشندي في (صبح الأعشى) ، عن (عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف) للقضاعى: أن الزبير بن العوام، وجهم بن الصلت كانا يكتبان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أموال الصدقات، وأن حذيفة بن اليمان كان يكتب له خرص النخل، فإن صح ذلك فتكون هذه الدواوين قد وضعت في زمانه صلّى اللَّه عليه وسلّم (المرجع السابق) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (الموطأ) .(9/381)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبعث عبد اللَّه بن رواحة فيخرّص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه [ (1) ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: هكذا روى هذا الحديث بهذا الإسناد، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد جماعة رواة الموطأ، وكذلك رواه أكثر أصحاب الزهري، وقد وصله منهم صالح بن أبى الأخضر، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما فتح خيبر دعي اليهود، فقال: نعطيكم الثمر على أن يعملوها على النصف، أقركم ما أقركم اللَّه،
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبعث عبد اللَّه بن رواحة يخرصها عليهم، ثم يخبرهم أيأخذون بخرصه أم يتركون.
وقال معمر عن الزهري: في هذا الحديث خمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، ولم يكن له ولا لأصحابه عمال ليعملونها، ويزرعونها، فدعا يهود خيبر، وكانوا أخرجوا منها، فدفع إليهم خيبر أن تعملوها على النصف، يردونه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، وقال لهم: أقركم على ذلك ما أقركم اللَّه،
فكان يبعث إليهم عبد اللَّه بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب، ثم يحضر يهود يأخذونها بذلك الخرص، أو يدفعونها بذلك الخرص.
قال: وإنما أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن يؤكل الثمر، ويفرق، وكانوا كذلك، وذكر تمام الخبر.
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن جريج، قال: أخبرت عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبعث ابن رواحة إلى اليهود، فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه، ثم يخبرون يهود أيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه عليهم بذلك، وإنما كان أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالخرص لكي يحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمرة، ويفرق [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (موطأ مالك) : 494، كتاب المساقاة، باب ما جاء في المساقاة.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 234، حديث رقم (24777) من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (24778) ، وفيه: " حين يطيب التمر، وقال: قبل أن يؤكل الثمار.(9/382)
وقد اختصره أبو داود [ (1) ] ، ولم يذكر الزكاة أيضا، ولأحمد من حديث وكيع أنبأنا العمرى، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، بعث ابن رواحة إلى خيبر، يخرص عليهم، ثم خيرهم أن يأخذوا أو يردوا، فقالوا: هذا الحق بهذا قامت السموات والأرض [ (2) ] .
وذكر ابن إسحاق أن عبد اللَّه بن رواحة، خرص عاما واحدا، ثم أصيب بموته، وكان جبار بن صخر أخو بنى سلمة، هو الّذي يخرص عليهم بعد عبد اللَّه بن رواحة، وكان جبار جاء من أهل المدينة وحاسبهم.
وقد روى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، بعث سهل بن خثيمة خارصا خيبر.
وقال ابن شهاب، عن عتاب بن أسد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثه، وأمره أن يخرص العنب، كما يخرص النخل، وأن يأخذ زكاة العنب زبيبا، كما يأخذ زكاة النخل تمرا، وذكره أبو داود [ (3) ] ،
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 3/ 699، كتاب البيوع والإجارات، باب (36) في الخرص، حديث رقم (3413) ، (3414) ، (3415) ، بأسانيد وسياقات مختلفة.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 2/ 257، كتاب الزكاة، باب (13) في خرص العنب، حديث رقم (1603) ، قال الخطابي في (معالم السنن) : إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزا لا يحول دونه حائل ولا يخفى موضعه في خلال ورق الشجر، والعنب في هذا المعنى كثمر النخل.
فأما سائر الثمار فإنّها لا تجرى فيها الخرص لأن هذا المعنى فيها معدوم وفائدة الخرص ومعناه أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر فلو منع أرباب المال من حقوقهم ومن الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لأضر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لأخل ذلك بحصة الفقراء منها إذ ليس مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة فوضعت الشريعة هذا المعيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى الانتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند أول وقت «بدو» صلاحها قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمرا وزبيبا. -(9/383)
سابق، قال: أنبأنا إبراهيم بن طهمان، عن أبى الزبير، عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: أفاء اللَّه خيبر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [كما كانوا] [ (1) ] ، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد اللَّه بن رواحة فخرصها عليهم، ثم قال: يا معشر اليهود أنتم أبغض [الخلق] إليّ، [قتلتم أنبياء اللَّه] وكذبتم على اللَّه، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن
__________
[ () ] وفيه دليل على صحة القسمة في الثمار بين الشركاء بالخرص لأنه إذا صح ان يكون عيارا في إفراز حصة الفقراء من حصة أرباب الأموال كان كلك عيارا في إفراز حصص الشركاء.
قلت: ولم يختلف أحد من العلماء في وجوب الصدقة في التمر والزبيب، واختلفوا في وجوب الصدقة في الزيتون، فقال ابن أبى ليلى: لا زكاة فيه لأنه" أدم غير مأكول بنفسه وهو آخر قولي الشافعيّ وأوجبها أصحاب الرأى وهو قول مالك والأوزاعي والثوري إلا أنهم اختلفوا في كيفية ما يؤخذ من الواجب فيه فقال أصحاب الرأى: يؤخذ من ثمرته العشر أو نصف العشر.
قال الأوزاعي: يؤخذ العشر منه بعد أن يعصر زيتا صافيا.
وأما الحبوب فقد اختلف العلماء فيها فقال أصحاب الرأى تجب الصدقة في الحبوب ما كان مقتاتا منها أو غير مقتات.
وقال الشافعيّ: كل ما جمع من الحبوب أن يزرعه الآدميون وييبس ويدخر ويقتات ففيه الصدقة، فأما ما يتفكه به أو ما يؤتدم به أو يتداوى به فلا شيء فيه.
وأخرجه الترمذي في الزكاة باب في الخرص حديث (644) ، وقال: [هذا حديث حسن غريب] وابن ماجة في الزكاة باب خرص النخل والعنب حديث (1819) قال الترمذي: [وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن عروة عن عائشة، وسألت محمدا- يعنى البخاري- عن هذا، فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أصح] .
قال المنذري: [وذكر غيره أن هذا الحديث منقطع، وما ذكره ظاهر جدا، فإن عتاب بن أسيد توفى في اليوم الّذي توفى فيه أبو بكر الصديق رضى اللَّه عنهما، ومولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر، سنة خمسة عشرة، على المشهور، وقيل: كان مولده بعد ذلك، واللَّه أعلم] .
[ (1) ] زيادة للسياق من (المسند) .(9/384)
[أبيتم] فلي، فقالوا: [لهذا] قامت السموات والأرض [ (1) ] . [قد أخذنا فاخرجوا عنا] .
وذكر الواقدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما فتح خيبر، سأله يهود، فقالوا:
يا محمد نحن أرباب النخل، وأهل المعرفة بها، فساقاهم على الشطر من التمر، والزرع، وكان يزرع تحت النخل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقركم ما أقركم اللَّه، فكانوا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى توفى، وأبى بكر، وصدرا من خلافة عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبعث عبد اللَّه بن رواحة، يخرص عليهم النخل، فإذا خرص قال: إن شئتم فلكم وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم لنا، ويضمن لكم ما خرصت، وأنه خرص عليهم أربعين ألف وسق فجمعوا له حليا من حلى نسائهم. فقالوا: هذا لك وتجاوز في القسم، فقال: يا معشر يهود واللَّه إنكم لمن أبغض خلق اللَّه إلى، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم، قالوا: لهذا قامت السموات والأرض،
وكان عبد اللَّه يخرص عليهم، فلما قتل يوم موته، بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا الهيثم بن التيهان، يخرص عليهم، ويقال جبار بن صخر، وكان نصنع بهم مثل ما كان يصنع ابن رواحة، ويقال: الّذي خرص بعد ابن رواحة عليهم فروة بن عمرو [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 344، حديث رقم (14536) من مسند جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 690- 691.(9/385)
فصل في ذكر من ولى السوق في زمن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتعرف هذه الولاية اليوم بالحسبة ومتوليها يقال له المحتسب [ (1) ]
اعلم أن الحسبة أمر بالمعروف، إذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر، إذا ظهر فعله، والأصل أن الاحتساب طلب الأجر، والاسم الحسبة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] قال الإمام العلامة أبو الفضل جمال الدين بن مكرم بن منظور الإفريقيّ المصريّ: الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير والنظر فيه، وليس هو من احتساب الأجر وفلان محتسب البلد، ولا تقل: محسبه (لسان العرب) : 1/ 317.
[ (2) ] قال العلامة مصطفى بن عبد اللَّه القسطنطىّ الرومىّ الحنفىّ، الشهير بالملا كاتب الجلبى، والمعروف بحاجى خليفة، في (كشف الظنون) : 1/ 77- 78: علم الاحتساب: وهو علم باحث عن علم الاحتساب وهو علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها من حيث إجرائها على قانون العدل بحيث يتم التراضي بين المتعاملين وعن سياسة العباد بنهي عن المنكر وأمر بالمعروف بحيث لا يؤدى إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع ومبادئه بعضها فقهي، وبعضها أمور استحسانية ناشئة من رأى الخليفة، والغرض منه تحصيل الملكة في تلك الأمور، وفائدته إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم، وهذا العلم من أدق العلوم ولا يدركه إلا من له فهم ثاقب، وحدس صائب، إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة، فلا بد لكل واحد من الزمان والأحوال سياسة خاصة، وذلك من أصعب الأمور فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلا من له قوة قدسية مجردة عن الهوى، كعمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولذلك كان علما في هذا الشأن كذا في (موضوعات) لطف اللَّه، وعرفه المولى أبو الخير بالنظر في أمور أهل المدينة بإجراء ما رسم في الرئاسة وما تقرر في الشرع ليلا ونهارا سرا وجهارا ثم قال وعلم الرئاسة [السياسة] المدنية مشتمل على بعض لوازم ها المنصب ولم نر كتابا صنف فيه خاصة وذكر في (الأحكام السلطانية) ما يكفى.
وتقول الدكتورة سعاد مصطفى أبو زيد في (الحسبة في مصر الإسلامية) : والمصادر التي تتحدث عن الحسبة شرعا تذكر دون استثناء تقريبا أنها وظيفة دينية أساسها الأمر بالمعروف-(9/386)
__________
[ () ] والنهى عن المنكر، والمقصود بالمعروف هنا هو كل قول أو فعل أو قصد حسنه الشارع وأمر به، والمنكر هو: هو كل قول أو فعل أو قصد قبحه الشارع ونهى عنه.
وقد حبب اللَّه إلينا الخير، وأمرنا أن ندعو إليه، فكره إلينا المنكر ونهانا عنه، وأمرنا بمنع غيرنا منه، ونحن نجد في نصوص القرآن الكريم وفي الآيات البينات خير أدلة على ذلك، فقد صدر الأمر بها صراحة في قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كذلك امتدحها في قوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وكذلك جعلها من صفات الإيمان وقرنها بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وطاعة اللَّه مع تقديمها في الذكر في قوله:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كما قرنها بكثير من صفات المؤمنين في قوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وجعل تركها والعمل بخلافها من صفات المنافقين في قوله: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وذم من تركها وجعل تركها سببا للعنة في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.
ثم أضافت الدكتورة سعاد مصطفى أبو زيد في (المرجع نفسه) ، الملحق رقم (5) وأثبتت به جدولا بأسماء أهم المحتسبين في مصر، وسنوات توليتهم، والحكام الذين تولوا في عهودهم، مؤيدا بالمراجع المتخصصة في الموضوع، وذلك من ص 252- 272، فليراجع هناك.
وأفرد الدكتور أحمد عبد الرزاق أحمد، في كتابه (البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك، دراسة عن الرشوة) ، فصلا خاصا أسماه: الوظائف الدينية والبذل والبرطلة، فقال:
أما الحسبة، خامس الوظائف الدينية الرفيعة التي كان لصاحبها مجلس بالحضرة السلطانية، وبدار العدل الشريف، فقد فسد أيضا أمرها نتيجة للبذل عليها طوال عصر سلاطين المماليك، وفي هذا المعنى يقول أحد كتاب القرن الثامن الهجريّ الرابع عشر الميلادى: «وأما أمر(9/387)
__________
[ () ] الحسبة فاعلموا- رحمكم اللَّه- أن أمرها قد فسد، واستحكم فساده، وكثر الطمع في أموال الناس يسببها، وقد بقيت سيئة فلا يحل للسلطان أن يوليها أحدا، ولا حاجة للناس بها.
والحق أن البذل على هذه الوظيفة يعتبر أحد الأسباب الرئيسية، التي عجلت يتدهورها وانهيارها، خاصة وأن الأمر لم يعد يقتصر على توليها بالرشوة والبراطيل، وإنما استقر الحال على توليها حسب مصطلح العصر عن طريق البذل، مما أدى إلى كثرة الطامعين فيها وإلى المزايدة عليها فيما بينهم، وبالتالي لم يعد المحتسب بحاجة إلى مجرد تناول رشوة مقنعة أو خفية، وإنما وصل به الحال إلى فرض مقررات شهرية على الباعة والتجار وأصحاب الحرف والصنائع.
ولهذا لم يكن عجيبا أن تسير الحسبة بخطي سريعة إلى الهاوية، بسبب تلاعب الجهلة بهذا المنصب الجليل، ففي سنة 809 هـ 1406 م، والتي يعدها وليها في الشهر الواحد ثلاثة أو أربعة، " بسبب ذلك أنهم فرضوا على المنصب مالا مقررا، فكان من قام في نفسه أن يليه يزن المبلغ ويخلع عليه، ثم يقوم آخر ويزن ويصرف الّذي قبله.
وفي رمضان سنة 789 هـ/ 1387 م، استقر نجم الدين محمد الطنبدى، وكيل بيت المال في حسبة القاهرة، عوضا عن جمال الدين محمود القيصري بحكم انتقاله إلى قضاء العسكر بعد أن سعى فيها بخمسين ألف درهم، قيمتها يومئذ أكثر من ألفى دينار ذهب.
ويبدو أن بهاء الدين محمد بن البرجي كان دائب السعي على هذه الوظيفة بدليل أنه عاد إليها في شهر ربيع الأول سنة 799 هـ/ 1397 م، بمال قام به في ذلك، إذ أنه لم يل قط إلا بمال، فتشاءم الناس من ولايته.
وفي شعبان من نفس العام استقر زين الدين شعبان الآثاري في حسبة الفسطاط، عوضا عن نور الدين على بن عبد الوارث البكري بمال التزم به، يبدو أنه استدان أغلبه، لأنه يفهم من المصادر المعاصرة أنه اضطر إلى الفرار من هذا المنصب في شهر ذي القعدة سنة 800 هـ 1398 م، هربا من مطالبة أرباب الديون بمالهم، فخلع بها على شمس الدين محمد الشاذلى، الّذي كان عاريا من العلم، غاية في الجهل، حتى تولى بالبذل والبراطيل.
وحل القرن التاسع الهجريّ لتدخل الحسبة أخطر مراحل تدهورها وانهيارها، بسبب كثرة البذل والسعي عليها، مما نتج عنه عدم استقرار هذه الوظيفة البالغة الأهمية بالنسبة للحياة الاقتصادية، ويكفى للتدليل على ذلك، أنه وليها على مدى هذا القرن مائة وثلاثة وعشرين(9/388)
وخرج البخاري من حديث الليث عن يونس عن ابن شهاب قال:
أخبرنى سالم بن عبد اللَّه، أن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: رأيت الناس في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبتاعون جزافا [يعنى الطعام] يضربون أن يبيعون في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم [ (1) ] .
__________
[ () ] محتسبا للقاهرة فقط، اتهمت المصادر المعاصرة أغلبهم بالسعي عليها بالمال رغم جهلهم وسوء سلوكهم.
ويجمع المعاصرون على أن أضخم مبلغ بذل على هذه الوظيفة خلال القرن التاسع الهجريّ الخامس عشر الميلادى، هو عشرة آلاف دينار، بذلها شمس الدين بن يعقوب في المحرم سنة 820 هـ 1317 م، على هيئة هدايا قدمها للسلطان المؤيد، ومع ذلك فلم يمكث فيها سوى ستة أشهر، حيث عزل في جمادى الآخرة، بعد أن سعى عليه عماد الدين ابن بدر الدين ابن الرشيد.
قال محققه: ومع ذلك فهناك ثلاثة من الأتقياء العلماء العاملين قد شغلوا وظيفة المحتسب بجدارة، وعن استحقاق، وبعضهم شغلها أكثر من مرة، وهم:
- بدر الدين العيني، صاحب كتاب (عمدة القاري بشرح صحيح البخاري) ، وصاحب قصر العيني المقام عليه كلية الطب- جامعة القاهرة حتى الآن.
- أحمد بن على بن عبد القادر المقريزي، تقى الدين، المؤرخ، صاحب كتاب (إمتاع الأسماع) .
- أحمد بن على بن حجر صاحب كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري) ، والّذي قال عنه السيوطي في (طبقات الحفاظ) : «حافظ الدنيا على الإطلاق» .
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 441، كتاب البيوع، باب (56) من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك، حديث رقم (2137) ، قوله: «باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك» أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله، ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول فلما ثبت من النهى عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود. -(9/389)
وخرجه مسلم من حديث ابن وهب، قال: أخبرنى يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرنى سالم أن أباه قال: قد رأيت الناس في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذا ابتاعوا الطعام جزافا يضربون أن يبيعوه في مكانهم، ذلك حتى تؤوي
__________
[ () ] وأما الثاني: فلان الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن عمر: «كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من يأمرنا بانتقاله من المكان الّذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه،» وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل:
فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم بأن الجزاف مر بي فتكفى فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون، وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه» .
ورواه أبو داود والنسائي بلفظ «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه» والدار قطنى من حديث جابر «نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان البائع والمشترى» ونحوه للبزار من حديث أبى هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور، وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول والأحاديث المذكورة ترد عليه، وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعى أحوالهم في ذلك واللَّه تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشترى قدرها فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها قبضها.(9/390)
إلى رحالهم [ (1) ] ، [قال ابن شهاب: وحدثني عبيد اللَّه بن عمر أن أباه كان يشترى طعاما جزافا فيحمله إلى أهله] [ (2) ] .
وخرجه البخاري أيضا في كتاب الحدود من حديث معمر، عن الزهري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، أنهم كانوا يضربون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم. ذكره في باب كم التعزير والأدب [ (3) ] .
وخرجه مسلم بهذا السند، ولفظه: عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عنهما، أنهم كانوا يضربون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذا اشتروا طعاما جزافا، أن يبعوه في مكانه حتى يحولوه [ (4) ] .
وخرجه البخاري أيضا من حديث الأوزاعي [عن الزهري] عن سالم، عن أبيه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن يبيعوه، حتى يؤووه إلى رحالهم، ذكره في باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 427، كتاب البيوع، باب (8) بطلان بيع المبيع قبل القبض، حديث رقم (38) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 12/ 216، كتاب الحدود، باب (42) كم التعزير والأدب، حديث رقم (6852) ، قال الحافظ في (الفتح) : التعزير مصدر عزره، وهو مأخوذ من العزر، وهو الرد والمنع، واستعمل في الدفع عن الشخص، كدفع أعدائه عنه، ومنعهم إضراره، ومنه:
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وكدفعه عن إتيان القبيح، ومنه: عزره القاضي أي لئلا يعود إلى القبيح، ويكون بالقول وبالفعل، بحسب ما يليق به، والمراد بالأدب في الترجمة التأديب، وعطفه على التعزير لأن التعزير يكون بسبب المعصية، والتأديب أعم منه. (فتح الباري) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 427، كتاب البيوع، باب (8) بطلان بيع المبيع قبل القبض، حديث رقم (37) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 4/ 437، كتاب البيوع، باب (54) ما يذكر في بيع الطعام أو الحكرة، حديث رقم (2131) ، قال الحافظ في (الفتح) قوله: «باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة» -(9/391)
وخرج مسلم من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: كنا في زمان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الّذي اتبعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن نبيعه [ (1) ] .
__________
[ () ] أي بضم المهملة وسكون الكاف: حبس السلع عن البيع، هذا مقتضى اللغة، وليس في أحاديث الباب للحكرة ذكر كما قال الإسماعيلي، وكأن المصنف استنبط ذلك من الأمر بنقل الطعام إلى الرحال ومنع بيع الطعام قبل استيفائه، فلو كان الاحتكار حراما لم يأمر بما يؤول إليه، وكأنه لو يثبت عنده
حديث معمر بن عبد اللَّه مرفوعا ولا يحتكر إلا خاطئ «أخرجه مسلم،
لكن مجرد إيواء الطعام إلى الرحال لا يستلزم الاحتكار الشرعي، لأن الاحتكار الشرعي إمساك الطعام عن البيع وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة الناس إليه، وبهذا فسره مالك عن أبى الزناد عن سعيد بن المسيب، وقال مالك فيمن رفع طعاما من ضيعته إلى بيته: ليست هذه بحكرة، وعن أحمد إنما يحرم احتكار الطعام المقتات دون غيره من الأشياء، ويحتمل أن يكون البخاري أراد بالترجمة بيان تعريف الحكرة التي نهى عنها في غير هذا الحديث وأن المراد بها قدر زائد على ما يفسره أهل اللغة، فساق الأحاديث التي فيها تمكين الناس من شراء الطعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعا لمنعوا من نقله، أو لبين لهم عند نقله المدى الّذي ينتهون إليه، أو لأخذ على أيديهم من شراء الشيء الكثير الّذي هو مظنة الاحتكار، وكل مشعر بأن الاحتكار إنما يمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة، وقد ورد في ذم الاحتكار أحاديث: منها حديث معمر المذكور أولا
وحديث عمر مرفوعا «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللَّه بالجذام والإفلاس» رواه ابن ماجة وإسناده حسن،
وعنه مرفوعا قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» أخرجه ابن ماجة والحاكم إسناده ضعيف، وعن ابن عمر مرفوعا «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد بريء من اللَّه وبريء منه.» أخرجه أحمد والحاكم وفي إسناده مقال.
وعن أبى هريرة مرفوعا «من احتكر حكرة يريد أن يغالى بها على المسلمين فهو خاطئ.
» أخرجه الحاكم.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 426، كتاب البيوع، باب (8) بطلان بيع المبيع قبل القبض، حديث رقم (33) ، قال الإمام النووي: وفي هذه الأحاديث النهى عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع، واختلف العلماء في ذلك فقال الشافعيّ لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعاما-(9/392)
وخرجه أبو داود، وزاد في آخره: «يعنى نشتري به جزافا [ (1) ] ، وخرجه النسائي أيضا [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن نافع قال: أنبأنا ابن عمر أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه، حتى ينقلوه حيث
__________
[ () ] أو عقارا، أو منقولا، أو نقدا، أو غيره. وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع. وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه، ووافقه كثيرون. وقال آخرون: لا يجوز في المكيل والموزون ويجوز فيما سواهما. أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه فهو شاذ متروك واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 3/ 760- 761، كتاب البيوع والإجارات، باب (67) في بيع الطعام قبل أن يستوفي، حديث رقم (3493) .
قال الخطابي: القبوض تختلف في الأشياء بحسب اختلافها في أنفسها وحسب اختلاف عادات الناس فيها، فمنها ما يكون بأن يوضع المبيع في يد صاحبه ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المشترى، ومنها ما يكون بالنقل من موضعه ومنها ما يكون بأن يكتال وذلك فيما بيع من المكيل كيلا، فأما ما يباع منه جزافا صبرة مضمومة على الأرض فالقبض فيه: أن ينقل ويحول من مكانه، فإن ابتاع طعاما كيلا ثم أراد أن يبيعه بالكيل الأول لم يجز حتى يكليه على المشترى ثانيا،
وذلك لما روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشترى» .
وممن قال إنه يجوز بيعه بالكيل الأول حتى يكال ثانيا: أبو حنيفة وأصحابه، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وهو مذهب الحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، والشعيبي، وقال مالك: إذا باعه نسيئة فهو المكروه، فأما إذا باعه نقدا فلا بأس أن يبيعه بالكيل الأول، وروى عن عطاء أنه أجاز بيعه نسيئة كان أو نقدا.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 7/ 231، كتاب البيوع، باب (57) بيع ما يشترى من الطعام جزافا قبل أن ينقل من مكانه، حديث رقم (4619) .
قال السيوطي في قوله: «من يأمرنا» هذا أصل إقامة المحتسب أهل السوق. -(9/393)
يباع الطعام [ (1) ] . وذكر أبو عمر بن عبد البر، أن سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، استعمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد الفتح على سوق مكة، فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف، خرج معه، فاستشهد [ (2) ] ، واستعمل عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على سوق المدينة السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود، مع عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود [ (3) ]
__________
[ (1) ] وأخرج الإمام أحمد قريبا منه في (المسند) : 2/ 296، حديث رقم (6156) ، من مسند عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] ترجمته في (الاستيعاب) : 2/ 621، ترجمة رقم (984) ، (الإصابة) : 3/ 105 ترجمة رقم (3265) .
[ (3) ] هو السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن أخت النمر مختلف في نسبته، فقيل:
كثانى، وقيل: كندى، وقيل: ايثى، وقيل: سلمى، وقيل: هذلي، وقيل: أزدى، وقال ابن شعاب: هو من الأزد، وعداوة في بنى كنانة، وقيل: هو حليف لبني أمية، أو لبني عبد شمس ولد في سنة الثانية من الهجرة، فهو يرب ابن الزبير، والنعمان بن بثير في قول من قال ذلك، كان عاملا لعمر على سوق المدينة مع عبد اللَّه بن عتبة مسعود.
وقال السائب: حج بى أبى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانا ابن سبع سنين، هذه رواية محمد بن يوسف، عنه.
قال ابن عيينة، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: لما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من غزوة تبوك تلقاه الناس، فتلقيته مع الناس، وقال مرة: مع الغلمان، وفي حجة الوداع أيضا.
حدثنا محمد بن الحكم، حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا غسحاق ابن أبى حيان [الأنماطي] ، حدثنا هشام بن عمارة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا الجعيد ابن عبد الرحمن، قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: ذهبت بى خالتي الى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن أختى وجع، فدعا لي، ومسح برأسي، ثم توضأ، فشبت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه كأنه زر الحجلة.
اختلف في وقت وفاته، واختلف في سنه ومولده، فقيل: توفى سنة ثمانين، وقيل: سنة ست وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين، وهو ابن أربع وتسعين وقيل: بل(9/394)
[وسليمان بن أبى خيثمة] [ (1) ] .
وقال ابن أبى خثيمة [كانت الشفاء ممن استعمله عمر على سوق المدينة] [ (2) ] ، والشفاء هذه هي الشفاء أم سليمان بنت عبد اللَّه بن قرط بن رزاح ابن عدي بن كعب العدوية [ (3) ] ، وكانت سمراء بنت نهيك الأسدية ممن أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمرت وكانت تمر في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط معها [ (4) ] .
__________
[ () ] توفى وهو ابن ست وتسعين، وقال الواقدي: ولد السائب بن يزيد ابن أخت النمر- وهو رجل من كندة من أنفسهم، له حلف في قريش- في سنة ثلاث من التاريخ، له ترجمة في (الاستيعاب) : 2/ 576- 577، (الإصابة) : 3/ 26- 28، ترجمة رقم (3079) .
[ (1) ] زيادة للسياق من (افصابه) : 3/ 27.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (الأصل) ، وصوبناه من قواميس التراجم.
[ (3) ] هي الشفاء بنت عبد اللَّه بن عبد شمس بن خلف بن شداد- أو صيداد- بن عبد اللَّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشية العدوية، وقيل: خالد بدل خلف، وقيل: صداد بدل شداد، وقيل: ضرار، أمها فاطمة بنت وهب بن عمرو بن عائد بن عمران المخزومية.
أسلمت الشفاء قبل الهجرة، وهي من المهاجرات الأول، وبايعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يزورها ويقيل عندها في بيتها، وكانت قد اتخذت له فراشا وإزارا ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها حتى أخذه منه مروان بن الحكم، وقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: علمي حفصة رقية النحلة كما علمتها الكتابة.
وأقطعها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دارها عند الحكاكين بالمدينة، فنزلتها مع ابنها سليمان، وكان عمر يقدمها في الرأى ويرعاها، [ويرضاها] ، ويفضلها، وربما ولاها شيئا من أمر السوق، لها ترجمة في (الإصابة) : 7/ 727- 729، ترجمة رقم (11373) ، (الاستيعاب) :
4/ 1868- 1870، ترجمة رقم (3398) .
[ (4) ] (الاستيعاب) : 4/ 1863، ترجمة رقم (3386) ، (الإصابة) : 7/ 712، ترجمة رقم (11332) .
وعن جواز قيام المرأة بوظيفة المحتسب، فقد نقل الكتاني في (التراتيب الإدارية) ما ذكره القاضي أبو العباس أحمد بن سعيد في كتابه (التيسير في أحكام التسعير) ، أن من شرط المحتسب أن يكون ذكرا، إذ الداعي للذكورة أسباب لا تحصى، وأمور لا تستقصى، ولا يرد(9/395)
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء التاسع ويليه الجزء العاشر وأوله:
«فصل في ذكر من كان من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير»
__________
[ () ] ما ذكر ابن هارون أن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولى الحسبة في سوق من الأسواق امرأة تسمى أم الشفاء الأنصارية، لأن الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، وتلك القضية من الندرة بمكان، ولعله في أمر خاص يتعلق بأمور النسوة. (التراتيب الإدارية) : 1/ 285- 286.(9/396)
[المجلد العاشر]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فصل في ذكر من كان من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمنزله صاحب الشرطة من الأمير [ (1) ]
خرج البخاري في كتاب الأحكام من حديث محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، قال: حدثني أبى عن ثمامة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، ذكره في باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الّذي فوقه [ (2) ] .
وخرجه الترمذي [ (3) ] في كتاب المناقب بهذا السند، ولفظه عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان قيس بن سعد، من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. قال الأنصاري: يعنى مما يلي من أموره. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الأنصاري [حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد اللَّه الأنصاري نحوه، ولم يذكر فيه قول الأنصاري] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الشرطة في السلطان: من العلامة والإعداد، ورجل شرطي وشرطي: منسوب إلى الشرطة، والجمع شرط، سموا بذلك لأنهم أعدوا لذلك وأعلموا أنفسهم بعلامات. وقيل: هم أول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت. (لسان العرب) : 7/ 330.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 167، كتاب الأحكام، باب (12) الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الّذي فوقه، حديث رقم (7155) .
قال الحافظ في (الفتح) : وفي الحديث تشبيه ما مضى بما حدث بعده، لأن صاحب الشرطة لم يكن موجودا في العهد النبوي عند أحد من العمال، وإنما حدث في دولة بنى أمية، فأراد أنس تقريب حال قيس عند السامعين فشبهه بما يعهدونه.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 647- 648، كتاب المناقب، باب (52) في مناقب قيس بن سعد بن عبادة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3850) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .(10/3)
وخرج الحاكم من حديث محمد بن إسحاق الصغاني، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبى، قال: سمعت منصور بن زاذان يحدث عن ميمون بن أبى شبيب عن قيس بن سعد بن عبادة [قال] : إن أباه دفعه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يخدمه، قال: فأتى على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وقد صليت ركعتين، فضربني برجله، فقال: ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلى العظيم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (1) ] .
وكان القصد في ذكره في هذا الموضع أن الوالد له مباح يخدم ولده، ثم للموهوب له الخدمة أن يستخدم منه، ثم يعرف من فضل قيس بن سعد، أنه خدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حتى صار منه بمنزلة صاحب الشرطة.
وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاريّ، الخزرجىّ، أبو الفضل أحد كرام الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وأحد الفضلاء الجلة، وأحد دهاة العرب، وأهل الرأى، والمكيدة في الحروب، مع النجدة والسخاء [والشجاعة] [ (2) ] .
وكان شريف قومه غير مدافع هو وأبوه وجده [كذلك] ، وصحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هو، وأبوه، وأخوه سعيد بن سعد بن عبادة، ثم صحب عليّ ابن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وشهد معه الجمل، وصفين، والنهروان هو قومه، وولاه مصر، ثم صرفه، وتوفى بالمدينة سنه ستين أو تسع وخمسين [ (3) ] .
وقد ذكرته ذكرا مبسوطا في كتاب (عقد جواهر الأسفاط فيمن ملك مصر الفسطاط) [ (4) ] ، وذكرته أيضا في (التاريخ الكبير المقفى) [ (5) ] فانظره.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 323، حديث رقم (7787) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (الإصابة) .
[ (3) ] سبقت له ترجمة مطولة.
[ (4) ] من مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
[ (5) ] له أخبار في (المقفى الكبير) للمقريزي: 2/ 421، 5/ 530.(10/4)
فصل في ذكر من كان يقيم الحدود بين يدي
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ومن كان يضرب الرقاب ذكر القاضي أبو بكر بن العربيّ [ (1) ] ، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جعل إقامة الحدود لجماعة منهم: على بن أبى طالب، ومحمد بن مسلمة الأنصاريّ، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وقال الواقدي في وقعة بدر: وأقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالأسرى حتى إذا كان بعرق الظبية، وقيل: بالصفراء، أمر عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبى معيط، وكان أسره عبد اللَّه بن سلمة بن مالك العجلانىّ، جمح به فرسه فأخذه، فأخذ عقبة يقول: يا ويلى! علام أقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لعداوتك للَّه ورسوله.
قال: يا محمد منك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت على، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد! من للصبية؟.
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: النار قدمه يا عاصم، فاضرب عنقه! فقدمه عاصم، فضرب عنقه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: بئس الرجل كنت، واللَّه ما علمت كافرا باللَّه، وبرسوله، وكتابه، مؤذيا لنبيه منك، فأحمد اللَّه الّذي هو
__________
[ (1) ] هو محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن أحمد المعروف بابن العربيّ المعافري الإشبيلي المالكي، يكنى أبا بكر. كان مولده ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة. حج في موسم سنة تسع وثمانين، وسمع بمكة من أبى على الحسين بن على الطبري وغيره من العلماء والأدباء، فدرس عندهم الفقه والأصول، وقيد الحديث، واتسع في الرواية، وأتقن مسائل الخلاف، والأصول، والأحكام، على أئمة هذا الشأن. توفى في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، منصرفه من مراكش، وحمل ميتا إلى مدينة فاس، ودفن بها. (أحكام القرآن) لابن العربيّ، المقدمة.(10/5)
قتلك، وأقر عيني منك [ (1) ]
[قيل: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمر به فصلب، وكان أول مصلوب في الإسلام] [ (2) ] .
[قال ابن الكلبي: كان أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فوقع على أمة للخم يهودية من أهل صفورية يقال لها: ترنا، وكان لها زوج من أهل صفورية يهودي، فولدت له ذكوان فادعاه أمية واستخلفه وكناه أبا عمرو، ثم قدم به مكة، فلذلك
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لعقبة يوم أمر بقتله: إنما أنت يهودي من أهل صفورية،
ولاه عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على صدقات بنى تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص وكان أبو عزة عمرو بن عبد اللَّه الجمحيّ قد من عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى فقال: إني فقير ذو عيال وحاجة، قد عرفتها، فامنن عليّ، فمن عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] .
[فقال له صفوان ابن أمية: يا أبا عزة! إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج معنا، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ، فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: فأعنا بنفسك، فلك اللَّه عليّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة في تهامة، ويدعو بنى كنانة ويقول:
إيها بنى عبد مناة الرزام [ (3) ] ... أنتم حماة وأبوكم حام
[لا تعدونى نصركم بعد العام ... لا تسلموني لا يحل إسلام] [ (4) ]
ثم سار مع قريش فأسر، ولم يؤسر غيره من قريش، فقال: يا محمد إنما خرجت كرها، ولي بنات فامنن عليّ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أين ما
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 113- 114.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين ليس في (المغازي) .
[ (3) ] الرزام: من يثبتون في مكانهم لا يبرحونه، يذكرهم أنهم ثابتون في الحرب.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (الأصل) وأثبتناه من (سيرة ابن هشام) : 4/ 6(10/6)
أعطيتنى من العهد والميثاق [لا واللَّه لا تمسح عارضيك تقول: سخرت بمحمد مرتين] [ (1) ] ... شهد مرتين.
وفي رواية أنه قال له: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، يا عاصم [بن ثابت] قدمه، فاضرب عنقه، فقدمه عاصم، فضرب عنقه،
وحمل رأسه إلى المدينة في رمح، فكان أول رأس حمل في الإسلام، وقيل:
بل رأس كعب بن الأشرف أول رأس حمل في الإسلام [ (2) ] .
وذكر الواقدي أن حضير الكتائب [ (3) ] جاء بنى عمرو بن عوف فكلم سويد بن الصامت بن خالد بن عطية [ (4) ] بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف ابن مالك، بن الأوس [ (5) ] ، وخوات بن جبير [ (6) ] ، وأبا لبابة بن عبد المنذر [ (7) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين استدراك من (سنن البيهقي) : 9/ 65، (مغازي الواقدي) : 1/ 309
[ (2) ] قاله ابن سعد في (الطبقات) : 2/ 33، سرية قتل كعب بن الأشرف.
[ (3) ] هو حضير الكتائب بن سماك، سيد الأوس يوم بعاث، وقتل يومئذ، وابنه أسيد بن الحضير، بدريّ، عقبىّ، نقيب، لا عقب له، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. (جمهرة أنساب العرب) : 339.
[ (4) ] كذا في (جمهرة أنساب العرب) ، وفي (الإصابة) : ابن عقبة.
[ (5) ] لقي سويد بن الصامت بن الأوس النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بسوق ذي المجاز من مكة في حجة حجها سويد على ما كانوا يحجون عليه في الجاهلية، وذلك في أول مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ودعائه إلى اللَّه عز وجل، فدعاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الإسلام، فلم يرد عليه سويد شيئا، ولم يظهر له قبول ما دعاه إليه، وقال له: لا أبعد ما جئت به، ثم انصرف إلى قومه بالمدينة، فيزعم قومه أنه مات مسلما وهو شيخ كبير، قتلته الخزرج في وقعة كانت بين الأوس والخزرج، وذلك قبل بعاث.
قال أبو عمر: أنا شاك في إسلام سويد بن الصامت، كما شك فيه غيري، ممن ألف في هذا الشأن قبلي، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. وكان شاعرا، محسنا، كثير الحكم في شعره، وكان قومه يدعونه الكامل لحكمة شعره، وشرفه فيهم، له ترجمة في (الاستيعاب) : 2/ 677، ترجمة رقم (1116) ، (الإصابة) : 3/ 305، 306، ترجمة رقم (3822) ، (جمهرة أنساب العرب) : 327- 328، (مغازي الواقدي) : 1/ 303- 304.(10/7)
__________
[ () ] (6) هو خوات بن جبير الأنصاري، ومن حديثه: أنه حضر سوق عكاظ، فانتهى إلى امرأة من هذيل تبيع السمن، فأخذ نحيا من أنحائها [النحى بكسر النون: الزق الّذي يجعل فيه السمن خاصة] ، ففتحه وذاقه، ودفع فم النحى إليها، فأخذته بإحدى يديها، وفتح الآخر وذاقه ودفع فمه إليها، فأمسكته، بيدها الأخرى، ثم غشيها وهي لا تقدر على الدفع عن نفسها، لحفظها فم النحيين، فلما قام عنها، قالت: لا هناك، فرفع خوات عقيرته، يقول:
وأم عيال واثاقين بكسبها ... خلجت لها جار استها خلجات
شغلت يديها إذا أردت خلاطها ... بنحيين من سمن ذوى عجرات
وأخرجته ريان ينطف رأسه ... من الرامك المخلوط بالمقرات
فكان لها الويلات من ترك نحيها ... وويل لها من شدة الطعنات
فشدت على النحيين كفى شحيحة ... على سمنها والفتك من فعلاتى
فضربت العرب بهما المثل فقالت: «أنكح من خوات» ، «وأغلم من خوات» ، «أشغل من ذات النحيين» ، «أشح من ذات النحيين» .
والرامك: ضرب من الطيب تتضايق به المرأة، كما تتضايق بعجم الزبيب، ومن ذلك ما قاله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين في كتابه إلى الحجاج الثقفي يلومه لما تطاول على سيدنا أنس بن مالك: أما بعد، فإنك عبد من ثقيف طمحت بك الأمور، فعلوت فيها وطغيت، حتى عدوت قدرك، وتجاوزت طورك، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب، (الوافي) 9/ 412.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: خوات بن جبير هو صاحب النحيين- بكسر النون وسكون المهملة تثنية نحى، وهو ظرف السمن، فقد ذكر ابن أبى خيثمة القصة من طريق ابن سيرين، قال: كانت امرأة تبيع سمنا في الجاهلية، فدخل رجل فوجدها خالية، فراودها، فأبت، فخرج فتنكر ورجع، فقال: هل عندك سمن طيب؟ قالت: نعم، فحلت زقا فذاقه، فقال: أريد أطيب منه، فأمسكته وحلت آخر، فقال: أمسكيه فقد انفلت بعيري، قالت:
اصبر حتى أوثق الأول، قال: لا، قالت: وإلا تركته من يدي يهراق، قال: فإنّي أخاف أن لا أجد بعيري، فأمسكته بيدها الأخرى، فانقض عليها، فلما قضى حاجته قالت له: لا هناك.
قال الواقدي: عاش خوات إلى سنة أربعين، فمات فيها وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة، وكان ربعة من الرجال، له ترجمة في (الإصابة) : 2/ 346- 348، ترجمة رقم(10/8)
ويقال سهل بن حنيف [ (1) ] ، فقال: تزورونني فأسقكم من الشراب، وأنحر لكم، وتقيمون عندي أياما، قالوا: نحن نأتيك يوم كذا وكذا، فلما كان ذلك اليوم جاءوه، فنحر لهم جزورا، وسقاهم الخمر، وأقاموا عنده ثلاثة أيام، حتى تغير اللحم.
__________
[ () ] (2300) ، (الاستيعاب) : 2/ 455- 457، ترجمة رقم (686) ، (مغازي الواقدي) :
1/ 303، (جمهرة أمثال العرب) : 1/ 564، 2/ 321- 322.
[ (7) ] هو أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، مختلف في اسمه، قال موسى بن عقبة: اسمه بشير بوزن عظيم، وقال ابن إسحاق: اسمه رفاعة، وكذا قال ابن نمير وغيره.
قال ابن إسحاق: زعموا أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رد أبا لبابة والحارث بن حاطب بعد أن خرجا معه إلى بدر، فأمّر أبا لبابة على المدينة، وضرب لهما بسهميهما وأجرهما مع أصحاب بدر، وكذلك ذكره موسى بن عقبة في البدريين، وقالوا: كان أحد النقباء ليلة العقبة.
يقال: مات في خلافة على، وقال خليفة بن خياط: مات بعد مقتل عثمان، ويقال:
عاش إلى بعد الخمسين، له ترجمة في (الإصابة) : 7/ 349- 350، ترجمة رقم (10466) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 214، (الاستيعاب) : 4/ 1740، 1742، ترجمة رقم (3149) (مغازي الواقدي) : 1/ 303.
[ (1) ] هو سهل بن حنيف بن وهب- أو واهب- بن الحكيم بن ثعلبة، بن مجدعة بن الحارث بن عمرو بن خانس، ويقال: ابن خنساء بن عوف بن مالك بن الأوس.
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وثبت يوم أحد، وكان بايعه يومئذ على الموت، فثبت معه حين انكشف عنه الناس، وجعل ينضح بالنبل يومئذ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: نبلو سهلا فإنه سهل،
ثم صحب عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من حين بويع له، وإياه استخلف عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حين خرج من المدينة إلى البصرة، ثم شهد مع عليّ، صفين، وولاه على فارس، فأخرجه أهل فارس، فوجه عليّ زيادا، فأرضوه وصالحوه، وأدوا الخراج.
مات سهل بن حنيف بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه عليّ وكبر ستا، وروى عنه ابنه وجماعة معه، له ترجمة في: (الاستيعاب) : 2/ 662- 663- ترجمة رقم (1084) ، (الإصابة) : 3/ 198- 199، ترجمة رقم (3529) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 39.(10/9)
وكان سويد يومئذ شيخا كبيرا، فلما مضت الثلاث، قالوا: ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا، فقال حضير: ما أحببتم! إن أحببتم فأقيموا، وإن أحببتم فانصرفوا. فخرج الفتيان بسويد بحملانه حملا من الثمل، فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريبا من بنى غصينة، وهي وجاه بنى سالم إلى مطلع الشمس. فجلس سويد وهو يبول، وهو ممتلى سكرا، فبصر به إنسان من الخزرج. فخرج حتى أتى المجذر بن زياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟
قال: ما هي؟ قال: سويد أعزل لا سلاح معه، ثمل، قال: فخرج المجذر ابن زياد بالسيف صلتنا، فلما رآه الفتيان وليا، وهما أعزلان لا سلاح معهما- فذكرا العداوة بين الأوس والخزرج- فانصرفا سريعين، وثبت الشيخ ولا حراك به- فوقف عليه مجذر بن زياد فقال: قد أمكن اللَّه منك! فقال: ما تريد بى؟
قال: قتلك. قال: فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، وإذا رجعت إلى أمك فقل: إني قتلت سويد بن الصامت، وكان قتله هيج وقعة بعاث.
فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت ومجذر بن زياد، فشهدا بدرا فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه يومئذ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث ابن سويد قتل مجذرا غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى قباء في اليوم الّذي أخبره جبريل، في يوم حار، وكان ذلك يوما لا يركب فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى قباء، إنما كانت الأيام التي يأتى فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قباء يوم السبت ويوم الاثنين، فلما دخل وسمعت الأنصار فجاءت تسلم عليه، وأنكروا إتيانه في تلك الساعة وفي ذلك اليوم،
فجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة [ (1) ] ، فلما رآه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دعا عويم
__________
[ (1) ] مورسة، أي مصبوغة بالورس،
وفي (ديوان حسان) : ملحفة حمراء، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
قتلت المجذر؟ قال: نعم يا رسول اللَّه، واللَّه ما شككت في ديني، ولكنى رأيت قاتل أبى فحملتني الحمية، وأنا أصوم أربعة أشهر متتابعات، وأعتق رقبتين، وأطعم عشرين ومائة(10/10)
ابن ساعدة فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زياد، فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم فقال الحارث: دعني أكلم رسول اللَّه! فأبى عويم عليه، فجابذه يريد كلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ونهض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يريد أن يركب، ودعا بحماره على باب المسجد، فجعل الحارث يقول: قد واللَّه قتلته يا رسول اللَّه، واللَّه ما كان قتلى إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه، ولكن حمية الشيطان وأمر وكلت فيه إلى نفسي، وإني أتوب إلى اللَّه وإلى رسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، وأطعم ستين مسكينا، إني أتوب إلى اللَّه ورسوله! وجعل يمسك بركاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وبنو المجذر حضور لا يقول لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه! وركب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقدمه عويم على باب المسجد فضرب عنقه.
ويقال: إن خبيب بن يساف، نظر إليه حين ضرب عنقه فجاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، فركب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إليهم يمحص عن هذا الأمر، فبينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على حماره، فنزل عليه جبريل فخبره بذلك في مسيره، فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عويما فضرب عنقه، وقال حسان بن ثابت [للحارث بن سويد ابن الصامت الأنصاري] :
يا حار في سنة من نوم أولكم ... أم كنت ويحك مغترا بجبريل
أم كنت يا ابن زياد حين تقتله ... ذي غرة في فضاء الأرض مجهول
وقلتم لن نرى واللَّه يبصركم ... وفيكم محكم الآيات والقيل
محمد والعزيز اللَّه يخبره ... بما تكنّ سريرات الأقاويل [ (1) ] .
__________
[ () ] مسكين، وأخرج ديتين، فصمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى استفرغ كلامه، ثم وضع رجله في الركاب وقال: يا عويم بن ساعدة، اضرب عنقه! ومضى، فضرب عويم عنقه.
فقال حسان للحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري: ... وذكر الأبيات.
[ (1) ] هذه الأبيات مضطربة السياق والوزن والقافية في (الأصل) ، فأثبتناها من (ديوان حسان) :
301، قصيدة رقم (200) .(10/11)
فصل في ذكر من أقام عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حد الزنا
قال ابن سيده: زنا الرجل يزني زنا وزناء، وكذلك المراة أيضا وزانى مزاناة وزناء بالمد، عن اللحياني، وكذلك المرأة أيضا.
والمرأة تزانى مزاناة وزناء أي تباغى، قال اللحياني: الزنى مقصور، لغة أهل الحجاز، قال اللَّه تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بالقصر، والنسبة إلى المقصور زنوى، والزناء ممدود لغة بنى تميم، وفي (الصحاح) :
المد لأهل نجد، والنسبة إلى الممدود: زنائى، وزناه زنية، نسبة إلى الزنا، وقال له: يا زانى.
وفي الحديث: ذكر قسطنطينية الزانية، يريد الزاني أهلها، كقوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، أي كانت ظالمة الأهل.
وقد زانى المرأة مزاناة وزناء، وقال اللحياني: قيل لابنة الخس: ما أزناك؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، فكأن قوله: ما أزناك؟ ما حملك على الزنا؟ قال: ولم يسمع هذا إلا في حديث ابنة الخس.
وهو ابن زنية وزنية، والفتح أعلى، أي ابن زنا، ويقال للولد إذا كان من زنا: هو لزنية، وقد زناه: من التزنية، أي قذفه [ (1) ] .
كانت عقوبة الزنا في صدر الإسلام، عقوبة خفيفة مؤقتة، لأن الناس كانوا حديثي عهد بحياة الجاهلية، ومن سنة اللَّه جل وعلا في تشريع الأحكام أن يسير بالأمة في طريق التدرج، ليكون أنجح في العلاج، وأحكم في التطبيق، وأسهل على النفوس لتقبل شريعة اللَّه، عن رضى واطمئنان.
وقد كانت العقوبة في صدر الإسلام هي ما قصّه اللَّه تعالى علينا في سورة النساء في قوله جل شأنه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَ
__________
[ (1) ] (لسان العرب) : 14/ 359- 360، مختصرا.(10/12)
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا* وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً [ (1) ] .
فكانت عقوبة المرأة: الحبس في البيت، وعدم الإذن لها بالخروج منه، وعقوبة الرجل، التأنيب، والتوبيخ بالقول والكلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] .
ويظهر أن هذه العقوبة كانت في أول الإسلام من قبيل التعزير لا من قبيل الحد، بدليل التوقيت الّذي أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وقد استبدلت بهذه العقوبة عقوبة أشد، هي الجلد للبكر، والرجم للزاني المحصن، وانتهى ذلك الحكم المؤقت إلى تلك العقوبة الرادعة الزاجرة.
خرج مسلم [ (3) ] ، وأبو داود [ (4) ] ، والترمذي [ (5) ] من حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: كان نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه
__________
[ (1) ] النساء: 15- 16، والمراد بالفاحشة جريمة الزنى، وسميت فاحشة لأنها فعلة قد زادت في القبح على كثير من القبائح المنكرة، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
[ (2) ] النور: 2.
[ (3) ]
(مسلم بشرح النووي) : 11/ 201، كتاب الحدود، باب (3) حد الزنى، حديث رقم (1690) ، أما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: فقد جعل اللَّه لهن سبيلا»
فإشارة إلى قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، فبين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن هذا هو ذلك السبيل.
واختلف العلماء في هذه الآية، فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسر لها، وقيل: هي منسوخة بالآية التي في أول سورة النور، وقيل: إن آية النور في البكرين وهذه الآية في الثيبين.(10/13)
__________
[ () ] وأجمع العلماء على وجود جلد الزاني البكر مائة، ورجم المحصن وهو الثيب، ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنّظّام وأصحابه، فإنّهم لم يقولوا بالرجم، واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم، فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما فيجلد ثم يرجم، وبه قال على بن أبى طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، والحسن البصري، وإسحاق بن راهويه، وداود، وأهل الظاهر، وبعض أصحاب الشافعيّ. وقال جمهور العلماء: الواجب الرجم وحده، وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث، أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا، فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم، وهذا مذهب باطل لا أصل له، وحجة الجمهور أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم اقتصر على رجم الثياب في أحاديث كثيرة، منها قصة ماعز وقصة المرأة الغامدية، وفي
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: وأغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها،
قالوا: وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ، فإنه كان في أول الأمر.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم في البكر: ونفى سنة ففيه حجة للشافعي، والجمهور: أنه يجب نفيه سنة، رجلا كان أو امرأة، وقال الحسن لا يجب النفي، وقال مالك والأوزاعي: لا نفى على النساء، وروى مثله عن عليّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقالوا: لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها، وتعريض لها للفتنة، ولهذا نهيت عن المسافرة إلا مع ذي محرم، وحجة الشافعيّ
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة.
وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي:
أحدهما: يغرب كل واحد منهما لظاهر الحديث، وبهذا قال سفيان الثوري، وأبو ثور، وداود، وابن جرير.
والثاني: يغرب نصف سنة، لقوله تعالى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث، والصحيح عند الأصوليين جواز تخصيص السنة بالكتاب، لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى.
والثالث: لا يغرب المملوك أصلا، وبه قال الحسن البصري، وحماد، ومالك، وأحمد، وإسحاق،
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم في الأمة إذا زنت: فليجلدها سيدها،
ولم يذكروا النفي، لأن نفيه يضر سيده، مع أنه لا جناية من سيده، وأجاب أصحاب الشافعيّ عن حد الأمة إذا زنت، أنه ليس(10/14)
__________
[ () ] فيه تعرض للنفي، والآية ظاهرة في وجوب النفي فوجب العمل بها، وحمل الحديث على موافقتها. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «البكر بالبكر والثيب بالثيب»
فليس هو على سبيل الاشتراط بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم بثيب، وحد الثيب الرجم سواء زنى بثيب أم ببكر، فهو شبيه بالتقييد الّذي يخرج على الغالب.
واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر بالغ، سواء كان جامع بوطء شبهة، أو نكاح فاسد، أو غيرهما، أم لا. والمراد بالثيب، من جامع في دهره مرة من نكاح صحيح وهو بالغ، عاقل، حر، والرجل والمرأة في هذا سواء. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وسواء في كل هذا المسلم، والكافر، والرشيد، والمحجور عليه لسفه. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (4) ] (سنن أبى داود) : 4/ 569- 571، كتاب الحدود، باب (23) في الرجم، حديث رقم (4415) .
[ (5) ] (سنن الترمذي) : 4/ 32، كتاب الحدود، باب (8) ما جاء في الرجم على الثيب، حديث رقم (1434) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، منهم: على بن أبى طالب، وأبىّ بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وغيرهم، قالوا: الثيب تجلد وترجم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وهو قول إسحاق.
وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم منهم أبو بكر، وعمر، وغيرهما: الثيب إنما عليه الرجم ولا يجلد، وقد روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مثل هذا في غير حديث، في قصة ماعز وغيره، أنه أمر بالرجم، ولم يأمر أن يجلد قبل أن يرجم، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد.
وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : 2/ 853، كتاب الحدود، باب (7) حد الزنا، حديث رقم (2550) .(10/15)
الوحي كرب لذلك وتربد [ (1) ] وجهه فأنزل اللَّه تبارك وتعالى عليه ذات يوم فلقى كذلك، فلما سرى عنه قال: خذوا عنى، خذوا عنى، قد جعل اللَّه لهن سبيلا:
البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم.
خرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فاعترف بالزنى، فأعرض عنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أبك جنون؟ قال: لا، قال: أحصنت؟ قال: نعم: فأمر به فرجم في المصلى، فلما أذلقته الحجارة، فرّ، فأدرك، فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خيرا، وصلى عليه.
وفي لفظ لهما [ (4) ] : أنه قال له: أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عنى؟ قال: بلغني أنك وقعت بجارية بنى فلان، فقال: نعم، قال: فشهد على نفسه أربع شهادات، ثم دعاه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أبك جنون؟ قال، لا: قال:
أحصنت؟ قال: نعم، ثم أمر به فرجم.
وفي لفظ لهما [ (5) ] : فلما شهد على نفسه أربع شهادات، ودعاه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أبك جنون؟ قال: لا: قال أحصنت:؟ قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه.
__________
[ (1) ] كرب وتربد: أي أصبح كالمكروب، وتغيرت ملامح وجهه الشريف صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 155، كتاب الحدود، باب (25) الرجم بالمصلى، حديث رقم (6820) ، قال: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: فصلى عليه، سئل أبو عبد اللَّه هل قوله: «فصلى عليه» يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 204- 206، كتاب الحدود، باب (5) من اعترف على نفسه بالزنا، حديث رقم (16) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (19) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 9/ 486، كتاب الطلاق، باب (11) الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون، حديث رقم (5271) .(10/16)
وفي لفظ للبخاريّ [ (1) ] : أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت، قال: لا يا رسول اللَّه، قال: صلى اللَّه عليه وسلّم أنكتها؟ لا يكنى، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 162- 163، كتاب الحدود، باب (28) هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟ حديث رقم (6824) ، (سنن أبى داود) : 4/ 597، كتاب الحدود، باب (24) رجم ماعز بن مالك، حديث رقم (4427) ، (4428) .
فتضمنت هذه الأقضية رجم الثيب، وأنه لا يرجم حتى يقر أربع مرات، وأنه إذا أقر دون الأربع، لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يعرض عنه، ويعرض له بعدم تكميل الإقرار، وإن إقرار زائل العقل بجنون، أو سكر، ملغى لا عبرة به، وكذلك طلاقه، وعتقه، وأيمانه، ووصيته، وجواز إقامة الحد في المصلى، وهذا لا يناقض نهيه أن تقام الحدود في المساجد، وأن المحصن إذا زنى بجارية، فحده الرجم، كما لو زنى بحرة.
وأن الإمام يستحب له أن يعرض للمقر بأن لا يقر، وأنه يجب استفسار المقر في محل الإجمال، لأن اليد، والفم، والعين، لما كان استمتاعها زنى، استفسر عنه دفعا لاحتماله، وأن الإمام لا يصرح له أن يصرح باسم الوطء الخاص به إلا عند الحاجة إليه، كالسؤال عن الفعل، وأن الحد لا يجب على جاهل بالتحريم، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم سأله عن حكم الزنى، فقال: أتيت منها حراما ما يأتى الرجل من أهله حلالا.
وأن الحد لا يقام على الحامل، وأنها إذا ولدت الصبى، أمهلت حتى ترضعه، وتفطمه، وأن المرأة يحفر لها دون الرجل، وأن الإمام لا يجب عليه أن يبدأ بالرجم.
وأنه لا يجوز سب أهل المعاصي إذا تابوا، وأنه يصلى على من قتل في حد الزنى، وأن المقر إذا استقال في أثناء الحد، وفر، ترك ولم يتمم عليه الحد، فقيل: لأنه رجوع. وقيل:
لأنه توبة قبل تكميل الحد، فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه، هذا اختيار شيخنا، وأن الرجل إذا أقر أنه زنى بفلانة، لم يقم عليه حد القذف مع حد الزنى، وأن ما قبض من المال بالصلح الباطل باطل يجب رده، وأن الإمام له أن يوكل في استيفاء الحد.
وأن الثيب لا يجمع عليه بين الجلد والرجم، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يجلد ما عزا ولا الغامدية، ولم يأمر أنيسا أن يجلد المرأة التي أرسله إليها، وهذا قول الجمهور،
وحديث عبادة: «خذوا عنى قد جعل اللَّه لهن سبيلا: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» منسوخ.
فإن هذا كان في أول الأمر(10/17)
وفي لفظ لأبى دواد: أنه شهد على نفسه أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة، قال: «أنكتها» ؟ قال نعم. قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ «قال: نعم، قال:» فهل تدري ما الزنى؟ قال: نعم. أتيت منها حراما ما يأتى الرجل من امرأته حلالا. قال: «فما تريد بهذا القول؟ «قال:
أريد أن تطهرني، قال: فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الّذي ستر اللَّه عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: «أين فلان وفلان» ؟ فقالا: نحن ذان يا رسول اللَّه، قال:
«انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا نبي اللَّه، من يأكل من هذا؟ قال:
__________
[ () ] قبل نزول حد الزنى، ثم رجم ماعزا والغامدية، ولم يجلدهما، وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك، وأما حديث جابر في (السنن) : أن رجلا زنى، فأمر به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فجلد الحد، ثم أقر أنه محصن، فأمر به فرجم. فقد قال جابر في الحديث نفسه: أنه لم يعلم بإحصانه، فجلد، ثم علم بإحصانه، فرجم. رواه أبو داود.
وفيه: أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالما بالتحريم، فإن ماعزا لم يعلم أن عقوبته القتل، ولم يسقط هذا الجهل الحد عنه.
وفيه: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار في مجلسه، وإن لم يسمعه معه شاهدان، نص عليه أحمد، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لم يقل لأنيس: فإن اعترفت بحضرة شاهدين فأرجمهما وأن الحكم إذا كان حقا محضا للَّه لم يشترط الدعوى به عند الحاكم.
وأن الحد إذا وجب على امراة، جاز للإمام أن يبعث إليها من يقيمه عليها، ولا يحضرها، وترجم النسائي على ذلك: صونا للنساء عن مجلس الحكم.
وأن الإمام والحاكم والمفتى يجوز له الحلف على أن هذا حكم اللَّه عزّ وجل إذا تحقق ذلك، وتيقنه بلا ريب، وأنه يجوز التوكيل في إقامة الحدود، وفيه نظر، فإن هذا استنابة من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وتضمن تغريب المرأة كما يغرب الرجل، لكن يغرب معها محرما إن أمكن، وإلا فلا، وقال مالك: لا تغريب على النساء، لأنهن عورة.(10/18)
«فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكل منه، والّذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس فيها. [ (1) ]
وفيه: أنه لما وجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبرونى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم غير قاتلي [ (2) ] [فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأخبرنا قال: «فهلا تركتموه وجئتونى به، ليستثبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم منه، فأما لترك حد فلا،
قال: فعرفت وجه الحديث] [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 580- 581، كتاب الحدود باب (24) رجم ماعز بن مالك، حديث رقم (4428) ، ينقمس معناه ينغمس، قال الخطابي في (معالم السنن) : وفي أصل المنذري ينغمس بالغين وكذلك في النسخة الهندية بالغين، ونسبه المنذري للنسائى، وقال فيه:
«أنكحتها» ؟.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 576، كتاب الحدود، باب (24) رجم ماعز بن مالك، حديث رقم (4420) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب في درء الحد عن المعترف إذا رجع، حديث رقم (1429) .(10/19)
[فصل في ذكر من رجمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من النساء المسلمات]
فخرج مسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] من حديث بريدة: ... فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول اللَّه، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول اللَّه! لم تردني؟ لعلك تردني كما رددت ما عزا، فو اللَّه إني لحبلى، قال: «إما لا، فاذهبي حتى تلدي» ، فلما ولدت، أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي اللَّه قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سبه إياها فقال:
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 211- 214، كتاب الحدود، باب (5) من اعترف على نفسه بالزنى، حديث رقم (1695) ، وقال المنذري: وفي إسناده: بشير بن المهاجر الفنوىّ الكوفيّ، وليس له في (صحيح مسلم) سوى هذا الحديث، وقد وثقه يحى بن معين، وقال الإمام أحمد: منكر الحديث، يجيء بالعجائب. ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث فإنه أتى به في الطبقة الثانية، بعد ما ساق طرق حديث ماعز، وأتى به آخرا، ليبين اطلاعه على طرق الحديث، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (معالم السنن) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 3/ 589، كتاب الحدود، باب (25) المرأة التي أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم برجمها من جهينة، حديث رقم (4442) .
وقال بعضهم: يحتمل أن تكونا امرأتين، إحداهما وجد لولدها كفيل وقبلها، والأخرى:
لم يوجد لولدها كفيل أو لم يقبل، فوجب إمهالها حتى يستغنى عنها لئلا يهلك بهلاكها. (المرجع السابق) .
قال الإمام النووي:
قوله (قال إما فاذهبي حتى تلدي)
هو بكسر الهمزة من إما وتشديد الميم وبالامالة ومعناه إذا أبيت أن تسترى على نفسك وتتوبي وترجعى عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك وقد سبق شرح هذه اللفظ مبسوطا.(10/20)
«مهلا يا خالد! فو الّذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها، فصلى عليها، ودفنت.
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] .... أن رجلا قال له: أنشدك باللَّه إلا قضيت بيننا بكتاب اللَّه، فقام خصمه، وكان أفقه منه فقال: صدق، اقض بيننا
__________
[ () ] قوله (فتنضح الدم على وجه خالد) روى بالحاء المهملة وبالمعجمة والأكثرون على المهملة ومعناه ترشش وانصب.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)
فيه أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده وتكرر ذلك منه انتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها وصرفها في غير وجهها وفيه أن توبة الزاني لا تسقط عنه حد الزنا وكذا حكم حد السرقة والشرب هذا أصح القولين في مذهبنا حد المحاربة بلا خلاف عندنا وعند ابن عباس وغيره لا تسقط.
قوله (ثم أمر بها فصلى عليه ثم دفنت) وفي الرواية الثانية أمر بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فرجمت، ثم صلى عليه فقال له عمر: تصلى عليها يا نبي اللَّه وقد زنت، أما الرواية الثانية فصريحة في أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم صلى عليها وأما الرواية الأولى فقال القاضي عياض رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة صحيح مسلم قال: وعند الطبري بضم الصاد قال وكذا في رواية ابن أبى شيبة، وأبى داود قال: وفي رواية لأبى داود، ثم أمرهم أن يصلوا عليها قال القاضي: ولم يذكر مسلم صلاته صلى اللَّه عليه وسلّم على ماعز وقد ذكرها البخاري.
وقد اختلف العلماء في الصلاة على المرجوم فكرهها مالك وأحمد للإمام ولأهل الفضل دون باقي الناس ويصلى عليه غير الامام وأهل الفضل وغيرهم والخلاف بين الشافعيّ ومالك إنما هو في الامام وأهل الفضل وأما غيرهم فاتفقا على أنه يصلى وبه قال جماهير العلماء قالوا فيصلي على الفساق والمقتولين في الحدود والمحاربة وغيرهم وقال الزهري: لا يصلى أحد على المرجوم وقاتل نفسه وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنا واحتج الجمهور بهذا الحديث وفيه دلالة للشافعي أن الامام وأهل الفضل يصلون على المرجوم كما يصلى عليه غيرهم وأجاب أصحاب مالك عنه بجوابين:
أحدهما: أنهم ضعفوا رواية الصلاة لكون أكثر الرواة لم يذكروها.
والثاني: تأولوها على أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أمر بالصلاة أو دعا فسمى صلاة على مقتضاها في اللغة.(10/21)
بكتاب اللَّه وائذن لي، فقال: «قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته. فافتديت منه بمائة شاة وخادم، وإني سألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال: والّذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه: المائة والخادم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها، فإن اعترفت فارجمها» فاعترفت، فرجمها.
[فصل في ذكر من رجمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من أهل الكتاب]
فخرج البخاري ومسلم: أن اليهود جاءوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» ؟ قال نفضحهم ويجلدون، فقال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضع أحدهم يده على آيه الرجم، فقرأ
__________
[ () ] وهذان الجوابان فاسدان أما الأول فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح وزيادة الثقة الشرعية إلى ارتكابه وليس هنا شيء من ذلك فوجب حمله على ظاهره واللَّه أعلم.
[ () ] (1) أخرجه البخاري في المحاربين: باب الاعتراف بالزنا، وباب البكران يجلدان وينفيان، وباب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبا، وباب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنى عند الحاكم، وباب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبا عنه، وفي الوكالة: باب الوكالة في الحدود، وفي الشهادات: باب شهادة القاذف، والسارق، والزاني، وفي الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، وفي الشروط: باب الشروط التي لا تعمل في الحدود، وفي الأيمان والنذور: باب كيف كان يمين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. وفي الأحكام: باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور، وفي خبر الواحد: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، وفي الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] وأخرجه مسلم (1697) ، (1698) ، ومالك في (الموطأ) : 2/ 822. والترمذي (1433) ، وأبو داود (4445) ، والنسائي: 8/ 240- 241، وابن ماجة: (2549) ، والدارميّ:
2/ 177، كلهم من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنيّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، والعسيف: الأجير.(10/22)
ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد اللَّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، إن فيها الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فرجما [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في المحاربين: باب أحكام أهل الذمة، وباب الرجم في البلاط، وفي الجنائز. باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، وفي الأنبياء: باب قول اللَّه تعالى:
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وفي تفسير سورة آل عمران: باب قول اللَّه تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وفي الاعتصام: باب ما ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وحض على اتفاق أهل العلم، وفي التوحيد: باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب اللَّه تعالى بالعربية وغيرها. قال الخطابي في (معالم السنن) : فيه من الفقه: ثبوت أنكحة أهل الكتاب، إذا ثبتت أنكحتهم ثبت طلاقهم وظهارهم وإيلاؤهم.
وفيه دليل على أن نكاح أهل الكتاب يوجب التحصين، إذ لا رجم على المحصن. ولو أن مسلما تزوج يهودية أو نصرانية ودخل بها ثم زنا كان عليه الرجم وهو قول الزهري، وإليه ذهب الشافعيّ.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكتابية لا تحصن المسلم، وتأول بعضهم معنى الحديث على أنه إنما رجمهما بحكم التوراة، ولم يحملهما على أحكام الإسلام وشرائطه.
قلت: وهذا تأويل غير صحيح لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وإنما جاءه القوم مستفتين طمعا في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة، فأشار عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بما كتموه من حكم التوراة، ثم حكم عليهم بحكم الإسلام على شرائطه الواجبة فيه، وليس يخلو الأمر فيما صنعه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من ذلك عن أن يكون موافقا لحكم الإسلام أو مخالفا، فإن كان مخالفا فلا يجوز أن يحكم بالمنسوج ويترك الناسخ.
وإن كان موافقا له فهو شريعته، والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون مضافا إلى غيره، ولا أن يكون فيه تابعا لمن سواه.
وأخرجه مسلم في الحدود: باب (6) رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث رقم (1699) ، ومالك في (الموطأ) : 2/ 819، والترمذي (1436) ، وأبو داود (4446) ، (4449) ، كلهم من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه قال الإمام النووي:
قوله «إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.(10/23)
__________
[ () ] قوله (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أتى يهودي ويهودية قد زنيا إلى قوله فرجما) في هذا دليل لوجوب حد الزنا على الكافر وأنه يصح نكاحه لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم، وفيه أن الكافر مخاطبون بفروع الشرع وهو الصحيح وقيل لا يخاطبون بها وقيل أنهم مخاطبون بالنهى دون الأمر، وفيه أن الكفار إذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا وإذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا وقال مالك لا يصح إحصان الكافر قال وإنما رجمها لأنهما لم يكونا أهل ذمة وهذا تأويل باطل لأنهما كانا من أهل العهد ولأنه رجم المرأة والنساء لا يجوز قتلهن مطلقا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (فقال ما تجدون في التوراة)
قال العلماء: هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا معرفة الحكم منهم فإنما هو لالزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ولعله صلى اللَّه عليه وسلّم قد أوحى اليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه.
قوله (نسود وجوههما ونحملهما) هكذا هو في أكثر النسخ نحملهما بالحاء واللام، وفي بعضها نجملها بالجيم وفي بعضها نحممهما بميمين وكله متقارب فمعنى الأول نحملهما على الحمل ومعنى الثاني نجملهما جميعا على الجمل ومعنى الثالث نسود وجوههما بالحمم بضم الحاء وفتح الميم وهو الفحم وهذا الثالث ضعيف لأنه قال قبله نسود وجوههما فان قيل كيف رجم اليهوديان بالبينة أم بالإقرار قلنا الظاهر أنه بالإقرار وقد جاء في سنن أبى داود وغيره أنه شهد عليهما أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها فان صح هذا فان كان الشهود مسلمين فظاهر وإن كانوا كفارا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرا بالزنا.
قال العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) : فتضمنت هذه الحكومة أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان، وأن الذمي يحصن بالذمية، وإلى هذا ذهب أحمد والشافعيّ، ومن لم يقل بذلك اختلفوا في وجه هذا الحديث، فقال مالك في غير (الموطأ) : لم يكن اليهود بأهل ذمة، والّذي في (صحيح البخاري) : أنهم أهل ذمة، ولا شك أن هذا كان بعد العهد الّذي وقع بين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبينهم ولم يكونوا إذا ذاك حربا، كيف وقد تحاكموا إليه، ورضوا بحكمه؟ وفي بعض طرق الحديث: أنهم قالوا: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف وفي بعض طرقه:
أنهم دعوه إلى بيت مدارسهم، فأتاهم وحكم بينهم، فهم كانوا أهل عهد وصلح بلا شك.(10/24)
فصل في ذكر من قطع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] من حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ فقالوا: ومن
__________
[ () ] قال الزهري في حديثه: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم منهم.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 103- 104، كتاب الحدود، باب (12) كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان حديث رقم (6788) ، وفي هذا الحديث من الفوائد منع الشفاعة في الحدود.
وفيه قبول توبة السارق. ومنقبة لأسامة. وفيه ما يدل على أن فاطمة عليها السلام عند أبيها في أعظم المنازل. وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر بالمبالغة في الزجر عن الفعل ومراتب ذلك مختلفة، ويؤخذ منه جواز الإخبار عن امر مقدر يفيد القطع بأمر محقق. وفيه أن من حلف على أمر لا يتحقق أنه يفعله أو لا يفعله لا يحنث كمن قال لمن خاصم أخاه: واللَّه لو كنت حاضرا لهشمت أنفك. وفيه جواز التوجع لمن أقيم عليه الحد بعد إقامته عليه وقد حكى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بن سفيان أن امرأة أسيد بن حضير آوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعاما وأن أسيدا ذكر ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم كالمنكر على امرأته،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: رحمتها رحمها اللَّه.
وفيه الاعتبار بأحوال ما مضى من الأمم، ولا سيما من خالف أمر الشرع، وتمسك به بعض من قال: أن شرع من قبلنا شرع لنا لأن فيه إشارة تحذير من فعل من الشيء الّذي جر الهلاك إلى الذين من قبلنا لئلا يهلك كما هلكوا، وفيه نظر، وإنما يتم إن لو لم يرد قطع السارق في شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة فيه على المدعى أصلا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 198- 199، كتاب الحدود، باب (2) قطع السارق الشريف وغيره، والنهى عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم (1688) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 537- 538، كتاب الحدود، باب (4) في الحد يشفع فيه، حديث رقم (4373) .(10/25)
يجترئ عليه إلا أسامة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه؟ حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكلمه أسامة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتشفع في حد من حدود اللَّه تعالى؟ ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم اللَّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
وفي رواية لمسلم إنما هلك الذين من قبلكم.
ولم يقل البخاري وأبو داود والنسائي: أيها الناس.
وخرجه البخاري في كتاب الحدود بهذا الإسناد ونحوه وقال فيه: ثم قام فخطب فقال: أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم. وقال في آخره: لقطع محمد يدها.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرنى يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرنى عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عنها: أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في غزوة الفتح، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأتى بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فكلمه فيها أسامة بن زيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فتلوّن وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أتشفع في حد من حدود اللَّه تعالى؟ فقال له أسامة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: استغفر لي يا رسول اللَّه، فلما كان العشي قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فاختطب فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والّذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتى بعد ذلك فأرفع حاجتها
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 199- 200، كتاب الحدود باب (2) قطع السارق الشريف وغيره والنهى عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم (9) .(10/26)
إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. ذكره في غزوة الفتح من حديث يونس عن الزهري بنحو حديث مسلم أو قريبا منه.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كانت امرأة
__________
[ (1) ] ن (مسلم بشرح النووي) : 11/ 200، كتاب الحدود، باب (2) قطع السارق الشريف وغيره والنهى عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم (10) ، ذكر مسلم رضى اللَّه عنه في الباب أحاديث النهى عن الشفاعة في الحدود، وأن ذلك هو سبب هلاك بنى إسرائيل وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام لهذه الأحاديث، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان، لم يشفع فيه، وأما المعاصي التي لا حد فيها وواجبها التعزير فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا، لأنها أهون، ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى ونحوه.
قوله «ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم» هو بكسر الحاء أي محبوبه، ومعنى يجترئ: يتجاسر عليه بطريق الإدلال، وفي هذا منقبة ظاهرة لأسامة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأيم اللَّه لو أن فاطمة»
فيه دليل لجواز الحلف من غير استحلاف وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم لأمر مطلوب كما في الحديث وقد كثرت نظائره.
قوله: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه» قال العلماء: المراد أنها قطعت بسرقة، وإنما ذكرت العارية تعريفا لها ووصفا لها، لا أنها سبب القطع. وقد ذكر مسلم هذا الحديث في سائر الطرق المصرحة بأنها سرقت وقطعت بسبب السرقة، فيتعين حمل هذه الرواية على ذلك جمعا بين الروايات، فإنّها قضية واحدة، مع أن جماعة من الأئمة قالوا: هذه الرواية شاذة، فإنّها مخالفة لجماهير الرواة والشاذة لا يعمل بها، قال العلماء: وإنما لم يذكر السرقة في هذه الرواية لأن المقصود منها عند الراويّ ذكر منع الشفاعة في الحدود، لا الإخبار عن السرقة.
قال جماهير العلماء وفقهاء الأمصار: لا قطع على من جحد العارية، وتأولوا هذا الحديث بنحو ما ذكرته، وقال أحمد وإسحاق: يجب القطع في ذلك. (شرح النووي) .(10/27)
مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أن تقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فكلموه فكلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيها. ثم ذكر نحو حديث الليث ويونس.
قال المؤلف، هذه المرأة التي سرقت وقطعت يدها التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وهي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد اللَّه بن عمرو ابن مخزوم، وهي بنت أخى أبى سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قتل أبوها كافرا يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب، ووهم من زعم أن له صحبة.
وقيل: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد، وهي بنت عمر المذكورة، أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرنى بشر بن تيم أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: إن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بها فقطعت يدها، [وقص نحو حديث الليث، قال:
فقطع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يدها] .
ومن حديث يونس عن ابن شهاب قال: كان عروة يحدث أن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: استعارت امرأة- تعنى حليا- على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي، حليا فباعته، فأخذت ثمنه، فأتي بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ما قال [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 538- 539، كتاب الحدود باب (4) في الحد يشفع فيه حديث رقم (4374) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4396) .(10/28)
وخرج النسائي [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن المبارك عن حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن أبى المنذر مولى أبى ذر، عن أبى أمية المخزوميّ قال: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما إخالك سرقت؟ قال: بلى، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: اذهبوا به فاقطعوه ثم جيئوا به، فقطعوه ثم جاءوا به فقال له: قل أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقال: استغفر اللَّه وأتوب إليه، قال: اللَّهمّ تب عليه.
ترجم عليه باب تلقين السارق.
وخرجه أبو داود [ (2) ] من حديث مصعب بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: جيء بسارق إلى رسول
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 8/ 438، كتاب قطع السارق، باب (3) تلقين السارق، حديث رقم (4892) ، قال الحافظ السندي: قوله: «ما إخالك» بكسر الهمزة هو الشائع المشهور بين الجمهور، والفتح لغة بعض، وإن كان القياس لكونه صيغة المتكلم من خاله كخاف بمعنى ظن.
قيل: أراد صلى اللَّه عليه وسلّم تلقين الرجوع من الاعتراف، وللإمام ذلك في السارق إذا اعترف، ومن لا يقول به لعله ظن بالمعترف غفلة عن معنى السرقة وأحكامها، أو لأنه استبعد اعترافه بذلك، لأنه ما وجد معه متاع. (حاشية السندي على سنن النسائي) .
[ (2) ]
(سنن أبى داود) : 4/ 565- 567، كتاب الحدود باب (20) في السارق يسرق مرارا حديث رقم (4410) ، قال الخطابي: هذا في بعض إسناده مقال: وقد عارض الحديث الصحيح الّذي بإسناده، وهو أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس،
والسارق ليس بواحد من الثلاثة فالوقوف عن دمه واجب.
ولا يعلم أحدا من الفقهاء يبيح دم السارق- وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى- إلا أنه قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء أن يباح دمه، وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض، في أن للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين، ويبلغ به ما رأى من العقوبة، وإن زاد على مقدار الحد وجوازه وإن رأى القتل قتل ويعزى هذا الرأى إلى الإمام مالك بن أنس.
وهذا الحديث- إن كان له أصل- فهو يؤيد هذا الرأى.(10/29)
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللَّه! إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جيء به الثانية فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللَّه! إنما سرق فقال: اقطعوه قال: فقطع، ثم جاء به الثالثة فقال: اقتلوه، فقالوا يا رسول اللَّه إنما سرق فقال: اقطعوه ثم أتى به الرابعة فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللَّه إنما سرق، فقال: اقطعوه، فأتى به الخامسة فقال: اقتلوه، قال جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث عبد الرزاق قال: أنبأنا ابن جريح قال:
أخبرنى إسماعيل بن أمية أن نافعا مولى عبد اللَّه بن عمر حدثة أن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما حدثهم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قطع يد رجل سرق ترسا من صفّة النساء ثمنه ثلاثة دراهم.
وخرج من حديث محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: قطع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم [ (2) ] .
__________
[ () ] وقد يدل على ذلك من نفس الحديث: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قد أمر بقتله لما جيء به أول مرة، ثم كذا في الثانية والثالثة والرابعة، إلى أن قتل في الخامسة.
فقد يحتمل أن يكون هذا رجل مشهورا بالفساد، ومخبورا بالشر، معلوما من أمره أنه سيعود إلى سوء فعله، ولا ينتهى عنه حتى ينتهى خبره.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 548، كتاب الحدود، باب (11) ما يقطع فيه السارق، حديث رقم (4368) .
[ (2) ] (المرجع السابق) حديث رقم (4387) ، قال الخطابي: وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجعلوه حدا فيما يقطع فيه اليد، وهو قول سفيان الثوري، وقد روى ذلك عن ابن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
قال: وهكذا تنفيذ، وليس في موضع التحديد، لأنه إذا كان السارق مقطوعا في ربع دينار فلأن يكون مقطوعا في دينار أولى، وكذلك إذا قطع في ثلاثة دراهم يبلغ قيمتها ربع دينار، فهو بأن يقطع في عشرة دراهم أولى.(10/30)
فصل في ذكره من جلده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري [ (1) ] من حديث يحى بن بكير قال: حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبى هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رجلا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان اسمه عبد اللَّه وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد جلده في الشراب فأتى به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم فقال اللَّهمّ العنة ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تلعنوه فو اللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله.
وخرج من حديث بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بسكران فأمر يضربه، فمنا من ضربه بيده، ومنا من ضربه بنعله، ومنا من ضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه اللَّه! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم.
ترجم عليهما ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة [ (2) ] .
__________
[ () ] وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة: لا تقطع الخمس إلا في الخمسة دراهم، وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه خلاف الرواية الأولى.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 89، كتاب الحدود، باب (5) ما يكر من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة، حديث رقم (6780) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6781) . قال الحافظ في (الفتح) : قوله: «باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة «يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهى عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول
«لا يشرب الخمر وهو مؤمن»
وأن المراد به نفى كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهى للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة اللَّه، فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن(10/31)
__________
[ () ] كهذا الّذي يحب اللَّه ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة، وسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله:
«ما يكره من» فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع الفاسق المعين مطلقا، وقيل: إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في
حديث أبى هريرة «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»
وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد، لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة والجواز مطلقا في حق المجاهرين.
قال النووي في (الأذكار) : وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في «باب الدعاء على الظلمة» بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي: وهي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل «لا أصح اللَّه جسمه» وكل ذلك مذموم انتهى. والأولى حمل كلام الغزالي على الأول.
أما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم للذي قال له كل: بيمينك فقال: لا أستطيع فقال «لا استطعت
فيه دليل على جواز الدعاء من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته.
وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهى عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا.
واحتج شيخا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والّذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع البحث في جواز لعن المعين وهو الموجود.(10/32)
__________
[ () ] قوله: (إن رجلا كان على عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان اسمه عبد اللَّه وكان يلقب حمارا) ذكر الواقدي في غزوة خيبر من (مغازيه) عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال ووجد حصن الصعب ابن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال: (وزقاق خمر فأريقت، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد اللَّه الحمار) وهو باسم الحيوان المشهور، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه وجوز ابن عبد البر أنه النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث فقال في ترجمة النعيمان «كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في الشراب فجلده النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد اللَّه جلد في الشرب.
وقوى هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في (المفاكهة) من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال: كان بالمدينة رجل يصيب الشراب فكان يؤتى به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه قال له رجل هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا لأن قصة عبد اللَّه كانت في خيبر فهي سابقة على قصة النعيمان فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا.
قوله (وكان يضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم) أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه، وقد
أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب «ان رجلا كان حمارا وكان يهدى لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم العكة من السمن والعسل فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يتبسم ويأمر به فيعطى «ووقع في حديث محمد ابن عمرو بن حزم بعد قوله: «يحب اللَّه ورسوله» قال: «وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول ألم تهده إلى؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر بثمنه»
وهذا مما يقوى أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد واللَّه أعلم.
قوله: (قد جلده في الشراب) أي بسبب شربه الشراب المسكر وكان فيه مضمرة أي كان قد جلده، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد اللَّه الرزاق «أتى برجل قد شرب الخمر فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد أربع مرات» .
قوله: (ما أكثر ما يؤتى به) في رواية الواقدي «ما يضرب» وفي رواية معمر «ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد» .(10/33)
__________
[ () ] قوله: (لا تلعنوه)
في رواية الواقدي «لا تفعل يا عمر»
وهذا قد يتمسك به من يدعى اتحاد القصتين، وهو لما بينته من اختلاف الوقتين، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأن اسمه عبد اللَّه ولقبه حمار، واللَّه أعلم.
قوله: (فو اللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله)
كذا للأكثر بكسر الهمزة، ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر، وقال بعضهم الرواية بفتح الهمزة.
وفي هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب، وهو محمول هنا على أنه كان لا يكرهه، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد اللَّه، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهى عن لعنه والأمر بالدعاء له. وفيه أن لا تنافى بين ارتكاب النهى وثبوت محبة اللَّه ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أخبر بأن المذكور يحب اللَّه ورسوله مع وجوب ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة اللَّه ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفى الايمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفى كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة اللَّه ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه، نسأل اللَّه العفو والعافية. وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة.
وله من طريق أخرى عن أبى هريرة، أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، والترمذي تعليقا، والنسائي، كلهم من رواية سهيل بن أبى صالح، عن أبيه عنه بلفظ «إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم «وروى عن عاصم بن بهدلة عن أبى صالح فقال أبو بكر بن عياش عن أبى صالح عن أبى سعيد كذا أخرجه حبان من رواية عثمان بن أبى شيبة عن أبى بكر.
أخرجه الترمذي عن أبى كريب عنه فقال: «عن معاوية» بدل «أبى سعيد» وهو المحفوظ. وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوري عن عاصم «ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه»(10/34)
وخرج البخاري [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] من حديث يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه قال أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللَّه فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تقولوا هكذا لا تعينوا الشيطان عليه.
***
__________
[ () ] ووقع في رواية أبان عند أبى داود «ثم إن شربوا فاجلدوهم» ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال:» إن شربوا فاقتلوهم» .
ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: «وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه «قال وكذا في حديث عطيف في الخامسة، قال: أبو داود «وفي رواية عمر بن أبى سلمة عن أبيه وسهيل بن أبى صالح عن أبيه كلاهما عن أبى هريرة في الرابعة «وكذا في رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العاص والشريد.
وفي رواية معاوية: «فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه
«وقال الترمذي بعد تخريجه:
وفي الباب عن أبى هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وأبى الرمداء وجرير وعبد اللَّه بن عمرو وقلت: وقد ذكرت حديث أبى هريرة، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارميّ والطبراني وصححه الحاكم بلفظ «إذا شرب فاضربوه» وقال في آخره «ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 77، كتاب الحدود، باب (4) الضرب بالجريد والنعال، حديث رقم (6777) ، وأخرجه أيضا في باب (5) ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة، حديث رقم (6780) ، وقد سبق تخريجه وشرحه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 620، كتاب الحدود، باب (36) الحد في الخمر، حديث رقم (4477) .(10/35)
فصل في ذكر فارس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: أبو قتادة الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فارس رسول اللَّه وكان يعرف بذلك. اختلف في اسمه، فقيل: الحارث بن ربعي بن بلدمة، وقيل: النعمان بن عمر بن بلدمة، وقيل:
عمر بن ربعي بن بلدمة، وقيل بلدمة بن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة.
اختلف في شهوده بدرا. فقال بعضهم: كان بدريا. ولم يذكره ابن عقبه، ولا ابن إسحاق في البدريين، وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد كلها. [ (1) ]
__________
[ (1) ] قال الحافظ في (الاستيعاب) : 4/ 1731) ، ترجمة رقم (3130) ، (الإصابة) : المشهور أن اسمه الحارث. وجزم الواقدي، وابن القداح، وابن الكلبي، بأن اسمه النعمان. وقيل اسمه عمرو. وأبوه ربعي هو ابن بلدمة بن خناس، بضم المعجمة وتخفيف النون، وآخره مهملة، ابن غنم بن سلمة بن الأنصاري الخزرجي السلمي. وأمه كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد ابن غنم.
اختلف في شهوده بدرا، فلم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق، واتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها، وكان يقال له فارس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. ثبت ذلك في صحيح مسلم، في حديث ابن الأكوع الطويل الّذي فيه قصة ذي قرد وغيرها.
وأخرج الواقدي من طريق يحيى بن عبد اللَّه بن أبى قتادة، عن أبيه، قال: أدركنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم ذي قرد، فنظر إلى فقال: اللَّهمّ بارك في شعره وبشره، وقال- أفلح وجهه فقلت: ووجهك يا رسول اللَّه. قال: ما هذا الّذي بوجهك؟ قلت: سهم رميت به. قال ادن.
فدنوت، فبصق عليه، فما ضرب على قط ولا فاح
- ذكره في حديث طويل.
وقال سلمة بن الأكوع في حديثه الطويل الّذي أخرجه مسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع.
ووقعت في هذه القصة بعلو في (المعرفة) لابن مندة، ووقعت لنا من حديث أبى قتادة نفسه في آخر (المعجم الصغير) للطبراني، وكان يقال له فارس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.(10/36)
__________
[ () ] وروى أيضا عن معاذ وعمر. روى عنه ابناه: ثابت، وعبد اللَّه، ومولاه أبو محمد نافع الأفرغ، وأنس، وجار، وعبد اللَّه بن رباح، وسعيد بن كعب بن مالك، وعطاء ابن يسار، وآخرون.
قال ابن سعد: شهدا أحدا وما بعدها. وقال أبو أحمد الحاكم: يقال كان بدريا.
وقال إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: خير فرساننا أبو قتادة.
وقال أبو نضرة، عن أبى سعيد: أخبرنى من هو خير منى أبو قتادة.
ومن لطيف الرواية عن أبى قتادة ما فرى على فاطمة بنت محمد الصالحية ونحن نسمع، عن أبى نصير بن الشيرازي أخبرنا عبد الحميد بن عبد الرشيد في كتابه، أخبرنا الحافظ أبو العلاء العطار، أخبرنا أبو على الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا الطبراني، حدثتنا عبدة بنت عبد الرحمن مصعب بن ثابت بن عبد اللَّه بن أبى قتادة، حدثني أبى عبد الرحمن، عن أبيه مصعب، عن أبيه ثابت، عن أبيه عبد اللَّه، عن أبيه أبى قتادة- أنه حرس النّبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليلة بدر، فقال: اللَّهمّ احفظ أبا قتادة كما حفظ نبيك هذه الليلة.
وبه عن أبى قتادة، قال: انحاز المشركون على لقاح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأدركتهم فقتلت مسعدة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين رآني: أفلح الوجه
قال الطبراني: لم يروه عن أبى قتادة إلا ولده، ولا سمعناها إلا منه عنده، وكانت امرأة فصيحة عاقلة متدينة.
قلت: الحديث الأول جاء عن أبى قتادة في قصة طويلة من رواية عبد اللَّه بن رباح، عن أبى قتادة، قال: كنت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، قال: فدعمته فاستيقظ- فذكر الحديث، وفيه: حفظك اللَّه كما حفظت نبيه.
أخرجه مسلم مطولا، وفيه: ليس التفريط في النوم. وفي آخره: إن ساقى القوم آخر القوم آخرهم شربا. وقوله في رواية عبدة ليلة بدر غلط، فإنه لم يشهد بدرا، والحديث الثاني قد تقدمت الإشارة إليه.
وكانت وفاة أبى قتادة بالكوفة في خلافة على. ويقال إنه كبر عليه ستا. وقال: إنه بدري. وقال الحسن بن عثمان: مات سنة أربعين، وكان شهد مع مشاهده. وقال خليفة:
ولاه على مكة ثم ولاها قثم بن العباس. وقال الواقدي: مات بالمدينة سنة أربع وخمسين، وله اثنتان وسبعون سنة. ويقال ابن سبعين. قال: ولا أعلم بين علمائنا اختلافا في ذلك. وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة وعلى بها سنة ثمان وثلاثين، وذكره البخاري في (الأوسط) فيمن(10/37)
فصل ذكر أمناء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أنه كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عدة أمناء،
فخرج البخاري ومسلم من حديث أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة: أنشدك اللَّه هل سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا حسان أجب عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، اللَّهمّ أيده بروح القدس؟ قال أبو هريرة: نعم.
ذكره البخاري في كتاب الصلاة، في باب الشعر في المسجد. وذكره في كتاب الأدب في باب هجاء المشركين [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن عدي بن ثابت قال سمعت:
البراء بن عازب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول لحسان بن ثابت اهجهم أو هاجهم وجبريل معك.
ذكره البخاري في كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، وفي كتاب المغازي، في آخر باب مرجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، من حديث عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضى اللَّه
__________
[ () ] مات بين الخمسين والستين، وساق بإسناد له أن مروان لما كان واليا على المدينة من قبل معاوية أرسل إلى أبى قتادة ليريه مواقف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فانطلق معه فأراه.
ويدل على تأخره أيضا ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل- أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبى قتادة: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار، (الإصابة) : 7/ 327- 329، ترجمة رقم (10405) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 720، كتاب الصلاة باب (68) الشعر في المسجد، حديث رقم (453) ، (فتح الباري) : 6/ 374، كتاب بدء الخلق باب (6) ذكر الملائكة، حديث رقم (3212) (فتح الباري) : 10/ 669، كتاب الأدب باب (91) هجاء المشركين حديث رقم (6152) .(10/38)
تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم قريظة لحسان من ثابت: اهج المشركين، فإن جبريل معك [ (1) ] .
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث عمارة بن غزية عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن رسول
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 529، كتاب المغازي، باب (31) مرجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة، ومحاصرته إياهم، حديث رقم (4142) ، (فتح الباري) : 10/ 669، كتاب الأدب باب (91) هجاء المشركين، حديث رقم (6153) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 282- 284، كتاب فضائل الصحابة باب (34) فضائل حسان ابن ثابت رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (157) ، وتمامه: قال حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند اللَّه في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا حنيفا ... رسول اللَّه شيمته الوفاء
فإن أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وفاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفى كداء
يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتموا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز اللَّه فيه من يشاء
وقال اللَّه قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء
وقال اللَّه قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
يلاقى كل يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول اللَّه منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول اللَّه فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
قوله «لأفرينهم بلساني فرى الأديم» أي لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم «هجاهم حسان فشفى واشتفى»
أي شفى المؤمنين واشتفى هو بما ناله من أعراض الكفار ومزقها ونافخ عن الإسلام والمسلمين قوله «هجوت محمدا برا تقيا» وفي كثير من النسخ حنيفا بدل تقيا فالبر بفتح الباء الواسع الخير وهو مأخوذ من البر بكسر الباء وهو الاتساع في(10/39)
__________
[ () ] الإحسان وهو اسم جامع للخير وقيل البر هنا بمعنى المتنزه عن المآثم وأما الحنيف فقيل هو المستقيم والأصح أنه المائل إلى الخير وقيل الحنيف التابع إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم. قوله: «شيمته الوفاء» أي خلقه. قوله:
«فان أبى ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء»
هذا مما احتج به ابن قتيبة لمذهبه أن عرض الإنسان هو نفسه لا أسلافه لأنه ذكر عرضه وأسلافه بالعطف وقال غيره: عرض الرجل أموره كلها التي يحمد بها ويذم من نفسه وأسلافه وكان ما لحقه نقص يعيبه وأما قوله وقاء فبكسر الواو وبالمد وهو ما وقيت به الشيء. قوله «تثير النقع» أي ترفع الغبار وتهيجه. قوله: «من كنفى كداء» هو بفتح النون أي جانبي كداء بفتح الكاف وبالمد هي ثنية على باب مكة سبق بيانها في كتاب الحج وعلى هذه الرواية في هذا البيت أقواء مخالف لباقيها وفي بعض النسخ: غايتها كداء وفي بعضها: موعدها كداء. قوله «يبارين الأعنة» ويروى يسار عن الأعنة، قال القاضي: الأول هو رواية الأكثرين ومعناه أنها لصرامتها وقوة نفوسها تضاهي أعنتها بقوة جبذها لها وهي منازعتها لها أيضا قال القاضي وفي رواية ابن الحذاء يبارين الأسنة وهي الرماح قال فان صحت هذه الرواية فمعناها أنهن يضاهين قوامها واعتدالها.
قوله «مصعدات» أي مقبلات إليكم ومتوجهات يقال: أصعد في الأرض إذا ذهب فيها مبتدئا ولا يقال للراجع.
قوله: «على أكتافها الأسل الظماء» أما أكتافها فبالتاء المثناة فوق والأسل بفتح الهمزة والسين المهملة وبعدها لام هذه رواية الجمهور، والأسل الرماح والظماء الرقاق فكأنها لقلة مائها عطاش وقيل المراد بالظماء العطاش لدماء الأعداء وفي بعض الروايات الأسد الظماء بالدال أي الرجال المشبهون للأسد العطاش الى دمائكم.
قوله: «تظل جيادنا متمطرات» أي تظل خيولنا مسرعات يسبق بعضها بعضا. قوله «تلطمهن بالخمر النساء» أي تمسحهن النساء بخمرهن بضم الخاء والميم جمع خمار أي يزلن عندهم الغبار وهذا لعزتها وكرامتها عندهم وحكى القاضي أنه روى بالخمر بفتح الميم جمع خمرة وهو صحيح المعنى لكن الأول هو المعروف وهو الأبلغ في إكرامها.(10/40)
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: اهجوا قريشا فإنه أشدّ عليها من رشق النبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والّذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فرى الأديم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول اللَّه قد لخص لي نسبك، والّذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها:
فسمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن اللَّه ورسوله، وقالت: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى.
وقد تقدم التعريف بحسان بن ثابت الأنصاري، وكعب بن مالك، وأبى ابن كعب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم. وعبد اللَّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ أبو محمد، أحد النقباء، شهد العقبة وبدرا وما بعدها، واستشهد بمؤتة في جمادى سنة ثمان، وهو أحد الأمينين، وأحد الشعراء، وفي حسان وكعب بن مالك نزل قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [ (1) ] .
***
__________
[ () ] قوله: «وقال اللَّه قد يسرت جندا» أي هيأتهم وأرصدتهم. قوله: «عرضتها اللقاء» هو بضم العين أي مقصودها ومطلوبها. قوله: «ليس له كفاء» أي مماثل ولا مقاوم. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (1) ] الشعراء: 227، وفي (الأصل) : حتى وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً.(10/41)
فصل في ذكر شعراء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مدحه بالشعر جماعة من الرجال والنساء، ذكر من ذكره منهم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد عبد البر نحو مائة وعشرين [ (1) ] ، وجمعهم الحافظ فتح الدين محمد بن محمد الأندلسى المعروف بابن سيد الناس في قصيدة ميمية ثم شرحها في مجلد سماه (منح المدح) ، أو (فتح المدح) ، ورتبهم على حروف المعجم، قارب بهم المائتين وكان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة شعراء يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش وهم حسان بن ثابت، وعبد اللَّه بن رواحة، وكعب بن مالك، وهم من الأنصار، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
***
__________
[ (1) ] كان شعراء المسلمين: حسان بن ثابت، وعبد اللَّه بن رواحة، وكعب بن مالك، وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث.
قال أبو عمر بن عبد البر: قيل لعلى بن أبى طالب: اهج عنا القوم الذين يهجوننا فقال:
إن أذن لي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فعلت، فقالوا: يا رسول اللَّه ائذن له، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن عليا ليس عنده ما يراد في ذلك منه، أو ليس في ذلك هنالك، ثم قال ما يمنع القوم الذين نصروا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟
قال ابن سيرين: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان، وكعب، وعبد اللَّه بن رواحة، فكان حسان وكعب يعرضان بهم في الوقائع والأيام والمآثم ويذكران مثالبهم، وكان عبد اللَّه بن رواحة يعيرهم بعبادة ما لا ينفع.
فكان قوله أهون عليهم يومئذ، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا كان أشد القول عليهم قول عبد اللَّه بن رواحة، وفي ترجمة حسان بن ثابت من (الإصابة) :
قال أبو عبيدة: فضل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاثة: وكان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.(10/42)
فصل في ذكر من حجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: الحجم: المصّ. يقال: حجم الصبى ثدي أمه إذا مصه.
والحجام: المصاص. قال الأزهري: يقال للحاجم حجّام لامتصاصه فم المحجمة. وقد حجم يحجم حجما، وحاجم حجوم وفتق أحجم [ (1) ] .
وقد ورد [أنه كان ل] [ (2) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اثنان، هما: أبو طيبة مولى بنى حارثة، واسمه نافع، وقيل: ميسرة، لم يشهد بدرا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] قال ابن الأثير: المحجم بالكسر، الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة عند المصّ، قال:
والمحجم أيضا مشرط الحجام، ومنه الحديث: لعقة عسل أو شرطة محجم. وحرفته وفعله الحجامة، والحجم: فعل، وهو الحجام. واحتجم: طلب الحجامة، هو محجوم.
وفي حديث الصوم: أفطر الحاجم والمحجوم. قال ابن الأثير: معناه: أنها تعرضا للإفطار، أما المحجوم فللضعف الّذي يلحقه، وأما الحاجم فلم يأمن أن يصل إلى حلقه شيء من الدم فيبلعه أو من طعمه.
قال: وقيل: هذا على سبيل الدعاء عليهما، أي بطل أجرهما صارا مفطرين، كقوله:
من صام الدهر فلا صام ولا أفطر.
وقولهم: أفرغ من حجّام ساباط، لأنه كانت تمر به الجيوش فيحجمهم نسيئة من الكساد، حتى يرجعوا. فضرب به المثل. (لسان العرب) : 12/ 166- 117.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (3) ] هو أبو طيبة الحجام، مولى الأنصار، من بنى حارثة، وقيل: من بنى بياضة، يقال: اسمه دينار. حكاه ابن عبد البر، ولا يصح، فقد ذكر الحاكم أبو أحمد أن دينار الحجام آخر. تابعي، وأخرج ابن مندة حديثا لدينار الحجام عن أبى طيبة، ويقال: اسمه ميسرة.
ذكر البغوي في (معجم الصحابة) عن أحمد بن عبيد أبى طيبة- أنه سأله عن اسم جده أبى طيبة؟ فقال: ميسرة، ويقال اسمه نافع. قال العسكري: قيل اسمه نافع، ولا يصح، ولا يعرف اسمه.
قال الحافظ: كذا قال، ووقع مسمى كذلك في مسند محيصة بن مسعود من (مسند أحمد) ، ثم من طريق أبى حبيب، عن أبى عقير الأنصاري، عن محمد بن سهل بن أبى خيثمة، عن(10/43)
وأبو هند عبد اللَّه، مولى فروة بن عمرو البياضي، تخلف عن بدر، وشهد ما بعدها [ (1) ] .
__________
[ () ] محيصة- أنه له غلام حجام يقال له نافع أبو طيبة، فسأل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن خراجه، فقال:
أعلفه الناضح ... الحديث.
وقد أخرجه أحمد وغيره من حديث الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى عقير الأنصاري، عن محمد بن سهل بن أبى خيثمة، عن محيّصة بن مسعود- أنه كان له غلام حجام يقال له نافع أبو طيبة.
وقد ثبت ذكره في الصحيحين أنه حجم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من حديث أنس وجابر وغيرهما.
وأخرج ابن أبى خيثمة بسند ضعيف عن جابر، قال: خرج علينا أبو طيبة لثمان عشرة خلون من رمضان، فقال له: أين كنت؟ قال: حجمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرج ابن السكن بسند آخر ضعيف من حديث ابن عباس: كذا جلوسا بباب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فخرج علينا أبو طيبة بشيء في ثوبه، فقلنا: ما هذا معك يا أبا طيبة؟ قال: حجمت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأعطانى أجرى.
[ (1) ] هو أبو هند الحجام، مولى بنى بياضة.
قال ابن السكن: يقال اسمه عبد اللَّه. وقال ابن مندة: يقال اسمه يسار، ويقال سالم، قال: وقال ابن إسحاق: هو مولى فروة بن عمرو البياضي من الأنصار.
وروى عنه ابن عباس، وجابر، وأبو عميرة، ووقع في موطأ ابن وهب: حجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أبو هند يسار. وقال ابن إسحاق في (المغازي) أيضا: لما انتهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رجوعه من بدر إلى عرق الظبية استقبله أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي بحيس أي بزق مملوء حيسا، كان قد تخلف عن بدر، وشهد المشاهد بعدها.
وأخرج ابن مندة، من طريق شعيب بن أبى حمزة، عن الزهري، يقال: كان جابر يحدث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم احتجم على كاهله من أجل الشاة التي أكلها، حجمه أبو هند مولى بنى بياضة بالقرن.
وأخرج أبو نعيم، من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة: أن أبا هند حجم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في اليافوخ من وجع كان به، وقل: إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة، كذا قال حماد بن سلمة، وخالفه الدراوَرْديّ، فرواه عن محمد(10/44)
خرج البخاري من حديث محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد اللَّه، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه سئل عن أجر الحجام، فقال: احتجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، حجمه أبو طيبة، وأعطاه صاعين من طعام، وكلهم مواليه فخففوا عنه، وقال: إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري، وقال: لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط.
ذكره في كتاب الطب، وترجم عليه باب الحجامة من الداء [ (1) ] . وأخرجه أيضا من حديث مالك، عن حميد عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: حجم أبو طيبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه. ذكره في كتاب البيوع، باب ذكر الحجام [ (2) ] .
__________
[ () ] ابن عمرو، عن أبى سلمة، عن هند، قال: حجمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في اليافوخ، فقال: إن كان في شيء من الدواء خير فهو في هذه الحجامة، يا بنى بياضة، أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه.
أخرجه ابن جريح، والحاكم أبو أحمد عنه،
وذكر الحاكم في الإكليل أنه حلق رأس رسول اللَّه في عمرة الجعرانة.
وأخرج ابن السكن، والطبراني، من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة- أن أبا هند مولى بنى بياضة كان حجاما يحجم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: من سره أن ينظر إلى من صور اللَّه الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبى هند. وقال: أنكحوه وأنكحوا إليه، وسنده إلى الزهري ضعيف.
وأخرجه الحاكم أبو أحمد مختصرا،
وزاد: ونزلت: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى. [الحجرات: 13] .
وذكر الواقدي في كتاب الردة عن زرعة بن عبد اللَّه بن زياد بن لبيد- أن أبا بكر الصديق أرسل أبا هند مولى بنى بياضة إلى زياد بن لبيد عامل كندة وحضرموت يخبره باستخلافه بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 185، كتاب الطب، باب (13) الحجامة من الداء، حديث رقم (5696) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 407، كتاب البيوع، باب (39) ذكر الحجام، حديث رقم (2102) .(10/45)
وله من حديث سفيان، عن حميد الطويل، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: حجم أبو طيبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأمر له بصاع أو صاعين من طعام، وكلم مواليه فخفف من غلته وضريبته. ذكر في كتاب الإجارة، ترجم عليه باب ضريبة العبد [ (1) ] .
وخرجه مسلم [ (2) ] من حديث إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، وخرج البخاري من حديث شعبة، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: دعا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم غلاما حجاما فحجمه، وأمر له بصاع أو صاعين أو مد أو مدّين، وكلم فيه، فخفف من ضريبته، وقال مسلم: بصاع أو مدّ، أو مدّين. ترجم عليه البخاري في باب من كلم موالي العبد أن يخففوا عنه من خراجه [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث وهيب، قال: حدثنا طاووس، عن أبيه عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم احتجم وأعطى الحجام أجره واستعط. ذكره البخاري في الإجارة، ومسلم في البيوع.
ولمسلم [ (6) ] من حديث عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: حجم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عبد لبني بياضة، فأعطاه النبي
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 577، كتاب الإجارة، باب (17) ضريبة العبد وتعاهد ضرائب الإماء حديث رقم (2277) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 502، كتاب المساقاة، باب (11) حل أجرة الحجامة، حديث رقم (64) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 4/ 579، كتاب الإجارة، باب (19) من كلم موالي العبد أن يخففوا عنه من خراجه، حديث رقم (2278) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2278) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 502، كتاب المساقاة، باب (11) حل أجرة الحجامة، حديث رقم (65) .
[ (6) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (66) .(10/46)
صلى اللَّه عليه وسلّم أجره، وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته، ولو كان سحتا لم يعطه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وخرجه البخاري [ (1) ] من حديث يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: احتجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأعطى الحجام أجره، ولو علم كراهية لم يعطه.
وخرجه الخطيب [ (2) ] من حديث محمد بن فضل عن الأعمش، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعا أبا طيبة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فحجمه، وسأله عن خراجه فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعين وأعطاه أجره صاعا.
وذكر ابن أيمن من حديث ابن جريح، عن أبى الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما يقول: احتجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأعطاه أجره، وكان خراجه صاعين كل يوم، فأوصى سيده فوضع عنه صاعا [ (3) ] .
وخرج الحاكم [ (4) ] من حديث أسيد بن موسى قال: أنبانا جماد بن سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 578، كتاب الإجارة، باب (18) خراج الحجام، حديث رقم (2279) .
[ (2) ] (تاريخ بغداد) : 13/ 95، في ترجمة محمود بن محمد الواسطي رقم (7079) بسياقة أخرى.
[ (3) ] راجع التعليقات السابقة ففيها كفاية.
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 178، كتاب النكاح، حديث رقم (2693) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
وأبو هند الحجام قيل: اسمه عبد اللَّه، ويقال: اسمه يسار، ذكره ابن وهب في (موطإه) في حجامة المحرم، وقال ابن مندة: سالم بن أبى سالم الحجام يقال له: أبو هند.
وقيل: اسم أبى هند سنان. روى عنه أبو الجحاف.
قال ابن إسحاق: هو مولى فروة بن عمرو البياضي، تخلف أبو هند عن بدر، ثم شهد المشاهد كلها.
وكان يحجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال فيه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: إنما أبو هند امرؤ من(10/47)
بنى بياضة أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه، قال: وكان حجاما.
قال الحاكم:
هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
فصل في ذكر حلق شعر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن المحفوظ من هدى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه لم يحلق رأسه المقدم إلا في عمرة أو حجة.
وأول عمرة اعتمرها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعد الهجرة عمرة الحديبيّة وهي التي صده المشركون فيها عن البيت، فقاضاهم، ثم نحر هديه وحلق.
قال الواقدي: وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه ابن أبى صعصعة، عن الحارث بن عبد اللَّه، عن أم عمارة، قالت: فأنا انظر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين فرغ عن نحر البدن، فدخل قبة له من أدم حمراء، فيها الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إليه قد أخرجه رأسه من قبته وهو يقول: رحم اللَّه المحلقين. قيل: يا رسول اللَّه، والمقصرين! قال: رحم اللَّه المحلقين- ثلاثا- ثم قال والمقصرين [ (1) ] .
وحدثني إبراهيم بن يزيد، عن أبى الزبير، عن جابر، قال وأنا انظر إليه حين حلق رأسه، ورمى بشعره على شجره كانت إلى جنبه من سمره خضراء [ (1) ] .
__________
[ () ] الأنصار، فأنكحوه وأنكحوا إليه يا بنى بياضة. (الاستيعاب) : 4/ 1772، ترجمة رقم (2309) .
قال الإمام النووي في (شرح مسلم) : وفي هذه الأحاديث إباحة التداوي، وإباحة الأجرة على المعالجة بالتطبب، وفيها الشفاعة إلى أصحاب الحقوق، والديون، في أن يخففوا منها.
وفيها جواز مخارجة العبد برضاه ورضا سيده. (مسلم بشرح النووي) : 10/ 502.
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 615- 616.(10/48)
قالت أم عمارة: فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة، فيتحاصّون فيه، وجعلت أزاحم حتى أخذت طاقات من شعر، فكانت عندها حتى ماتت تغسل للمريض.
قال: وحلق يومئذ ناس، وقصّر آخرون. قالت أم سلمة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: وقصّرت يومئذ أطراف شعرى. وكانت أم عمارة تقول: قصرت يومئذ- بمقص معى- الشعر وما شدّ.
[قال الواقدي] ، حدثني خراش بن هنيد، عن أبيه، قال: كان الّذي حلق خراش بن أمية [ (1) ] ، يعنى ابن الفضل الكعبي الخزاعي، وهو الّذي بعث به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة، وعقروا جمله، وشهد الحديبة وما بعدها، ومات آخر خلافة معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
ثم اعتمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عمرة القضية، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة.
وقال الواقدي: حدثني حزام بن هشام- عن أبيه، أن خراش بن أمية حلق رأس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عند المروة [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثني حزام بن هشام، عن أبيه، أن خراش بن أمية حلق رأس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عند المروة [ (1) ] .
وحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحى بن حبان، أن الّذي حلقه معمر بن عبد اللَّه العدوي. ويقال فيه: معتمر بن أبى معتمر بن أبى معمر أحد شيوخ بنى عدي، أسلم قديما، وهاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، وتأخرت هجرته إلى المدينة، وعاش عمرا طويلا، وله أحاديث منها: لا يحتكر إلا خاطئ.
ولما اعتمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الجعرانة، وأحرم، ودخل مكة، وطاف بالبيت ماشيا، ثم سعى بين الصفا والمروة على راحلته، حتى انتهى إلى المروة من الطواف السابع، وحلق رأسه عند المروة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 2/ 737.(10/49)
قال والواقدي: حلقه أبو هند، عبد بنى بياضة، ويقال: حلقه خراش ابن أمية [ (1) ] .
وأبو هند هذا هو الحجام المذكور آنفا.
ولما كانت حجة الوداع حلق رأسه بمنى. قال الواقدي: لما نحر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الهدى، دعا الحلاق، وحضر المسلمون يطلبون من شعر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأعطى الحلاق شق رأسه الأيمن، ثم أعطاه أبا طلحة الأنصاري. وكلمه خالد بن الوليد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في ناصيته حين حلق، فدفعها إليه، وكان يجعلها في مقدم قلنسوته [ (2) ] ، [فلا يلقى جمعا إلا فضّه، فقال أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: كنت انظر إلى خالد بن الوليد، وما نلقى منه في أحد، وفي الخندق وفي الحديبيّة، وفي كل موطن لاقانا، ثم نظرت إليه يوم النحر يقدم إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بدنة، وهي تعتب في العقل، ثم نظرت إليه ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يحلق رأسه، وهو يقول: يا رسول اللَّه، نا صيتك! لا تؤثر بها على أحدا فداك أبى وأمى! فأنظر إليه أخذ ناصية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكان يضعها على عينية وفيه] [ (3) ] .
[قال: وسألت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: من أين هذا الشعر الّذي عندكن؟ قالت: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما حلق رأسه في حجمته فرّق شعره في الناس، فأصابنا ما أصاب الناس. فلما حلق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رأسه أخذ من شاربه وعارضيه، وقلم أظفاره، وأمر بشعره وأظفاره أن يدفنا، وقصر
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 2/ 959.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 1108- 1109.
[ (3) ] ما يبن الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق من (المرجع السابق) .
وفي ترجمة معمر بن نضلة، قال يعقوب بن محمد الزهري: حدثني محمد بن إبراهيم مولى بنى زهرة، عن ابن لهيعة، حدثنا يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الرحمن مولى معمر بن نضلة، قال: قمت على رأس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ومعى موسى لأحلق رأسه، فقال: يا معمر، مكنك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من شحمة أذنيه. قلت: ذلك من منن اللَّه عليّ. قال: أجل فحلقت رأسه (الإصابة) : 16/ 190، ترجمة رقم (8160) .(10/50)
قوم من أصحابه وحلق آخرون، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين! ثلاثا، كل ذلك يقال: المقصرين يا رسول اللَّه! فقال: والمقصرين! في الرابعة] [ (1) ] .
فصل في ذكر من طبخ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أنه جاء عن جماعة، أنهم طبخوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فمنهم أبو عبيدة مولاه [ (2) ] ، ويقال: خادمه.
خرج أبو عيسى الترمذي في (الشمائل) [ (1) ] ، من حديث قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبى عبيدة، قال: طبخت للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم قدرا، وقد كان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم قال ناولني الذراع، فناولته، ثم قال:
ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه! وكم للشاة من ذراع؟ فقال: والّذي نفسه بيده لو سكت لناولتنى الذراع ما دعوت.
وسلمى بنت عميس [ (3) ] أخت أسماء بنت عميس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. خرج أبو يعلى، وأبو عيسى في (الشمائل) [ (4) ] ، من حديث الفضيل بن
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية) : 141، باب (26) ما جاء في إدام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (170) ، وهو حديث صحيح لغيره، وقد تفرد به الترمذي، وفي سنده ضعف، وله شواهد.
[ (2) ] هو أبو عبيد مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لا يعرف اسمه، وأخرج حديثه الترمذي في (الشمائل) ، والدارميّ من طريق شهر بن حوشب عنه. قال: طبخت للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم قدرا، وكان يعجبه الذراع ... الحديث ورجاله رجال الصحيح إلا شهر بن حوشب. قال البغوي: له صحبة، حدثني عباس، عن يحى بن معين، قال: أبو عبيد الّذي روى عنه شهر هو من الصحابة. (الإصابة) : 7/ 269، ترجمة رقم (10224) .
[ (3) ] هي سلمى بنت عميس الخثعمية، أخت أسماء، وهي إحدى الأخوات التي قال فيهن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
الأخوات مؤمنات. كانت تحت حمزة، فولدت له أمة اللَّه بنت حمزة، ثم خلف عليها بعد قتل حمزة شداد بن الهاد الليثي، فولدت له عبد اللَّه وعبد الرحمن.(10/51)
سليمان قال: أنبأنا عبد اللَّه بن على، عن جدته سلمى قالت: أن الحسن بن عليّ، وابن عباس، وابن جعفر أتوها فقالوا لها: أصنعى لنا طعاما مما كان يعجب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ويحسن أكله، فقالت: يا بنى إنك لا تشتهيه اليوم، قال:
بل اصنعيه لنا وصبّت عليه شيئا من زيت، ودقت الفلفل والتوابل، فقربته إليهم فقال: هذا مما كان يعجب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ويحسن أكله. اللفظ لأبى يعلى، وأبى رافع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وخرج مسلم والنسائي من حديث عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال، عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبى رافع، عن أبى غطفان، عن أبىّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. قال: أشهد لقد كنت أشوى لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بطن الشاة، ثم صلى ولم يتوضأ. هذا لفظ مسلم [ (1) ] .
__________
[ () ] وأخرج ابن مندة من طريق عبد اللَّه بن المبارك، عن جرير بن حازم، عن محمد بن عبد اللَّه بن أبى يعقوب، وأبى فزارة، جميعا عن عبد اللَّه بن شداد، قال: كانت بنت حمزة أختى من أمى، وكانت أمنا سلمى بنت عميس.
وقال ابن سعد: زوجها حمزة، وكانت أسلمت قديما مع أختها أسماء فولدت لحمزة ابنته عمارة، وهي التي اختصم فيها على وجعفر وزيد بن حارثة ثم بانت سلمى من حمزة، فتزوجها شداد، فولدت له عبد اللَّه، فقضى بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لجعفر، وقال: الخالة بمنزلة الأم. وكانت أسماء تحت جعفر، فتعين أن أمها سلمى، وقد بالغ ابن الأثير في الرد على من زعم أن أسماء كانت تحت حمزة. لها ترجمة في (الإصابة) : 7/ 706- 707، ترجمة رقم (11317) ، (الاستيعاب) : 4/ 1816، ترجمة رقم (3381) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 209.
[ (4) ] (الشمائل المحمدية) : 148، باب (26) ما جاء في إدام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (179) ، وهو حديث ضعيف تفرد به الترمذي.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 285، كتاب الحيض، باب (24) نسخ الوضوء مما مسته النار، حديث رقم (357) . قال الإمام النووي: أما غطفان، بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة، فهو ابن طريف المري المدني. قال الحاكم أبو أحمد: لا يعرف اسمه. قال: ويقال في كنيته أيضا: أبو مالك.(10/52)
ولفظ النسائي: عن أبى رافع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كنت أشوى لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بطن الشاة، وقد توضأ للصلاة، فيأكل منه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضا [ (1) ] .
وخرج النسائي من حديث أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: طبخت لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم شاة، فقال: ناولني الذراع، فناولته الذراع، قال:
ناولني الذراع، فناولته الذراع، قال: ناولني الذراع، فقلت: يا رسول اللَّه! إنما للشاة ذراعان، قال: والّذي نفسي بيده، ولو سكت لناولتني الذراع ما دعوت [ (2) ] .
فصل في ذكر مواشط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: مشط شعره يمشطه ويمشطه مشطا: رجّله، والمشاطة: ما سقط منه عند المشط. وقد أمتشط، وامتشطت المرأة، ومشطتها الماشطة مشطا. والماشطة التي تحسن المشط وحرفتها المشاطة.
والمشاطة الجارية التي تحسن المشاطة [ (3) ] .
__________
[ () ] وأما أبو رافع. فهو مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، واسمه أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل:
هرمز، وقيل: ثابت.
وقوله: بطن الشاة، يعنى الكبد وما معه من حشوها، وفي الكلام حذف تقديره: أشوى بطن الشاة، فيأكل منه ثم يصلى ولا يتوضأ، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .
[ (1) ] (سنن النسائي) : 1/ 116، كتاب الطهارة، باب (123) ترك الوضوء مما غيرت النار، حديث رقم (183) .
[ (2) ] وأخرجه الدارميّ في (السنن) من حديث قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبى عبيد، وفيه:
والّذي نفسي بيده أن لو سكت لأعطيت أذرعا ما دعوت به. (سنن الدارميّ) : 1/ 22، باب ما أكرم به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في بركه طعامه.
[ (3) ] (لسان العرب) : 7/ 402- 403.(10/53)
وذكر ابن فتحون أن أم زفر كانت ماشطة خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها وأنها كانت تأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيكرمها، ويقول: أنها كانت تأتينا أيام خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها [ (1) ] .
وأم سليم، سهلة، وقيل: زميلة، وقيل: رميثة، وقيل: مليكة، وقيل: الغميصاء، أو والرميصاء، بنت ملحان بن خالد، بن زيد بن حرام ابن جندب الأنصارية، وهي أم أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، خادم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هي أم زفر: ماشطة خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
ذكر عبد الغنى بن سعيد في (المبهمات) : أنها المرأة التي قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيها: أنها كانت تغشانا في زمن خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
فروى من طريق الزبير بن بكار، عن سليمان بن عبد اللَّه بن سليم، أخبرنى شيخ من أهل مكة، قال: هي زفر ماشطة خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- يعنى العجوز التي قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: إنها كانت تغشانا في زمن خديجة.
قال الحافظ في (الإصابة) : ومضى في جثامة من أسماء النساء من طريق أبى عاصم، عن أبى عامر الخزاز، عن ابن مليكة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، ما يقتضي أنه كان اسمها جثامة المزنية، فغيره النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: بل أنت حضانة، وفي رواية: حسانة، فكونها مزنية واسمها حضانة، يقوى أنها غير الحبشية. (الإصابة) : 8/ 211- 212، ترجمة رقم (12027) .
[ (2) ] تزوجت مالك بن النضير في الجاهلية.
هي أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية.
تقدم نسبها في ترجمة أخيها حرام بن ملحان، وهي أم أنس خادم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، اشتهرت بكنيتها.
واختلف في اسمها، فقيل سهلة، وقيل رميلة، وقيل رميثة، وقيل مليكة، وقيل الغميصاء أو الرميصاء تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات بها، فتزوجت بعده أبا طلحة، فروينا في (مسند أحمد) بعلو (الغيلانيات) ، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، وإسماعيل بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس بن مالك- أن أبا طلحة(10/54)
__________
[ () ] خطب أم سليم- يعنى قبل أن يسلم، فقالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الّذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى. قلت: أفلا تستحي تعبد شجرة! إن أسلمت فإنّي لا أريد منك صداقا غيره.
قال: حتى انظر في أمرى، فذهب ثم جاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فقالت: يا أنس، زوج أبا طلحة، فزوجها.
ولهذا الحديث طرق متعددة. وقال ابن سعد: أخبرنا خالد بن مخلد، حدثني محمد بن موسى، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس بن مالك، قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: إني قد آمنت بهذا الرجل، وشهدت بأنه رسول اللَّه، فإن تابعتنى تزوجتك.
قال: فأنا على ما أنت عليه، فتزوجت أم سليم، كان صداقها الإسلام.
وبه: خطب أبو طلحة أم سليم- وكانت أم سليم تقول: لا أتزوج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس، فيقول: جزى اللَّه أمى عنى خيرا، لقد أحسنت ولايتى. فقال لها أبو طلحة:
فقد جلس أنس وتكلم، فتزوجها.
قلت: والجواب عن دخوله بيت أم حرام وأختها أنهما كانتا في دار واحدة، وكانت تغزو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ولها قصص مشهورة، منها ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول اللَّه، هذه أم سليم معها خنجر، فقالت:
اتخذته إن دنا أحد من المشركين بقرت بطنه.
ومنها قصتها المخرجة في (الصحيح) لما مات ولدها ابن أبى طلحة، فقالت لما دخل:
لا يذكر أحد لأبى طلحة قبلي، فلما جاء وسأل عن ولده قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه عوفي، وقام فأكل ثم تزينت له وتطيبت فنام معها، وأصاب منها فلما أصبح قالت له: احتسب ولدك، فذكر ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: بارك اللَّه لكما في ليلتكما،
فجاءت بولد وهو عبد اللَّه بن أبى طلحة، فأنجب ورزق أولادا، قرأ القرآن منهم عشرة كملا.
وفي الصحيح أيضا عن أنس- أن أم سليم لما قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قالت: يا رسول اللَّه، هذا أنس يخدمك، وكان حينئذ ابن عشر سنين، فخدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر بخادم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وروت عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عدة أحاديث، وروى عنها ابنها أنس، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وآخرون.(10/55)
ذكر ابن إسحاق [ (1) ] ، والواقدي، وسياقة الواقدي عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال انصرفنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من خيبر، وهو يريد وادي القرى، ومعه أم سليم بنت ملحان، وكان بعض القوم يريد أن يسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صفية حتى مرّ بها، فألقى عليها رداءه ثم عرض عليها الإسلام، فقال: أن تكوني على دينك لم نكرهك، فإن اخترت اللَّه ورسوله اتخذتك لنفسي. قالت:
بل أختار اللَّه ورسوله، قال: فأعتقها فتزوجها، وجعل عتقها مهرها.
فلما كان بالصهباء، قال لأم سليم: انظري صاحبتك هذه، فأمشطيها، وأراد أن يعرّس بها هناك، فقامت أم سليم- قال أنس: وليس معنا فساطيط ولا سرادقات- فأخذت كساءين وعباءتين فسترت بهما عليها إلى شجرة فمشطتها وعطرتها، وأعرس بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هناك [ (2) ] ... وذكر بقية الخبر [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (السيرة النبويّة) : 4/ 307، قصة صفية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 707- 708.
[ (3) ]
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما خرج من خيبر وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما خرج من خيبر، وقرب بعيرها وقد سترها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بشوبه، أدنى فخذه لتضع رجلها عليه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، فلما بلغ ثبارا أراد أن يعرس بها هناك، فأبت عليه حتى وجد في نفسه، خرج بلغ الصهباء فمال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما حملك على ما صنعت حين أردت أن أنزل بثبار- وثبار على ستة أميال والصهباء على اثنى عشر ميلا- قالت: يا رسول خفت عليك قرب اليهود، فلما بعدت أمنت. فزادها عند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خيرا وعلم أنها قد صدقته، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأولم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عليها بالحيس والسويق والتمر، كان قصاعهم الأنطاع قد بسطت، فرئي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يأكل معهم على تلك الأنطاع. قالوا: وبات أبو أيوب الأنصاري قريبا من قبته آخذا بقائم السيف حتى أصبح، فلما خرج رسول اللَّه بكرة فكبر أبو أيوب فقال: مالك يا أبا أيوب؟ فقال: يا رسول اللَّه، دخلت بهذه الجارية وكنت قد قتلت أباها وإخوتها وعمومتها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت أن تغتالك. فضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وقال له معروفا.(10/56)
فصل في ذكر من كانت تعلم نساء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
خرج الحاكم من حديث صالح بن كيسان، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد أن أبا بكر بن سليمان بن أبى حثمة القرشيّ، حدثه أن رجلا من الأنصار خرجت به نملة، فدل أن الشفاء بنت عبد اللَّه ترقى من النملة، فجاءها، فسألها أن ترقيه، فقالت: واللَّه ما رقيت منذ أسلمت، فذهب الأنصاري إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأخبره بالذي قالت الشفاء، فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الشفاء فقال: أعرضى عليّ، فأعرضتها عليه، فقال: ارقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد سمعه أبو بكر بن سليمان من جدته [ (1) ] .
وقال أبو عمر بن عبد البر: الشفاء أم سليمان بن أبى حثمة، وهي الشفاء بنت عبد اللَّه بن عبد شمس بن خلف بن صداد- ويقال: ضرار- بن عبد اللَّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، القرشية، العدوية، من المبايعات. قال أحمد بن صالح المصري: اسمها ليلى، وغلب عليها الشفاء.
أمها فاطمة بنت أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم، أسلمت الشفاء قبل الهجرة، فهي من المهاجرات الأول، وبايعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن،
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يأتيها ويقيل عندها في بيتها، وكانت قد اتخذت له فراشا وإزارا ينام فيه، فلم يزل عند ولدها حتى أخذه منهم مروان، وقال لها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: علمي حفصة رقية النملة كما علمتيها الكتاب.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 63، كتاب معرفة الصحابة، ذكر الشفاء بنت عبد اللَّه القرشية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (6888) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.(10/57)
وأقطعها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دارا عند الحكاكين [ (1) ] ، فنزلتها مع ابنها سليمان، وكان عمر يقدمها في الرأى، ويرضاها، ويفضلها، وربما ولاها شيئا من أمر السوق [ (2) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] موضع بالمدينة.
[ (2) ] راجع (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 9/ 387، فصل في ذكر من ولى السوق في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وتعرف هذه الولاية اليوم بالحسبة، ومتوليها يقال له المحتسب.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 4/ 1868- 1869، ترجمة رقم (3398) .
وقال الحافظ في (الإصابة) : روى عنها حفيداها: أبو بكر، وعثمان ابنا سليمان بن أبى حثمة، وروى عنها أيضا ابنها سليمان، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وحفصة أم المؤمنين، ومولاها أبو إسحاق.
وفي (المسند) ، من طريق المسعودي، عن عبد اللَّه الملك بن عمير، عن رجل من آل أبى حثمة، عن الشفاء بنت عبد اللَّه، وكانت من المهاجرات، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سئل عن أفضل الأعمال فقال: إيمان باللَّه، وجهاد في سبيله، وحج مبرور.
وأخرج ابن مندة حديث رقية النملة من طريق الثوري، عن ابن المنكدر، عن ابى بكر ابن سليمان بن أبى حثمة، عن حفصة، أن امرأة من قريش يقال لها الشفاء، كانت ترقى من النملة، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: علميها حفصة. وذكر الاختلاف في وصله وإرساله على الثوري.
(الإصابة) : 7/ 828، ترجمة رقم (11373) .
وحديث رقية النملة أخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 215، كتاب الطب، باب (18) ما جاء في الرقى، حديث رقم (3887) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 516، حديث رقم (26555) من حديث الشفاء بنت عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها. والياء في «علمتيها» ناشئة عن إشباع كسرة.
قال العلامة شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية في (زاد المعاد) : النملة قروح تخرج في الجنبين، وهو داء معروف، وسمى نملة، لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه، وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة وغيره: كان المجوس يزعمون أن ولد الرجل من أخته إذا خطّ على النملة، شفى صاحبها، ومنه قول الشاعر:(10/58)
فصل في ذكر قابلة أولاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: قبلت القابلة الولد قبالا، أخذته من الوالدة وهي قابلة المرأة وقبولها، وقبيلها [ (1) ] .
ذكر ابن إسحاق، والواقدي، والبلاذري، وابن عبد البر [ (2) ] وغيرهم:
أن سلمى خادم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قبلت إبراهيم بن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكانت قابلة فاطمة رضى
__________
[ () ]
ولا عيب فينا غير عرف لمعشر ... كرام وأنّا لا نخطّ على النمل
وروى الخلال: أن الشفاء بنت عبد اللَّه كانت ترقى في الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكانت بايعته بمكة، قالت: يا رسول اللَّه! إني كنت أرقى في الجاهلية من النملة، وإني أريد أن أعرضها عليك، فعرضت عليه فقالت: بسم اللَّه ضلّت حتى تعود من أفواهها، ولا تضر أحدا، اللَّهمّ اكشف البأس ربّ الناس قال: ترقى بها على عود سبع مرات، وتقصد مكانا نظيفا، وتدلكه على حجر بخلّ خمر حاذق، وتطليه على النملة. (زاد المعاد) :
4/ 184- 185، فصل في هديه صلى اللَّه عليه وسلّم في رقية النملة.
قال الخطابي في (معالم السنن) : النملة قروح تخرج في الجنبين، ويقال: أنها تخرج أيضا في غير الجنب، ترقى، فتذهب بإذن اللَّه تعالى. وفي الحديث دليل على أن تعليم الكتابة للنساء غير مكروه.
[ (1) ] (لسان العرب) : 11/ 543- 544.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 4/ 1862- 1863، ترجمة (3383) ، وقال: وشهدت سلمى هذه خيبر مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
من حديثها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن، أصبغ حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا عبد اللَّه بن محمد الكرماني، حدثنا عبدة بن سليمان، عن حارثة ابن عبيد اللَّه بن أبى رافع، عن جدته- وكانت خادما للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم- أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أوصى بالهجرة، وقال: إن امرأة عذبت في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض.(10/59)
اللَّه تبارك وتعالى عنها، وهي التي غسلتها مع على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومع أسماء بنت عميس.
فصل في ذكر مرضعة إبراهيم ابن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال البلاذري: وتنافست [نساء] الأنصار في إبراهيم [ابن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] ، أيهم تحضنه وترضعه، حتى جاءت أم بردة [ (1) ] ، وهي كبشة بنت المنذر ابن زيد بن لبيد بن خراش، من بنى النجار، فدفعه إليها لترضعه.
وزوج أم بردة البراء بن أوس بن خالد، من بنى مبذول بن عمرو بن غنيم بن مازن بن النجار [ (2) ] فكان إبراهيم في بنى مازن، إلا أن أمه كانت تأتى به- ثم يعاد إلى منزل ظئره- أم بردة، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يأتى أم بردة فيقيل عندها، وتخرج إليه إبراهيم فيحمله.
__________
[ () ] قال الحافظ في (الإصابة) : سلمى، مولاة صفية. ذكر الواقدي أنها كانت قابلة خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، عند ولادة أولادها من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. (الإصابة) : 7/ 711، ترجمة رقم (11320) .
[ (1) ] (الإستيعاب) : 4/ 1926، ترجمة رقم (4126) .
[ (2) ] هو البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول الأنصاري قال ابن شاهين: عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن زيد، عن رجاله، أنه شهد أحدا وما بعدها، قال: وهو زوج مرضعة إبراهيم ابن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم واسمها خولة بنت المنذر بن زيد.
وقال الواقدي: عن يعقوب بن محمد بن أبى صعصعة، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، عن البراء بن أوس بن خالد، أنه قاد مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فرسين، فضرب له بخمسة أسهم.
وذكره أبو نعيم، وقال أبو عمر: هو والد إبراهيم بن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة. زوج أم بردة التي أرضعته. (الإصابة) : 1/ 277- 278، ترجمة رقم (616) ، (الاستيعاب) : 1/ 153، (171) .(10/60)
قال: وأعطى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أم بردة قطعة من نخل. قال: وتوفى إبراهيم.
فصل في ذكر من كان يضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن عبد اللَّه بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد [أو سعيد] بن سهم. أبو حذافة القرشيّ السهمىّ، أحد المهاجرين الأولين، كانت فيه دعابة معروفة [ (1) ] .
ذكر الزبير بن بكار قال: حدثني عن الجبار بن سعد، عن عبد اللَّه بن وهب عن الليث، عن سعد، قال: بلغني أنه حلّ حزام راحلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقع. قال ابن وهب: قلت لليث:
ليضحكه؟ قال، كانت فيه دعابة.
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشيّ، السهمىّ، يكنى أبا حذافة، كناه الزهري، أسلم قديما، وكان من المهاجرين الأولين، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة في قول ابن إسحاق والواقدي، وخنيس بن حذافة الّذي كان زوج حفصة قبل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. يقال: إنه شهد بدرا، ولم يذكره ابن إسحاق في البدريين، روى محمد ابن عمرو بن علقمة عن عمرو بن الحكم بن ثوبان، عن أبى سعيد الخدريّ، قال: كان عبد اللَّه ابن حذافة بن قيس السهمي من أصحاب بدر، وكانت فيه دعابة.
قال أبو عمرو: كان عبد اللَّه بن حذافة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى كسرى بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يدعوه إلى الإسلام، فمزق كسرى الكتاب، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ مزق ملكه، وقال: إذا مات كسرى فلا كسرى بعده.
قال الواقدي: فسلط اللَّه على كسرى ابنه شيرويه، فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع.
وعبد اللَّه بن حذافة هو القائل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قال: سلوني عما شئتم: من أبى؟
قال: أبوك حذافة بن قيس،
فقالت له أمه: ما سمعت بابن أعق منك، أمنت أن تكون أمك قارفت ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس! فقال: واللَّه لو ألحقنى بعبد أسود للحقت به. وكانت في عبد اللَّه بن حذافة دعابة معروفة. (الاستيعاب) : 3/ 889- 890.(10/61)
قال الزبير: هكذا قال ابن وهب، عن الليث: حلّ حزام راحلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ولم يكن لابن وهب علم بلسان العرب، وإنما تقول العرب لحزام الراحلة: غرطة، إذا ركب بها على رحل، فإن ركب بها على جمل فهي بطان، وإن ركب بها على فرس فهي حزام، وإن ركب بها على رحل أنثى فهو وضين [ (1) ] .
قلت- أي المقريزي-: هكذا نقل أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البرّ [ (2) ] .
وقد خرج الحاكم في (المستدرك) [ (3) ] من حديث يحيى بن بكير قال أنبأنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمرو ابن الحكم ابن ثوبان، عن أبى سعيد الخدريّ، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم علقمة بن محرز على بعث، فلما بلغنا راس مغزانا أذن لطائفة من الجيش، وأمر عليهم عبد اللَّه بن حذافة بن قيس السهمي، وكان من أهل بدر، وكانت فيه دعابة، فإنه كان يحل رحل ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره ليضحكه بذلك وكان الروم قد أسروه في زمن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فأرادوه على الكفر، فعصمه اللَّه عزّ وجل حتى أنجاه اللَّه تبارك وتعالى منهم.
__________
[ (1) ] قال أبو عمر: شاهد ذلك ما روى أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه سار في بعض حجاته. فلما أتى وادي محسّر، فضرب فيه راحلته حتى قطعته وهو يرتجز:
إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها
معترضا في بطنها جنينها ... قد ذهب الشحم الّذي يزينها
(المرجع السابق) : 890.
قال خليفة بن خياط: وفي سنة تسع عشرة أسرت الروم عبد اللَّه بن حذافة السهمي.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 731، كتاب معرفة الصحابة، ذكر عبد اللَّه بن حذافة السهمي، حديث رقم (6639) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .(10/62)
وقال الزبير بن بكار في كتاب (نسب قريش) : وعبد اللَّه بن حذافة كان من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو رسوله بكتابه إلى كسرى، وهو الّذي أمره أيام التشريق أن ينادى في الناس: إنها أيام أكل وشرب.
قال ابن عبد البر: ومن دعابة عبد اللَّه بن حذافة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمّره على سرية، فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا، فلما أوقدوها، أمرهم بالتقحم فيها، فأبوا، فقال لهم: ألم يأمركم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بطاعتي؟ وقال: من أطاع أميرى فقد أطاعنى؟ فقالوا: ما آمنا باللَّه واتبعنا رسول اللَّه إلا لننجو من النار. فصوّب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فعلهم وقال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
قال اللَّه تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ (1) ] :
وهو حديث صحيح الإسناد مشهور [ (2) ] .
قال الواقدي [ (3) ] : حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، وإسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه- زاد أحدهما على صاحبة- قالا: بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن ناسا من الحبشة تراءاهم أهل الشعيبة- ساحل بناحية مكة- في مراكب، فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فبعث علقمة بن مجزر المدلجي في ثلاثمائة رجل، حتى انتهى إلى جزيرة في البحر، فخاض إليهم فهربوا منه، ثم انصرف، فلما كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يلقوا كيدا.
فأذن لهم، وأمرّ عليهم عبد اللَّه بن حذافة السهمىّ- وكانت فيه دعابة- فنزلنا ببعض الطريق، وأوقد القوم نارا يصطلون عليها ويصنعون الطعام، فقال: عزمت عليكم ألا تواثبتم في هذه النار! فقام بعض القوم فتحاجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم! فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه!
__________
[ (1) ] النساء: 28
[ (2) ] (الاستيعاب) : 3/ 890.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 983- 984، شأن سرية أميرها علقمة بن مجزر المدلجي في ربيع الآخر سنة تسع.(10/63)
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] هذا الحديث من حديث الأعمش. عن سعد ابن عبيدة، عن أبى عبد الرحمن، عن عليّ قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرية،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 152، كتاب الأحكام، باب (4) السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، حديث رقم (7145) .
قوله «السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية» إنما قيده بالإمام وإن كان في أحاديث الباب الأمير، ولم يكن إماما، لأن محل الأمر بطاعة أن يكون مؤمرا من قبل الإمام.
قوله: «لو دخلوها ما خرجوا منها»
قال الداوديّ: يريد تلك النار، لأنهم يموتون بتحريقها، فلا يموتون منها أحياء.
قال: وليس المراد بالنار نار جهنم، ولا أنهم مخلدون فيها، لأنه قد ثبت
في حديث الشفاعة: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان» وأخرجه في كتاب المغازي، باب (60) سرية عبد اللَّه بن حذافة السهمي وعلقمة بن مجزر المدلجي، ويقال: إنها سرية الأنصاريّ، حديث رقم (4340) .
وأخرجه في كتاب (أخبار الآحاد) ، باب (1) ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، وقوله اللَّه تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة] : 122.
ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى التوبة: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية. وقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
وكيف بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أمراءه واحدا بعد واحد، فإن سها أحد منهم ردّ إلى السنة، حديث رقم (7257) .
وفي الحديث من الفوائد: أن الحكم حال الغضب ينفذ منه ما لا يخالف الشرع، وأن الغضب يغطى على ذوى العقول، وفيه أن الإيمان ينجى من النار لقولهم «إنما فررنا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من النار» الفرار إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فرار إلى اللَّه، والفرار إلى اللَّه يطلق على الإيمان.
قال اللَّه تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وفيه أن الأمر المطلق لا يعم الأحوال، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أمرهم أن يطيعوا الأمير، فحملوا ذلك على عموم الأحوال، حتى في حال الغضب، في حال الأمر بالمعصية، واستنبط منه الشيخ أبو محمد بن أبى حجرة، أن الجمع(10/64)
وأستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: أجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى.
قال: فنظر بعضهم إلى بعض! فقالوا: انما فررنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف
واللفظ لمسلم.
[قال: وحدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا وكيع، وأبو معاوية بهذا الإسناد نحوه] .
وقال البخاري في حديثه: فلما هموا بالدخول [فقاموا] ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فرارا من النار! أفندخلها؟
فبينما هم كذلك.... الحديث. وقال في آخره: ما خرجوا منها أبدا ذكره في كتاب الأحكام، وذكره مسلم في كتاب الإمارة، وقال البخاري في كتاب المغازي، في سرية عبد اللَّه بن حذافة السهمىّ وعلقمة بن مجزر المدلجي- ويقال لها: سرية الأنصاري- وذكر حديث الأعمش بنحو مما تقدم أو قريبا منه.
__________
[ () ] من هذه الأمة لا يجتمعون على خطأ، لانقسام السرية قسمين: منهم من هان عليه دخول النار فظنه طاعة، ومنهم من فهم حقيقة الأمر، وأنه مقصور على ما ليس بمعصية، فكان اختلافهم سببا لرحمة الجميع. قال: وفيه أن من كان صادق النية لا يقع إلا في خير، ولو قصد الشر فإن اللَّه تعالى يصرفه عنه.
ولهذا قال بعض أهل المعرفة: من صدق مع اللَّه وقاه اللَّه، ومن توكل على اللَّه كفاه اللَّه. (فتح الباري) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 470، كتاب الإمارة، باب (8) وجوب طاعة الأمراء من غير معصية، وتحريمها في المعصية حديث رقم (40) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .(10/65)
وذكره مسلم [ (1) ] وذكره النسائي [ (2) ] أيضا من حديث شعبة عن زبيد عن سعد بن عبيدة، عن أبى عبد الرحمن، عن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعث جيشا وأمّر عليه رجلا، فأوقدوا نارا، وقال:
ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنما فررنا منها، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين قولا حسنا، وقال لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف. اللفظ لمسلم.
وقال فيه البخاري: وقال للآخرين: لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف. ولم يذكر: قولا حسنا. وقال النسائي في آخره: وقال للآخرين خيرا.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 469- 470، كتاب الإمارة باب (8) وجوب طاعة الأمراء من غير معصية، وتحريمها في المعصية، حديث رقم (40) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 7/ 179، كتاب البيعة، باب (34) جزاء من أمر بمعصية فأطاع، حديث رقم (4216) .
وأخرجه أيضا أبو داود في (السنن) : 3/ 93- 94، كتاب الجهاد، باب (96) في الطاعة، حديث رقم (2625) .
قال الخطابي هذه القصة وما ذكر فيها من شأن النار والوقوع فيها، يدل على أن المراد به طاعة الولاة، وأنها لا تجب إلا في المعروف، كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة، وفي الأمور التي هي طاعات ومعاون للمسلمين ومصالح لهم، فأما ما كان فيها معصية كقتل النفس المحرمة، وما أشبهه، فلا طاعة لهم في ذلك.
وقد يفسر
قوله: «لا طاعة في معصية اللَّه»
تفسيرا آخر، وهو أن الطاعة لا تسلم صاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعات مع اجتناب المعاصي (معالم السنن) .
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 151، حديث رقم (726) ، 1/ 200، حديث رقم (1021) ، كلاهما من مسند على بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.(10/66)
ولعمر بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار ويقال فيه: نعيمان- قال ابن الكلبي: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا نظر إلى نعيمان لم يتمالك نفسه أن يضحك، فأشترى نعيمان يوما بعيرا ينحره ولم يعط ثمنه، فجاء صاحبه يشكوه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [فقال] اذهبوا بنا نطلبه، فوجده، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: هذا نعمان لصاحب البعير، فقال نعمان: لا جرم، لا يغرم البعير عندك، فغرمه عنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
أمه فطيمة الكاهنة.
وقال ابن عبد البر: شهد العقبة الآخرة. وهو من السبعين فيها، في قول ابن إسحاق، وشهد بدرا والمشاهد كلها. رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] هو النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري. وفي (مسند محمد بن هارون الروياني) : حدثنا خالد بن يوسف، حدثنا أبو عوانة، عن عمرو بن أبى سلمة، عن أبيه، قال: مات عبد الرحمن بن عوف عن أربع نسوة:
أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وأخت نعيمان.
قال البخاري، وأبو حاتم وغيرهما: له صحبة. وذكره موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري، وأبو الأسود، عن عروة وغيرهما فيمن شهدا بدرا وذكر ابن إسحاق أنه شهد العقبة الأخيرة، وقال ابن سعد: شهد بدرا، وأحدا، والخندق والمشاهد كلها.
ذكره الزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة والمزاح) من طريق أبى طوالة، عن أبى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: كان بالمدينة رجل يقال له النعيمان يصيب من الشراب، فذكر نحوه، وبه أن رجلا من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال للنعيمان يصيب من الشراب، فذكر نحوه، وبه أن رجلا من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال للنعيمان: لعنك اللَّه، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تفعل، فإنه يحب اللَّه ورسوله.
وقد بينت في (فتح الباري) أن قائل ذلك عمير، لكنه قاله اللَّه الّذي كان يلقب حمارا فهو يقوى قول من زعم أنه ابن النعيمان، فيكون ذلك وقع للنعيمان وابنه، ومن يشابه أباه فما ظلم.
قال الزبير: وكان لا يدخل المدينة طرفه إلا اشترى منها، ثم جاء بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فيقول:
ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: أو لم تهده لي؟ فيقول: إنه واللَّه لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، وبأمر لصاحبه بثمنه.(10/67)
__________
[ () ] وأخرج الزبير قصة البعير بسياق آخر من طريق ربيعة بن عثمان، قال: دخل أعرابى على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وسلّم وسلم، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا، إلى اللحم. ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: وا عقراه يا محمد. فخرج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: من فعل هذا؟ فقالوا: النعيمان، فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وآله وسلّم حيث هو، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك عليّ يا رسول اللَّه، هم الذين أمرونى. قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك ثم غرمها للإعرابى.
وقال الزبير أيضا: حدثني عمى، عن جدي، قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول فصاح به الناس: المسجد! المسجد! فأخذ نعيمان بن عمرو بيده وتنحى به ثم أجلسه في ناحية أخرى، فقال له: بل هاهنا. قال: فصاح به الناس. فقال ويحكم: فمن أتى به إلى هذا الموضع؟ قالوا: النعيمان. قال: أما إن للَّه على إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت. فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء اللَّه، ثم أتاه يوما وعثمان قائم يصلى في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان؟ قال: عم. قال: فأخذ بيده حتى أوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت، فقال:
دونك هذا نعيمان، فجمع بيده بعصاه فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين.... فذكر بقية القصة.
وقال عبد الرازق: أنبأنا معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين- أن ناسا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نزلوا بماء، وكان النعيمان بن عمرو يقول لأهل الماء: يكون كذا وكذا، فيأتونه باللبن والطعام، فيرسله إلى أصحابه، فبلغ أبا بكر خبره، فقال: أرانى آكل من كهانة النعيمان منذ اليوم، فاستقاء ما في بطنه.
قلت: وقد استقاء أ [وبكر ما أكل من جهة كهانة عبد كان يخدمه، أخرجها البخاري، وهي غير هذه القصة، فإن فيها أنه قال: كنت تكهنت لهم في الجاهلية. له ترجمة (الإصابة) :
6/ 463- 466، ترجمة رقم (8794) ، (الاستيعاب) : 4/ 1503، ترجمة رقم (2621) .(10/68)
فصل في ذكر بناء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مسجده وبيوته
اعلم أن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة مسجدين بناهما، أحدهما مسجد قباء، والآخر مسجده، الّذي بنى حجر نسائه بجواره، وهو المعروف المشهور، الّذي تشد إليه الرحال، ومثابة الناس، عربهم وعجمهم، من أقطار الأرض في كل عام، حيث قبره المقدس صلى اللَّه عليه وسلّم وكانت في المدينة فيما ذكر البلاذري تسعه مساجد، وكانوا يصلون فيها ويجتمعون مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
أما مسجد قباء
فقال البلاذري: وكان من يقدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، بعد أبى سلمة بن عبد الأسد، ومن نزلوا عليه بقباء [ (1) ] ، بنوا مسجدا يصلون فيه،
__________
[ (1) ] قباء: بالضم: وأصله أسم بئر هناك، عرفت القرية بها، وهي مساكن بنى عمرو بن عوف من الأنصار وألفه واو يمد ويقصر ويصرف ولا يصرف، وقال عياض: وأنكر البكري فيه القصر قال أبو حنيفة، رحمه اللَّه في اشتقاق قبا: إنه مأخوذ من القبو وهو بالضم والجمع ولم يذكر أهو جمع أو مفرد، ولا يصح أن يكون على قوله جمعا لأن فعل لا يجمع على فعل يجمع فيما علمت.
وهي قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة بها أثر بنيان كثير وهناك مسجد التقوى عامر قدّامة رصيف وفضاء حسن وآبار ومياه عذبة وبها مسجد الضرار يتطوع العوامّ بهدمه، كذا قال البشاري، قال أحمد بن يحى بن جابر: كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ومن نزلوا عليه من الأنصار بنوا بقباء مسجدا يصلون فيه الصلاة سنة إلى البيت المقدس، فلما هاجر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وورد قباء صلى بهم فيه، وأهل قباء يقولون هو المسجد الّذي أسس عل التقوى من أول يوم، وقيل: إنه مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقد وسع مسجد قباء وكبر بعد، وكان عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، إذا دخله صلّى إلى الأسطوانة المحلقة، وكان ذلك مصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وأقام لما هاجر بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وركب يوم الجمعة يريد المدينة فجمّع في مسجد بنى سالم بن(10/69)
والصلاة يومئذ إلى بيت المقدس، فجعلوا قبلته إلى ناحية بيت المقدس، فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلى بهم فيه.
وقال [الوزير الفقيه أبى عبيد، عبد اللَّه بن عبد العزيز البكري الأندلسى [ (1) ]] في (معجم ما استعجم [من أسماء البلاد والمواضع] ) : من العرب من يذكره ويصرفه، ومنهم من يؤنثه ولا يصرفه.
وذكر ابن زبالة: أنها إنما سميت قباء ببئر كانت تسمى قباء، يتطيرون منها فسموها قباء.
وقال ابن إسحاق [ (2) ] فأقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بقباء في بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس.
وقيل: أقام اثنين وعشرين ليله حكاه يحى. وفي (صحيحه) : أقام فيهم أربعة عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق [ (3) ] : وأسس مسجده، ثم أخرجه اللَّه تعالى من بين أظهرهم يوم الجمعة، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك، فيقال: أقام ثلاثا وعشرين ليلة، ويقال: بضع عشرة ليلة.
وقال موسى بن عقبة: ومكث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بنى عمرو بن عوف ثلاث ليال. ويقول بعض الناس: بل مكث أكثر من ذلك، وأخذ فيهم مسجدا وأسسه، وهو الّذي ذكر في القرآن الكريم أنه أسس على التقوى [ (4) ] .
وقال أبو القاسم السهيليّ: وذكر ابن أبى خيثمة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أسسه كان هو أول من وضع حجرا في قبلته، ثم جاء أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بحجر فوضعه، ثم جاء عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بحجر
__________
[ () ] عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج فكانت أول جمعة جمعت في الإسلام، وقد جاء في فضائل مسجد قباء أحاديث كثيرة.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق والبيان، (معجم ما استعجم) : 3/ 1045.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 22.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 22.
[ (4) ] (المرجع السابق) .(10/70)
فوضعه إلى حجر أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم أخذ الناس في البنيان.
وعن الشموس بنت النعمان [ (1) ] قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين بنى مسجد قباء، أتى بالحجر قد صهره إلى بطنه فيضعه، فيأتى الرجل يريد أن يقله فلا يستطيع، حتى يأمره أن يدعه ويأخذ غيره صهره وأصهره إذا ألصقه بالشيء، ومنه اشتقاق الصهر في القرابة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هي الشموس بنت النعمان بن عامر بن مجمع الأنصارية، مدنية، روى عنها عبيد بن وديعة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين بنى مسجده كان جبرائيل يؤم الكعبة ويقيم له قبلة المسجد، ذكرها أبو عمر مختصرا. ووصله ابن أبى عاصم، والحديث المذكور من طريق يعقوب بن محمد [الزهري، عن عاصم بن سويد، عن عتبة، وأخرجه الزبير بن بكار في (أخبار المدينة) ، عن محمد بن الحسن] المخزومي، عن عاصم مطولا. وكذلك
أخرجه الحسن بن سفيان وابن مندة، من طريق سلمة، عن عاصم بن سويد، لكن خالف في شيخ عاصم، فقال: عن أبيه، عن الشموس بنت النعمان، قالت: كأنى انظر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قدم وأسس هذا المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الصخرة أو الحجر حتى بصهرة الحجر، وأنا انظر إلى بياض التراب على بطنه، فيأتى الرجل فيقول: يا رسول اللَّه، أعطنى أكفلة، فيقول: لا، خذ حجرا مثله.
حتى أسسه، ويقول: إن جبريل يؤم الكعبة.
فكان يقال: إنه أقوم مسجد قبلة وفي رواية محمد ابن الحسن بالسند المذكور إلى عتبة- أن الشموس بنت النعمان أخبرته، وكانت من المبايعات، فذكره، وفيه: فيأتى الرجل من قريش أو الأنصار. وفيه: فيقولون تراءى له جبريل حتى أم له القبلة، قال عتبة: فنحن نقول: ليس قبلة أعدل منها وقد استشكل ابن الأثير قوله في رواية شبابة يؤم الكعبة بعد ذلك، وخطر لي في جوابه أنه أطلق الكعبة وأراد القبلة أو الكعبة على الحقيقة، وإذا بين له جهتها كان إذا أسند برها استقبل بيت المقدس، وتكون النكتة فيه أنه سيحول إلى الكعبة، فلا يحتاج إلى تقويم آخر، فلما وقع لي سياق محمد بن الحسن رجح الاحتمال الأول. (الإصابة) : 7/ 731- 732. ترجمة رقم (11381) .
[ (2) ] (لسان العرب) : 4/ 472.(10/71)
قال: وهذا المسجد في الإسلام، وفي أهله نزلت: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [ (1) ] : فهو على هذا هو المسجد الّذي أسس على التقوى، وإن كان
قد روى أبو سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سئل عن المسجد الّذي أسس على التقوى فقال: مسجدي هذا. وفي رواية أخرى قال: وفي الآخر خير كثير.
وقد قال لبني عمرو بن عوف حين نزلت: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [ (2) ] : ما الطهور الّذي من اللَّه به عليكم؟ فذكروا له الاستنجاء بالماء بعد الاستجمار بالحجارة، فقال: هو ذاكم فعليكموه. وليس بين الحديثين تعارض، كلاهما أسس على التقوى، غير أنه قوله سبحانه: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [ (3) ] يقتضي مسجد قباء، لأن تأسيسه كان من أول يوم من حلول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دار هجرته، والبلد الّذي هو مهاجره. قلت: حديث أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. الّذي أشار إليه أبو القاسم السهيليّ خرجه مسلم [ (4) ] من طريق يحيى بن سعيد عن حميد الخراط قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بى عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدريّ، قال: فقلت:
كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الّذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفا من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لمسجد المدينة قال:
فقلت: اشهد أنى سمعت أباك هكذا ذكره.
وذكره من طريق حاتم بن إسماعيل، عن حميد، عن أبى سلمة عن أبى سعيد، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمثله. ولم يذكر عبد الرحمن بن أبى سعيد في الإسناد [ (5) ] ذكره في كتاب الحج.
__________
[ (1) ] التوبة: 108.
[ (2) ] التوبة: 108.
[ (3) ] التوبة: 108.
[ (4) ] مسلم بشرح النووي: 9/ 178، كتاب الحج، باب (96) بيان أن المسجد الّذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة، حديث رقم (514) .
[ (5) ] (المرجع السابق) . الحديث الّذي يلي رقم (514) ، بدون رقم.(10/72)
وخرجه الترمذي [ (1) ] من طريق قتيبة بن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس ابن أبى نجيح، عن أبيه، عن أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. قال الترمذي: من بنى حدده، ورجل من بنى عمرو بن عوف، في المسجد الّذي أسس على التقوى: فقال الخدريّ: هو مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في ذلك، فقال: هذا هو، يعنى مسجده وفي ذلك خير كثير
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي [ (2) ] من حديث قتيبة بن سعيد قال: انبأنا الليث عن عمران بن أبى أنس، عن ابن أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: تمارى رجلان في المسجد الّذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هو مسجدي هذا.
__________
[ () ] قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وقد سئل عن المسجد الّذي أسس على التقوى، فأخذ كفا من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم، هذا لمسجد المدينة
«هذا نص بأنه المسجد الّذي أسس على التقوى المذكور في القرآن، ورد لما يقول بعض المفسرين: أنه مسجد قباء. وأما أخذه الحصباء، وضربه في الأرض. فالمراد به المبالغة في الإيضاح، لبيان أنه مسجد المدينة. والحصباء بالمد: الحصى الصغار. (مسلم بشرح النووي) .
[ (1) ]
(سنن الترمذي) : 5/ 261- 262، كتاب تفسير القرآن، باب (10) من تفسير سورة التوبة. حديث رقم (3099) ، ولفظه: تمارى رجلان في المسجد الّذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هو مسجدي هذا.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث عمران بن أبى أنس، وقد روى هذا عن أبى سعيد من غير هذا الوجه، ورواه أنيس بن أبى يحيى، عن أبيه عن أبى سعيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] أخرجه النسائي في كتاب التفسير من (السنن الكبرى) .(10/73)
وخرجه الترمذي [ (1) ] من هذا الطريق وقال: حديث حسن صحيح غريب من حديث عمران بن أبى أنس. ذكره في التفسير.
وقال القاضي عياض: وروى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سئل أي مسجد هو قال:
مسجدي هذا. وهو قول ابن المسيب، وزيد بن ثابت وابن عمر، ومالك بن أنس، وغيرهم.
وعن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنه مسجد قباء.
وخرج الدارقطنيّ [ (2) ] من حديث عتبة بن أبى حكيم، عن طلحة بن نافع رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه حدثه قال: حدثني أبو أيوب، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في هذا، الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فقال: يا معشر الأنصار، إن اللَّه قد أثنى عليكم خيرا في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: يا رسول اللَّه، نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فهل مع ذلك غير؟ قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط، أحب أن يستنجى بالماء، قال: هو ذاك فعليكموه.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (سنن الدار قطنى) : 1/ 61- 62، كتاب الطهارة، باب في الاستنجاء، حديث رقم (1) ، قال في (التعليق المغنى على الدار قطنى) : قوله عتبة بن أبى حكيم ليس بقوى، أخرج ابن ماجة أيضا من طريقه، قال الزيلعى: سنده حسن، لكن فيه عتبة بن أبى عدي: أرجو أنه لا بأس به، وضعفه النسائي. وعن ابن معين فيه روايتان، وأخرجه الحاكم في (مستدركه) وصححه، ورواه البيهقي في (سننه) .
وأخرجه الترمذي من حديث محمد بن العلاء، أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبى ميمون عن أبى صلح، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية فيهم.
قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. قال: وفي الباب عن أبى أيوب وأنس ابن مالك، ومحمد بن عبد اللَّه بن سلام، ومن تفسير سورة التوبة، حديث رقم (3100) .(10/74)
وذكر السهيليّ: أن عمار بن ياسر هو الّذي أشار على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ببناء مسجد قباء، وهو الّذي جمع الحجارة له، فلما أسسه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [اعتنى] ببنائه عمار.
وكذلك ذكره ابن إسحاق، في رواية يونس بن بكير عنه.
وقال الحاكم [ (1) ] : قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أول من قدمها ضحى، فقال عمار ابن ياسر: ما لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يريد أن نجعل له مكانا إذا استيقظ من قائلتنا استظل فيه، فجمع عمار بن ياسر حجارة فبنى مسجد قباء، فهو أول ما بنى.
وقال عمر بن شبة عن الواقدي، عن أفلح بن سعيد عن ابن كعب القرظي قال: قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قباء وقد بنى أصحابه مسجدا يصلون فيه الى بيت المقدس، فلما قدم صلى بهم إليه، ولم يحدث في المسجد شيئا.
وعن مسلم بن حماد، عن ابن ونيس، قال: بنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مسجد قباء، وقدم القبلة إلى موضعها اليوم. وقال عمار الذهبي: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن ما بين الصومعة الى القبلة زاده عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقال حماد بن سلمة عن أبى جعفر الخطميّ، أن عبد اللَّه بن رواحة كان يقول وهم بينون مسجد قباء:
أفلح من يعالج المساجدا
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: المساجدا، فقال عبد اللَّه:
ويقرأ القرآن قائما وقاعدا
فقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلّم: قاعدا، فقال عبد اللَّه:
ولا يبيت عنه الليل راقدا
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: راقدا.
وقال عمر بن شبة أنبأنا عفان قال: أنبأنا حماد بن زيد، قال: انبأنا أيوب عن سعيد بن جبير، أن بنى عمرو بن عوف ابتنوا مسجدا، وأرسلوا إلى
__________
[ (1) ] (المستدرك) 3/ 434، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (5655) ، وقد حذفه الذهبي من (التلخيص) .(10/75)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. فدعوه ليصلي فيهم، ففعل، وأتاهم فصلى فيه، فحسدتهم اخوتهم بنو عوف فقالوا: لنبنى مسجدا، وندعو النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيصلي فيه كما يصلى في مسجد إخوتنا، ولعل أبا عامر يصلى فيه. وكان بالشام، فابتنوا مسجدا، وأرسلوا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليصلي فيه فقام ليأتيهم. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى القرآن:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ* أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ (1) ] حدثنا موسى بن إسماعيل قال: أنبأنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها لبة. كانت تربط حمارا لها فيه، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدا، فقال أهل مسجد الضرار: نحن نصلي في مربط حمار لبة؟ لا، لعمرو اللَّه، لكنا نبنى مسجد الضرار نحن نصلي فيه حتى يجيء أبو عامر فيؤمنا فيه، وكان أبو عامر فر من اللَّه ورسوله ولحق بمكة، ثم لحق بعد ذلك بالشام، فتنصر، فمات بها فأنزل اللَّه:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] التوبة: 107- 110، وفي (الأصل) : إلى قوله الْمُطَّهِّرِينَ.
[ (2) ] التوبة: 107- 110.(10/76)
وفي الصحيحين [ (1) ] عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يزور قباء راكبا وماشيا.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يأتي قباء كل سبت، ولم تزل الصحابة تزوره وتعظمه. ولما بنى عمر بن عبد العزيز المسجد النبوي، بنى مسجد قباء ووسعه، فذكر خبر ذلك هنا إن شاء اللَّه تعالى.
قال أبو غسان: طول مسجد قباء وعرضه سواء، وهو ست وستون ذراعا، وطول ذرعه في السماء تسعة عشر ذراعا، وطول رحبته التي في جوفه خمسون ذراعا، وعرضها سبعة أذرع وشبر في تسعة أذرع، وفيه ثلاثة أبواب، وثلاثة وثلاثون أسطوانة، ومواضع القناديل أربعة عشر قنديلا.
قال الحمامي: بين مسجد قباء ومسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميلان ونصف.
[و] وذكر ابن زبالة أن مسجد قباء على سبع أساطين، وكانت لها درجة فيه يؤذن فيها، يقال لها النعامة، حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد ذلك.
وإن سعد بن عبيد [ (2) ] بن قيس بن النعمان بن عمرو بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف، كان يصلى في مسجد قباء في عهد
__________
[ (1) ] رواه البخاري في التطوع، باب من أتى مسجد قباء كل سبت، وباب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا، وفي الاعتصام، باب ما ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم في الحج، باب فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه، حديث رقم (1399) .
وأخرجه الإمام مالك في (الموطأ) : 1/ 167، في الصلاة في السفر، باب العمل في جامع الصلاة، والنسائي 2/ 37 في المساجد، باب فضل مسجد قباء والصلاة فيه.
وأخرجه أبو داود في المناسك، باب في تحريم المدينة، حديث رقم (2040) .
[ (2) ] هو سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمنه بن زيد الأنصاري الأوسي.
ذكره موسى بن عقبة وغيره فيمن شهد بدرا. وقال ابن نمير في (تاريخه) : مات سعد ابن عبيد الفارس بالقادسية شهيدا سنة ست عشرة، وهو أبو زيد الّذي جمع القرآن.
وروى الزبير بن بكار في (أخبار المدينة) ، عن عتبة بن عويم بن ساعدة أن سعد بن(10/77)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وفي زمان أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حتى توفى زمان عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فأمر عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مجمع بن جارية [ (1) ] أن يصلى بهم بعد أن رده وقال له: كنت إمام مسجد الضرار، فقال: يا أمير المؤمنين، كنت غلاما حدثا، وكنت أرى أن أمرهم على أحسن ذلك، وقدمونى لما معى من القرآن، وكان قد جمع
__________
[ () ] عبيد- وساق نسبة- كان يؤم في مسجد قباء في زمن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وتوفى في زمنه، فأمر عمر فجمع ابن جارية أن يصلى بهم.
وروى البخاري في (تاريخه) من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال:
شهد سعد بن عبيد القادسية، فقام خطيبا، فقال: إنا مستشهدون غدا فلا تكفنونا إلا في ثيابنا التي أصبنا فيها ... الحديث.
وروى ابن جرير، من طريق قيس بن مسلم، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى، قال: قال عمر لسعد بن عبيد- وكان انهزم يوم أصيب أبو عبيد، وكان يسمى القارئ، ولم يكن أحد يسمى القارئ غيره- فذكر قصته.
قلت: اختلف في أبى زيد الّذي جمع القرآن في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقيل هذا اسمه: وقيل:
بل اسمه سعيد. وقيل غير ذلك. (الإصابة) : 3/ 68، ترجمة رقم (3178) .
[ (1) ] هو مجمع بن جارية بن عامر بن مجمع بن العطاف بن ضبيعة ابن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي.
له في ترجمة سعيد بن عبيد بن قيس ذكر، وأخرج له في السنن ثلاثة أحاديث صحح الترمذي بعضها.
وقال ابن إسحاق في (المغازي) : كان مجمع بن جارية بن العطاف حدثا قد جمع القرآن، وكان أبوه جارية ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان مجمع يصلى بهم فيه: ثم إنه أحرق فلما كان زمن عمرو بن الخطاب كلم في مجمع أن يؤم قومه، فقال: لا أو ليس بإمام المنافقين في مسجد الضرار، فقال: واللَّه الّذي لا إله إلا هو، ما عملت بشيء من أمرهم، فزعموا أن عمر أذن له أن يصلى بهم، ويقال: إن عمر بعثه إلى أهل الكوفة يعلمهم القرآن فتكلم ابن مسعود فعلمه القرآن. (الإصابة) : 5/ 776- 777 ترجمة رقم (7739) .(10/78)
القرآن في زمن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلا سورة أو سورتين، فأمره رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم فصلى بهم.
وأما مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فإنه وما يليه من جهة المشرق، دار بنى غنم بن مالك بن النجار، ويقال:
كان جدارا محددا بلا سقف، بناه أسعد، وكان يصلى فيه. وجمع الجمعة بأصحابه. وقيل: إن مصعب بن عمير كان يصلى فيه.
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] ، من حديث عبد الوارث، عن أبى التياح، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. قال: قدم رسول
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 689- 690 كتاب الصلاة، باب (48) هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها؟، حديث رقم (428) ، قوله، باب هل تنبش قبور الجاهلية، أي دون غيرهما من قبور الأنبياء وأتباعهم لما في ذلك من الإهانة لهم، بخلاف المشركين فإنّهم لا حرمة لهم.
وأما قوله: «لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلخ» فوجه التعليل أن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيما ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية وجرهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول من اتخذ أمكنة قبورهم مساجد بأن تنبش وترمى عظامهم، فهذا يختص الأنبياء ويلتحق بهم أتباعهم، وأما الكفرة فإنه لا حرج في نبش قبورهم، إذ لا حرج في إهانتهم. ولا يلزم من اتخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعرف بذلك أن لا تعارض بين فعله صلى اللَّه عليه وسلّم في نبش قبور المشركين واتخاذ مسجده مكانها وبين لعنه صلى اللَّه عليه وسلّم من اتخذ قبور الأنبياء مساجد لما تبين من الفرق، (المرجع السابق) : 4/ 100، كتاب فضائل المدينة، باب (9) حرم المدينة رقم (1868) ، (المرجع السابق) : 5/ 500، كتاب الوصايا، باب (27) إذ وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز، حديث رقم (2771) ، قوله، باب إذا وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز قال ابن المنير:
احتز عما إذا وقف الواحد المشاع فإن مالكا لا يجيزه لئلا يدخل الضرر على الشريك، وفي هذا نظر، لأن الّذي يظهر أن البخاري أراد الرد على من ينكر وقف المشاع مطلقا، وقد تقدم قبل أبواب أنه ترجم (إذا تصدق أو وقف بعض ماله فهو جائز) وهو وقف الواحد المشاع، وقد تقدم البحث فيه هناك. وأوراد المصنف في الباب حديث أنس في قصة بناء المسجد، وقد تقدم(10/79)
__________
[ () ] بهذا الإسناد مطولا في أبواب المساجد من أوائل كتاب الصلاة، والغرض منه هنا ما اقتصر عليه من قولهم لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه عز وجل فإن ظاهره أنهم تصدقوا بالأرض للَّه عز وجل، فقبل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك، ففيه دليل لما ترجم له، وأما ما ذكره الواقدي أن أبا بكر دفع ثمن الأرض لمالكها منهم وقدره عشرة دنانير فإن ثبت ذلك كانت الحجة للترجمة من جهة تقرير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على ذلك ولم ينكر قولهم ذلك، فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم وبين لهم الحكم، واستدل بهذه القصة على أن الحكم المسجد يثبت للبناء إذا وقع بصورة المسجد ولو لم يصرح الباني بذلك، ومن بعض المالكية إن أذن فيه ثبت له حكم المسجد، ومن الحنفية إن أذن للجماعة بالصلاة فيه ثبت والمسألة مشهورة، ولا يثبت عند الجمهور إلا إن صرح الباني بالوقفية أو ذكر صيغة محتملة ونوى معها. وجزم بعض الشافعية بمثل ما نقل عن الحنفية لكن في الموات خاصة، والحق أنه ليس في حديث الباب ما يدل لإثبات ذلك ولا نفيه واللَّه أعلم.
قوله «لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه» أي لا نطلب ثمنه من أحد لكن هو مصروف إلى اللَّه، فالاستثناء على هذا التقدير منقطع، أو التقدير لا نطلب ثمنه إلا مصروفا إلى اللَّه، فهو متصل (المرجع السابق) : 7/ 337- 338، كتاب مناقب الأنصار، باب (46) مقدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه المدينة حديث رقم (3932) قوله: (بحائطكم) أي بستانكم وقد تقدم في الباب قبله أنه كان مربدا، فعله كان أولا حائطا ثم خرب فصار مربدا، ويؤيده قوله: «إنه كان فيه نخل وخرب» وقيل: كان بعضه بستانا وبعضه مربدا، وقد تقدم في الباب الّذي قبله تسمية صاحبي المكان المذكور ووقع عند موسى بن عقبة عن الزهري أنه اشتراه منهما بعشرة دنانير، وزاد الواقدي أن أبا بكر دفعها لهما عنه، قوله «خرب» بكسر المعجمة وفتح الراء والموحدة، وتقدم توجيه آخر في أوائل الصلاة بفتح أوله وكسر ثانيه، قال الخطابي: أكثر الرواة بالفتح ثم الكسر، حدثناه الخيام بالكسر ثم الفتح، ثم حكى احتمالات: منها الخرب بضم أوله وسكون ثانيه قال: هي الخروق المستديرة في الأرض، والجرف بكسر الجيم وفتح الراء بعدها فاء ما تجرفه السيول تأكله من الأرض، والحدب بالمهملة وبالدال المهملة أيضا المرتفع من الأرض، قال وهذا لائق بقوله: «فسويت» لأنه إنما يسوى المكان المحدوب، وكذا الّذي جرفته السيول، وأما الخراب فيبني ويعمر دون أن يصلح ويسوى. قلت: وما المانع من تسوية الخراب بأنه ما يزال ما بقي منه ويسوى أرضه، ولا ينبغي الا لنفاث إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة.(10/80)
__________
[ () ] قوله. فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بقبور المشركين فنبشت، قال ابن بطال: لم أجد في نبش قبور المشركين لتتخذ مسجدا نصا عن أحد من العلماء نعم اختلفوا هل تنبش بطلب المال؟
فأجازه الجمهور ومنعه الأوزاعي وهذا الحديث حجة للجواز، لأن المشرك لا حرمة له حيا ولا ميتا، وقد تقدم في المساجد البحث فيما يتعلق بها.
قوله: «وبالنخل فقطع» هو محمول على أنه لم يكن يثمر لكن دعت الحاجة إليه لذلك.
قوله: «فصفوا النخل» أي موضع النخل وقوله: «عضادتيه» بكسر المهملة وتخفيف المعجمة تثنية عضادة، وهي الخشبة التي على كتف الباب، ولكل باب عضادتان، وأعضاء كل شيء ما يشد حوانيه.
قوله: «يرتجزون» أي يقولون رجزا، وهو ضرب من الشعر على الصحيح.
وقوله: «فانصر الأنصار والمهاجرة» كذا رواه أبو داود بهذا اللفظ، وسبق ما فيه في أبواب المساجد، واحتج من أجاز بيع المالك بهذه القصة لأن المساومة وقعت مع غير الغلامين وأجيب باحتمال أنهما كان من بنى النجار فساومهما وأشرك معهما في المساومة عمها الّذي كانا في حجرة كما تقدم في الحديث الثاني عشر (فتح الباري) .
[ (2) ] مسلم بشرح النووي: 5/ 10، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب (1) اقتناء مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (524) ، وفي هذا الحديث جواز الارتجاز وقول الأشعار، في حال الأعمال الثقال ونحوها لتثبيت النفوس وتسهيل الأعمال والمشي عليهما (شرح النووي) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 1/ 302، كتاب الصلاة، باب (12) في بناء المسجد، حديث رقم (453) ، وقال الخطابي في (معالم السنن) : فيه من الفقه أن المقابر إذا نبشت ونقل ترابها ولم يبق هناك نجاسة تخالط أرضها فإن الصلاة فيها جائزة، وإنما نهى صلى اللَّه عليه وسلّم عن الصلاة في المقبرة إذا كان قد خالط ترابها صديد الموتى ودمائهم فإذا نقلت عنها، زال ذلك الاسم وعاد حكم الأرض إلى الطهارة.
وفيه من العلم أنه أباح نبش قبور الكفار عند الحاجة إليه. وقد روى عنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه أمر أصحابه بنبش قبر أبى رغال في طريقه إلى الطائف، وذكر لهم أنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه فأخرجوه. وفي أمره بنبش قبور المشركين بعد ما جعل أربابها تلك البقعة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، دليل على أن الأرض التي يدفن فيها الميت باقية على ملك أوليائه. وكذلك ثيابه التي يكفن فيها، وان النباش سارق من حرز في ملك ولو كان موضع القبر وكفن الميت مبقّى على(10/81)
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشر ليلة، ثم أرسل إلى بنى النجار، فجاءوا متقلدين سيوفهم.
قال أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: وكأنى انظر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على راحلته، وأبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ردفه. وملأ بنى النجار حوله، حتى ألقى بفناء بنى أيوب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وذكر ابن إسحاق في (التهذيب) أن [أبا] أيوب كان يتبع بناء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وتبع هذا اسمه بناء.
حدثنا سعد قال: قال أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يصلى حيث أدركته الصلاة، ويصلى في مرابض الغنم ثم أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى بنى النجار، فجاءوا، فقال: يا بنى النجار، ثامنونى بحائطكم هذا، قالوا: لا واللَّه، لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه.
وظاهر هذا أنهم لم يأخذوا ثمنه.
وفي (طبقات ابن سعد) ، عن الواقدي: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير ذهبا، دفعها أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. ونقل ابن عقبة أن أسعد مات قبل أن يبنى المسجد، فابتاعه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من وليهما.
وعن أبى معشر: اشتراه أبو أيوب منهما، فأعطاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فبناه مسجدا.
قال أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: كان فيه ما أقول لكم: كان فيه نخل، وقبور المشركين، خرب، فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالنخل فقطع وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت [قد صنعوا] النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادته حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون. ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم معهم ويقولون:
__________
[ () ] ملك الميت حتى ينقطع ملك الحىّ عنه من جميع الوجوه لم يكن يجوز بنبشها واستباحتها بغير إذن مالكها.
وفيه دليل على أن من لا حرمه لدمه في حياته فلا حرمة لعظامه بعد مماتة،
وقد قال صلى اللَّه عليه وسلّم: كسر عظام المسلم ميتا ككسره حيا
فكان دلالته أن عظام الكفار بخلافه (خطابي) .(10/82)
اللَّهمّ لا خير إلا خير الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
ذكره البخاري في باب نبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، وذكره في كتاب الهجرة بهذا السند، إلا أنه قال: فانصر الأنصار والمهاجرة. وذكره في آخر كتاب الحج، في باب حرم المدينة، وفي باب بنيان المسجد [ (1) ] .
وقال أبو سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: كان سقف المسجد من جريد النخل، وأمر عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ببناء مسجد فقال: اكفوا الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
وأورد حديث صالح بن كيسان: أنبأنا نافع أن عبد اللَّه أخبره أن المسجد كان على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مبينا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده عسب النخل.
قال موسى بن عقبة: والمسجد يومئذ سقفه من جريد النخل، وخوص لبن على السقف، كثير الطين، إذا كان المطر يملأ المسجد طينا، وإنما هو كهيئة العريش، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم عمره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. وأخرجه أبو داود.
وخرج أبو داود [ (2) ] أيضا من حديث عمر بن سليم الباهلي، عن أبى الوليد، قال: سألت ابن عمر عن الحصا الّذي في المسجد فقال: مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يجيء بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الصلاة قال: أحسن هذا.
وخرجه قاسم بن أصبغ بهذا السند، ولفظه: حدثني أبو الوليد، قال: قلت لابن عمر: بدؤ هذا الحصا في المسجد؟ قال: نعم، مطرنا من الليل،
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 315- 316 كتاب الصلاة باب (15) في حصى المسجد، حديث رقم (458) .(10/83)
فخرجت لصلاة الغداة، وكان الرجل يمر على البطحاء فيجعل في ثوبه من الحصباء، فيصلي عليه، فلما رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك قال: ما أحسن هذا البساط!
وكان ذلك بدؤه.
قلت: عمر بن سليم الباهلي، البصري، يروى عن الحسن، وأبى غالب صاحب أبى أمامة، وقتادة، وغيرهم. ويروى عنه: زيد بن الخطاب، وكثير بن هشام، ومسلم بن إبراهيم، وسهل بن عامر، وآخرون. خرج له أبو داود، وابن ماجة، وقال ابن أبى حاتم: صدوق، وأبو الوليد هذا مجهول.
قال أبو حاتم: هو مولى عبد اللَّه بن رواحة [ (1) ] .
ويقال: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمر يخضب المسجد، فمات قبل ذلك، فخضبه عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وزاد فيه، دار العباس، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقال ابن إسحاق [ (2) ] : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال من قومي، من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قالوا: سمعنا بمخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من مكة، وتوكفنا [ (3) ] قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرّتنا، ننتظر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فو اللَّه ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة.
حتى إذا كان اليوم الّذي قدم فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم علينا، فصرح بأعلى صوته: يا بنى قيلة! هذا جدكم قد جاء!.
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 7/ 402، ترجمة رقم (762) ، (الثقات) : 7/ 176.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 19- 20 قدومه صلى اللَّه عليه وسلّم قباء.
[ (3) ] توكفنا: انتظرنا، هامش (المرجع السابق) .(10/84)
قال: فخرجنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في مثل سنه، وأكثر [الناس] لم يكن رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قبل ذلك..
وركبه الناس ولا يعرفونه من أبى بكر حتى زال الظل عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقام أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: فنزل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيما يذكرون على كلثوم بن هدم، أخى بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.
ويقول من تذكر: انه نزل على كلثوم بن هدم، وإنما كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا خرج من منزل كلثوم بن هدم، جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة.
قال ابن إسحاق [ (2) ] : فأقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بقباء في بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس. وأسس مسجده، ثم أخرجه اللَّه تعالى من بين أظهرهم يوم الجمعة، فأدركت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الجمعة في بنى سالم بن عوف، فصلاها، فكانت أول جمعة بالمدينة صلاها بالمدينة.
فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة، في رجال من بنى سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول اللَّه! أقسم عندنا في العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنّها مأمورة لنا فيه، فخلوا سبيلها.
فذكره إلى أن قال: فانطلقت حتى جاءت دار بنى مالك بن النجار، وبركت على باب مسجده صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بنى النجار، ثم من بنى مالك، في حجر معاذ بن عفراء سهل وسهيل ابني عمرو.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 3/ 20.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 21- 22.(10/85)
فلما بركت [ (1) ] ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عليها لم ينزل وثبت، فسارت غير بعيد ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت إلى خلفها، فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت وزمت، وألقت بجرانها فنزل نها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه رحله فوضعه في بيته، فنزل عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
وسأل عن المربد، لمن هو؟ فقال له معاذ ابن عفراء: هو يا رسول اللَّه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا، فأمر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يبنى [ (3) ] .
ونزل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليرغب المسلمين في العمل فيه، فيعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه. فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وارتجز المسلمون وهم بينونة، يقولون:
لا عيش إلا عيش الآخرة ... اللَّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة
فدخل عمار بن ياسر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وقد أثقلوه باللبن، فقال: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم! قتلوني، يحملون عليّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: فرأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينفض وفرته بيده، وكان رجلا جعدا وهو يقول: ويح ابن سمية! ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية [ (4) ] .
وارتجز عليّ بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يومئذ:
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 3/ 23- 24.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 23-، مبرك الناقة.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 3/ 24، بناء مسجد المدينة.
[ (4) ] قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز،
وقال ابن إسحاق: فيقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا عيش إلا عيش الآخرة، اللَّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة، (المرجع السابق) 3/ 25.(10/86)
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها [ (1) ] قائما وقاعدا
ومن بريء عن العباد مكائدا [ (2) ]
فأخذهما عمار وجعل يرتجزهما.
قال ابن إسحاق: وأقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بيت أبى أيوب حتى بنى له مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبى أيوب [ (3) ] .
قال فأقام بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه.
وقال موسى بن عقبة: عن ابن شهاب: وكان المسجد مربدا للتمر لغلامين يتيمين من بنى النجار، في حجر أسعد بن زرارة لسهل وسهيل ابني عمرو. وزعموا أنه كان رجال من المسلمين يصلون في ذلك المربد، قبل قدوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ويقال: بل اشتراه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم منهما، فابتناه مسجدا، فطفق هو وأصحابه ينقلون اللبن ويقولون- وهو ينقل اللبن مع أصحابه-:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربّنا وأطهر
ويقول:
اللَّهمّ لا خير إلا خير الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
وقال البلاذري: وكان مربدا ليتيمين في حجر أسعد بن زرارة [ (4) ] وفيه جدار كان أسعد بناه تجاه بيت المقدس، وكان يصلى إليه بمن أسلم قبل قدوم مصعب بن عمير، ثم صلى بهم إليه مصعب.
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) ، وفي (ابن هشام) : «فيه» .
[ (2) ] هذه الشطرة من (الأصل) فقط.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 26- 27.
[ (4) ] هو أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك من النجار، أبو أمامة الأنصاري الخزرجي. قديم الإسلام، شهد العقبتين، وكان نقيبا على قبيلته، ولم يكن في النقباء أصغر سنا منه. ويقال: انه أول من بايع ليلة العقبة.
وقال الواقدي- عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حبيب، عن عبد الرحمن، قال:
خرج أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد القيس إلى مكة يتنافران إلى عقبة بن ربيعة، فسمعا(10/87)
ويقال: إن أسعد صلى بهم قبل قدوم مصعب وبعده، إلى قدوم المهاجرين والأنصار، لأن مصعب لم يزد على تعليمهم القرآن.
وذكر محمد بن سعد عن الواقدي، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير ذهبا، دفعها أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وروى أبو بكر بن أبى الدنيا، من حديث الحسين بن حماد، والصبى، قال: أنبأنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المسجد، وأعانه عليه أصحابه، وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ابنوا عريشا كعريش موسى، فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعنى السقف.
وقال ملازم بن عمرو [ (1) ] : أنبأنا عبد اللَّه بن زيد، عن قيس بن طلق.
عن أبيه طلق بن على قال: بنيت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مسجد المدينة، فكان يقول: الثمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له بناء.
__________
[ () ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأتياه، فعرض عليهما الإسلام، وتلى عليهما القرآن، فأسلما ولم يقربا عتبة، ورجعا إلى المدينة، فكانا أول من قدم بالإسلام المدينة.
وأما ابن إسحاق فقال: إن أسعد إنما أسلم في العقبة الأولى مع النفر والستة فاللَّه أعلم.
وقال ابن إسحاق: شهد العقبة الأولى والثانية والثالثة، وروى أبو داود والحاكم من طريق عبد الرحمن بن مالك، قال: كنت قائد أبى حين كف بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأسعد بن زرارة الحديث. وفيه: كان أسعد أول من جمع بنا بالمدينة قبل مقدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وسم في حرة بنى بياضة في نقيع الخضمات. وذكر الواقدي أنه مات على رأس تسعة أشهر من الهجرة،
ورواه الحاكم في (المستدرك) من طريق الواقدي عن ابن أبى الرجال، فيه: فجاء بنو النجار فقالوا: يا رسول اللَّه: مات نقيبا فنقب علينا، فقال: أنا نقيبكم.
وقد اتفق أهل المغازي والتواريخ على أنه مات في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قبل بدر.
[ (1) ] هو ملازم بن عمرو بن عبد اللَّه بن بدر السحيمى أبو عمرو اليمامي يلقب بلزيم.
روى عن عبد اللَّه بن بدر وعبد اللَّه بن النعمان وموسى بن نجده وهوذة بن قيس بن طلق وسراج بن عقبة وعجيبة بن الحميد ومحمد بن جابر وزفر بن أبى كثير الحنفيين. وعنه عمر بن يونس وسليمان بن حرب وعلى بن المديني ومسدد ومحمد بن عيسى بن الطباع وعارم وأبو(10/88)
وقد ذكر أبو عبد اللَّه محمد بن الحسين بن أبى إسحاق بن زبالة، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بنى مسجده مرتين: بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح اللَّه تعالى عليه خيبر، بناه وزاد عليه مثله في الدور، وضرب الحجرات، ما بينه وبين القبلة والمشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربية.
وقد ذكر غير واحد أن المسجد النبوي بنى باللبن، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له باب الرحمة، وباب يدخل منه عليه السلام، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائتي ذراع.
وقال السهيليّ: وبنى مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وسقف بالجريد، وجعلت قبلته من اللبن إلى بيت المقدس، ويقال: بل من حجارة منضودة بعضها على بعض، وجعلت عمده من جريد النخل، فتخرب في خلافة عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فجدده، فلما كانت [خلافة] عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بناه بالحجارة المنقوشة بالقصة، وسقفه بالساج، وجعل قبلته من الحجارة إلى بيت المقدس، فلما كانت أيام بنى العباس، بناه محمد بن أبى جعفر المهدي، وزاد فيه، وذلك في سنة ستين ومائة، ثم زاد فيه المأمون بن الرشيد في سنة ثنتين ومائتين، وأتقن بنيانه.
***
__________
[ () ] بكر بن أبى شيبة وعمرو بن على وهناد بن السري وأبو الأشعث العجليّ وآخرون. قال أبو طالب عن أحمد: من الثقات. وقال صالح بن أحمد عن أبيه حاله مقارب، وقال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: كان يحيى بن سعيد يختاره على عكرمة بن عمار ويقول هو أتيت حديثا منه.
قال عبد اللَّه: قال أبى: ملازم ثقة.
وقال عثمان الدارميّ عن أبى معين: ثقة وكذا قال أبو زرعة والنسائي وقال أبو حاتم صدوق لا بأس به وقال أبو داود: ليس به بأس وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال عمرو بن على كان فصيحا. قلت: وقال أبو بكر الضبعي شيخ الحاكم: فيه نظر وقال الدارقطنيّ:
يمامى ثقة يخرج حديثه. (تهذيب التهذيب) : 10/ 343- 344، ترجمة رقم (689) .(10/89)
بسم اللَّه الرحمن الرحيم وصلى اللَّه على سيدنا محمد وسلّم وصحبه وسلم [ (1) ]
فصل في ذكر من بنى لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مسجده
خرج الإمام أحمد من طريق ملازم بن عمر، حدثنا سراج عن عقبة وعبد اللَّه بن بدير، أن قيس بن طلق حدثهم أن أباه طلق بن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: بنيت المسجد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكان يقول: قرب اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسا وأشدكم منكبا [ (2) ] .
وخرجه الطبراني في (الكبير) من حديث مسدّد، حدثنا ملازم، حدثنا عبد اللَّه بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: بنيت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المسجد.
وله عنده طرق آخر.
وخرجه الإمام أحمد من حديث أيوب عن قيس، عن أبيه قال: جئت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يبنون، قال: فكان لم يعجبه عملهم، قال: فأخذت
__________
[ (1) ] كذا في الأصل، فأثبتناها كما هي.
[ (2) ]
قال الكتاني في (التراتيب الإدارية) : ترجم في (الإصابة) لطلق بن على التميمي، فقال:
حدثني في السنن أنه بنى معهم في المسجد فقال صلى اللَّه عليه وسلّم قربوا له الطين فإنه اعرف به
وكذا ترجمه ابن سعد في (الطبقات) وهذا سياقه عن طلق قال قدمت على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يبنى مسجده والمسلمون يعملون فيه وكنت صاحب علاج وخلط طين فأخذت المسحاة أخلط الطين ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينظر إلى ويقول: إن هذا الحنفي لصاحب طين
وحديثه الّذي عزاه الخزاعي لابن فتحون خرجه ابن حبان في صحيحه عن طلق بن على الحنفي قال بنيت المسجد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخذت المسحاة بمخلطة الطين فكأنه أعجبه فقال دعوا الحنفي والطين فإنه أضبطكم للطين.
وفي البيان والتحصيل لابن رشد عن مالك ان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وقف على قبر فكأنه رأى باللبنة خلطا فأمر بأن يصلح وقال إن اللَّه يحب إذا عمل العبد عملا ان يحسنه ويتقنه. (التراتيب الإدارية) 2/ 83، (الإصابة) : 3/ 538، ترجمة رقم (4287) .(10/90)
المسحاة فخلطت بها الطين، قال: فكأنه أعجبه أخذى المسحاة وعملي، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين.
وقال البزار: حدثنا أحمد بن داود، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أبو مالك النخعي، عن سفيان بن أبى حبيبة، عن أبى أوفى، قال: لما توفيت امرأته جعل يقول: احملوا وارغبوا في حملها، فإنّها كانت تحمل ومواليها بالليل حجارة المسجد الّذي أسس على التقوى وكنا نحمل بالليل حجرين.
وطلق بن على بن طلق [ (1) ] بن عمرو، ويقال: طلق بن على بن قيس ابن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن عبد العزيز بن سخيم بن مرة بن الدؤل بن حنيفة، السحمىّ، الحنفىّ، اليمامي، أبو على. ويقال: طلق بن يمامة، وهو والد قيس بن طلق اليمامي، وقد ابتنى في المسجد، وروى أحاديثا، فحدث عنه ابنه قيس، وبنته خلدة، وعبد اللَّه بن بدر، وعدة من أهل اليمامة.
وأما بيوته صلى اللَّه عليه وسلّم
فإنّها كانت تسعة بعضها من جريد مطين بالطين وعليها جريد وبعضها من حجارة مرصوفة بعضها على بعض مسقفة بالجريد أيضا.
وخرج البخاري في (الأدب المفرد) من طريق حداث بن السائب قال:
سمعت الحسن يقول: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في خلافة عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأتناول سقفها بيدي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هو طلق بن على بن المنذر بن قيس بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو الحنفي السحيمى أبو على اليمامي.
وفد على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وعمل معه في بناء المسجد وروى عنه. وعنه ابنه قيس وابنته خالدة وعبد اللَّه بن بدر وعبد الرحمن بن على بن شيبان. قلت: ذكره ابن السكن وقال: يقال: له طلق بن ثمامة. (تهذيب التهذيب) 5/ 29 ترجمة رقم (51) .
[ (2) ] قال في (التراتيب الادارية) : ثم بنى صلى اللَّه عليه وسلّم مساكنه الى جنب المسجد باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد وكان محيطها مبنيا باللبن وقواطعها الداخلية من الجريد المكسو بالطين والمسوح(10/91)
وخرج من طريق عبد اللَّه، قال: أنبأنا داود بن قيس قال: رأيت الحضورات من جريد النخل يغشى من خارج نطوح الشعر وأظن عرض البيت من باب حضوره، قال: رأيت البيت نحوا من ست أذرع أو سبع أذرع وأحجز البيت الداخل عشرة أذرع وأظن سمكة بين الثماني والتسع، ووقفت عند باب عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها فإذا هو مستقبل المغرب.
ومن طريق إبراهيم بن المنذر، أنبأنا محمد بن أبى فديك رأى حجر أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من جريد مستورة بمسوح الشعر، فسألته عن بيت عائشة
__________
[ () ] الصوفية وجعل لها أبواب منافذ منفذة الهواء داعية الى السهولة في الدخول والخروج وخفة الحركة مع وفر الزمن والسرعة إلى المقصد وكان منزل السيدة عائشة صفة إلى منزل السيدة فاطمة وكان به فتحة الى القبلة، يؤيد ذلك قول بن زبالة كان بين بيت حفصة ومنزل عائشة طريق وكانتا تتهاديان الكلام وهما في منزلهما من قرب ما بينهما وكان بيت حفصة على يمين خوخة آل عمر في جنوب بيت عائشة إلى الشرق وكان من دونهما منازل بقية الأزواج الطاهرات وكان بمنزل فاطمة شباك يطل على منزل أبيها وكان صلى اللَّه عليه وسلّم يستطلع أمرها منه.
قال السهيليّ في (الروض) : إن بيوت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كانت تسعة بعضها من جريد مطين بالطين وسقفها جريد وبعضها من حجارة موضوعة بعضها على بعض مسقفة بالجريد أيضا وكان لكل بيت حجرة وهي أكسية من شعر مربوطة بخشب العرعر.
أقول: إذا علمت أنها تسعة وأن كل بيت لا بد له من محل لقضاء الحاجة ومحل لمئونة السنة والطبخ ومحل للقاء الناس ومحل لمبيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مع زوجته الطاهرة وإن زدتها محل خزائن السلاح وأدوات النقل ومحل الدواب والخيل والنعم والحمير وغير ذلك من المتملكات النبويّة وممتلكات بيت المال مع دار الضيوف والسجن ومحل المرضى ومحل أهل الصفة وغير ذلك من الضروريات ظهر لك عظيم تلك المباني وسعة تلك المرافق وهذه الضروريات التي الاتساع في البناء ضروري لها يجهلها أكثر الناس اليوم ويظنون أن مساكن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كانت في نهاية الضيق والقلة ولعمري إذا أمكنه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك في المبادي فكيف لا يتسع أكثر من ذلك في آخر امره ولو عاش في المدينة بعد الهجرة أكثر من عشر سنوات وكان يشتغل فيها بغير الحروب وتوجيه البعوث وإرسال السرايا الى الجهات انظر ماذا كان يصنع (الإصابة) : 3/ 404 ترجمة رقم (4035) ، (التراتيب الإدارية) .(10/92)
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها فقال: كان بابه مواجه الشام، فقلت: مصراع كان أو مصرعين؟ قال: كان بابا واحدا، قلت من أي شيء؟ قال من عرر.
ومن طريق مالك بن إسماعيل حدثنا المطلب بن زياد، حدثنا أبو بكر بن عبد اللَّه الأصبهاني، محمد بن مالك بن المنتصر بن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن أبواب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كانت تقرع، الاطاشى أي لا خلف لها ولما توفى أزواجه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهن، خلط البيوت والحجر بالمسجد وذلك في زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فلما ورد كتابه بذلك فج أهل المدينة بالبكاء كيوم وفاته صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر الواقدي. قال: سألت مالك ابن أبى الرجال أين كانت منازل أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ فأخبرني عن أبيه عن أمه أنها كانت كلها في الشق الأيسر إذا قمت إلى الصلاة إلى وجه الإمام في وجهه المنبر.
ولما توفيت زينب بنت خزيمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أدخلت أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها بينها في بيتها.
قال الواقدي: كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أحدث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أهلا، تحول له حارثة عن منزله، حتى صارت منازله كلها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأزواجه.
قال ابن سعد [ (1) ] : وأوصت سودة ببيتها لعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وباع أولياء صفية بنت حيي بيتها من معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، بمائة ألف وثمانين ألفا، وقيل: بمائتي ألف، وشرط لها سكناه حياتها، وحمل إليها المال، فما قامت من محلها، يعنى قسمته.
وقيل: بل اشتراه ابن الزبير من عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما بعث إليها خمسة أحمال تحمل المال، وشرط لها سكناها حياتها، ففرقت المال،
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 8/ 67 وما بعدها.(10/93)
فقيل لها: لو خبأت منه درهما [تشترى به لحما [ (1) ]] ؟ قالت: لو ذكرتموني لفعلت.
وتركت حفصة بيتها، فورثه ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فلم تأخذ له ثمنا. فأدخل في المسجد.
قال ابن سعد [ (2) ] : فقال عبد اللَّه بن زيد الهذلي: رأيت منازل أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، في خلافة الوليد بن عبد الملك، وزادها في المسجد، كانت بيوتا من لبن ولها حجز من جريد، عددت تسعة أبيات. بحجزها، ورأيت بيت أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها وحجرتها من لبن، فقال ابن ابنتها: لما غزا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دومة الجندل، بنت أم سلمة حجرتها بلبن، فلما قدم قال: ما هذا البنيان؟ فقالت:
أردت أن أكف أبصار الناس، فقال: إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان.
وقال عطاء الخراساني [ (3) ] أدركت حجر أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من جريد النخل، على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد يقرأ، يأمر بإدخال
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق والبيان من (سير أعلام النبلاء) ، وفيه: عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر، عن أم ذرة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين، يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست، قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشترى لنا لحما بدرهم؟ قالت: لا تعنفينى، لو ذكرتيني لفعلت. (سير أعلام النبلاء) : 2/ 187، (طبقات ابن سعد) : 8/ 67، (حلية الأولياء) : 2/ 47، ورجاله ثقات.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 8/ 67 وما بعدها.
[ (3) ] هو عطاء بن أبى مسلم الخراساني أبو أيوب، ويقال: أبو عثمان، ويقال أبو محمد، ويقال:
أبو صالح البلخي، نزيل الشام، مولى المهلب بن أبى صفرة الأزدي.
اسم أبيه عبد اللَّه ويقال ميسرة. روى عن الصحابة مرسلا كابن عباس، وعدي بن عدي الكندي، والمغيرة بن شعبة، وأبى هريرة، وأبى الدرداء، وأنس وكعب بن عجرة، ومعاذ ابن جبل، وغيرهم، وعن سعيد بن المسيب، عبد اللَّه بن بريدة، ويحيى بن يعمر،(10/94)
حجر أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مسجد رسول اللَّه، فما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم، فسمعت سعيد بن المسيب، يومئذ يقول: واللَّه لوددت أنهم تركوها على حالها، يبيت ناس من أهل المدينة، ويقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته، فيكون ذلك مما يزهّد الناس في التكاثر والمفاخرة.
فصل في ذكر منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم ان المنبر النبوي عمل من طرفاء الغابة في سنة ثمان من الهجرة، وقيل في سنة سبع، وأن امرأة أنصارية من بنى ساعدة، أمرت غلامها حسنا ويقال إبراهيم، فصنعه، وقيل: بل هي امرأة من الأنصار، وقيل: بل صنعه
__________
[ () ] وأبى الغوث القرعى، وعمرو بن شعيب، ونافع مولى ابن عمر، وحمران مولى العبلات، وعطاء بن أبى رباح وخلق.
وعنه عثمان ابنه، وشعيبة إبراهيم بن طهمان، وعبد الرحمن بن إسحاق بن أسيد الخراساني، وداود بن أبى هند، ومعمر، وابن جريح، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد، وجابر، والضحاك بن عبد الرحمن بن أبى حوشب، وشعيب بن زريق، وعمر بن المثنى، والقاسم بن أبى بزة بن عاصم الكلبي، ومالك بن أنس، وهشام بن سعد المدني، وآخرون.
قال ابن معين: ثقة وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: ثقة صدوق. قلت: يحنج به؟ قال:
نعم وقال النسائي ليس به بأس، وقال الدارقطنيّ ثقة في نفسه إلا أنه لم يلق ابن عباس وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس ولم يره. وقال حجاج بن محمد عن شعيبة ثنا عطاء الخراساني وكان نسيا وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر كان يحيى الليل وعن عطاء قال أوثق أعمالى في نفس نشر العلم قال ابنه عثمان بن عطاء مات سنة خمس وثلاثين ومائه وقال أبو نعيم الحافظ كان مولده سنة (50) . (تهذيب التهذيب) : 7/ 190، ترجمة رقم (395) .(10/95)
غلام العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه واسمه صباح [ (1) ] ويقال: كلاب [ (2) ] .
وفي رواية: فأرسله إلى أثلة في الغابة، فقطعها، ثم عملها درجتين ومجلسا، ثم جاء بالمنبر فوضعه موضعه.
وقيل كان المنبر من أثلة قريب المسجد، وقيل: إنما عمله تميم الداريّ [ (3) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقيل: عمله غلام سعيد بن العاص، واسمه ناقول [ (4) ] وقيل: عمله غلام لرجل من بنى مخزوم، ويقال: إنما عمله يا قوم باني الكعبة لقريش [ (5) ] .
__________
[ (1) ] هو صباح، مولى العباس بن عبد المطلب، روى عمر بن شبة، من طريق صالح بن ابى الأخضر، عن عمر بن عبد العزيز، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم استعمل صباحا مولى العباس بن عبد المطلب، فأعطاه عمالته.
وقرأت في المبهمات لابن بشكوال قال: قرأت بخط ابن حبان قال: ذكر عبد اللَّه بن حسين الأندلسى في كتابه في الرجال عن عمر بن عبد العزيز أن المنبر عمله صباح مولى العباس (الإصابة) : 3/ 404- 405، ترجمة رقم (4035) .
[ (2) ] هو كلاب، مولى العباس بن عبد المطلب.
ذكر ابن سعد، وأخرج بسند فيه الواقدي، عن أبى هريرة، قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق عليّ، فقال تميم الداريّ ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه. فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمله، فأرسله إلى أثله بالغابة فقطعها وعمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء فوضعه في موضعه اليوم، فقام عليه، وقال: منبري على ترعة من ترع الجنة. (الإصابة) 5/ 616- 617 ترجمة رقم (7445) .
[ (3) ] سبقت له ترجمة وافية في (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 9/ 38، فصل في ذكر من حدث عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (5) ] القباطي: نوع من القماش.(10/96)
وكان صلى اللَّه عليه وسلّم يجلس على المنبر، ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولى أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولى عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فعل ذلك ستة سنين من خلافته، ثم علا إلى موضع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكسا المنبر قبطية، وكان أول من كساه، فسرقتها امرأة، فأتى بها، فقال لها: سرقت؟ قولي: لا، فاعترفت، فقطعها، وكساه معاوية ابن [أبى] سفيان بعد عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه لما حج، ثم كساه عبد اللَّه بن الزبير رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فسرقتها امرأة، فقطعها كما قطع عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وكساه الخلفاء من بعده.
وكان طول المنبر ذراعان في السماء وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره، وهو مسند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذراع وطول رمانتى المنبر اللتين كان يمسكهما بيديه الكريمتين إذا جلس شبر وإصبعان، وعدد درجاته ثلاث بالمقعد، وفيه خمسة أعواد من جوانبه الثلاثة.
فلما كان في خلافة معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، زاد مروان ابن الحكم وهو على المدينة في المنبر من أسفله ست درجات، ورفعوه عليها، فصار المنبر تسع درجات بالمجلس، فصار طوله بعد الزيادة أربعة أذرع، ومن أسفل عتبته إلى أعلاه تسعة أذرع وشبر.
ثم تعاقب المنبر النبوي على طول الزمان، فجدده بعض خلائف بنى العباس منبرا، واتخذ من بقايا أعواد المنبر النبوي أمساطا للتبرك بها، فلم يزل المنبر المجدد حتى أحرق ليلة حريق المسجد أول ليلة من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة، فبعث المظفر يوسف صاحب اليمن منبرا في سنة ست وستين، فخطب عليه مائة واثنتان وثلاثون سنة إلى أن بعث الظاهر برقوق من مصر منبرا في سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
[خرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّه القارئ القرشي الإسكندراني، حدثنا أبو حازم بن دينار، قال: إن رجالا أبو سهل رضى اللَّه(10/97)
تبارك وتعالى عنه، كانت تسعة، بعضها من جريد، مطين بالطين، وسقفها من جريد، وبعضها من حجارة مرصوصة بعضها على بعض، مسقفة بالجريد أيضا [ (1) ]] .
وخرج البخاري في (الأدب المفرد) من [طريق] حديث ابن السائب قال: سمعت الحسن يقول: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، في خلافة عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأتناول سقفها بيدي.
وخرج من طريق عبد اللَّه قال: أنبأنا داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشى من خارج مسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة، قال: باب البيت نحوا من ست أذرع أو سبع أذرع.
وأحرز البيت الداخل عشر أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والتسع، ووقفت عند باب عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فإذا هو مستقبل المغرب.
ومن طريق إبراهيم بن المنذر، حدثنا محمد بن أبى فديك عن محمد بن هلال، أنه رأى حجر أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من جريد بمسوح الشعر، فسألته عن بيت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فقال: كان بابه مواجه الشام، فقلت:
مصراعا كان أو مصراعين؟ قال: كان بابا واحدا، فلت: من أي شيء؟ قال عن عرعر.
ومن طريق مالك بن إسماعيل- وقد امتاروا في المنبر مم عوده؟ - فسألوه عن ذلك، فقال: واللَّه إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم صنع، وأول يوم جلس إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى فلانة- امرأة قد سماها سهل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- مري غلامك النجار أن يعمل أعوادا أجلس عليهم إذا كلمت الناس، فأمرته بعملها من طرفاء الغاية ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأمرها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول اللَّه
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين لذا بالأصل ولم أجد له معنى ولا توجيها فيما بين يدي من مراجع، رغم إشارة المؤلف إلى تخريج كل من البخاري ومسلم وأبى داود والنسائي لهذا الحديث، ولعله خطأ من الناسخ، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.(10/98)
صلى اللَّه عليه وسلّم صلى عليها وكبر عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي.
ذكره البخاري [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] في كتاب الجمعة وترجم عليه البخاري باب الخطبة على المنبر، وترجم عليه أبو داود باب اتخاذ المنبر، وترجم عليه النسائي باب الصلاة على المنبر [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 504، كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر، وقال أنس رضى اللَّه تبارك وعنه: خطب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر.
قوله: «باب الخطبة على المنبر» أي مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها، ويتناول غيرها.
قوله: «وقال أنس: خطب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر» هذا طرف من حديث أورده المصنف في الاعتصام، وفي الفتن مطولا، وفيه قصة عبد اللَّه بن حذافة، ومن حديثه أيضا في الاستسقاء في قصة الّذي قال: «هلك المال» .
قوله: «امتروا» من المماراة، وهي المجادلة، وقال الكرماني: من الامتراء، وهو الشك، ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبى حازم عن أبيه عند مسلم «أن تماروا» فإن معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة المجادلة، ومنه فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقال أيضا: المرية التردد في الشيء، ومنه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ.
وقوله: (واللَّه إني لأعرف مما هو) فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده للسامع، وفي قوله: «ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه «زيادة على السؤال، لكن فائدته إعلامهم بقوة معرفته بما سألوه عنه، وقد تقدم في باب الصلاة على المنبر أن سهلا قال: «ما بقي أحد أعلم به منى» .
قوله: (أرسل إلخ) هو شرح الجواب.
قوله: (إلى فلانة امرأة من الأنصار) في رواية أبى غسان عن أبى حازم «امرأة من المهاجرين» كما سيأتي في الهبة، وهو وهم من أبى غسان لإطباق أصحاب أبى حازم على قولهم: «من الأنصار» ، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في «باب الصلاة على المنبر» في أوائل الصلاة.(10/99)
__________
[ () ] وقوله: (مري غلامك النجار) سماه عباس بن سهل عن أبيه فيما أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سعد في «شرف المصطفى» جميعا من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدثني عمارة ابن غزية عنه ولفظه «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يخطب إلى خشبة. فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرا. قال وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون فذكر الحديث،
وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعيد الأنصاري عن ابن عباس نحو هذا السياق ولكن لم يسمه، وفي الطبراني من طريق أبى عبد اللَّه الغفاريّ «سمعت سهل بن سعد يقول: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار. فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أخرج إلى الغابة وأتنى من خشبها فاعمل لي منبرا»
الحديث. وجاء في صانع المنبر أقوال أخر:
أحدهما: اسمه إبراهيم أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبى نضرة عن جابر، وفي إسناده العلاء من مسلمة الرواس وهو متروك.
ثانيها: باقول بموحدة وقاف مضمومة رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع. ووصله أبو نعيم في (المعرفة) لكن قال باقوم آخره ميم وإسناده ضعيف أيضا.
ثالثها: صباح بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة وآخره مهملة أيضا ذكره ابن بشكوال بإسناد شديد الانقطاع.
رابعها: قبيصة أو قبيصة المخزومي مولاهم ذكره عمر بن شبة في (الصحابة) بإسناد مرسل.
خامسها: كلاب مولى العباس كما سيأتي.
سادسها:
تميم الداريّ رواه داود مختصرا والحسن بن سفيان والبيهقي من طريق أبى عاصم عن عبد العزيز بن أبى رواد «عن نافع عن ابن عمر أن تميما الداريّ قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرا يحمل عظماك؟ قال: بلى فاتخذ له منبر
أ «الحديث وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة فإن البخاري أشار إليه ثم،
روى ابن سعد في (الطبقات) من حديث أبى هريرة» أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخطب وهو مستند إلى جذع فقال: إن القيام قد شق على فقال له تميم الداريّ: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل
«الحديث رجاله ثقات إلا الواقدي. سابعها: ميناء، ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار: «حدثني إسماعيل» هو ابن أبى أويس عن أبيه، قال: عمل(10/100)
__________
[ () ] المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بنى سلمة- أو من بنى ساعدة أو امرأة لرجل منهم- يقال له ميناء» .
وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب، فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه في «باب الصلاة على المنبر والسطوح» ، عن ابن التين، أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد وليس في جميع هذه الروايات التي سمى فيها البخاري شيء قوى السند إلا حديث ابن عمر، وليس فيه لتصريح بأن الّذي اتخذ المنبر تميم الداريّ، وقد تبين من رواية ابن سعد أن تميما لم يعلمه.
وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا، وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة. وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله، فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد «إلا ان كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه. واللَّه تعالى أعلم.
ووقع عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبى طلحة، عن أنس: «كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه رومي فقال: ألا أصنع لك منبرا؟ «الحديث. ولم يسمه فيحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداريّ لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم.
وقد عرف مما تقدم سبب عمل المنبر، وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع.
وجزم ابن النجار بأن عمله كان في سنة ثمان، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: «فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا «فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى.
وحكى بعض أهل السير أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخطب على منبر من طين قيل أن يتخذ المنبر الّذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله(10/101)
__________
[ () ] وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بين بكار في (أخبار المدينة) بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن ابن عوف قال: «بعث معاوية إلى مروان- وهو عامله على المدينة- أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب وقال: إنما أمرنى أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم» . ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال: «فزاد فيه ست درجات وقال: إنما زدت في حين كثر الناس «قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا فأزيل منبر المظفر، فلم يزل ذلك إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر اللَّه له صالح عمله آمين.
قوله: (فعملها من طرفاء الغابة) في رواية سفيان عن أبى حازم «من أثلة الغابة» كما تقدم في أوائل الصلاة، ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء وقيل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه، والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضا، وأصلها كل شجرة ملتف.
قوله: (فأرسلت) أي المرأة تعلم بأنه فرغ.
قوله: (فأمر بها فوضعت) أنث لإرادة الأعواد والدرجات، ففي رواية مسلم من طريق عبد العزيز بن أبى حازم «فعمل له هذه الدرجات الثلاث» .
قوله: (ثم رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلى عليها) أي على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر.
قوله: (وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى) لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين ذلك في رواية سفيان عن أبى حازم ولفظه «كبر فقرأ» وركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى» والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف.
والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة، وفي رواية هشام بن سعد عن أبى حازم عند الطبراني «فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر «فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة.(10/102)
__________
[ () ] قوله: (في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه.
قوله: (ثم عاد) زاد مسلم من رواية عبد العزيز حتى فرغ من صلاته.
قوله: (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي لتتعلموا، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه.
وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وقد تقدم البحث فيه وكذا في جواز ارتفاع الإمام في «باب الصلاة في السطوح» وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد إما شكرا وإما تبركا.
وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض.
وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة.
قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة، أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين.
ولا يلزم من مشروعية ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم ثم لمن ولى الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم بعض أمور الدين. واللَّه الموفق.
(فتح الباري) : 2/ 504- 508، باب (26) الخطبة على المنبر، حديث رقم (917) ، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 651- 652، كتاب الصلاة، باب (221) في اتخاذ المنبر، حديث رقم (1080) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : الغابة: موضع قريب من المدينة من عواليها من ناحية الشام. والطرفاء: شجر من شجر البادية واحدها طرفة بفتح الطاء مثل قصبة وقصباء.
قلت: الغابة الفيضة وجمعها غابات وغاب. ومنه قولهم ليث غاب قال الشاعر:(10/103)
وألفاظهم في هذا الحديث قريبة جدا، ولم يذكر مسلم له لفظا، بل أحاله على حديث عبد العزيز بن أبى حازم، عن ابنه، قال: إن نفرا جاءوا إلى سهل ابن سعد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قد تماروا في المنبر، من أي عود هو؟ فقال: أما واللَّه إني لأعرف ما عوده، ومن عمله. ورأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أول يوم جلس عليه.
قال: فقيل له: يا أبا عباس! فحدثنا. قال: أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى امرأة- قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ- انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فوضعت بهذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قام فكبر، وكبر الناس، ورآه وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال:
يا أيها الناس، إنما صنعت هذا المنبر لتأتموا بى، ولتصلوا بصلاتي.
وذكره البخاري في كتاب البيوع [ (1) ] ، من حديث قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبى حازم، عن أبى حازم بنحو أو قريب مما تقدم.
__________
[ () ]
وكنا كالحريق أصاب غابا ... فتخبو ساعة وتهب ساعا.
وفيه من الفقه: جواز أن يكون مقام الإمام أرفع من مقام المأموم إذا كان ذلك لأمر يعلمه الناس ليقتدوا به، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة وإنما نزل القهقرى لئلا يولى الكعبة قفاه.
فإما إذا قرأ الإمام السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فإنه إذا أراد النزول لم يقهقر ونزل مقبلا على الناس بوجهه حتى يسجد وقد فعله عمر بن الخطاب.
وعند الشافعيّ أنه إن أحب أن يفعله فعل. فإن لم يفعله أجزأه، وقال أصحاب الرأى:
ينزل ويسجد، وقال مالك: لا ينزل ولا يسجد ويمضى في خطبته.
[ (3) ] (النسائي) : 2/ 390- 391، كتاب المساجد، باب (45) الصلاة على المنبر، حديث رقم (738) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار حديث رقم (2094) .(10/104)
وذكره بهذا الإسناد في كتاب الصلاة [ (1) ] مختصرا، في باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد.
وذكره في كتاب الهبة [ (2) ] من حديث أبى غسان قال: حدثني أبو حازم، عن سهل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أرسل إلى امرأة من المهاجرين- وكان لها غلام نجار- قال: مري عبدك فليعمل لنا أعواد المنبر، فأمرت عبدها، فذهب، فقطع من الطرفاء [ (3) ] ، فصنع له منبرا، فلما قضاه، أرسلت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قد قضاه، قال صلى اللَّه عليه وسلّم: أرسلوا به إليّ فجاءوا به،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) 1/ 715، كتاب الصلاة، باب (64) الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، حديث رقم (448) .
[ (2) ]
(فتح الباري) : 5/ 250، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (3) من استوهب من أصحابه شيئا، وقال أبو سعيد، وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «اضربوا لي معكم سهما» حديث رقم (2596) .
قوله: «باب من استوهب من أصحابه شيئا» أي سواء كان عينا أو منفعة جاز، أي بغير كراهية في ذلك إذا كان يعلم طيب أنفسهم.
قوله: «وقال أبو سعيد» هو الخدريّ.
قوله: «اضربوا لي معكم سهما» هو طرف من حديث الرقية وقد تقدم بتمامه مشروحا في كتاب الإجارة.
قوله: «حدثنا أبو غسان» هو محمد بن مطرف، وسهل هو ابن سعد، وتقدم الحديث مشروحا في كتاب الجمعة، وفيه استيهابه من المرأة منفعة غلامها، وقد سبق ما نقل في تسمية كل منهما. وأغرب الكرماني هنا فزعم أن اسم المرأة مينا وهو وهم، وإنما قيل ذلك في اسم النجار كما تقدم وأن قول أبى غسان في هذه الرواية إن المرأة من المهاجرين وهم، ويحتمل أن تكون أنصارية حالفت مهاجريا وتزوجت به أو العكس، وقد ساقه ابن بطال في هذا الموضع بلفظ «امرأة من الأنصار» والّذي في النسخ التي وقفت عليها من البخاري ما وصفته.
[ (3) ] الطرفاء: نخل لبني عامر بن حنيفة باليمامة، وإياها عنت بقولها:
هل زاد طرفاء القصب ... بالقرب مما احتسب؟
(معجم البلدان) : 4/ 35 موضع رقم (7906) .(10/105)
فاحتمله النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فوضعه حيث ترون. ترجم عليه باب من استوهب من أصحابه شيئا.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث أبى عاصم، عن أبى روّاد عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لما بدّن قال: له تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ألا أتخذ لك منبرا يا رسول اللَّه يجمع أو يحمل عظامك؟ قال صلى اللَّه عليه وسلّم: بلى، فاتخذ له صلى اللَّه عليه وسلّم منبرا مرقاتين.
خرج البخاري [ (2) ] في كتاب البيوع، في باب النجار، من حديث خلاد قال: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: «إن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول اللَّه! ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال صلى اللَّه عليه وسلّم: إن شئت.
فعملت له المنبر. فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر الّذي صنع فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها، حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبى الّذي يسكت حتى استقرت.
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: بكت على ما كانت تسمع من الذكر» .
وذكره في كتاب علامات النبوة في الإسلام [ (3) ] وفي كتاب الجمعة [ (4) ]
كما ستأتي طرقه إن شاء اللَّه تعالى في ذكر المعجزات.
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 1/ 653، كتاب الصلاة، باب (221) في اتخاذ المنبر، حديث رقم (1081) ، قوله «بدّن» قال: أبو عبيد روى للتخفيف، إنما هو بالتشديد، أي كبر وأسنّ، وهو بالتخفيف: البدانة وكثرة اللحم، ولم يكن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سمينا.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار حديث رقم (2095) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 746- 747، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (2583- 2584) .
قوله: «كصوت العشار» بكسر المهملة بعدها معجمه خفيفة جمع عشراء، تقدم شرحه في الجمعة، والعشراء الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر، ووقع في رواية عبد الواحد بن أيمن «فصاحت النخلة صياح الصبى» وفي حديث أبى الزبير عن جابر عن النسائي في (الكبير) «اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج» انتهى. والخلوج بفتح الخاء(10/106)
وقد اختلف في اسم هذا النجار، فقيل: مينا، وقيل: ناقول مولى العاص بن أمية، وقيل: ميمون، وقيل: صباح غلام العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقيل: بل عمله غلام قبيصة المخزومي، وقيل: عمله غلام سعد بن عبادة، وقيل: غلام امرأة من الأنصار.
وكان عمله في سنة سبع بعد عوده من خيبر، وقيل: عمله سنة ثمان، وقال ابن زبالة: وكان المنبر من أثلة كانت قريبا من المسجد، والّذي زاد في درجة معاوية بن أبى سفيان.
قال سفيان بن حمزة: قال كثير: فأخبرني الوليد بن رباح، قال:
كسفت الشمس يوم زاد معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في المنبر، حتى رئيت النجوم.
__________
[ () ] المعجمة وضم اللام الخفيفة وآخره جيم الناقة التي انتزع منها ولدها، وفي حديث أنس عن ابن خزيمة «فحنت الخشبة حنين الوالد» وفي روايته الأخرى عن الدارميّ وابن ماجة «فلما خار الجذع حتى تصدع وانشق» وفي حديثه «فأخذ أبى بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا» . وهذا لا يتنافى ما تقدم من أنه دفن، لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف فأخذه أبى بن كعب،
وفي حديث بريدة عن الدارميّ أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال له: «اختر أن أغرسك في المكان الّذي كنت فيه فتكون كما كنت- يعنى قبل أن تصير جذعا- وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء اللَّه، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: اختار أن أغرسه في الجنة» .
قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف. وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللَّه لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول من يحمل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره.
وقد نقل ابن أبى حاتم في (مناقب الشافعيّ) عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعيّ قال: ما أعطى اللَّه نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك. (فتح الباري) .
[ (4) ] سبق تخريجه.(10/107)
وذكر الواقدي وغيره: أنه لما كانت سنة خمسين، أمر معاوية بن أبى سفيان بحمل المنبر إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة [ (1) ] .
وهم قبله [ (2) ] عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فطلب العصا- يعنى العنزة وهي عند سعد القرظ، فلما حرك المنبر ليخرج من موضعه كسفت الشمس حتى رئيت النجوم بادية، فأعظم الناس ذلك، فترك المنبر على حاله.
وقيل: بل أتاه جابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فقالا له: يا أمير المؤمنين! لا يصلح أن تخرج منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من موضع وضعه فيه، ولا تنقل عصاه إلى الشام. فترك المنبر، وزاد فيه ست درجات، واعتذر مما صنع [ (3) ] .
وذكر ابن زبالة، من حديث عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: بعث معاوية بن [أبى] سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، إلى مروان بن الحكم، عامله على المدينة، يأمره أن يحمل إليه منبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن ما وضعه، فأمر به أن يقلع، فأظلمت المدينة، وأصابتهم ريح شديدة، فخرج مروان، فخطب فقال: يا أهل المدينة! إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إلى منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليزيله! وأمير المؤمنين أعلم باللَّه من أن يغير منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن ما وضعه عليه، إنما أمرنى أن أكرمه وأرفعه، ودعا نجارا- وكان ثلاث درجات- فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم، ووضعه موضعه، وكان من طرفاء الغابة [ (4) ] .
وعن عبد اللَّه بن زياد، عن ابن فطن، قال: قلع مروان بن الحكم منبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان درجتين والمجلس، وأراد أن يبعث به إلى معاوية،
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ) : 3/ 463- 464، ذكر إرادة معاوية نقل المنبر إلى المدينة [في أحداث سنة خمسين] .
[ (2) ] كذا في (الأصل) وفي (المرجع السابق) : «قتله» .
[ (3) ] (الكامل في التاريخ) : 3/ 463- 464، ذكر إرادة معاوية نقل المنبر إلى المدينة [في أحداث سنة خمسين] .
[ (4) ] المرجع السابق.(10/108)
فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم! فزاد فيه ست درجات، وخطب الناس فقال:
إني إنما رفعته حين كثر الناس، ولما ولى عبد الملك بن مروان الخلافة، همّ بنقل المنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك اللَّه أن تفعل، إن معاوية حركه فكسفت الشمس!
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من حلف على منبري كاذبا فليتبوَّأ مقعده من النار [ (1) ] ،
وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة، فتركه عبد الملك.
فلما ولى الخلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وحجّ، همّ بذلك، فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: كلم صاحبك لا يتعرض لذلك، فكلمه، فتركه.
ثم لما كانت خلافة سليمان بن عبد الملك، وحجّ، أخبره عمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بما كان من عبد الملك، ومن الوليد، فقال: ما كنت أحب أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا، ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا؟ أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح [ (2) ] .
فلما حج أمير المؤمنين محمد المهدي في سنة ستين ومائة، قال لمالك ابن أنس: إني أريد أن أعيد منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى حاله التي كان عليها، فقال له مالك: إنه من طرفاء، وقد سمّر إلى هذه العيدان [وثبت] ، فمتى نزعته خفت أن يتهافت وتهلك، ولا أرى أن تعيده، فانصرف رأى المهدي عن تغييره [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (موطأ مالك) : 515، ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1406) من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصاري.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] قال ابن جرير الطبري: وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها- فيما ذكر- مالا عظيما، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول اللَّه(10/109)
فصل في ذكر من كان يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الأذان والتأذين: النداء إلى الصلاة والمئذنة موضع الأذان، وهي المنارة، والصومعة.
وقد كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أربعة من أصحابه يؤذنون: اثنان منهم بمسجده، وواحد بمسجد قباء، وواحد بمكة.
فالمؤذنان بمسجده صلى اللَّه عليه وسلّم: بلال بن رباح [ (1) ] وابن أم مكتوم [ (2) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. والّذي يؤذن بقباء سعد القرظ [ (3) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ومؤذن مكة أبو محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
__________
[ () ] صلى اللَّه عليه وسلّم فيعيده إلى ما كان عليه، ويلغى منه ما كان معاوية زاد فيه، فذكر عن مالك عن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الّذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسّر، فتركه المهدي.
(تاريخ الطبري) : 8/ 133.
[ (1) ] هو بلال بن رباح الحبشي المؤذن، وهو بلال بن حمامة، وهي أمه اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأذن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين أبى عبيده بن الجراح، ثم خرج بلال بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مجاهدا إلى أن مات بالشام.
قال أبو نعيم: كان ترب أبى بكر، وكان خازن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وروى أبو إسحاق الجوزجاني في تاريخه، من طريق منصور، عن مجاهد، قال: قال عمار: كل قد قال: ما أرادوا- يعنى المشركين- غير بلال.
ومناقبه كثيرة مشهورة، قال ابن إسحاق: كان لبعض بنى جمح مولد من مولد بهم، واسم أمه حمامة. وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد. فمر به أبو بكر فاشتراه منه يعبد له أسود جلد.(10/110)
__________
[ () ] قال البخاري: مات بالشام زمن عمر. وقال ابن بكير: مات في طاعون عمواس. وقال عمرو بن على: مات سنة عشرين. وقال بن زبر: مات بداريا، وفي المعرفة لابن مندة أنسه دين يحلب. (الاصابة) : 1/ 326- 327 ترجمة رقم (736) .
[ (2) ] هو عمرو بن أم مكتوم القرشي. ويقال اسمه عبد اللَّه. وعمرو أكثر وهو ابن قيس بن زائدة ابن الأصم.
ومنهم من قال عمرو بن زائدة، لم يذكر قيسا، ومنهم من قال قيس: بدل زائدة.
وقال ابن حبان: من قال ابن زائدة نسبة لجده، ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد: أهل المدينة يقولون اسمه عبد اللَّه، وأهل العراق يقولون اسمه عمرو، قال: واتفقوا على نسبه، وأنه ابن قيس بن زائدة بن الأصم. وفي هذا الاتفاق نظر فقد تقدم ما يخالفه كما ترى، وتقدم ما يخالفه أيضا.
قلت: نسبه كذلك ابن مندة، وتبعه أبو نعيم، وحكى في اسمه أيضا عبد اللَّه بن عمرو.
قال: وقيل عمرو بن قيس بن شريح بن مالك. وقال الثعلبي في تفسيره: اسمه عبد اللَّه ابن شريح بن مالك بن ربيعة بن قيس بن زائدة، واسم الأصم جندب بن هدم بن رواحة بن حمير بن معيص بن عامر بن لؤيّ القرشيّ العامرىّ.
واسم أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد اللَّه بن عنكثة، بمهملة ونون ساكنة وبعد الكاف مثلثة، ابن عائذ بن مخزوم، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، فإن أم خديجة أخت قيس بن زائدة، واسمها فاطمة. أسلم قديما بمكة، وكان من المهاجرين الأولين، قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. وقيل: بل بعده، بعد وقعة بدر بيسير، قاله الواقدي.
والأول أصح، فقد روى من طريق أبى إسحاق عن البراء، قال: أول من أتانا مهاجرا مصعب بن عمير، ثم قدم ابن أم مكتوم، وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يستخلفه على المدينة في عامة غزواته يصلى بالناس.
وقال الزبير بن بكار: خرج إلى القادسية، فشهد القتال، واستشهد هناك، وكان معه اللواء حينئذ، وقيل: بل رجع إلى المدينة بعد القادسية فمات بها، ذكره البغوي.
وقال الواقدي: بل شهدها، ورجع إلى المدينة فمات بها، ولم يسمع له بذكر بعد عمر ابن الخطاب.(10/111)
وقد روى أن حبان بن بحّ الصدائى [ (1) ] ، وزياد بن الحارث الصدائى [ (2) ] ، أذن كل منهما في السفر.
__________
[ () ] روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وحديثه في كتب السنن.
روى عنه عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وأبو رزين الأسدي وآخرون.
وقال ابن عبد البر: روى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم استحلف ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة: في الأبواء، وبواط، وذي العشيرة، وغزوته في طلب كرز بن جابر، وغزوة السويق، وغطفان. وفي غزوة أحد، وحمراء الأسد، ونجران. وذات الرقاع، وفي خروجه في حجة الوداع، وفي خروجه إلى بدر، ثم استخلف أبا لبابة لما رده من الطريق، قال: وأما رواية قتادة عن أنس: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم استخلف ابن أم مكتوم فلم [448] يبلغه ما بلغ غيره. (الإصابة) : 4/ 600- 603 ترجمة رقم (5768) .
[ (3) ] هو سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن مولى «عمار» أنزله المدينة، فكان يؤذن في مسجد رسول اللَّه فولده إلى اليوم يؤذنون في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
روى عن أبيه عن جده نسخة وعن أم عمار حاضنة عمار بن ياسر، وعنه ابنه عبد الرحمن وعبد الكريم ابن أبى المخارق. قلت: قال ابن القطان لا يعرف حاله ولا حال أبيه.
(المعارف) : 258 (تهذيب التهذيب) : 3/ 415، ترجمة رقم (891) .
[ (1) ] هو حبان، بكسر أوله على المشهور، وقيل بفتحها وهو بالموحدة، وقيل بالتحتانية- ابن بحّ- بضم الموحدة بعدها مهملة ثقيلة.
روى حديثه البغوي، وابن أبى شيبة، والطبراني، من طريق ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن زياد بن نعيم، عن حبان بن بحّ صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. قال: أسلم قومي، فأخبرت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جهز إليهم جيشا فأتيته، فقلت له: إن قومي على الإسلام ... فذكر الحديث في أنه أذن، وفي نبع الماء من بين أصابع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وفيه: لا خير في الإمارة لرجل مسلم.
وفيه: إن الصدقة صداع في الرأس وحريق في البطن.(10/112)
فأما بدؤ الأذان
فخرج البخاري [ (1) ] ، ومسلم [ (2) ] ، والنسائي [ (3) ] ، والترمذي [ (4) ] ، وقاسم بن أصبغ من حديث ابن جريج، قال: أخبرنى نافع مولى ابن عمر عن عبد اللَّه
__________
[ () ] وأخرج له الطبراني من هذا الوجه حديثا آخر. وذكر ابن الأثير أنه شهد فتح مصر، ولم أر ذلك في أصوله، وإنما قال ابن عبد البر: يعدّ فيمن نزل مصر. (الإصابة) : 2/ 12- 13 ترجمة رقم (1557) .
[ (2) ] هو زياد بن الحارث الصدائى: بضم المهملة، وقيل زياد بن حارثة. قال البخاري: أصح.
له حديث طويل في قصة إسلامه، وفيه من أذن فهو يقيم.
أخرجه أحمد بطولة. وأخرجه أصحاب السنن، وفي إسناده الإفريقي.
قال ابن السكن: في إسناده نظر.
قلت: وله طريق أخرى، من طريق المبارك بن فضالة، عن عبد الغفار بن ميسرة، عن الصدائى، ولم يسمه.
وروى البارودي، من طريق عبد اللَّه بن سليمان، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن زياد بن نعيم، عن زياد الصدائى، فذكر طرفا من الحديث الطويل. وقال ابن يونس: هو رجل معروف نزل مصر. (الإصابة) : 2/ 582 ترجمة رقم (2852) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 99 (كتاب الأذان) باب (1) حديث رقم (604) .
(فائدتان) : (الأولى) وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، منها للطبراني من طريق سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه قال: لما أسرى بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم أوحى اللَّه إليه الأذان فنزل به فعلمه به فعلمه بلالا وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وقطنى في (الأطراق) من حديث أنس أن جبريل أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالأذان حين فرضت الصلاة، وإسناده ضعيف أيضا.
ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعا: لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلى بهم فقد منى فصليت،
وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره من حديث على قال: لما أراد اللَّه أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابة يقال لها البراق فركبها فذكر الحديث وفيه: إذ خرج ملك من وراء الحجاب فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، وفي آخره: ثم أخذ الملك بيده فأم بأهل السماء
وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضا ويمكن على(10/113)
__________
[ () ] تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون ذلك وقع بالمدينة. وأما قول القرطبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد اللَّه أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على معنى اللغوي وهو الإعلام ففيه نظر أيضا. والحق أنه لا يصلح شيء من هذه الأحاديث.
وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد اللَّه بن عمر ثم حديث عبد اللَّه ابن زيد انتهى. وقد حاول السهيليّ الجمع بينهما فتكلف وتعسف، والأخذ بما صح أولى، فقال بانيا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سمعه فوق سبع سماوات وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت
فرأى الصحابي المنام فقصها فوافقت ما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سمعه فقال: «إنها لرؤيا حق»
وعلم حينئذ أن مراد اللَّه بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض، وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطلق على لسانه، والحكمة أيضا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى اللَّه عليه وسلّم التنوية بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخم لشأنه. انتهى ملخصا.
والثاني حسن بديع، يؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد اللَّه بن زيد حتى أضيف عمر للتقوية التي ذكرها، لكن قد يقال: فلم لا اقتصر على عمر؟ فيمكن أن يجاب ليصير في معنى الشهادة، وقد جاءني رواية ضعيفة سبقت ما ظاهره أن بلالا أيضا رأى لكنها مؤولة فإن لفظة «سبقك بها بلال» فيحمل المراد بالسبق على مباشرة التأذين برؤيا عبد اللَّه زيد.
ومما كثر السؤال عنه باشر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الأذان بنفسه، وقد وقع عند الهيلى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم أخرجه الترمذي من طريق تدور على عمر بن الرماح برفعه إلى أبى هريرة وليس هو من حديث أبى هريرة وإنما هو من حديث يعلى بن مرة، وكذا جزم النووي بأن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أذن مرة في السفر وعزاه للترمذي وقواه، ولكن وجدناه في مسند أحمد من الوجه الّذي أخرجه الترمذي ولفظه «فأمر بلالا فأذن» فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا وأن معنى قوله: «أذن» أمر بلالا به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفا، وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه آمرا به.
ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ بسند فيه مجهول عن عبد اللَّه بن الزبير قال: أخذ الأذان من أذان إبراهيم وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الآية قال: فأذن رسول(10/114)
__________
[ () ] اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل أن جبريل [أمر] بالأذان لآدم: أهبط من الجنة.
(الفائدة الثانية) قال الزبير بن المنبر: أعرض البخاري عن التصريح يحكم الأذان لعدم إفصاح الآثار الواردة فيه عن حكم معين، فأثبت مشروعيته، وسلم من الاعتراض. وقد اختلف في ذلك ومنشأ الخلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن مشورة أوقعها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بين أصحابه حتى استقر برؤيا كان ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره ولم ينقل أنه تركه ولا أمر بتركه ولا رخص في تركه كان ذلك بالواجبات أشبه انتهى. وسيأتي بقية الكلام على ذلك قريبا إن شاء اللَّه تعالى.
قوله: (حدثنا عبد الوارث) هو ابن سعيد، وخالد هو الحذاء كما ثبت في رواية كريمة، والإسناد كله يصربون.
قوله: (ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى) كذا ساقه عبد الوارث مختصرا، ورواية عبد الوهاب الآتية في الباب الّذي بعده أوضح قليلا حيث قال: «لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا» وأوضح من ذلك رواية روح بن عطاء عن خالد عند أبى الشيخ ولفظه «فقالوا لو أتتخذنا ناقوسا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك للنصارى. فقالوا: لو اتخذنا بوقا، فقال: ذلك لليهود.
فقال: لو رفعنا نارا، فقال: ذاك للمجوس «فعلى هذا ففي رواية عبد الوارث اختصار كأنه كان فيه: ذكروا النار والناقوس والبوق فذكروا اليهود والنصارى والمجوس، واللف والنشر فيه معكوس، فالنار للمجوس والناقوس للنصارى والبوق لليهود. وسيأتي في حديث ابن عمر التنصيصى على أن البوق لليهود. وقال الكرماني: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعا لليهود جمعا بين حديثي أنس وابن عمر انتهى، ورواية روح تغني عن هذا الاحتمال.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 317- 319، كتاب الصلاة، باب (1) بدء الأذان، حديث رقم (377) قال الإمام النووي: قال أهل اللغة: الأذان الإعلام قال اللَّه تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقال تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ويقال الأذان والتأذين والأذان. وقوله (كان المسلمون يجتمعون فيتحينون الصلاة) قال القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى: معنى يتحينون يقدرون حينها ليأتوا إليها فيه والحين الوقت من الزمان. قوله (فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا)(10/115)
ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أنه قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون الصلوات، وليس ينادى بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا بلال، قم فناد بالصلاة.
وقال البخاري: ليس ينادى لها. وقال: بل بوقا مثل قرن اليهود ترجم عليه باب بدء الأذان.
وخرج في باب الأذان مثنى مثنى [ (1) ] ، من حديث خالد الحذاء، عن أبى قلابة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما كثر الناس قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو
__________
[ () ] قال أهل اللغة هو الّذي يضرب به النصارى لأوقات صلواتهم وجمعه نواقيس والنقس ضرب الناقوس.
قوله (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادى بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا وقال بعضهم قرنا فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قم يا بلال فناد بالصلاة،
في هذا الحديث فوائد منها منقبة عظيمة لعمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وذكر ابن جريح أخبرنى نافع مولى ابن عمر عن عبد اللَّه بن عمر أنه قال كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادى أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أولا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يا بلال قم فناد بالصلاة.
(شرح النووي) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 2/ 329، كتاب الأذان، باب (1) بدء الأذان، حديث رقم (625) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 1/ 362- 363، أبواب الصلاة، باب (25) ما جاء في بدء الأذان، حديث رقم (190) ، وقال هذا حديث حسن صحيح، غريب من حديث ابن عمر.
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 105، كتاب الأذان، باب (2) - الأذان مثنى مثنى، حديث رقم (606) .(10/116)
يضربوا ناقوسا، فأمر بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.
وخرجه مسلم من حديث خالد أيضا بمثله، غير أنه قال: فذكروا أن يوروا نارا [ (1) ] .
وفي لفظ: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا بمثل ما تقدم، غير أنه قال:
أن يوروا نارا [ (2) ] .
وفي لفظ البخاري: عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والناقوس والنصارى فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ذكره في باب بدء الأذان [ (3) ] وفي باب ما ذكر عن بنى إسرائيل [ (4) ] والإسناد واحد.
وقال ابن إسحاق: فلما اطمأن [ (5) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمراء الأنصار، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة، والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام وبنو الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان، وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قدمها، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها لغير دعوة، فهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يجعل بوقا كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب للمسلمين الصلاة.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 320، كتاب الصلاة، باب (2) الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، حديث رقم (3) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 2/ 98، كتاب الأذان، باب (1) بدء الأذان، قوله عز وجل: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة 58] .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 613، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (50) ما ذكر عن بنى إسرائيل، حديث رقم (3450) .
[ (5) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 40، خير الأذان، التفكير في اتخاذ علامة لحلول وقت الصلاة.(10/117)
فبينا هم على ذلك رأى عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، إنه طاف هذه الليلة طائف، مرّ بى رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسا في يده، فقلت يا عبد اللَّه أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟
قال: قلت: [ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟] [ (1) ] قال: قلت: وما هو؟ قال: تقول: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح.
حي على الفلاح اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه [ (2) ] .
فلما أخبر بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: إنها لرؤيا حق، إن شاء اللَّه تعالى فقم مع بلال فألقها عليه «فليؤذن بها» فإنه أندى [ (3) ] صوتا منك، فلما أذن بها بلال، سمعها عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو في بيته، فخرج إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا بنى اللَّه! والّذي بعث بالحق، لقد رأيت مثل الّذي رأى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فلله الحمد [ (4) ] [على ذلك [ (5) ]] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] أندى: أحسن وأبدع (المرجع السابق) [هامش] ، وقال في هامشه: فبينما هم في ذلك- أرى عبد اللَّه بن زيد الرؤيا التي ذكر ابن إسحاق، فلما أخبر بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- وأمره أن يلقيها على بلال، قال: يا رسول اللَّه أنا رأيتها، وأنا كنت أحبها لنفسي، فقال: ليؤذن بلال، ولتقم أنت الصلاة، ففي هذا من الفقه جواز أن يؤذن الرجل يقيم غيره.
[ (4) ] (المرجع السابق) .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق في (المرجع السابق) .(10/118)
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن أبيه [ (1) ] .
قال ابن هشام: وذكر ابن جريح، قال: لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير الليثي يقول: ائتمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يريد أن يشترى خشبتين للناقوس إذ رأى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في المنام لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة، فذهب عمر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الوحي بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
حين أخبره بذلك: قد سبقك بذلك الوحي [ (2) ] .
وقد خرجه أبو داود [ (3) ] ، وابن الجارود، والترمذي [ (4) ] ، وقال: حديث عبد اللَّه بن زيد حديث حسن صحيح [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، وبعد هذه الفقرة في (الأصل) سطران من النسب بسياق مضطرب لا يخدمان المعنى ولا الموضوع فأثرنا حذفهما.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 42، ثم قال في هامشه فأما الحكمة في تخصيص الآذان برؤيا رجل من المسلمين ولم يكن عن وحي فلأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد أريه ليلة الإسراء، وأسمعه مشاهدة فوق سبع سماوات وهذا أقوى من الوحي، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة، وأرادوا إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحي حتى رأى عبد اللَّه الرؤيا، فوافقت ما رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء اللَّه، وعلم حينئذ أن مراد الحق بما رآه في السماء، أن يكون سنة في الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصاريّ، مع أن السكينة تنطق على لسان عمر واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على لسان غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من المؤمنين، لما فيه من التنويه من اللَّه لعبده، والرفع لذكره، فلأن يكون ذلك على غير لسانه أنوه به وأفخم لشأنه، وهذا معنى بين فإن اللَّه سبحانه يقول وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فمن رفع ذكره أن أشاد به على لسان غيره، عن (الروض الأنف) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 1/ 337- 338، كتاب الصلاة، باب (28) كيف الأذان، حديث رقم (499) ، قال أبو داود: هكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد اللَّه بن زيد، وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لم يثنيا.(10/119)
__________
[ () ] قال الإمام الخطابي في (معالم السنن) : قلت روى هذا الحديث والقصة بأسانيد مختلفة وهذا الإسناد أصحها.
وفيه أنه ثنى الأذان وأفرد الإقامة، وهو مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب إلى أقصى حجر من بلاد الإسلام.
وهو قول الحسن البصري ومكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعيّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
وكذلك حكاه سعد القرظ وقد كان أذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته بقباء، ثم استخلفه بلال بن رباح زمان عمر رضى اللَّه عنه، فكان يفرد الاقامة ولم يزل ولد أبى محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الاقامة ويحكون عن جدهم، إلا أنه قد روى في قصة أبى محذورة الّذي علمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم منصرفه من حنين أن الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة، وقد رواه أبو داود في هذا الباب، إلا أنه قد روى من غير هذا الطريق أنه أفرد الإقامة، غير أن التثنية عنه أشهر، إلا أن فيه إثبات الترجيع فيشبه أن يكون العمل من أبى محذورة ومن ولده بعده إنما استمر على إفراد الإقامة إما لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمره بذلك بعد الأمر الأول بالتثنية وإما لأنه استمر قد بلغه أنه أمر بلالا بافراد الاقامة فاتبعه وكان أمر الأذان ينقل من حال إلى حال ويدخله الزيادة والنقصان وليس كل أمور الشرع ينقلها رجل واحد ولا كان وقع بيانها كلها ضربة واحدة.
وقيل لأحمد: وكان يأخذ في هذا بأذان بلال أليس أذان أبى محذورة بعد أذان بلال؟ فإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه.
وكان سفيان الثوري وأصحاب الرأى يرون الأذان والإقامة مثنى مثنى على حديث عبد اللَّه بن زيد من الوجه الّذي روى فيه تثنية الإقامة.
وقوله: طاف بى رجل: يريد الطيف وهو الخيال الّذي يلم بالنائم. يقال منه طاف يطيف، ومن الطواف يطوف، ومن الإحاطة بالشيء أطاف يطيف.
وفي قوله: «ألقها على بلال فأنه أندى صوتا منك» دليل على أن من كان ارفع صوتا كان أولى بالأذان. لأن الأذان إعلام فكل من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر.(10/120)
وخرج أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار من حديث محمد ابن عثمان بن مجالد، حدثنا أبى عن زياد بن المنذر، عن محمد بن على بن الحسين، عن أبيه عن جده، عن على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما أراد اللَّه تعالى أن يعلّم رسول اللَّه الأذان، أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بداية يقال لها البراق، فذهب يركبها، فاستعصت، فقال لها جبريل: اسكني، فو اللَّه ما ركبك عبد أكرم على اللَّه من محمد قال: فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الّذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، قال: فبينا هو كذلك،
__________
[ () ] وقوله: ثم استأخر غير بعيد يدل على أن المستحب أن تكون الإقامة في غير موقف الأذان. (سنن أبى داود) : 1/ 338- 339.
وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : 1/ 232- 233، كتاب الأذان والسنة فيه باب (1) بدء الأذان، حديث رقم (706) وزاد في أخره، قال أبو عبيد: فأخبرني أبو بكر الحكمىّ، أن عبد اللَّه بن زيد الأنصاري قال في ذلك:
أحمد اللَّه ذا الجلال وذا الإكرام ... حمد على الأذان كثيرا
إذا أتانى به البشير من الله ... فأكرم به لدى بشيرا
في ليال وإلى بهن ثلاث ... كلما جاء زادني توقيرا
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 1/ 358- 363، باب (25) ما جاء في بدء الأذان، حديث رقم (189) ، وقال في آخره وفي الباب ابن عمر، قال أبو عيسى: حديث عبد اللَّه بن زيد حديث صحيح، وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد بن محمد بن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، وذكر فيه قصة الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة [مرة] . وعبد اللَّه بن زيد هو ابن عبد ربه، [ويقال ابن عبد رب] . ولا نعرف له عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان.
وعبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني له أحاديث عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو عم عباد بن تميم.
[ (5) ] قال في هامش (المرجع السابق) : والظاهر أن هذه الرواية رواية فيها شيء من التصرف من ابن إسحاق، ليناسب سياق السيرة، وأن أول الحديث قوله «وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قدمها» .
وقال ابن إسحاق بعد روايته: «حدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحرث عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن أبيه.(10/121)
إذ خرج ملك من الحجاب، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يا جبريل من هذا؟ قال: والّذي بعثك بالحق أنى لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه.
فقال الملك: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر، أنا أكبر.
ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقيل له من وراء الحجاب:
صدقت، أنا لا إله إلا أنا.
فقال الملك: أشهد أن محمد رسول اللَّه، فقيل له من وراء الحجاب:
صدق عبدي أنا أرسلت محمدا.
قال الملك: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم قال الملك: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فقيل من وراء الحجاب: أنا أكبر، أنا أكبر، ثم قال: لا إله إلا اللَّه، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا لا إله إلا أنا ثم أخذ الملك بيد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقدمه، فأم أهل السماء، فيهم آدم ونوح.
قال أبو جعفر، محمد بن على، عليهما السلام، يومئذ أكمل اللَّه عز وجل لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم الشرف على أهل السموات والأرض.
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث نوح بن دراج، عن الأجلح، عن البهي عن سفيان بن الليل، قال: لما كان من أمر الحسن بن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما ومعاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ما كان، قدمت عليه المدينة، فذكر الحديث، قال: فتذاكرنا عنده الآذان فقال [بعضنا إنما] كان بدؤ [الأذان] رؤيا عبد اللَّه بن زيد [بن عاصم] فقال [له] الحسن رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إن شأن الأذان أعظم من ذاك أذن جبريل عليه السلام في السماء مثنى مثنى وعلمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مرة مرة، فعلمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأذن به الحسن رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه حين ولى.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 187، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4798) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : قال أبو داود: نوح بن دراج كذاب، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .(10/122)
وأما أنه كان له مؤذنان بمسجده صلى اللَّه عليه وسلّم
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث عبيد اللَّه عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم الأعمى.
وخرجه من طريق عبيد اللَّه [ (2) ] ، حدثنا القاسم، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها مثله.
وأخرجه أيضا بأتم من هذا، ولم يذكر البخاري أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان له مؤذنان.
ولمسلم [ (3) ] من حديث محمد بن جعفر، حدثنا هشام عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان ابن أم مكتوم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو أعمى.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 324، كتاب الصلاة، باب (4) استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد، حديث رقم (7) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي بين رقمي (7، 8) بدون رقم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : باب (5) جواز أذان الأعمى إذا كان معه بصير، حديث رقم (8) .
قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر عند طلوعه كما كان بلال وابن مكتوم يفعلان قال أصحابنا فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة وأربعة فأكثر بحسب الحاجة وقد اتخذ عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أربعة للحاجة عند كثرة الناس قال أصحابنا ويستحب أن لا يزاد على أربعة الا لحاجة ظاهرة. قال أصحابنا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا فالمستحب أن لا يؤذنوا دفعة واحدة بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه فإن تنازعوا في الابتداء به أقرع بينهم وإن ضاق الوقت فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره وإن كان ضيقا وقفوا معا وو أذنوا وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تهويش فإن أدى إلى ذلك لم يؤذن إلا واحد فإن تنازعوا أقرع بينهم وأما الإقامة فإن أذنوا على الترتيب فالأول أحق بها إن كان هو المؤذن الراتب أو لم يكن هناك مؤذن راتب فان كان الأول غير المؤذن الراتب فأيهما أولى بالإقامة فيه وجهان لأصحابنا أصحهما(10/123)
وأما أن أبا محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان يؤذن بمكة
فخرج الترمذي [ (1) ] من حديث بسر بن معاذ البصري، حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبى محذورة، قال: أخبرنى أبى، وجدي جميعا
__________
[ () ] أن الراتب أولى لأنه منصبه ولو أقام في هذه الصور غير له ولاية الإقامة اعتد به على المذهب الصحيح المختار الّذي عليه جمهور أصحابنا وقال بعض أصحابنا لا يعتد به كما لو خطب بهم واحد وأم بهم غيره فلا يجوز على قول وأما إذا أذنوا معا فإن اتفقوا على إقامة واحد وإلا فيقرع قال أصحابنا رحمهم اللَّه ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد وقال بعض أصحابنا لا بأس أن يقيموا معا إذا لم يؤد إلى التهويش.
وفي باب جواز أذان الأعمى إذا كان معه بصير فيه حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها «كان ابن أم مكتوم يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو أعمى» وقد تقدم معظم فقه الحديث في الباب قبله ومقصود الباب أن أذان الأعمى صحيح وهو جائز بلا كراهة إذا كان معه بصير كما كان بلال وابن أم مكتوم قال أصحابنا ويكره أن يكون الأعمى مؤذنا وحده واللَّه أعلم.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 1/ 191 باب (26) ما جاء في الترجيع في الأذان، حديث رقم (191) رواه الترمذي هنا مختصرا، اكتفاء بما علم من ألفاظ الأذان بالتواتر العملي، وهو مروى مفصلا أيضا في كتب السنة.
وممن رواه مفصلا الشافعيّ في (الأم) : 1: 73 عن مسلم بن خالد عن ابن جريح عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبى محذورة عن عبد اللَّه بن محيريز- وكان يتيما في حجر أبى محذورة- عن أبى محذورة، وقال ابن جريج في آخره: «فأخبرني ذلك من أدركت من آل أبى محذورة على نحو مما أخبرنى ابن محيريز» .
ثم قال الشافعيّ: «وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبى محذورة يؤذن كما حكى ابن محيريز. قال الشافعيّ: وسمعته عن أبيه عن ابن محيريز عن أبى محذورة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: معنى ما حكى ابن جريج. قال الشافعيّ: وسمعته يقيم- وحكى الشافعيّ الإقامة مفصلة- وحسبتنى سمعته يحكى الإقامة خبرا كما يحكى الأذان.(10/124)
عن أبى محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أقعده، وألقى عليه الأذان حرفا حرفا، قال إبراهيم: مثل أذاننا، قال بسر: فقلت له:
أعد عليّ، فوصف الأذان بالترجيع.
قال أبو عيسى: حديث أبى محذورة في الأذان، حديث صحيح، وقد روى من غير وجه، وعليه العمل بمكة، وهو قول الشافعيّ.
وخرج قاسم بن أصبغ، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن، من حديث روح بن عبادة، عن ابن جريح قال: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: لما رجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من حنين، خرجت عاشر عشرة من مكة، فطلبتهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن نستهزئ. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: [لا يؤذن] إنسان إلا حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذنا رجلا رجلا، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: تعالى، فأجلسنى بين يديه، فمسح على ناحيتي، وبارك عليّ ثلاث مرات، ثم قال: اذهب فأذن، قلت: كيف يا رسول اللَّه؟ فعلمني الأذان: كما يؤذنون اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح- الصلاة خير من النوم،
__________
[ () ] قال الشافعيّ: والأذان والإقامة كما حكيت عن آل أبى محذورة، فمن نقص منهما شيئا أو قدم مؤخرا أعاد، حتى يأتى بما نقص وكل شيء منه في موضعه.
والحديث رواه أيضا الدار قطنى ص 86 والبيهقي 1: 393 من طريق الشافعيّ عن مسلم ابن خالد، ورواه الطحاوي في (معاني الآثار) : 1: 78 والدارقطنيّ (86) وابن عبد البر في (الاستيعاب) : 680 من طريق روح بن عبادة.
ورواه أحمد في (المسند) : 3: 409 عن روح بن عبادة ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريح. ورواه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطنيّ والطحاوي والبيهقي وابن عبد البر من طريق ابن جريج عن عثمان بن السائب عن أبيه السائب مولى أبى محذورة وعن أم عبد الملك بن أبى محذورة: أنهما سمعاه من أبى محذورة، فذكر الحديث.(10/125)
الصلاة خير من النوم، في الأذان من الصبح- اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
قال: وعلمني الإقامة مرتين: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
قال ابن جريج: أخبرنى عثمان هذا الخبر كله عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، أنها سمعت ذلك من أبى محذورة.
وخرج قاسم أيضا من طريق روح عن ابن جريح، قال: أخبرنى عبد العزيز بن عبد الملك بن عبد اللَّه بن محيريز، أخبره- وكان يتيما في حجر أبا محذورة بن معتمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه-، قال له: خرجت في نفر، فكنا ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالصلاة عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسمعنا صوت المؤذن ونحن مسكتون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الّذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسلهم كلهم وحبسني، ثم قال- قم فأذن بالصلاة.
فقمت، ولا شيء أكره إليّ من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فألقى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم التأذين هو نفسه.
فقال: قل: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطانى صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبى محذورة، ثم أمالها على وجهة، ثم من بين يديه، ثم صلى على كبده، حتى بلغت يد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرة أبى محذورة، ثم قال:
بارك اللَّه فيك، وبارك عليك، فقلت: يا رسول اللَّه، مرني بالتأذين بمكة، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: قد أمرتك به.(10/126)
وذهب كل ما كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من كراهته، وعاد ذلك كله محبة، لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. فقدمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمكة فأذنت معه بالصلاة على أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخبرني بذلك من أهلي، ممن أدرك أبا محذوره، على نحو ما أخبرنى عبد اللَّه بن محيريز [ (1) ] .
ومن حديث حجاج الأعور عن ابن جريج، قال: أخبرنى عبد العزيز ابن عبد الملك بن محذوره، أن عبد اللَّه بن محيريز أخبره أنه كان يتيما في حجر أبى محذورة فذكر مثل الحديث الّذي رواه روح عن ابن جريج، عن عبد العزيز، إلى قوله: فألقى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم التأذين. هو نفسه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: قل: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه ثم ذكر الحديث إلى آخره [ (2) ] .
قال: وأخبرنى ذلك من أدركت من أهلي، ممن أدرك أبا محذورة، على نحو مما أخبرنى عبد اللَّه بن محيريز.
قال: وأخبرنى ابن جريج وأخبرنى عثمان بن السائب، قال: أخبرنى أبى وأم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة، قال: فلما خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين، خرجت عاشر عشرة، فذكر مثل الحديث الّذي حدث به روح بن عبادة. عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، إلى قوله: فعلمني الأذان كما يؤذنون الآن: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد، أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على الصلاة حي على الفلاح، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم- في الأولى من الصبح- اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
قال: وعلمني الإقامة مرتين، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه ثم ذكر الحديث إلى آخره، قال: أخبرنى عثمان هذا الخبر كله عن أبيه،
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث بما يغنى عن إعادتها.
[ (2) ] سبق تخريج هذه الأحاديث بما يغنى عن إعادتها.(10/127)
وأم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قلت: عثمان بن النائب، وأبوه، وابن عبد الملك، كلهم غير معروف.
وأخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الرزاق عن أبى محذورة فذكره.
وقد خرج مسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] والترمذي [ (3) ] والنسائي [ (4) ] ، وقاسم بن أصبغ، حديث أبى محذوره، من حديث مكحول عن عبد اللَّه بن محيريز، عن أبى
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 322- 324، كتاب الصلاة، باب (3) صفة الأذان، قال الإمام النووي في (شرح مسلم) : هكذا وقع هذا الحديث في صحيح مسلم في أكثر الأصول في أوله اللَّه أكبر مرتين فقط ووقع هذا الحديث في صحيح مسلم اللَّه أكبر اللَّه أكبر، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أربع مرات قال القاضي عياض: رحمه اللَّه ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع مرات وكذلك اختلف في حديث عبد اللَّه بن زيد في التثنية والتربيع والمشهور فيه التربيع وبالتربيع قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء، وبالتثنية قال مالك واحتج بهذا الحديث وبأنه عالم أهل المدينة وهم أعرف بالسنن، واحتج الجمهور بأن الزيادة من الثقة مقبولة وبالتربيع عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم. واللَّه أعلم.
وفي هذا الحديث حجة بينة ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعيّ وأحمد وجمهور العلماء أن الترجيع في الأذان ثابت مشروع وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يشرع الترجيع عملا بحديث عبد اللَّه بن زيد فأنه ليس فيه ترجيع وحجة الجمهور هذا الصحيح والزيادة مقدمة مع أن حديث أبى محذورة هذا متأخر عن حديث عبد اللَّه بن زيد فإن حديث أبى محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين وحديث ابن زيد في أول الأمر وانضم إلى هذا كله أهل مكة وسائر الأمصار وباللَّه التوفيق.
واختلف أصحابنا في الترجيع هل هو ركن لا يصح الأذان إلا به أم هو سنة ليس ركنا حتى لو تركه صح الأذان مع فوات كمال الفضيلة على وجهين والأصح عندهم أنه سنة وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع وتركه والصواب إثباته واللَّه أعلم.
قوله حي على الصلاة معناه تعالوا إلى الصلاة وأقبلوا عليها قالوا وفتحت الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة، ومعنى حي على الفلاح هلم إلى الفوز والنجاة وقيل إلى البقاء أي أقبلوا على سبب البقاء في الجنة والفلاح بفتح الفاء واللام لغة في الفلاح حكاهما الجوهري وغيره ويقال: لحي على كذا الحيعلة قال الإمام أبو منصور الأزهري: قال الخليل بن أحمد:
رحمهما اللَّه تعالى الحاء والعين لا يأتلفان في كلمة أصلية الحروف لقرب مخرجيهما إلا أن يؤلف فعل من كلمتين مثل حي على فيقال منه حيعل واللَّه أعلم.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 340، كتاب الصلاة، باب (28) في الأذان، حديث رقم (500) ، وأخرجه ابن ماجة (في السنن) : 1/ 35، كتاب الأذان والسنة فيها، باب (2) الترجيع في الأذان، حديث رقم (709) .(10/128)
محذوره رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم علمه هذا الأذان: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن محمدا رسول اللَّه، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، مرتين، حي على الصلاة، مرتين، حي على الفلاح، مرتين، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
هذا لفظ مسلم.
ولفظ النسائي، عن أبى محذورة، قال: علمني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الأذان، فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر،
إلى آخره بنحو ما قال مسلم.
وعن أبى داود [ (1) ] أن ابن محيريز حدثه أن أبا محذورة حدثه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشره كلمه، الحديث إلى آخره بمثله.
وذكر الترمذي [ (2) ] صدر متنه في كتابه، لفظه: عن أبى محذوره أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، لم يزد
__________
[ () ] (3) (سنن الترمذي) : 1/ 366، أبواب الصلاة، باب (26) ما جاء في الترجيع في الأذان، حديث رقم (191) ، [والترجيع في الأذان] هو إعادة الشهادتين بصوت عال بعد ذكرهما بصوت منخفض.
[ (4) ] (سنن النسائي) : 2/ 332، كتاب الأذان، باب (5) كيف الأذان، حديث رقم (631) .
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 1/ 342، كتاب الصلاة، باب (28) كيف الأذان حديث رقم (502) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 1/ 367، كتاب أبواب الصلاة، باب (26) ما جاء في الترجيع في الأذان، حديث رقم (192) .(10/129)
على هذا، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو محذورة اسمه سمرة بن معمر، قد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا في الأذان.
وقد روى عن أبى محذورة، عن أبيه، عن جده، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسه: قال: قل: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ثم ترفع بها صوتك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، اخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كانت صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.
وعلمني الإقامة مرتين، مرتين، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، حي الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، أسمعت؟.
قال: وكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مسح عليها
.(10/130)
وأما أنّ سعد القرظ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان مؤذن قباء
فذكر ابن المبارك عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: أخبرنى حفص عن عمر بن سعد، أن جده سعد كان يؤذن على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لأهل قباء، حتى استعمله عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في خلافته، فأذن له بالمدينة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال البلاذري: وقد روى أن عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان يؤذن بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عند المنبر.
وقال الواقدي بإسناده: كان بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقف على باب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. فيقول: السلام عليك يا رسول اللَّه، وربما قال السلام عليك بأبي أنت وأمى أنت يا رسول اللَّه، حي الصلاة حي على الفلاح، السلام عليك يا رسول اللَّه.
قال البلاذري: وقال غيره: كان يقول: السلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا رسول اللَّه.
وقال ابن زيد: لم يكن في زمان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أذان إلا الأول، وأذان حين يقوم للصلاة، وهي الشيء الآخر، أحدثه الناس في زمن عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فلم يذكره أحد من الصحابة، فمضى به العمل.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال:
كان يؤذن بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة، على باب المسجد، وأبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. ذكره أبو داود.
وروى ابن إسحاق [ (1) ] أن المرأة قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يؤذن عليه الفجر كل غداة فيأتى بسحر، فيجلس على البيت ينتظر عليه الفجر، فإذا رآه تمطى بسحر،
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 42 ما كان يدعو به بلال قبل الفجر.(10/131)
فيجلس على البيت ينتظر عليه الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللَّهمّ أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك. قالت: ثم يؤذن [ (1) ] .
ويروى أنه كان يؤذن على أسطوان في قبله المسجد يرقى إليها بإثبات، وكانت في منزل عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وروى نافع عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال كان بلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر رضى اللَّه عنهما، التي تلى المسجد، قال: فكان يرقى على أثبات فيها، وكانت خارجية من المسجد، لم تكن فيه.
وأما بلال بن رباح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[هو] بلال بن رباح، أبو عبد اللَّه وقيل: أبو عبد الكريم، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: عمرو، مولى أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، اشتراه بخمس أواق، ثم أعتقه، وكان له خازنا، ولرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مؤذنا، وهو أول من أذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ولزم التأذين له بالمدينة وفي أسفاره شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وامه حمامة كانت من مولدي السراة، وكان آدم شديد الأدمة، نحيفا، طوالا، أجنى، خفيف العارضين، وأذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حياته ثم أذن لأبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه،
فقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما منعك أن تؤذن، قال: أنى أذنت لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى قبض وأذنت لأبى بكر حتى قبض لأنه كان ولى نعمتي، وقد سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل،
فخرج مجاهدا ويقال أنه أذن لعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إذ دخل الشام فبكى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وغيره من المسلمين. وقال: سعيد بن المسيب وقد ذكر بلالا، فانطلق العباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال لسيدته: هل لك أي تبيعني عبدك قبل أن يفوتك خيره؟ قال: وما تصنع به؟
__________
[ (1) ] ثم بعد ذلك قالت: واللَّه ما علمته كان يتركها ليلة واحدة. (المرجع السابق) .(10/132)
إنه خبيث وأنه قال ثم لقيها فقال: مثل مقالته، فأشتراه العباس فبعث به إلى أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأعتقه فكان يؤذن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فلما مات النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يخرج إلى الشام فقال له أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بل تكون عندي، فقال أن كنت أعتقتنى لنفسك فاحبسني وأن كنت أعتقتنى للَّه عز وجل فذرني اذهب إلى اللَّه عز وجل، فقال: أذهب فذهب إلى الشام فكان بها حتى مات.
وقال سفيان: عن إسماعيل عن قيس قال: اشترى أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بلالا وهو مدفون بالحجارة، ومات بدمشق سنة عشرين وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان ديوانه مع خثعم [ (1) ] .
[وأما] ابن أم مكتوم
اسمه عمرو، وقيل عبد اللَّه بن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو جندب ابن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بغيض بن عامر بن لؤيّ القرشي، أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد اللَّه بن عنكثة بن عامر بن مخزوم، فهو ابن خال خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أخى أمها، وأسلم قديما، وبعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة مع مصعب بن عمير قبل هجرته، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسية وما بعدها [ (2) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (مسند أحمد) : 6/ 12- 15، (طبقات ابن سعد) : 3/ 1/ 165، 208، (طبقات خليفة) : 19، 298، (تاريخ خليفة) : 99، 149، (التاريخ الكبير) : 2/ 106، (التاريخ الصغير) : 1/ 53، (الجرح والتعديل) : 2/ 395، (حلبة الأولياء) : 1/ 147- 151، (الاستيعاب) : 2/ 26 (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 136- 137، (تهذيب التهذيب) : 1/ 502. (الإصابة) : 1/ 273، (كنز العمال) : 13/ 305- 308، شذرات الذهب 1/ 31.
[ (2) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 4/ 150، (المعارف) : 290 (حلية الأولياء) : 2/ 4 (الإستيعاب) : 7/ 41، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 295- 296، (الإصابة) :(10/133)
[وأما] أبو محذورة [الجمحيّ]
قيل اسمه أوس بن معير بن لوذان بن ربيعة بن سعد بن جمح. وقبل:
اسمه سمير بن عمير بن لوذان بن وهب بن سعد بن جمح فأمه خزاعية.
حدث عنه ابنه عبد الملك وزوجته، والأسود بن يزيد، وعبد اللَّه بن محيريز، وابن أبى مليكة، وآخرون كان من أندى الناس صوتا وأطيبه.
قال ابن جريج: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة، قال: لما رجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من حنين، خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن تستهزئ.
فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت فأرسل إلينا، فأذنا رجلا رجلا، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: [تعال] ، فأجلسنى بين يديه، فمسح على ناصيتي، وبارك على ثلاث مرات، ثم قال: «اذهب فأذّن عند البيت الحرام» قلت: كيف يا رسول اللَّه؟ فعلمني الأولى كما يؤذنون بها، وفي الصبح «الصلاة خير من النوم» وعلمني الإقامة مرتين مرتين. وفيه قيل: -
أما ورب الكعبة المستورة ... وما تلا محمد من سوره
والنغمات من أبى محذوره ... لأفعلن فعلة منكوره
وتوفى بمكة سنة تسع وخمس وقيل سنة تسع وسبعين [ (1) ] ولم يهاجر.
__________
[ () ] 7/ 83 ترجمة رقم (5764) ، (شذرات الذهب) : 1/ 28، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 360- 365، ترجمة رقم (77) .
[ (1) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) 5/ 450، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم: (139- 2512) ، (المحبر) : 161، (المعارف) : 306، (جمهرة أنساب العرب) : 162، 162، (المستدرك) : 3/ 514، (الاستيعاب) : 1/ 121 ترجمة رقم (116) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 2- 266، (تهذيب التهذيب) 12/ 222، (الاصابة) : 1/ 160(10/134)
[وأما] سعد بن عائذ [سعد القرظ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
وهو سعد بن عائذ مولى عمار بن ياسر، عرف بسعد القرظ لأنه لزم بيعه، جعله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مؤذنا بقباء، ثم أذن لما ترك بلال الأذان بالمسجد النبوي حتى مات فتوارث بنوه الأذان فيه [ (1) ] .
[وأما] حبان بن بحّ الصدائى
[فإنه] يعد في من نزل مصر من الصحابة، قال ابن يونس: وفد على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وشهد الفتح بمصر ويقال حبان، وجيان الصواب. وقال الدار قطنى: حيان بن بح الصدائى بكسر الحاء مع باء معجمة بواحدة، له بمصر حديث
رواه بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم، عن حيان بن بح قال: إن قومي كفروا فأخبرت أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم جهز إليهم جيشا، فأتيته فقلت: إن قومي
__________
[ () ] ترجمة رقم (358) ، (شذرات الذهب) : 1/ 65، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 117- 118 ترجمة رقم (24) .
[ (1) ] وروى البغوي، عن القاسم بن محمد بن عمر بن حفص بن عمر بن سعد القرظ، عن آبائه أن سعدا اشتكى إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قلة ذات يده، فأمره بالتجارة فخرج إلى السوق، فاشترى شيئا من قرظ فباعه فربح، فذكر ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فأمره بلزوم ذلك وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أذن في حياته بمسجد قباء.
وروى عنه ابناه عمار وعمر، نقله أبو بكر من قباء إلى المسجد النبوي، فأذن فيه بعد بلال، - وتوارث عنه بنوه الأذان.
قال خليفة: أذن سعد لأبى بكر ولعمر بعده. وروى يونس عن الزهري أن الّذي نقله عن قباء عمر. قال أبو أحمد العسكري: عاش سعد القراظ إلى أيام الحجاج، له ترجمة في:
(الإصابة) : 3/ 65، ترجمة رقم (3173) ، (المعارف) : 258، (تهذيب التهذيب) :
3/ 415، ترجمة رقم (891) ، (الاستيعاب) : 2/ 593- 594، ترجمة رقم (943) .(10/135)
على الإسلام فقال: أكذلك؟ قلت: نعم واتبعته ليلتي حتى الصباح فأذنت بالصلاة لما أصبحت، وأعطانى ماء توضأت منه، فجعل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أصابعه في الإناء فانفجر عيونا.
فقال: من أراد منكم أن يتوضأ فليتوضّأ، فتوضأت وصليت، فأمرنى عليهم، وأعطانى صدقاتهم، فقام رجل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إن فلانا ظلمني، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا خير في الإمارة لمسلم.
ثم جاء رجل يسأل صدقة، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الصدقة صداع وحريق في الرأس أو داء، فأعطيته صحيفة إمرتي وصدقنى، فقال: ما شأنك؟
فقلت: أقبلها، وقد سمعت ما سمعت؟.
رواه سعيد بن أبى مريم، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سواد، وزياد ابن الحارث الصدائى:
وفد على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. وشهد الفتح بمصر، وحديثه يشبه حديث حبان بن بح.
قال ابن يونس، وقال ابن عبد البر: وهو حليف بنى الحارث بن كعب، تابع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وأذن بين يديه، يعد في مصر وأهل المغرب. وقد خرج له أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وقال ابن وهب: أخبرنى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائى قال: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فبايعته على الإسلام، فأخبرت أنه بعث جيشا إلى قومي، فقلت: يا رسول اللَّه! أن رد الجيش، وأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، فقال: اذهب فردهم، فقلت: يا رسول اللَّه، إن راحلتي قد كلت، ولكن ابعث إليهم رجلا قال: فبعث إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رجلا، وكتبت معه إليهم، فردهم، قال الصدائى: فقدم وفدهم بإسلامهم، فقال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا أخا صداء، وإنك مطاع في قومك؟
قلت: بل اللَّه هداهم للإسلام، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أفلا أؤمرك عليهم؟ قلت:
بلى، فكتب لي كتابا بذلك، فقلت يا رسول اللَّه بشأن صدقاتهم، نكتب لي كتابا آخر بذلك، وكان ذلك في بعض أسفاره، فنزل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم منزلا، فأتى أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم، يقولون: أخذنا بشيء كان بيننا وبينه في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أو فعل؟ قالوا: نعم فالتفت إلى أصحابه وأنا(10/136)
فيهم فقال: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، قال الصدائى: فدخل قوله في نفسي، قال: ثم أتاه آخر، فقال: يا رسول اللَّه، أعطنى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من سأل الناس عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس وداء في البطن، فقال السائل: فأعنى من الصدقة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه لم يرض بحكم نبي ولا غيره [في الصدقات] حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء [ (1) ] ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك- أو أعطيناك- حقك الصدائى: فدخل ذلك في نفسي، لأني سألته من الصدقات وأنا غنى، ثم إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اعتشى من أول الليل، فلزمته، وكنت قويا، وكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون، حتى لم يبق معه أحد غيري، فلما كان أوان صلاة الصبح أمرنى فأذنت، وجعلت أقول: أقيم يا رسول اللَّه؟ فينظر إلى ناحية المشرق ويقول: لا، حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز، ثم انصرف إلى وقد تلاحق أصحابه، فقال: هل من ماء يا أخا صداء؟ قلت: لا، إلا شيء قليل لا يكفيك، فقال: اجعله في إناء ثم ائتني به، ففعلت، نوضع كفه في الإناء، فرأيت بين كل إصبعين من أصابعه عينا تفور، فقال: لولا أنى أستحيى من ربى- يا أخا صداء- لسقينا واستقينا، ناد في الناس: من له حاجة في الماء، فنادى فيهم، فأخذ من أراد منهم، ثم جاء بلال فأراد أن يقيم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم، قال الصدائى: فأقمت، فلما قضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاته أتيته بالكتابين، فقلت: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أعفنى من هذين، فقال: وما بدا لك؟
إني سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، وأنا أومن ورسوله، وسمعتك تقول للسائل: من سأل عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس وداء في البطن، وقد سألتك وأنا غنى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هو ذاك، إن شئت فاقبل وإن شئت فدع [فقلت: أدع] فقال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فدلني على رجل أؤمره
__________
[ (1) ] وهي الأجزاء الثمانية التي ذكرها اللَّه تبارك وتعالى في الآية رقم (60) من سورة التوبة والتي يحدد فيها المصارف الثمانية لأموال الصدقات، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.(10/137)
عليهم، فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه، فأمره علينا، ثم قلنا: يا رسول اللَّه، إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها فاجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وقد أسلمنا، وكل من حولنا عدوّ، فادع اللَّه لنا في بئرنا أن يسعنا ماؤها فنجتمع عليها ولا نتفرق، قال: فدعا بسبع حصيات، فعركهن في يده ودعا فيهن، ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات، فإذا أتيتم البئر فألقوها واحدة واحدة واذكروا اسم اللَّه، قال الصدائى: ففعلنا [ما قال لنا] ، فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر في قعرها، يعنى البئر.
هذا لفظ ابن عبد الحكم، وقد صححنا بعض أحرف فيه وزدنا بعض أحرف، من رواية المزي المطبوعة بحاشية التهذيب، ما زدناه كتبناه بين قوسين هكذا [] .
وقوله في الحديث «اعتشى من أول الليل» : قال في النهاية: «أي سار وقت العشاء، كما يقال: استمر وابتكر» .
وقد خرج حديث زياد بن الحرث الترمذي وقاسم بن أصبغ مختصرا، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي [ (1) ] أبو خالد الشعبانيّ العامري، مصرى، يروى الموضوعات عن الثقات، ويدلس عن محمد بن سعيد المصلوب. كان ابن مهدي ويحيى لا يحدثان عن الإفريقي. قال ابن معين: هو ضعيف، قاله أبو حاتم، محمد بن حبان.
***
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 6/ 157- 160، ترجمة رقم (358) .(10/138)
فصل في ذكر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أذن بنفسه.
خرج الترمذي من طريق شبابه بن سوار، حدثنا عمر بن الرماح [البلخي] عن كثير بن زياد عن عمرو بن عثمان بن يعلى مرة [ (1) ] عن أبيه عن جده قال: «أنهم كانوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مسير، فانتهوا إلى مضيق، وحضرت الصلاة، فمطروا، السماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو على راحلته فصلى بهم يومى إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع [ (2) ] » .
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح البلخي [ (3) ] لا يعرف إلا من حديثة.
وخرجه الدارقطنيّ من طريق ابن الرماح أيضا عن كثير بن زياد بن سهل البصري عن عمر بن عثمان بن يعلى بن أميه عن أبيه عن أبيه عن جده يعلى بن أمية صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: انتهينا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى مضيق، السماء من فوقنا والبلة من أسفلنا وحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام أو أقام بغير أذان ثم تقدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فصلى بنا على راحلته وصلينا خلفه على رواحلنا وجعل
__________
[ (1) ] هو يعلى بن مرة الثقفي، صحابى، شهد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بيعة الرضوان وخيبر، وفتح مكة وغزوي الطائف، وحنينا، وله أحاديث مرفوعة، وأما ابنه عثمان وحفيده عمرو بن عثمان فليس لهما في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي، وعمرو بن عثمان ذكره ابن حبان في (الثقات) . وأبوه عثمان بن يعلى قال ابن القطان: مجهول.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 2/ 266، أبواب الصلاة، باب (186) ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر، حديث رقم (411) .
[ (3) ] ثم قال أبو عيسى عقب ذلك: لا يعرف إلا من حديثه، وقد روى عنه غير واحد من أهل العلم، وكذلك روى عن أنس بن مالك: أنه صلى في ماء وطين على دابته، والعمل على هذا عند أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق.(10/139)
سجوده اخفض من ركوعه [ (1) ] قال السهيليّ: والمفصل يقضى على المجمل المجتهد.
فصل في ذكر من كان يقم المسجد على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: قم الشيء، يقمه قما كنسه، حجازية، والمقمة:
المكنسة، والقمامة: الكناسة [ (2) ] .
خرج البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أبى رافع، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أن رجلا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد، فمات، فسأل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عنه فقالوا:
مات. قال: أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره، أو قال: قبرها، فصلى
__________
[ (1) ] (سنن الدارقطنيّ) : 1/ 380- 381، باب صلاة المريض لا يستطيع القيام، والفريضة على الراحلة، حديث رقم (6) .
قال في (تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدار قطنى) : 139، حديث رقم (335) :
إسناده فيه لين، وابن غزوان ضعيف.
[ (2) ] وقال اللحياني: قمامة البيت ما كسح منه، فألقى بعضه على بعض. الليث: القم ما يقم من قمامات القماش ويكنس. قال: قم بيته يقمه قما إذا كنسه.
وفي حديث فاطمة عليها السلام: أنها لما قمت البيت أغبرت ثيابها، أي كنسته.
(لسان العرب) : 12/ 493.
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 727، كتاب الصلاة، باب (72) كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان، حديث رقم (458) .
وفي الحديث فضل تنظيف المسجد، والسؤال عن الخادم والصديق الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره، لمن لم يصلى عليه، والإعلام بالموت. (فتح الباري) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 30، كتاب الجنائز، باب (23) الصلاة على القبر، حديث رقم (71) .(10/140)
عليه. ذكره البخاري في كتاب الصلاة، وترجم عليه باب كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان. وذكره في كتاب الصلاة على القبر بعد ما يدفن بنحو منه. وفي كتاب الصلاة، باب الخدم للمسجد.
ولفظ مسلم أن: امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا، ففقدها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات قال: أفلا كنتم أذنتمونى؟ قال:
فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: دلوني على قبره، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن اللَّه عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم.
وخرجه قاسم بن أصبغ بهذا الإسناد، وقال: إن إنسانا أسودا، أو إنسانة سوداء كانت تقم أو يقم [المسجد] فمات أو ماتت، ففقدها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟.
... الحديث بنحو حديث مسلم. وهذه المرأة يقال اسمها محجنة، ويقال أم محجن [ (1) ]
***
__________
[ (1) ] محجنة، وقبل أم محجن، امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في الصحيح بغير تسمية وسماها يحى بن أبى أنيسة، وهو متروك، عن علقمة بن مرثد، عن رجل من أهل المدينة،
قال: كانت امرأة من أهل المدينة يقال لها محجنة تقم المسجد، فتفقدها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأخبر أنها قد ماتت، فقال: ألا آذنتموني بها؟ فخرج فصلى عليها، وكبر أربعا.
قال يحي: وحدثنا الزهري، عن أبى أمامة بن سهل، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نحوه.
ومن طريق عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مر على قبر حديث عهد بدفن، فقال: متى دفن هذا؟ فقيل: هذه أم محجن التي كانت مولعه بلقط القذى من المسجد، فقال:
أفلا أذنتمونى؟ قالوا: كنت نائما فكرهنا أن نوقظك.. الحديث. (الإصابة) : 8/ 116 ترجمة رقم (11742) .(10/141)
فصل في ذكر من أسرج في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: السراج: المصباح، والجمع سرج، والمسرجة التي فيها الفتيل، التي يجعل فيها النار. وأسرج السراج: أوقده [ (1) ] .
والّذي أسرج المسجد على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سراج، قال: أبو عمر ابن عبد البر [ (2) ] سراج مولى تميم الداريّ قدم على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في خمس غلمان
__________
[ (1) ] قال في (اللسان) : والسراج: المصباح الزاهر الّذي يسرج بالليل، والجمع سرج، والمسرجة: التي فيها الفتيل. وقد أسرجت السراج إسراجا. والمسرجة بالفتح: التي يجعل عليها المسرجة. والشمس سراج النهار، والمسرجة بالفتح: التي توضع فيها الفتيلة والدهن.
وفي الحديث: عمر سراج أهل الجنة، قيل: أراد أن الأربعين الذين تموا بعمر كلهم من أهل الجنة، وعمر فيها بينهم كالسراج، لأنهم اشتدوا بإسلامه وظهروا للناس، وأظهروا إسلامهم بعد أن كانوا مختفين خائفين، كما أنه بضوء السراج يهتدى الماشي، والسراج:
الشمس. وفي التنزيل وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً وقوله عز وجل: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً إنما يريد مثل السراج الّذي يستضاء به، أو مثل الشمس في النور والظهور.
والهدى: سراج المؤمن، على التشبيه. التهذيب: قوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً قال الزجاج: أي وكتابا بينا، المعنى أرسلناك شاهدا، وذا سراج منير أي وذا كتاب منير تبين، وإن شئت كان وسراجا منصوبا على معنى داعيا إلى اللَّه وتاليا كتابا بينا، قال الزهري: وإن جعلت سراجا نعتا للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم وكان حسنا، ويكون معناه هاديا كأنه سراج يهتدى به في الظلم وأسرج السراج: أوقده، وسرج اللَّه وجهه وبهجة أي حسنة. (لسان العرب) :
2/ 297- 298.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 2/ 683، ترجمة رقم (1131) ، وقال الحافظ في (الإصابة) : أخبرنى عبد العزيز بن أبى الحسن القرميسيني، حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب، كذا حدثنا سلامة ابن سعيد الداريّ، حدثني أبو حامد يزيد بن العباس بن حكيم بن خيار، فذكر النسب مثله إلى سراج، حدثني أبى عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن جده- كذا فيه مرتين- عن أبيه على ابن مجاهد، عن جده مجاهد، عن أبيه سراج سادن بيت المقدس، وكان اسمه فتحا- كذا(10/142)
بتميم، وروى عنه في تحريم الخمر،
وأنه أسرج في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالقنديل، والزيت، وكانوا لا يسرجون قبل ذلك الا بسعف النخل فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من أسرج مسجدنا؟ فقال تميم: غلامي هذا، فقال: ما اسمه فقال:
فتح، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: اسمه سراج،
قال: فسماني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سراجا.
فصل في ذكر تخليق المسجد في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
الخلاق ضرب من الطيب وقيل: الزعفران وقد تخلق وخلقة وخلقت المرأة جسمها طلته بالخلوق [ (1) ] .
خرج قاسم بن أصبغ من حديث معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عمر بن سليم قال: حدثني أبو الوليد قال: قلت لابن عمر ما كان يدهن هذا الزعفران في المسجد، قال: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فرأى نخامة في قبلة المسجد فقال غير هذا كان أجزى، فسمع ذلك، قال: هذا أحسن من الأول
فقال فصنعه الناس.
وخرجه عمر بن شبة بهذا السند، ولفظه: قلت لابن عمر ما له والزعفران في المسجد؟ فقال: ما أقبح هذا من فعل، فجاء صاحبها فحكها وطلاها بزعفران، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هذا أحسن من ذلك.
__________
[ () ] بخطه بمثناة من فوق ساكنة ثم حاء مهملة
- قال: قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن خمسة غلمان لتميم الداريّ معه وكانت تجارتهم الخمر، فلما نزل تحريم الخمر على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أمرنى فشققتها، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لتميم: يعنى غلمانك لأعتقهم، فقال له تميم: قد أعتقتهم يا رسول اللَّه.
(الاصابة) : 3/ 38، ترجمة رقم (3105) .
[ (1) ] والخلوق والخلاق: ضرب من الطيب، وقيل الزعفران.
وقد تخلق وخلقته: طليته بالخلوق. وخلقت المرأة جسمها: طلته بالخلوق، وقد تخلقت المرأة بالخلوق، والخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة، وقد ورد تارة بإباحته وتارة بالنهى عنه، والنهى أكثر وأثبت، وإنما نهى لأنه من طيب النساء، وهن أكثر استعمالا له منهم، قال ابن الأثير: والظاهر أن أحاديث النهى ناسخة.(10/143)
وخرج من حديث شجاع بن الوليد، فسألت عن محارب بن دثار عن أبى بن كعب قال: أبصر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في حائط المسجد بزاقا فحكه على خرقة، فأخرجه من المسجد وجعل مكانه شيء من طيب أو زعفران، أو ورس.
من حديث الحكم بن سليم عن أيوب بن سليمان بن يسار، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رأى نخامة في جدار المسجد فحكها، وخلق مكانها [ (1) ] .
فصل في ذكر اعتكاف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: عكف يعتكف وتعكف عكفا وعكوفا واعتكف لزم المكان والعكوف الإقامة في المسجد [ (2) ] .
فخرج البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ] وأبو داود [ (5) ] من حديث نافع عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللَّه عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
__________
[ (1) ] ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري من حديث سفيان عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبى سعيد: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة. الحديث، ذكره في كتاب الصلاة، باب (36) حديث رقم (414) .
[ (2) ] قال في (اللسان) : عكف على الشيء يعكف ويعكف عكفا وعكوفا: أقبل عليه مواظبا لا يعرف لا يصرف عنه وجهه، وقيل: أقام، ومنه قوله تعالى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يقيمون، ومنه قوله تعالى ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً أي مقيما. والعكوف: الإقامة في المسجد قال اللَّه تعالى وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قال المفسرون وغيرهم من أهل اللغة:
عاكفون مقيمون في المساجد لا يخرجون منها إلا لحاجة الإنسان يصلى فيه ويقرأ القرآن.
ويقال لازم المسجد وأقام العبادة فيه عاكف ومعتكف. والاعتكاف والعكوف الإقامة على الشيء وبالمكان ولزومها؟. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه كان يعتكف في المسجد.
(لسان العرب) : 9/ 255.(10/144)
وقال أبو داود: حتى قبضه اللَّه: وخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث معمر عن الزهري عن أبى هريرة عن عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها. قال أبو عيسى حديث أبى هريرة وعائشة رضى اللَّه عنها حديث حسن صحيح.
وخرج البخاري ومسلم من حديث مسروق عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ [أهله] وجد وشد المئزر.
وخرجه أبو بكر بن أبى شيبة [ (2) ] من حديث أبى بكر بن عياش عن أبى إسحاق عن هبيرة بن بريم عن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل العشر أيقظ أهله، ورفع المئزر قيل لأبى بكر بن عياش: ما رفع المئزر؟ قال: اعتزال النساء.
__________
[ () ] (3) (فتح الباري) : 4/ 341، كتاب الاعتكاف، بابا (1) ، الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها، لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187] ، حديث رقم (2026) لكن من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن عروة بن الزهير، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 317، كتاب الاعتكاف، باب (1) ، الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، حديث رقم (5) .
[ (5) ] (سنن أبى داود) : 2/ 829، كتاب الصوم، باب (77) الاعتكاف حديث رقم (2462) .
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 3/ 157، كتاب الصوم، باب (71) ما جاء في الاعتكاف، حديث رقم (790) ، ثم قال: وفي الباب، عن أبى بن كعب، وأبى ليلى، وأبى سعيد، وأنس، وابن عمر. قال أبو عيسى حديث أبو هريرة وعائشة حديث حسن صحيح.
[ (2) ] (مصنف ابن شيبة) : 2/ 327، كتاب الصيام، باب (75) من كان يجتهد إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، حديث رقم (9544) .(10/145)
وأخرجه الترمذي [ (1) ] ، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن هبيرة، عن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج البخاري [ (2) ] ، وأبو داود [ (3) ] ، النسائي [ (4) ] من حديث أبى حصين، عن أبى صالح، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 3/ 61، كتاب الصوم، باب (73) ، بدون ترجمة حديث رقم (795) ، وقال: هذا حديث صحيح، وقال: محققه لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 358، كتاب الاعتكاف، باب (17) الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان، حديث رقم (2044) .
قوله: (باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان) كأنه أشار بذلك إلى أن الاعتكاف لا يختص بالعشر الأخير وإن كان الاعتكاف فيه أفضل.
قوله: (يعتكف في كل رمضان عشرة أيام) في رواية يحيى بن آدم عن أبى بكر بن عياش عند النسائي «يعتكف العشر الأواخر من رمضان» قال ابن بطال: مواظبته صلى اللَّه عليه وسلّم الاعتكاف تدل على أنه من السنن المؤكدة، وقد روى ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول:
عجبا للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضة اللَّه.
وقد تقدم قول مالك إنه لم يعلم أن أحدا من السلف اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن، وإن تركهم لذلك لما فيه من الشدة.
قوله: (فلما كان العام الّذي قبض فيه اعتكف عشرين) قيل: السبب في ذلك أنه صلى اللَّه عليه وسلّم علم بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من اعمال الخير ليبين لأمته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا اللَّه على خير أحوالهم، وقيل: السبب فيه أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة، فلما كان العام الّذي قبض فيه عارضه به مرتين فلذلك اعتكف قدر ما يعتكف مرتين.
ويؤيده أن عند ابن ماجة عن هناد عن أبى بكر بن عياش في آخر حديث الباب متصلا به «وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الّذي قبض فيه عرضه عليه مرتين «وقال ابن العربيّ: يحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه واعتكف بدله عشرا من شوال اعتكف في العام الّذي يليه عشرين(10/146)
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الّذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما.
ترجم عليه البخاري في العشر الأوسط من رمضان، وخرجه في كتاب (فضائل القرآن) ، ولفظه فيه: كان يعرض على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الّذي قبض صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان يعتكف في كل عام عشرة، واعتكف عشرين في العام الّذي قبض فيه صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] ليتحقق قضاء العشر في رمضان. وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين لأنه كان العام الّذي قبله مسافرا، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبى بن كعب «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عاما فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين» ويحتمل تعدد هذه القصة بتعدد السبب فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السفر ومرة بسبب عرض القرآن مرتين.
وأما مطابقة الحديث للترجمة فإن الظاهر بإطلاق العشرين أنها متوالية فيتعين لذلك العشر الأوسط أو أنه حمل المطلق في هذه الرواية على المقيد في الروايات الأخرى.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 2/ 830، كتاب الصوم، باب (77) الاعتكاف، حديث رقم (2463) ، قال: الخطابي: في (معالم السنن) فيه من الفقه أن النوافل المعتادة تقضى إذا فاتت كما تقضى الفرائض، ومن هذا قضاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعد العصر الركعتين اللتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم.
وفيه مستدل لمن أجاز الاعتكاف بغير صوم ينشنه له، وذلك أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر الوقت مستحق له.
وقد اختلف الناس في هذا، فقال الحسن البصري: إن اعتكف من غير صيام اجزأه، وإليه ذهب الشافعيّ. وروى عن على وابن مسعود أنهما قالا: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقال الأوزاعي ومالك: لا اعتكاف إلا بصوم، وهو منذهب أصحاب الرأى، وروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير.
[ (4) ] لم أجده في (المجتبى) ولعله في (الكبرى) .(10/147)
وللنسائى [ (1) ] والإمام أحمد [ (2) ] من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبى رافع، عن أبى بن كعب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يعتكف العشرة من رمضان فسافر عاما ولم يعتكف فلما كان قابل اعتكف عشرين ليلة.
وللبخاريّ [ (3) ] من حديث مالك عن يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: من اعتكف معى فليعتكف العشر الأواخر، فتدرست هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، تلتمسه في العشر الأواخر، التمسوها في كل وتر، فمطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على جبهته أثر الماء والطين من صبح واحد وعشرين.
وذكره في باب الاعتكاف في العشر الأواخر وذكره في باب تحرى ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من حديث بن أبى حازم والدراوَرْديّ، عن يزيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسى من عشرين ليلة تمضى، ويستقبل إحدى
__________
[ (1) ] لم أجده في (المجتبى) ولعله في (الكبرى) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 241، حديث رقم (24827) ، 7/ 242، حديث رقم (24830) ، كلاهما من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، لكن باختلاف في السند واللفظ.
[ (3) ] (فتح الباري) : 4/ 355- 356، كتاب الاعتكاف، باب (13) من خرج من اعتكافه عند الصبح حديث رقم (2040) ، (المرجع السابق) ، كتاب الاعتكاف، باب (1) الاعتكاف في العشر الأواخر، حديث رقم (2027) .(10/148)
وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها،
فخطب الناس، فأمرهم بما شاء اللَّه، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معى فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، ابتغوها في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين. فاستهلت السماء ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني، فنظرت إليه من الصبح، ووجهه ممتلئ طينا وماء.
وللبخاريّ [ (1) ] من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الّذي أراد أن يعتكف فيه، إذا أخبية: خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب! فقال:
ألبر تقولون؟
ثم انصرف ولم يعتكف ولم يعتكف، حتى اعتكف عشرا من شوال. ترجم عليه باب الأخبية في المسجد.
وذكره في باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج [ (2) ] ، من حديث الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن سعيد، قال: حدثني عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فأستأذنته عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها فأذن لها وسألت حفصة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبنى لها قالت: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فأبصر الأبنية فقال: ما هذا؟
قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ألبر أردن بهذا؟ ما أنا بمعتكف. فرجع. فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 349، كتاب الاعتكاف، باب (7) الأخبية في المسجد، حديث رقم (2034) .
[ (2) ] (المرجع السابق) باب (18) من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج، حديث رقم: (2045) .(10/149)
ذكره في باب اعتكاف النساء [ (1) ] وفي باب الاعتكاف في شوال [ (2) ] ، بألفاظ متغايرة.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) باب (6) اعتكاف النساء، حديث رقم (2033) ، وفي الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها، وفيه جواز ضرب الأخبية في المسجد، وأن الأفضل للنساء أن لا يعتكفن في المسجد، وفيه جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وأنه لا يلزم بالنية ولا بشروع فيه، ويستنبط منه سائر التطوعات لمن قال باللزوم، وفيه أن أول الوقت الّذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح وهو قول الأوزاعي، والليث، والثوري، وقالت الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبل غروب الشمس، وأدلوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الّذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح، وهذا الجواب يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها وأجاب عن الحديث بأنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف وإنما هم به ثم عرض له المانع المذكور فتركه، فعلى هذا فاللازم أحد الأمرين إما أن يكون شرع في الاعتكاف فيدخل على جواز الخروج منه، وإما أن لا يكون شرع فيدل على أن أول وقته بعد صلاة الصبح وفيه أن المسجد شرط للاعتكاف لأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت فلو لم يكن المسجد شرطا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع ولاكتفى لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن: وقال إبراهيم بن علية: في قوله (ألبر تردن) دلالة على أنه ليس لهن الاعتكاف في المسجد، إذ مفهومه أنه ليس يبر لهن، وما قاله ليس بواضح، وفيه شؤم الغيرة لأنها ناشئة عن الحسد المفضي إلى ترك الأفضل لأجله، وفيه ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة، وأن خشي على عمله الرياء فله تركه وقطعه، وفيه أن الاعتكاف لا يجب بالنية، وأما قضاؤه صلى اللَّه عليه وسلّم له فعلى طريق الاستحباب لأنه كان إذا عمل عملا أثبته ولهذا لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال، وفيه أن المرأة إذا اعتكفت في المسجد استحب لها أن تجعل لها ما يسترها، ويشترط أن تكون إقامتها في موضع لا يضيق على المصلين وفي الحديث بيانه مرتبة عائشة في كون حفصة لم تستأذن إلا بواسطتها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك كونه كان تلك الليلة في بيت عائشة.
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (14) الاعتكاف في شوال، حديث رقم (2041) .(10/150)
ذكر مسلم [ (1) ] من حديث أبى معاوية، عن يحى بن سعيد، العمرة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، ومن حديث سفيان وعمرو بن الحارث، والأوزاعي، وابن إسحاق، كلهم عن يحى عن عمرة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وفي حديث سفيان بن عيينة وعمر بن الحارث وابن إسحاق، ذكر عائشة وحفصة وزينب أنهن ضربن الأخبية للاعتكاف.
وخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث أبى اليمان عن شعيب عن الزهري قال: أخبرنى على بن الحسين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: «أن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 317- 318، كتاب الاعتكاف، باب (2) متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه، حديث رقم (6) ، وفيه دليل على جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعا من المسجد ينفرد مدة اعتكافه، ولم يضيق على الناس، وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه لئلا يضيق على غيره وليكون أخلى له وأكمل في انفراده (شرح النووي) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 349- 350، كتاب الاعتكاف باب (8) هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟، حديث رقم (2035) .
وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف، وبيان شفقته صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته وإرشادهم إلى ما بدفع عنهم الإثم. وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيا نفيا لتهمة. ومن هذا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرب بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصنف واللَّه اعلم. وفيه إضافة بيوت أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إليهن، وفيه جواز خروج المرأة ليلا، وفيه قول (سبحان اللَّه) عند التعجب، وقد وقعت في الحديث لتعظيم الأمر وتهويله وللحياء من ذكره كما في حديث أم سليم، واستدل به لأبى يوسف ومحمد في جواز تمادى المعتكف إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته وأقام زمنا يسيرا زائدا عن الحاجة ما لم يستفرق أكثر اليوم، ولا دلالة فيه لأنه لم يثبت أن(10/151)
صفية زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أخبرنه أنها جاءت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوره في اعتكافه
__________
[ () ] منزل صفية كان السير بينه وبين المسجد فاضل زائد، وقد حد بعضهم السير بنصف يوم وليس في الخبر ما يدل عليه.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 406- 407، كتاب السلام، باب (9) أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة، وكانت زوجة أو محرما له، أن يقول: هذه فلانة، ليدفع ظن السوء به، حديث رقم (24) . في هذا الحديث فوائد، منها: بيان كمال شفقته صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته، ومراعاة مصالحهم، وصيانة قلوبهم، وجوارحهم، وكان بالمؤمنين رحيما، فخاف صلى اللَّه عليه وسلّم أن يلقى الشيطان في قلوبهما فيهلكا فان ظن السوء بالأنبياء كفر بالإجماع والكبائر غير جائزة عليهم، وفيه أن من ظن شيئا من نحو هذا بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم كفر وفيه جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل أو نهار وأنه لا يضر اعتكافه لكن يكره الإكثار من مجالستها والاستلذاذ بحديثها لئلا يكون ذريعة إلى الوقاع أو إلى القبلة أو نحوها مما يفسد الاعتكاف وفيه استجاب التحرز من التعريض لسوء ظن الناس في الناس وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يبين حاله ليدفع ظن السوء وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان فإنه يجرى من الإنسان مجرى الدم فيتأهب الإنسان إلى الاحتراز من وساوسه وشره واللَّه أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم (إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم)
قال القاضي وغيره: قيل هو على ظاهره وأن اللَّه تعالى جعل له وقدرة على الجرى في باطن الإنسان مجاري دمه وقيل هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه وقيل: يلقى وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب. واللَّه أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم يا فلان هذه زوجتي
فلانة هكذا هو جميع النسخ بالتاء قبل الياء وهي لغة صحيحة وإن كان الأشهر حذفها وبالحذف جاءت آيات القرآن والإثبات كثير أيضا. قولها معى يقلبنى هو بفتح الياء أي ليردنى إلى منزلي فيه جواز تمشى المعتكف معها ما لم يخرج من المسجد وليس في الحديث أنه خرج من المسجد.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم على رسلكما
هو بكسر الراء وفتحها لغتان والكسر أفصح وأشهر أي على هيئتكما في المشي فما هنا شيء تكرهانه قوله: فقال سبحان اللَّه فيه جواز التسبيح للشيء وتعجبا منه كثر في الأحاديث وجاء به القرآن في قوله تعالى لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ.(10/152)
في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى اللَّه عليه وسلّم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال لهما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي. فقال: سبحان اللَّه يا رسول اللَّه، وكبر عليهما، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا، اللفظ للبخاريّ، ذكره في باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟ وذكره مسلم في كتاب السلام، وذكره البخاري أيضا في كتاب فرض الخمس [ (1) ] ، وفي كتاب الأدب في باب التكبير والتسبيح عند التعجب [ (2) ] وفي باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه [ (3) ] بألفاظ متقاربة.
والبخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث الليث عن ابن شهاب عن عروة، وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: إن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 258- 259، كتاب فرض الخمس، باب (4) ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وما نسب من البيوت إلهين، حديث رقم (3101) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 730، كتاب الأدب، باب (121) التكبير والتسبيح عند التعجب، حديث رقم (6219) .
قال ابن بطال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم اللَّه وتنزيهه من السوء واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن، وفيه تمرين للسان على ذكر اللَّه تعالى، وهذا توجيه جيد، كأن البخاري رمز إلى الرد على من منع ذلك. وذكر المصنف فيه حديث صفية بنت حيي في قصة الرجلين اللذين
قال لهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان اللَّه.
(فتح الباري) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 4/ 354، كتاب الاعتكاف، باب (11) زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، حديث رقم (2038) .
أخرجه أيضا في كتاب بدء الخلق، باب (11) صفة اباليس وجنوده، حديث رقم (3281) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 4/ 344، كتاب الاعتكاف، باب (3) لا يدخل البيت إلا لحاجة، حديث رقم (2029) .(10/153)
كنت لأدخل البيت والمريض فيه فما أسال عنه إلا وأنا مارة وإن كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليدخل عليّ رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إلا إذا كان معتكفا. وفي لفظ مسلم: «إذا كانوا معتكفين» .
وذكره أبو داود [ (1) ] من حديث مالك عن ابن شهاب إلى آخره، وذكره بعده من حديث الليث عن ابن شهاب وعروة عن عمرة، عن عائشة رضى اللَّه
__________
[ () ] قوله: (وكان لا يدخل البيت إلا حاجة) زاد مسلم إلا حاجة الإنسان وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل. ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه، ووقع عند أبى داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه» قال أبو داود غير عبد الرحمن لا يقول فيه البتة، وجزم الدارقطنيّ بأن القدر الّذي من حديث عائشة قولها: «لا يخرج إلا لحاجة» وما عداه ممن دونها، وروينا عن عليّ والنخعىّ والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون وابن المنذر في الجمعة، وقال الثوري والشافعيّ وإسحاق إن شرط شيئا من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله وهو رواية عن أحمد.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 212- 213: كتاب الحيض باب (3) جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه، حديث رقم (7) ، وفيه أن المعتكف إذا خرج بعضه من المسجد، كيده ورجله ورأسه، لم يبطل اعتكافه، وإن حلف أن لا يدخل دارا أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعضه لا يحنث، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وفيه جواز استخدام الزوجة في الغسل والطبخ وغيرها برضاها، وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة، وعمل السلف، وإجماع الأمة. وأما بغير رضاها فلا يجوز، لأن الواجب عليها تمكين الزوج من نفسها، وملازمة بيته فقط، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 2/ 832- 833، كتاب الصوم، باب (79) المعتكف يدخل البيت لحاجة، حديث رقم (2467) . قال الخطابي: فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لغائط أو بول، فإن دخله لغيرهما من طعام وشراب فسد اعتكافه.(10/154)
تبارك وتعالى عنها، نحوه [ (1) ] ثم قال: وكذلك رواه يونس عن الزهري، ولم يتابع [أحد] مالكا على عروة، عن عمر. ورواه معمر وزياد بن سعد [وغيرهما عن الزهري، عن عروة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها] .
وخرج الترمذي [ (2) ] عن حديث مالك عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أنها قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا
__________
[ () ] وقد اختلف الناس في ذلك، فقال أبو ثور: لا يخرج إلا لحاجة الوضوء الّذي لا بد منه.
وقال إسحاق بن راهويه: لا يخرج لغائط أو بول، غير أنه بين الواجب من الاعتكاف والتطوع وقال في الواجب: لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة. وفي التطوع: يشترط ذلك حين يبتدئ وقال الأوزاعي: لا يكون في الاعتكاف شرط. وقال أصحاب الرأى: ليس ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد لحاجة ما، خلا الجمعة، والغائط، والبول فأما ما سوى ذلك من عيادة مريض، وشهود جنازة، فلا يخرج له.
وقال مالك والشافعيّ: لا يخرج المعتكف في عيادة مريض، ولا شهود جنازة، وهو قول عطاء ومجتهد. وقالت طائفة: للمعتكف أن يشهد الجمعة، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، روى ذلك عن عليّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو قول سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي. (معالم السنن) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2468) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 167، كتاب الصوم، باب (80) المعتكف يخرج لحاجته أم لا؟ حديث رقم (804) ، حديث رقم (805) ، ثم قال بعده: ثم اختلف أهل العلم في عيادة المريض وشهود الجمعة والجنازة للمعتكف. فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وغيرهم، أن يعود المريض ويشيع الجنازة وابن المبارك الجمعة إذا اشترط ذلك. وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك. وقال بعضهم: ليس أن يفعل شيئا من هذا. ورأوا للمعتكف. إذا كان في مصر يجمع فيه، أن يعتكف إلا في مسجد الجامع. لأنهم كرهوا الخروج له من معتكفه إلى الجمعة.
ولم يروا له أن يترك الجمعة فقالوا: لا يعتكف إلا في مسجد الجامع. حتى لا يحتاج أن يخرج من معتكفه لغير قضاء حاجة الإنسان. لأن خروجه لغير حاجة الإنسان، قطع عندهم للاعتكاف، وهو قول مالك والشافعيّ.(10/155)
اعتكف أدنى إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، هكذا رواه غير واحد عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
وللنسائى [ (1) ] من حديث سفيان بن حسن عن الزهري عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم معتكفا، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة لا بد منها وغسلت رأسه وإن بيني وبينه عتبة الباب.
قال أبو عبد الرحمن: سفيان بن حسين [ (2) ] لا بأس به في غير الزهري وليس هو في الزهري بالقوى، ونظيره في الزهري، سليمان بن كثير، وجعفر من برقاء وليس بهما بأس في غير الزهري.
وله من حديث الأوزاعي عن حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يأتينى وهو معتكف في المسجد ويتكأ على عتبة باب حجرتي وأنا في حجرتي وسائره إلى المسجد.
وذكر القاضي عياض عن ابن المنذر قال: إن أنس بن مالك كان له موضع في المسجد، قال: وهو مكان عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو الموضع الّذي كان يوضع فيه سرير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا اعتكف.
__________
[ () ] وقال أحمد: لا يعود المريض ولا يتبع الجنازة، على حديث عائشة. وقال إسحاق: إن اشترط ذلك، فله أن يتبع الجنازة ويعود المريض.
[ (1) ] (سنن النسائي) : 1/ 162، كتاب الطهارة، باب (176) غسل الحائض رأس زوجها، حديث رقم (275) وباب (20) ترجيل الحائض رأس زوجها وهو معتكف في المسجد، حديث رقم (384) ، وباب (21) غسل الحائض رأس زوجها، حديث رقم (385) ، حديث رقم (286) ، وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : 1/ 208، كتاب الطهارة وسننها، باب (120) الحائض تتناول الشيء من المسجد، حديث رقم (633) .
[ (2) ] له ترجمة في (تهذيب التهذيب) 4/ 96.(10/156)
قال المؤلف: خرج ابن زيالة في (تاريخ المدينة) : فقال: حدثني عبد العزيز بن محمد عن عيسى بن موسى بن عبيد اللَّه بن معمر، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، كان إذا اعتكف يطرح فراشه ويوضع له سرير وراء أسطوانة.
وفي (معجم الطبراني) عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: إن ذلك مما يلي القبلة يستند إليها. كذا ذكره القاضي.
وخرج ابن زبالة من حديث عبد العزيز، عن حسين بن مصعب، عن محمد بن أيوب، قال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان له سرير من جريد فيه سعفة يوضع فيما بين الأسطوانة التي وجاه القبر وبين القناديل، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يضطجع عليه.
فصل في ذكر أصحاب الصفة في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
الصفة: المظلة، وصفة البنيان طرته [ (1) ] . اعلم أن أهل الصفة كانوا قوما فقراء لا أهل لهم ولا مال، تكون إقامتهم بمسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهم أضياف الإسلام، فإذا أتت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هديه أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، وكانوا في صفة يأوون إليها في المسجد.
__________
[ (1) ] قال في (اللسان) : الصفة من البنيان شبه البهو الواسع الطويل السمك، وفي الحديث ذكر أهل الصفة، قال: هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. وهو موضع مظلل من المسجد كان يأوى إليه المساكين. (لسان العرب) : 9/ 195.(10/157)
خرج الحاكم [ (1) ] من حديث مالك بن مغول، عن فضيل بن غزوان عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لقد كان أصحاب الصفة سبعين رجلا ما لهم أردية. قال الحاكم هذا حديث على شرط الشيخين.
وخرج الترمذي [ (2) ] من حديث حيوة بن شريح، أخبرنى أبو هاني الخولانيّ في أن على عمرو بن مالك الجينى أخبره عن فضالة بن عبيد أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين أو مجانون، فإذا صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم انصرف إليهم فقال: لو تعلمون ما لكم عند اللَّه لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة،
قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
وخرج بقي بن مخلد من حديث وهب بن بقية قال: أنبأنا خالد، عن داود، عن أبى حرب، عن طلحة بن عبد اللَّه، قال: كان الرجل منا إذا إذا قدم المدينة فكان له بها عريف نزل على عريفه وإن لم يكن له بها عريف نزل الصفة فقدمت فنزلت الصفة فكان يجرى علينا من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كل يوم مدين تمر بين اثنين ويسكونا الخنف فصلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعض صلاة النهار فلما سلم ناداه أهل الصفة يمينا وشمالا يا رسول اللَّه أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الخنف فمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى منبره فصعده فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم ذكر
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 18، كتاب الهجرة، حديث رقم (4292) ، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط البخاري ومسلم، قال الحاكم: تأملت هذه الأخبار الواردة في أهل الصفة فوجدتهم من أكابر الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم ورعا وتوكلا على اللَّه عز وجل وملازمة لخدمة اللَّه ورسوله صلى اللَّه عليه وسلّم اختار اللَّه تعالى لهم ما اختاره لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم من المسكنة والفقر والتضرع لعبادة اللَّه عز وجل وترك الدنيا لأهلها وهم الطائفة المنتمية إليهم الصوفية قرنا بعد قرن فمن جرى على سنتهم وصبرهم على ترك الدنيا والأنس بالفقر وترك التعرض للسؤال فهم كل عصر بأهل الصفة مقتدون وعلى خالقهم متوكلون.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 504، كتاب الزهد، باب (39) ، ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2868) .(10/158)
الشدة ما لقي من قومه حتى قال ولقد أتى على وعلى صاحبي بضع عشرة وما لي طعام إلا البرير قال: قلت لأبى حرب وأي شيء البرير قال: طعام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ثمر الأراك فقمنا على إخواننا هؤلاء الأنصار وعظم طعامهم التمر فواسونا فيه واللَّه لو أجد لكم الخبز واللحم لأشبعتكم منه ولكن عسى أن تدركوا زمانا حتى يغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى قال: فقالوا: يا رسول اللَّه أنحن اليوم خبر أم اليوم؟ قال: بل أنتم اليوم خير أنتم اليوم متحابون وأنتم يومئذ بعضكم يضرب رقاب بعض أراه قال: متباغضون.
[هذا لفظ حديث أبى سهل القطان وحديث يحيى بن يحيى على الاختصار] ثم قال: هذا حديث الإسناد ولم يخرجاه.
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث صحيح على بن مسهر، عن داود بن أبى هندية نحوه أو قريبا منه، وقال صحيح الإسناد.
وللبخاريّ [ (2) ] من حديث أبى حازم، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وذكره في باب نوم الرجال في المسجد.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 16- 17، كتاب الهجرة، حديث رقم (4290) قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في التخليص صحيح، سمعه جماعة من داود، وهو في (مسند أحمد) : 7/ 32، حديث رقم (23420) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 705، كتاب الصلاة، باب (58) نوم الرجال في المسجد، حديث رقم (442) . قوله: (لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة) يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبى هريرة، وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي والسلمي والحاكم وابو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة، ولكن لا يسع هذا المختصر تفصيل ذلك.(10/159)
وقال هشام بن عمار: أن صدقة القرشي، عن زيد بن واقد، عن بشر ابن عبد اللَّه، عن واثلة بن الأسقع، قال: كنت من أصحاب الصفة وما منا إنسان يجد ثوبا إلا ما قد جعل الغبار والعرق في جلودنا طرقا.
وقال سيف، عن محمد، عن عطاء، قال: كان أصحاب الصفة أضياف المسلمين، وكان صفة المسجد مثواهم، فمات النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهي منزلهم، فإذاهم أحد من المسلمين لهم بخير أتاهم به أو ذهب بعضهم [إليه] .
***(10/160)
فصل في ذكر نوم المرأة في المسجد ولبث المريض وغيره بمسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وضرب الخيمة ونحوها فيه على عهده صلى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري [ (1) ] من حديث أبى أسامة، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور.
قالت: فوضعته- أو وقع منها- فمرت به حدياة وهو ملقى، فحسبته لحما فخطفته. قالت: فالتمسوه فلم يجدوه. قالت فاتهمونى به. قالت فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قلبها. قالت: واللَّه إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته، قالت:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 37، كتاب الصلاة، باب (57) نوم المرأة في المسجد، حديث رقم (439) قوله: (باب نوم المرأة في المسجد) أي إقامتها فيه.
قوله: (حدياة) بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء التحتانية تصغير حدأة بالهمز بوزن عتبة، ويجوز فتح أوله. وهي الطائر المعروف المأذون في قتله في الحل والحرم، والأصل في تصغيرها حدياة بسكون الياء وفتح الهمزة لكن سهلت الهمزة وأدغمت ثم أشبعت الفتحة فصارت ألفا، وتسمى أيضا الحدى بضم أوله وتشديد الدال مقصور، ويقال أيضا الحدو بكسر أوله وفتح الدال الخفيفة وسكون الواو وجمعها حدا كالمفرد بلا هاء، وربما قالوه بالمد.
قوله: (حتى فتشوا قبلها) كأنه من كلام عائشة، وإلا فمقتضى السياق أن تقول (قبلي) وكذا هو في رواية المصنف في أيام الجاهلية من رواية على بن مسهر عن هشام، فالظاهر أنه من كلام الوليدة. أوردته بلفظ الغيبة التفاتا أو تجريدا، وزاد فيه ثابت أيضا «قالت: فدعوت اللَّه أن يبرئنى فجاءت الحديا وهم ينظرون، وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلا كان أو امرأة عند أمن الفتنة، وإباحة استظلاله فيه بالخيمة ونحوها، وفيه الخروج من البلد الّذي يحصل للمرأة فيه المحنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير له كما وقع لهذه. وفيه فضل الهجرة من دار الكفر، وإجابة دعوة المظلوم ولو كان كافرا لأن في السياق أن إسلامها كان يعد قدموها بالمدينة. واللَّه أعلم.(10/161)
فوقع بينهم، قالت فقلت: هذا الّذي به زعمتم، وأنا منه بريئة وهو ذا هو.
قالت: فجاءت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت. قالت عائشة: رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: فكان له خباء في المسجد، أو حفش، قالت: فكانت تأتينني فتحدث عندي. قالت فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا إلا أنه من بلدة الكفر أنجانى قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: فقلت لها ما شأنك لا تقعدين معى مقعدا إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثني بهذا الحديث. ذكره في الصلاة وترجم عليه نوم المرأة في المسجد، وذكره في أيام الجاهلية [ (1) ] .
وخرج من حديث عبد اللَّه قال: حدثني نافع عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له، في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. ترجم عليه باب نوم الرجال في المسجد [ (2) ] . وقال أبو قلابة عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: قدم رهط من عقل على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فكانوا في الصفة فقراء. وقال عبد الرحمن بن أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: كانوا أصحاب الصفة فقراء.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 187، كتاب مناقب الأنصار، باب (26) أيام الجاهلية، حديث رقم (3835) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 704- 705، كتاب الصلاة، باب (58) نوم الرجال في المسجد، حديث رقم (44) .
قوله: (باب نوم الرجال في المسجد) أي جواز ذلك، وهو قول الجمهور، وروى عن ابن عباس كراهيته إلا لمن يريد الصلاة، وعن ابن مسعود مطلقا، وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح.
قوله: (أعزب) بالمهملة والزاى أي غير متزوج. والمشهور فيه عزب بفتح العين وكسر الزاى، والأول لغة قليلة مع أن القزاز أنكرها.
وقوله: (لا أهل له) هو تفسير لقوله أعزب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص فيدخل فيه الأقارب ونحوهم. وقوله: (في مسجد) متعلق بقوله ينام.(10/162)
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم قول ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: وكنت غلاما شابا عزبا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من حديث معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. وذكره في كتاب التعبير مطولا.
وخرجه بقي بن مخلد ولفظه: عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: كنا في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ننام في المسجد ونقيل فيه ونحن شباب.
وفي رواية له قال: كنا ونحن شباب نبيت في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونقيل في المسجد.
وخرج البخاري [ (2) ] من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: أصيب سعد في يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بنى غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الّذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما، فمات فيها. ترجم عليه باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم.
وأخرج مسلم [ (3) ] هذا الحديث من هذه الطريق، وكرره في المغازي وذكره ابن إسحاق أن المرأة التي مرض سعد في خيمتها اسمها رفيدة [ (4) ] ، وهي من أسلم، ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابة [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 518، كتاب التعبير، باب (36) الأخذ على اليمين في النوم، حديث رقم (7030) ، والعزب بفتح المهملة والزاى ثم موحدة: من لا زوجة له، ويقال له الأعزب بقلة في الاستعمال.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 722، كتاب الصلاة، باب (77) الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، حديث رقم (463) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 523، كتاب المغازي، باب (31) مرجع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، حديث رقم (4122) .(10/163)
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث ابن نوير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رواه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة في الأكل فضرب عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خيمة في المسجد ليعوده من قريب.
وقال ابن حزم وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد جعل سعد بن معاذ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في خيمة في المسجد يسكنها، وهذه الأسلمية كانت امرأة صالحة تقوم على المرضى وتداوى الجرحى ليعوده صلى اللَّه عليه وسلّم من قريب.
__________
[ () ] (4) قال ابن إسحاق: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوى الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب. (سيرة ابن هشام) : 4/ 198- 199، تحكيم سعد في أمر بنى قريظة.
[ (5) ] هي رفيدة الأنصارية أو الأسلمية.
ذكرها ابن إسحاق في قصة سعد بن معاذ لما أصابه بالخندق، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد حتى أعوده من قريب،
وكانت امرأة تداوى الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين.
وقال البخاري في (الأدب المفرد) : حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: ولما أصيب أكحل سعد يوم الخندق فقيل: خلوّه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوى الجرحى، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟ فيخبره. وأورده في (التاريخ) بقصة وفاة سعد، وسنده صحيح، وأورده المستغفري من طريق البخاري وأبو موسى من طريق المستغفري.
(الإصابة) : 7/ 646، ترجمة رقم (11175) .
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 84، حديث رقم (23773) .(10/164)
وذكر بن إسحاق أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في شهر رمضان مقدمه من تبوك ضرب لهم قبة في ناحية المسجد [ (1) ] .
وذكر ابن زبالة أن سليمان بن عطاء سئل عن النوم في المسجد فقال:
كيف تسألون عن هذا، وقد كان أهل الصفة ينامون في المسجد في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ويظلون فيه وقال أبو نعيم: عن الفضل بن دكين، حدثنا حميد بن عبد اللَّه بن الأصم عن ابنته قالت: قد رأيت فيه قدوم أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قتل الحسين بن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما وعليها خمار أسود.
فصل في ذكر اللعب يوم العيد
في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو صلى اللَّه عليه وسلّم يراهم خرج مسلم [ (2) ] من حديث جرير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: جاء الحبش يزفنون يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فوضعت رأسي على منكبه فجعلت انظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الّذي أنصرف عن النظر إليهم.
__________
[ (1) ] قال ابن إسحاق: ولما قدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده، كما يزعمون. فكان خالد بن سعيد بن العاص، هو الّذي يمشى بينهم وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الّذي كتب كتابهم بيده، وكان لا يطعمون طعاما يأتيهم من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى يأكل منه خالد، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم. (سيرة ابن هشام) :
5/ 225، أمر وفد ثقيف وإسلامها.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 436، كتاب صلاة العيدين، باب (4) الرخصة في اللعب الّذي لا معصية فيه في أيام العيد، حديث رقم (20) .(10/165)
ذكره البخاري [ (1) ] من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: أن أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان- والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم متغش بثوبه- فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنّها أيام عيد. وتلك الأيام أيام منى. وقالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: رأيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يسترني وأنا انظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجهم عمر، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعهم. أمنا بنى أرفدة. يعنى من الأمن. ذكره في آخر العيدين، وفي المناقب، وترجم عليه
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 2/ 602، كتاب العيدين، باب (25) إذا فاته العيد يصلى ركعتين، وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى، قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «هذا عيدنا أهل الإسلام» . وأمر أنس بن مالك مولاه ابن أبى عتبة بالزاوية فجمع أهله وبيته وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم.
وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وقال عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين، حديث رقم (987) و (988) ، قال الحافظ في هذه الترجمة حكمان: مشروعية استدراك صلاة العيد إذا فاتت مع الجماعة سواء كانت بالاضطرار أو بالاختيار، وكونه تقضى ركعتين كأصلها. على خلاف بين أصحاب المذاهب ذكره الحافظى في (الفتح) ، فليراجع هناك.
وذكره في كتاب المناقب باب (15) وقول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «يا بنى أرفدة» حديث رقم (3529) و (3530) ، والحبش هم الحبشة يقال لهم من ولد حبش بن كوش بن حام بن نوح، وهم مجاورون لأهل اليمن يقطع بينهم البحر، وقد غلبوا على اليمن قبل الإسلام وملكوها، وغزا أبرهة من ملوكهم الكعبة ومعه الفيل، وقد ذكر ابن إسحاق قصته مطوله، وأخرجها الحاكم ثم البيهقي من طريق قابوس بن أبى ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس ملخصة، وإلى هذا القدر أشار المصنف بذكرهم في مقدمة السيرة النبويّة واستدل قوم من الصوفية بحديث الباب على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي، وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين، فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو، واللَّه أعلم. (فتح الباري) : 6/ 685- 686، كتاب المناقب، باب (15) قصة الحبش، وقول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم «يا بنى أرفدة» حديث رقم (3529) و (3530) .(10/166)
باب قصة الحبش وقول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يا بنى أرفدة، والإسناد واحد، وذكره في كتاب النكاح [ (1) ] في باب النظر إلى الحبشة ونحوهم من غير ريبة، عن الأوزاعي،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 420- 421، كتاب النكاح، باب (115) نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، حديث رقم (5236) قوله: (باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة) وظاهر الترجمة أن المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف عكسه، وهي مسألة شهيرة، واختلف الترجيح فيها عند الشافعية، وحديث الباب يساعد من أجاز، وقد تقدمت في أبواب العيد جواب النووي عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرة دون البلوغ أو كان قبل الحجاب.
وقواه بقوله في هذه الرواية: «فأقدروا قدر الجارية الحديثة السن» لقد تقدم ما يعكر عليه وأن في بعض طرقه أن ذلك كان بعد قدوم وفد الحبشة وأن قدومهم كان سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشر سنة، فكانت بالغة، وكان ذلك بعد الحجاب، وحجة من منع حديث أم سلمة الحديث المشهور: «أفعمياوان أنتما «وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها وإسناده قوى، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته، والجمع بين الحديثين احتمال تقدم الواقعة أو أن يكون في قصة الحديث الّذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته لكون ابن أم مكتوم كان أعمى فلعله كان منه شيء ينكشف ولا يشعر به، ويقوى الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالي على الجواز فقال: لسنا نقول أن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه بل هو كوجه الأمرد في حق الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإن لم تكن فتنة فلا، إذا لم تزل الرجال على مر الزمان مكشوفو الوجوه والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج.
وأخرجه في كتاب الصلاة، باب (69) أصحاب الحراب في المسجد، وحديث رقم (454) و (455) قوله (باب أصحاب الحراب في المسجد) والمراد جواز دخولهم فيه ونصال حرابهم مشهورة، وأظن المصنف أشار إلى تخصيص الحديث السابق في النهى عن المرور(10/167)
عن الزهري، وذكره في كتاب الصلاة، في باب أصحاب الحراب في المسجد من حديث صالح بن كيسان، عن ابن شهاب.
وخرجه النسائي [ (1) ] من حديث الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: دخل عمر رضى اللَّه
__________
[ () ] في المسجد بالنصل غير مغمود، والفرق بينهما أن التحفظ في هذه الصورة وهي صورة اللعب بالحراب سهل، بخلاف مجرد المرور فإنه قد يقع بغتة فلا يتحفظ منه.
قوله: (لقد رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوما في باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد) فيه جواز ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن أبى الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة: أما القرآن فقوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وأما السنة فحديث
«جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» .
وتعقب بأن الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه، ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ. وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا الحديث، وفي بعضها
أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «دعهم»
واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. وقال المهلب: المسجد موضع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه. وفي الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح، وفي حسن خلقه صلى اللَّه عليه وسلّم مع أهله وكرم معاشرته، وفضل عائشة وعظيم محلها عنده.
قوله: (يسترني بردائه) يدل على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، ويدل على جواز نظر المرأة إلى الرجل. وأجاب بعض من منع بأن عائشة كانت إذ ذاك صغيرة، وفيه نظر لما ذكرنا وادعى بعضهم بحديث «أفعمياوان أنتما» ؟ وهو حديث مختلف في صحته.
[ (1) ] (سنن النسائي) : 3/ 217، كتاب العيدين، باب (35) اللعب في المسجد يوم العيد ونظر النساء إلى ذلك، حديث رقم (1594) .
قال الإمام النووي: فيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد وأنواع البر. وفيه جواز نظر النساء إلى لعب الرجال من غير نظر إلى نفس البدن وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي فإن كان بشهوة(10/168)
تبارك وتعالى عنه والحبشة يلعبون في المسجد، فزجهم عمر، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: دعهم يا عمر، فإنّهم بنو أرفدة. ترجم عليه اللعب في المسجد يوم العيد.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث ابن جريج قال: أخبرنى عطاء قال: أخبرنى عبيد بن عمير قال: أخبرتنى عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أنها قالت:
للاعبين وددت أنى أراهم قالت: فقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقمت على الباب انظر بين أذنيه وعاتقه وهم يلعبون في المسجد. قال عطاء فرس أو حبش. قال: وقال لي ابن أبى عتيق بل حبش.
ولأحمد [ (2) ] من حديث ابن نمير من حديث هشام عن ابنه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في يوم عيد، قالت: فأطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم منكبيه فجعلت انظروا إليهم من فوق عاتقه حتى شيعت ثم انصرفت.
__________
[ () ] فحرام بالاتفاق وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففي جوازه وجهان لأصحابنا أصحهما تحريمه لقوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ.
ولقوله صلى اللَّه عليه وسلّم لأم سلمة وأم حبيبة احتجبا عنه أي عن ابن أم مكتوم فقالتا أنه أعمى لا يبصرنا فقال صلى اللَّه عليه وسلّم أعمياوان أنتما أليس تبصرانه؟ وهو حديث حسن رواه الترمذي
وغيره وقال: هو حديث حسن.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 437، كتاب صلاة العيدين، باب (4) الرخصة في اللعب الّذي لا معصية فيه في أيام العيد، حديث رقم (21) .
قولها (وأنا جارية فاقدروا قدر الجارية العربة حديثة السن) معناه أنها تحب اللهو والتفرج والنظر إلى اللعب حبا بليغا وتحرص على ادامته ما أمكنها ولا تمل ذلك إلا بعذر من تطويل.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم (حسبك) هو استفهام بدليل قولها: قلت: نعم تقديره: حسبك أي هل يكفيك هذا القدر؟ قولها (جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد) على التوثيب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 85، حديث رقم (23775) .(10/169)
فصل في ذكر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم احتجم في مسجده
خرج الإمام أحمد من حديث إسحاق بن عيسى، حدثنا ابن لهيعة قال:
كتبت إلى موسى بن عقبة يخبرني عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم احتجم في المسجد، قلت لابن لهيعة: في مسجد بيته؟ قال: لا، في مسجد الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
فصل في أكله صلى اللَّه عليه وسلّم في المسجد
[فخرج الإمام أحمد من حديث] حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا سليمان بن زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث بن جزء الزبيدي، قال: أكلنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم شواء في المسجد، فأقيمت الصلاة، فأدخلنا أيدينا في الحصى، ثم قمنا نصلي ولم نتوضأ [ (2) ] .
فصل في أنه صلى اللَّه عليه وسلّم توضأ في المسجد
قال الإمام أحمد: حدثنا وديع بن خالد، عن أبى الغالية، عن رجل من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: حفظت لك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم توضأ في المسجد [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 236، حديث رقم (21098) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 210، حديث رقم (17249) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 501، حديث رقم (22578) .(10/170)
وأما تعليق الأقناء [ (1) ] في المسجد
فقال أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن أبى الحسين بن زبالة: وحدثني عبد العزيز بن محمد عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: إن ناسا كانوا يقدمون على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا شيء لهم، فقالت الأنصار: يا رسول اللَّه، لو عجلناك قنوا في كل حائط من هؤلاء، قال: أجل فافعلوا، ففعلوا،
فجرى ذلك إلى اليوم، فهي الأقناء التي تعلق بالمسجد التي عند جداد النخل، فتعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم معاذ بن جبل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وفي رواية أن محمد بن مسلمة رأى [أضيافا] عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، فقال: ألا تعرف [هذه] الأضياف في دور الأنصار، ونجعل لك من كل حائط قنوا ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: بلى،
فجعل الرجل كلما جاء ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقوم عليه، وكان يجعل حبلا بين الساريتين، ثم يعلق الأقناء على الحبل، ويجمع العشرين أو أكثر فيضع عليهم بعضا من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا، ثم ينصرفون، ويأتى غيرهم، فيفعل لهم مثل ذلك، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] القنو: العذق بما فيه من الرطب، وجمعه أقناء، وقد تكرر في الحديث. (لسان العرب) : 15/ 204.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 678، كتاب الصلاة، باب (42) القسمة وتعليق القنو في المسجد. قال أبو عبد اللَّه: القنو: العذق، والاثنان قنوان والجماعة أيضا قنوان. مثل صنو وصنوان.
وأشار الحافظ في (الفتح) إلى ما رواه النسائي من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: خرج رسول اللَّه وبيده عصا، وقد علق رجل قنا حشف، فجعل يطعن ذلك القنو ويقول: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا.(10/171)
فصل في ربط الأسير بمسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري من حديث الليث، حدثني سعيد بن أبى سعيد، انه سمع أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة، بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه. ذكره في الصلاة في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد [ (1) ] ، وذكره في باب دخول المشركين في المسجد [ (2) ] .
وأخرجه مسلم أيضا، وله طرق في كتاب الجهاد، وفيه قصة [ (3) ] .
وقال ابن زبالة: حدثني محمد بن جعفر عن عمر بن هارون، عن عثمان بن أبى سليمان. قال: إن مشركي قريش حين أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في فداء أساراهم
__________
[ () ] وفي الباب أيضا حديث آخر، أخرجه ثابت في (الدلائل) بلفظ: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الأمر من كل حائط بقنو يعلق في المسجد. يعنى للمساكين. وفي رواية له: وكان عليها معاذ بن جبل، أي على حفظها أو على قسمتها. (فتح الباري) : 1/ 680.
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 730- 731، كتاب الصلاة، باب (76) الاغتسال إذا أسلم، وربط الأسير أيضا في المسجد، وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد، حديث رقم (642) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (82) دخول المشرك المسجد، حديث رقم (469) . وفي دخول المشرك المسجد مذاهب: فعن الحنفية الجواز مطلقا، وعن المالكية والمزني المنع مطلقا، وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره للآية: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. وقيل: يؤذن للكتابى خاصة، وحديث الباب يرد عليه، فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 330- 331، كتاب الجهاد والسير، باب (19) ربط الأسير وحبسه، وجواز المن عليه، حديث رقم (59) ، (60) من طريقين.(10/172)
الذين أسروا ببدر وكانوا يلبثون في المسجد، فمنهم جبير بن مطعم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [قال:] كنت أبيت في المسجد، فكنت أسمع قراءة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكان يومئذ مشركا مع المشركين.
فصل في ذكر جلوس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مقعد بنى له
خرج النسائي من حديث جرير، عن أبى فروة، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة وأبى ذر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قالا: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدرى أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، ونجلس بجانبه سماطين [ (1) ] .
قال ابن سيده: والدكة بناء يسطح أعلاه، والدكان من البناء: مشتق من ذلك. وقال الجوهري: الدكان الّذي يقعد عليه [ (2) ] .
فصل في ذكر مصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الأعياد
خرج أبو داود من حديث حماد عن حميد عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 8/ 475- 476، كتاب الإيمان، باب (6) صفة الإيمان والإسلام، حديث رقم (5006) . والسماط بكسر السين: الصف من الناس.
وأخرجه أبو داود في السنة، باب (17) في القدر، حديث رقم (4698) وزاد فيه: وكنا نجلس بجنبتيه، وذكر نحو هذا الخبر، فأقبل رجل، فذكر هيئته، حتى سلم من طرف السماط، فقال: السلام عليك يا محمد، قال: فرد عليه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (لسان العرب) : 10/ 425.(10/173)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه تبارك وتعالى قد أبدلكم خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر [ (1) ] .
وخرجه النسائي من حديث إسماعيل قال: حدثنا حميد عن أنس بن مالك قال: كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم اللَّه بهما خيرا منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى [ (2) ] .
وقال الواقدي: أول عيد صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمصلى سنة اثنتين من مقدمة المدينة من مكة.
وخرج أبو زيد عمر بن شبة من حديث أبى ضمرة الليثي، عن حمزة ابن عبد الواحد، عن داود بن بكر، عن خالد بن عبد اللَّه، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج إلى المصلى يستسقى، فبدأ بالخطبة، ثم صلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة، فقال: هذا مجمعنا، ومستمطرنا، ومدعانا لعيدنا، ولفطرنا، وأضحانا، [فلا.....] .
وخرج البخاري [ (3) ] من حديث زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد اللَّه بن أبى سرح، عن أبى سعيد الخدريّ، قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يخرج يوم الفطر
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 1/ 675، كتاب الصلاة، باب (245) صلاة العيدين، حديث رقم (1134) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 3/ 199، كتاب العيدين، باب (1) بدون ترجمة، حديث رقم (1555) ، وأخرجه أيضا البيهقي في (السنن الكبرى) : 3/ 277، كتاب صلاة العيدين.
[ (3) ] (فتح الباري) : 2/ 570، كتاب العيدين، باب (6) الخروج إلى المصلى بغير منبر، حديث رقم (956) .
وفي هذا الحديث من الفوائد بنيان المنبر، قال الزين بن المنير: وإنما اختاروا أن يكون باللبن لا من الخشب لكونه يترك بالصحراء في غير حرز فيؤمن عليه النقل، بخلاف خشب منبر الجامع. وفيه أن الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلى يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر، بخلاف المسجد فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم، وفيه الخروج إلى المصلى(10/174)
والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة حدثنا سعيد بن أبى مريم قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: أخبرنى زيد عن عياض بن عبد اللَّه بن أبى سرح عن أبى سعيد الخدريّ قال: «وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم- فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم. فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف. «قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان- وهو أمير المدينة- في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلى، فجبذت بثوبه، فجبذنى، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم واللَّه، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت ما أعلم واللَّه خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة.
__________
[ () ] في العيد، وأن صلاتها في المسجد لا تكون إلا عن ضرورة، وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة، وفيه حلف العالم على صدق ما يخبر به، والمباحث في الأحكام، وجواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيه ليس بشرط في صحتها. واللَّه أعلم.
واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد، لمواظبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على ذلك مع فضل مسجده. وقال الشافعيّ في (الأم) :
بلغنا أن روسل اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان خلا أهل مكة. ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه وإلا إعادة، ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة، لا لذات الخروج إلى الصحراء، لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى.(10/175)
وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن جعفر، عن داود بن قيس، عن عياش بن عبد اللَّه بن سعد.
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا حدثنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن قيس عن عياش بن عبد اللَّه بن سعد عن أبى سعيد الخدريّ أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول تصدقوا تصدقوا تصدقوا
وكان أكثر من يتصدق النساء ثم ينصرف فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم فخرجت مخاصرا مروان حتى أتينا المصلى فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرا من طين ولبن فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرنى نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة فلما رأيت ذلك منه قلت أين الابتداء بالصلاة فقال لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والّذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم «ثلاث مرار ثم انصرف» .
وخرج أبو داود [ (2) ] من حديث الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبى سعيد، وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبى
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 427، كتاب صلاة العيدين، باب (1) بدون ترجمة، حديث رقم (889) .
وهذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول ولأصحابنا وجهان:
أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث.
والثاني: وهو الأصح عند أكثرهم المسجد أفضل إلا أن يضيق قالوا وإنما صل أهل مكة في المسجد لسعته وإنما خرج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى المصلى لضيق المسجد فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع، وفيه أن الخطبة للعيد بعد الصلاة، وفيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأن كان المنكر عليه واليا، وفيه أن الإنكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ولا يجزى عن اليد اللسان مع إمكان اليد.(10/176)
سعيد الخدريّ، قال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد الخدريّ: من هذا؟ قالوا: فلان بن فلان، فقال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
وقد ذكر مسلم نحو هذا من حديث سفيان الثوري وشعبة، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب.
وذكر عمر بن شبة من حديث داود بن قيس عن عياض بن عبد اللَّه بن أبى سرح قال: أول من قام بالمصلى على منبر عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على منبر بناه له كثير بن الصلت من طين، ثم بناه كثير لمعاوية بن أبى سفيان، فتكلم عليه، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فكلمه في ذلك أبو سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: الصلاة قبل [الخطبة] ، فقال: اترك ما كنت يعهد قلبك، ولتسمع أذن، فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذنى.... وذكر الحديث.
فصل في نوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فإن قيل: إذا كان نومه صلى اللَّه عليه وسلّم يساوى نومنا في انطباق الجفن وعدم السماع، حتى أنه نام عن الصلاة فما أيقظه إلا حر الشمس، فما الفرق بيننا وبينه في النوم؟ أجيب بأن النوم يتضمن أمرين:
أحدهما: راحة البدن، وهو الّذي يشاركنا فيه.
__________
[ () ] (2) (سنن أبى داود) : 1/ 677، كتاب الصلاة، باب (248) ، الخطبة يوم العيد، حديث رقم (1140) .(10/177)
والثاني: غفلة القلب، وقلبه صلى اللَّه عليه وسلّم متيقظ إذا نام، سليم من الأحلام في شغل، يتلقى الوحي، والتفكير في المصالح، على مثل حال غيره إذا كان منتبها، فما يتعطل قلبه بالنوم عما وضع له، كما يتعطل قلب غيره.
ألا ترى إلى حاله صلى اللَّه عليه وسلّم في نزول الوحي عليه كيف كان يغشى عليه؟
وهي حالة لو أصابت غيره لانتقض وضوؤه، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحال حافظ محفوظ من غلبة الطبع البشرى عليه، واسترخاء مخارج الحدث، فهو غائب عنا بحال، واللَّه سبحانه ييسر إليه حينئذ ما يشاء.
وأما نومه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى طلعت الشمس
فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه أريد بذلك التشريع لنا، لنعلم ما حكم اللَّه تعالى فيمن سها، وغفل عن الصلاة، كما بين اللَّه تعالى لنا حكمه عند عدم الماء، فأعدمه نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى أنزل عليه [آية حكم] التيمم [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: ونومه صلى اللَّه عليه وسلّم في ذلك الوقت عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، أمر خارج عن عادته وطباعه، وطباع الأنبياء قبله، وإنما كان نومه ذلك ليكون سنة، وليعلم المؤمنون كيف حكم من نام عن الصلاة أو نسيها، حتى يخرج وقتها، وهو من باب
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: إني لأنس أو لأنسي أسني.
والّذي كانت جبلته وعادته صلى اللَّه عليه وسلّم أن لا يخامر النوم قلبه، ولا يخالط نفسه وإنما كانت تنام عينه.
وقد ثبت عنه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن عيني تنامان ولا ينام
__________
[ (1) ] وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] .(10/178)
قلبي.
وهذا على العموم، لأنه
قد جاء عنه: إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا [ (1) ] .
ولا يجوز أن يكون مخصوصا بذلك، لأنها خصلة لم بعدها في الست التي أوتيها، ولم يؤتها أحد قبله من الأنبياء، فلما أراد اللَّه تعالى منه ما أراد [....] قبض روحه وروح من معهم في نومهم ذلك، وصرفها إليهم بعد طلوع الشمس ليتبين لهم مراده، على لسان رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم.
وعلى هذا التأويل جماعة أهل الفقه والأثر، وهو واضح، والمخالف فيه مبتدع.
الثاني: أنه وقع له ذلك لينكشف له علوم تخصه من المعارف، فعطلته عن القيام بحقوق الظواهر، لاشتغال باطنه المقدس بأداة التلقي.
فقد عبر بلسان قاله ... عن حاله من ذكر محبوبه
حتى أذهله عن مطلوبة
فقال:
فو اللَّه ما أدرى إذا ما ذكرتها ... أثنتين صليت العشاء أم ثمانيا؟
وقد عد القضاعي هذه الخصوصية مما خص به دون الأنبياء، وخفي عليه ما خرجه البخاري [ (2) ] من حديث أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في قصة الإسراء: وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فل يبق إلا اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك دون أمته وكان في قوله أن نوم العين بمجرده لا ينقض الوضوء.
***
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.(10/179)
الرابعة عشرة: انتقاض وضوئه صلى اللَّه عليه وسلّم بمس النساء
وفيه خلاف على وجهين، الأشهر منهما الانتقاض. قال النووي في (الروضة) [ (1) ] : والمذهب الجزم بانتفاضه.
ومأخذ من ذهب إلى عدم الانتقاض،
حديث عائشة في (صحيح مسلم) : أنها افتقدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، فوقعت يدها عليه وهو ساجد، وهو يقول: أنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
وحديثها في السنن، قالت: إن كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن [يسجد غمز رجلي، فقبضتهما] . وظاهرهما يؤيد عدم النقض.
وفي مسند البزار من حديث عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقبل بعض نسائه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ. ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلا من رواية عائشة، ولا نعلمه يروى عنها إلا من حديث حبيب عن عروة، ومن حديث عبد الرحيم عن عطاء.
قال عبد الحق: ولا أعلم لهذا الحديث علة توجب تركه، ولا أعلم فيه أكثر من قول يحيى بن معين: حديث عبد الركيم عن عطاء حديث رديء، لانه حديث غير محفوظ وانفراد الثقة بالحديث لا يضره، فإما أن يكون قبل نزول الآية، أو تكون الملامسة الجماع، كما قال ابن عباس، وكان هذا القائل بعدم الانتقاض، ذهب إلى تخصيص ذلك به صلى اللَّه عليه وسلّم، لكن الخصوم لا يقنعون منه بذلك، ويقولون: الأصل في ذلك عدم التخصيص إلا بدليل.
__________
[ (1) ] الّذي في الروضة: الناقض الثالث: لمس بشرة امرأة مشتهاه، فإن لمس شعرا، أو سنا، أو ظفرا، أو عضوا مبانا من امرأة، أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة، لم ينقض وضوؤه على الأصح. (روضة الطالبين) : 1/ 185- 186.(10/180)
واحتج الشافعيّ رحمه اللَّه بحديث لمس عائشة أخمص قدميه صلى اللَّه عليه وسلّم على أن طهر الملوس لا ينقض، وهذا منه يؤذن بانتفاء الخصوصية، وإلا لما حسن الاحتجاج به.
الخامسة عشرة: كان يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم أن يدخل المسجد جنبا
قال أبو العباس بن العاص: لم يكن يحرم عليه صلى اللَّه عليه وسلّم المكث في المسجد وهو جنب، واحتجوا له بما
رواه الترمذي من حديث سالم بن أبى حفصة، عن عطية، عن أبى سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعلى: يا على، لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك.
قال على بن المنذر: قلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسمع منى محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه [ (1) ] .
قال مؤلفه: في حسن هذا الحديث نظر، ففي إسناده سالم بن أبى حفصة أبو يونس العجليّ الكوفي، قال النسائي: ليس بثقة، وقال الفلاس:
وكان يحى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، ومرة قال: مفرط في التشيع ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: وإنما عيب عليه الغلو في التشيع، وقد وثقه ابن معين، وفيه أيضا عطية بن سعيد، أبو الحسن العوفيّ، كوفى، يعد من
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 597- 598، كتاب المناقب، باب (21) مناقب على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3727) .
قال في (جامع الأصول) : إسناده ضعيف، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال النووي: إنما حسنه الترمذي بشواهده، وقال الحافظ ابن حجر في (أجوبته) وقعت في مصابيح السنة، ووصفت بالوضع: وورد لحديث أبى سعيد شاهد نحوه من حديث سعد بن أبى وقاص، أخرجه البزار من رواية خارجة بن سعد عن أبيه. ورواته ثقات، واللَّه تعالى أعلم.
(جامع الأصول) 8/ 657- 658 [هامش] .(10/181)
شيعتها، ضعفه يحى وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وهشام. وقال البيهقي: غير محتج به.
ومع ذلك ففي الحديث إشكال، لأن الاستطراق يجوز لكل جنب، قال تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43] اللَّهمّ إلا أن يدعى أنه لا يجوز الاستطراق في المسجد النبوي لأحد من الناس، سواهما، ولهذا قال:
لا يحل لأحد يجنب في هذا لمسجد غيري وغيرك، فاللَّه تعالى أعلم [ (1) ] .
وقد خرج هذا الحديث البزار، من حديث سعد بن أبى وقاص، وقد خرجه الطبراني، في أكبر معاجمه، من حديث أم سلمة، وخرجه أيضا ابن ماجة ولفظه: دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: إن هذا المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض [ (2) ] .
وأخرجه البيهقي ولفظه: [ألا] [ (3) ] إن مسجدي حرام على كل حائض من النساء [وكل] [ (2) ] جنب من الرجال، إلا على محمد وأهل بيته: على، وفاطمة، والحسن، والحسين. رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم [ (4) ] .
قال البخاري: محدوج [ (5) ] عن جسرة [ (6) ] ، فيه نظر.
__________
[ (1) ] ذكر الزركشي في (إعلام المساجد) : ثم قال: وقد حسنه الترمذي واستغفر به، ونقل عن ضرار بن صرد أن معناه: لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك، ثم نقل النووي كلام الإمام وقال: فهذا كلام من لم يقف على الحديث.. إلى أن قال: والحديث ينفى دعوى الخصوصية بمشاركة غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في ذلك. (إعلام المساجد بأحكام المساجد) : 322.
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 212، كتاب الطهارة وسننها، باب (126) ما جاء في اجتناب الحائط المسجد، حديث رقم (645) . قال في (الزوائد) : إسناده ضعيف محدوج لن يوثق، وأبو الخطاب مجهول.
[ (3) ] زيادة يقتضيها السياق من (السنن الكبرى للبيهقي) .
[ (4) ] (السنن الكبرى للبيهقي) : 7/ 65، كتاب النكاح، باب دخول المسجد جنبا.
[ (5) ] ذكره أبو نعيم في (معرفة الصحابة) وقال: إنه مختلف في صحبته، (تهذيب التهذيب) : 10/ 50، ترجمة محدوج الذهلي رقم (88) .(10/182)
قال مؤلفه: مدار هذا الحديث على محدوج الذهلي عن جسرة بنت دجاجة، عن أم سلمة.
ثم رواه البيهقي من وجه آخر، عن إسماعيل بن أمية، عن جسرة، عن أم سلمة مرفوعا، ولفظه: ألا لا يحل هذا المسجد لجنب، ولا لحائض إلا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وعلى، وفاطمة، والحسن، والحسين، ألا قد بينت لكم الأسماء أن تضلوا [ (1) ] .
ولا يصح شيء من ذلك، ولهذا قال القفال من أصحابنا، إن ذلك لم يكن خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم، وغلط إمام الحرمين أبو العباس بن القاصّ في ذلك، وقال هذا الّذي قاله صاحب (التلخيص) هوس، ولا يدرى من اين قاله؟ وإلى أي أصل أسنده؟ فالوجه: القطع بتخطئته.
وقد قوى النووي مقالة ابن القاصّ، وعد القضاعي [ (2) ] هذه الخصوصية مما خص به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من بين سائر الأنبياء، ومن عبر باللبث دون الدخول قال: أبيح له اللبث في المسجد في حال جنابته صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] (6) هي جسرة بنت دجاجة العامرية الكوفية، روت عن أبى ذر، وعائشة، وأم سلمة، وعنها محدوج الذهلي وعمر بن عمير بن محدوج، قال العجليّ: ثقة، تابعية ذكرها ابن حبان في (الثقات) .
قال الحافظ: وذكرها أبو نعيم في (الصحابة) . وقال البخاري: عند جسرة عجائب، قال أبو الحسن بن القطان: هذا القول لا يكفى لمن يسقط ما روت، كأنه يعرض بابن حزم، لأنه زعم أن حديثها باطل. (تهذيب التهذيب) : 12/ 435، ترجمة رقم (2749) .
[ (1) ] (السنن الكبرى للبيهقي) : 7/ 65، كتاب النكاح، باب دخول المسجد جنبا.
[ (2) ] هو الفقيه العلامة، القاضي أبو عبد اللَّه محمد بن سلامة بن جعفر بن على القضاعي، المصري، الشافعيّ، قاضى مصر، ومؤلف كتاب (الشهاب) مجردا ومسندا.
سمع أبا مسلم محمد بن أحمد الكاتب، وعدة، حدث عنه أبو نصر بن ماكولا واخرون من المغاربة والرحالة. قال ابن ماكولا: كان متفننا في عدة علوم، لم أر بمصر من يجرى مجراه.(10/183)
السادسة عشرة: أنه يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم أن يلعن شيئا غير سبب يقتضيه لأن لعنته رحمه، واستبعد ذلك من عداه.
ذكر ابن القاصّ أنه يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم أن يلعن شيئا من غير سبب يقتضيه، لأن لعنته رحمة، واستبعد ذلك من عداه، والتحقيق أن من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه إذا سب رجلا ليس بذلك حقيقا أن يجعل اللَّه سب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم له كفارة.
ودليله: ما
في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر، فأى المؤمنين آذيته، أو شتمته، أو لعنته، فاجعلها له صلاة، وزكاة، وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة [ (1) ] .
__________
[ () ] كان ينوب في القضاء بمصر وله تصانيف. وقال السلفي: كان من الثقات الأثبات، شافعيّ المذهب والاعتقاد، مرضى الجمة، مات بمصر سنة أربع وخمسين واربع مائة.
(تهذيب سير أعلام النبلاء) : 2/ 357- 358، (سير أعلام النبلاء) : 18/ 92- 93، (الأنساب) :
10/ 181- 182، (اللباب) : 3/ 43، (وفيات الأعيان) : 4/ 212- 213، (مرآة الجنان) : 3/ 75، (الوافي بالوفيات) : 3/ 116- 117، (كشف الظنون) : 1/ 165، (شذرات الذهب) : 3/ 293، (هداية العارفين) : 2/ 71، (الرسالة المستطرفة) : 76.
[ (1) ]
رواه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: من آذنيه فاجعله زكاة ورحمة، ومسلم في البر والصلة، باب من لعنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أو سب ودعا عليه، حديث رقم (2601) ، (2602) .
قال الإمام النووي: وفي رواية: أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة، وفي رواية: فأى المؤمنين شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة، وزكاة، وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة.
وفي رواية: إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه.... وفي رواية: إني اشترطت على ربى فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا، وزكاة وقربة.(10/184)
ولهذا لما ذكر مسلم رحمه اللَّه في صحيحه فضل معاوية بن أبى سفيان، أورد أولا هذا الحديث ثم أتبعه بحديث:
لا أشبع اللَّه بطنه.
فتحصل منهما مزية لمعاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] . وهذا من جملة أمانة مسلم رحمه اللَّه، وقد أوردت كلا الحديثين بطرقهما في موضعهما من هذا الكتاب [ (2) ] .
__________
[ () ] هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى اللَّه عليه وسلّم من الشفقة على أمته، والاعتناء بمصالحهم، والاحتياط لهم، والرغبة في كل ما ينفعهم.
وإنما كان يقع هذا منه صلى اللَّه عليه وسلّم النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى اللَّه عليه وسلّم فاحشا، ولا متفحشا، ولا لعانا، ولا منتقما لنفسه، وقد سبق
أنهم قالوا: ادع على دوس، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أهدد دوسا، وقال: اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.
واللَّه تعالى أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 392- 393، كتاب البر والصلة والآداب، باب (25) من لعنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة،
حديث رقم (2604) ولفظه: عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة، وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع اللَّه بطنه.
قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدنى قفدة.
الحطء: بفتح الحاء، وإسكان الطاء بعدها همزة، هو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين.
وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيسا، وأما دعاؤه على معاوية أن لا يشبع حين تأخر، ففيه الجوابان السابقان: أحدهما: أنه على اللسان بلا قصد، والثاني: أنه عقوبة له لتأخره.
وقد فهم مسلم رحمه اللَّه من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه في الحقيقة يصير دعاء له.
وفي هذا الحديث جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام، وفيه جواز إرسال صبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا، ولا يقال: هذا تصرف في منفعة الصبى، لأن هذا قدر يسير، ورد الشرع بالمسامحة به للحاجة، واطرد به العرف، وعمل المسلمين. واللَّه تعالى أعلم.
[ (2) ] (إمتاع الأسماع) : بتحقيقنا: 2/ 250.(10/185)
وقال الرافعي في قوله صلى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ إني اتخذت عندك عهدا.... الحديث، وهذا قريب من جعل الحدود كفارات لأهلها. قال العلماء: وذلك في حق المسلمين، كما نطق به الخبر، فإنه دعا على الكفار والمنافقين ولم يكن لهم رحمة.
فإن قيل: إن كان المدعو عليه يستحق الدعاء فكيف يجعله رحمة له؟
وإن كان لا يستحقه فكيف يدعو على من لا يستحق الدعاء؟.
أجيب بأنه يجوز أن يكون مستحقا للدعاء عليه شرعا غير أن رأفته صلى اللَّه عليه وسلّم وشفاعته تقتضي أن يدعو له لارتكابه ما نهى عنه، والعاصي أولى وأحق أن يدعو له. وقد يكون الدعاء عليه سببا لزيادة عصيانه، ويجوز أن لا يكون مستحقا للدعاء في الباطن، وهو يستحقه ظاهرا، والرسول صلى اللَّه عليه وسلّم إنما يحكم بالظاهر.
ويجوز أن يكون المراد به ما صدر منه على صيغة الدعاء، واللعن، والسب، وليس المراد حقيقة ذلك، كما جرت به عادة العرب في كلامها، كقوله: تربت يمينك، وعقرا وحلقا. فخشي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل اللَّه أن يجعل ذلك رحمة وكفارة.
فإن قيل: قد قال في الحديث: إنما أنا بشر، أغضب كما يغضب البشر، وذلك يقتضي أن سبه ولعنه للغضب.
أجيب بأن الماوردي قال: يحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أراد أن دعاءه وسبه وجلده، كان مما خير فيه بين أمرين: أحدهما: هذا، والثاني: زجره بأمر آخر، فحمله الغضب للَّه على أحد الأمرين المخير فيهما، وهو السب، واللعن، والجلد، فليس ذلك خارجا عن حكم الشرع، وعدّ القضاعي هذه مما خص به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء قبله.
***(10/186)
السابعة عشرة: [هل يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم القتل بعد الأمان؟]
قال ابن القاضي: يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم القتل بعد الأمان، قال الرافعي:
وخطئوه فيه، وقالوا: من يحرم عليه خائنة الأعين كيف يجوز له من أمنه؟
وقصة ابن خطل لا حجة فيها، لقول ابن القاضي: فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم استثنى ممن أمنهم، فإنه لم يكن ممن شمله الأمان، فاعلمه. ولم يذر النووي في الروضة هذه الخصوصيات لعدم الدليل عليها.
الثامنة عشرة: كان صلى اللَّه عليه وسلّم يقبل وهو صائم
قيل: كان ذلك خاصا به، وهل يكره لغيره؟ أو يحرم؟ أو يباح؟
أو يبطل صوم من فعله؟ كما قاله ابن قتيبة، أو نسخت له، أو يفرق بين الشيخ والشاب، على أقوال للعلماء [ (1) ] ، وقد بسطت القول عليه في موضعه.
__________
[ (1) ] خرج البخاري في كتاب الصوم: باب (24) القبلة للصائم، حديث رقم (1928) ، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: «إن كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت» .
فقد أخرجه النسائي من طريق يحيى القطان بلفظ «كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم» وزاد الإسماعيلي من طريق عمرو بن على بن يحيى قال هشام: «وقال إني لم أر القبلة تدعو إلى خير» ، ورواه سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بلفظ «كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت» ، فقال عروة لم أر القبلة تدعو إلى خير، وكذا ذكره مالك في (الموطأ) عن هشام عقب الحديث، لكن لم يقل فيه ثم ضحكت.
وقوله: ثم ضحكت يحتمل ضحكها للتعجب ممن خالف في هذا، وقيل تعجيب من نفسها إذ تحدث بمثل هذا مما يستحى من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون الضحك خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بها، أو سرورا بمكانها من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبمنزلتها منه ومحبته لها.(10/187)
__________
[ () ] وقد روى ابن أبى شيبة عن شريك عن هشام في هذا الحديث «فضحكت، فظننا أنها هي
وروى النسائي من طريق طلحة بن عبد اللَّه التيمي عن عائشة قالت: «أهوى إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليقبلنى فقلت إلى صائمة، فقال: وأنا صائم، فقبلني» .
وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل، ولا للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة، نعم لما كان الشاب مظنة لهيجان الشهوة فوق من فوق.
وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه، وإن كان عنها المذي فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء قال بكرة، وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة. قال: ومن بديع ما روى في ذلك
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم للسائل عنها: «أرأيت لو تمضمضت»
فأشار إلى فقه بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسد الجماع، وكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع.
والحديث الّذي أشار إليه أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر، قال النسائي منكر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد سبق الكلام على حديث أم سلمة في كتاب الحيض، والغرض منه هنا قولها «وكان يقبلها وهو صائم» وقد ذكرنا شاهده من رواية عمر بن أبى سلمة في الباب الّذي قبله. وقال النووي: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل: مكروهة، وروى ابن وهب عن مالك إباحتها في النفل دون الفرض، قال النووي: ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم إلا أن انزل بها.
وقد روى أبو داود وحده من طريق مصدق بن يحيى عن عائشة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقبلها ويمص لسانها وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الّذي خالط ريقها واللَّه أعلم.(10/188)
التاسعة عشرة: الصلاة على الغائب
قال ابن عبد البر: وأكثر أهل العلم يقولون: إن هذا خصوص النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وقد أجاز بعضهم الصلاة على الغائب إذا بلغه الخبر بقرب موته [ (1) ] ، ودلائل الخصوص في هذه المسألة واضحة، لا يجوز أن يشرك النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيها غيره، لأنه- واللَّه تعالى أعلم- أحضر روح النجاشي بين [يديه] حيث شاهدها، وصلى عليها أو رفعت له جنازته، كما كشف له عن بيت المقدس، حين سألته قريش عن صفته.
وقد روى أن جبريل عليه السلام: أتاه بروح جعفر أو جنازته، وقال:
قم فصل عليه، ومثل هذا كله يدل على أنه مخصوص به، ولا يشاركه فيه غيره.
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 3/ 263- 264، كتاب الجنائز، باب (66) الصلاة على القبر بعد ما يدفن، حديث رقم (1336) ، (1337) : وفيهما: «فأتى قبره فصلى عليه» وزاد ابن حبان في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت: «ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن اللَّه ينورها عليهم بصلاتي» ،
وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصة وفيها «ثم أتى فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا» قال ابن حبان: في ترك إنكاره صلى اللَّه عليه وسلّم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، أنه ليس من خصائصه.
وتعقب بأن الّذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للاصالة، واستدل بخبر الباب على رد التفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه بأن القصة وردت فيمن صلى عليه.
وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك، واختلف من قال بشرع الصلاة لمن لم يصل فقيل: يؤخر دفنه ليصلي عليها من كان لم يصل، وقيل: يبادر بدفنها ويصلى الّذي فاتته على القبر، وكذا اختلف في أمد ذلك: فعند بعضهم إلى شهر، وقيل: ما لم يبل الجسد، وقيل:
يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته وهو الراجح عند الشافعية، وقيل: يجوز أبدا.(10/189)
وعلى هذا أكثر العلماء في الصلاة على الغائب، وأبو عمر بن عبد البر منازع في ادعائه الخصوصية في هذه المسألة، كما [بينت] صحته في موضعه.
العشرون: اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بالتأمين
خرج ابن خزيمة في صحيحه، من حديث محمد بن معمر القيس، قال:
حدثنا محمد بن معمر، حدثنا حرمي ابن عمارة عن مولى لآل المهلب، سمعت أنسا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: كنا عند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم جلوسا، فقال: إن اللَّه أعطانى خصالا ثلاثة، فقال رجل من جلسائه: ومن هذه الخصال يا رسول اللَّه؟ قال: أعطانى الصلاة في الصلاة في الصفوف، وأعطانى التحية، وإنها لتحية أهل الجنة، وأعطانى التأمين، ولم يعطه أحدا من النبيين إلا أن يكون اللَّه تعالى أعطى هارون موسى بدعوة هارون [ (1) ] .
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: زربى بن عبد اللَّه الأزدي مولاهم، أبو يحى مولى آل المهلب، ويقال: مولى هشام بن حسان [وهو إمام مسجده] ، روى عن أنس، ومحمد بن سيرين، وعنه عبيد بن واقد، وحرمي بن عمارة، [وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو عبد الوارث، وموسى بن إسماعيل، ومسلم بن إبراهيم وغيرهم] .
قال البخاري: فيه نظر، وقال الترمذي: له أحاديث مناكير عن أنس وغيره، وقال ابن عدي: أحاديثه وبعض متونها منكرة، وقال ابن حبان:
منكر الحديث على قلته، ويروى عن أنس ما لا أصل له، فلا يحتج به، وذكره
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 11/ 414، حديث رقم (31944) ، (31945) ، وفيه: «إلا أنه أعطى موسى أن يدعو ويؤمن هارون» وعزاه الحديث الأول إلى ابن خريمة عن أنس، والثاني إلى ابن عدي والبيهقي في (شعب الإيمان) عن أنس.(10/190)
العقيلي في (الضعفاء) وأورد له هذا الحديث، [وأخرج له ابن خريمة في صحيحه حديثا، لكن قال: إن ثبت الخبر] [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] (تهذيب التهذيب) : 3/ 380، ترجمة رقم (604) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
في (الكامل) : 3/ 239- 240- في ترجمة زربى بن عبد اللَّه رقم (45/ 730) .(10/191)
القسم الثاني: التحقيقات المتعلقة بالنكاح
وفيه مسائل:
الأولى: أبيح لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يجمع أكثر من أربع نسوة
وهو ثابت بالإجماع ولأنه لما كان يفضله على العبد يستبيح من النسوة أكثر ما يستبيحه العبد وجب أن يكون النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يستبيح من النساء أكثر ما تستبيحه الأمة وقد قيل له في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أن المراد بالناس النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأنهم حسدوه على نكاح تسع نسوة وقالوا: هلا شغلته النبوة عن النساء فأكذبهم اللَّه تعالى وقال: كان لسليمان الملك العظيم ولم يشغله عن النبوة وكان له ألف حرة ومملوكة وكان له تسع وتسعون زوجه وحكاه الإمام أبو نصر عبد الرحيم القشيري في كتاب (التيسير في التفسير) واعترض هذا بأنه لو كان الحكمة في ذلك ما ذكر من التفضيل للزم أن يفضل سليمان على نبينا وليس الأمر كذلك وقد اتفقوا على إباحة تسع نسوة له صلى اللَّه عليه وسلّم. واختلف أصحابنا في جواز الزيادة على ذلك، فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له الزيادة، لأن الأصل استواؤه صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته في الأحكام لكن ثبت له جواز الزيادة إلى تسع، فقصر عليه، وأصحهما، وبه قطع الماوردي، والجواز لأنه مأمون الجور، ولظاهر قوله تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [ (1) ] .
وقد قيل: إنه كان عنده عند التخيير عشر نسوة، العاشرة بنت الضحاك التي اختارت نفسها، وذكر الواقدي كما تقدم: أن ريحانة زوجة مدخول بها، محجوبة.
فعلى هذا قد اجتمع عنده صلى اللَّه عليه وسلّم عشر زوجات، وادعى من قال بانحصار الحل في التسع، أن قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [ (2) ] ناسخ لحل الزيادة، فحرم عليه أن يتزوج عليهنّ، لكونهن اخترنه، وحرم عليهنّ أن يتزوجن بغيره.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] الأحزاب: 52.(10/192)
ودليل الجواز: ما في البخاري [ (1) ] ، عن معاذ بن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن أنس، كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يطوف على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن إحدى عشرة. قلت لأنس: هل كان يطيق ذلك؟ قال:
كنا نتحدث أنه كان أعطى قوة ثلاثين، وفي رواية: أربعين.
ثم رواه البخاري [ (2) ] من حديث سعيد، عن قتادة: وعنده تسع، وروى الحافظ ضياء الدين في (الأحاديث المختارة) من حديث أنس: تزوج صلى اللَّه عليه وسلّم خمس
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (268) .
[ (2) ] قال الحافظ في (الفتح) : وقد جمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم في قوله: «إن الأولى كانت في أول قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة» وموضع الوهم منه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور.
واختلف في ريحانة وكانت من سبى بنى قريظة فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة.
فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد.
لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهنّ لفظ «نسائه تغليبا. وقد سرد الدمياطيّ في (السيرة) التي جمعها- من اطلع عليه من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي (المختارة) من وجه آخر عن أنس» تزوج خمس عشرة: دخل منهم بإحدى عشرة ومات عن(10/193)
عشر امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. وقاله قتادة أيضا، وذكره ابن الصباغ في (الشامل) وقال: قال أبو عبيدة: تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ثماني عشرة امرأة، واتخذ من الإماء ثلاثا.
وزعم القضاعي في كتاب (عيون المعارف) أن إباحة ما فوق الأربع مما خص به نبيا صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء قبله، وكأنه خفي عليه ما نقل عن سليمان وداود عليهما السلام في ذلك من الزيادة.
وقد اختلف أصحابنا أيضا في انحصار طلاقه صلى اللَّه عليه وسلّم في الثلاث على وجهين كالوجهين في عدد زوجاته، لكن صحح البغوي الحصر فيهما كغيره، وصححه في (أصل الروضة) [ (1) ] ، وذكره الرافعي الطريقة الأولى، ثم قال:
ورأى أصحاب التتمة الانحصار، ولم يزد على ذلك في شرحه.
الثاني: القطع بانحصاره فيه، بخلاف عدد الزوجات، لأن المأخوذ عليه من أسباب التحريم أغلظ، أعله الماوردي، وهو جازم بعدم انحصار النسوة، ويحال لوجهين في انحصار طلاقه عليه السلام، ومنه خرجت هذه الطريقة.
__________
[ () ] تسع» وسرد أسماءهن أيضا أبو الفتح اليعمري ثم مغلطاى فزدن على العدد الّذي ذكره الدمياطيّ، وأنكر ابن القيم ذلك. والحق ان الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص العدة. واللَّه أعلم.
قوله: (أو كان) بفتح الواو هو مقول قتادة والهمزة للاستفهام ومميز ثلاثين محذوف أي ثلاثين رجلا، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبى موسى عن معاذ بن هشام «أربعين» بدل ثلاثين، وهي شاذة من هذا الوجه لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك وزاد «في الجامع» وفي (صفة الجنة) لأبى نعيم من طريق مجاهد مثله وزاد «من رجال أهل الجنة» ، ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رفعه «أعطيت قوة أربعين في البطش والجماع» وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه «إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة» فعلى هذا يكون حساب قوة نبيا أربعة آلاف.
[ (1) ] (روضة الطالبين) : 5/ 353، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، في النكاح وغيره.(10/194)
قال: وعلى الحصر إذا طلق واحدة ثلاثا، هل تحل له من غير أن تتكح زوجا غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، لما خص من تحريم نسائه على غيره.
والثاني: لا تحل له أبدا، لما عليه من التغليظ في أسباب التحريم.
والفرق بين عدد الزوجات، وعدد الطلاق: ان الخلاف في الزوجات هل يزيد على التسع أو لا؟ ولم تشاركه الأمة في شيء من ذلك.
والخلاف في الطلاق واضح، ويمكن أن يقال في مدرك عدم الانحصار في الثلاث: أن الطلاق في أول الإسلام كان غير منحصر في ثلاث، كما أخرجه مالك والشافعيّ عنه، عن هشام، عن أبيه مرسلا، ووصله البيهقي والحاكم، من طريق يعلى بن شبيب، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قال: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وأن طلقها مائة أو أكثر [و] إذا أراد أرجعها قبل أن تتقضى عدتها، حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أطلقك فتبينى منى، وأردك إلى، قالت: وكيف ذاك؟
قال: أطلقك، وكلما همت عدتك أن تتقضى، ارتجعتك، ثم أطلقك، وأفعل هكذا، فشكت المرأة إلى عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فذكرت ذلك عائشة للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فسكت فلم يقل شيئا، حتى نزل القرآن: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [ (1) ] . قال الحاكم: صحيح الإسناد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 229.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 307، كتاب التفسير، حديث رقم (3106) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة، وناظرنى شيخنا أبو الحافظ، وذكر أن البخاري روى عنه في (الصحيح) فقلت: هذا يعقوب بن محمد الزهري، وهو ثبت على ما قال.
قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) بعد قول الحاكم: ما تكلم أحد في ابن كاسب بحجة، قال: قد ضعفه غير واحد.
وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 333، كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في إمضاء الطلاق لثلاث، وإن كن مجموعات.(10/195)
فإن كانت العبرة بخصوص السبب، وهو قصد المضارة، فالأنبياء عليهم السلام [منزهون عن] ذلك، فيتجه عدم الانحصار.
وإن نظرنا إلى عموم اللفظ، فيتجه الانحصار، واللَّه تبارك وتعالى أعلا وأعلم.
الثانية: في انعقاد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بلفظ الهبة
فيه وجهان: أحدهما: لا ينعقد كغيره، وأصحهما يصح، وهو ما قطع به الإمام الغزالي، لقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ (1) ] وعلى هذا لا يجب المهر بالعقد ولا بالدخول كما هو مقتضى الهبة.
وهل يشترط لفظ النكاح من جهته صلى اللَّه عليه وسلّم؟ أو يكفى لفظ الإيهاب؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما في حق المرأة، وأصحهما في (أصل الروضة) [ (2) ] ، والرافعي يشترط، قال الرافعي: أنه الأرجح عند الشيخ أبى حامد، لظاهر قوله تعالى: أَنْ يَسْتَنْكِحَها فاعتبر في جانبه صلى اللَّه عليه وسلّم النكاح.
وفي (الحاوي) للماوردى: أباحه اللَّه تعالى أن يملك نكاح الحرة بلفظ الهبة من غير بذل يذكر مع العقد، ولا يجب من بعد، فيكون مخصوصا به من بين أمته من وجهين:
أحدهما: أن يملك الحرة بلفظ الهبة، ولا يجوز ذلك لغيره من أمته.
والثاني: ان يسقط عنه المهر ابتداء مع العقد، وانتهاء فيما بعد، وغيره من أمته يلزمه المهر فيما بعد.... إلى آخر كلامه، ورجح الرافعي والنووي اشتراط لفظ النكاح من جهة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، واستدلا بقوله تعالى:
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 353، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه في النكاح غيره.(10/196)
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [ (1) ] وفيه نظر. لأن اللَّه تعالى لما اشترط إرادة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نكاحها، فلو قال: أردت، كان كافيا، ولفظ الرافعي: هل يشترط لفظ النكاح من جهته وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط من جهة الواهبة.
والثاني: نعم، لظاهر قوله: أَنْ يَسْتَنْكِحَها، وهذا أرجح، عند الشيخ أبى حامد.
ووقع في (الجواهر) للقمولى: أن فيها وجهين، أرجحهما عند الشيخ ابى حامد أنه يكفى لفظ الإيهاب، وهذا مغاير لنقل الرافعي، والجمع بينهما: أن الشيخ أبى حامد نقل أن الصحيح ما عزاه إليه الرافعي، ثم بحث، فرجح ما عزاه إليه القمولي، ومن تأمل كلامه ظهر له ذلك.
قال الأصحاب: وينعقد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بمعنى الهبة، حتى لا يجب مهرا ابتداء أو انتهاء.
وفي وجه غريب أنه يجب المهر، والّذي خص به انعقاد نكاحه بلفظ الهبة دون معناها.
وقال الماوردي مرة بسقوط المهر، ومرة قال: اختلف أصحابنا في من لم يسم لها مهرا في العقد، هل يلزمه مهر المثل؟ على وجهين: وجه المنع، أن المقصود منه التوصل إلى ثواب اللَّه تعالى.
قال: واختلف العلماء هل كانت عنده صلى اللَّه عليه وسلّم امرأة موهوبة أم لا؟ من أجل اختلاف القراء في فتح إن وكسرها من قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فعلى الثاني: تكون شرطا مستقبلا، وعلى الأول: تكون خبرا عن ماض.
قال أبو حيان في (التفسير) [ (2) ] : قرأ الجمهور وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها بكسر الهمزة، أي أحللناها لك إِنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرادَ فهما شرطان.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] (البحر المحيط) : 8/ 492- 493.(10/197)
والثاني: في معنى الحال، كأنه شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته صلى اللَّه عليه وسلّم هي قبول الهبة، وبه تتم، وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب.
وقرأ أبو حيوة: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي أحللناها لك.
وقرأ أبى والحسن وغيرهما: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها، دون واحدة بعينها.
وقرأ زيد بن على: إذ وهبت بالذال. وإذ ظرف، فهو في امرأة بعينها أيضا.
وقرأ الجمهور: خالصة بالنصب. وهو مصدر مؤكد، يعنى خلوصا، ويجيء المصدر فاعل وفاعلة.
وقرئ خالِصَةً لَكَ بالرفع، وقال: الظاهر أن قوله: خالِصَةً لَكَ من صفة الواهبة، فقراءة النصب على الحال، والرفع خبر مبتدإ محذوف، أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهن مختص بك وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره.
وفي (الحاوي) : للماوردى: واختلف في الواهبة، فقيل: أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب قاله عروة: وقيل: خولة بنت حكيم. قالت عائشة، وقيل: غزية، قاله ابن عباس، وقيل: زينب بنت خزيمة أم المساكين. قاله الشعبي.
وزاد أبو حيان مع ابن عباس قتادة، وقال: في الأولى هو قول على بن الحسين، والضحاك، ومقاتل، وزاد مع الشعبي عروة، وزاد مع عائشة عروة أيضا.
فتلخص في الواهبات من الزوجات ثنتان: هما ميمونة وزينب ومن غير الزوجات: أم شريك. واختلف في اسم أم شريك، فقيل: عامرية اسمها(10/198)
غزية أو غزيلة، وقيل: غفارية، وقول الماوردي في نسبتها يدل على أنها عامرية، فقال: قيل: إنها أم شريك بنت عوف بن عمرو بن جابر بن صباب.
وقيل: هي بنت وردان بن عوف بن عمرو بن عامر، وقد قيل أيضا:
هي ليلى بنت الخطيم، وقيل: فاطمة بنت شريح [ (1) ] .
__________
[ (1) ] فاطمة بنت شريح: هي أم شريك القرشية العامرية، من بنى عامر بن لؤيّ، نسبها ابن الكلبي، فقال: بنت دودان بن عوف بن عمرو بن خالد بن ضباب بن حجير بن معيص بن عامر. وقال غيره: عمرو بن عامر بن رواحة بن حجير. وقال ابن سعد: اسمها غزية بنت جابر بن حكيم، كان محمد بن عمر يقول: هي من بنى معيص بن عامر بن لؤيّ. وكان غيره يقول: هي دوسية من الأزد، ثم أسند عن الواقدي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كانت أم شريك من بنى عامر بن لؤيّ معيصية وهبت نفسها للنّبيّ فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت.
وقال أبو عمر: كانت عند أبى العكر بن سمى بن الحارث الأزدي ثم الدوسيّ، فولدت له شريكا، وقيل: إن اسمها غزيلة، بالتصغير، ويقال غزية بتشديد الياء بدل اللام، وقيل بفتح أولها وقال ابن مندة: فاختلف في اسمها فقيل غزيلة. وقال أبو عمر: من زعم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نكحها قال: كان ذلك بمكة. وهو عجيب، فإن قصة الواهبة نفسها إنما كانت بالمدينة، وقد جاء من طرق كثيرة أنها كانت وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرج أبو نعيم، من طريق محمد بن مروان السدي- أحد المتروكين، وأبو موسى، من طريق إبراهيم بن يونس، عن زياد، عن بعض أصحابه، عن ابن الكلبي، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: ووقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، وهي إحدى نساء قريش ثم إحدى بنى عامر بن لؤيّ، وكانت تحت أبى العكر الدوسيّ، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتى شيء موطأ ولا غيره، ثم تركونى ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني. قالت: فما أتت على ثلاث حتى ما في الأرض شيء أسمعه، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا تزلوا وثقونى في الشمس واستظلوا وحبسوا عنى الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا أنا بأثر شيء على(10/199)
__________
[ () ] بد منه، ثم رفع، ثم عاد فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع منى، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، ثم رفع فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي. فلما استيقظوا فإذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت، فأخذت سقاءنا فشربت منه. فقلت: لا، واللَّه ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، وأسلموا بعد ذلك.
وأقبلت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ووهبت نفسها له بغير مهر، فقبلها ودخل عليها، فلما رأى عليها كبرة طلقها.
وأخرج أبو موسى أيضا من وجه آخر عن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس- شبيهة بالقصة التي في الخبر المرسل، وحاصله أنه اختلف على الكلبي في سياق القصة، ويتحصل منها- إن كان ذلك محفوظا- أن قصة الدلو وقعت لأم شريك ثلاث مرات، قال ابن الأثير: استدل أبو نعيم بهذه القصة على أن العامرية هي الدوسية.
قلت: فعلى هذا يلزم منه أن تكون نسبتها إلى بنى عامر، من طريق المجاز، مع أنه يحتمل العكس بأن تكون قريشية عامرية، فتزوجت في دوس فنسبت إليهم.
وأخرج الحميدي في مسندة، من رواية مجالد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لها: اعتدى عند أم شريك بنت أبى العكر،
وهذا يخالف ما تقدم أنها زوج أبى العكر، ويمكن الجمع بأن تكون كنية والدها وزوجها اتفقتا أو تصحفت بنت بالموحدة والنون من بيت بالموحدة والتحتانية، وبيت الرجل يطلق على زوجته، فتنفق الروايتان.
وجاء عن أم شريك ثلاثة أحاديث مسندة، ولم تنسب في بعضها، ونسب في بعضها مع اختلاف في الرواية في النسبة الأولى،
أخرجه مسلم في الفتن، والترمذي في المناقب، من رواية الزبير، عن جابر، عن أم شريك، قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يتفرق الناس من الدجال قالت أم شريك: يا رسول اللَّه، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل.
وأخرج ابن ماجة من حديث أبى أمامة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في ذكر الدجال، قال: ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، ويدعى ذلك اليوم يوم الحلام.
قالت أم شريك بنت أبى العكر: يا رسول اللَّه، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل،
ذكره في حديث طويل.(10/200)
وفي الصحيحين [ (1) ] من حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، كانت خولة [بنت حكيم] [ (2) ] من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقالت
__________
[ () ] وهذا يوافق ما
أخرجه الحميدي، وغيره، من طريق مجالد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لها اعتدى عند أم شريك بنت أبى العكر،
وعلى هذا- إن كان محفوظا- فهي الأنصارية المتقدمة، فكأن نسبتها كذلك مجازية أيضا.
الثاني: أخرجه الشيخان من رواية سعيد بن المسيب، عن أم شريك- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أمرها بقتل الأوزاغ، ولم ينسب في هذه الرواية إلا في رواية لأبى عوانة عن سماك.
والثالث: أخرجه النسائي، من رواية هشام بن عروة، عن أم شريك- أنها كانت ممن وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، ورجاله ثقات ولم ينسبها. وقد أخرجه ابن سعد، عن عبيد اللَّه بن موسى، عن سنان عن فراس عن الشعبي، قال: المرأة التي عدل عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أم شريك الأنصارية. وهذا مرسل. رجاله ثقات.
ومن طريق شريك القاضي وشعبة، قال شريك عن جابر الجعفي، عن الحكم، عن على بن الحسين- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج أم شريك الدوسية، لفظ شريك. وقال شعبة في روايته: إن المرأة التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم وسلم أم شريك امرأة من الأزد.
وأخرج ابن سعد من طريق عكرمة، ومن طريق عبد الواحد بن أبى عون في هذه الآية: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ. قال: هي أم شريك، وفي مسندهما الواقدي ولم ينسبها.
والّذي يظهر في الجمع أن أم شريك واحدة، اختلف في نسبتها أنصارية، أو عامرية من قريش، أو أزدية من دوس، واجتماع هذه النسب الثلاث ممكن، كأن يقول قرشية تزوجت في دوس فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار فنسبت إليهم، أو لم تتزوج بل هي نسبت أنصارية بالمعنى الأعم.
لها ترجمة في (الإصابة) : 8/ 238- 241، ترجمة رقم (12099) ، (الاستيعاب) :
4/ 1943، (طبقات ابن سعد) : 8/ 110.
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 204، كتاب النكاح، باب (30) هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟ حديث رقم (5113) ، رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام، عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، يزيد بعضهم على بعض.(10/201)
__________
[ () ] وأخرجه البخاري أيضا في كتاب التفسير، باب (7) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ، حديث رقم (4788) ، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل اللَّه تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
قال الحافظ في (الفتح) وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب نزول آية التخيير، وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن وقوله: وهبن أنفسهن هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة.
وعند ابن أبى حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم هي خولة بنت حكيم، ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبى عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له ومنهن زينب بنت خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح، ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي ما أرى اللَّه إلا موجدا لما تريد بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار. وقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخرن بغير قسم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبى رزين وغيرهم، وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فدخل ببعضهن وأرجا بعضهن لم ينكحهن، وهذا شاذ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم.
وقيل: المراد بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له: لا تطلقنا واقسم لنا ما شئت، فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجاهن.
فحاصل ما نقل في تأويل تُرْجِي أقوال: أحدها: تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت.(10/202)
__________
[ () ] وحديث الباب يؤيد هذا والّذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة. وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهري: «ما أعلم أنه أرجا أحدا من نسائه» أخرجه ابن أبى حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. (فتح الباري) : 8/ 673- 675.
(باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد) أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين:
إحداهما: مجرد الهبة من غير ذكر مهر، والثانية: العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا: يجب مهر المثل، وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فعدوا ذلك من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل، وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة.
والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث، وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد.
قوله: (حدثنا هشام) هو ابن عروة عن أبيه (قال: كانت خولة) هذا مرسل، لأن عروة لم يدرك زمن القصة، لكن السياق يشعر بأنه حمله عن عائشة. وقد ذكر المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا.
قوله: (بنت حكيم) أي ابن أمية بن الأوقص السلمية، وكانت زوج عثمان بن مظعون، وهي من السابقات إلى الإسلام، وأمها من بنى أمية.
قوله: (فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها) وفي رواية محمد بن بشر الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللائي وهبن أنفسهن.
قوله: فلما نزلك: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ في رواية عبدة بن سليمان: فأنزل اللَّه ترجى وهذا أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب، قال القرطبي: حملت عائشة على هذا التقبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت ان اللَّه أباح لنبيه ذلك وان جميع النساء لو ملكن لرقهن لكان قليلا.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) في رواية محمد بن بشر «إني لأرى ربك يسارع لك في هواك «أي في رضاك، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغقيرة، وهو من نوع قولها: ما أحمدكما ولا أحمد إلا اللَّه، وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا تحمل على ظاهره، لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى، لو قالت: إلى مرضاتك لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. (فتح الباري) : 9/ 204- 205.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .(10/203)
عائشة: أما تستحي المرأة تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قالت: يا رسول اللَّه! ما أرى ربك إلا يسارع في هواك! وهذا يدل على أن معنى قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من الواهبات، فلا تقبل هبتها، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي بقبول هبتها. وقد قيل خلاف ذلك.
وعند القاضي أبى عبد اللَّه محمد بن سلامة القضاعي، أنه صلى اللَّه عليه وسلّم إنما خص بإباحة الموهوبة له خاصة، وهو أن يتزوجها بلفظ الهبة، وإباحة النكاح بغير مهر، ولا يستقر عليه إلا بالدخول، وإن هذا مما خص به دون الأنبياء من قبله، ودون أمته، تشريفا له، وتعظيما لشأنه صلى اللَّه عليه وسلّم.
الثالثة: إذا رغب صلى اللَّه عليه وسلّم في نكاح امرأة
فإن كانت خليه فعليها الإجابة على الصحيح ويحرم على غيره، وخطبتها وإن كانت ذات زوج وجب على زوجها طلاقها لينكحها على الصحيح لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [ (1) ] كذلك استدل بها. الماوردي، واستدل الغزالي في (الوسيط) ، لوجوب التطليق بقصة زيد، وهي مشهورة.
خرج البخاري [ (2) ] في كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، من حديث حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك
__________
[ (1) ] الأنفال: 24.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 497، كتاب التوحيد، باب (22) ، وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، حديث رقم (7420) ، قوله: (قال أنس لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما(10/204)
__________
[ () ] شيئا لكتم هذه) ظاهره أنه موصول بالسند المذكور، لكن أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة والإسماعيلي عنه نزلت: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ في شأن زينب بنت جحش
وكان زيد يشكو وهمّ بطلاقها يستأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال له «أمسك عليك زوجك واتّق اللَّه»
وهذا القدر هو المذكور في آخر الحديث هنا بلفظ «وعن ثابت وتخفى في نفسك» إلخ، ويستفاد منه أنه موصول بالسند المذكور وليس بمعلق، وأما قوله «لو كان كاتما» إلخ، فلم أره في غير هذا الموضع موصولا عن أنس، وذكر ابن التين عن الداوديّ أنه نسب قوله «لو كان كاتما لكتم قصة زينب» إلى عائشة، قال وعن غيرها» لكتم عبس وتولى» ، قلت: قد ذكرت في تفسير سورة الأحزاب حديث عائشة قالت «لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي» الحديث، وأنه أخرجه مسلم والترمذي ثم وجدته في مسند الفردوس من وجه آخر عن عائشة من لفظه صلى اللَّه عليه وسلّم «لو كنت كاتما شيئا من الوحي» الحديث، واقتصر عياض في الشفاء على نسبتها إلى عائشة والحسن البصري وأغفل حديث أنس هذا وهو عند البخاري.
قوله: (قال فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- إلى قولها- وزوجني اللَّه عز وجل من فوق سبع سماوات) أخرجه الإسماعيلي من طريق حازم بن الفضل عن حماد بهذا السند بلفظ «نزلت في زينب جحش فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها» وكانت تفخر على نساء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكانت تقول إن اللَّه أنكحن في السماء» وزاد الإسماعيلي من طريق الفريايى وأبى قتيبة عن عيسى «أنتن أنكحكن آباؤكن» وهذا الإطلاق محمول على البعض، وإلا فالمحقق أن التي زوجها أبوها منهن عائشة وحفصة فقط، وفي سودة وزينب بنت خزيمة وجويرية احتمال، وأما أم سلمة وأم حبيبة وصفية وميمونة فلم يزوج واحدة منهن أبوها، ووقع عند ابن سعد من وجه آخر عن أنس بلفظ «قالت زينب يا رسول اللَّه إني لست كأحد من نسائك، ليست منهم امرأة إلا زوجها أبوها أو أخوها أو أهلها غيري» وسنده ضعيف ومن وجه آخر موصول عن أم سلمة «قالت زينب ما أنا كأحد من نساء النبي إنهن زوجن بالمهور زوجهن الأولياء، وأنا زوجني اللَّه ورسوله صلى اللَّه عليه وسلّم وأنزل اللَّه في الكتاب» . وفي مرسل الشعبي» قالت زينب يا رسول اللَّه أنا أعظم نسائك عليك حقا، أنا خيرهن منكحا وأكرمهن سفيرا وأقربهن رحما فزوجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك وليس لك من نسائك قريبة غيري» أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في (كتاب الحجة والتبيان) له.(10/205)
وتعالى عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك.
قال أنس: لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، تقول: زوجكم أهاليكن وزوجي اللَّه تعالى من فوق سبع سماوات، وعن ثابت وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة.
__________
[ () ] قوله: (من فوق سبع سماوات) في رواية عيسى بن طهمان عن أنس المذكورة عقب هذا «وكانت تقول إن اللَّه عز وجل أنكحنى في السماء» وسنده هذه أخر الثلاثيات التي ذكرت في البخاري، وتقدم لعيسى بن طهمان حديث آخر تكلم فيه ابن حبان بكلام لم يقبلوه منه، وقوله فيه هذه الرواية «وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما» يعنى في وليمتها، وقد تقدم بيانه واضحا في تفسير سورة الأحزاب.
قال الكرماني قوله: «في السماء» ظاهره غير مراد، إذ اللَّه منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات، وبنحو هذا أجاب غيره عن الألفاظ الدارجة من الفوقية ونحوها، قال الراغب: «فوق» يستعمل في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة والقهر.
فالأول: باعتبار العلو ويقابله تحت نحو قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ.
والثاني: باعتبار الصعود والانحدار، نحو إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ.
والثالث: في العدد نحو فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ.
والرابع: في الكبر والصغر، كقوله بَعُوضَةً فَما فَوْقَها.
والخامس: يقع تارة باعتبار الفضيلة الدنيوية، نحو وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، أو الأخروية نحو وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
والسادس: نحو قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ انتهى ملخصا.(10/206)
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب:
37] يعنى: بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: بالعتق فأعتقته أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما تزوجها، قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل اللَّه تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له: زيد ابن محمد، فأنزل اللَّه تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يعنى: أعدل عند اللَّه.
وعن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: لو كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ. وهذا الحديث لم يرد بطوله [ (2) ] .
__________
[ (1) ] رواه الترمذي في التفسير، باب ومن سورة الأحزاب، حديث رقم (3205) وقال: هذا حديث غريب.
قال ابن الأثير: في سنده داود بن الزبرقان الرقاشيّ البصري تزيل بغداد، وهو متروك، وكذبه الأزدي كما قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» وقول عائشة في أول الحديث: لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية، هذا القدر ثابت. وقال الحافظ في (الفتح) :
وأظن الزائد بعده مدرجا في الخبر، فإن الراويّ له عن داود- يعنى بن أبى هند- لم يكن بالحافظ- يريد به داود بن الزبرقان.
[ (2) ] أخرجه الترمذي برقم (3206) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه مسلم في الإيمان، باب معنى قول اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى حديث رقم (177) .(10/207)
خرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، في قوله: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، قال: أنعم اللَّه عليه بالإسلام، وأنعم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالعتق، أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ،
قال قتادة: جاء زيد بن حارثة للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن زينب اشتد عليّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك،
قال: والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم يحب أن يطلقها، ويخشى قالة الناس: أن أمره بطلاقها. فأنزل اللَّه تعالى: اتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً.
قال قتادة: طلقها زيد زَوَّجْناكَها.
قال معمر: وأخبرنى من سمع الحسن يقول: ما نزلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم آية أشد منها، قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، لو كان كاتما شيئا من الوحي كتمها.
قال: وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فتقول: أما أنتن فزوجكن آباؤكن، وأما أنا فزوجني رب العرش [ (1) ] .
وذكر الحاكم في (مستدركه) ، عن محمد بن عمر الواقدي قال:
حدثني عمر بن عثمان الحجى، عن أبيه قال: قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وكانت زينب بنت جحش ممن هاجر مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- وكانت امرأة جميلة، فخطبها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على زيد بن حارثة، فقالت: يا رسول اللَّه لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم قريش، قال: فإنّي قد رضيته لك، فتزوجها زيد بن حارثة.
قال الواقدي: فحدثني عبد اللَّه بن عامر الأسلمي، عن محمد بن يحى قال: جاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له:
زيد بن محمد، فربما فقده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الساعة فيقول: أين زيد. فجاء منزله يطلبه فلم يجده فتقوم إليه زينب فقول له: هنا يا رسول اللَّه.
فولى يهمهم بشيء لا يكاد يفهم عنه، إلا سبحان اللَّه العظيم، سبحان مصرف القلوب.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 452، كتاب التفسير، حديث رقم (3563) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.(10/208)
فجاء زيد إلى منزله: فأخبرته امرأته أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى منزله، فقال زيد: ألا قلت له يدخل؟ قالت: قد عرضت قولك عليه وأبى. قال:
فسمعتيه يقول شيئا؟ قالت سمعته حين ولى يكلم بكلام لا أفهمه، وسمعته يقول: سبحان اللَّه العظيم، سبحان مصرف القلوب.
قال: فخرج زيد حتى أتى رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، بلغني أنك جئت منزلي، فهلا دخلت؟ بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه، لعل زينب أعجبتك! أفأفارقها؟ فيقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك، ويأتى رسول اللَّه فيخبره، فيقول: أمسك عليك زوجك، فيقول: يا رسول اللَّه! أفأفارقها؟ فيقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: احبس عليك زوجك.
ففارقها زيد، واعتزلها، وحلت. قالت: فبينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جالس يتحدث مع عائشة، إذ أخذت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم غمية، ثم سرى عنه، وهو يتبسم وهو يقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن اللَّه عز وجل زوجنيها من السماء، وتلا: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ القصة كلها.
قالت عائشة: فأخذت ما قرب وما بعد، لما كان بلغني من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها، ما صنع اللَّه لها، وزوجها اللَّه عز وجل من السماء، وقالت عائشة: هي تفخر علينا بهذا.
قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تشتد، فحدثتها بذلك، فأعطتها أوضاحا لها.
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في (تفسيره) ، عن ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد زوج زينب ابنة جحش ابنة عمته، زيد بن حارثة، فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوما يريده، وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر، فانكشف وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلبه، فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر.
قال: فجاء فقال: يا رسول اللَّه! إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال:
مالك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه. ما رابني منها شيء، ولا رأيت إلا خيرا.(10/209)
فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أمسك عليك زوجك واتّق اللَّه، فذلك قول اللَّه تعالى ذكره: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، تخفى في نفسك إن فارقها تزوجتها.
وله من طريق سفيان بن عيينة، عن على بن زيد بن جدعان، عن على بن الحسين، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: كان اللَّه تعالى أعلم نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم أن زينب ستكون من أزواجه، فلما جاء زيد يشكوها، قال صلى اللَّه عليه وسلّم: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك قال اللَّه تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
وليس في قصة زيد هذه ما يدل على وجوب الطلاق على المتزوج، ومن تأمل ذلك تبين له ما ذكرت، واللَّه تعالى أعلم.
ولم يذكر هذه الخصوصية ابن القاصّ، ولا الشيخ أبو حامد، ولا البيهقي، ويمكن أن يستدل لوجوب إجابة المرأة، أنها لو خالفت أمره صلى اللَّه عليه وسلّم كانت عاصية، وقطع في (التنبيه) بتحريم خطبة من رغب صلى اللَّه عليه وسلّم في نكاحها.
ويرد عليه ما أخرجه الحاكم [ (1) ] وغيره، من حديث إسرائيل عن السدي، عن أبى صالح، عن أم هانئ. قالت: خطبنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فاعتذرت إليه، فعذرني، وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ. قالت: فلم أكن أحل له، لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وقال الغزالي: ولعل الشرفية- يعنى في تحرير من رغب فيها على زوجها من جانب الزوج- امتحان إيمانه بتكليفه النزول عن أهله، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، ووالده، والناس أجمعين. وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون اللَّه ورسوله أحب إليه
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 456، كتاب التفسير، حديث رقم (3574) ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(10/210)
مما سواهما. خرجه مسلم [ (1) ]
يحققه قول اللَّه تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 374- 375، كتاب الإيمان، باب (16) وجوب محبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، حديث رقم (69) ، (70) .
قال الإمام النووي:
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين» وفي الرواية الأخرى من ولده ووالده والناس أجمعين.
قال الامام أبو سليمان الخطابي: لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار لأن حب الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه. قال فمعناه لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك. هذا كلام الخطابي.
وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة اللَّه عليهم: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى اللَّه عليه وسلّم أصناف المحبة في محبته.
قال ابن بطال رحمه اللَّه، ومعنى الحديث أن من استكمل الايمان على أن حق النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لأن به صلى اللَّه عليه وسلّم استنقذنا من النار وهدينا من الضلال.
قال القاضي عياض رحمه اللَّه ومن محبته صلى اللَّه عليه وسلّم نصرة سنته والذب عن شريعته وتمنى حضور حياته فيبذل ماله ونفسه دونه قال وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم الا بذلك، ولا يصح الإيمان الا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن. هذا كلام القاضي رحمه اللَّه. واللَّه أعلم.
وأما إسناد هذا الحديث فقال مسلم رحمه اللَّه (وحدثنا شيبان بن أبى شيبة حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز، عن أنس. قال مسلم (وحدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس) وهذا أن الاسنادين رواتهما يضربون كلهم وشيبان بن أبى شيبة هذا هو شيبان بن فروخ الّذي روى عنه مسلم في مواضع كثيرة. واللَّه أعلم بالصواب.
[ (2) ] الأحزاب: 6.(10/211)
قال: ومن جانبه صلى اللَّه عليه وسلّم ابتلاؤه بالبيئة البشرية، ومنعه من خائنة العين، ومن الإضمار الّذي يخالف الإظهار، ولا شيء أدعى إلى غض البصر، وحفظه من لمحاته الاتفاقية من هذا التكلف.
وقد تعقب هذا الكلام بأن ابتلاءه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس هو من إيجاب الطلاق على الزوج، إنما هو من وقوع هذه النظرة الاتفاقية. قوله: ومنعه من خائنة الأعين، فقد شرح خائنة العين، وليس في اللمحة الواقعة شيء من خائنة الأعين، قوله: من لمحاته الاتفاقية، كلام لا دليل عليه من الآية، في هذه القصة، ولا من الأحاديث.
قال الغزالي: وهذا مما يورده الفقهاء في صنف التخفيف، وعندي أن ذلك في غاية التشديد، إذ لو كلف بذلك آحاد الناس، لما فتحوا أعينهم في الشوارع والطرقات، خوفا من ذلك، وذلك قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: لو كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يخفى آية، لأخفى هذه الآية.
واعترض عليه ابو عمرو بن الصلاح فقال: لم يوفق في مخالفته للأصحاب في ذلك. قال: واصل ما ذكره أنه لم يكتف في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم بالنهى والتحريم، زاجرا عن مسارقة النظر، وحاملا له على غض البصر عن نساء غيره، حتى شدد عليه بتكليف لو كلف به غيره لما فتحوا أعينهم في الطرقات، وهذا غير لائق بمنزلته الرفيعة. وزعم أن هذا الحكم في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم في غاية التشديد، واللَّه تعالى يقول في ذلك: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [ (1) ] .
وأما قول عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فذاك لأمر أجود، هو إظهار ما دار بينه وبين مولاه، وعتابه عليه. وأجيب عنه بأن الغزالي رحمه اللَّه تعالى، لم يقل أن النهى في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس كافيا في الانتهاء، وإنما جعل ذلك كفا، وحافظا عن وقوع النظر الاتفاقي، الّذي لا يتعلق به نهى، فإذا علم أنه إذا وقع ذلك، وقعت منه المرأة موقعا، وجب على زوجها مفارقتها، احتاج إلى زيادة التحفظ في ذلك.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 38.(10/212)
والّذي كلف أخفى ما في النفس، مع إبداء اللَّه تعالى ما به، فإن كثيرا من المباحات الشرعية يستحى الإنسان من فعلها، ويمتنع منها. قوله تعالى:
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ، فيه رفع الإثم، لا نفى الحياء من الشيء.
ويمكن أن يقال: لا تنافى بين ما ذكره الغزالي، وبين ما ذكره الفقهاء، لأن الفقهاء ذكروه في التخفيف، لكون المرأة تحل له بتزويج اللَّه تعالى، بخلاف غيره، فإنه يحتاج إلى خطبة، ومهر، وغير ذلك.
وأما الّذي ذكره هو، فهو غض البصر، وحفظه عن لمحاته الاتفاقية، وقد تقدم أنه لا دليل له عليه، وإن ادعى أنه يستفاد من قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ منع.
والحق في المسألة: ما روى عن على بن الحسين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن اللَّه تعالى كان أوحى إلى نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم أن زيدا سيطلق زينب، ويتزوجها، فلما استشاره زيد في طلاقها قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فهذا هو الّذي أخفاه [ (1) ] .
وقال غيره: وخشي قول الناس أن يتزوج زوجة ولده، ومن تأمل أحاديث القصة تبين له هذا الّذي قلته. فإن قيل: ما الجواب عما خرجه البخاري من حديث ابن عيينة، سمع ابن المنكدر، سمعت عروة بن الزبير عن عائشة، وخرجه مسلم، وأبو داود من حديث سفيان عن ابن المنكدر، عن عروة، عن عائشة،
وخرجه مسلم من حديث سفيان، وهو ابن عيينة عن ابن المنكدر، سمع عروة بن الزبير يقول: حدثتني عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن رجلا استأذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة- أو بئس رجل العشيرة- فلما دخل عليه، ألان له القول!! قالت عائشة: فقلت يا
__________
[ (1) ] قال ابن الأثير: والحاصل أن الّذي كان يخفيه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم هو إخبار اللَّه إياه أنها ستصير زوجته، والّذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد اللَّه تعالى إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الّذي يدعى ابنا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين، ليكون أدعى لقبولهم.
(جامع الأصول) : 2/ 310 [هامش] .(10/213)
رسول اللَّه! قلت له الّذي قلت، ثم ألنت له القول؟ قال: يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند اللَّه يوم القيامة، من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه. اللفظ لمسلم [ (1) ] . ذكره في كتاب البر والصلة.
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 10/ 646، كتاب الأدب، باب (82) المداراة مع الناس، ويذكر عن أبى الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم، حديث رقم (6131) ، (مسلم بشرح النووي) : 16/ 380- 381، كتاب البر والصلة والآداب، باب (22) مداراة من يتقى فحشه، حديث رقم (73) ، (74) ، (سنن أبى داود) : 5/ 144- 145، كتاب الأدب، باب
(6) في حسن العشرة، حديث رقم (4791) ، (4792) ، (موطأ مالك) : 650، ما جاء في حسن الحلق، حديث رقم (1630) .
قوله: (باب المداراة مع الناس) هو بغير همز، وأصله الهمز لأنه من المدافعة، والمراد به الدفع برفق. وأشار المصنف بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه واقتصر على غير ما يؤدى معناه، فما ورد فيه صريحا
لجابر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «مداراة الناس صدقة» أخرجه ابن عدي والطبراني في (الأوسط) ،
وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبى عاصم في «آداب الحكماء» بسند أحسن منه،
وحديث أبى هريرة» رأس العقل بعد الإيمان باللَّه مداراة الناس» أخرجه البزار بسند ضعيف.
قوله: (ويذكر عن أبى الدرداء: إنا لنكشر «بالكاف الساكنة وكسر المعجمة.
قوله: «في وجوه أقوام وإن قلوبنا لنلعنهم»
كذا للأكثر بالعين المهملة واللام الساكنة والنون، وللكشميهنى بالقاف الساكنة قبل اللام المكسورة ثم تحتانية ساكنة من القلى بكسر القاف مقصور وهو البغض، وبهذه الرواية جزم ابن التين، ومثله في تفسير المزمل من (الكشاف) .
وهذا الأثر وصله ابن أبى الدنيا وإبراهيم الحربي في «غريب الحديث» والدينَوَريّ في (المجالسة) من طريق أبى الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبى الدرداء فذكر مثله وزاد:
«ونضحك عليهم» وذكره بلفظ اللعن ولم يذكر الدينَوَريّ في إسناده جبير بن نفير، ورويناه في (فوائد أبى بكر بن المقري) من طريق كامل أبى العلاء عن أبى صالح عن أبى الدرداء قال:
«إنا لنكشر أقواما» فذكر مثله وهو منقطع، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) من طريق خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء فذكر اللفظ المعلق سواء، وهو منقطع أيضا والكشر بالشين(10/214)
__________
[ () ] المعجمة وفتح أوله ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك، والاسم الكشرة كالعشرة قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلظ، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الّذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرّفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهى عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. ثم ذكر حديثين تقدما: أحدهما:
حديث عائشة «استأذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة»
وقد تقدم بيان موضع شرحه في «باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد» والنكتة في إيراده هنا التلميح إلى ما وقع في بعض الطرق بلفظ المداراة وهو عند الحارث بن أبى أسامة من حديث صفوان بن عسال نحو
حديث عائشة وفيه: «وقال:
إنه منافق أسس داريه عن نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره» .
والثاني: حديث المسور بن مخرمة «قدمت على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أقبية» وفيه قصة أبيه مخرمة ووقع في هذه الطريق «وكان في خلقه شيء» وقد رمز البخاري بإيراده عقب لحديث الّذي قبله بأنه المبهم فيه كل أشرت إلى ذلك قبل،
ووقع في رواية مسروق عن عائشة «مر رجل برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: بئس عبد اللَّه وأخو العشيرة، ثم دخل عليه فرأيته أقبل عليه بوجهه كان له عنده منزلة. أخرجه النسائي،
وشرح ابن بطال الحديث على ان المذكور كان منافقا، وأن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان مأمورا بالحكم بما ظهر، لا بما يعلمه في نفس الأمر وأطال في تقرير ذلك ولم يقل أحد في المبهم في حديث عائشة أنه كان منافقا لا مخرمة بن نوفل ولا عيينة بن حصن، وإنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خلقه من الشدة فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفا وكان مع ذلك اهوج فكان مطاعا في قومه كما تقدم واللَّه أعلم. وقوله في هذه الرواية: «فلما جاءه قال خبأت هذا لك» وفي رواية الكشميهني» قد خبأت» وقوله: «قال أيوب» هو موصول بالسند المذكور، قوله: «بثوبه وأنه يريه إياه» والمعنى أشار أيوب بثوبه ليرى الحاضرين كيفية ما فعل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عند كلامه مع مخرمة، ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل، قوله: «رواه حماد بن زيد عن أيوب» تقدم موصولا في «باب فرض الخمس» وصورته مرسل أيضا.(10/215)
وخرجه من طريق عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن ابن المنكدر في هذا الإسناد مثل معناه، غير أنه قال: بئس أخو القوم وابن العشيرة.
هذا، وقد اتفقوا على الشك في قوله:
«من ودعه أو تركه الناس»
وقال فيه البخاري: بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة، وقال: ألان له الكلام
وقال: إن شر الناس من تركه أو ودعه، لم يذكر منزلة عند اللَّه يوم القيامة، وترجم عليه: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.
وذكره أبو داود في الأدب، في باب حسن العشرة. وخرجه البخاري أيضا في باب المداراة مع الناس، من حديث سفيان عن ابن المنكدر، وحدثه عروة بن الزبير، أن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أخبرته أنه استاذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رجل فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة- أو بئس أخو العشيرة- فلما دخل ألان له في الكلام، فقلت: يا رسول اللَّه! قد قلت ما قلت، ثم ألنت له في الكلام؟ فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند اللَّه من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
وخرجه في باب لم يكن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فاحشا، من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، وعن عروة عن عائشة أن رجلا استأذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول اللَّه! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال يا عائشة، متى عهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند اللَّه منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه.
وخرجه أبو داود في باب حسن العشرة، من حديث حماد، عن محمد ابن عمرو عن أبى سلمة، عن عائشة، أن رجلا استأذن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسط عليه، فقال: يا عائشة، إن اللَّه لا يحب الفاحش المتفحش.
قيل: الّذي منع منه صلى اللَّه عليه وسلّم هو أن يظهر بلفظه لمن يخاطبه شيئا، وهو يريد خلافه، وأما لين الكلام لهذا الرجل فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم فعله حقيقة من أجل شره،(10/216)
ونبه بما قاله في غيبته على صفته ليحذر منها أمته، أو ليعامل من هو بحاله مثل ما عامله به صلى اللَّه عليه وسلّم، وهذا من قبيل الدفع بالتي هي أحسن.
وبهذا أيضا يجاب عن
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم لأبى بصير: مسعر حرب لو وجد أعوانا [ (1) ]
ويجاب أيضا عما
خرجه أبو داود في باب من ليست له غيبة، من حديث الجريريّ، عن أبى عبد اللَّه الجشمي، قال: حدثنا جندب قال: جاء أعرابى فأناخ راحلته، ثم عقلها، ثم دخل المسجد، فصلى خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما سلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللَّهمّ ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا إلى ما قال؟ قالوا: بلى [ (2) ] .
ويؤيده ما خرجه قاسم بن أصبغ، من طريق بقية، قال: حدثنا الربيع ابن بدر، عن أبان، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له [ (3) ] ، قول البخاري في باب المداراة مع الناس،
ويذكر عن أبى الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتعلنهم [ (4) ] .
***
__________
[ (1) ] راجع خبره في (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 9/ 12.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 5/ 197، كتاب الأدب، باب (42) من ليس له غيبة، حديث رقم (4885) ، وأخرج الترمذي نحوا منه من حديث أبى هريرة وليس فيه الفصل الأخير، في الوضوء، حديث رقم (147) ، باب البول يصيب الأرض، والنسائي في الطهارة، حديث رقم (56) باب ترك التوقيت في الماء، وفي السهو، حديث رقم (1217) ، باب الكلام في الصلاة، وابن ماجة في الطهارة، حديث رقم (529) باب بول الصبى الّذي لم يطعم، ومسلم في الطهارة، حديث رقم (284) ، والحاكم في (المستدرك) : 4/ 248، وأحمد في (المسند) : 4/ 312.
[ (3) ] (الأحاديث الضعيفة) للألبانى: حديث رقم (585) .
[ (4) ] سبق تخريجه.(10/217)
الرابعة: في انعقاد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بلا ولى ولا شهود
وفيه وجهان:
أحدهما: لا ينعقد بعموم
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل،
وأصحهما يباح له ذلك، ودليله ما
خرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة قال:
حدثنا ثابت عن أنس قال: كنت رديف أبى طلحة يوم خيبر، وقدمي تمس قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد اخرجوا مواشيهم، وخرجوا بفئوسهم ومكاتلهم، فقالوا محمدا والخميس، وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين
قال وهزمهم اللَّه عز وجل ووقعت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها، قال واحسبها كذا قال، وتعتد في بيتها، وهي صفية بنت حيي، قال فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وليمتها التمر والأقط والسمن قال:
فحصبت الأرض أفاحيص، وجيء بالأنطاع فوضعت بها، وجاء بالأقط والثمن، فشبع الناس، قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد، قالوا: إن حجبها فهي امرأته، وأن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنها قد تزوجها ... الحديث.
وأخرج البخاري والنسائي نحو هذه القصة من حديث إسماعيل بن جعفر، عن حميد عن أنس، قال: أقام النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بين خيبر والمدينة ثلاثا، يبنى على بصفية بنت حيي، فدعوت المسلمين الى وليمة، فما كان فيها من خبز ولا لحم، أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والثمن، وكانت وليمته، فقال المسلمون: أحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه؟.
فقالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأها خلفه الحجاب بينها وبين الناس.
ذكره البخاري في باب بناء العروس في السفر، وفي باب اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها، وذكره النسائي في باب البناء في السفر.(10/218)
ووجه الدلالة من هذا الحديث أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لو عقد على صفية بولي وشهود لعلم ذلك الصحابة، لا سيما عند من يشترط الإعلان في النكاح، فلما لم يكن عنده من العلم بحالها أن ضرب الحجاب عليها، دلّ ذلك دلالة واضحة على أنه صلى اللَّه عليه وسلّم بنى عليها من غير أن يعقد له عليها ولى، ولا حضر شهود بينهما بذلك، فإن اعتبار الولي في عقد النكاح إنما هو للمحافظة على الكفاء ولا مرية في أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فوق الأكفاء كلهم، وهكذا اعتبار الشهود في النكاح إنما هو خشية الجحود، وقد نزه اللَّه تعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم عن نسبة ذلك إليه.
فلو فرضنا جحود المرأة، لم يرجع إلى قولها، بل قال العراقي في (شرح المهذب) : تكون كافرة بتكذيبه صلى اللَّه عليه وسلّم.
واستدل أيضا بقصة زينب في تزويجه صلى اللَّه عليه وسلّم بها، لكن هذا الخلاف في غير زينب، فإن زينب نصوا على أن اللَّه تعالى زوجها نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم من فوق سبعة أرقعة، وقد نبه عليه النووي في (شرح مسلم) ، في باب زواج زينب بنت جحش رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
وذكر القضاعي هذه الخصوصية في ما خصّ به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء قبله. وقال الشيخ أبو حامد [الغزالي] : الخلاف في المسألة مبنية على أن النكاح الآن محكوم عليه هنا إنما هو نفى ماهية النكاح عند انتفاء ذلك فتنتفي تلك الماهية أيضا في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم عمل بهذا الحديث، ولم يأت لفظ عام للأشخاص حتى نقول قد دخل فيهم فلا وجه له يكن في هذا الحديث ولقويت له حجة المنع، لكن قصة صفية دليل واضح فتأمله.
***(10/219)
الخامسة: هل كان يباح له صلى اللَّه عليه وسلّم التزويج في الإحرام
أشبه وحجمه النووي في أصل الروضة. وثانيها لا يباح كغيرة ودليل الجواز حديث ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم، رواه عن ابن عباس عن عكرمة وسعيد بن جبير وجابر بن زيد أبو الشعثاء ومجاهد وعطاء بن رباح.
خرج البخاري من طريق مالك بن إسماعيل بن عتبة أنبأنا عمر وجابر ابن زيد أن ابن عباس أخبره أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج وهو محرم فحدثت به الزهري فقال أخبرنى يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو حلال وله من حديث عمرو بن دينار وعن جابر بن زيد أبى الشعثاء عن ابن عباس قال: تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة وهو محرم.
وخرج في كتاب الحج والنسائي من حديث الأوزاعي، حدثني عطاء بن رباح عن ابن عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نكح ميمونة وهو محرم وترجم عليه البخاري باب ترويج المحرم.
وخرج البخاري في عمرة القضاء من حديث عكرمة عن ابن عباس ان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم.
وخرج ابن ماجة من طريق ابن إسحاق عن أبى نجيح وأبان بن صالح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس: تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة في عمرة القضاء.
وللطبراني في (الأوسط) من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهما محرمان وقال: لم يروه عن جميل إلا حماد، وتفرد به الحسن وبلال ورواه ابن شاهين من طريق سعيد عن قتادة عن كرمة عن ابن عباس.
وكذلك ورواه البيهقي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم.
وخرج الدار قطنى والعقيلي والطحاوي في (المشكل) من طريق أبى صالح عن أبى هريرة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وفي إسناده خالد بن عبد الرحمن قال العقيلي: ليس بذاك وقال الرافعي: ونكاح ميمونة في أكثر الروايات جرى وهو حلال وقال ابن عبد البر: لا أعلم من الصحابة روى أن(10/220)
الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم إلا ابن عباس وتعقب عليه بحديث أبى هريرة المذكور وبحديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وله في طرق، الأول أخرجه البزار والطحاوي وابن حبان من طريق أبى عوانه [بسنده] عن مسروق عن عائشة وهذا إسناد صحيح.
الثاني أخرجه النسائي والبيهقي من طريق عمر بن على الفلاس عن أبى عاصم عن عثمان بن الأسود عن بن أبى مليكة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم. قال عمرو:
قلت لأبى عاصم: أنت أمليت علينا هذا، ليس فيه عائشة، قال: دع عائشة حتى انظر.
قال عمرو الفلاس: فقمت انظر، أحق ما تقول؟ قال أبو عاصم:
فنظرت فيه، فوجدته مرسلا.
وقال ابن أبى شيبة [ (1) ] : أخبرنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة وهو محرم.
وروى ابن سعد [ (2) ] من طريق الشعبي ومجاهد مثله، والظاهر أن هؤلاء أخذوه عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
ويدل على ذلك ما رواه النسائي [ (3) ] من طريق يحيى عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نكح ميمونة وهو محرم.
وقد روت ميمونة، وأبو رافع، وجابر، وصفية بنت شيبة، وابن عباس، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها حلالا.
__________
[ (1) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 3/ 148، كتاب الحج، باب (39) في المحرم يزوج، حديث رقم (12956) .
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 8/ 132.
[ (3) ] (سنن النسائي) : 5/ 210، كتاب المناسك، باب (90) الرخصة في نكاح المحرم، حديث رقم (2837) ، ولفظه: «تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة وهو محرم» ، وحديث رقم (2839) ، ولفظه: «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج ميمونة وهما محرمان» .(10/221)
أخرج مسلم [ (1) ] من حديث يحيى بن آدم قال: حدثنا جرير بن حازم، حدثنا أبو فزارة، عن يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
وخرجه أبو داود من حديث حماد، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمونة بنت مهران، عن يزيد بن الأصم، عن أخت ميمونة، عن ميمونة، قالت:
تزوجني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن حلال بسرف. ذكره في كتاب الحج، وخرجه الترمذي [ (2) ] وابن ماجة [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 207، كتاب النكاح، باب (5) تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، حديث رقم (47) و (48) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 202- 203، كتاب الحج، باب (24) ما جاء في الرخصة في تزويج المحرم، حديث رقم (844) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأبو الشعثاء اسمه جابر بن زيد.
واختلفوا في تزويج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ميمونة لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تزوجها في طريق مكة. فقال:
بعضهم: تزوجها حلالا، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال، بسرف ففي طريق مكة. وماتت ميمونة بسرف، حيث بنى بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. ودفنت بسرف.
[ (3) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 632، كتاب النكاح، باب (45) المحرم يتزوج، حديث رقم (1965) .(10/222)
السادسة: هل كان يجب عليه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يقسم بين نسائه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهنّ؟
على وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه. وقال أبو سعيد الاصطخرى، والماوردي، وطائفه، وصححه الغزالي في (الخلاصة) ، وعليه القسم في الوجهين.
والثاني: أنه يجب، وصححه الشيخ أبو حامد، والعراقيون، وتابعهم البغوي، وهو في ظاهر نصه في (الأم) .
ومأخذ الخلاف في هذه المسائل وأخواتها، أن الزوجات في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم كالسرارى في حق غيره، أو كالزوجات، وفيه وجهان: فإن جعلناهن كالسرارى لم يشترط الولي ولا الشهود، وانعقد نكاحه في الإحرام، وبلفظ الهبة، ولم ينحصر عدد منكوحاته ولا طلاقه، ولا يجب عليه القسم، وإن جعلناهن كالزوجات انعكس الحكم.
واحتج من لم ير القسم واجبا، وإنما كان يتطوع به، لأن في وجوبه عليه صلى اللَّه عليه وسلّم شغلا عن لوازم الرسالة، ولقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [ (1) ] ... الآية، أي تبعد من تشاء فلا تقسم لها، وتقرب من تشاء وتقسم لها.
ولما خرجه مسلم [ (2) ] من حديث شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يطوف على نسائه في غسل واحد.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 51.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 224، كتاب الحيض، باب (6) جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام، أو يجامع، حديث رقم (28) ، قال الإمام النووي: وأما طوافه صلى اللَّه عليه وسلّم على نسائه بغسل واحد فيحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يتوضأ بينهما أو يكون المراد بيان جواز ترك الوضوء
وقد جاء في (سنن أبى داود) أنه صلى اللَّه عليه وسلّم طاف على نسائه ذات ليلة يغتسل عند هذه وعند هذه! فقيل يا رسول اللَّه: ألا تجعله غسلا واحدا(10/223)
وخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث سفيان عن معمر، عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمثله، وقال: حديث أنس حديث
__________
[ () ] فقال: هذا أذكى وأطيب وأطهر.
قال أبو داود والحديث الأول أصح. قلت: وعلى تقدير صحته يكون هذا في وقت وذاك في وقت واللَّه أعلم.
واختلف العلماء في حكمة هذا الوضوء فقال أصحابنا لأنه يخفف الحدث فإنه يرفع الحديث عن أعضاء الوضوء. وقال أبو عبد اللَّه المازري رضى اللَّه عنه اختلف في تعليله فقيل:
ليبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه وقيل: بل لعله أن ينشط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه. قال المازري: ويجرى هذا الخلاف في وضوء الحائض قبل أن تنام فمن علل بالمبيت على طهارة استحبه لها. هذا كلام المازري.
وأما أصحابنا فإنّهم متفقون على أنه لا يستحب الوضوء للحائض والنفساء لأن الوضوء لا يأثر في حدثهم فإن كانت الحائض قد انقطعت حيضتها صارت كالجنب واللَّه أعلم.
وأما طواف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على نسائه فهو محمول على أنه كان برضاهن أو برضى صاحبة النوبة إن كانت نوبة واحدة فهذا التأويل يحتاج إليه من يقول كان القسم واجبا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الدوام كما يجب علينا.
وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى تأويل فإن له أن يفعل ما يشاء وهذا الخلاف في وجوب القسم هو وجهان لأصحابنا واللَّه أعلم.
وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة وهذا بإجماع المسلمين وقد اختلف أصحابنا في الموجب لغسل الجنابة، هل هو حصول الجنابة بالتقاء الختانين أو إنزال المنى أم هو القيام إلى الصلاة أم هو حصول الجنابة مع القيام إلى الصلاة؟ في ثلاثة أوجه لأصحابنا ومن قال: يجب بالجنابة قال:
هو وجوب موسع، وكذا اختلفوا في موجب الوضوء هل هو الحدث أم القيام إلى الصلاة أم المجموع؟ وكذا اختلفوا في الموجب لغسل الحيض هل هو خروج الدم أم انقطاعه؟ واللَّه أعلم.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 1/ 259، أبواب الطهارة، باب (106) ما جاء في الرجل يطوف على نسائه بغسل واحد، حديث رقم (140) ، قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح، ثم قال في هامشه: الحديث نسبه المجد بن تيمية في المنتقى للجماعة إلا البخاري، وتعقبه الشوكانى في (نيل الأوطار) ، فقال: الحديث أخرجه البخاري أيضا من حديث قتادة عن(10/224)
حسن صحيح، [أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يطوف على نسائه بغسل واحد وهو قول غير واحد من أهل العلم، منهم الحسن البصري: أن لا بأس أن يعود قبل أن يتوضأ] [ (1) ] ، وقد روى محمد بن يوسف هذا عن سفيان فقال: عن أبى عروة، عن أبى الخطاب عن أنس، وأبو عروة وهو: معمر بن راشد، وأبو الخطاب:
قتادة بن دعامة. [قال أبو عيسى: ورواه بعضهم عن محمد بن يوسف عن سفيان عن ابن أبى عروة، عن أبى الخطاب، وهو خطأ، والصحيح: عن أبى عروة] .
وخرجه أبو داود [ (2) ] من حديث إسماعيل، قال: أنبأنا حميد الطويل، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم طاف على نسائه في غسل واحد قال أبو داود: هكذا رواه هشام بن زيد، عن أنس ومعمر، عن قتادة.
وخرج البخاري [ (3) ] والنسائي [ (4) ] من حديث عبد الأعلى بن حماد، قال:
حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، أن أنس بن مالك حدثهم أن
__________
[ () ] أنس بلفظ: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن أحدى عشر، قال: قلت لأنس بن مالك: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى قوة ثلاثين.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 148- 149، كتاب الطهارة، باب (85) في الجنب يعود، حديث رقم (218) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد، حديث رقم (268) ، وذكره في كتاب النكاح باب (4) كثرة النساء، حديث رقم (5068) .
[ (4) ] (سنن النسائي) : 6/ 361، كتاب النكاح، باب (1) ، ذكر أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وأزواجه وما أباح اللَّه عز وجل لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم وحظره على خلقه زيادة في كراماته وتنبيها لفضيلته، حديث رقم (3198) ، أخرجه النسائي أيضا في عشرة النساء من (الكبرى) ، باب طواف الرجل في الليلة الواحدة، حديث رقم (148) ، وذكره في كتاب عشرة النساء من (المجتبى) ، باب (1) حب النساء، حديث رقم (3949) .(10/225)
نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة.
ذكره البخاري في كتاب الغسل، وفي كتاب النكاح. وذكره النسائي في أول كتاب النكاح، وفي كتاب العشرة.
وللبخاريّ [ (1) ] من حديث هشام عن قتادة، قال: أنبأنا أنس بن مالك قال:
كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد. ومن دار على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (268) وقد جمع ابن حبان في (صحيحه) بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم في قوله: «إن الأولى كانت في أول قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة» وموضع الوهم منه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور.
واختلف في ريحانة وكانت من سبى بنى قريظة فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة.
فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد.
لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهنّ لفظ «نسائه تغليبا. وقد سرد الدمياطيّ- في (السيرة) التي جمعها- من اطلع عليه من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي (المختارة) من وجه آخر عن أنس «تزوج خمس عشرة: دخل منهم بإحدى عشرة ومات عن تسع» وسرد أسماءهن أيضا أبو الفتح اليعمري ثم مغلطاى فزدن على العدد الّذي ذكره الدمياطيّ، وأنكر ابن القيم ذلك.(10/226)
إحدى عشرة، قلت لأنس: وكان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين. وقال سعيد: عن قتادة، أن أنس حدثهم: تسع نسوة. ذكره في باب إذا جامع ثم عاود. ومن دار على نسائه في غسل واحد.
وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: إن اللَّه تعالى خصّ نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم بأشياء في النكاح، منها أنه أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حقّ يدخل فيها على جميع أزواجه، فيحصل ما يريد منهن، وفي كتاب مسلم أن تلك الساعة بعد العصر، فلو اشتغل كانت بعد المغرب أو غيره، فلذلك كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يدور على نسائه في الليل والنهار، وهذا كله بناء على وجوب القسم عليه.
والّذي يظهر من أحاديث الوجوب، منها ما خرجه مسلم [ (1) ] من حديث سليمان بن المغيرة قال: «كان للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينهى إلى المرأة الأولى [إلا] في تسع فكن يجتمعن كل ليله في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليها، فقالت: هذه زينب، فكف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يده، فتقاولتا حتى استحثتا، وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على ذلك، فسمع أصواتهما، فقال: اخرج يا رسول اللَّه إلى الصلاة، واحث في أفواههنّ التراب، فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقالت عائشة: الآن
__________
[ () ] والحق ان الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص العدة. واللَّه أعلم.
قوله: (أو كان) بفتح الواو هو مقول قتادة والهمزة للاستفهام ومميز ثلاثين محذوف أي ثلاثين رجلا، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبى موسى عن معاذ بن هشام «أربعين» بدل ثلاثين، وهي شاذة من هذا الوجه لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك، وزاد «في الجماع» وفي (صفة الجنة) لأبى نعيم من طريق مجاهد مثله وزاد «من رجال أهل الجنة» ، ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رفعه «أعطيت قوة أربعين في البطش والجماع» وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه «إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة» فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا أربعة آلاف.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 299، كتاب الرضاع، باب (13) القسمة بين الزوجات، حديث رقم (1462) .(10/227)
يقضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بى ويفعل، فلما قضى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولا شديدا وقال: أتصنعين هذا؟.
وفيها ما أخرجه البخاري [ (1) ] من طريق زهير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
وخرجه مسلم [ (2) ] من حديث جرير عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: يا رسول اللَّه قد جعلت يومى منك لعائشة فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة.
[ومنها ما خرجه البخاري [ (3) ] ومسلم [ (4) ]] [ (5) ] من حديث ابن جريح، أخبرنى عطاء قال حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بسرف
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 390، كتاب النكاح، باب (99) المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك، حديث رقم (5212) ، قال العلماء: إذا وهبت يومها لضرتها قسم الزوج لها يوم ضرتها، فإن كان تاليا ليومها، وإلا لم يقدمه عن رتبته في القسم إلا برضا من بقي.
وقالوا: إذا وهبت المرأة يومها لضرتها، فإن قبل الزوج لم يكن للموهوبة أن تتمتع، وإن لم يقبل لم يكره على ذلك، وإذا وهبت يومها لزوجها ولم تتعرض للضرة، فهل له أن يخص واحدة إن كان عنده أكثر من اثنتين، أو يوزعه بين من بقي؟.
وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت، لكن فيما يستقبل، لا فيما مضى، وأطلق ابن بطال أنه لم يكن لسودة الرجوع في يومها الّذي وهبته لعائشة. (فتح الباري) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 302، كتاب الرضاع، باب (14) جواز هبتها نوبتها لضرتها، حديث رقم (47) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 139، كتاب النكاح، باب (4) كثرة النساء، حديث رقم (5067) ، ويستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته، وفيه حديث كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا، أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وصححه ابن حبان. (فتح الباري) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 304، كتاب الرضاع، باب (14) جواز هبتها نوبتها لضرتها، حديث رقم (51) . قال الإمام النووي: وأما قول عطاء: التي لم يقسم لها صفية، فقال(10/228)
فقال ابن عباس: هذه زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وأرفقوا فإنه كان عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تسع نسوة فكان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة. قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب، وقال البخاري: فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها.
ومنها ما خرجه مسلم [ (1) ] ، أبو داود [ (2) ] من حديث سفيان، عن محمد ابن أبى بكر عن عبد الملك بن أبى بكر بن عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين
__________
[ () ] العلماء: هو وهم من ابن جريح الراويّ عن عطاء، وإنما الصواب: فقال الزهري: هي ميمونة، وقيل: أم شريك، وقيل: زينب بنت خزيمة.
[ (5) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 296، كتاب الرضاع، باب (12) قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، حديث رقم (42) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 2/ 594- 595، كتاب النكاح، باب (35) ، حديث رقم (2122) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم: الثلاث تخصص للثيب لا يحتسب بها عليها، ويستأنف القسم فيما يستقبل، وكذلك السبع للبكر، وإلى هذا ذهب مالك والشافعيّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد روى ذلك عن الشعبي.
وقال أصحاب الرأى: البكر والثيب في القسم سواء، وهو قول الحكم وحماد.
وقال الأوزاعي: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثا، وإذا تزوج الثيب على البكر يمكث يومين.
قال الشيخ: السبع في البكر والثلاث في الثيب حق العقد خصوصا لا يحاسبان على ذلك ولكن يكون لهما عفوا بلا قصاص.
وقوله «إن شئت سبعت لك، سبعت لنسائي» ليس فيه دليل على سقوط حقها الواجب لها إذا لم يسبع لها وهو الثلاث التي هي بمعنى التسويغ لها، ولو كان ذلك بمعنى التبدئة ثم يحاسب عليها لم يكن للتخيير معنى، لأن الإنسان لا يخير بين جميع الحق وبين بعضه فدل على أنه بمعنى التخصيص.
قال الشيخ: ويشبه أن يكون هذا من المعروف الّذي أمر اللَّه تعالى به في قوله وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] وذلك أن البكر لما فيها من الخفر والحياء تحتاج إلى(10/229)
تزوج أم سلمة وأصبحت عنده قال لها: ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت وأن شئت ثلثت ثم درت، قالت: ثلث.
وخرجه مسلم [ (1) ] أيضا من حديث عبد الملك بن أبى بكر عن أبى بكر ابن عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين تزوج أم سلمة، أقام عندها ثلاثة، وقال: إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي.
وله من حديث سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حميد، عن عبد الملك بن أبى بكر عن أبى بكر بن عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين تزوج أم سلمة فدخل عليها فأراد أن يخرج أخذت بثوبه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث. [ (2) ]
ومنها ما
أخرجه البخاري [ (3) ] من حديث هشام بن عروة، أخبرنى أبى عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يسأل في مرضه الّذي مات فيه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة: فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان حتى مات عندها. قالت: عائشة: فمات في اليوم
__________
[ () ] فصل إمهال وصبر وحسن تأن ورفق ليتوصل الزوج إلى الارب منها، والثيب قد جربت الأزواج وارتاضت بصحبة الرجال فالحاجة إلى ذلك في أمرها أقل، إلا انها تخص بالثلاث تكرمة لها وتأسيا للألفة فيما بينه وبينها واللَّه أعلم. (خطابي) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 296، كتاب الرضاع، باب (12) قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، حديث رقم (41) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 297، كتاب الرضاع، باب (12) قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، الحديث الّذي يلي رقم (42) بدون رقم.
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 395، كتاب النكاح، باب (105) إذا استأذن الرجل نساءه أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له، حديث رقم (5217) ، والغرض من هذا الحديث أن القسم لهن يسقط بإذنهن في ذلك، فكأنهن وهبن أيامهن تلك للتي هو في بيتها. (فتح الباري) .(10/230)
الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي، فقبضه اللَّه وإن رأسه لبين نحري وسحري [ (1) ] ، وخالط ريقي ريقه.
وخرجه مسلم [ (2) ] ، ولفظه: عن عائشة قالت: إن كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليتفقد يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة، قالت: فلما كان يومى قبضه اللَّه بين سحري ونحري.
وفيها ما أخرجه البخاري [ (3) ] من حديث الزهري، عن عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تبتغي بذلك رضا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث ابن أبى ملكية، عن القاسم، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أراد سفرا
__________
[ (1) ] في (الأصل) : «وسحري الحديث» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 216، كتاب فضائل الصحابة، باب (13) فضل عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (84) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 5/ 272، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (15) هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة. فإذا كانت سفيهة لم يجز، قال اللَّه تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النساء: 5] ، حديث رقم (2593) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 9/ 387، كتاب النكاح، باب (98) القرعة بين النساء إذا أراد سفرا، حديث رقم (5211) ، قال الحافظ: مفهومه اختصاص القرعة بحالة السفر، وليس على عمومها بل لتعين القرعة من يسافر بها، وتجرى القرعة أيضا فيما إذا أراد أن يقسم بين زوجاته فلا يبدأ بأيهن نساء بل يقرع بينهن فيبدأ بالتي تخرج لها القرعة، إلا أن يرضين بشيء فيجوز بلا قرعة، وقوله: (أقرع بين نسائه) زاد ابن سعد من وجه آخر، عن القاسم، عن عائشة «فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية» ، واستدل به على مشروعيته القرعة في القسمة بين الشركاء وغير ذلك كما تقدم في أواخر الشهادات، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الخطر والقمار، وحكى(10/231)
أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها، فقالت حفصة: إلا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وانظر، فقالت: بلى، فركبت، فجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر، وتقول: رب سلط عليّ عقربا أو حية تلدغني، ولا أستطيع أن أقول له شيئا.
ومنها ما
خرجه أبو داود [ (1) ] والترمذي [ (2) ] والنسائي [ (3) ] ، وقاسم بن أصبغ، من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عبد اللَّه بن زيد،
__________
[ () ] عن الحنفية إجازتها، وقد قالوا به في مسألة الباب. واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا يقع بها السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى، وقال القرطبي:
ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء وتختص مشروعية القرعة بما اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح، وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلا لحملة على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 218- 219، كتاب فضائل الصحابة، باب (13) في فضل عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (88) ، قال الإمام النووي: وهذا الإقراع عندنا واجب في حق غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ففي وجوب القسم في حقه خلاف فمن قال بوجوب القسم يجعل إقراعه واجبا ومن لم يوجبه يقول: إقراعه صلى اللَّه عليه وسلّم من حسن عشرته ومكارم أخلاقه.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 2/ 601، كتاب النكاح، باب (39) في القسم بين النساء، حديث رقم (2134) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 446، كتاب النكاح، باب (41) ما جاء في التسوية بين الضرائر، حديث رقم (1140) ، قال أبو عيسى: حديث عائشة هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن عائشة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقسم. ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبى قلابة مرسلا، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة.(10/232)
عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم فيعدل ويقول: اللَّهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
قال أبو داود: يعنى القلب.
ومنها ما
أخرجه مسلم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن وهب، قال ابن جريج، عن عبد اللَّه بن كثير بن المطلب أنه سمع محمد بن قيس يقول سمعت عائشة
__________
[ () ] (3) (سنن النسائي) : 7/ 75، كتاب النساء، باب (3) ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، حديث رقم (3953) ، قال الإمام السندي: قوله: «فلا تلمني فيما لا أملك وتملك» أي المحبة بالقلب فإن قلت: لمثله لا يؤاخذ ولا يلام غيره صلى اللَّه عليه وسلّم فضلا عن أن يلام هو إذ لا تكليف بمثله فما معنى هذا الدعاء قلت لعله مبنى على جواز التكليف بمثله وإن رفع التكليف تفضل منه تعالى فينبغي للإنسان أن يتضرع في حضرته تعالى ليديم هذا الإحسان أو المقصود إظهار إفتقار العبوديّة وفي مثله لا التفات إلى مثل هذه الأبحاث واللَّه تعالى أعلم.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 45- 48، كتاب الجنائز، باب (35) ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث رقم (103) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (السلام عليكم دار قوم المؤمنين)
دار منصوب على النداء أي يا أهل دار فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقيل منصوب على الاختصاص، قال صاحب (المطالع) ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم، قال الخطابي: وفيه أن اسم الدار يقع على المقابر قال: وهو صحيح فان الدار في اللغة يقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير المأهول.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (اللَّهمّ أغفر لأهل بقيع الغرقد)
البقيع هنا بالباء بلا خلاف وهو مدفن أهل المدينة سمى بقيع الغرقد لغرقد كان فيه وهو ما عظم من العوسج وفيه إطلاق لفظ الأهل على ساكن المكان من حي وميت.
وفيه جواز ترخيم الاسم إذا لم يكن فيه إيذاء المرخم، وحشيا بفتح الحاء المهملة وإسكان الشين المعجمة مقصور معناه وقد وقع عليك الحشا وهو الربو والتهيج الّذي يعرض للمسرع في مشيه والمحتد في كلام من ارتفاع النفس وتواتره يقال امرأة حشياء وحشية ورجل حشيان وحشش قيل أصله من أصاب الربو حشاه وقوله رابية أي مرتفعة البطن.(10/233)
تحدث فقالت: ألا أحدثكم عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وسلم وعنى قلنا بلى وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ له قال: حدثنا حجاج بن محمد حدثنا ابن جريج أخبرنى عبد اللَّه رجل من قريش عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما: ألا أحدثكم عنى وعن أمى قال: فظننا أنه يريد أمه التي ولدته. قال:
قالت عائشة: ألا أحدثكم عنى وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قلنا بلى قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيها عندي انقلب فوضع ردائه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ ردائه رويدا، وابتعد رويدا، وفتح الباب، فخرج ثم أجأثه رويدا فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فليس لا أن اضطجعت فدخل فقال مالك: يا عائش حشيا رابية، قالت:
قلت لا شيء: قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير؟ قالت: قلت يا
__________
[ () ] قولها: (قلت كيف أقول يا رسول اللَّه؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين المسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين وإنا إن شاء اللَّه تعالى بكم للاحقون)
فيه استحباب هذا القول لزائر القبور وفيه ترجيح لقول من قال في قوله سلام عليكم دار قوم مؤمنين أن معناه أهل دار قوم مؤمنين وفيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد وعطف أحدهم على الآخر لاختلاف اللفظ وهو بمعنى قوله تعالى فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن لأن المؤمن إن كان منافقا لا يجوز السلام عليه والترحم وفيه دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور وفيها خلاف للعلماء وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا:
أحدها: تحريمها عليهنّ لحديث لعن اللَّه زوارات القبور.
والثاني: يكره والثالث: يباح ويستدل له بهذا الحديث وبحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ويجاب عن هذا بأن نهيتكم ضمير ذكور فلا يدخل فيه النساء على المذهب الصحيح المختار في الأصول، واللَّه أعلم.(10/234)
رسول اللَّه بأبي أنت وأمى فأخبرته قال: فأنت السواد الّذي رأيت أمامى قلت:
نعم فلهدنى في صدري لهده أوجعتني ثم قال أظننت أن يحيف اللَّه عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه اللَّه، نعم قال: فإن جبريل عليه السلام أتانى حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشى فقال إن ربك يأمرك أن تأتى أهل البقيع فتستغفر لهم قالت: قلت:
كيف أقول لهم يا رسول اللَّه؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء اللَّه بكم للاحقون.
وأخرجه النسائي [ (1) ] أيضا من طريق حجاج الأعور، عن ابن جريج، قال: أخبرنى عبد اللَّه بن أبى مليكة، أنه سمع محمد بن قيس بن مخرمة يقول:
سمعت عائشة
تحدث قلت: ألا أحدثكم عنى وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قلنا: بلى الحديث بطوله.
هذا الحديث لعائشة، أظننت أن يحيف اللَّه عليك ورسوله، واضح في الدلالة وضوحا أكثر من غيره. وأما الآية، فقد اختلف في تأويل قوله تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقال قوم: عنى بقوله:
تُرْجِي: تؤخر، وبقوله: تُؤْوِي: تضم. فعن ابن عباس: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ يقول: تؤخر. وعن مجاهد: تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ تردها إليك.
وعن قتادة قال: فجعله من ذلك في حل أن يدع من يشاء منهن ويأتى من يشاء بغير قسم. وكان نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقسم.
وعن ابن زيد قال: لما أشفقن أن يطلقهن قلن: يا نبي اللَّه: اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، فكان ممن أرجأ منهن سودة بنت زمعة، وجويرية،
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 4/ 396- 398، كتاب الجنائز باب (103) ، الأمر بالاستغفار للمؤمنين، حديث رقم (2036) ، وأخرجه النسائي أيضا في كتاب النساء، باب (4) الغيرة، حديث رقم (3973) .(10/235)
وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان ممن أوى إليه عائشة، وأم سلمة، وحفصة، وزينب.
وعن الضحاك: فما شاء صنع في القسمة بين النساء، أحل اللَّه ذلك.
وعن أبى رزين: وكان ممن أوى، عن عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان قسمه من ماله ونفسه سواء.
وكان ممن أرجأ: سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء، وكان إذا أراد أن يفارقهن فقلن: اقسم لنا من نفسك ما شئت، ودعنا على حالنا.
وقال آخرون: معنى ذلك تطلق، وتخلى سبيل من شئت من نسائك، وتمسك منهن من شئت فلا تطلق.
فعن ابن عباس أيضا، قوله: ترجى من تشاء منهن أمهات المؤمنين وتؤوي إليك من تشاء، يعنى نساء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. ويعنى بالإرجاء، يقول: من شئت خليت سبيله منهن، ويعنى بالإيواء: من اجتبيت أمسك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تترك نكاح من شئت، وتنكح من شئت من نساء أمتك.
قال قتادة، عن الحسن: وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوجها أو يتركها. قال الطبري: وقيل: إن ذلك إنما جعله اللَّه تعالى لنبيه، حين غار بعضهن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وطلبت بعضهن من النفقة زيادة على الّذي كان يعطيها، فأمره اللَّه تعالى أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة، ويخلى سبيل من اختارت الحياة الدنيا وزينتها، ويمسك من [اختارت] اللَّه ورسوله، فلما اخترن اللَّه ورسوله، قيل لهن: أقررن الآن على الرضا باللَّه وبرسوله، قسم لكنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أو لم يقسم، أو قسم لبعضكن، ولم يقسم لبعضكن، وفضل بعضكن على بعضكن في النفقة، أو لم يفضل، سوى بينكن أو لم يسو، فإن الأمر في ذلك إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس لكن في ذلك شيء.
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيما ذكر، مع ما جعل اللَّه تعالى له من ذلك، يسوى بينهن في القسم، إلا امرأة منهن أراد طلاقها، فرضيت بترك القسم لها.(10/236)
قال: وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل: فذكر عن منصور، عن أبى رزين، قال: لما أراد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يطلق أزواجه، قلن له: افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت، فأمره اللَّه تعالى، فأوى أربعا وأرجأ خمسا.
وذكر حديث هشام بن عروة عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أنها قالت: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل، حتى أنزل اللَّه تعالى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [ (1) ] ، فقالت: إن ربك ليسارع في هواك.
وذكر من طريق ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [ (2) ] قال: كان أزواجه تغايرن على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فهجرهن شهرا، ثم نزل التخيير من اللَّه تعالى فيهن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً* يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً* يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (3) ] .
فخيرهن أن يخلى سبيلهن ويسرحهن، وبين إن يقمن أن أردن اللَّه ورسوله، على أنهن أمهات المؤمنين، لا ينكحن أبدا، وعلى أنه يؤوى إليه من يشاء منهن ممن وهبت نفسها له، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها، ويرجى من يشاء، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل، فلا
__________
[ (1) ] الأحزاب: 51.
[ (2) ] الأحزاب: 51.
[ (3) ] الأحزاب: 28- 33.(10/237)
جناح عليه، ذلك أدنى أن تقر أعينهن، ولا يحزن، ويرضين، إذا علمن أنه من قضائي عليهنّ إيثار بعضهن على بعض، ذلك أدنى أن يرضين.
قال: ومن ابتغيت ممن عزلت من ابتغى أصابه، ومن عزله لم يصبه فخيرهن بين أن يرضين بهذا أو يفارقهن، فاخترن اللَّه ورسوله، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت، وكان على ذلك صلى اللَّه عليه وسلّم، وقد شرط اللَّه هذا الشرط، ما زال يعدل بينهن حتى لقي اللَّه تعالى.
واختار الطبري أن اللَّه تعالى جعل لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يرجئ من النساء اللاتي أحللن له من يشاء، ويؤوى منهن من يشاء، وأن الإرجاء والإيواء غير مقصور على من هن في نسائه يوم نزلت هذه الآية دون غيرهن ممن يستحدث إيواءها، وأرجاءها منهن.
وأن معنى الكلام: تؤخر من يشاء ممن وهبت نفسها لك، وأحلت لك نكاحها، فلا تقبلها، ولا تنكحها، وممن هي في حيالك، فلا تقربها، وتضم إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك، أو أردت من النساء اللاتي أحللن لك نكاحهن، فتقبلها أو تنكحها، وهي ممن في حيالك، فتجامعها إذا شئت، وتتركها إذا شئت بغير قسم.
وقال ابن القشيري في (تفسيره) : إن القسم كان واجبا ثم نسخ بهذه الآية، وتفسير الماوردي في الآية قولين:
أحدهما: عن مجاهد، أن معناها، تعزل ما شئت من أزواجك، فلا تأتيها، وتأتى من شئت.
والثاني: تؤخر من شئت من أزواجك، وتضم إليك من تشاء منهن، وهو قول قتادة، ونقله البخاري عن بن عباس. قال: الماوردي: واختلفوا، هل أرجأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية من نسائه أحدا أم لا؟ فالذي عليه(10/238)
الأكثرون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يرجئ، وأنه صلى اللَّه عليه وسلّم مات عن تسع، وكان يقسم لثمان منهن، لأن سودة وهبت يومها لعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. [ (1) ]
السابعة: في وجوب نفقات زوجاته صلى اللَّه عليه وسلّم
فيه الوجهان السابقان في المهر والأصح الوجوب كما ذكره النووي في (الروضة) [ (2) ] وعبارة الرافعي وجهان بناء على الخلاف في المهر. قال: في
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي في (الروضة) في كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره: وأما في النكاح، فأوجب اللَّه سبحانه وتعالى على نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم تخيير نسائه بين مفارقته واختياره.
وحكى الحناطى وجها أن هذا تخيير كان مستحبا، والصحيح الأول. ولما خيرهن، اخترنه والدار الآخرة، فحرم اللَّه تعالى عليه التزويج عليهنّ والتبدل بهن مكافأة لهن على حسن صنيعهن، فقال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ثم نسخ ذلك لتكون المنة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لترك التزويج عليهنّ، بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... الآية. وهل حرم عليه صلى اللَّه عليه وسلّم طلاقهن بعد ما اختارهن؟ فيه أوجه. أصحها: لا، والثاني: نعم. والثالث: يحرم عقب اختيارهن، ولا يحرم إذا انفصل ولو فرض أن واحدة منهن أختارت الدنيا، فهل كان يحصل الفراق بنفس الاختيار؟ وجهان.
أصحهما: لا. وهل كان جوابهن مشروطا بالفور؟ وجهان. أصحهما: لا. فإن قلنا بالفور، فهل كان يمتد بامتداد المجلس، أم المعتبر ما يعد جوابا في العرف؟ وجهان. وهل كان قولها:
اخترت نفسي، صريحا في الفراق؟ فيه وجهان.
[ (2) ] قال الإمام النووي: القسم الثاني: المتعلق بالنكاح، فمنه الزيادة على أربع نسوة، والأصح أنه لم يكن منحصرا في تسع، وقطع بعضهم بهذا، وينحصر طلاقه في ثلاث، وينعقد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بلفظ الهبة على الأصح فيهما وإذا انعقد بلفظ الهبة، لم يجب مهر بالعقد ولا بالدخول، ويشترط لفظ النكاح من جهته صلى اللَّه عليه وسلّم على الأصح، قال الأصحاب: وينعقد نكاحه صلى اللَّه عليه وسلّم بمعنى الهبة، حتى لا يجب المهر ابتداء ولا انتهاء، وفي (المجرد) للحناطى وغيره وجه غريب: أنه يجب المهر.
(روضة الطالبين) : 5/ 353.(10/239)
(المهمات) : وهذا البناء يشعر بترجيح عدم الوجوب وأنه الراجح في المهر واعترض على من بنى هذا على هذا بأن الخلاف في إيجاب المهر إنما هو في الواهبة، والمذهب أنه لا يحب كما تقدم.
وأما غير الواهبة فقد صدقهن كما وقع في القرآن الكريم قال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يعنى اللاتي تزوجهن بصداق وقال مجاهد: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ قال: صدقاتهن. وقال ابن زيد: كان كل امرأة أتاها مهرا فقد أحلها اللَّه له ومما يدل على توهين الوجه الصائر إلى عدم الوجوب
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقه.
فإذا كان يحب أن ينفق مما ترك بعد وفاته فكيف في حياته؟.
***(10/240)
الثامنة: كان له صلى اللَّه عليه وسلّم تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها وتزويجها من نفسه وتولى الطرفين بغير إذن وليها إذا جعله اللَّه تعالى أولى بالمؤمنين من أنفسهم
قال الحناطى: ويحتمل أن يقال: كان لا يجوز إلا بإذنها ويؤيد قول الحناطى أنه صلى اللَّه عليه وسلّم استأذن جويرية وطلب رضاها بنكاحه وأجيب عنه بأنه فعل ذلك تطبيبا لقلبها كقوله: والبكر تستأمر، ووقع في مطلب ابن الرفعة إن الرافعي حكى عن الحناطى أنه قال: يحتمل أن يقال: كان لا يجوز إلا بإذن وليها قال: ولم أر لذلك ذكرا في (الروضة) بل ذكر الخلاف المذكور في توليه الطرفين وإنما فيها حكايته في إذنها كما حكاه الرافعي فتنبه لذلك.
التاسعة: أن المرأة تحل له صلى اللَّه عليه وسلّم بتزويج اللَّه تعالى
قال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [ (1) ] يقول تعالى:
فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته وهي الوطر، زوجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه. وقيل: معنى زوجناكها أحللنا لك نكاحها، وكانت زينب تفخر على صواحباتها بذلك تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني اللَّه. من فوق سبع سماوات.
كما خرجه البخاري من حديث أنس وقال محمد بن عبد اللَّه بن جحش تفاخرت عائشة وزينب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فقالت زينب: أنا الّذي نزل تزويجي وقال جرير عن مغيرة عن الشعبي كانت زينب تقول للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهنّ: أن جدي وجدك واحد، وأنى أنكحنيك اللَّه من السماء، وأن السفير لجبريل.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 37.(10/241)
ومنع ذلك بعض أصحابنا وقال إنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنشأ عقدا على زينب، ومعنى زوجناكها أبحنا لك نكاحها. وعد القضاعي هذه الخصيصة مما خص بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء من قبله.
العاشرة: كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم نكاح المعتدّة
على وجه حكاه البغوي والرافعي، ولفظ البغوي وقيل كانت تحل له نكاح المعتدة، وذكر في (التعليقة) ما ليس في (التهذيب) فقال: وإذا رغب في ذات زوج فإنه يحرم على زوجها إمساكها وتحل له بتزويج اللَّه على الأصح وكذا كانت تحل له بلا عدة على معنى أنه لا يجب عليها أيضا العدة.
وقال أبو خلف عوض بن أحمد الروياني في كتاب (المعتبر في تقليل المختصر) للجوينى بعد قول أبى محمد: وإذا رغب في نكاح امرأة منكوحه كان على زوجها طلاقها ثم كان له أن ينكحها من غير عدة، قال: وقوله: من غير عدة لم يوجد إلا في هذا الكتاب أو ما بنى عليه، وقال النووي في (الروضة) : القطع بالمنع [ (1) ] .
قال ابن الصلاح: وقال الغزالي: في (الخلاصة) : وهو غلط منكر، وددت محوه منه وتبع فيه صاحب (مختصر الجويني) ومنشؤه من تصحيف كلام أتى به المزني رحمه اللَّه.
***
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي في (الروضة) : وكان له صلى اللَّه عليه وسلّم تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها، لا إذن وليها. قال الحناطى: ويحتمل أنه إنما كان يحل بإذنها، وكان يحل له نكاح المعتدة على أحد الوجهين.
قلت: هذا الوجه حكاه البغوي، وهو غلط، لم يذكره جمهور الأصحاب، وغلطوا من ذكره. بل الصواب القطع بامتناع نكاح المعتدة من غيره. واللَّه تعالى أعلم. (روضة الطالبين) : 5/ 354، كتاب النكاح. باب في خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.(10/242)
الحادية عشرة: هل كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؟
فيه وجهان في الرافعي عن ابن القطان بناء على أن المخاطب هل يدخل في الخطاب؟.
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها،
وله طرق عندهما، فالمعنى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 199، كتاب النكاح، باب (28) لا تنكح المرأة على عمتها، حديث رقم (5109) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 201، كتاب النكاح، باب (4) تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث رقم (33) . قال الإمام النووي في رواية: لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا بنت الأخت على الخال.
هذا دليل لمذاهب العلماء كافة، أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقة، وهي أخت الأب وأخت الأم، أو مجازية، وهي أخت أبى الأب، وأبى الجد، وإن علا، أو أخت أم الأم، وأم الجدة من جهة الأم والأب وإن علت.
فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجمع بينهما، وقالت طائفة من الخوارج والشيعة: يجوز.
وقال العلماء كافة: هو حرام كالنكاح لعموم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وقولهم: إنما هو مختص بالنكاح لا يقبل، بل جميع المذكورات في الآية محرمات بالنكاح وبملك اليمين جميعا، ومما يدل عليه قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فإن معناه إن ملك اليمين يحل وطؤها بملك اليمين، لا نكاحها. فإن عقد النكاح عليها لا يجوز لسيدها، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) مختصرا.
ثم قال في (الروضة) : وهل كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم الجمع بين امرأة وعمتها أو خالتها؟
وجهان بناء على أن المخاطب هل يدخل في الخطاب؟ ولم يكن يحل الجمع بينها وبين أختها، وأمها، وبنتها على المذهب. حكى الحناطى فيه وجهين. (روضة الطالبين) : 5/ 355، كتاب النكاح،؟ باب في خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.(10/243)
لا ينكح أحد، وهذا من الكلام في الخصائص بالاجتهاد دونه باطل، ولم يقع ذلك من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ولم يذكره ابن القاص ولا القفال ولا غيرهما، وإنما نسبه الرافعي إلى خط بعض الناس فقال: رأيت بخط بعض المصنفين عن أبى الحسن القطان في أنه هل كان يجوز له الجمع بين المرأة وخالتها وعمتها إلى آخره.
الثانية عشرة: هل كان يحل له صلى اللَّه عليه وسلّم الجمع بين الأختين؟
فالقرآن والأحاديث الصحيحة صريحة بتحريم ذلك، قال تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وهذا الخطاب يدخل فيه نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم.
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث شعيب عن الزهري قال: أخبرنى عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبى سلمة أخبرته أن أم حبيبة
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 198- 199، كتاب النكاح، باب (27) وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف، حديث رقم (5107) ، قال الحافظ في (الفتح) : والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانت شقيقتين، أم من أب، أم من أم، وسواء النسب والرضاع، واختلف فيما إذا كانتا بملك اليمين، فأجازه بعض السلف، وهو رواية عن أحمد والجمهور، وفقهاء الأمصار على المنع، ونظيره الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وحكاه الثوري عن الشيعة.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 10/ 278، كتاب الرضاع، باب (4) تحريم الربيبة وأخت المرأة، حديث رقم (15) . قال الإمام النووي: معناه أنها حرام عليه بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخى، فلو فقد أحد السببين حرمت بالآخر.
والربيبة ابنة الزوجة مشتقة من الرب، وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمورها، ويصلح أحوالها. ووقع في بعض كتب الفقه أنها مشتقة من التربية، وهذا غلط فاحش، فإن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية ولام الكلمة، وهو الحرف الأخير مختلف، فإن آخر رب باء موحدة، وفي آخر ربى ياء مثناة من تحت، واللَّه تعالى أعلم.(10/244)
قالت: يا رسول اللَّه أنكح أختى بنت أبى سفيان، قال: وتحبين؟ قلت: نعم لست لك بمخلية. وأحب من شاركني في خير أختى، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إن ذلك لا يحل لي. قلت: يا رسول اللَّه. فو اللَّه إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبى سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ فقلت: نعم، قال: فو اللَّه لو لم تكن في حجري حلت لي، إنها لابنة أخى من الرضاعة، أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة. فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن.
وما ذكر الخباطى مغاير للقرآن وصحيح الحديث، هو خلاف الواقع أيضا.
***
__________
[ () ] (3) (سنن النسائي) : 6/ 404، كتاب النكاح، باب (46) تحريم الجمع بين الأختين، حديث رقم (3287) .(10/245)
الثالثة عشرة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعتق صفية وتزوج بها بأن جعل عتقها صداقها
خرج البخاري [ (1) ] في باب من جعل عتق الأمة صداقها من طريق حماد عن ثابت وشعيب بن الحبحاب عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
وخرج في باب الوليمة ولو بشاة من طريق مسدد عن عبد الوارث عن شعيب عن أنس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها وأولم عليها بحيس [ (2) ] .
وخرجه في غزوة خيبر من حديث شعبة عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك يقول سبى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم صفية فأعتقها فتزوجها فقال ثابت لأنس: ما أصدقها؟ قال أصدقها نفسها فأعتقها [ (3) ] .
وخرجه مسلم [ (4) ] من طريق حماد بن زيد بن ثابت ومن طريق أبى عوانه عن أبى عثمان عن أنس ومن طريق معاذ بن هشام قال حدثني أبى عن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 160، كتاب النكاح، باب (14) ، من جعل عتق الأمة صداقها، حديث رقم (5086) ، قال الحافظ في (الفتح) : وقد أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب، وإبراهيم، وطاووس، والزهري، ومن فقهاء الأمصار الثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها، صح العقد، والعتق، والمهر على ظاهر الحديث. وأجاب الباقون على ظاهر الحديث بأجوبة، أقربها إلى لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة، فتزوجها بها.
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (69) الوليمة ولو بشاة، حديث رقم (5169) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 7/ 596، كتاب المغازي، باب (39) غزوة خيبر، حديث رقم (4195) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 233، كتاب النكاح، باب (14) فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، حديث رقم (85) .(10/246)
شعيب بن الحبحاب عن أنس ومن طريق سفيان ومن طريق معاذ بن هشام قال حدثني أبى عن شعيب بن الحبحاب عن أنس كلهم عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وفي حديث معاذ عن أبيه تزوج صفية وأصدقها عتقها.
وأخرجه الترمذي [ (1) ] من حديث أبى عوانة وقال: حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وغيرهم، وهو قول الشافعيّ وأحمد وإسحاق، وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتى يجعل لها مهرا سوى العتق قال: والقول الأول أصح.
__________
[ () ] قال الإمام النووي: أنه يستحب أن يعتق الأمة ويتزوجها كما قال في الحديث الّذي بعده له أجران وقوله: أصدقها نفسها اختلف في معناه فالصحيح الّذي اختاره المحققون أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط ثم تزوجها برضاها بلا صداق وهذا من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه يجوز نكاحه بلا مهر لا في الحال ولا فيما بعد بخلاف غيره وقال بعض أصحابنا معناه أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها فقبلت فلزمها الوفاء به وقال بعض أصحابنا أعتقها وتزوجها على قيمتها وكانت مجهولة ولا يجوز هذا ولا الّذي قبله لغيره صلى اللَّه عليه وسلّم بل هما من الخصائص كما قال أصحاب القول الأول واختلف العلماء فيمن أعتق أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها فقال الجمهور: لا يلزمها أن تتزوج به ولا يصح هذا الشرط وممن قاله مالك والشافعيّ وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر وقال الشافعيّ: فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها أن تتزوجه بل له عليها قيمتها لأنه لم يرضى بعتقها مجانا فإن رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه فله عليها القيمة ولها عليه المهر المسمى من قليل أو كثير وأن تزوجها على قيمتها فإن كانت القيمة معلومة له ولها صح الصداق ولا تبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما يصح الصداق كما لو كانت معلومة بأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف وأصحهما وبه قال جمهور أصحابنا لا يصح الصداق بل يصح النكاح ويجب لها مهر المثل وقال سعيد بن المسيب والحسن والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يجوز أن يعتقها على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ هذا الحديث وتأوله الآخرون بما سبق.
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 3/ 423- 424، كتاب النكاح، باب، (23) ما جاء في الرجل يعتق الأمة ثم يتزوجها، حديث رقم (1115) .(10/247)
وذكر البخاري في أول كتاب النكاح في باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها، حديث أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران. الحديث، ثم قال: وقال أبو بكر عن أبى حصين عن أبى بردة عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أعتقها ثم أصدقها هكذا ذكره البخاري تعليقا.
وقد وصله البيهقي من هذا الطريق بلفظ: وإذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها بمهر جديد كان له أجران.
وذلك يدل على تحديد العقد بصداق غير عتق الأمة من رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف جدا عن أبى بكر بن عياش، وهو حديث مشهور من رواية الثقات وليس فيه بمهر جديد أصلا، اختلف أصحابنا في معنى أعتقها وجعل عتقها صداقها، فقيل: أعتقها بشرط أن ينكحها فلزمها الوفاء بخلاف غيره، وهذا يقتضي إنشاء عقد بعد ذلك، وهذا وجه ضعيف لأنه لم ينقل في رواية من الروايات فقيل: جعل نفس العتق صداقها وجاز له ذلك بخلاف غيره.
وهذا أورده الماوردي وهو الموافق لغالب الأحاديث، واختاره الغزالي ويشكل على هذا ما حكاه أبو عيسى الترمذي عن الشافعيّ أنه جوز ذلك لآحاد الناس، وهو وجه مشهور، وقيل أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا فيما بعد وهذا يقتضي أن يكون بلا مهر، وسبقه إليه ابن الصلاح قال في (مشكله) : أنه أصح وأقرب إلى الحديث وحكى عن أبى إسحاق. قال في (مشكله) وقطع به البيهقي فقال: أعتقها مطلقا.
قال ابن الصلاح: فيكون معنى قوله: وجعل عتقها صداقها أنه لم يجعل لها شيئا غير العتق فحل كل الصداق وإن لم يكن صداقا وهو من قبيل قولهم الجوع زاد من لا زاد له وقيل أعتقها على شرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها فتزوجها به وهي مجهولة وليس لغيره أن يتزوج بصداق مجهول، حكاه الغزالي في (وسيطه) ، ولنا وجه في صحته: إصداق قيمة الأمة المعتقة المجهولة إذا أعتقها عليه بالنسبة إلينا وهو يرد على قول الغزالي في (وسيطه) ففيه خاصيه بالاتفاق إلا أن يكون القائل بالصحة في حق غيره صلى اللَّه عليه وسلّم غير القائل(10/248)
بالاتفاق هنا. وقيل: بل أمهرها صلى اللَّه عليه وسلّم جارية كما رواه البيهقي بإسناد غريب ولا يصح.
الرابعة عشرة: كان من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم الخلوة بالأجنبية
فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم، ويملك إربه عن زوجته، فكيف عن غيرها، ممن هو المنزه عنه؟ فإنه المبرأ عن كل فعل قبيح، وقول رفث.
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة. عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه سمعه يقول:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 12، كتاب الجهاد والسير، باب (3) الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، وقال: اللَّهمّ ارزقني شهادة في بلد رسولك، حديث رقم (2782) ، (2789) ، وأخرجه في باب (8) فضل من يصرع في سبيل اللَّه فمات فهو منهم، وقول اللَّه عز وجل:
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] ، حديث رقم (2799) ، (2800) ، وفي باب (63) غزو المرأة في البحر، حديث رقم (2877) ، (2878) ، وذكره في باب (75) ركوب البحر، حديث رقم (2894) ، (2895) ، (المرجع السابق) : 11/ 83، كتاب الاستئذان، باب (41) من زار قوما فقال عندهم، حديث رقم (6282) ، (6283) قوله: (وكانت تحت عباده بن الصامت) هذا ظاهره انها كانت حينئذ زوج عباده والسبج: قال الأصمعي: ثيح كل شيء وسطه، قال أبو على في (اماليه) : قيل ظهره، وقيل معظمه، وقيل هو له وإن ثبتت قصة أم عبد اللَّه بنت ملحان، فالقول فيها القول في أم حرام انصاف إلى العلة المنكورة كون أنس خادم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم وخادمة وأهل خادمه ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم، ثم قال الدمياطيّ: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد أم خادم أو زوج أو تابع. قلت: وهو احتمال قوى، ولكنه لا يرفع الإشكال من أصله لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على ذلك واضح. واللَّه أعلم.(10/249)
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان [ (1) ] فتطعمه- وكانت تحت عبادة بن الصامت- فدخل يوما فأطعمته، فنام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم،
__________
[ () ] (2) (مسلم بشرح النووي) : 13/ 61، كتاب الإمارة، باب (49) فضل الغزو في البحر، حديث رقم (160) ، قال الإمام النووي: وفيه معجزات للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم منها إخباره ببقاء أمته بعده وأنه تكون لهم شوكة وقوة وعدد وأنهم يغزون وأنهم يركبون البحر وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان وأنها تكون معهم وقد وجد بحمد اللَّه تعالى كل ذلك وفيه فضيلة لتلك الجيوش وأنهم غزاة في سبيل اللَّه واختلف العلماء متى جرت الغزوة التي توفيت فيها أم حرام في البحر وقد ذكر في هذه الرواية في مسلم أنها ركبت البحر في زمان معاوية فصرعت عن دابتها فهلكت قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار: أن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وأن فيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قيرس فصرعت عن دايتها هناك فتوفيت ودفنت هناك وعلى هذا يكون قوله في زمان معاوية معناه في زمان غزوة في البحر لا في أيام خلافته. وفي هذا الحديث جواز ركوب البحر للرجال والنساء كذا قاله الجمهور، وكره مالك ركوبه للنساء لأنه لا يمكن غالبا التستر فيه ولا غض البصر عن المتصرفين فيه ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيهما صغر من السفيان مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال، قال القاضي رحمه اللَّه تعالى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما منع ركوبه وقيل إنما منعه العمران للتجارة وطلب الدنيا لا للطاعات. وقد روى عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم النهى عن ركوب البحر إلا لحاج أو معتمر أو غاز. وضعف أبو داود هذا الحديث وقال رواته مجهولون واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن القتال في سبيل اللَّه تعالى والموت فيه سواء في الأجر لأن أم حرام ماتت ولم تقتل ولا دلالة فيه لذلك لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يقل أنهم شهداء إنما يغزون في سبيل اللَّه ولكن قد ذكر مسلم في الحديث الّذي بعد هذا بقليل حديث زهير بن حرب من رواية أبى هريرة من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد ومن مات في سبيل اللَّه فهو شهيد وهو موافق لمعنى قول اللَّه تعالى:
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
[ (1) ] هي أم حرام بنت ملحان، خاله أنس بن مالك.(10/250)
ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول اللَّه؟ فقال: ناس من أمتى عرضوا على غزاة في سبيل اللَّه، يركبون ثيح هذا البحر ملوكا على الأسرة- أو مثل الملوك على الأسرة. فقلت: ادع اللَّه أن يجعلني منهم، قال:
__________
[ () ] تقدم نسبها مع أخيها حرام بن ملحان في الحاء المهملة من الرجال، ويقال إنها الرميصاء، بالراء أو بالغين المعجمة، كذا أخرجه أبو نعيم، ولا يصح، بل الصحيح أن ذلك وصف أم سليم. ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي.
وقال أبو عمر في أم حرام: لا أقف لها على اسم صحيح، وثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من طريق الموطأ لمالك عن إسحاق بن أبى طلحة، عن أنس- أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان إذا ذهب إلى قباء دخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، فدخل عليها فأطعمته وجلست تفلى رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك ... الحديث في شهداء البحر، وفي آخره، قال: فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فماتت.
وفي بعض طرقه في البخاري، عن أنس، عن أم حرام بنت ملحان، وكانت خالته- أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في بيتها ثم استيقظ وهو يضحك، وقال: عرض على أناس من أمتى يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة. قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يجعلني منهم، ثم نام فاستيقظ وهو يضحكك، فقال: يا رسول اللَّه، ما يضحكك؟ فقال:
عرض عليّ ناس من أمتى يركبون ظهر البحر الأخضر كالملوك على الأسرة. قلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين.
قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فأخرجها معه، فلما جاز البحر قال ابن الأثير: وكانت تلك الغزوة غزوة قبرس، فدفنت فيها، وكان أمير ذلك الجيش معاوية بن أبى سفيان في خلافة عثمان ومعه أبو ذر وأبو الدرداء وغيرهما من الصحابة، وذلك في سنة سبع وعشرين. قال أبو عمر: كان معاوية غزا تلك الغزوة بنفسه ومعه امرأته فاختة بنت قرظة، من بنى نوفل بن عبد مناف.
قلت هي كنود بنت قرظة، فلعل فاختة كانت تلقب كنود وهي أختها. تزوج معاوية واحدة بعد أخرى، وجزم بذلك بعض أهل الأخبار، قال: وصالحهم معاوية تلك السنة ورجع.
وروى عن أم حرام أيضا زوجها عبادة بن الصمت، وعمير بن الأسود وعطاء بن يسار، ويعلى بن شداد بن أوس ترجمتها في: (الإصابة) : 8/ 189- 190 ترجمة رقم (11967) ، (الاستيعاب) : 4/ 1931(10/251)
أنت من الأولين.
فركبت البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت.
ولمسلم [ (1) ] من حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن حبان، عن أنس بن مالك، عن أم حرام وهي خالة أنس قالت: أتانا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوما فقال: عندنا فاستيقظ وهو يضحك فقلت ما يضحكك يا رسول اللَّه بأبي أنت وأمى، قال: أريت قوما من أمتى يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة فقلت ادع اللَّه أن يجعلني منهم قال فإنك منهم. قالت: ثم نام فاستيقظ أيضا وهو يضحكك فسألته فقال مثل مقالته. فقلت: ادع اللَّه أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين:
قال فتزوجها عبادة بن الصامت بعد فغزا في البحر فحملها معه فلما أن جاءت قربت لها بغلة فركبتها فصرعتها فاندقت عنقها.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 63، كتاب الإمامة، باب (49) فضل الغزو في البحر حديث رقم (161) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 14، كتاب الجهاد باب (10) فضل غزو البحر، حديث رقم (2490) .
والترمذي في (السنن) : 4/ 152، كتاب فضائل الجهاد، باب (15) ما جاء في غزو البحر، حديث رقم (1645) .
والنسائي في (السنن) : 6/ 347- 348، كتاب الجهاد، باب (40) فضل الجهاد في البحر، حديث رقم (3171) .
وابن ماجة في (السنن) : 2/ 927، كتاب الجهاد، باب (10) فضل غزو البحر، حديث رقم (2776) .
والإمام مالك في (الموطأ) : باب الترغيب في الجهاد، حديث رقم (1002) .
والإمام أحمد في (المسند) : 7/ 503، حديث رقم (26492) ، من حديث حذافة بنت وهب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
والدارميّ في (السنن) : 2/ 210، باب في فضل غزاة البحر.(10/252)
ولمسلم [ (1) ] من حديث همام، عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن أنس قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، وإلا أم سليم، فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك، فقال: إني أرحمها، قتل أخوها معى.
وقال ابن عبد البر: وأم حرام هذه خالة أنس بن مالك، أخت أم سليم بنت ملحان، أم أنس. قال: وأظنها أرضعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، إذ أم سليم جعلت أم حرام خالة له من الرضاعة، فلذلك كانت تفلى رأسه، وينام عندها، وكذلك كان ينام عند أم سليم، وتنال منه ما يجوز لذي المحرم أن يناله من محارمه.
ولا يشك مسلم أن أم حرام كانت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المحرم، فلذلك كان منها ما ذكر منها بما ذكرنا في هذا الحديث.
وقد أخبرنا غير واحد من شيوخنا، عن أبى محمد عبد اللَّه بن محمد ابن على، أن محمد بن [يونس] أخبره، عن يحى بن إبراهيم بن مزين قال:
إنما استجاز رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن تفلى أم حرام رأسه، لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالته لآل أم عبد المطلب من هاشم، كانت من بنى النجار.
وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لنا ابن وهب: أم حرام إحدى خالات النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، فلهذا كان يقيل عندها، وينام في حجرها وتفلى رأسه.
قال أبو عمر بن عبد البر: أي ذلك كان، فأم حرام محرم من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
قال مؤلفه ويؤيده ما ذهب إليه ابو عمر أنه وقع في صحيح البخاري من حديث هشام عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، حدثني أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعث خاله أخا لأم سليم في سبعين راكبا.... الحديث.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 243، كتاب فضائل الصحابة، باب (19) من فضائل أم سليم، وأم أنس بن مالك، وبلال، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، حديث رقم (104) .(10/253)
وهذا هو حرام بن ملحان، واسم ملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام ابن جندب بن عامر بن غانم بن مالك بن النجار، فانظر كيف قال فيه أنس انه قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم؟ وانه أخ أم سليم وما هي إلا خؤولة الرضاعة فتأمله.
قال ابن عبد البر: والدليل على ذلك، فذكر ما خرجه النسائي من حديث غشيم عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ألا لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم.
وروى عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما.
وروى ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يخلون رجلا بامرأة إلا تكون منه ذات محرم.
روى عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يدخلن رجل على مغيبه إلا ومعه رجلا أو رجلان.
ومن طليق النسائي حديث الليث عن صويب بن أبى حبيب، عن أبى حيصر عن عقبة بن عامر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟
قال: الحمو الموت.
قال ابن عبد البر: وهذه آثار ثابتة للنهى عن ذلك، ومحال أن يأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ما ينهى عنه.
وقال النووي: في باب فضل الغزو في البحر من (شرح مسلم) :
اتفق العلماء على أنها- يعنى أم حرام- كانت محرما له صلى اللَّه عليه وسلّم، واختلفوا في كيفية ذلك فقال ابن عبد البر وغيره: وكانت إحدى خالته صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، وقال أخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده لأن عبد المطلب كانت أمه من بنى النجار وقد اعترض على النووي بعض من أدركناه، فقال: وما ذكره من الاتفاق على أنها كانت محرما له فيه نظر، ومن أحاط علما بنسب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ونسب أم حرام علم أنها لا محرمية بينهما.
قال من ذكرناه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم، ويقال: كان من خصائصه الخلوة بالأجنبية وقد ادعاه بعض شيوخنا.(10/254)
قال مؤلفه رحمه اللَّه: لم يرد النووي رحمه اللَّه بأن أم حرام كانت محرما لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من جهة النسب، فأنه من أعلم الناس بنسبيهما، وإنما أراد المحرمية الرضاعة التي حكاها ابن عبد البر وذهب إليها بلا شك.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنه بنت وهب أم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة وقال ابن العربيّ:
ويحتمل ان تكون ذلك قبل الحجاب، ورد بأنه كان بعد حجة الوداع.
وقال الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطيّ ذهل من يزعم ان أم حرام إحدى خالات النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة أو من النسب، لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعته معلومات ليس فيهن أحدى من الأنصار البتة، سوى أم عبد المطلب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن عباس بن عامر بن غنم ابن النجار، وأم حرام بنت ملحان بن مالك بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار، فلا تجتمع أم حرام وهي سلمى إلا في عامر ابن غنم، جدهما الأعلى، وهذه خؤولة لا تثبت بها محرمية، لأنها خؤولة مجازيه، وهي كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم لسعد بن أبى وقاص: هذا أخا لي لكونه من بنى زهرة، وهم أقارب أمه وليس سعدا أخا لآمنة.
وإذا تقرر هذا
فقد ثبت في الصحيح انه صلى اللَّه عليه وسلّم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم فقيل له، فقال: إلى أرحمها قتل أخوها معى
يعنى حرام بن ملحان، فكان قتل ببئر معونة، قال على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة من أم حرام ولعل ذلك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع، وهذا احتمال قوى إلا أنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذلك النوم في الحجر.
وأحسن الأجوبة: دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على ذلك واضح، والحمد للَّه وحده.
***(10/255)
الخامسة عشرة: هل تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها وهي بنت ست سنين أو سبع سنين كان من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ أو يجوز لأمته نكاح الصغيرة إذا زوجها أبوها؟
قال ابن شبرمة فيما نقله عنه أبو محمد بن حزم: لا يجوز نكاح الأب ابنته صغيرة حتى تبلغ وتأذن ورأى أمر عائشة خصوصية للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم كالموهوبة، ونكاح أكثر من أربع، ورد هذا بأن قول ابن شبرمة: بأن ادعاء الخصوصية يفتقر إلى دليل، وقد عدم في هذه المسألة.
وحكى ابن المنذر الإجماع على أن ذلك يجوز لكل أحد،
وقد خطب عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أم كلثوم إلى على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: إنها تصغر عن ذلك ثم زوجه،
وقال الشافعيّ: زوج ابن الزبير ابنته صفية، وزوج غير واحد من الصحابة.
***(10/256)
النوع الرابع: ما اختص به صلى اللَّه عليه وسلّم من الفضائل والكرامات وهو قسمان:
القسم الأول: المتعلق بالنكاح وفيه المسائل
المسألة الأولى: أزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم اللاتي توفى عنهن محرمات على غيره أبدا
قال اللَّه تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [ (1) ] .
يقول تعالى: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول اللَّه. وما يصح لكم ذلك وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.
قال ابن وهب، عن ابن زيد، قال: ربما بلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أن الرجل يقول: لو أن النبي توفى، تزوجت فلانة من بعده، قال: فكان ذلك يؤذى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فنزل القرآن: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
يقول: إن ذلكم رسول اللَّه، ونكاحكم أزواجه من بعده عند اللَّه عظيم الإثم.
وروى إسماعيل بن إسحاق، من طريق معمر، عن قتادة، أن رجلا قال: لو قبض رسول اللَّه، تزوجت عائشة! فأنزل اللَّه تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ الآية. ونزلت: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الأحزاب: 53.
[ (2) ] الأحزاب: 6.(10/257)
ونقل أبو نصر عبد الرحيم القشيري، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، قال: قال رجل من سادات قريش، من العشرة الذين كانوا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: على حرام نفسه لو توفى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمتي.
قال ابن عطية: روى أنها نزلت بسبب بعض الصحابة، قال: لو مات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فنادى به هكذا كنى عنه ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ببعض الصحابة.
وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد اللَّه، وكذا حكى النحاس عن معمر. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح عن طلحة.
وروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أم سلمة بعد أبى سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟
واللَّه لو مات لأحلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم اللَّه نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات، وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه، وتنبيها على علو مرتبته.
قال القاضي: وأزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم اللاتي مات عنهن- لا يحل لأحد نكاحهن ومن استحل ذلك كافرا، لقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
وقد قيل: إن اللَّه تعالى إنما منع من التزويج بأزواج نبيه، لأنهن أزواجه في الجنة، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها، كما تقدم عن حذيفة.
وذكر القضاعي أن ذلك مما خص به صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء وأمته، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها.
وقيل: إنما منع من نكاحهن، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم حي، ولهذا حكى الماوردي وجها: أنهن لا تجب عليهنّ عدة الوفاة، وفيمن فارقها في الحياة كالمستعيذة، والتي وجد بكشحها بياضا، ثلاثة أوجه:
أحدها: تحرمن أيضا، وهو المنصوص من الشافعيّ في (أحكام القرآن) لشمول الآية، والبعدية في قوله تعالى: من بعده عند هذا القائل لا تختص بما بعد الموت، بل هو أعم منه، فيكون التقدير: من بعد نكاحه.(10/258)
قال بعضهم: وحرمن لوجوب محبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فإن من العادة أن زوج المرأة يكره زوجها الأول، قال في (الروضة) : وهذا أرجح، وقال ابن الصلاح: إنه أشبه بظاهر القرآن، وهو ظاهر بنص الشافعيّ.
قال: وقيل: إن وجه التفضيل يعنى الثالث أصح، وعبارة القضاعي تقتضي هذا الوجه أيضا، فإنه أطلق أن تساءه صلى اللَّه عليه وسلّم حرمن على غيره، وجعل ذلك من خصائه دون غيره من الأنبياء.
وثانيها: لا يحرمن لإعراض النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عنها، وانقطاع الاعتناء بها، لأن في ذلك إضرارا بها، والبعدية على هذا مخصوصة بما بعد الموت.
وثالثها: تحرم المدخول بها فقط، وبه قال القاضي أبو حامد، وذكر الشيخ أبو حامد أنه الصحيح، وقال الرافعي في (الشرح الصغير) : إنه الأظهر، وصححه الماوردي، والغزالي أيضا، وقال الإمام: إنه الأعدل، وجزم به صاحب (الحاوي الصغير) ، ودليله ما روى داود عن عامر الشعبي به، أن بنى اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مات وقد ملك قتيلة ابنة الأشعث، ولم يجامعها، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل بعد ذلك، فشق على أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مشقة شديدة، فقال له عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: يا خليقة رسول اللَّه! إنها ليست من نسائه، إنه لم يخبرها رسول اللَّه، ولم يحجبها، وقد برأه اللَّه تعالى منها بالردة التي ارتدتها مع قومها. قال: فاطمأن أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وسكن.
وخرج الحاكم في (المستدرك) [ (1) ] ، عن أبى عبيدة، ومعمر بن المثنى، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تزوج حين قدم عليه وفد كندة، قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، في سنة عشرة، ثم اشتكى في النصف من صفر، ثم قبض يوم الإثنين، ليومين مضيا من شهر ربيع الأول، ولم تكن قدمت عليه، ولا دخل بها، ووقت بعضهم وقت تزويجه إياها، فزعم أنه تزوجها قبل وفاته
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 40، كتاب معرفة الصحابة، ذكر قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، حديث رقم (6817) ، قال الذهبي في (التلخيص) : قتيلة أخت الأشعث بن قيس. قال أبو عبيدة: نزوجها بنى اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم ذكر الحديث.(10/259)
بشهر، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه، وزعم آخرون أنه أوصى أن تخير قتيلة، فإن شاءت [أن يضرب عليها الحجاب، فتحرم على المؤمنين، ويجرى عليها ما يجرى على [ (1) ] أمهات المؤمنين، وإن شاءت أن تنكح من شاءت] فاختارت النكاح، وتزجها عكرمة بن أبى جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: لقد هممت أن أرحق عليها، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ولا دخل بها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ولا ضرب عليها الحجاب [وزعم بعضهم أنها ارتدت] ، فكف عنها.
وأورده أبو نعيم في كتاب (معرفة الصحابة) ، من طريق الشعبي مرسلا، واستدل به الماوردي في (الحاوي) ، فأورده كذلك.
وذكر الإمام الغزالي، والقاضي، أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فهم عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه برجمتها، فأخبر أنها لم تكن مدخولا بها، فكف عنها.
وذكر الماوردي أيضا وقال: فصار ذلك كالإجماع.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري: أن الّذي تزوج المستعيذة المهاجر بن أبى أميه، ولم ينكر ذلك أحد، فدل ذلك على أنه إجماع.
وخرج الحاكم [ (2) ] أيضا من طريق هشام بن محمد الكلبي، قال: وحدثني أبى عن أبى صالح عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال خلف على أسماء بنت النعمان المهاجر بن أبى أميه، فأراد عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يعاقبها فقالت: واللَّه ما ضرب على الحجاب ولا سميت بأم المؤمنين، فكف عنها.
قال مؤلفه رحمه اللَّه إنما هذه هي أسماء ابنة النعمان الجوتية.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (الأصل) ، وليس في (المستدرك) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 40، آخر الحديث رقم (6816) ، وقال عنه حافظ الذهبي في (التلخيص) : سنده واه، ويروى عن زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا.(10/260)
ذكر هشام بن محمد أنها هي المستعيذة في حديث ذكره، وفي الأمة التي يفارقها صلى اللَّه عليه وسلّم بالموت أو غيره بعد وطئها، وجهان في الرافعي وهما في (التهذيب) .
أحدهما: لا تحل لغيره، كالمنكوحه التي فارقها.
والثاني: لا تحرم، لأن مارية غير معدودة في أمهات المؤمنين والصواب أن محل الخلاف فيمن باعها صلى اللَّه عليه وسلّم لا من مات عنها.
قال الماوردي: أن من مات عنها كمارية أم ولده إبراهيم عليه السلام ثم حرم نكاحها وإن لم تسم أما للمؤمنين كالزوجات فنصفها بالرق وإن باعها فتحريمها على مشتريها وعلى سائر المسلمين وجهان كالمطلقة، ولزم في باب استبراء أم الولد بالتحريم وبالتعظيم من ذلك ثلاثة أوجه ثم الأوجه الثلاثة لغير المخيرات، وأما المخيرات فمن اختارت منهم الدنيا ففي حلها من أزواجه طريقان:
قال العراقيون يطرد الأوجه، وقطع أبو يعقوب الأبيوردي وآخرون بالحل لتحصل فائدة التخيير وهو التمكن من زينة الدنيا، وهذا ما اختاره الإمام، والغزالي وفعل الإيقاف عليه، ومن عهد ذلك فإن كانت لا تحل، ففي وجوه نفقتها من خمس الخمس وجهان:
أحدهما: يجب كما تحب نفقة اللواتي مات عنهن لتحريمهن.
والثاني: لا تجب لأنها غير واجبة في حياته فالأولى أن لا تجب بعد موته ولأنها مقطوعة العصمة بالطلاق.
***(10/261)
المسألة الثانية: أزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم أمهات المؤمنين
قال اللَّه تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قال سعيد عن قتادة ليعظم بذلك حقهن، وفي قراءة أبى بن كعب بمصحفه: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم.
وقال ابن زيد: محرمات عليهم، وقال الشافعيّ في (المختصر) :
أمهاتهم في معنى دون معنى، وذلك أنه لا يحل نكاحهن بحال ولم تحرم بناته لو كن له لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم زوج بناته وهن أخوات المؤمنين وذكر نحوه في (الأم) .
وقال القرطبي في (التفسير) : شرف اللَّه تعالى أزواج نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال وحجبهن رضى اللَّه عنهن بخلاف الأمهات وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، وقد عد القضاعي هذه مما اختص به دون الأنبياء، وقد خولف في ذلك. وأزواجه أمهات المؤمنين سواء من ماتت تحته أو مات عنها وهي تحته.
وأعلم أن الأمومة ثلاثة أقسام مختلفة الأحكام: وهي أمومة الأولاد، ويثبت فيها جميع أحكام الأمومة، وأمومة أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لا تثبت إلا تحريم النكاح، وأمومة الرضاع وهي متوسطة بينهما. فإذا تقرر هذا فهنا أمور قد اختلف فيها، وهي: هل يجوز النظر إليهن؟ فيه وجهان أحدهما: هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن، والثاني: إن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فيهن وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن، ولأن عائشة كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه ليصير ابن أخيها من الرضاعة فيصير محرما يستبيح النظر.
والمشهور المنع وبه جزم الرافعي، والأدلة على تحريم النظر إليهن كثيرة شهيرة منها قصة عائشة في أفلح أخى أبى القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب فأبت أن تأذن له فلما جاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أخبرته بالذي صنعت فأمرنى أن على أنزله، لم يقل البخاري على وخرجاه من طرق.(10/262)
ومنها أحاديث نزول الحجاب، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ولا يثبت حكم الأمومة في جواز الخلوة والمسافرة، ولا في النفقة والميراث، وهل يقال بناتهن أخوات المؤمنين؟ نص الشافعيّ رحمه اللَّه في (المختصر) على جوازه، وحكى الرافعي وجها أن اسم الإخوة يطلق على بناتهن واسم الخؤوله يطلق على إخوتهن، وأخواتهن، لثبوت اسم الأمومة لهن وإن لم يوجب ذلك تحريم النكاح كما أن المسلمات كلهن أخوات المسلمين في الإسلام، ولا يوجب ذلك تحريم النكاح.
قال: وهذا ظاهر لفظ (المختصر) يشير إلى قوله: زوج بناته «وهن أخوات المؤمنين» ، لكن أكثر الأصحاب كما قال الماوردي: غلطوه فيه لأنه قال الشافعيّ في (أحكام القرآن) : وما زوج بناته وهن غير أخوات المؤمنين، وقيل: إن الكاتب حذف لفظة غير، وقيل: ما قاله المازني فيه صحيح وتقديره: قد زوج بناته أي زوجهن وهن أخوات المؤمنين وجزم القاضي يتخطئه المازني ومنع آخرون من ذلك بدليل أنه لا يحرم على المؤمنين التزوج ببناتهن أو أخواتهن وقد زوج صلى اللَّه عليه وسلّم بناته من المؤمنين، فزوج عثمان، وعليا، ونكح الزبير أختا لعائشة، ونكح عبد الرحمن بن عوف حمنة أخت زينب، وكذا لا يقال آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات المؤمنين بل يقتصر على ما ورد من ثبوت حكم الأمومة لهن في بعض الأحكام.
وهل يقال في إخوانهن أخوال المؤمنين؟ فيه نزاع في معاوية أنطلق عليه خال المؤمنين؟ فحكى القاضي حسين الخلاف في جواز تسميته خال المؤمنين، وحكى الرافعي وجها أن اسم الخؤوله ينطلق على إخوانهن وأخواتهن.
وذكر البيهقي من طريق شبابة، قال حدثني خارجة بن مصعب بن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس في هذه الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً قال: كانت المودة التي جعل اللَّه بينهم(10/263)
تزوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أم حبيبة بنت أبى سفيان، فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين [ (1) ] .
قال البيهقي: كذا في رواية الكلبي وذهب علماؤنا إلى أن هذا الحكم لا يتعدى أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فهن أمهات المؤمنين في التحريم ولا يتعدى هذا التحريم إلى إخوتهن، ولا إلى إخوانهن، ولا إلى بناتهن، ومنع قوم من جواز تسمية معاوية خال المؤمنين بأن هذا أمر مبتدع لم يطلقه عليه إلا الغلاة في موالاته حتى إنهم زعموا أنه دعي بذلك في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبالغوا في الإفك حتى نسبوه إلى انه من قول الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم وليس لذلك أصل، ولا عرف إطلاق ذلك في عصر الصحابة، والتابعين، فقد قتل محمد بن أبى بكر ولم يشنع أعداء معاوية إذ ذاك بأنه قتل خال المؤمنين، وثار عبد اللَّه بن الزبير بمكة على سويد بن معاوية ولم [يكثرت] بأنه ابن خالة المؤمنين، ولا دعاه به أحد من الصحابة، ولم يدع عبد اللَّه بن عمر بخال المؤمنين، ولا قيل قط لعبد الرحمن بن أبى بكر خال المؤمنين، ولا يمترى عامه أهل العلم في أن منزلة عائشة وحفصة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كانت أعظم من منزلة أم حبيبة بنت أبى سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ومع ذلك فلم يدع أحد من إخوتها بخال المؤمنين، فكيف يطلق على معاوية بن أبى سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه خال المؤمنين؟ ومنزلته ومنزلة أبيه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دون منزلة عبد اللَّه بن عمر ومكانة عبد اللَّه من العلم والورع والسابقة مكانة، وهذه عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها تقول وقد قالت لها امرأة يا أمه: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم فعلمتنا بذلك معنى الأمومة تحريم نكاحهن وكذا لم ينقل أن
__________
[ (1) ] قال القسطلاني: ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين. ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات ولا إخوانهن ولا أخواتهن أخوال وخالات. قال البغوي: كن أمهات المؤمنين دون النساء، وروى ذلك عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها. ولفظها كما في البيضاوي: لسنا أمهات النساء، وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال. (المواهب اللدنية) : 2/ 73- 74، فصل في ذكر أزواجه وسراريه المطهرات.(10/264)
أحدا قال لأسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما خالة المؤمنين، فقد قال الواحدي في تفسير قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في حرمة نكاحهن وهذه الأمومة تعود إلى حرمة نكاحهن لا غير، ألا ترى أنه لا يحل رؤيتهن، ولا يريد المؤمنين، ولا يردنهن، وليست كالأمهات في النفقة، والميراث، وفي (النكت) للماوردى: يعنى من مات عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أزواجه هن كالأمهات في شيئين.
أحدهما: تعظيم حقهن.
والثاني: تحريم نكاحهن، ولسنا كالأمهات في النفقة والميراث وهل كن أمهات المؤمنين من الرجال دون النساء؟ صححوا المنع، وهو قول عائشة.
وخرج البيهقي من طريق أبى عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ان امرأة قالت لها يا أمه فقالت: لست لك بأم إنما أنا أم لرجالكم وهذا جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم، وهذا تفريغ أن الجمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء [ (1) ] وهي مسأله منفردة في الأصول.
لكن وقع في (الرسالة) للإمام الشافعيّ في ترجمة ما نزل من القرآن عام الظاهر قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [ (2) ] وقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [ (3) ] فإنه قال رحمه اللَّه في آخر الكلام وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة على البالغين العاقلين خص من لم يبلغ ومن بلغ، ولم يعقل، وخص الحيض في أيام حيضتهن فهذا يقتضي أنهن دخلن، وإلا لم يخرج من لم ينحصر وجب الاختصاص أن فائدة أمومتهن في حق الرجال منقوله في حق النساء.
__________
[ (1) ] خوطبت امرأة نوح وامرأة لوط بقوله تعالى: وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، والدَّاخِلِينَ جمع مذكر سالم [التحريم: 10] وخوطبت مريم ابنة عمران عليها السلام بقوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ والقانتين جمع مذكر سلم. [التحريم: 12] .
[ (2) ] البقرة: 183.
[ (3) ] النساء: 103.(10/265)
وحكى الماوردي في (تفسيره) خلافا في كونهن أمهات المؤمنات وحكاه القرطبي أيضا في (التفسير) : فقد قال ابن العربيّ: وهو الصحيح يعنى أنهن أمهات الرجال، فقط ثم قال القرطبي لا فائدة لاختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء والّذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقهن على الرجال والنساء يدل عليه صدر الآية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة فيكون قوله: أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ عائد على الجميع ثم إن في مصحف أبى بن كعب: «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» .
وقرأ ابن عباس: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم وهذا كله يوهن ما رواه الشعبي عن مسروق، عن عائشة إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فسقط من جهة الاستدلال به في التخصيص وتعيينا على الأصل الّذي هو العموم الّذي يسبق إلى المفهوم واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
وقد اختلف أيضا: هل يقال هو صلى اللَّه عليه وسلّم أبو الرجال جميعا؟ قال الفريابي، عن سفيان، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ هذه الآية النبي أولى بالمؤمنين وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.
قال البغوي: وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أبا الرجال والنساء جميعا، وقال الواحدي:
قال بعض أصحابنا لا يجوز أن يقال: هو أبو المؤمنين لقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [ (1) ] وقال: ونص الشافعيّ على أنه يجوز أن يقال أبو المؤمنين أي في الحرمة، ومعنى الآية ليس أحد من رجالكم ولد صلبه لذا ذكره النووي في (الروضة) [ (2) ] .
وفي القطعة التي شرحها من البخاري، وقال: (في المطلب) وفيه نظر لأن ذلك جمعه قوم، غير أن المعقول والشرع لا يرد بمثله إلا أن يراد به التنبيه على أنه تحريم.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 40.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 356، كتاب النكاح.(10/266)
المسألة الثالثة: تفضيل زوجاته صلى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ]
هذا قال القاضي حسين في تعليقه أفضل نساء العالمين أزواجه.
ولفظ البغوي خير نساء هذه الأمة وغيرها، وهذا خلاف في مواضع.
أحدها: المفاضلة بينهن وبين مريم ابنة عمران.
والثاني: المفاضلة بين خديجة وعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
والثالث: المفاضلة بين فاطمة وأمها خديجة عليها السلام.
والرابع: المفاضلة بين فاطمة وعائشة.
أما مريم
فخرج البخاري [ (2) ] في المناقب من حديث عبدة عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر قال: سمعت عليا يقول:
__________
[ (1) ] في (الأصل) بعد العنوان مباشرة سطر كامل مطموس معظمه، وما بعده يغنى عنه إن شاء اللَّه تعالى، حيث مضمونه رأى ابن سيده في ذلك.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 166، كتاب مناقب الأنصار، باب (20) تزويج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خديجة وفضلها رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (3815) .
قوله: (خديجة) : هي أول من تزوجها صلى اللَّه عليه وسلّم، وهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي، تجتمع مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زوجه إياها أبوها خويلد، ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل:
عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبى هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بنى عبد الدار، واختلف في اسم هالة فقيل مالك قاله الزبير، وقيل: زرارة حكاه ابن مندة، وقيل: هند جزم به العسكري، وقيل: اسمه النباش جزم به أبو عبيد، وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي. وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها إلى الشام، فرأى منه ميسرة غلامها ما رغبها في تزويجه، قال الزبير: وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع، فأقامت معه صلى اللَّه عليه وسلّم خمسا وعشرين سنة على الصحيح، وقال ابن عبد البر: أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر، وذلك بعد(10/267)
سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة وذكره في كتاب الأنبياء أيضا [ (1) ] .
__________
[ () ] مبعث لي الصواب بعشر سنين لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح. وروى الفاكهي في (كتاب مكة) عن أنس: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان عند أبى طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة فقال لها: انظري ما تقول له خديجة؟ قالت نبعة:
فرأيت عجبا، وما هو إلا سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيدها فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمى، واللَّه ما أفعل هذا لشيء، ولكنى أرجو أن تكون أنت النبي الّذي ستبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الّذي يبعثك لي. قالت لها:
واللَّه لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الّذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا.
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 582، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (45) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ* ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. [آل عمران: 42- 44] ، يقال (يكفل) :
بضم. كفلها: ضمها، مخففة، ليس من كفالة الديون وشيبها، حديث رقم (3432) .
قوله: (خير نسائها مريم) :
أي نساء أهل الدنيا في زمانها وليس المراد أن مريم خير نسائها لأنه يصير كقولهم زيد أفضل إخوانه، وقد صرحوا بمنعه، فهو كما لو قيل فلان أفضل الدنيا. وقد رواه النسائي من حديث ابن عباس بلفظ «أفضل نساء أهل الجنة» فعلى هذا فالمعنى خير نساء أهل الجنة مريم، وفي رواية «خير نساء العالمين» وهو كقوله تعالى: وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ وظاهره أن مريم أفضل من جميع النساء وهذا لا يمنع عند من يقول إنها نبيه.
وأما من قال ليست بنبية فيحمله على عالمي زمانها، وبالأول جوم الزجاج وجماعة واختاره القرطبي، ويحتمل أيضا أن يراد نساء بنى إسرائيل أو نساء تلك الأمة أو فيه مضمرة والمعنى أنها من جملة النساء الفاضلات، ويدفع ذلك حديث أبى موسى المتقدم بصبغة الحصر أنه يكمل من النساء غيرها وغير آسية.(10/268)
وخرجه مسلم [ (1) ] في المناقب من حديث أبى أسامة وابن نمير ووكيع وأبى معاوية وعبد بن سليمان كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر يقول سمعت عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بالكوفة يقول:
__________
[ () ] قوله: (وخير نسائها خديجة)
أي نساء هذه الأمة قال القاضي أبو بكر بن العربيّ:
خديجة أفضل نساء الأمة مطلقا لهذا الحديث، وقد تقدم في آخر قصة موسى أبى موسى في ذكر مريم وآسية وهو يقتضي فضلهما على غيرهما من النساء، ودل هذا الحديث على أن مريم أفضل من آسية وأن خديجة أفضل نساء هذه الأمة حيث قال: ولم يكمل من النساء، أي من نساء الأمم الماضية، إلا أن حملنا الكمال على النبوة فيكون على إطلاقه.
وعند النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس «أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية» وعند الترمذي بإسناد صحيح عن أنس «حسبك من نساء العالمين» فذكرهن.
وللحاكم من حديث حذيفة «إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أتاه ملك فبشره أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 207- 208، كتاب فضائل الصحابة، باب (12) فضائل خديجة أم المؤمنين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حديث رقم (69) ، قال الإمام النووي:
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد وأشار وكيع إلى السماء والأرض)
أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي كل من بين السماء والأرض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه قال: القاضي ويحتمل أن المراد أنهما من خير نساء الأرض والصحيح الأول.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون)
يقال كمل بفتح الميم وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورات الكسر ضعيف قال القاضي: هذا الحديث يستدل به من يقول بنبوة النساء ونبوة آسية ومريم والجمهور على أنهما ليستا نبيتين بل هما صديقتان ووليتان من أولياء اللَّه تعالى ولفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى قال. القاضي فإن قلنا هما نبيتان فلا شك أن غيرهما لا يلحق بهما وإن قلنا وليتان لم يمتنع أن يشاركهما من هذه الأمة غيرهما. هذا كلام القاضي، وهذا الّذي نقله من القول بنبوتهما غريب ضعيف وقد نقل جماعة الإجماع على عدمها واللَّه أعلم.(10/269)
سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول خير نسائها مريم ابنه عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد، قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض.
وخرج الحاكم [ (1) ] من طريق علياء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل نساء العالمين خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ.
وخرج البخاري [ (2) ] في المناقب، وفي كتاب الأنبياء، وفي الأطعمة، من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة الجملي بسنده عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا اثنين:
امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وفي بعض طرقه: كفضل عائشة بغير «إن» .
وخرجه مسلم في المناقب
وقد اختلف في نبوة مريم فإن قلنا بنبوتها فتعين تفضيلها على أمهات المؤمنين وإن قلنا: إنها لم تكن نبية فقد ثبت مما تقدم تفضيلها على من عاداها الأمر ذكر فلم يبق إلا المفاضلة بينها وبين خديجة.
قال القاضي عياض في
قوله: خير نسائها مريم خير نسائها خديجة
وأشار وكيع إلى السماء والأرض كأنه تفسير ضمير الهاء في نسائها أنه يريد الدنيا والأرض وذكره لهم يحتمل أن يريد أن كل واحدة خير نساء الأرض في وقتها أو أنهما من خير نسائهم أفضلهن وإن كانت المزايا تعد بينهما وبين غيرهما ممن هو خير النساء متفاضلة.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 650، كتاب تاريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4160) ، وقال عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 687- 688، كتاب الأطعمة، باب (25) الثريد، حديث رقم (5418) ، وأخرجه في كتاب (أحاديث الأنبياء) : باب (46) قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إلى قوله: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 45- 48] ، حديث رقم (3433) .(10/270)
وقوله: وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
لسرعة إسخانه والاستلذاذ به وإشباعه وتقديمه على غيره من الأطعمة التي تقوم مقامه وليس هذا نص بتفضيلها على من ذكر من مريم وآسية ويحتمل مساويها أو مثلها قال مؤلفه رحمه اللَّه: قد ثبت لمريم من الفضل ما لم يثبت لغيرها من النساء قال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أي اختارك وطهرك أي من الكفر أو من سائر الأنجاس، واصطفاك على العالمين وقال عليه السلام ولم يكمل من النساء إلا مريم وخديجة، وكان الكمال هنا هو النبوة ويؤيده أن اللَّه أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إليها كسائر الأنبياء وكلمها روح القدس وطهرها ونفخ في درعها وسماها اللَّه الصديقة. وممن قال بنبوتها ابن وهب واختاره أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن اللباء فقيه المغرب وأبو محمد بن أبى زيد وأبو المحاسن الفاسى.
وأما المفاضلة بين خديجة وعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما
ففيها ثلاثة أقوال ثالثها الوقف قال القاضي والمتولي: إن خديجة أفضل من عائشة واستدل أبو بكر بن داود لما سئل عن ذلك بأن عائشة أقرأها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل السلام على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فهي أفضل، قال فريق: بل عائشة أفضل لدوام صحبتها للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم بعد النبوة وطول مدتها إلى موته
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: أريتك في المنام ثلاث ليال جائني ملك الموت في سرقة حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهها فإذا أنت هي
فأقول أن ذلك من عند اللَّه أمضه.
وخرجه في الصحيحين ووجه الدلالة منه
قوله هذه امرأتك
لأنها كانت حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
وقال: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك قال عائشة:
إلى غير ذلك من فضائل كثيرة وأجيب بأنه ليس كسائر فضائل عائشة ما يبلغ قوله بخير نسائها خديجة وقوله أفضل نساء العالمين خديجة فإنه صريح في بابه فتأمله من(10/271)
انصرف علم أن لكل منهما فضائل تخصهم فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام وكانت تسلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وتثبته وتسكنه فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في اللَّه ورسوله وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة تأثيرها في أخر الإسلام فلها من الفقه في الدين وتبليغه للأمة وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها.
فمن خصائص خديجة
أن اللَّه تعالى بعث السلام إليها مع جبريل فبلغها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب وكانت أول من آمن باللَّه ورسوله من هذه الأمة وأولاده كلهم منها ما عدا إبراهيم وهذه فضائل لم تكن لامرأة سواها.
ومن خصائص عائشة
إنها كانت أحب أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ولم يتزوج بكرا غيرها وكان ينزل الوحي في بيتها دون غيرها ولما نزلت آية التخيير فخيرها فاختارت اللَّه ورسوله ما سبقت به بقية الأزواج وبرأها اللَّه مما رماها به أهل الإفك بعشر آيات تليت في المحاريب إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر اللَّه تعالى أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرا لها ولم يكن الّذي قيل فيها شرا لها، ولا عارا لها، ولا خافضا من شأنها، بل رفعها بذلك فأعلى قدرها، وعظم شأنها، وأحيا لها ذكرها، بالطيب والسراة من أهل الأرض والسماء.
***(10/272)
وأما المفاضلة بين فاطمة وأمها خديجة
فلم [نجد] فيها نقلا، وما منهما إلا من له فضائل مشهورة،
وقوله صلى اللَّه تبارك وتعالى عليه وعلى سلّم وسلم: «فاطمة بضعة منى» ،
فلا شرف أعلى منه إلا شرف أبيها المصطفى صلى اللَّه عليه وسلّم.
أما المفاضلة بين فاطمة وعائشة
قال القاضي عياض في
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام:
وليس فيه ما يشعر بتفضيلها على فاطمة إذ قد يكون تمثيل تفضيل فاطمة لو مثلها مما هو أرفع من هذا وبالجملة من هذا الحديث أن عائشة مفضلة على النساء تفضيلا كثيرا وليس فيه عموم جميع النساء.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم فاطمة سيدة نساء أهل الجنة
أعم وأظهر في التفضيل.
وقال ابن دحية في كتاب (مرج البحرين) : ذكر بعض الرواة أن عائشة أفضل من فاطمة واستدل على ذلك بأنها عند على في الجنة وعائشة عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال وهذا لا يوجب التفضيل ثم أطال الرد عليها إلى أن قال سئل العالم الكبير أبو بكر بن داود بن على من أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقالوا
أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أن فاطمة بضعة منى
ولا أعدل ببضعة من رسول اللَّه أحد.
قال السهيليّ: وهذا استقراء حسن وشهد لصحة هذا الاستقراء
أن أبا لبابة حين ارتبط نفسه وحلف ألا يحله إلا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فجاءت فاطمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها تحله فأبى من أجل قسمة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إنما فاطمة بضعة منى فحلته.
قال السهيليّ: هذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر وأن من صلى عليها فقد صلى على أبيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
***(10/273)
[القسم الثاني]
الرابعة: أن شريعة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم مؤيدة وناسخة لسائر الشرائع
وقد مضى من ذلك ما فيه كفاية.
الخامسة: أن كتاب محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وهو القرآن معجز بخلاف سائر كتب اللَّه التي أنزلها على رسله
وأنه محفوظ عن التحريف والتبديل وأنه حجة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وسائر معجزات الأنبياء انقرضت بانقراضهم، وقد مر في المعجزات جميع هذا فتأمله.
السادسة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم نصر بالرعب مسيرة شهر
وسيأتي بطرقه، فكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا هم بغزو قوم أرعبوا منه قبل أن يقدم عليهم بشهر، ولم تكن هذه لأحد سواه وما روي في صحيح مسلم في قصة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض أن لا يدرك نفسه كافرا إلا مات ونفسه ينتهى حيث ينتهى بصره فإن كان ذلك صفه لم يزل له قبل أن يرفع فليست نظير هذا وإلا فهو بعد نزوله إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلّم بمعنى أنه يحكم بشرعه ولا يوحى إليه بخلافها وقد مضى هذا المعنى مجودا.
السابعة: أن رسالته صلى اللَّه عليه وسلّم عامة إلى الإنس والجن
وكان من عداه من الأنبياء انما يبعث إلى قومه خاصة وقد ذكر اللَّه تعالى هذا المعنى في كتابه العزيز فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وقال: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ فكان النبي ومن كان قبل محمد صلى اللَّه عليه وسلّم لا يكلف من أداء الرسالة إلا أن يدعو قومه إلى اللَّه عز وجل.(10/274)
وأما محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وقال: قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وفي آيات كثيرة تدل على عموم رسالته ويؤيده قوله صلى اللَّه عليه وسلّم في حديث الشفاعة إنه أول نبي بعث إلى أهل الأرض إلى الثقلين فأمر اللَّه تعالى أن ينذر جمع خلقه إنسهم، وجنهم، عربهم، وعجمهم، فقام صلوات اللَّه وسلامه عليه بما أمر به ربه في ذلك، وبلغ رسالته، وقد تقدم هذا كله فيما سلف.
الثامنة: جعلت له صلى اللَّه عليه وسلّم ولأمته الأرض مسجدا وطهورا
ومعنى ذلك في الحديث الّذي رواه الإمام أحمد في (مسندة) أن من كانوا قبلنا كانوا لا يصلون في مساكنهم، وإنما كانوا يصلون في كنائسهم.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم وطهورا يعنى به التيمم فإنه لم يكن في أمة قبلنا وإنما شرع لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ولأمته توسعا ورحمة وتخفيفا.
التاسعة: أحلت له صلى اللَّه عليه وسلّم الغنائم
ولم تحل لأحد قبله وكان من قبله صلى اللَّه عليه وسلّم إذا غنموا أشياء أخرجوا منه شيئا، فوضعوه في ناحية، فتنزل نار من السماء، فتحرقه، وقد وقع ذلك في الصحيح من رواية أبى هريرة في حديث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الّذي غزا وحبس له اللَّه الشمس، قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد أنه صلى اللَّه عليه وسلّم يتصرف فيها كيف يشاء ويقسمها كما أراد في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
ويحتمل أن يراد لم يحل شيء منها لغيره صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، وفي بعض الأحاديث ما يقر ظاهره بذلك ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها
وفي بعض(10/275)
الأحاديث وأحل لنا الخمس. أخرجه ابن حبان في صحيحه
وأجيب بأن الخمس خص به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الغنائم تشرفة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
العاشرة: جعلت أمته صلى اللَّه عليه وسلّم شهداء على الناس بتبليغ الرسل إليهم
قال اللَّه تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ الآية، وكما هديناكم فكذلك خصصناكم وفضلناكم بأن جعلناكم أمة عبادا عدولا لتشهدوا للأنبياء على أمتهم وشهد لكم به رسول اللَّه بالصدق، ومستند بهم في الشهادة وإن لم يروا ذلك عبادا اللَّه تعالى لهم به لقوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وقوله: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ وقوله كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ وقوله: فَكَذَّبُوا رُسُلِي ونحوها من الآيات.
الحادية عشر: أصحابه صلى اللَّه عليه وسلّم خير الأمة مقدما
وقد سبق ذكر ذلك مفصلا.
الثانية عشر: جمعت صفوف أمته صلى اللَّه عليه وسلّم كصفوف الملائكة
فكل منهم أفضل من كل من بعده،
قال صلى اللَّه عليه وسلّم لا تسبوا أصحابى فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ أحدهم ولا نصفه. خرجاه من حديث أبى سعيد الخدريّ. وخرجه مسلم من حديث أبى هريرة.
الثالثة عشرة: الشفاعة
الأول: الشفاعة العظمى في الفضل بين أهل الموقف حيث يقومون بعد الأنبياء وهو المقام المحمود، الّذي يغبط به الأولون والآخرون، والمقام الّذي يرغبون إليه الخلق كلهم ليشفع لهم إلى ربهم ليفصل بينهم، وهذه خصوصية(10/276)
ليست إلى الأمة من البشر كافه فيدخل الجنة فيشفع إلى اللَّه تعالى في ذلك مما جاء في الإجازة الصحاح وهذه هي الشفاعة الأولى التي يختص بها دون غيره من الرسل ثم يكون له بعدها شفاعات من اتخاذ من شاء من أهل الكتاب من النار من أمته.
ولكن الرسل يشاركونه في هذه الشفاعة فيشفعون في عصاة أمتهم وكذلك الملائكة يشفعون بل المؤمنون كما في الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى سعيد فيقول تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين وذكر الحديث.
ثم له صلى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك شفاعات أخرى منها شفاعة في جماعة يدخلون الجنة بغير حساب ومنها في ناس وقد استحقوا النار.
ومنها أربع شفاعات في أناس دخلوا النار فيخرجون منها، ومنها شفاعة في رفع درجات بعض أهل الجنة، وهذه الشفاعة اتفق عليها أهل السنة والمعتزلة عليها في صحيح البخاري.
الرابعة عشرة: أنه أول شافع وأول مشفع صلى اللَّه عليه وسلّم أي أول من تجاب شفاعته
خرج مسلم من حديث أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع، وأنا أول مشفع.
وقد مضى بطرقه.
الخامسة عشرة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة
فإذا أفاق الناس يوم القيامة يكون أولهم إفاقة كما
خرجاه في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في قصة اليهودي الّذي قال:
لا والّذي اصطفى موسى على العالمين، فلطمه رجل من المسلمين، وترافع(10/277)
إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة،
وذكر الحديث.
السادسة عشرة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أول من يقرع باب الجنة
كما تقدم في ذكر ذلك.
السابعة عشرة: اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم على إخوانه من الأنبياء عليهم السلام
بأنه أكملهم وسيدهم وخطيبهم وإمامهم وخاتمهم فما من نبي إلا وقد أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمن به ولينصره، وأمر أن يأخذ على أمته الميثاق فلذلك قال اللَّه تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
فقوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مصدقا بعد هذا كله فعليكم الإيمان به ونصرته وإذا كان هذا الميثاق شاملا لكل منهم تضمن أخذه صلى اللَّه عليه وسلّم من جميعهم هذه خصوصية ليست لأحد سواه وتقدم الكلام في ذلك مجودا.
الثامنة عشرة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى جوامع الكلم
وقد تقدم في ذلك قول الهروي يعنى بجوامع الكلم القرآن في جمع اللَّه في الألفاظ اليسيرة المعاني الكثيرة، وكلامه صلى اللَّه عليه وسلّم كان قليل اللفظ كثير المعاني وقال ابن شهاب: جوامع الكلم أن اللَّه يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمر من نحو ذلك
.(10/278)
التاسعة عشر: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أكثر الأنبياء أتباعا
وقد تقدم ذكر هذا.
العشرون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى جوامع الكلم ومفاتيح الكلم
وقد تقدم ذكر ذلك أيضا.
الحادية والعشرون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى مفاتيح خزائن الأرض
كما
خرجه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة وخرجه الإمام أحمد من حديث على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ولفظه أوتيت مقاليد الدنيا على فرس أبلق عليه قطيفة من سندس.
وقد مضى هذا المعنى أيضا.
الثانية والعشرون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أوتى الآيات الأربع من آخر سورة البقرة
وأصل هذا في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقد تقدم طرق من ذلك.
الثالثة والعشرون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لا ينام قلبه وكذلك الأنبياء عليهم السلام
وتقدم ذكر هذا
.(10/279)
الرابعة والعشرون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم يرى من ورائه كما يرى من أمامه
والأحاديث الواردة في ذلك مقيدة بحال الصلاة، كما تقدم ذكره عند ذكر المعجزات.
الخامسة والعشرون: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يرى ما لا يرى الناس حوله كما يرى في الضوء
وقد تقدم ذلك مجودا.
السادسة والعشرون: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تطوعه بالصلاة قاعدا كتطوعه قائما وإن لم يكن عذر، وتطوع غيره قاعدا على النصف من صلاته قائمة
قال صاحب (التلخيص) : وثقة الرافعي وأنكره القفال وقال: لا يعرف هذا، بل هو كغيره، وعدّ القضاعي هذه الخصوصية مما حظي به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء من قبله.
السابعة والعشرون: أن المصلى يخاطبه في صلاته إذا تشهد
بقوله في تشهده السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، ولا يجوز أن يخاطب أحد سواه
.(10/280)
الثامنة والعشرون: لا يجوز لأحد التقدم بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ولا يرفع صوته فوق صوته ولا يجهر له بالقول ولا يناديه من وراء حجراته
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ومعنى الآية يا أيها الذين آمنوا اجعلوا الرسول يبدأ في الأقوال والأفعال ولا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يفعل، عن ابن عباس معناها: لا تقطعوا أمرا إلا بعد أن يحكم به ويأذن فيه.
التاسعة والعشرون: لا يجوز لأحد أن يناديه صلى اللَّه عليه وسلّم باسمه
فيقول: يا أحمد، يا محمد، ولكن يقول: يا نبي اللَّه، يا رسول اللَّه، قال اللَّه تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
الثلاثون: شعره صلى اللَّه عليه وسلّم طاهر
وهذا إنما يكون من الخصائص إذا حكمنا بنجاسة شعر من سواه المنفصل عنه في حال الحياة، وهو أحد الوجهين وكذلك بوله، ودمه، وسائر فضلاته، كلها طاهرة على أحد الوجهين لأصحابنا، وينبغي اختياره، وقد صحح القاضي حسين، وقال في (الروضة) : وكان ليستشفى ويتبرك ببوله(10/281)
ودمه، وليس [فقط] بنخامته، وبريقه، وفضل وضوئه، وفي كون ذلك من الخصائص نظرا لا يخفى في الظاهر من صاحب (الروضة) .
الحادية والثلاثون: أن من دنا بحضرته صلى اللَّه عليه وسلّم أو استهان به كفر
جزم به الرافعي وقاله النووي في (الروضة) .
الثانية والثلاثون: يجب على المصلى إذا دعاه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يجيبه ولا تبطل صلاته وليس هذا لأحد سواه
اللَّهمّ إلا ما حكاه الأوزاعي عن شيخه مكحول أنه كان يوجب إجابة الوالدة في الصلاة، حديث الراهب [جريج] الّذي قال لما سمع نداء أمه وهو يصلى: اللَّهمّ أمى وصلاتي ثم مضى في صلاته فلما كان المرة الثانية فعل بمثل ذلك ثم الثالثة فدعت عليه فاستجاب اللَّه لها فيه وعاقبه كما ذكر في صحيح البخاري وغيره.
الثالثة والثلاثون: أولاد بناته صلى اللَّه عليه وسلّم ينتسبون إليه وأولاد بنات غيره لا ينتسبون إليه
ودليله ما
خرجه البخاري من طريق ابن عيينة، وفيه قوله صلى اللَّه عليه وسلّم للحسن وقد مال عليه وهو صغير: لا تزرموا ابني،
وقصة المباهلة.
وهذه الخصوصية عدها صاحب (التلخيص) من الخصوصيات
.(10/282)
الرابعة والثلاثون: أن كل نسب وحسب فإنه ينقطع نفعه يوم القيامة إلا نسبه وحسبه وصهره صلى اللَّه عليه وسلّم
قال اللَّه تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ.
وقال الإمام أحمد بسنده عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: فاطمة بضعة منى إلى أن قال وأن الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وصهري، وهذا الحديث في الصحيحين عن المستورد بن مخرمة بلفظ آخر.
الخامسة والثلاثون: تحريم ذرية ابنته فاطمة على النار
خرج الحاكم بسنده عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم اللَّه ذريتها على النار.
قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال كاتبه: وهذه الخصوصية لم أر أحدا عدها، وهي مما ينبغي إلحاقه في خصائص المصطفى صلى اللَّه عليه وسلّم.
السادسة والثلاثون: الجمع بين اسمه وكنيته يجوز التسمي باسمه صلى اللَّه عليه وسلّم بل خلاف
وفي جواز التكني بكنيته أقوال للعلماء:
أحدها: المنع من ذلك مطلقا، وهو مذهب الإمام الشافعيّ، حكاه عنه البيهقي، والبغوي، وأبو القاسم بن عساكر الدمشقيّ، قال الشافعيّ: وليس لأحد أن يكنى بأبي القاسم سواء كان أسمه محمدا أم لا.
الثاني: وهو مذهب مالك، أباحه مطلقا لمن كان اسمه محمدا ولغيره، وقد قيل: النهى مختص بحياته صلى اللَّه عليه وسلّم وإليه ذهب القاضي عياض
.(10/283)
السابعة والثلاثون: أن من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه لا يقبل هدية مشرك، ولا يستعين به
وقد تقدم ذلك في المغازي وغيرها.
الثامنة والثلاثون: كانت الهدية له صلى اللَّه عليه وسلّم حلالا وغيره من الحكام والولاة لا يحل لهم قبول الهدية من رعاياهم
ذكره النووي في (الروضة) .
التاسعة والثلاثون: عرض عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الخلق كلهم من آدم عليه السلام إلى من بعده كما علّم أدم أسماء كل شيء
ذكره العراقي في شرح (المهذب)
.(10/284)
الأربعون: فاتته صلى اللَّه عليه وسلّم ركعتان بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم داوم عليها بعده
خرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من طريق عبد اللَّه بن وهب أخبره عمرو وهو ابن الحارث عن بكير عن كريب مولى ابن عباس أن عبد اللَّه بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أرسلوه إلى عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعا وسلها عن الركعتين بعد الظهر وقل لها: أنا أخبرنا أنك تصلينها، وقد بلغنا أن الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم نهى عنها قال ابن عباس: وكنت اصرف الناس مع عمر بن الخطاب عنها: قال كريب: فدخلت عليها وبلغتها بما أرسلونى به: فقالت:
سل أم سلمة فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلونى به إلى عائشة:
فقالت أم سلمة رضى اللَّه عنها: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينهى عنها ثم رأيته يسليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل على وعندي نسوة من بنى حرام من الأنصار، فصلاهما فأرسلت إليه الجارية فقلت:
قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول اللَّه إني سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخرى عنه فلما انصرف قال: يا ابنة أبى أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، أنه أتانى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 136، كتاب السهو، باب (8) إذا كلم وهو يصلى فاشار بيده واستمع، حديث رقم (1233) ، 8/ 108، كتاب المغازي، باب (70) حديث رقم (4370) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 367- 369، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (54) معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بعد العصر، حديث رقم (834) ، (835) .(10/285)
وله من حديث إسماعيل بن جعفر: أخبرنى محمد بن أبى حرملة، أخبرنى أبو سلمة، أنه سأل عائشة رضى اللَّه عنها عن السجدتين اللتين كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها.
قال: يحيى بن أيوب: قال إسماعيل: يعنى دوام عليهما. وذلك من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم على أصح الوجهين عند أصحابنا. ذكره النووي في (الروضة) [ (1) ] وقيل
__________
[ (1) ] قال الإمام النووي في (الروضة) : ولو فاتته راتبة أو نافلة اتخذها وردا، فقضاهما في هذه الأوقات، فهل له المداومة على مثلها في وقت الكراهة؟ وجهان:
أحدهما: نعم،
للحديث الصحيح أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فاته ركعتا الظهر، فقضاهما بعد العصر، وداوم عليهما بعد العصر
من حديث أم سلمة أنه صلى اللَّه عليه وسلّم دخل بيت أم سلمة بعد صلاة العصر فصلى ركعتين، فسألته عنهما. فقال: أتانى ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان.
متفق عليه، وفي الجامع الصحيح للبخاريّ من حديث أم سلمة:
ما ترك النبي صلى اللَّه عليه وسلّم السجدتين بعد العصر عندي قط. وأصحهما: لا. وتلك الصلاة من خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. والصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات، يستثنى منها زمان، ومكان. أما الزمان، فعند الاستواء يوم الجمعة، ولا يلحق به باقي الأوقات يوم الجمعة على الأصح. فإن ألحقنا، جاز التنفل يوم الجمعة في الأوقات الخمسة لكل أحد. وإن قلنا بالأصح، فهل يجوز التنفل لكل أحد عند الاستواء؟ وجهان. أصحهما: نعم. والثاني، لا يجوز لمن ليس في الجامع. وأما من في الجامع، ففيه وجهان. أحدهما: يجوز مطلقا. والثاني: يجوز بشرط أن يبكر، ثم يغلبه النعاس. وقيل: يكفر النعاس بلا تبكير. وأما المكان- فمكة زادها اللَّه شرفا- لا تكره الصلاد فيها في شيء وفي هذه الأوقات، سواء صلاة الطواف، وغيرها.
وقيل: إنما يباح ركعتا الطواف. والصواب، الأول. والمراد بمكة، جميع الحرم. وقيل:
إنما يستثنى نفس المسجد الحرام. والصواب المعروف هو الأول. (روضة الطالبين) :
1/ 304، كتاب الصلاة، فصل في الأوقات المكروهة.(10/286)
بل لغيره صلى اللَّه عليه وسلّم أن يداوم عليهما وقال أبو ألوفا بن عقيل: كان مخصوصا بالصلاة في الأوقات المنهي عنها كالوصال ونقل ابن الجوزي عن الأثرم أنه قال:
حديث عائشة خطأ لأنه روى عنها أنه كان يصليهما بعد الظهر فشغله قوم
__________
[ () ] وقال الإمام الزركشي في (إعلام المساجد) وقد ذكر خصائص المسجد الحرام وأحكامه:
إن الصلاة يحرم فعلها في الأوقات الخمسة، عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وعند الاستواء حتى تزول، وعند الاصفرار حتى تغرب، وبعد صلاة الصبح إلى الطلوع، وبعد صلاة العصر الى الغروب، لما في الصحيح من النهى عن ذلك، ويستثنى حرم مكة، ففي
(السنن الأربعة) من حديث جبير بن مطعم: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يا بنى عبد مناف، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار،
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وفي رواية: لا صلاة بعد الصبح إلا بمكة،
والمراد جميع الحرم- والمعنى زيادة الفضل في تلك الأماكن، فلا يحرم المقيم هناك من استكثارها.
وروى أبو الحسن على بن الجعد عن سفيان بن سعيد، عن ابن جريج عن أبى مليكة: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم، طاف بعد العصر فصلى ركعتين.
هذا هو الصحيح.
وذكر ابن أبى شبيبة في مصنفة فيما أفرده في الرد على أبى حنيفة في الفجر وصلى ركعتين قبل طلوع الشمس. وعن عطاء قال: رأيت ابن عمر، وابن عباس طافا بعد العصر وصليا. وعن ليث عن أبى سعيد أنه رأى الحسن والحسين قدما مكة، قطافا بالبيت بعد صلاة العصر ويصلى حتى تصفار الشمس. وعن عطاء: رأيت ابن عمر وابن الزبير طافا بالبيت قبل صلاة الفجر ثم صليا ركعتين قبل طلوع الشمس. (إعلام الساجد بأحكام المساجد) :
105- 107، (مصنف ابن أبى شيبة) 7/ 310 مسألة رقم (36360) ، (36361) ، (36362) ، (36363) ، (36364) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 123- 124، حديث رقم (24024) ولفظة أنه أتى عائشة أم المؤمنين فسلم عليها فقالت: من الرجل؟ قال: أنا عبد اللَّه مولى غطيف بن عازب فقالت: ابن عفيف؟ فقال: نعم يا أم المؤمنين. فسألها عن الركعتين بعد صلاة العصر أركعهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قالت له: نعم. وسألها عن ذراري الكفار؟ فقلت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هم مع آبائهم، فقالت: يا رسول اللَّه بلا عمل؟ قال: اللَّه عز وجل أعلم بما كانوا عاملين.(10/287)
فصلاهما بعد العصر مرة واحدة.
الحادية والأربعون: هل كان صلى اللَّه عليه وسلّم يحتلم؟
على وجهين صحح النووي المنع ويشكل عليه ما خرجاه في صحيحهما [ (1) ] من حديث عائشة رضى اللَّه عنها كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يصبح جنبا من جماع من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم، والأظهر في هذا التفصيل وهو أن يقال: أن الاحتلام فيض من البدن فلا مانع من هذا وإن أريد به ما يتحصل من تلاعب الشيطان فهو صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم من ذلك، ولهذا لا يجوز عليه الجنون ويجوز عليه الإغماء بل قد أغمى عليه في الحديث الّذي روته عائشة في الصحيح وفيه أنه اغتسل من الإغماء غير مرة وعن القاضي حسين أن حكى عن الداركى أن الإغماء انما يجوز على الأنبياء ساعة أو ساعتين فأما الشهر والشهران فلا، وفي الطبراني من حديث ابن عباس يرفعه ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام من الشيطان وقد ضعف هذا الحديث واللَّه أعلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 192، كتاب الصوم، باب (25) اغتسال الصائم، حديث رقم (1930) ، (1931) ، (1932) .
(مسلم بشرح النووي) : 7/ 227- 231، كتاب الصيام، باب (13) صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، حديث رقم (75) ، (76) ، (77) ، (78) ، (79) ، (80) . قولها: «كان يصبح جنبا من غير حلم» هو بضم الحاء، وبضم اللام وإسكانها، وفيه دليل لمن يقول بجواز الاحتلام للأنبياء، وفيه خلاف قدمناه، الأشهر امتناعه.
قالوا: إنه من تلاعب الشيطان، وهم منزهون عنه. ويتأولون هذا الحديث على أن المراد يصبح جنبا من جماع، ولا يجنب صلى اللَّه عليه وسلّم من احتلام لامتناعه منه، ويكون قريبا من معنى قول اللَّه تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ. ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق.
(تفسير ابن كثير) : 1/ 229، عند تفسير قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 187] .(10/288)
__________
[ () ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 2/ 329، باب (79) في الرجل يصبح وهو جنب، يغتسل ويجزئه صومه، حديث رقم (9569) ، (9570) ، (9577) .
(مسند أحمد) : 7/ 55، حديث رقم (23554) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها 263- 264، حديث رقم (24981) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها 349، حديث رقم (25551) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها، 412، حديث رقم (25945) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها، 439، حديث رقم (26108) ، من حديث أم سلمة رضى اللَّه عنها، 442، حديث رقم (26126) .
(سنن ابن ماجة) : 1/ 544، كتاب الصيام، باب (27) ما جاء في الرجل يصبح جنبا وهو يريد الصيام، حديث رقم (1704) ، (سنن النسائي) : 1/ 116، كتاب الطهارة، باب (123) باب ترك الوضوء مما غيرت لنار، حديث رقم (183) قال الإمام السندي:
قوله: من غير احتلام «للتنصيص على أن الجنابة الاختيارية لا تفسد الصوم، فضلا عن الاضطرارية. (حاشية السندي على سنن النسائي) .
(سنن البيهقي) : 4/ 214، كتاب الصيام، باب من أصبح جنبا في شهر رمضان.
(تاريخ بغداد) : 7/ 373، في ترجمة الحسن بن على حمصة، رقم (3895) ، 9/ 439، في ترجمه عبد اللَّه بن الحسن الهاشمي، رقم (5059) .
[ (2) ] قال في (الشفاء) : والكلام في عصمة نبينا عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، قال القاضي أبو الفضل- وفقه اللَّه- أعلم أن الطوارئ من التغيرات والآفات على آحاد البشر، لا يخلو أن يطرأ على جسمه أو على حواسه بغير قصد واختيار. كالأمراض والأسقام أو تطرأ بقصد واختيار، وكله في الحقيقة عمل وفعل، ولكن جرى رسم المشايخ بتفصيله إلى ثلاثة أنواع: عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات، والتغيرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها، والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم وإن كان من البشر ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر، فقد قامت البراهين القاطعة، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم، وتنزيهه عن كثير من الآفات التي تقع على الاختيار وغير الاختيار.(10/289)
__________
[ () ] قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوسواس،
وقد أخبرنا القاضي الحافظ أبو على رحمه اللَّه قال: حدثنا أبو الفضل بن خيرون العدل، حدثنا أبو بكر البرقاني وغيره، حدثنا أبو الحسن الدار قطنى، حدثنا إسماعيل الصافر، حدثنا عباس الترقفي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن منصور، عن سالم بن أبى الجعد، عن مسروق، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟ قال: وإياي، ولكن اللَّه تعالى أعاننى عليه فأسلم.
قال: قال أئمتنا في ذلك إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم غير معصوم من الأمراض وما يكون من عوارضها، من شدة وجع، وغش، ونحوه مما يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته، ويؤدى إلى فساد في شريعته من هذيان أو اختلال في كلام، وعلى هذان لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث هجر إذ معناه هذي، أي حديث
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم وقد غلبه الوجع: آتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا، فتنازعوا، فقالوا: ما له؟
أهجر....... الحديث (الشفا) : 100- 170،
بتصرف واختصار.
وقال موفق الدين بن قدامة: ولا يجب الغسل على المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام، ولا أعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اغتسل من الإغماء، وأجمعوا على أنه لا يجب، ولأن زوال العقل في نفسه ليس بموجب للغسل (المغنى) :
1/ 135، مسألة رقم (229) .(10/290)
[الثانية والأربعون: من رآه صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام فقد] رآه حقا وإن الشيطان لا يتمثل في صورته
خرج البخاري [ (1) ] من طريق يونس، عن الزهري، حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بى،
ومن طريق الزهري قال أبو سلمة: «قال أبو قتادة: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من رآني فقد رأى الحق»
وخرجه مسلم [ (2) ] من طريق ابن وهب، قال: أخبرنى يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو فكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بى.
وقال: فقال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من رآني فقد رأى الحق.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 473- 474، كتاب التعبير، باب (10) من رأى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام، حديث رقم (6993) ، (6996) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 29- 30، كتاب الرؤيا، باب (1)
قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم «من رآني في المنام فقد رآني» ،
حديث رقم (2266) ، (2267) .
(سنن أبى داود) : 5/ 258، كتاب الأدب، باب (96) ما جاء في الرؤيا، حديث رقم (5023) .
(سنن ابن ماجة) : 2/ 1284، كتاب تعبير الرؤيا، باب (2) رؤية النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام، حديث رقم (3900) ، (3901) ، (3902) ، (3903) ، (3904) ، (3905) .
(المستدرك) : 4/ 435، كتاب تعبير الرؤيا، حديث رقم (8186) .
(شمائل الترمذي) : 347، باب (57) ما جاء في رؤية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام، حديث رقم (407) ، (408) ، (409) ، (411) ، (414) ، (415) .(10/291)
وخرج الإمام أحمد [ (1) ] من حديث ابن شهاب عن عمه محمد بن شهاب قال: حدثني أبو سلمة قال: قال أبو قتادة: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من رآني فقد رأى الحق.
وخرج البخاري [ (2) ] من حديث الليث، حدثني ابن الهاد عن عبد اللَّه بن خباب عن أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكوننى.
وله من حدثنا عبد العزيز بن مختار ثابت رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتخيل بى، ورؤيا للمؤمن جزء من سنة وأربعين جزءا من النبوة،
ولمسلم [ (3) ] من طريق الليث، عن أبى الزبير، عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: من رآني في المنام فقد رآني، إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي، وقال: إذا حلم أحدكم فلا يخبر أحدا بتلعب الشيطان به في المنام.
ومن طريق زكريا بن إسحاق، قال: حدثني أبو الزبير أنه سمع جابر ابن عبد اللَّه يقول: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من رآني في المنام فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بى.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 456، حديث رقم (11129) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 120/ 473، كتاب التعبير، باب (10) من رأى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام ن حديث رقم (6997) ، (6994) .
وذكره الإمام أحمد في (مسندة) : 2/ 31، حديث رقم (4292) ، (462) ، حديث رقم (7128) ، 514 حديث رقم (7500) ، 3/ 14، حديث رقم (8303) ، 132 حديث رقم (9061) ، 133 حديث رقم (9069) ، 157 حديث رقم (9204) ، 255 حديث رقم (9650) ، 235 حديث (9713) ، 242 حديث رقم (9759) ، 4/ 173 حديث رقم (13437) ، 315، حديث رقم (14365) ، (سنن الترمذي) : 4/ 465، كتاب الرؤيا، باب (6) ما جاء في تعبير الرؤيا، حديث رقم (2279) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 31، كتاب الرؤيا، باب (1) ، حديث رقم (12) ، (13) .(10/292)
وخرج الترمذي [ (1) ] من حديث يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان.
فمن رأى ما يكره فليقم فليصل، وكان يقول: يعجبني القيد وأكره الغل:
القيد: ثبات في الدين، وكان يقول: من رآني أنا هو فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بى، وكان يقول: لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج مسلم من طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب وهشام عن محمد، عن أبى هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بى.
وللطبراني في (أوسط معاجمه) من حديث أبى سعيد الخدريّ، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بى ولا بالكعبة،
ثم قال: لا نحفظ هذه اللفظة إلا لهذا الحديث، واعلم أن صورة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم التي شاهدها الحس مع قوته في المدينة، وأما صورة روحه ولطيفته فما شاهدها أحد وكل روح بهذه المثابة لم يشاهدها أحد ولا من نعته، بل يتجسد للرائي روح النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام بصورة حسنة من غير أن يحرم شيئا، فهو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم المرئي من حيث روحه في جسد صورة جسدية تشبه إلى رؤيته، ولا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى اللَّه عليه وسلّم عصمة من اللَّه تعالى في حق الرائي، ولهذا من يراه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره به، أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل. أو ما كان فان اعطى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الرائي شيئا فإن ذلك الوقت هو الّذي يدخله التعبير، فان خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 465، كتاب الرؤيا، باب (6) ، حديث رقم (2280) .(10/293)
قال القاضي أبو بكر قوله: فإن الشيطان لا يتمثل به معناه أن رؤياه صحيحة، وليست بأضغاث [ (1) ] وقال آخرون: معناه رآه حقيقة.
قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون المراد ما إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته فإن رآه على خلافها، كانت رؤيا تقاويل لا رؤيا حقيقة.
قال بعض العلماء: خص صلى اللَّه عليه وسلّم بأن رؤيته في المنام صحيحة ومنع الشيطان أن يتمثل في خلقة لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما منعه أن يتصف في صورته في اليقظة إكراما له، فإذا تقرر ذلك فما سمعه الرائي منه في المنام، مما يتعلق بالأحكام لا يعمل به لعدم ضبط الرائي لا للشك في الرؤيا فإن الخبر لا يقبل إلا من ضابط مكلف والنائم بخلافه هنا ما ذكره القاضي حسين في فتاويه في مسألة صيام رمضان، وذكره أيضا جماعة من الأصحاب وجزم به النووي في (الروضة) من زوائده في أوائل النكاح في الكلام على الخصائص ونقل القاضي عياض الإجماع عليه [ (2) ] .
ونقل النووي أيضا في (شرح مسلم) في باب بيان أن الإسناد من الدين عن أصحابنا وغيرهم أنهم نقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع ثم قال: وهذا في مقام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به أما إذا راء مرة يفعل ما هو مندوب إليه أو ينهاه من منهيّ عنه أو يرشده إلى فعل مصلحة فلا خلاف في استجاب العمل على وقفه لان ذلك ليس حكما بمجرد المنام بل بما تقرر من أصل ذلك الشيء [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الأضغاث: جمع ضغث وهو الحلم الّذي لا تأويل له، ولا خير فيه، وهي الأحلام المختلطة التي دخل بعضها في بعض (اللسان) : 2/ 163.
[ (2) ] (روضة الطالبين) : 5/ 361، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النكاح وغيره.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 230، المقدمة، باب (5) بيان أن الإسناد من الدين، حديث رقم (7) .(10/294)
نعم عن فتاوى عن الحكم فأفتاه بخلاف مذهبه وليس مخالفا ولا إجماعا فقال: فيه وجهان أحدهما: يأخذ بقوله لأنه مقدم على القياس وثانيهما، لا لأن القياس دليل والأحلام لا يعول عليها فلا يترك من أجلها الدليل ومن كتاب (الجدل) الأستاذ ابى إسحاق الأسفرايني حكاية وجهين في أن الرجل لو رأى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المنام وأمره بأمر هل يجب عليه امتثاله إذا استيقظ وجهين أيضا في وجوب التمسك بالحلم من حديث هو في الحالة المذكورة ومن (روضة الحكام) للقاضي شريح من أصحابنا: لو كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لفلان: صلى فلان كذا هل للسامع أن يشهد لفلان صلى فلان كذا وجهان.
وقد عد القضاعي هذه الخصوصية مما خص به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دون غيره من الأنبياء وعبر بقوله أنه حرم على الشيطان أن يتمثل به صلى اللَّه عليه وسلّم.
***(10/295)
الثالثة والأربعون: أن الأرض لا تأكل لحوم الأنبياء
خرج الإمام أحمد [ (1) ] من طريق حسين بن على الجعفي، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبى الأشعث، عن أوس بن أوس الثقفي، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه الصعقة، فأكثروا على من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة على، قالوا:
وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون: بليث فقال: إن اللَّه عز وجل حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء» .
وخرجه أبو داود [ (2) ] ومسلم [ (3) ] والنسائي [ (4) ] إلا انهما قالا: إن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء ولم يقل أبو داود أن تأكل،
وعن أبى العالية إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 577. حديث رقم (15729) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 1/ 635، كتاب الصلاة، باب (207) فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، حديث رقم (1047) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 390، كتاب الجمعة، باب (5) فضل يوم الجمعة، حديث رقم (854) .
[ (4) ] (سنن النسائي) : 3/ 101- 102، (5) إكثار الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة، حديث رقم 1373.
وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب (79) في فضل الجمعة، حديث رقم (1085) .
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 604- 605، كتاب الأهوال، حديث رقم (8681) .(10/296)
الرابعة والأربعون: أن الكذب عليه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس كالكذب على غيره
فقد تواتر عنه صلى اللَّه عليه وسلّم إن من كذب عليه متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار.
روى هذا الحديث من طريق نيف وثمانين صحابيا وهو في الصحيحين [ (1) ] من حديث على بن أبى طالب، وأنس بن مالك، وأبى هريرة، والمغيرة بن شعبة.
وعند البخاري من رواية الزبير بن العوام وسلمة بن الأكوع وعبد اللَّه ابن عمرو بن العاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولفظ بلغوا عنى ولو آيه،
وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار.
وفي (مسند الإمام أحمد) [ (2) ] عن عثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن عمر ابن الخطاب وأبى سعيد الخدريّ، وسلمة بن الأسقع وزيد بن أرقم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ () ] وأخرجه أيضا البيهقي في (السنن الكبرى) : 3/ 248- 249، كتاب الجمعة، باب ما يؤمر به في ليلة الجمعة ويومها من كثرة الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، (كنز العمال) : 8/ 368، فضل في صلاة الجمعة وما يتعلق بها، حديث رقم (23301) ، (البداية والنهاية) :
5/ 297، ما أصاب المسلمين من المصيبة بوفاته صلى اللَّه عليه وسلّم (المصنف) : 2/ 254، 792 في ثواب الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (8697) ، (ميزان الاعتدال) : 2/ 99، حديث رقم (2991) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 267، كتاب العلم، باب (38) إثم من كذب على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (107) ، (108) ، (109) ، (110) ، 10/ 707، كتاب الأدب، حديث (6197) و (مسلم بشرح النووي) : 1/ 181- 187 المقدمة، باب (2) تغليظ الكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (المسند) : 3/ 442، حديث رقم (10951) ، (11032) .(10/297)
وعند الترمذي [ (1) ] عن عبد اللَّه بن مسعود ورواه بن ماجة [ (2) ] عن جابر بن عبد اللَّه، وابى قتادة، وقد صنف فيه جماعة من الحفاظ كإبراهيم الحربي ويحيى ابن صاعد والطبراني والبزار وابن مندة وغيرهم من المتقدمين وصنف فيه أبو الفرج بن الجوزي ويوسف بن خليل من المتأخرين وصرح بتواتره ابو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا النووي وغيرهما من حفاظ الحديث وهو الحق
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 34- 35، كتاب العلم، باب (8) ما جاء في تعظيم الكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 13- 14 المقدمة، باب (4) التغليظ في تعمد الكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (30) ، (31) ، (32) ، (33) ، (34) ، (35) ، (36) ، (37) ، 345، حديث رقم (1085) ، 524، حديث رقم (1636) . (الموضوعات) 1/ 90- 91، (الكامل لابن عدي) : 1/ 6- 13 وأخرجه علاء الدين الهندي في (كنز العمال) : 10/ 233، حديث رقم (29229) ، (29230) ، (29231) ، (29232) وأخرجه أيضا الطحاوي في (مشكل الآثار) : 1/ 169.
وقال في هامش (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) : وقال الحافظ الذهبي في «تذكرة الحفاظ» 3: 980، في ترجمة أبى بكر المفيد (محمد بن أحمد محدث جرجرايا) «قرأت على أحمد بن سباع، وأنا عتيق بن أبى الفضل سنه 641، أنا أبو القاسم الحافظ، أنا أبو غالب بن البناء وأخوه يحيى، قالا: أنا الحسن بن غالب المقري، أنا محمد بن أحمد المفيد.
بجرجرايا إملاء أنا عثمان بن الخطاب، سمعت عليا، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: من كذب على متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار هذا مما لا أفرح يعلوه، لعلمه بأن هذا الكذب ما رأى عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أصلا، ولا واللَّه رأى من رآه» .
وأخرجه أيضا أبو داود في (السنن) : 4/ 63، كتاب العلم، باب (4) التشديد في الكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرجه أيضا النسائي في (السنن) : باب (4) ذكر فضل يوم الجمعة، (5) إكثار الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الجمعة، حديث رقم (1373) .
وأخرجه أيضا أبو داود في (السنن) : 1/ 635، كتاب الصلاة، باب (207) فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، حديث رقم (1047) ، 2/ 184، حديث رقم (1531) .(10/298)
ولهذا أجمع العلماء على كفر من كذب على الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم تعمدا مستجيزا لذلك واختلفوا في المتعمد فقط فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يكفر أيضا ويخالفه الجمهور ثم لو تاب فهل تقبل روايته على قولين: فأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو بكر الحميدي والصيرفي من أصحابنا قالوا: لا تقبل توبته ولا روايته
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم إن كذبا على ليس ككذب على أحد، من كذب على فليتبوَّأ مقعده من النار
قالوا: ومعلوم أن من كذب على غيره فقد أثم وفسق، وكذلك الكذب عليه صلى اللَّه عليه وسلّم لكن من تاب عن الكذب على غيره تقبل بالإجماع توبته، فينبغي أن لا تقبل توبته من كذب عليه صلى اللَّه عليه وسلّم ولا روايته فرقا بين الكذب عليه والكذب على غيره وأما الجمهور فقال: إن تاب قبلت توبته وروايته وهذا هو الصحيح واللَّه اعلم.
الخامسة والأربعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان معصوما في أقواله وأفعاله ولا يجوز عليه التعمد ولا الخطأ الّذي يتعلق بأداء الرسالة ولا بغيرها فيقدر عليه
[قال تعالى] [ (1) ] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فلهذا قال كثير من العلماء: لم يكن له الاجتهاد لأنه قادر على النص وقال آخرون: بل لا يقدر عليه فعلى الأقوال كلها هو واجب العصمة لا يتصور استمرار الخطأ عليه بخلاف أمته فإنه يجوز ذلك على كل واحد منهم منفردا فأما إن اجتمعوا كلهم على قول واحد فلا يجوز عليهم الخطأ كما تقدم.
قال الماوردي في (تفسيره) : قال ابن أبى هريرة: كان صلى اللَّه عليه وسلّم لا يجوز عليه الخطأ ويجوز على غيره من الأنبياء لأنه خاتم النبيين فليس بعده من يستدرك الخطأ بخلافهم فلذلك عصمه اللَّه تعالى منه وقال الإمام الحق الحق:
إنه لا يخطئ في اجتهاده صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.(10/299)
واختار الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز عليه بشرط أن لا يقره عليه ونقله المدى من أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث واحتج عليه بأشياء [ (1) ] .
السادسة والأربعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم حي في قبره وكذلك الأنبياء عليهم السلام
وقد أفرد الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في ذلك جزءا حاصله أنه خرج من طريق أبى احمد بن عدي الحافظ قال: حدثنا قسطنطين بن عبد اللَّه الرومي أخبرنا الحسين بن عرفه العبديّ قال: حدثني الحسن بن قتيبة المدائني أخبرنا مسلم بن سعيد الثقفي عن الحجاج بن الأسود عن ثابت البناني عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون. قال البيهقي: هذا الحديث يعد في أفراد الحسن بن قتيبة المدائني أبو على، له أحاديث غرائب حسان وأرجو أنه لا بأس به.
قال البيهقي: وقد روى عن يحيى بن أبى بكر عن المسلم بن سعيد فذكره من طريق ابى يعلى الموصلي قال ابن على المسلم: عن الحجاج فذكره.
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض: وأما وفور عقله، وذكاء لبه، وقوة حواسه وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا حرمة أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله وبديع سيره، فضلا عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهة، وهذا مما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه (الشفا) : 1/ 42.
وقد قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت جميعها أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها أن اللَّه تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى اللَّه عليه وسلّم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا (المرجع السابق) .(10/300)
وخرجه البيهقي عن سعيد ثنا عبيد اللَّه بن أبى أحمد النهلي عن أبى المليح عن أنس قال: الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) : 2/ 187- 191، حديث رقم (6210) وابن عدي في (الكامل) والبيهقي في (حياة الأنبياء) عن الحجاج بن الأسود عن ثابت البناني عن أنس مرفوعا به. وقال البيهقي: «يعد في أفراد الحسن بن قتيبة» . وقال ابن عدي: «وله أحاديث غرائب حسان، وأرجو أنه لا بأس به» كذا قال، ورده الذهبي بقوله: «قلت: بل هو مالك، قال الدار قطنى في رواية البرقاني عنه» متروك الحديث» . وقال أبو حاتم: «ضعيف» . وقال الأزدي: «واهي الحديث:. وقال العقيلي: كثير الوهم. قلت:
وأقره الحافظ في «اللسان» ، وبقية رجال الاسناد ثقات، ليس فيهم من ينظر فيه غير الحجاج ابن الأسود، فقد أورده الذهبي في: «الميزان» وقال «نكرة، ما روى عنه- فيما أعلم- سوى مسلم بن سعيد فأتى يخبر منكر عنه، عن أنس في أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون. رواه البيهقي لكن تعقبه الحافظ في (اللسان) ، فقال عقبه» وإنما هو حجاج بن أبى زياد الأسود، يعرف ب (زق العسل) وهو بصرى كان ينزل القسامل. روى عن ثابت وجابر بن زيد، وابى نضرة وجماعة. وعنه جرير بن حازم وحماد بن سلمة وروح بن عبادة واخرون. قال أحمد:
ثقة، ورجل صالح، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في (الثقات) فقال: حجاج بن أبى زياد الأسود من أهل البصرة.... وهو الّذي يحدث عنه حماد بن سلمة فيقول: حدثني حجاج بن الأسود قلت: ويتلخض منه أن حجاجا هذا ثقة بلا خوف، وأن الذهبي توهم أنه غيره فلم يعرفه ولذلك استنكر حديثه، ويبدو أنه عرفه فيما بعد، فقد أخرج له الحاكم في (المستدرك) : 4/ 332، حديثا اخر، فقال الذهبي في (تلخيصه) : «قلت: حجاج ثقة» . وكأنه لذلك لم يورده في كتابه (الضعفاء) ولا في (ذيله) .
واللَّه اعلم.(10/301)
__________
[ () ] وجملة القول: أن الحديث بهذا الإسناد ضعيف، وأن علته إنما هي من الحسن ابن قتيبة المدائني، ولكنه لم يتفرد به، خلافا لما سبق ذكره عن البيهقي، فقال أبو يعلى الموصلي في (مسندة) ثنا أبو الجهم الأزرق بن على، ثنا يحيى بن أبى بكير، ثنا المستلم بن سعيد به.
ومن طريق أبى يعلى أخرجه البيهقي قال: أخبرنا الثقة من أهل العلم قال: أنبأ أبو عمرو بن حمدان قال: انبأ أبو يعلى الموصلي ... قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، غير الأزرق هذا قال الحافظ في (التقريب) : صدوق يغرب. ولم ينفرد به فقد أخرجه أبو نعيم في (أخبار أصبهان) من طريق عبد اللَّه بن إبراهيم بن الصباح عن عبد اللَّه بن محمد بن يحيى بن أبى بكير ثنا يحيى بن ابى بكير به أورده في ترجمه ابن الصباح هذا، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وعبد اللَّه بن محمد بن يحيى بن أبى بكير، فترجمه للخطيب وقال: سمع جده يحيى بن أبى بكير قاضى كرمان ... وكان ثقة فهذه متابعة قوية للأزرق، تدل على أنه قد حفظ ولم يغرب. وكأنه لذلك قال المناوى في (فيض القدير) بعد ما عزا أصله لأبى يعلى: «وهو حديث صحيح» . ولكنه لم يبين وجهه، وقد كفيناك مؤنته، والحمد للَّه الّذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه.
هذا. وقد كنت برهة من الدهر ارى أن هذا الحديث ضعيف لظني أنه مما تفرد به ابن قتيبة- كما قال البيهقي- ولم أكن قد وقفت عليه في (مسند أبى يعلى) و (أخبار أصبهان) .
فلما وقفت على إسناده فيهما تبين لي أنه إسناد قوى، وأن التفرد المذكور غير صحيح ن ولذلك بادرت إلى إخراجه في هذا الكتاب تبرئه، للذمة، وأداء للأمانة العلمية، ولو أن ذلك قد يفتح الطريق لجاهل أو حاقد إلى الطعن والغمز واللمز، فلست أبالى بذلك ما دمت أنى أقوم بواجب ديني أرجو ثوابه من اللَّه تعالى وحده.
فإذا رأيت أيها القاري الكريم في شيء من تأليفى خلاف هذا التحقيق، فاضرب عليه، واعتمد هذا وعض عليه بالنواجذ، فإنّي لا أظن أنه يتسير لك الوقوف على مثله. واللَّه ولى التوفيق.(10/302)
قال: هذا موقوف
عن أنس بن أبى ليلى عن ثابت عن أنس عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدي اللَّه حتى ينفخ في الصور [ (1) ] .
قال البيهقي: وهذا إن صح بهذا اللفظ فالمراد لا يتركون لا يصلون إلا هذا المقدار ثم يكونون مصلين فيما بين يدي اللَّه تعالى ويحتمل أن يكون المراد به رفع أجسادهم مع أرواحهم فقد روى سفيان الثوري في الجامع فقال: قال لنا شيخ: عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في قبره أكثر من أربعين ليلة حتى رفع [ (2) ] .
__________
[ () ] ثم اعلم ان الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء. ولذلك وجب الإيمان بها، دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا. هذا هو الموقف الّذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالآراء كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم، إلى ادعاء أن حياته صلى اللَّه عليه وسلّم في قبره حياة حقيقية.
قال: يأكل ويشرب وبجامع نساءه!! وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا اللَّه سبحانه وتعالى.
وأخرجه ابن حجر في (لسان الميزان) : 2/ 304، حديث رقم (2556) .
وأخرجه أيضا أبو عبد الذهبي في (ميزان الاعتدال) 1/ 518، حديث رقم (1933) .
وأخرجه أيضا ابن حجر في (المطالب العالية) : 3/ 269 باب حياة الأنبياء في قبورهم يصلون، حديث رقم (3452) .
[ (1) ]
(كنز العمال) : 11/ 474، فصل في بعض خصائص الأنبياء عموما، حديث رقم (32230) ، وعزاه إلى ابن عساكر في (تاريخه) ، والبيهقي في (حياة الأنبياء) عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، (الموضوعات) : 1/ 303، باب مقدار لبثه في قبره ميتا ولفظه: «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه» .
قال ابن حبان: هذا حديث باطل موضوع، والحسن بن يحيى منكر الحديث جدا يروى عن الثقات ما لا أصل له. وقال يحيى: الحسن ليس بشيء وقال الدار قطنى: متروك.
[ (2) ] (سلسلة الأحاديث الضعيفة) : حديث رقم (201) .(10/303)
قال كاتبه: وقال محمد بن زبالة: حدثني محمد بن حسن، عن إبراهيم ابن عبد الرحمن ابن عبد اللَّه، قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب، فرآهم يلوذون بقبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: لعلهم يرون أنه فيه ما يرى في قبره أكثر من أربعين ليلة.
وحدثني محمد بن حسن عن عثمان عن الحكم بن عيينة عن سعيد مثلة قال البيهقي: فعلى هذا يسيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم اللَّه تعالى لما روينا في حديث المعراج وغيره أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رأى موسى عليه السلام قائما يصلى في قبره ثم رآه مع سائر الأنبياء في بيت المقدس ثم رآهم في السموات، ولحياة الأنبياء بعد موتهم شواهد من الأحاديث الصحيحة فذكر حديث يزيد بن هارون أن سليمان التيمي عن أنس أن بعض أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أخبره أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليلة اسرى به مر على موسى وهو يصلى في قبره [ (1) ] .
وحديث سفيان الثوري ثنا سليمان عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: مررت على موسى وهو قائم يصلى في قبره
[ (2) ]
وحديث حماد بن سلمة ثنا سليمان التيمي وثابت عن أنس ان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أتيت على موسى ليلة اسرى بى عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلى في قبره خرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما ومن حديث الثوري وعيسى بن يونس وجرير بن عبد الحميد عن التيمي
قال المؤلف [ (3) ] .
__________
[ (1) ] سيق تخريج أحاديث الإسراء والمعراج في الجزء الأول من (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا ص 47.
[ (2) ] (الكامل لابن عدي) : 5/ 38، ترجمه عمر بن حبيب العدوي رقم (1208) .
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(10/304)
وخرج البيهقي [ (1) ] من حديث عبد العزيز بن أبى سلمة عن عبد اللَّه بن الفضل الهاشمي عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لقد رأيتني في الحجر وأنا أخبر قريش عن مسراى، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه اللَّه تعالى إليّ انظر إليه ما يسألونى عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلى، وإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى قائم يصلى أقرب الناس منه شبها: عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم يعنى نفسه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقامت الصلاة، فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام.
خرجه مسلم من حديث عبد العزيز وفي حديث سعيد بن المسيب لقيهم في مسجد بيت المقدس.
وفي حديث أبى ذر ومالك بن صعصعة في قصة المعراج أنه لقيهم في جماعة من الأنبياء في السموات وحكمهم وحكموه وكل ذلك صحيح لا يخالف بعضه بعضا فقد يرى موسى قائما يصلى في قبره ثم أسرى بموسى وغيره إلى بيت المقدس كما أسرى بنبينا فيراهم فيه ثم يعرج بهم إلى السموات كما عرج نبينا فيراهم فيه كما أخبر صلى اللَّه عليه وسلّم فحلوله في أوقات بمواضع مختلفات ثابت، فجائز في العقل كما ورد عن الصادق وفي ذلك دلالة على حياتهم على ذلك فذكر
حديث أوس الثقفي أن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
قال: وله شواهد فذكر
حديث أبى مسعود يرفعه ليس يصلى على أحد يوم الجمعة إلا عرضت على صلاته [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 2/ 358- 359، باب الإسراء برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وما ظهر في ذلك من الآيات.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 457، كتاب التفسير تفسير سورة الأحزاب، حديث رقم (3577) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن أبا رافع هذا هو إسماعيل بن رافع ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : إسماعيل بن رافع أبو رافع: ضعفوه.(10/305)
وحديث أبى أسامة: أكثروا عليّ من الصلاة في كل يوم جمعة فإن صلاة أمتى تعرض عليّ في كل يوم جمعه.
وحديث أنس يرفعه وفيه ثم يوكل اللَّه بذلك ملك يدخله في قبري كما تدخل عليكم الهداية يخبرني من صلى على باسمه ونسبه إلى عشيرته.
فأثبتته عندي في صحيفة بيضاء.
وحديث أبى هريرة وفيه: صلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم
وحديثه أيضا يرفعه ما من أحد يسلم على إلا رد اللَّه على روحي حتى أرد عليه السلام [ (1) ] .
قال البيهقي: وإنما أراد واللَّه اعلم إلا وقد ردّ اللَّه روحي حتى أرد عليه السلام.
وذكره حديث ابن مسعود يرفعه إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني من أمتى السلام.
وحديث أبى هريرة يرفعه من صلى على عند قبري سمعته ومن صلى على غائبا أبلغته وذكر حديث لا تخيرونى على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى أكان فيما صعق فأفاق قبلي أو كان فيما يستثنى اللَّه فهذا إنما يصح على أن اللَّه تعالى رد إلى الأنبياء أرواحهم وهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيما صعق
ثم لا يكون ذلك مرئيا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار فإن كان موسى ممن استشنى اللَّه بقوله إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فلله تعالى لا يذهب باستشعاره في تلك الحالة ويحاسبه اللَّه بصعقة الصور واللَّه أعلم.
وقال ابن زبالة: وحدثني يزيد عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(سنن أبى داود) : 2/ 534، كتاب المناسك، باب (100) زيارة القبور، حديث رقم (2041) ، حديث رقم (2042) ولفظه «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»
[ (2) ] (الدر المنثور) : 1/ 87.(10/306)
السابعة والأربعون: ما من أحد يسلم عليه صلى اللَّه عليه وسلّم إلا ردّ اللَّه تعالى إليه روحه ليردّ عليه السلام يبلغه صلى اللَّه عليه وسلّم سلام الناس عليه بعد موته ويشهد لجميع الأنبياء بالأداء يوم القيامة
قال الماوردي: أما شهادته للأنبياء عليهم السلام فتقدم ذكره وأما السلام عليه:
فخرج النسائي من طريق سفيان بن سعيد الثوري عن عبد اللَّه بن السائب عن زاذان عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن للَّه ملائكة سياحين يبلغوني حين يبلغوني عن أمتى السلام [ (1) ] وخرجه الحاكم في مستدركه
وقال: صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرج البيهقي وغيره من حديث أبى عبد الرحمن المقرئ قال ثنا حيوة ابن شريح: عن أبى صخر عن يزيد بن عبد اللَّه بن قسط عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من أحد يسلم عليّ إلا رد اللَّه روحي حتى أرد عليه السلام [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (سنن النسائي:) 3/ 50، كتاب السهو، باب (46) السلام على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1281) ،
قوله: «سياحين»
صفة الملائكة، يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح، وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض والسياح بالتشديد كالعلاء، مبالغة فيها.
«يبلغوني»
من الإبلاغ أو التبليغ، وفيه حث على الصلاة والسلام عليه، وتعظيم له صلى اللَّه عليه وسلّم، وإجلال لمنزلته، حيث سخر الملائكة الكرام لهذا الشأن الفخم.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 456، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، حديث رقم (3576) ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد علونا في حديث الثوري فإنه مشهور عنه، فأما حديث الأعمش، عن عبد اللَّه بن السائب، فإنا لم نكتبه إلا بهذا الإسناد، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] (السنن الكبرى للبيهقي) : 5/ 245، كتاب الحج، باب الزيارة قبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.(10/307)
وخرجه الإمام أحمد من طريق عبد اللَّه ثنا حيوة به ولفظه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من أحد يسلم عليّ إلا رد اللَّه إلى روحي حتى أرد عليه السلام
[ (1) ] وقال أبو بكر بن أبى الدنيا: حدثني سويد بن سعيد حدثني ابن أبى الرجال عن سليمان بن عثمان قال: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في النوم فقلت يا رسول اللَّه هؤلاء الذين يأتوك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.
الثامنة والأربعون: من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه كان نورا وكان إذا مشى في الشمس والقمر لا يظهر له ظل
جعل ابن سبع في كتاب (شفاء الصدر) من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه كان نورا وكان إذا مشى في الشمس والقمر لا يظهر له ظل ويشهد لما ذكره قول اللَّه تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [ (2) ] فسماه اللَّه نورا وسماه سراجا فقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [ (3) ] قال الطبري: يعنى بالنور محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم الّذي أنار اللَّه به الحق وأظهر به الإسلام ومحق به الشرك وهو نور لمن استتار به انتهى.
وثبت أنه صلى اللَّه عليه وسلّم سأل اللَّه تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهان نورا وختم ذلك بقوله واجعلني نورا.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 338، حديث رقم (10434) ، من مسند أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (2) ] المائدة: 15.
[ (3) ] الأحزاب: 45.(10/308)
وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث محمد بن جعفر عن شعبه عن سلمه بن كهيل عن كريب عن ابن عباس قال: بنت عند خالتي ميمونة الحديث وفيه واجعل لي نورا وقال: واجعلني نورا، وفي رواية النضر عن شعبه واجعلني نورا ولم يشك.
***
__________
[ (1) ] رواه البخاري في صلاة الجماعة، باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه، سواء كانا اثنين، وباب إذا قام الرجل عن يسار الإمام، وباب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه الوضوء، باب التخفيف في، وباب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره، وفي صفة الصلاة، باب وضوء الصبيان، وفي الوتر، باب ما جاء في الوتر، وفي العمل في الصلاة، باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان أمر الصلاة، وفي تفسير سورة آل عمران، باب قوله تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وباب قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وباب قوله تعالى:
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وباب قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ وفي اللباس، باب الذوائب، وفي الأدب، باب رفع البصر إلى السماء، وفي الدعوات، باب الدعاء إذا أنتبه بالليل، وفي التوحيد، باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق.
ومسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامة، حديث رقم (763) ، (والموطأ) : 1/ 121- 122، في صلاة الليل، باب صلاة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في الوتر، وأبو داود في الصلاة، باب الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان، حديث رقم (610) ، (611) ، والترمذي في الصلاة باب ما جاء في الرجل يصلى ومعه رجل، حديث رقم (232) ، والنسائي في الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، حديث رقم (842) . جامع الأصول: 5/ 600- 601، حديث رقم (3852) وقال: وهذه الروايات أطراف من حديث طويل، وله روايات كثيرة، وطرق عدة، قد أخرجه الجماعة، ويرد في صلاة الليل.(10/309)
وأما أنه صلى اللَّه عليه وسلّم ولد مختونا
خرجه أبو محمد بن عدي حدثنا عبد اللَّه بن يحى السرحينى ثنا جعفر ابن عبد الواحد قال: قال لنا صفوان بن هبيرة ومحمد بن بكر الرومانى: عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ولد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مختونا [ (1) ] .
وقال محمد بن سعد: أخبرنى يونس بن عطاء المكيّ ثنا الحكم بن أبان العهدي ثنا عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ولد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مختونا مسرورا قال: فأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده وقال: ليكون ابني هذا شأن فكان له شأن [ (2) ] .
وقال محمد بن كثير الكوفي: ثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ولد مختونا
وقال سفيان بن محمد المصيصي: أرانا هشيم عن يونس عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من كرامتي على اللَّه عز وجل انى ولدت مختونا ولم ير سوأتي أحد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] خرجه بن عدي في (الكامل) : 2/ 15 من حديث جعفر بن عبد الواحد بسنده عن ابن عباس قال: (ولد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مسرورا مختونا) ثم قال: وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن جعفر بن عبد الواحد، كلها بواطيل، وله غير هذه الأحاديث المناكير وكان يتهم بوضع الحديث، وأحاديث جعفر إما تكون تروى عن ثقة بإسناد صالح ومتن منكر فلا يكون إسناده ولا متنه محفوظا، وإما يكون سرق الحديث من ثقة يكون تفرد به ذلك الثقة فيسرق منه فيرويه عن شيخ ذلك الثقة، وإما أن يجازف إذا سمع شعبة بحديث لشعبه أو مالك أو لغيرهم ويكون تفرد عنهم فلا يحفظ الشيخ ذلك الرجل فيلزقه على إنسان غيره ولا يكون لذلك الرجل في ذاك الحديث ذكر ولا يرويه، وكذلك سرقه أيضا محمد بن الوليد بن أبان مولى بنى هاشم بغدادي وغيرهما.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 103، ذكر مولد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] راجع التعليق التالي.(10/310)
وخرج الطبراني في (الأوسط) من معاجمه حدثنا محمد بن أحمد بن الفرج الأيلي المؤدب ثنا سفيان بن محمد الغزاري ثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من كرامتي على اللَّه أنى ولدت مختونا ولم ير سوأتي أحد قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يونس إلا هشيم تفرد به سفيان بن محمد الفزاري.
وخرج أبو نعيم الحافظ ثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن خالد الخطيب، ثنا محمد بن محمد بن سليمان، ثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، ثنا موسى بن أبى موسى، حدثني خالد بن سلمة. عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ولد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مسرورا مختونا [ (1) ] .
وخرج الطبراني في (معجمه الأوسط) عن محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ ثنا عبد الرحمن بن عتيبة البصري ثنا على محمد السلمي أبو الحسن المدائني ثنا مسلمه بن محارب بن سلمة بن زياد عن أبيه عن أبى بكرة أن جبريل ختن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حين طهر قلبه قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبى بكرة إلا بهذا الإسناد تفرد به عبد الرحمن بن عتيبة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبى نعيم) : 1/ 154، بيان رضاعه وفصاله صلى اللَّه عليه وسلّم، أنه ولد مختونا مسرورا ولم ير أحد سوأتي، وقال في هامشه: أخرجه أيضا الطبراني في (الأوسط) ، والخطيب، وابن عساكر من طرق عن أنس، وصححه الضياء المقدس في (المختارة) ، والسيوطي في (الخصائص) 1/ 132، وقال في صحيح الزوائد 4/ 244: 4/ 224: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه شعبان الفزازى، وهو متهم.
قال الحاكم في (المستدرك) : 2/ 657- 658، تواترت الأحاديث أنه عليه السلام ولد مختونا، وولد صلى اللَّه عليه وسلّم في الدار التي في الزقاق المعروف بزقاق المدكل بمكة المكرمة، وقد صليت فيه، وهي الدار التي كانت بعد مهاجر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في يد عقيل بن أبى طالب، في [ثم] أيدي ولده بعده.
وحديث رقم (92) ، ولفظه ولفظ ابن سعد سواء، وحديث رقم (93) : «أن جبريل ختن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حين طهر قلبه» قال الهيثمي: ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات.
[ (2) ] (راجع هامش المرجع السابق) .(10/311)
التاسعة والأربعون:
قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام جاء عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه علم بعض الناس الدعاء فقال: قل: اللَّهمّ إني أقسم عليك بنبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة
فإن صح فينبغي أن يكون مخصوصا، فإنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على اللَّه بغيره من الملائكة والأنبياء والأولياء فإنّهم ليسوا في درجته قال المؤلف: هذا الحديث
خرجه الترمذي [ (1) ] من حديث عثمان بن حنيف، ولفظه اللَّهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة،
الحديث وقال: حديث حسن صحيح غريب وقد تقدم ذكره في المعجزات فتأمله وليس في طرقه كلها أقسم عليك فيها أسألك واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 531، كتاب الدعوات، باب (119) ، حديث رقم (3578) ، وتمامه:
إني توجهت بك إلى ربى في حاجتي هذه لتقضى لي، اللَّهمّ فشفعه في.
قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبى جعفر وهو الخطميّ، وعثمان بن حنيف هو أخو سهل بن حنيف، وهو جزء من حديث طويل.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 1/ 441/ كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (189) ما جاء في صلاة الحاجة، حديث رقم (1385) ، وفيه قوله: (إن شئت أخرت لك) أي أخرت جزاءه إلى الآخرة. ولفظ أخرت يحتمل الخطاب والتكلم. (فشفعه) أي اقبل شفاعته في حقي.(10/312)
__________
[ () ] قال الإمام الحافظ أبو العلاء محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري في (تحفة الأحوذي) : 10/ 25 وما بعدها، وقال الإمام ابن تيمية في رسالته (التوسل والوسيلة) بعد ذكر حديث عثمان بن حنيف هذا ما لفظه: وهذا الحديث حديث الأعمى قد رواه المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقى وغيره ثم أطال الكلام في بيان طرقه وألفاظها (من حديث أبى جعفر وهو غير الخطميّ) قال الإمام ابن تيمية: هكذا وقع في الترمذي وسائر العلماء قالوا هو أبو جعفر وهو الصواب انتهى. قلت أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة رجلان أحدهما أبو جعفر الخطميّ بفتح المعجمة وسكون المهملة اسمه عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني نزيل البصرة صدوق من السادسة والثاني غير الخطميّ. قال في (التقريب) أبو جعفر عن عمارة ابن خزيمة قال الترمذي ليس هو الخطميّ فلعله الّذي بعده. قلت: والّذي بعده هو أبو جعفر الرازيّ التميمي مولاهم واسمه عيسى بن أبى عيسى عبد اللَّه بن ماهان وأصله من مرو وكان يتجر إلى الري صدوق سيئ الحفظ خصوصا عن مغيرة من كبار السابعة.
تنبيه: قال الشيخ عبد الغنى في (إنجاح الحاجة) : ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته والحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته. وأما بعد مماته فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فذكر الحديث قال وقد كتب شيخنا المذكور رسالة مستقلة فيها التفصيل من أراد فليرجع إليها انتهى.
وقال الشوكانى في تحفة الذاكرين: وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى اللَّه عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو اللَّه سبحانه تعالى وأنه المعطى المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن انتهى.
وقال فيها في شرح قول صاحب العمدة: ويتوسل إلى اللَّه بأنبيائه والصالحين ما لفظه ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن أعمى أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فذكر الحديث ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال وقال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه اللَّهمّ إنا نتوسل إليك بعم نبينا إلخ انتهى.(10/313)
__________
[ () ] وقال في رسالته (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) وأما التوسل إلى اللَّه سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين عبد السلام: أنه لا يجوز التوسل إلى اللَّه تعالى إلا بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم إن صح الحديث فيه. ولعله يشير إلى الحديث الّذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه ابن ماجة وغيرهم أن أعمى أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فذكر الحديث.
قال وللناس في معنى هذا قولان أحدهما أن التوسل هو الّذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا بنبينا إليك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا وهو في صحيح البخاري وغيره فقد ذكر عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته في الاستسقاء ثم توسل بعمه العباس بعد موته وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى اللَّه تعالى والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان في مثل هذا شافعا وداعيا لهم، والقول الثاني أن التوسل به صلى اللَّه عليه وسلّم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه ولا يخافك أنه قد ثبت التوسل به صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضى اللَّه عنه في توسله بالعباس رضى اللَّه عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين الأول ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضى اللَّه عنهم والثاني أن التوسل إلى اللَّه بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله، فإذا قال القائل اللَّهمّ إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى اللَّه بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال غير جائز أو كان شركا كما يزعمه المشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم. وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل بالأنبياء والصلحاء من قوله تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ونحوه قوله تعالى فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ونحو قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبى عنه، فإن قولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى مصرح بأنهم عبدوهم لذلك والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند اللَّه بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله ولا تدعو مع اللَّه أحدا فإنه نهى عن أن التوسل عليه بعمل صالح عمله(10/314)
__________
[ () ] بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم وكذلك قوله:
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الآية فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الّذي يستجيب لهم والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا اللَّه ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه. وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه كاستدلالهم بقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
فإن هذا الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة للَّه جل جلاله في أمر يوم ومن اعتقد هذا العبد من العباد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا فأن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من أمر اللَّه شيء وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره. وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء وأولياء والعلماء، وقد جعل اللَّه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المقام المحمود لمقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له سل تعطه وأشفع تشفع وقيل ذلك في كتابة العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بأذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم لما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ يا فلان ابن فلان لا أملك لك من اللَّه شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك من اللَّه شيئا، فإن هذا ليس فيها إلا التصريح بأنه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يستطيع نفع من أراد اللَّه ضره ولا ضر من اللَّه تعالى نفعه وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من اللَّه، وهذا معلوم لكل مسلم وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى اللَّه فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهى وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببا للإجابه ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين انتهى كلام الشوكانى.
قلت: الحق عندي أن التوسل بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم أيضا جائز، وأما التوسل به صلى اللَّه عليه وسلّم بعد مماته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم فلا يجوز، واختاره الإمام ابن تميمة في رسالته التوسل والوسيلة وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد(10/315)
__________
[ () ] فيه فعليك أن تراجعها، ومن جملة كلامه فيها وإذا كان كذلك فمعلوم أنه ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى اللَّه عليه وسلّم داعيا له ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته بل كانوا في الاستقساء في حياته يتوسلون به فلما مات لم يتسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللَّهمّ إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاستقنا فيسقون، وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة لم ينكره أحد مع شهرته وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية ودعا بمثله معاوية بن أبى سفيان في خلافته لما استسقى بالناس، فلو كان توسلهم بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما ونعدل عن التوسل بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم الّذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند اللَّه فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته، وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين فأنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى اللَّه بشفاعة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ودعائه لا بذاته، وقال له في الدعاء قل اللَّهمّ فشفعه في، وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. وكان المخالف لعمر محجوجا بسنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وكان الحديث الّذي رواه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حجة عليه لا له. وقال فيها فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته مثل الأقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم فليس هذا مشروعا عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا أو استشفعوا بمن كان حيا كالعباس ويزيد بن الأسود ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم لا عند قبره ولا غير قبره بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال عم اللَّهمّ إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا فتوسل إليك بعم نبينا فاستقنا، فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الّذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبر هو يتوسلوا هناك ويقولوا في(10/316)
الخمسون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في النور
وتقدم أيضا واللَّه أعلم [ (1) ] .
الحادية والخمسون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم إذا قعد لحاجته تبتلع الأرض بوله وغائطه
وقد تقدم ذلك بطرقه [ (2) ] .
الثانية والخمسون: ولد صلى اللَّه عليه وسلّم مختونا مسرورا
خرج الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادي من طريق سفيان بن محمد المصيصي قال: حدثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من كرامتي إني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي [ (3) ] .
__________
[ () ] دعائهم بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على اللَّه عز وجل أو السؤال به فيقولون نسألك أو نقسم عليك أو بجاه نبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس انتهى.
[ (1) ] الّذي تقدم هو باب رؤيته صلى اللَّه عليه وسلّم من خلفه كما يرى من أمامه في (إمتاع الأسماع) : 5/ 305 بتحقيقنا.
[ (2) ] راجع (إمتاع الأسماع) : 5/ 302.
[ (3) ] (تاريخ البغدادي) : 1/ 329، في ترجمة محمد بن الفرج رقم (327) ، ثم قال: لم يروه فيما يقال عن يونس غير هشيم وتفرد به سفيان بن محمد.(10/317)
فأن قيل: فلم لم يولد مطهر القلب من الحظ الشيطان حتى شق صدره قيل: قال ابن عقيل الحنبلي: لأن اللَّه تعالى أخفى دون التطهير بين الّذي جرت العادة أن تفعله القابلة أو الطبيب وأظهر أشرفهما وهو القلب فأظهر آثار التحميد والعناية بالعصمة في الطرقات الوحي.
وقال أبو حسين بن بشر: أن ثنا عثمان بن أحمد الدقاق ثنا أبو الحسن ابن البراء قال قالت: آمنه: ولدته جاثيا على ركبتيه نظر إلى السماء ثم قبضة من الأرض وأهوى ساجدا وولد وقد قطعت سرته فغطين عليه إناء فوجدته قد تفلق الإناء عنه وهو يمص إبهامه يشخب لبنا وقد قال العباس: ولد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مختونا مسرورا فأعجب به جده عبد المطلب [ (1) ] .
الثالثة والخمسون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم لا يتثاءب
حدث محمد بن كثير الكوفي ثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبى هريرة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ولد مختونا وقال صفوان بن قتيبة: ومحمد الرماني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: ولد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مسرورا مختونا وفي هذين الحديثين ضعف وقد ورد في حديث آخر ما يخالف هذا وهو أن جده عبد المطلب ختنه في يوم السابع وصنع له مأدبة رواه ابن عبد البر في [المبتدإ] وإسناده أيضا لا يصح وقد استغنى عن هذا بحلب في حدود الخمسين والستمائة فصنف فيها ابن طلحة تصنيفا حكى فيه عن أبى عبد اللَّه الترمذي الحكيم أنه ولد مختونا وتعقبه الكمال عمر بن العديم فصنف كتاب [الملحة في الرد على أبى طلحة] فأبدع وأجاد ذكره في اختلاف الآثار في كونه ولد مختونا أو ختنه جده عبد المطلب أو ختنه جبريل عليه السلام وذكر ما ورد في ذلك من الآثار وضعفها كلها وأنه لا يثبت في هذا شيء من ذلك واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 103، (عيون الأثر) : 1/ 30، (تاريخ الخميس) : 1/ 204 وفيه: وقد انشقّ عنه القدر وهو شاخص ببصره إلى السماء.(10/318)
خرج البخاري في كتابه الكبير وأنس بن أبى شيبة في مصنفه من مرسل يزيد بن الأصم قال: ما تثاءب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة قط ولابن سعد [ (1) ] من حديث سفيان، عن أبى فزاره عن يزيد ابن الأصم قال: ما رئي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم متثائبا في الصلاة قط، وقال مسلمة بن عبد الملك: ما تثاءب نبي قط وأنها من علامة النبوة ونقله ابن دحية في خصائص أعضاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال مؤلفه: ويؤيد ذلك ما
خرجه البخاري [ (2) ] في صحيحة من حديث ابن أبى ذئب حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أن اللَّه يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد اللَّه فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته.
وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإن قال:
ها ضحك من الشيطان. وترجم عليه باب ما يستحب من العطاس ويكره من التثاؤب، وخرجه أيضا في باب إذا تثاءب فليضع على فيه. وهو آخر حديث في كتاب الأدب وذكره في بدء الخلق في باب صفة إبليس وجنوده وخرجه أبو داود [ (3) ] أيضا.
__________
[ (1) ] (طبقات بن سعد) : 1/ 385، ذكر صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 740، كتاب الأدب، باب (125) ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، 745، باب (128) إذا تثاءب فليضع يده على فيه، حديث (6226) 6/ 416، كتاب بدء الخلق، باب (11) صفة إبليس وجنوده، حديث رقم (3289) .
وأخرجه أيضا الترمذي في (السنن) 5/ 82080 كتاب الأدب، باب (7) ما جاء إن اللَّه يحب العطاس ويكره التثاؤب، باب (8) ما جاء إن العطاس في الصلاة من الشيطان، حديث رقم (2746) ، (2747) ، (2748) .
وأخرجه أيضا ابن ماجة في (السنن) : 1/ 310- 311 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (42) ما يكره في الصلاة، حديث رقم (968) ، (969) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 5/ 268، 219، كتاب الأدب، باب ما جاء في التثاؤب وباب في كم مرة يشمت العاطس، حديث رقم (5026) ، (5027) ، (5028) ، (5037) .(10/319)
وخرج مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع.
وخرج من طريق بشر بن المفضل، قال: أخبرنا سهيل عن أبى صالح، قال: سمعت ابنا لأبى سعيد الخدريّ يحدث أبى عن أبيه وقال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل.
ومن طريق عبد العزيز عن سهل عن عبد الرحمن بن أبى شيبة فذكره أورده في الزهد قال ابن سينا العطاس حركة حاصلة من الدماغ لدفع خلط أو مؤذ آخر باستعانة من الهواء دفعا من طريق الأنف، والفم، والعطاس للدماغ كالسعال للرئة وما يليها. قال: والعطاس أنفع الأشياء لتخفيف الرأس وهو مما يعين على نقض الفضول المحتبسة ويسهل للأولاد وخروج المشيمة وينقل ثقل الرأس انتهى، فلهذا كان العطاس يدل على العطاس وخفه البدن وسعة المنافذ وذلك محبوب إلى اللَّه تعالى فإن المنافذ إذا اتسعت وضاقت على الشيطان وإذا ضاقت بالأخلاط المتولدة عن كثرة الطعام والشراب اتسعت للشيطان فتمكن من الإنسان بتصرفه فيه وذلك لأن الشبع داع إلى الفضول فإن البطن إذا أشبع طغت الجوارح وتصرفت من الحركة والنظر والسماع والكلام، قواطع للعد عن المقصود وحينئذ يكثر التثاؤب لثقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل فلذلك أضافه الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الشيطان
فقال: التثاؤب من الشيطان
لأنه يدعو إلى الشهوات التي يكرها العبد فكره اللَّه التثاؤب لذلك والمراد التحذير من السبب الّذي يتولد منه التثاؤب وهو التوسع في المآكل وإكثار الأكل المستلزم كثرة الشرب المتولد عنها النوم الكثير والكسل المبطئ عن القيام بوظائف العبادة والتثاقل عن أدائها فإذا تقرر ذلك فقد عصم اللَّه رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم عن أن يصدر عنه ما يكرهه اللَّه تعالى من الأقوال والأفعال والأحوال، ولم يجعل للشيطان عليه سبيلا بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال، فلا يكون منه شيء مما ينسب إلى الشيطان ابدا ليظهر اللَّه له في ذلك كله ...
***(10/320)
الرابعة والخمسون: أنه قد أقر ببعثه صلى اللَّه عليه وسلّم جماعة قبل ولادته وبعدها وقبل مبعثه
كورقه بن نوفل وحبيب بن النجار وتبع وغيرهم كما تقدم ذكره فيما سلف [ (1) ]
__________
[ (1) ] أفرد الحافظ ابو نعيم الأصبهاني في الفصل السادس من (دلائل النبوة) . وترجم عليه: توقع الكهان وملوك الأرض بعثته صلى اللَّه عليه وسلّم، ويشمل على (5) أحاديث تضمنت قول سيف بن ذي يزن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: هذا زمنه الّذي يولد فيه، اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وهو في بطن أمه، ويكلفه جده وعمه، وقد وجدناه مرارا- واللَّه باعثه جهادا، وجاعل له منا أنصارا، يعزبهم أولياءه، وبذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، ويخمد النيران، ويكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله ...
قال عبد المطلب: نعم أيها الملك، أنه كان لي ابن وكنت به عجبا، وعليه رقيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومي، أمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة، وفيه كل ما ذكرت من علامة.
قال سيف بن ذي يزن: إن الّذي ذكرت لك كما ذكرت لك، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنّهم له أعداء، ولن يجعل اللَّه لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك، دون هؤلاء الرهط الين معك، فإنّي لست آمن أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون له الرئاسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون أو أنباؤهم، ولولا أنى أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت إليه بخيلي ورجلي، حتى أصير يثرب دار ملكي، فإنّي أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق، أن يثرب استحكام أمى، وموضع قبره، وأهل نصرته، ولوى أنى امه من الآفات، وأحذر عليه العاهات، ولأوطأت أسنان العرب كعبة، ولأعلنت على حدثة من سنه ذكره، ولكنى صارف إليك ذلك من غير تقصير بمن معك.(10/321)
__________
[ () ] ثم أجزل لهم العطاء وقال لعبد المطلب: إذا كان رأس الحول فآتني عجبره، وما يكون من أمره، فهلك ابن ذي يزيد قبل رأس الحول، وكان عبد المطلب يقول: لا يغبطني يا معشر قريش رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر، فإنه إلى تفاد، ولكن ليغبطنى بما يبقى لي شرفه وذكره، ولعقبى من بعدي، وكان إذا قيل له: ما ذاك؟ قال: سيعلن ولو بعد حين.
[يغبى نبوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] . (دلائل أبي نعيم) : 1/ 97- 99، حديث رقم (50) مختصرا.
ومن ذلك قول زيد بن عمرو بن نفيل لعامر بن ربيعة: فأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، من بنى عبد المطلب اسمه أحمد، ولا أرانى أدركه، فأنا يا عامر أو من به، وأصدقه، واشهد أنه بنى، فإن طالت بك المدة فرأيته فأقرئه من السلام، وسأخبرك يا عامر ما نعته، حتى لا تخفى عليك، قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر، ولا بقليله، وليس تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه حتى يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإنّي بلغت البلاد كلها اطلب دين إبراهيم الخليل عليه السلام، وكل من أسال من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره. (المرجع السابق) : حديث رقم (52) مختصرا.
ومن ذلك قول هرقل لدحية الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ويحك، واللَّه إني لأعلم أن صاحبك النبي مرسل، وأنه للذي كنا ننتظره نجده في كتبنا، ولكنى أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لا تبعته. (المرجع السابق) : حديث رقم (53) مختصرا.
ومن ذلك قول قس بن ساعدة الإيادي: إن للَّه دينا هو أحب الأديان إليه من دينكم الّذي أنتم عليه، ما لي ارى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام هناك فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا؟ ثم قال: اقسم قس قسما برا لا إثم فيه، ما للَّه على الأرض وبين هو أحب عليه من دين أظلكم إبانه، وأدر لكم أو أنه، طولى لمن أدركه فاتبعه، وويل لمن أدركه ففارقه.
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يرحم اللَّه قس بن ساعدة، لأرجو أن يأتى يوم القيامة أمة واحدة (المرجع السابق) : حديث رقم (55) مختصرا. (دلائل البيهقي) : 3/ 103.(10/322)
الخامسة والخمسون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم لا ينزل عليه الذباب
قالع العز في السبتي في كتاب (أعذب الموارد وأطيب الموالد) وقال ابن سبع في كتاب (الشفا) أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يقع على ثيابه ذباب قط قال: الإمام أبو الحسن على بن أحمد بن إبراهيم التجيبي الحراني رحمه اللَّه ولذلك لبد صلى اللَّه عليه وسلّم رأسه في الاحدام بالعسل لما كان آمنا من نزول الذباب عليه ويقال: أنه لم يتسخ له ثوب قط ولا يقمل له ثوب قط [ (1) ] .
***
__________
[ () ] وأما مقالة ورقه بن نوفل لخديجة رضى اللَّه عنها: حين جاء الوحي أول مرة للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم فمشهورة، أمسكنا عن ذكرها لاشتهارها خشية الإطالة، وهي مبثوثة في كتب السيرة في أبواب (كيف كان بدء الوحي للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم) .
[ (1) ] (تاريخ الخميس) : 1/ 319.(10/323)
السادسة والخمسون: كان له صلى اللَّه عليه وسلّم إذا نسي الاستثناء أن يستثنى له إذا ذكر وليس لغيره أن يستثنى إلا في صلة اليمين
خرج الطبراني في (معجمه الكبير) من طريق الوليد بن مسلم قال:
حدثنا عبد العزيز بن حسين عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى: [واذكر ربك إذا نسيت] [ (1) ] قال: إذا نسيت الاستثناء فاستثنى، إذا ذكرت الاستثناء وذكر ابن شاهين أن من جمله شعب الإيمان الاستثناء في كل كلام وأورد بسند ضعيف عن أبى هريرة يرفعه لا يتم إيمان المرء حتى يستثنى في كل حديث أو قال: في كل كلامه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الكهف: 24.
[ (2) ] قال صاحب التحرير والتنوير إن المشركين لما سألوا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد، ولم يقل «إن شاء اللَّه» فلم يأته جبريل عليه السلام- بالجواب إلا بعد خمسة عشر يوما. وقيل: بعد ثلاثة أيام كما تقدم، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتابا، رمزيا من اللَّه لرسوله صلى اللَّه عليه وسلّم، كما عاقب سليمان- عليه السلام فيما رواه البخاري: «أن سليمان قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة ولدا يقاتل في سبيل اللَّه، فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شق غلام» . ثم كان هذا عتابا صريحا فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول «إن شاء اللَّه» كما نسي سليمان، فأعلم اللَّه رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يعد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة اللَّه.
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جمله «إني فاعل ذلك غدا» فيكون مستثنى من كلام النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. المنهي عنه، أي إلا قولا مقترنا ب (إن شاء اللَّه) فيكون المصدر المنسبك من (أن) ، والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة. والتقدير: إلا ب (إن شاء اللَّه) . أي بما يدل على ذكر مشيئة اللَّه. لأن ملابسة القول الحقيقية المشيئة محال، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ (إن شاء اللَّه) ونحوه.
فالمراد بالمشيئة إذن اللَّه له.
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، من ثلاث جهات:(10/324)
السابعة والخمسون: أنه كان صلى اللَّه عليه وسلّم لا ينطق عن الهوى
وعدّها ابن الفارض [ (1) ] من خواصه وقد تقدم هذا [ (2) ]
__________
[ () ] الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة اللَّه مع المكابرين.
الثانية: أنه علمه علما عظيما من أدب المبوءة.
فنظم الآية أن اللام في قوله (لشيء) ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن: إني فاعل كذا لأجل شيء تعديه. فاللام بمنزلة (في) . و «غدا» مستعمل في المستقبل مجازا وليست كلمه (غدا) مرادا بها اليوم الّذي بلى يومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال، والأمس بمعنى زمن الماضي. (تفسير التحرير والتنوير) : 15/ 295- 297.
[ (1) ] هو الشرف ابن الفارض أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبى الحسن، على بن المرشد بن على، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض، المنعوت بالشرف.
له ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق ظريف، ينحو منحى طريقة الفقراء، وله قصيده مقدار ستمائة بيت على اصطلاحهم ومنحهم.
قال ابن خلكان: وسمعت أنه كان رجلا صالحا كثير الخير، على قدم التجرد، جاور بمكة، زادها اللَّه تعالى شرفا زمانا، وكان حسن الصحبة، محمود العشرة، أخبرنى عنه بعض أصحابه أنه ترنم يوما وهو في بيت الحريري، صاحب (المقامات) .
وكانت ولادته في الرابع من ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة، وتوفى بها يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه اللَّه تعالى والفارض: بفتح الفاء وبعد الألف راء وبعدها ضاد معجمة، وهو الّذي يكتب الفروض للنساء على الرجال. له ترجمه في (وفيات الأعيان) : 3/ 45- 456، ترجمة رقم (500) ، (ميزان الاعتدال) : 2/ 266، ترجمة رقم (6110) ، (سير أعلام النبلاء) : 22/ 368- 369، ترجمة (232) ، (لسان الميزان) : 4/ 364- 366، (شذرات الذهب) : 5/ 149- 153.(10/325)
الثامنة والخمسون: النهى عن طعام الفجأة إلا له صلى اللَّه عليه وسلّم خصوصية
قال أبو العباس بن القاص: ونهى الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم عن طعام الفجاءة وقد فاجأه ابو الدرداء على طعامه فأمره بأكله وكان ذلك خاصا له صلى اللَّه عليه وسلّم قال البيهقي: لا أحفظ النهى عن طعام للفجاءة من وجه يثبت ثم أورد حديث ابى داود [ (1) ] من رواية درست بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر مرفوعا من دعي فلم يجب فقد عصى اللَّه ورسوله ومن دخل على غير دعوة فقد دخل سارقا وخرج مغيرا وعد القضاعي أيضا هذه من الخصائص.
__________
[ () ] (2) الهوى: ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله، دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم، ولذلك يختلف الناس في الهوى، ولا يختلفون في الحق، وقد يحب المرء الحق والصواب، فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل.
ونفى النطق عن الهوى، يقتضي نفى جنس ما ينطق به، عن الاتصاف بالصدور عن هوى، سواء كان القرآن أو غيره من الإرشاد النبوي، بالتعليم، والخطابة، والموعظة، والحكمة، ولكنه القرآن هو المقصود، لأنه سبب هذا الرد عليهم.
واعلم أن تنزيهه صلى اللَّه عليه وسلّم عن النطق عن هوى، يقتضي التنزيه على أن يفعل أو يحكم عن هوى، لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة، ولذلك ورد في صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
أنه يمزح ولا يقول إلا حقا.
وإن كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ينطق بغير القرآن عن وحي، كما في حديث الحديبيّة، في جوابه الّذي سأله: ما يفعل المعتمر؟
وكقوله: إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها،
ومثل جميع الأحاديث القدسية التي فيها: قال اللَّه تعالى، ونحوه.
فهذه الآية بمعزل عن إيرادها في الاحتجاج لجواز الاجتهاد للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنها كان نزولها في أول أمر الإسلام، وإن كان الأصح أن يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم الاجتهاد، وأنه وقع منه، وهي من مسائل أصول الفقه. (تفسير التحرير والتنوير) : 27/ 93- 94.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 125، كتاب الأطعمة، باب (1) ما جاء في إجابة الدعوة، حديث رقم (3741) .(10/326)
التاسعة والخمسون: عصمته صلى اللَّه عليه وسلّم من الناس
عدها القضاعي من الخصائص وقد تقدم الكلام عليها [ (1) ] .
__________
[ () ] درست بن زياد ضعيف من الثامنة، وقوله: «فقد عصى اللَّه ورسوله» احتج بهذا من قال بوجوب الإجابة إلى الدعوة، لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب.
وقال في (المرقاة) : والحاصل أنه صلى اللَّه عليه وسلّم علم أمته مكارم الأخلاق البهية، ونهاهم عن الشمائل الدنية، فإن عدم إجابة الدعوة من غير حصول المعذرة يدل على تكبر النفس، والرعونة، وعدم الألفة والمحبة، والدخول من غير دعوة يشير إلى حرص النفس ودناءة الهمة، وحصول المهانة والمذلة، فالخلق الحسن هو الاعتدال بين الخلقين المذمومين.
قال المنذري: في إسناده أبان بن طارق البصري، سئل عنه أبو زرعة الرازيّ، فقال:
شيخ مجهول، وقال أبو أحمد بن عدي: وأبان بن طارق لا يعرف إلا بهذا الحديث، وهذا الحديث معروف به، وليس له أنكر من هذا الحديث، وفي إسناده أيضا درست بن زياد ولا يحتج بحديثه، ويقال: هو درست بن حمزة، وقيل: بل هما أثنان ضعيفان. (عون المعبود) :
5/ 147- 148.
[ (1) ] قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه، والناس» في الآية مراد به الكفار من اليهود والمنافقين والمشركين، لأن العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه، وإنما يخاف عليه أعداءه لا أحباءه، وليس في المؤمنين عدو لرسوله، فالمراد العصمة من اغتيال المشركين، لأن ذلك هو الّذي كان يهم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، إذا لو حصل ذلك لتعطل الهدى الّذي كان يحبه النبي للناس، إذ كان حريصا على هدايتهم، ولذلك
كان رسول اللَّه، لما عرض نفسه على القبائل في أول بعثته، يقول لهم «أن تمنعوني حتى أبين عن اللَّه ما بعثني به- أو- حتى أبلغ رسالات ربى» .
فأما ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك مما نال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليكون ممن أذى في اللَّه: فقد رماه المشركون بالحجارة حتى أدموه وقد شج وجهه، وهذه العصمة التي وعد بها رسول اللَّه قد تكرر وعده بها في القرآن كقوله فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وفي غير القرآن. فقد جاء في بعض الآثار أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أخبر وهو بمكة أن اللَّه عصمه من المشركين.(10/327)
الستون: عصمته صلى اللَّه عليه وسلّم من الأعلال السيئة
وقد عدها القضاعي في الخصائص ويؤيده ما
رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: دخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يصدع، وأنا اشتكى رأسي، فقلت:
وا رأساه فقال: بل أنا واللَّه يا عائشة وا رأساه.
ثم قال: وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك، وصليت عليك وواريتك فقلت واللَّه إني لأحسب لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي في آخر النهار، فأعرست بها، فضحك. ثم تمادى برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وجعه فاستقر برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله، فقال العباس: إنا لنرى برسول اللَّه ذات الجنب، فهلموا فلنلده فلدوه، وأفاق وقال:
من فعل هذا، فقالوا: عمك العباس تخوف أن يكون بك ذات لجنب، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إنها من الشيطان، وما كان اللَّه ليسلطه على، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه الا عمى العباس،
فلد أهل البيت كلهم، حتى ميمونة، وإنها لصائمه يومئذ، وكذلك بعين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الحديث [ثم استأذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نساءه، يمرض في بيتي فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى بيتي، وهو بين العباس وبين رجل آخر- لم تسميه- تخط قدماه بالأرض إلى بيت عائشة. قال عبيد اللَّه: فحدثت هذا الحديث ابن عباس فقال: تدري من الرجل الآخر الّذي مع العباس ما لم تسميه عائشة؟ قلت: لا قال: هو على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة) : 7/ 169- 170، باب ما جاء في إشارته إلى عائشة رضى اللَّه عنها في ابتداء مرضه بما يشبه النعي.(10/328)
وفي رواية ذلك داء ما كان اللَّه ليعذبني به
وفي رواية للطبراني: إني أكرم على اللَّه من أن يعذبني بها.
وفي رواية أخرى وهي من الشيطان وما كان اللَّه ليسلطها عليّ،
وفي رواية ما كان اللَّه ليميتنى بسيء الأسقام أو قال: الأمراض
وقد كان صلى اللَّه عليه وسلّم يقول في دعائه اللَّهمّ إني أعوذ بك من الجنون والجذام وسيئ الأسقام.
خرجه النسائي [ (1) ] من حديث همام، عن قتادة عن أنس، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: اللَّهمّ إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيئ الأسقام.
__________
[ () ] وبسياقه أخرى في (فتح الباري) : 10/ 152، كتاب المرضى باب (16) ما رخص للمريض أن يقول وا رأساه، حديث رقم (5666) وذكر أيضا في كتاب الطب، باب (21) اللدود، ولفظه من حديث عائشة: لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدونى، فقلنا:
كراهية المريض للدواء، فلما افاق، قال: ألم أنهكم أن تلدونى؟ قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا انظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم.
و10/ 204، حديث رقم (5712) ، 12/ 264، كتاب الديات، باب (14) القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات، حديث رقم (6886) ، 280، باب (21) إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم؟، حديث رقم (6897) ، 13/ 254، كتاب الأحكام، باب (51 الاستخلاف، حديث رقم (7217) . (مسلم بشرح النووي) :
14/ 450، كتاب السلام، باب (27) كراهة التداوي باللدود، حديث رقم (2213) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 79، من حديث السيدة عائشة حديث رقم (23742) .
وأخرجه الترمذي في (السنن: 4/ 340، كتاب الطب، باب (9) ما جاء في السعوط وغيره، حديث (2047) ولفظه: إن خير ما تداويتم به اللدود والسعوط والحجامة وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث من طريق عباد بن منصور، وهذا دليل على أن ليس كل ما روى الضعيف، فهذا حديث صحيح والحديث له روايات صحيحة.
[ (1) ] (سنن النسائي) : 8/ 664، كتاب الاستعاذة: باب (36) الاستعاذة من الجنون، حديث رقم (5508) . (5495) .(10/329)
وخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث حماد، عن قتادة، عن أنس بهذا، وخرجه أبو بكر بن أبى شيبة [ (2) ] عن حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس ان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: بنحوه وقال: ومن سوء الأسقام.
الحادية والستون: أن الملائكة قاتلت معه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر ولم تقاتل مع أحد من قبله
كما تقدم ذكره وعد القضاعي ذلك من الخصائص [ (3) ] .
الثانية والستون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم لا يشهد على جور
وعد ذلك القضاعي من خصائصه ووجه كون هذا من الخصائص أن لا يشهد على جور، ظاهرا ولا باطنا ومن عداه قد شهد على الجور وفي طبقاته ليس يجوز لقصوره عن إدراك ما بطن عنه في ذلك [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 2/ 194- 195، كتاب الصلاة، باب (367) في الاستعاذة، حديث رقم (1554) .
[ (2) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 6/ 18، كتاب الدعاء، حديث رقم (29210) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 44، من حديث أنس بن مالك حديث رقم (12592) .
[ (3) ] سبق تخريجه في أحداث غزوة بدر وغيرها.
[ (4) ] (فتح الباري) : 5/ 264- 266، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (13) الإشهاد في الهبة، حديث رقم (2587) ، وقال الحافظ في (الفتح) : ولمسلم في رواية عروة وحديث البراء معا، ووقع في رواية أبى حريز بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم عند ابن حبان والطبراني عن الشعبي «أن النعمان خطب بالكوفة فقال: إن والد بشير بن سعد أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام، وإني سميته النعمان، وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي وأنها قالت: أشهد على ذلك رسول اللَّه، وفيه
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: (لا أشهد على جور) .(10/330)
الثالثة والستون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم يرى في الثريا أحد عشر نجما [ (1) ]
كما ذكره القاضي عياض [ (2) ] في كتاب الشفاء وذكر السهيليّ لا تزيد على تسعة أنجم فيما يذكرون] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض: وقد حكى عنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجما، وهذه كلها محمولة على رؤية العين، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره، وذهب بعضهم إلى ردها إلى العلم والظواهر تخالفه ولا إحالة في ذلك، وهي من خواص الأنبياء وخصالهم، كما
أخبرنا أبو محمد عبد اللَّه بن أحمد العدال من كتابه، حدثنا أبو الحسن المقرئ الفرغاني، حدثتنا أم القاسم بنت أبى بكر، عن أبيها، حدثنا الشريف أبو الحسن على بن محمد الحسنى، حدثنا محمد بن محمد بن سعيد، حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا همام، حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: لما تجلى اللَّه عز وجل لموسى عليه السلام، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ،
ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم بما ذكرناه من هذا الباب.
[ (2) ] هو الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبى الأندلسى، ثم السبتي المالكي- ولد سنة ست وسبعين وأربع مائه، تحول جدهم من الأندلسى، ثم السبتي المالكي- ولد سنة ست وسبعين وأربع مائه، تحول جدهم من الأندلس إلى فاس، ثم سكن سبتة. رحل إلى الأندلس سنة بضع وخمس مائة، وروى عن القاضي أبى على بن سكرة الصدفي، ولازمه، وعن أبى بحر بن العاص، وعدة. وتفقه بأبي عبد اللَّه محمد بن عيسى التميمي، والقاضي محمد بن عبد اللَّه المسيلي، واستبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق. قال خلف بن بشكوال: هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم. قال القاضي شمس الدين في (وفيات الأعيان) : هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، وكل تواليفه بديعة، وله شعر حسن.
قلت: تواليفه لنفيسة، وأجلها وأشرفها كتاب (الشفا) لولا ما قد حشاه بالأحاديث المفتعلة، عمل إمام لا نقد له في فن الحديث ولا ذوق، واللَّه يثيبه على حسن قصده، وينفع ب (شفائه) ، وقد فعل.(10/331)
الرابعة والستون: بياض إبطه صلى اللَّه عليه وسلّم من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم بخلاف غيره فإنه أسود لأجل الشعر [ (1) ]
ذكره أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة فقال: بياض إبطه صلى اللَّه عليه وسلّم من علامات نبوته وقد جاء في أحاديث عديدة ذكر بياضه منها: كان إذا سجد جافى بين أعضائه حتى يرى من خلفه عقرة إبطيه، العقرة: البياض ليس بالناصع واللَّه أعلم.
***
__________
[ () ] وقد حدث عن القاضي خلق من العلماء، منهم الإمام عبد اللَّه بن محمد الأشيري، وأبو جعفر بن القصير الغرتاطى، والحافظ خلف بن بشكوال.
توفى في سنة أربع وأربعين وخمس مائه بمراكش، ومات ابنه في سنة خمس وسبعين وخمس مائه. وفيها مات شاعر زمانه القاضي أبو بكر أحمد بن محمد بن حسين الأرجاني قاضى تستر، والعلامة المصنف أبو جعفر أحمد بن على بن أبى جعفر البيهقي، والمسند بهراة أبو المحاسن أسعد بن على بن المرفق، ومحدث حلب أبو الحسن على بن سليمان المرادي القرطبي.
[ (3) ] في الأصل: «وذكر السهيليّ أنه صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته أنها لا تزيد على ستة أنجم فيما يذكرون وما أثبتناه أليق بالصواب.
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 656- 657، كتاب الاستسقاء، باب (21) ، (22) رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، حديث رقم (1030) ، (1031) .
(مسلم بشرح النووي) : 4/ 457- 458، كتاب الصلاة، باب (46) ما يجمع صفة الصلاة، حديث رقم (235) ، (236) .
(المسند) : 1/ 565، حديث رقم (3187) ، 584، حديث رقم (3318) .
(كنز العمال) : 8/ 130، السجود وما يتعلق به حديث رقم (22239) .(10/332)
الخامسة والستون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم لا يحب الطيب في الإحرام لأن الطيب من أسباب الجماع
ادعى المهلب بن أبى صفره المالكي أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان لا يتجنب الطيب في الإحرام ونهانا عنه لضعفنا عن ملك الشهوات، إذا الطيب من أسباب الجماع فيكون ذلك من الخصائص وقد خولف المهلب في هذه الدعوى [ (1) ]
__________
[ (1) ] أخرج البخاري في الحج، باب (18) الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم، ويترحل ويدهن، حديث رقم (1539) ، عن عائشة رضى اللَّه عنها زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قالت: «كنت أطيب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل قبل أن يطوف بالبيت» .
قال الحافظ في (الفتح) : وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم قاله المهليب، وأبو الحسن القصار، وأبو الفرج من المالكية، قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح، فنهى الناس عنه، وكان هو أملك الناس لإربه ففعله، ورجمه ابن العربيّ بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقد ثبت عنه أنه قال «حبب إلى النساء والطيب» . أخرجه النسائي من حديث أنس، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. وقال المهلب: إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي، وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية وكيف بها، ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم.
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة قالت: «طيبت أبى بالمسك لإحرامه حين أحرم «ويبقو لها» طيبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بيدي هاتين أخرجه الشيخان من طريق عمر بن عبد اللَّه بن عروة، عن جدة، عنها، وسيأتي من طريق سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ «وأشارت بيديها» واعتذر بعض المالكية بأن عمل أهل المدينة على خلافه، وتعقب بما رواه النسائي، من طريق أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل العلم- منهم القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم، وعبد اللَّه ابنا عبد اللَّه بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث.
فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة، فكلهم امر به- فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين، قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى مع ذلك العمل على خلافه. (فتح الباري) : 3/ 509- 510.(10/333)
السادسة والستون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم يسأل اللَّه تعالى في كل وقت بخلاف الأنبياء جميعا حيث لا يسألون اللَّه تعالى إلا أن يؤذن لهم
نقل القضاعي في تفسيره في قوله تعالى فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها عن بعضهم أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان أخبر جبريل عليه السلام بما يجب من ذلك فأمره عن اللَّه تعالى أن يدعو اللَّه تعالى ويسأله فيه ففعل لأن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون اللَّه تعالى شيئا إلا من بعد أن يأذن لهم وفي هذا نظر [ (1) ] .
السابعة والستون: لم يكن القمل يؤذيه صلى اللَّه عليه وسلّم تعظيما له وتكريما
قاله: ابن سبع في كتاب (شفاء الصدر) [ (2) ] .
الثامنة والستون: لم تهرم له دابة مما كان يركب صلى اللَّه عليه وسلّم
كل دابة يركب عليها صلى اللَّه عليه وسلّم بقيت على القدر الّذي كان يركب عليها فلم يهرم له مركب.
ذكره ابن سبع وقال: غريب ويعترض عليه بأن بغلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذهبت أسنانها من الهرم وعميت كما سيأتي ذكره.
***
__________
[ (1) ] لم أجد ما يؤيد هذا الرأى.
[ (2) ] (تاريخ الخميس) : 1/ 319.(10/334)
التاسعة والستون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس [كان] أعلى من جميع الناس وإذا مشى بين الناس [كان] إلى الطول
ولم يكن أحد من الناس يماشيه إلا طاله. وذكره ابن سبع وقال: إنه حديث مشهور [ (1) ] ولم يكن أحد من الناس يماشيه إلا طاله، ذكره ابن سبع وقال: إنه حديث مشهور.
***
__________
[ (1) ] قال الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) : ولم يكن صلى اللَّه عليه وسلّم بالقصير المتردد، فكان ينسب إلى الربعة ينسب إلى الطول ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطويلين فيطولهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الربعة. (دلائل أبى نعيم) : 2/ 637 حديث رقم (566) .(10/335)
السبعون: لم يكفّر صلى اللَّه عليه وسلّم لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلا أن يكون تعليما للمؤمنين كما في عتقه صلى اللَّه عليه وسلّم رقبة في تحريم مارية عليها السلام
قال الزمخشريّ [ (1) ] : في سورة التحريم في قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ
__________
[ (1) ] (الكشاف) : 4/ 113، القول في سورة التحريم، قال الإمام أحمد: ما أطلقه الزمخشريّ في حق النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تقول وافتراء والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم منه براء، وذلك أن تحريم ما أحله اللَّه على وجهين اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه فهذا بمثابة اعتقاد حكم التحليل فيما حرمه اللَّه عز وجل، وكلاهما محظور لا يصدر من المتسمين بسمة الإيمان وإن صدر سلب المؤمن حكم الإيمان واسمه الثاني الامتناع مما أحله عز وجل، وحمل التحريم بمجرده صحيح لقوله وحرمنا عليه المراضع من قبل أي منعنا لا غير، وقد يكون مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف حلال محض. ولو كان على المنع ترك المباح والامتناع منه غير مباح، استحالت حقيقة الحال. بلا إشكال، فإذا علمت بدون ما بين القسمين، فعلى القسم الثاني تحمل الآية والتفسير الصحيح يعضده، فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حلف باللَّه لا أقرب مارية.
ولما نزلت الآية كفّر عن يمينه، ويدل عليه قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ، وقال مالك في المدونة: عن زيد بن أسلم إنما كفر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في تحريمه أم ولده لأنه حلف أن لا يقر بها ومثله عن الشعبي، وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قبل له لم تحرم ما أحل اللَّه لك، رفقا به وشفقة عليه وتنويها لقدره ولمنصبه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يراعى مرضات أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف اللَّه تعالى بنبيه ورفعه عن أن يخرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه، ومن أجله خلقوا ليظهر اللَّه كمال نبوته بظهور نقصانهم عنه.(10/336)
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [ (1) ] فإن قلت: هل كفّر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لذلك قلت: عن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين، وعن مقاتل إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أعتق رقبة في تحريم ما ربه. واللَّه أعلم.
__________
[ () ] والزمخشريّ قطعا لم يحمل التحريم على هذا الوجه لأنه جعله زلة فيلزمه أن يحمله على المحمل الأول. ومعاذ اللَّه وحاش للَّه وأن آحاد المؤمنين حاشى أن يعتقد تحريم ما أحل اللَّه له فكيف لا يربأ بمنصب النبي عليه السلام عما يرتفع عنه منصب عامة الأمة، وما هذه من الزمخشريّ إلا جراءة على اللَّه ورسوله، وإطلاق القول من غير تحرير وإبراز الرأى الفاسد بلا تخيير، نعوذ باللَّه من ذلك، وهو المسئول أن يجعل وسيلتنا إليه تعظيما لنبينا صلوات اللَّه عليه وأن يجنبنا خطوات الشيطان، ويقبلنا من عثرات اللسان. (تفسير القرآن العظيم) :
4/ 412، وهذا خلاف لما ذكره الحافظ ابن كثير من حديث زيد بن أسلم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، فقالت: أي رسول اللَّه في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حراما، قالت: أي رسول اللَّه كيف يحرم عليك الحلال؟ فحلف لها باللَّه لا يصيبها، فأنزل اللَّه تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ قال زيد بن أسلم فقوله أنت على حرام لغو، وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد عن أبيه، وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال: قال لها «أنت على حرام واللَّه لا أطؤك» وقال القسطلاني في (المواهب اللدنية) : 2/ 654- 655، ومنها أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال اللَّه تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [سورة الفتح:
الآية 2] قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه أخبره اللَّه تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبره اللَّه تعالى بالمغفرة، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، ويدل له قولهم في الموقف: نفسي نفسي.
وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية فقال: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب البتة، ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتياب أنه لم يقع منه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكيف يتخيل خلاف ذلك وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. [سورة النجم: الآية 4- 5] .
[ (1) ] سورة التحريم: 2.(10/337)
الحادية والسبعون: إنه أسرى به صلى اللَّه عليه وسلّم إلى سدرة المنتهى ثم رجع إلى منزله في ليلة واحدة وهذه من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ]
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) : 1/ 273- 275، وقت الإسراء كان في شهر ربيع الأول، أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعيني رأسه، وأوحى اللَّه إليه ما أوحى، وقرض عليه الصلوات الخمس، ثم انصرف في ليلته إلى مكة، فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن باللَّه. وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله اللَّه له، فجعل ينظر إليه ويصفه. قال الزهري: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضي عياض، ورجحه القرطبي والنووي. واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. وتعقب: بأن موت خديجة بعد البعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة.
ويؤيده إطلاق حديث عائشة، أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما التردد في سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، قاله الحافظ ابن حجر.
وقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن حزم، وادعى فيه الإجماع. وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال.
وقيل: كان في رجب- حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة وبه جزم النووي في (الروضة) .
وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون في ذي الحجة، وبه جزم ابن فارس.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكره ابن الأثير، وقال الحربي: إنه كان في سابع عشر من ربيع الآخر، كذا قال النووي في (فتاويه) ، لكن قال في شرح مسلم: في ربيع الأول.
وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغنى بن سرور المقدسي.(10/338)
اللَّهمّ الا أن يكون في
قوله في الحديث حيث يقول: جبريل عليه السلام للبراق حين جمح لما أراد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يركبه: اسكن فو اللَّه ما ركبك خير منه وكذا في قوله: في الحديث فربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء
ما يدل على انه قد كان يسرى بهم إلا أنا نعلم أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يشاركه أحد منهم في المبالغة في التقريب والدنو منه والتعظيم ولهذا كانت منزلته في الجنة أعلاها منزلة وأقربها إلى العرش كما جاء في الحديث ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللَّه وأرجو أن أكون أنا. فصلى اللَّه عليه وسلم وقد تقدمت أحاديث الإسراء.
***
__________
[ () ] وأما اليوم الّذي يسفر عن ليلة الإسراء، فقيل الجمعة، وقيل السبت، وعن ابن دحية: يكون إن شاء اللَّه يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات:
وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة.
وقد سبق تخريج أحاديث الإسراء والمعراج في موضعها من (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا.(10/339)
الثانية والسبعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم صاحب اللواء الأعظم يوم القيامة
وقد تقدم ذكر ذلك [ (1) ] .
__________
[ (1) ] راجع (إمتاع الأسماع) : 3/ 224 بتحقيقنا، باب: وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرج الترمذي في (السنن) : 5/ 546، كتاب المناقب، باب (1) في فضل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3610) ، ولفظه: حدثنا الحسن بن يزيد الكوفي. حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن الربيع بن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر.
وقال في (تحفة الأحوذي) : 8/ 465، (لواء الحمد)
اللواء بالكسر وبالمد: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، قاله الجزري في النهاية.
قال الطيبي: لواء الحمد عبارة عن الشهرة وانفراده بالحمد على رءوس الخلائق، ويحتمل أن يكون لحمده لواء يوم القيامة حقيقة، يسمى لواء الحمد. وقال الثوربشنى: لا مقام من مقامات عباد اللَّه الصالحين ارفع وأعلى من مقام الحمد، ودونه تنتهي سائر المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين، أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة أعطاه لواء الحمد ليأوى إلى لوائه الأولون والآخرون، وإليه الإشارة
بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: آدم ومن دونه تحت لوائى.
قال المباركفوري: حمل لواء الحمد على معناه الحقيقي هو الظاهر بل هو المتعين، لأنه لا يصير إلى المجاز مع إمكان الحقيقة.
«وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» .
قال الطيبي: نبي نكرة وقعت في سياق النفي، وأدخل عليه من الاستغراقية، فيفيد استغراق الجنس، وقوله: آدم فمن: إما بيان أو بدل من محله، ومن فيه موصولة وسواه صلته، وصح لأنه ظرف، وأثر الفاء التفصيلية في فمن سواه على الواو للترتيب.(10/340)
الثالثة والسبعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم يبعث هو وأمته على نشز من الأرض دون سائر الأمم
وقد تقدم ذكر ذلك عند ذكر الشفاعة.
الرابعة والسبعون: أن اللَّه تعالى يأذن له صلى اللَّه عليه وسلّم ولأمته في السجود في المحشر دون سائر الأمم
كما رواه ابن ماجة عن جبارة بن المغلس الحماقى، ثنا عبد الأعلى بن أبى المساور، عن أبى بردة، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إذا جمع اللَّه الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد في السجود فيسجدون له طويلا، ثم يقال:
ارفعوا رءوسكم فقد جعلنا عدوكم فداءكم من النار.
وجبارة ضعيف وقد صح من غير وجه أنهم أول الأمم يقضى بينهم يوم القيامة وتقدم سجوده صلى اللَّه عليه وسلّم في أحاديث الساعة [ (1) ] .
الخامسة والسبعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم صاحب الحوض المورود
وتقدمت الأحاديث في ذلك، فقد روى الترمذي وغيره أن لكل نبي حوضا ولكن نعلم أن حوضه صلى اللَّه عليه وسلّم أعظم الحياض وأكثرها واردا كما تقدم.
__________
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) : 2/ 1434، كتاب الزهد، باب (34) صفة أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4291) ، وقال في (الزوائد) : روى مسلم بمعناه وأتم سوق الحديث عن أبى بردة عن أبيه بإسناد أصح من هذا، ومع ذلك فقد أعله البخاري، قوله: «قد جعلنا عدتكم، ليس المراد أنهم يدخلون بمجرد أنهم فداء هذه الأمة، بل إنهم يدخلون لاستحقاقهم لذلك، ويكتفى بدخولهم عن دخول هذه الأمة، فصاروا فداء.(10/341)
السادسة والسبعون: البلد الّذي ولد فيه صلى اللَّه عليه وسلّم أشرف بقاع الأرض ثم مهاجره وقيل: إن مهاجره أفضل البقاع
كما هو مأثور عن الإمام مالك وجمهور أصحابه ونقله القاضي، عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ونقل الاتفاق على أن قبره صلى اللَّه عليه وسلّم الّذي ضم جسده المقدس بعد موته أشرف بقاع الأرض وقد سبقه إلى حكاية هذا الإجماع القاضي أبو الوليد الباجي وابن بطال.
وأصل ذلك ما روى أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لما مات اختلفوا في موضع دفنه فقيل:
بالبقيع وقيل: بمكة وقيل: ببيت المقدس فقال: أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: إن اللَّه لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه ذكره. عبد الصمد بن عساكر في كتابه (تحفة الزائر) بغير إسناد.
وقال غيره: لما كان صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل الرسل، وكتابه أفضل الكتب، ودينه أشرف الأديان، وشريعته أشرف الشرائع، وهو أفضل الخلق، فوضع قبره له في أشرف المواضع.
ويشهد له ما
رواه الحاكم عن أبى سعيد الخدريّ قال: مر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بجنازة عند قبر فقال: قبر من هذا فقالوا: فلان الحبشىّ فقال: لا إله إلا اللَّه! سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها.
ومسألة المفاضلة بين مكة والمدينة كثر المقال وطال النزاع فيها، فاستدل من قال بتفضيل مكة على المدينة بأن اللَّه تعالى حبس الفيل عن مكة وأهلها وأهلك جيش راكبه لما قصد غزو مكة كما تقدم ذكره وقال تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
قيل: آمنا من النار وقيل: كان يأمن من الطلب من أحدث حدثا ولجأ إليه في الجاهلية، وهذا مثل قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً على قول بعضهم، وقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً(10/342)
وقال: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وقال ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وقال وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ثم جعل اللَّه تعالى الكعبة لتمام الصلاة والحج والعمرة في القبلة التي لا تقبل صلاة إلا بالقصد نحوها، إليها الحج والعمرة المفروضات، وإنما فرضت الهجرة إلى المدينة قبل فتح مكة، فلما فتحت مكة بطلت الهجرة، وهذه فضيلة لمكة ثم للمدينة وقد أمر صلى اللَّه عليه وسلّم أن لا يسفك بمكة دم وأخبر أن اللَّه تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرمها الناس، ونهى عن أن يستقبلها أحد أو يستدبرها ببول أو غائط.
وخرج البخاري من حديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في حجة الوداع: ألا أي شهر تعلمون أعظم حرمة قالوا: شهرنا هذا. قال: أي بلد تعلمون أعظم حرمة قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: فإن اللَّه حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا من شهركم هذا، ألا قد بلغت ثلاثة كل ذلك يجيبونه: ألا نعم.
وخرجه أبو بكر بن أبى شيبة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه من طريق أبى معاوية عن الأعمش عن أبى صالح السمان عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: في حجته أتدرون أي يوم أعظم حرمة فقلنا: يومنا هذا، قال: في أي بلد أعظم حرمة فقلنا: بلدنا هذا،
ثم ذكر مثل حديث ابن عمر.
قال الحافظ الفقيه أبو محمد على بن حزم: وقد ذكر هذه الأدلة: وهذا جابر وابن عمر يشهدان أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قرر الناس على أي بلد أعظم حرمة فأجابوه بأنه مكة فصدقهم في ذلك وهذا إجماع من جميع الصحابة في إجابتهم له صلى اللَّه عليه وسلّم بأنه بلدهم ذلك وهم بمكة فمن خالف هذا فقد خالف الإجماع، فصح بالنص والإجماع أن مكة أعظم حرمة من المدينة وإذا كانت أعظم حرمة فهي أفضل بلا شك لأن عظم الحرمة لا يكون إلا للأفضل [ولا بد ولا يكون للأقل] .(10/343)
وخرج من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمر عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان بالحجون فقال: واللَّه إنك لخير أرض اللَّه، وأحب أرض اللَّه إلى، ولو لم أخرج منك ما خرجت، لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي.
وذكر باقي الحديث من طريق سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد العزيز ابن محمد الدراوَرْديّ عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وقف على الحجون فقال: إنك خير أرض اللَّه وأحب أرض اللَّه إلى اللَّه ولو تركت فيك ما خرجت منك
وذكر باقي الحديث.
ومن طريق النسائي من حديث معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في سوق الحزورة واللَّه إنك لخير أرض اللَّه وأحب البلاد إلى اللَّه ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت.
وقال قتيبة: حدثنا الليث عن عقيل بن خالد وقال إسحاق حدثنا: يعقوب هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبى عن صالح بن كيسان ثم اتفق عقيل وصالح كلاهما عن الزهري قال: أخبرنى أبو سلمة أن عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول: واللَّه إنك لخير أرض اللَّه وأحب أرض اللَّه إلى اللَّه ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت.
قال البكري وجماعة المحدثين: يقولون: الحزورة بفتح الزاى وتشديد الراء وإنما هو حزورة بالتخفيف لا يجوز غيره قال الغنوي: يوم ابن جدعان يوم الحزورة.
لم يختلف عقيل مع صالح في شيء من لفظه إلا أن عقيل قال: عن الزبيري عن أبى سلمة عن عبد اللَّه بن عدي أن ابن الحمراء، وعبد اللَّه هذا مشهور من الصحابة زبيري النسب.(10/344)
ومن طريق أبى ذر الهروي من حديث أبى اليمان الحكم بن نافع أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرنى أبو سلمة أن عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: وهو ما واقف بالحزورة من سوق مكة: واللَّه إنك لخير ارض اللَّه وأحب أرض اللَّه إلى اللَّه ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت قال: فارتفع الإشكال جملة وللَّه الحمد.
وهذا خبر في غاية الصحة رواه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أبو هريرة وعبد اللَّه بن عدي ورواه عنهما أبو سلمة بن عبد الرحمن وعن أبى سلمة محمد ابن عمرو بن علقمة وعن محمد بن عمر وحماد بن سلمة والدراوَرْديّ ورواه عن الزهري أصحابه الثقات معمر وشعيب بن أبى حمزة وعقيل وصالح بن كيسان ورواه أيضا عنه يونس بن يزيد وعبد الرحمن بن خالد ورواه عن هؤلاء الجم الغفير،
ولا مقال لأحد بعد هذا.
وخرج من طريق قاسم بن أصبغ من حديث أحمد بن زهير وأبى بحر ابن أبى ميسرة قالوا جميعا: حدثنا سلمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حبيب المعلم قال حدثنا: عطاء بن أبى رباح عن عبد اللَّه بن الزبير رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وإلا صلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجده هذا بمائة صلاة
قال: أحد بن زهير سالت يحيى بن معين قال: ثقة وقال أحمد بن حنبل حبيب المعلم: ما أصح حديثه هذا لفظ أحمد ابن زهير.
قال بن أبى ميسرة في روايته صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائه صلاة في مسجدي قال: ورويناه أيضا من طريق محمد بن عبيد عن حماد بن زيد باسناده ولفظه، ورويناه أيضا من طريق أبى معاوية عن موسى الجهنيّ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] يراجع في ذلك (إعلام الساجد في أحكام المساجد) لبدر الدين الزركشي.(10/345)
خرج مالك في (الموطإ) عن زيد بن رباح وعبد اللَّه بن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد حرام.
قال ابن عبد البر: وقد روى عن أبى هريرة من طرق ثابتة صحاح متواترة.
وقال أبو محمد بن حزم: فروى القدح بفضل مكة على المدينة كما أوردوا عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم جابر وأبو هريرة وابن عمرو بن الوبير، وعبد اللَّه بن عدي خمسة من الصحابة منهم ثلاثة مدنيون بأسانيد في غاية الصحة ورواها عن هؤلاء أبو صالح السمان ومحمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعطاء بن أبى رباح منهم ثلاثة مدنيون ورواه عن هؤلاء عاصم بن محمد والأعمش ومحمد بن عمرو بن علقمة والزهري وحبيب المعلم منهم ثلاثة مدنيون ورواه عن هؤلاء واقد بن محمد وأبو معاوية محمد بن حازم وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ ومعمر وشعيب ابن أبى حمزة وعقيل بن خالد وصالح بن كيسان وعبد الرحمن بن خالد ويونس ابن يزيد منهم ثلاثة مدنيون ورواه عن هؤلاء من لا يحصى كثرة وقد ذكرنا أنه قول جميع الصحابة وقول عمر بن الخطاب مرويا عنه.
وروينا من طريق يحى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن أسلم المنقري قلت: لعطاء: آتى مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأصلى فيه؟ قال: فقال عطاء:
طواف واحد أحب إلى من سفرك إلى المدينة وهو قول أبى حنيفة وسفيان وأحمد وداود والشافعيّ وغيرهم.
وقال ابن عبد البر: وذكر أبو يحى الساجي قال: اختلف العلماء في تفضيل مكة على المدينة فقال الشافعيّ: مكة خير البقاع كلها وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين.
وقال مالك: والمدنيون المدينة أفضل من مكة واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك، فطائفة تقول مكة أفضل وطائفة تقول: المدينة أفضل(10/346)
وقال عامة أهل الأثر: أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمائة صلاة.
وقال القاضي عياض: إن تفضيل المدينة على مكة هو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة وهو قول عطاء وابن وهب وابن حيت من أصحاب مالك وحكاه الباجي عن الشافعيّ قال القاضي: ولا خلاف أن موضع قبره صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل بقاع الأرض.
قال أبو الوليد الباجي: الّذي يقتضيه الحديث مخالف حكم مكة لسائر المساجد ولا يعلم منه حكمها مع المدينة وذهب الطحاوي إلى أن هذا التفضيل إنما هو تفضيل صلاة الفرض. وذهب مطرف من أصحابنا إلى أن ذلك في النافلة قال: وجمعته خير من جمعته ورمضانه خير من رمضانه.
واستدل المالكيون على تفضيل المدينة على مكة
بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها
والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم حرّم المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة وليس فيه إلا أنه صلى اللَّه عليه وسلّم حرمها كما حرم إبراهيم مكة ودعا لها كما دعا غير إبراهيم لمكة وليس في ذلك ما يقتضي تفضيلها على مكة.
وقد حرم صلى اللَّه عليه وسلّم الدماء والأعراض والأموال فما دل ذلك على فضل واحتجوا
بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا ومدنا، اللَّهمّ إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه ويقول اللَّهمّ اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة،
وهذا أيضا إنما في الدعاء للمدينة بزيادة البركة وهي واللَّه مباركة.
وقد دعا إبراهيم عليه السلام لمكة بما أخبر به اللَّه تعالى إذ يقول:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ولم يدع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم للمدينة بأن تهوى أفئدة الناس إليها أكثر من هويها إلى مكة لأن الحج إلى مكة لا إلى المدينة فصح أن دعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم(10/347)
لمكة ومثله معه إنما هو مما في الثمرات وأن الثمار بالمدينة الآن أكثر مما بمكة وليس هذا من باب الفضل في شيء.
ومنها قوله: صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة كالكير تنفى خبثها وتنصع طيبها وإنما تنفى الناس كما ينفى الكير خبث الحديث.
وهذا الحديث لا يقتضي أفضليته على مكة وليس هو على عمومه فقد قال تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ. وقال تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فصح أنهم أخبث الخلق وقد كانوا بالمدينة وخرجوا منها، وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبد اللَّه بن مسعود في عدة أخر، وهم أطيب الخلق فصح بيقين أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يعن بأن المدينة تنفى الخبث إلا في خاص من الناس وفي خاص من الزمان لا عاما.
وقد نص على هذا صلى اللَّه عليه وسلّم كما
رجحه مسلم من طريق عبد العزيز الدراوَرْديّ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال:
في حديث: ألا إن المدينة كالكير يخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها كما ينفى الكير خبث الحديد.
وخرج النسائي حديث الأوزاعي عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن أنس بن مالك عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ليس بلد إلا سيطؤه الدجال إلا المدينة ومكة على كل نقب من أنقاب المدينة صافين يحرسونها فينزل، فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج اللَّه منها كل منافق وكافر.
وهذا نص فيما قلنا وليس في جميع ذلك أنها أفضل من مكة إلا ما يقام عليه بدليل.
ومنها
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم يفتح اليمن فيأتى قوم يسبون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وذكر مثل هذا سواء في فتح الشام أو العراق
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم يأتى على الناس زمان يأتى الرجل ابن عمه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير(10/348)
له لو كانوا يعلمون والّذي نفسي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف اللَّه من هو خير منه
وهذا إنما في أن المدينة هي لهم من اليمن والشام والعراق وبلاد الرخاء ولا شك في هذا وليس في فضلها على مكة وهذا أيضا خاص بمن خرج منها طلب رخاء أو لغرض دنيا وأما من يخرج عنها لجهاد أو شيء من الخير فلا، بل كان خروج الذين خرجوا منها بجهاد ونحوه أفضل من إقامتهم بها بدليل أنه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج عنها للجهاد وأمر الناس بالخروج معه وتوعد من تخلف بالمدينة لغير عذر وبعث أصحابه إلى اليمن والبحرين وعمان يدعون إلى الإسلام ويعلمون الناس القرآن والسنن فبطل التعلق بهذا الحديث على فضل المدينة على مكة.
وأما قوله لا يخرج منهم رغبة عنها إلى أخرى فإنه حق فإن من رغب عن المدينة أثم لرغبته عنها وكذلك من رغب عن مكة وليس في هذا فضل بها على مكة.
ومنها
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم إن الإيمان يأزر إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جحرها
وليس في هذا فضلها على مكة وهو أيضا إخبار عن وقت دون وقت فإنّها اليوم من سنين مضت على خلاف ذلك.
فقد جاء هذا الخبر بزيادة كما
خرجه مسلم من طريق عاصم بن محمد ابن زيد بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه عن جده عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأزر بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها
ففي هذا أن الإيمان بين مسجد مكة ومسجد المدينة.
ومنها حديث أنس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدر المدينة أوضع راحلته مرجعها وهذا إنما في حب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم له، أو نعم كان يحبها لكن ليس فيه أنه كان يحبها أكثر من مكة ولا أنها أفضل من مكة.
ومنها
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: لا يكيد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء، وقوله: لا يريد أحد أهل المدينة بشر إلا أذابه في النار ذوب الرصاص(10/349)
وذوب الملح في الماء ومن أخاف أهل المدينة أخافه اللَّه وعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل اللَّه منه صرفا ولا عدلا.
وقوله: مثل هذا فيما أحدث فيها أو أوى محدثا وهذا كله إنما في الوعيد لمن كاد أهلها ولا يحل كيد مسلم وليس فيه أنها أفضل من مكة، وقد قال تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وهذا نص صريح بوعيد من ظلم بمكة كوعيده صلى اللَّه عليه وسلّم من كاد أهل المدينة.
ومنها
قوله: لا يثبت أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شيعا أو شهيدا يوم القيامة
وهذا إنما في الحض على الثبات على شدتها وأنه يكون لهم شفيعا وليس في هذا دليل على فضلها على مكة وقد صح أيضا أنه يشفع لجميع أمته
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينها والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
وهذه فضيلة لا تكون إلا لمكة والشفاعة يدخل فيها من برّ من المسلمين ومن فجر فتأمل ذلك يظهر لك منه تفضيل مكة.
ومنها
قوله: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد
وهذا إنما في الدعاء في وقوع أحد الأمرين، إما أن يحببه تعالى المدينة كحبنا مكة أو أشد وهذا إنما فيه الدعاء في وقوع أحد الأمرين إما أن يحسبه تعالى المدينة كحبه صلى اللَّه عليه وسلّم مكة أو يحببه المدينة أكثر من حبه لمكة ولم يبين لنا أي الأمرين أجيب به دعاؤه وحب البلد يكون للموافقه وللألفه وليس في هذا فضل على مكة.
ومنها
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها.
وقوله: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة وقبري ومنبري على حوضي.
قال القاضي عياض، عن الطبري: فيه معنيان أحدهما أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر مع أنه روى ما يثبته بين حجرتي ومنبري والثاني أن البيت هنا القبر وهو قول يزيد بن أسلم في هذا الحديث كما روى بين قبري ومنبري.(10/350)
قال الطبري: وإذا كان قبره في بيته فاتفقنا معا في الروايات ولم يكن فيها خلاف لأن قبره في حجرته وهو بيته.
قال: وقوله: ومنبري على حوضي يحتمل أنه منبره بعينه الّذي كان في المدينة وهو أظهر. والثاني أن يكون هناك له منبر والثالث أن قصه منبره والحوض عنده لملازمة الأعمال لصالحه يورد الحوض ويوجب الشرب منه.
قال القاضي: وقوله: روضة من رياض الجنة يحتمل معنيين أحدهما أنه موجب لذلك وأن الدعاء والصلاة فيه يستحق ذلك من الثواب كما قيل الجنة تحت ظلال السيوف.
والثاني أن تلك البقعة قد ينقلها اللَّه فتكون في الجنة بعينها قاله الداوديّ.
قال ابن حزم: وأرادوا أن يثبتوا من هذا أن مكة من الدنيا كموضع قاب قوسين من تلك الروضة وتلك الروضة خير من مكة وليس هذا كما ظنوه ولو كان ذلك لكانت مصر والكوفة خير من مكة والمدينة.
روينا عن مسلم حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير حدثنا محمد بن أنبأنا عبيد اللَّه هو ابن عمرو عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سيحان وحيجان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة
وهذا ما لا يقوله مسلم: أن هذه البلاد من أجل ما فيها من أنهار الجنة خير من المدينة ومكة.
قال: وهذا أن الحديثين ليسا على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعه منقطعة من الجنة أو أن هذه الأنهار مهبطه من الجنة لأن اللَّه تعالى يقول: في الجنة: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فهذه صفة الجنة وليست هذه الأنهار ولا تلك الروضة بهذه الصفة فصح كون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها وأن الصلاة فيها تؤدى إلى الجنة وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة كما تقول: في اليوم الطيب هذا يوم من أيام الجنة، وكما قيل في العنان: إنها من دواب الجنة وكما
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: الجنة تحت ظلال السيوف
وهذا في أرض الكفر بلا شك وليس في هذا فضل لها على مكة.(10/351)
ثم لو صح ما ادعوه لما كان الفضل إلا لتلك الروضة خاصة لا لسائر المدينة وهذا خلاف قولهم.
فإن قالوا: ما قرب فيها أفضل مما بعد قلنا فليلزمكم على هذا أن تكون الجحفة ووادي القرى أفضل من مكة لأنهما أقرب إلى الروضة من مكة وهذا لا يقولونه، فبطل تعلقهم بهذا الخبر.
وقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف الناس في تأويل قول الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم:
ما بين قبري ومنبري، وروى ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فقال قوم: معناه أن البقعة ترفع يوم القيامة فتجعل في رياض الجنة. وقال آخرون: قال: فإنّهم يعنون أنه لما كان جلوسه صلى اللَّه عليه وسلّم وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين هناك شبه ذلك الموضع بالروضة لكريم [يحصل فيه] في وأضافها إلى الجنة كما
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: الجنة تحت ظلال السيوف
يعنى أنه عمل يوصل به إلى الجنة وهذا جائز شائع في لسان العرب واللَّه أعلم بما أراد من ذلك.
وقد استدل أصحابنا على أن المدينة أفضل من مكة بهذا الحديث وركبوا عليه
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها
وهذا لا دليل فيه على ما ذهبوا إليه إلا أن قوله هذا أراد به ذم الدنيا والزهد فيها والترغيب في الآخرة فأخبر أن السير من الجنة خير من الدنيا كلها وأراد بذلك السوط التقليل لا أنه أراد موضع السوط بعينه بل موضع نصف سوط وربع سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية وهذا مثل قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ لم يرد القنطار بعينه وإنما أراد الكثير وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لم يرد الدينار يعينه وانما أراد القليل أي أن منهم من يؤتمن على بيت مال فلا يخون ومنهم من يؤتمن على فلس أو نحوه فيخون على أن قوله:
روضة من رياض الجنة
يحتمل ما قال العلماء في ما قدمنا ذكره فلا حجة لهم في شيء مما ذهبوا إليه والمواضع كلها البقاع أرض اللَّه فلا يجوز أن يفضل منها شيء على شيء إلا بما يجب التسليم له وإني لا أعجب لمن يترك
قول:(10/352)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذ وقف بمكة على الحجون وقيل: على الحزورة فقال: واللَّه إني لأعلم أنك خير أرض اللَّه وأحبها إلى اللَّه ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت، وهذا حديث صحيح.
رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة وعبد اللَّه بن عدي بن الحمراء جميعا عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
فكيف يترك مثل هذا النص الثابت وبمال إلى أقوال لا تجامع مقاولة عليه؟
قال: وقد روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها ولكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة ثم ذكر
من طريق أحمد بن داود حدثنا سحنون حدثنا عبد اللَّه بن وهب قال: حدثني مالك بن أنس أن آدم لما أهبط إلى الأرض بالهند أو بالسند قال: يا رب هذه أحب الأرض إليك أن تعبد فيها قال: بل مكة فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت ويعبدون اللَّه تعالى فقالوا: مرحبا يا آدم يا أبا البشر، إنا منتظروك هاهنا منذ ألفى سنة
قال: وكان مالك يقول: من فضل المدينة على مكة أنى لا أعلم فيها قبر نبي معروف غيرها وهذا واللَّه أعلم وجهه عندي من قول مالك، كأنه ما لا يشك فيه وما يقطع العذر خبره وإلا فإن الناس يزعم منهم الكثير أن قبر إبراهيم عليه السلام ببيت المقدس وإن قبر موسى عليه السلام هناك أيضا.
قال أبو عمر: إنما يحج بقبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وبفضائل المدينة وما جاء فيها عنه صلى اللَّه عليه وسلّم وعن أصحابه على من أنكر فضلها وجعلها كسائر بقاع الأرض لأن تلك الآثار أثبتت فضلها وأوضحت موضعها وكرامتها.
وأما من أقر بفضلها وعرف موضعها وأقر أنه ليس على وجه الأرض بعد مكة أفضل منه فقد أنزلها منزلها وخرج بها وعرف لها حقها واستعمل القول بما جاء عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في مكة لأن فضائل البلدان لا تدرك بالقياس والاستنباط وإنما سبيلها التوقيف، وكل يقول بما بلغه وصح عنده والآثار في فضل مكة عن السلف أكثر وفيها بيت اللَّه الّذي رضى من عباده على الحط لأوزارهم بقصده مرة في العمر
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي أفضل من ألف(10/353)
صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام
قال أبو محمد بن حزم تأويلهم أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاد في مسجد مكة بدون ألف وقلنا نحن: بل هذا الاستثناء لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة وكلا التأويلين محتمل، نعم.
وتأويل ثالث أيضا وهو إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في كليهما سواء فلا يجوز المصير إلى أحد هذه التأويلات إلا بنص آخر وبطل أن يكون في هذا الخبر بيان في فضل المدينة على مكة وقال: أبو عمر بن عبد البر اختلفوا في تأويله ومعناه فتأوله قوم منهم أبو بكر عبد اللَّه بن نافع الزبيري صاحب مالك على أن الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف درجة، وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة، وقال: بذلك جماعة من المالكيين ورواه بعضهم عن مالك.
وتأويل ابن نافع بعيد عند أهل المعرفة باللسان ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفا وإذا كان هذا كهذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع هذا.
وحسبك ضعفا بقوله: يؤول إلى هذا وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة ومن غيره بألف صلاة واحتج لذلك بما رواه سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن ابن عتيق قال: سمعت عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه فتأول بعضهم هذا الحديث أيضا عن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على أن الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام، وهذا كله تأويل لا يعضده أصل ولا يقوم عليه دليل، وحديث سليمان بن عتيق هذا حجة فيه لأنه مختلف في إسناده وفي لفظه وقد خالفه فيه من هو أثبت منه. فمن الاختلاف عليه في ذلك ما ذكر من طريق قاسم بن أصبغ محمد بن وضاح حدثنا حامد بن يحيى حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد الخراساني أبى(10/354)
عبد الرحمن قال: أخبرنا سليمان بن عتيق قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير يقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
ومن طريق أبى عبد اللَّه سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا سفيان عن زياد بن سعد عن ابن عتيق قال سمعت ابن الزبير على المنبر يقول:
سمعت عمر بن الخطاب يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة.
فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فإنما فضله عليه بمائة صلاة.
فهذا خلاف ما ذكروه في حديث ابن عتيق عن ابن الزبير عن عمر فكيف يحتجون بحديث قد روى فيه ضد ما ذكروه أيضا في رواية الثقات إلى ما في إسناده من الاختلاف أيضا.
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرنى سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: صلاة في المسجد الحرام خير من مائتي صلاة فيه ويشير إلى مسجد المدينة.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أبو يحيى بن أبى مرة ومحمد بن عبد السلام الخشنيّ قالا: حدثنا محمد بن أبى عمر حدثنا سفيان بن زياد بن سعد حدثنا سليمان بن عتيق قال: سمعت ابن الزبير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فإنما فضله عليه بمائة صلاة.
فهذا حديث سليمان بن عتيق محتمل للتأويل لأن قوله: فضله عليه يحتمل الوجهين إلا أنه قد جاء عن عبد اللَّه بن الزبير أيضا من نقل الثقات خلاف ما تأوله عليه على أنه لم يتابع فيه سليمان بن عتيق على ذكره عمر وهو مما أخطأ فيه عندهم سليمان بن عتيق وانفرد به، وما انفرد به فلا حجة فيه وإنما الحديث محفوظ عن ابن الزبير على وجهين: طائفه توقفه عليه فتجعله من(10/355)
قوله، وطائفة ترفعه عند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمعنى واحد أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمائة ضعف.
هكذا رواه عطاء بن أبى رباح عن عبد اللَّه بن الزبير واختلف في رفعه عن عطاء على حسب ما ذكرنا وما رفعه منه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أحفظ وأثبت من جهة النقل وهو أيضا صحيح في النظر لأن مثله لا يدرك بالرأي ولا بدّ فيه من التوفيق فلهذا قلنا من رفعه أولى مع شهادة أئمة أهل الحديث الّذي رفعه عن ابن الزبير من رواية عطاء بن أبى رباح الحجاج بن أرطاة وابن جريح على أن ابن جريح رواه عن سليمان بن عتيق أيضا بمثل روايته عن عطاء سواء، فحديث الحجاج بن أرطاة حدثناه عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد ابن زهير حدثنا أبى حدثنا هشيم أخبرنا الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن عبد اللَّه ابن الزبير قال: الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بمائة ضعف قال عطاء: فنظرنا في ذلك فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف ضعف.
ذكر عبد الرزاق وغيره عن أبى جريج قال: أخبرنى عطاء أنه سمع ابن الزبير يقول: على المنبر: صلاة في المسجد الحرام خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد قال: قلت: لم يسم مسجد المدينة قال: ليخيل إلى أنه إنما أراد مسجد المدينة.
قال ابن جريج: أخبرنى سليمان بن عتيق بمثل خبر عطاء هذا قال:
حدثني بشير بن الزبير إلى المدينة هكذا قال ابن جريج: بألف على ما أشار عليه وتأوله ابن جريج في حديثه هكذا تكون الصلاة في المسجد الحرام تفضل على الصلاة في كل المساجد غير مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بألف ألف ولكن الحديث لم يقمه ولا رواه إلا حبيب المعلم عن عطاء اقام إسناده وجود لفظه فأتى بالمعروف في الصلاة في المسجد الحرام بأنها بمائة ألف صلاة وفي مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بألف صلاة
فذكر من طريق قاسم بن أصبغ حدثنا أبو يحيى عبد اللَّه ابن أبى مرة فقيه مكة حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حبيب(10/356)
المعلم عن عطاء بن أبى رباح عن عبد اللَّه بن الزبير قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي.
ومن طريقه أيضا حدثنا أحمد بن زهير حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حبيب المعلم عن عطاء عن عبد اللَّه بن الزبير قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة،
ما شبه حبيب المعلم هذا الحديث جودة ولم يخلط في لفظه ولا في معناه وكان ثقة وليس في هذا الباب عن ابن الزبير ما يحتج به عند أهل العلم بالحديث إلا حديث حبيب هذا، قال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه وسأل أبو زرعه الرازيّ عن حبيب المعلم فقال: بصرى ثقة، وقد روى في هذا الباب عن عطاء عن جابر حديث نقلته ثقات كلهم بمثل حديث حبيب المعلم سواء وجائز أن يكون عند عطاء في ذلك عن جابر وعبد اللَّه بن الزبير فيكونان حديثين وعلى هذا يحمله أهل العلم بالحديث
فذكر من طريق قاسم حديث حكيم بن شعبه حدثنا عبيد اللَّه بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن عطاء بن أبى رابح عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه،
وحكيم بن سفيان هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازيّ وغيره وأخذ عنه ابن وضاح وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به فإن كان حفظ فهما حديثان وإلا فالقول قول: حبيب المعلم على ما ذكرنا.
وقد روى في هذا الباب أيضا حديث بهذا المعنى عن عطاء عن ابن عمر مفردا وهو عندهم حديث آخر لا شك فيه لأنه
روى عن ابن عمر من وجوه، فذكر من طريق إسماعيل بن علية حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق حدثنا عبد الملك، عن عطاء عن ابن عمر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: صلاة في مسجدي هذا(10/357)
أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل.
ومن طريق عمر بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فهو أفضل.
ومن طريق أبى معاوية عن موسى الجهنيّ عن نافع عن ابن عمر قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بمائة صلاة.
قال: وقد روى عن أبى الدرداء وجابر مثل هذا المعنى سواء فذكره من طريق أحمد بن عمر والرازيّ حديث سالم القداح حدثنا سعيد بن بشير عن إسماعيل بن عبيد اللَّه عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائه ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة، قال البزار: هذا إسناد حسن وقد روى من حديث عثمان بن الأسود عن مجاهد عن جابر مثله سواء.
وروى عبد الحميد عن ابن عيينة قال: حدثني عمر بن سعيد عن أبيه عن أبى عمر والشيباني قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: المرأة أفضل صلاتها في بيتها إلا في المسجد الحرام، وهذا تفضيل منه للصلاة فيه على الصلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لأن
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لأصحابه: صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي إلا المكتوبة
وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لها في كل بلد إلا بمكة فإنّها تصلى في المسجد الحرام.
ومن طريق قاسم من حديث سفيان حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام
قال سفيان: فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائه ألف صلاة فيما سواه من المساجد، من طريق ابن وضاح قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: سمعت ابن(10/358)
وهب يقول: ما رأيت اعلم بتفسير الحديث من ابن عيينة قال: ابن عبد البر وحسبك في هذا الحديث
بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم لمكة واللَّه إني لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى اللَّه ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت
وهذا من أصح الآثار عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر من طريق عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء ثم قال: وهذا قاطع في موضع الخلاف ثم ذكر
من طريق ابن سنجر حدثنا محمد بن عبيدة عن طلحة ابن مر عن عطاء عن ابن عباس قال: لما خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من مكة قال:
أما واللَّه أنى لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد اللَّه إلى اللَّه وأكرمه على اللَّه ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت
ومن طريق قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف ابن مهران عن ابن عباس قال: قال على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إني لأعلم أحب بقعة إلى اللَّه في الأرض، وأفضل بئر في الأرض، وأطيب أرض في الأرض
فأما أحب بقعة في الأرض إلى اللَّه فالمسجد الحرام وما حوله وأفضل بئر في الأرض زمزم وأطيب أرض في الأرض ريحا الهند هبط بها آدم عليه السلام من الجنة فعلق شجرها من ريح الجنة فهذا عمر وعلى وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عمر وجابر يفضلون مكة ومجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: صلاة في المسجد الحرام خير من مائه صلاة في مسجد المدينة قال معمر: وسمعت أيوب يحدث عن أبى العالية عن عبد اللَّه بن الزبير مثل قول قتادة: وذكر عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن أصبغ وعن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على ما في أحاديث هذا الباب
قال ابن عبد البر: أصحابنا يقولون: أن قول ابن عيينة حجه حين حدث بحديث أبى الزبير عن أبى صالح عن ابى هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة
قال: ابن(10/359)
عيينة حجه لأنه إذا قال كانوا يرون غنما حكى عن التابعين فيلزمهم مثل ذلك في قول ذلك في قول ابن عيينة في تعبير حديث هذا الباب لأنه قال: إذ حدث به وكانوا يرون الصلاة في المسجد أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ولا يشك عالم منصف في أن ابن عتيينة فوق ابن نافع في الفهم والفضل والعلم وأنه إذا لم يكن منهم بد من التقليد فتقليده أولى من تقليد ابن نافع وفيما ذكرنا من هذا الباب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم عن ما سواهم، هذا ملخص ما ذكره في كتاب (التمهيد) وقال: في كتاب الاستذكار وقد ذكر حديث مالك عن أبى هريرة يرفعه صلاة في مسجدي هذا خير من ألف: صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وأجمعوا على صحته، واختلفوا في تأويله وكان عبد اللَّه بن نافع الزبيري صاحب مالك فيما روى يحيى بن يحيى عنه أنه سأله عن معنى هذا الحديث فقال: معناه أن الصلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من الصلوات في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد لنبي صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من الصلاة فيه دون الالف صلاة وهذا التأويل على بعده ومخالفة أكثر أهل العلم لما فيه فإنه لا حظ له في اللسان العربيّ لانه لا يقوم في اللسان الا بقرينه وبيان، لا بيان ولا دليل لمن تأول تأويل ابن نافع يشهد له وأهل العربية يقولون: إذا قلت اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجه إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويا وفاضلا مفضولا إذا كان مساويا فقد علم مقدار فضله وإذا كان فاضلا أو مفضولا فمعلن في الفضل لا يعلم كم مقدار المفاضلة بينهما الا بقرينه ودليل على عدة درجات إما زائدة أو ناقصة فيحتاج إلى الإتيان وقد علمنا أنه لم يحتمل ابن نافع ما تأوله في الحديث إلا ما كان يذهب إليه هو وشيخه مالك من تفضيل المدينة على مكة وتفضيل مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على صلى اللَّه عليه وسلّم على المسجد الحرام ثمّ ذكر على ما تقدم انتهى.(10/360)
ومنها
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم على أبواب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال
وهذا ليس فيه تفضيلها على مكة لأنه أخبر صلى اللَّه عليه وسلّم أن المدينة لا يدخلها الدجال.
خرج البخاري ومسلم من طريق الوليد بن مسلم حدثنا عمر حدثنا إسحاق قال: حدثني أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ليس بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج اليه كل كافر ومنافق وقد صح أن الملائكة تنزل على المصلين في كل بلد كما
أخبر صلى اللَّه عليه وسلّم أنهم يتعاقبون فينا ملائكة بالليل والنهار
فشارك المدينة غيرها من البلاد في حلول الملائكة بها، ومنها
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم هي طيبه
وصدق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنها واللَّه طيبة لكن ليس في هذا فضل لها على مكة واحتجوا بأن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
لعبد اللَّه بن عياش بن أبى ربيعة أنت القائل لمكة خير من المدينة فقال له عبد اللَّه: هي حرم اللَّه وأمنه وفيها قبلته، فقال له عمر إني لا أقول في حرم للَّه ولا في بيت اللَّه شيئا أنت القائل لمكة خير من المدينة ثم انصرف، وهذا ليس فيه إلا أن عبد اللَّه بن عياش وهو أحد الصحابة كان يقول: مكة أفضل من المدينة وليس في هذا الخبر عن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه تفضيل المدينة على مكة ولا تفضيل مكة على المدينة وإنما فيه تقرير عبد اللَّه على هذا القول فقط وقد صح عن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن مكة أفضل من المدينة كما تقدم من طريق قاسم بن أصبغ يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فهذان صاحبان لا يعرف لهما من الصحابة مخالف ومثل هذا حجة عندهم.
وخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال: من يعتكف في مسجد إيليا فاعتكف في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أجزأ عنه ومن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فاعتكف في المسجد الحرام اجرأ عنه فهذا سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة يصرح بفضل مكة على المدينة كفضل(10/361)
المدينة على بيت المقدس واحتجوا ونحوا فيه
بأن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رأى ميتا فقال: دفن في التربة التي خلق منها
قالوا: والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم دفن بالمدينة فمن تربتها خلق وهو أفضل الخلق فهي أفضل البقاع وهذا حديث روى من طريقين إحداهما فيها محمد بن الحسن بن زبالة عن أنيس بن يحيى مرسل والأخرى من رواية أبى خالد عن يحيى البكاء فأما محمد بن الحسن بن زبالة القرشي المخزومي المدني أحد المكثرين الضعفاء روى عن أسامة بن زيد وسعيد بن أبى سعيد المقبري ومالك بن أنس ومحمد بن جعفر بن أبى كثير وخلائف، وحدث عنه أبو خيثمة وأحمد بن صالح، والزبير بن بكار وجماعة اسقطوه لحديثه عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة حديث فتحت البلاد بالسيف، وفتحت المدينة بالقرآن وبغير هذا من الحديث قال: أبو داود كذاب وقال ابن معين: واللَّه ما هو ثقة وقال البخاري: عنده مناكير قال أنب معين: كان يسرق الحديث، وقال النسائي:
وغيره متروك وقال أبو حاتم: وهي الحديث وليس بمتروك وما أبه حديثه بحديث عمر بن أبى بكر الموصلي والواقدي ويعقوب بن محمد الزهري وعبد العزيز بن عمران، وقال ابن حزم: هو ساقط بالجملة قال فيه يحيى:
ليس بالثقة وهو بالجملة متفق على اطراحه، وأما أنيس بن يحيى فقال ابن حزم: ولا ندري من أنيس بن يحيى، وأما أبو خالد فهو مجهول عن يحيى البكاء واختلف في أسم أبيه فقيل: مسلم وقيل: سليم وقيل: يحيى بن أبى خليد أبو مسلم وقيل: أبو سلم وقيل: أبو الحكم يروى عن أبى عمرو عن السعيد بن المسيب وأبى العالية وغيره ويروى عنه عبد الوارث بن سعيد وعلى بن عاصم، وجماعة قال أحمد: ليس بثقة وقال ابن معين: ليس بذاك وقال أبو زرعة ليس بقوى، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال النسائي متروك الحديث وقال ابن عدي ويحيى البكاء هذا ليس بذاك المعروف وليس له كثير رواية فبهذا قد تبين ضعف الحديث بل قال فيه ابن حزم: وهذا خير موضوع ثم لو صح لما كانت فيه حجة لأنها قد دفن فيها المنافقون ودفن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون، وداود وسليمان في الشام ولا يقول: مسلم من آجل ذلك أن الشام أفضل من مكة
وفي حديث محمد بن الحسن ابن زبالة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه(10/362)
عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: فتحت البلاد بالسيف حديث: وفتحت المدينة بالقرآن
وقد اسقطوه لهذا ولغيره، وقال ابن عدي: وأنكر ما روى حدي هشام بن عروة حديث: فتحت القرى بالسيف وقال ابن حزم: وهذا أيضا من رواية محمد بن الحسن بن زبالة المذكور بوضع الحديث وهذا من وضعه بلا شك لأنه رواه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهذا اسناد تفرد به ابن زبالة دون سائر من روى عن مالك من الثقات ثم لو صح ما كانت فيه حجه في فضلها لان البحرين وأكثر مدائن اليمن وصنعاء والجند لم تفتح بالسيف إلا بالقرآن فقط وليس ذلك بموجب فضلها على مكة عند كل أحد من المسلمين، ومنها
حديث ابن زبالة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إنه قال: ما على الأرض بقعة أحب إلى اللَّه تعالى من أن يكون قبري فيها منها،
هكذا رواه مرسلا ولو صح لما كان فيه حجه في فضلها على مكة لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كره للمهاجرين؟ وهو عندهم أن يرجعوا إلى مكة ليحشروا غرباء مطرودين عن وطنهم في اللَّه تعالى، حتى أنه صلى اللَّه عليه وسلّم رثى لسعد ابن خولة أن مات بمكة ولم يجعل للمهاجر معه تمام نسكه أن يبقى بمكة إلا ثلاث ليال فقط فإذا خرجت مكة بهذه العلة على أن يدفن فيها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فالمدينة أفضل البقاع بعدها بلا شك وقد.
خرج البزار من طريق أبى نعيم الفضل بن دكين حدثنا محمد بن قيس عن أبى برده بن أبى موسى الأشعري عن أبى موسى قال: مرض سعد بمكة فأتاه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يعوده فقال له: يا رسول اللَّه أليس نكره أن يموت الرجل في الأرض التي هاجر منها قال: بلى
وذكر باقي الحديث هذا نص ما قلنا ومنها
حديث محمد بن زبالة عن محمد بن إسماعيل عن سليمان بن بريدة وغيره عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: في حين خروجه من مكة اللَّه إنك أخرجتني من أحب البقاع إلى فأسكني أحب البقاع إليك
هكذا ذكره مرسلا. قال ابن عبد البر: وقد ذكر حديث عبد اللَّه ابن عدي بن الحمراء الّذي تقدم هو حديث ثابت عند جماعة أهل العلم بالحديث ولم يأن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من وجه صحيح شيء يعارضه الا ما رواه(10/363)
محمد بن الحسن بو زبالة وهو متروك الحديث مجتمع على ترك الاحتجاج بحديثه وقد انفرد بهذا الحديث وهذا الحديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث وقال ابن حزم: وهذا موضع من رواية محمد بن الحسن بن زبالة ومنها حديث محمد بن الحسن عن يحيى بن عبد الرحمن عن عمرة بنت عبد الرحمن قال رافع ابن خديج قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خير من مكة ورواه محمد بن عبد الرحمن ابن الرداد بن عبد اللَّه بن شريح بن مالك القرشي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبيدة ابنه عبد الرحمن عن رافع بن خديج عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ورواه عبد اللَّه بن رافع الصانع صاحب مالك عن محمد بن عبد الرحمن الرداد عن يحيى بن سعيد عن عمرة قال رافع: ومحمد بن زبالة هو صاحب هذه الفضائح كلها المتعود بوضعها ومحمد بن عبد الرحمن بن الرداد قال ابن عدي: مدينى من ولد ابن أم مكتوم رواياته ليست بمحفوظة وقال ابن حزم: مجهول لا يدريه أحد وعبد اللَّه بن نافع وفيه مقال.
وقد خرج مسلم [ (1) ] هذا الخبر من طريق عبد اللَّه بن مسلمة القصبي قال:
حدثنا سليمان بن بلال عن عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم أن مروان خطب الناس فذكر مكة وأهلها وحرمتها فناداه رافع بن خديج فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكة وأهلها وحرمتها ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها وقد حرم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ما بين لابتيها، وذلك عندنا في أديم خولانى وإن شئت أقرأتكه قال: فسكت مروان ثم قال قد سمعت بعض ذلك قال: وهكذا كله كان الحديث فبدله أهل الزيغ عصبية عجل اللَّه تعالى لهم بها الفضيحة في الكذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم واللَّه أعلم.
***
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 144، كتاب الحج، باب (85) فضل المدينة ودعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيها بالبركة، وبيان تحريها، وتحريم صيدها، وشجرها، وبيان حدود حرمها، حديث رقم (457) .(10/364)
السابعة والسبعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان إذا دعا لأهل القبور يملأها اللَّه عليهم نورا ببركة دعائه
خرج مسلم [ (1) ] من حديث حماد بن زيد عن ثابت البناني عن رافع عن أبى هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ففقدها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات. قال: أفلا كنتم آذنتموني قال: وكأنهم صغروا أمرها وأمره فقال: دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها ثم قال: هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن اللَّه تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم.
وخرجه الإمام أحمد من حديث أبى عامر عن ثابت عن أنس أن أسود كان ينظف المسجد فمات فدفن ليلا فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأخبر فقال: انطلقوا إلى قبره، فانطلقوا فقال: إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن اللَّه عز وجل ينورها بصلاتي عليها فأتى القبر فصلى عليه وقال رجل من الأنصار: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إن أخى مات ولم يصل عليه، قال: فأين قبره فأخبره فانطلق النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مع الأنصاري فصلى عليه، وفي لفظ له فإن صلاتي عليه رحمة له.
الثامنة والسبعون: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يوعك وعك رجلين
خرج البخاري [ (2) ] ومسلم من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: دخلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] سبق تخريجه في موضعه من هذا الجزء ص 140، فيمن كان يقم المسجد.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 152، كتاب المرضى، باب (16) ما رخص للمريض أن يقول إني وجع، حديث رقم (5667) وخرجه مسلم في كتاب البر، باب (45) ، والدارميّ في الرفاق.(10/365)
أراك توعك وعكا شديدا؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أجل إني أوعك وعك رجلين منكم فقلت: ذاك إن أجرين فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أجل، ثم قال: رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط اللَّه به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
وخرج الحاكم [ (1) ] من حديث ابن وهب عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدريّ قال: دخلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو محموم فوضعت يدي من فوق القطيفة فوجدت حرارة الحمى فقلت: ما أشد حماك يا رسول اللَّه قال: إنا كذلك معشر الأنبياء يضاعف علينا الوجع لنا لنا الأجر قال: فقلت: يا رسول اللَّه أي الناس أشد بلاء؟ قلت: الأنبياء. قال:
ثم من؟ قال: ثم الصالحون إن من الرجل ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباء فيحويها ويلبسها وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل، وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم يقتله القمل وكان ذلك أحب غليهم من العطاء إليكم.
قال الحاكم: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
التاسعة والسبعون: كان صلى اللَّه عليه وسلّم لم يمت حتى خيره اللَّه تعالى بين أن يفسح له في أجله ثم الجنة وبين لقاء اللَّه سريعا، فاختار ما عند اللَّه على الدنيا
خرج البخاري ومسلم من حديث الليث قال: حدثني عقيل ابن شهاب قال: أخبرنى سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن رجال من أهل العلم أن عائشة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قالت: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول وهو صحيح: أنه لم
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 342، كتاب الرفاق حديث رقم (7848) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.(10/366)
يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير قالت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها: فلما برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: اللَّهمّ الرفيق الأعلى
قالت عائشة:
قلت: إذا لا يختارنا، قالت عائشة: وعرفت الحديث
وقال البخاري: وعلمت أنه الحديث الّذي كان يحدثنا به وهو صحيح في قوله: أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير قالت عائشة: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قوله الرفيق الأعلى ذكره البخاري في كتاب الدعاء وفي كتاب الرفاق وفي المغازي
وغير ذلك.
وخرج مسلم في مناقب عائشة من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عروة عن عائشة قالت: كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخبر بين الدنيا والآخرة، قالت: فسمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه وأخذته بحة يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
قال: فظننته خير حينئذ.
وخرج البخاري في كتاب التعبير من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة قالت: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما من نبي مرض إلا خير بين الدنيا والآخرة وكان في شكواه الّذي قبض فيه أخذته بحة شديدة سمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ
فعلمت أنه خير.
وخرج النسائي من حديث سفيان عن إسماعيل بن أبى خالد عن أبى بردة عن عائشة قالت: أغمى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو في حجري فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء فأفاق فقال: بل أسأل اللَّه الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل.(10/367)
وخرج البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن عباد بن عبد اللَّه ابن الزبير أن عائشة أخبرته أنها سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصغت إليه قيل أن يموت وهو مسند إلى ظهره يقول: اللَّهمّ اغفر لي وارحمني وألحقنى بالرفيق الأعلى.
الثمانون: هل تشرع الصلاة على غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أو تكون للصلاة عليه مما خصه اللَّه به دون غيره؟
في هذه المسألة أقوال:
أحدها: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم يختص بالصلاة عليه وهو ظاهر الكتاب والسنة والثاني: أنه يصلى معه صلى اللَّه عليه وسلّم على الأنبياء والمرسلين.
والثالث: أنه يصلى على سلّم وأزواجه دون غيرهم من الأمة مطلقا.
والرابع: أنه يصلى عليهم إلا بطريق التبعية له.
والخامس: أنه لا يصلى على سائر المسلمين.
وأما من ذهب إلى ما به الرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فإنه قال لم يصل اللَّه سبحانه في كتابه العزيز على أحد من أنبيائه المرسلين إلا على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فقط وسلم على من عداه منهم
وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وقال تعالى عن نوح: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
وقال عن إبراهيم خليله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ.
وقال عن موسى وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ. وقال تعالى سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.(10/368)
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: يعنى تعالى بقوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ يقول: وأبقينا على نوح ذكرا جميلا وثناء حسنا فيمن يأتى من الناس فيذكرونه به وهو الّذي قلنا في ذلك كما قال أهل التأويل.
فذكر أبو صالح قال: حدثني معاوية بن على عن ابن عباس: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ قال: يذكر بخير، وعن ابن أبى نجيح عن مجاهد يقول:
جعلنا لسان صدق للأنبياء كلهم، وعن سعيد عن قتادة قال: أبقى اللَّه عليه الثناء الحسن في الآخرين وعن أسباط عن السدي قال: الثناء الحسن وقوله:
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ يقول: أمتة من اللَّه لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء وقد كان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: معناه وتركنا عليه في الآخرين سلاما أي تركنا عليه تلك الكلمة.
قال الطبري: وتركنا عليه في الآخرين يعنى إبراهيم: يقول: وأبقينا عليه فمن بعده إلى يوم القيامة ثناء حسنا. ثم ذكر عن سعيد عن قتادة قال:
ابقى اللَّه على إبراهيم الثناء الحسن في الآخرين. وعن ابن وهب قال ابن زيد:
هل التي سأل إبراهيم فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.
قال: فترك اللَّه عليه الثناء الحسن في الآخرين كما ترك السوء على فرعون وأشياعه كذلك ترك اللسان الصدق والثناء الصالح على هؤلاء. وقيل:
معنى ذلك: وتركنا عليه في الآخرين السلام وهو قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وذلك قول، روى عن ابن عباس وتركنا إسناده لأني في إسناده من لم يستحق ذكره.
وقيل معنى ذلك وتركنا عليه في الآخرين أن يقال: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وقوله: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ يقول تعالى أمتة من اللَّه في الأرض لإبراهيم لا يذكر من بعده إلا بالجميل من الذكر.(10/369)
قال: العلامة أبو عبد اللَّه محمد بن أبى بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية: فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال: جماعة من المفسرين منهم مجاهد وغيره وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ الثناء الحسن ولسان الصدق للأنبياء كلهم وهذا قول قتادة أيضا ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسرين كما يفعله من له عناية بحكاية الأقوال بل هو قول واحد فمن قال: إن المتروك هو السلام في الآخرين نفسه فلا ريب أن قوله: سَلامٌ عَلى نُوحٍ جملة في موضع نصب بتركنا والمعنى أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن نظر إلى لازم السلام وموجبة وهو الثناء عليهم وما جعل لهم من لسان الصدق الّذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم انتهى.
فهذا كما ترى لم يصلّ اللَّه على أحد في كتابه غير المصطفى صلى اللَّه عليه وسلّم فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم وملائكته وأمر المؤذنين جميعا بالصلاة عليه دون أنبيائه ورسله تشريفا له وتمييزا لعظيم مقامه، وقد أمرنا بالاتباع ونهينا عن الابتداع، وهو مذهب ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
خرج بقي بن مخلد بن حديث هشيم قال حدثنا عثمان بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما أعلم الصلاة تبتغي من أحد على أحد إلا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يعنى وسائر الناس يدعى لهم.
وخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي) صلى اللَّه عليه وسلّم من حديث عبد الرحمن بن زياد قال: حدثني عثمان بن حكيم بن عباد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار.
وقد حكى عن الإمام مالك في رواية أنه على غير نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وأوله بعض أصحابه بمعنى أنا لم نتقيد بالصلاة على غيره من الأنبياء كما تقيدنا بالصلاة عليه. وحكى النووي الإجماع على أن الصلاة على جميع الأنبياء مشروعة(10/370)
واحتج من ذهب إلى هذا بما
رواه إسماعيل بن إسحاق في كتابه فقال: حدثنا محمد بن أبى بكر المقدمي حدثنا عمرو بن هارون عن موسى بن عبيد وعن محمد بن ثابت عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: صلوا على أنبياء اللَّه ورسله فإن اللَّه بعثهم كما بعثني.
ورواه الطبراني عن الديري عن عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عبيد قال: حدثنا عمرو بن عطاء عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا صليتم على فصلوا على أنبياء اللَّه فإن اللَّه بعثهم كما بعثني.
وقيل: عن أنس بن طلحة وموسى بن عبيدة. وقال: سفيان يكره أن يصلى على غيره النبي. وقال الحافظ أبو موسى المديني: وبلغني بإسناد من بعض السلف أنه رأى آدم عليه السلام في المنام كأنه يشكو قلة صلاة بنيه عليه.
وفي كتاب (النهاية) لابن الأثير فأما قولنا اللَّهمّ صلّ على محمد فمعناه عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره في إظهار دعوته وإبقاء شريعته وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته.
وقيل: المعنى لما أمر اللَّه بالصلاة عليه ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه على اللَّه وقلنا اللَّهمّ صل أنت على محمد لأنك أنت أعلم بما يليق به وهذا الدعاء قد اختلف فيه هل يجوز إطلاقه على غير الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم أم لا؟ والصحيح أنه خاص له فلا يقال لغيره.
وقال الخطابي: الصلاة التي بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره والتي بمعنى الدعاء والتبريك تقال لغيره، ومنه الحديث اللَّهمّ صلّ على آل أبى أوفى أي ترحم وبرّك وقيل فيه: إن هذا خاص له ولكنه آثر به غيره وأما سواه فلا يجوز له أن يخص به أحد.
وقال: الأصمعي: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن اللَّه أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ(10/371)
عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً آثره من بين الرسل وخصكم بها من بين الأمم فقابلوا نعمة اللَّه بالشكر.
وأما الاقتصار في الصلاة على الآل والأزواج مطلقا
فقال: ابن عبد البر: استدل قوم بهذا الحديث على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصة لقوله، في حديث مالك عن نعيم المجمر وفي غير ما حديث: اللَّهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته، قالوا: فجائز أن يقول، الرجل: لكن ما كان من أزواج محمد صلى اللَّه عليه وسلّم صلى اللَّه عليك إذا واجهه وصلى اللَّه عليه إذا غاب عنه ولا يجوز ذلك في غيرهم، وأما الصلاة على الآل بطريق التبعية فإنه لا خلاف في جوازها.
واختلف موجبو الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في وجوبها على آله على قولين مشهورين، وهي طريقتان لأصحابنا إحداهما: أن الصلاة واجبة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وفي وجوبها على الآل قولان، للشافعي، هذه طريقة إمام الحرمين والغزالي.
والطريقة الثانية: إن في وجوبها على الآل وجهين وهي الطريقة المشهورة والّذي صححوه أنها غير واجبة عليهم واختلف أصحاب أحمد في وجوب الصلاة عليهم على وجهين، وهل يصلى عليهم منفردين على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ففيه خلاف، وكذا في الصلاة على غير الآل من الصحابة ومن بعدهم فكرة ذلك مالك وقال: لم يكن ذلك من عمل من مضى وهو مذهب أبى حنيفة وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وبه قال: طاووس.
وقال: ابن عباس لا ينبغي الصلاة إلا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو مذهب عمر ابن عبد العزيز وقال: أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا حسين بن على عن جعفر ابن وثاب قال: كتب عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن أناسا من الناس قد أنهموا الدنيا بعمل الآخرة وإن القصاص قد أحدثوا الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل(10/372)
صلاتهم على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فإذا جاءك كتابي فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاءهم للمسلمين عامة وهذا مذهب القاضي وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منع تحريم.
والثاني: أنه منع تنزيه وهو قول أكثر الأصحاب.
والثالث: أنه من باب ترك الأولى وليس بمكروه.
حكاها النووي في (الأذكار) [ (1) ] والصحيح الّذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه واختلفوا في السلام هل هو في معنى الصلاة فيكره أن يقال:
السلام على فلان أو فلان عليه السلام فكرهه الشيخ أبو محمد الجويني وطائفة ومنع أن يقال: على عليه السلام. وفرق آخرون بين السلام والصلاة فقالوا:
السلام المشروع في حق كل مؤمن حي وميت حاضر وغائب فإنك تقول بلغ فلانا منى السلام وهو تحية أهل الإسلام بخلاف الصلاة فإنّها من حقوق الرسول وآله ولهذا يقول المصلى في تشهده السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، ولا يقول: الصلاة علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين فعلم الفرق.
واحتج من ذهب إلى أنه لا يصلى إلا على الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم بوجوه:
أحدها: ما تقدم عن ابن عباس.
الثاني: أن الصلاة على غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد صارت شعار أهل البدع ذكره النووي، ومعنى ذلك أن الرافضة إذ ذكروا أئمتهم صلوا عليهم ولا يصلون على غيرهم فاستحبوا مخالفتهم في ذلك الشعار.
الثالث: ما احتج به الإمام من أن هذا لم يكن عمل من مضى من الأمة ولو كان خيرا لسبق السلف إليه.
الرابع: أن الصلاة فصارت في لسان الأمة مخصوصة بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم تذكر مع ذكر اسمه لا يسوغ ذلك لغيره وكما لا يقال: محمد عز وجل، ولا محمد
__________
[ (1) ] (الأذكار للنووي) : 115، كتاب الصلاة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، باب (4) الصلاة على الأنبياء وآلهم تبعا لهم صلى عليهم وسلم.(10/373)
سبحانه وتعالى، لئلا يعطى رتبه الخالق فهكذا لا ينبغي أن تعطى غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رتبته فيقال: فلان صلى اللَّه عليه وسلّم.
الخامس: أن اللَّه تعالى قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
فكما أمر اللَّه تعالى أن لا يدعى باسمه كما يدعى غيره باسمه كذلك لا تجعل الصلاة على غيره في دعائه والإخبار عنه كما تجعل الصلاة عليه فإن فعل هذا مما لا يسوغ أصلا قالوا: فإذا ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أحد من أمته انبغى له أن يصلى عليه لما جاء عنه في ذلك من
قوله: صلى اللَّه عليه وسلّم من صلى عليّ مرة صلى اللَّه عليه عشرا.
ولا يجوز أن يترحم عليه لأنه لم يقل: من ترحم عليّ. ولا قال:
من دعا لي وإن كانت الصلاة هنا الرحمة فكأنه خص بهذا اللفظ تعظيما له.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ولم يقل إن اللَّه وملائكته يترحمون على النبي.
وإن كان المعنى واحد أن يخصه بذلك.
السادس: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شرع لأمته في التشهد أن يسلموا على عباد اللَّه الصالحين. وأن يصلوا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فعلمنا من ذلك أن الصلاة عليه حقه الّذي لا يشركه فيه أحد.
السابع: أن اللَّه تعالى ذكر الأمر بالصلاة عليه في معرض حقوقه وخواصه، التي خصه بها من تحريم النكاح لأزواجه، وجواز نكاحه لمن وهبت نفسها له، وإيجاب اللعنة لمن أذاه، ونحو ذلك من حقوقه وأكدها بالصلاة عليه والتسليم فدل على أن ذلك حق له خاصة وآله تبع له فيه.
الثامن: أن اللَّه تعالى شرع للمسلمين أن يدعو بعضهم لبعض ويستغفر بعضهم لبعض ويترحم عليه في حياته وبعد موته، فالدعاء، حق للمسلمين والصلاة حق لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فهما حقان لا يقوم أحدهما مقام الآخر، ألا ترى أن صلاة الجنازة إنما يدعى فيها للميت ويترحم عليه ويستغفر له ولا يصلى(10/374)
عليه بدل ذلك، فيقال: اللَّهمّ صلّ عليه، فإنه يصلى عليه في الصلوات كلها ولا يقال: بدل ذلك اللَّهمّ اغفر له وارحمه بل يعطى كل ذي حق حقه.
التاسع: أن الميت من يحتاج أن يدعى له بالمغفرة والرحمة والنجاة من العذاب والرسول صلى اللَّه عليه وسلّم غير محتاج إلى أن يدعى له بذلك بل الصلاة عليه زيادة في تشريف اللَّه له وتكريمه ورفع درجاته وهذا حاصل له، وإن غفل عن ذكره الغافلون فالأمر بالصلاة عليه إحسان من اللَّه للأمة ورحمة منه لهم ولنبيهم بصلاتهم على رسوله بخلاف غيره من الأمة فإنه محتاج إلى من يدعو له ويستغفر له ويترحم عليه ولهذا جاء بهذا في محله ليوجب العارف الحقوق إلى أهلها بفقهه عن اللَّه تعالى.
العاشر: لو كانت الصلاة على غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سائغة فإما أن يقال، باختصاصها ببعض الأمة ويقال: تجوز على كل مسلم فإن قيل. باختصاصها فلا وجه له وهو تخصيص غير مخصص وإن قيل: بعدم الاختصاص وأنها تسوغ لكل من يسوغ الدعاء له فحينئذ تسوغ الصلاة على المسلم وإن كان من أهل الكبائر، وكما يقال: اللَّهمّ تب عليه اللَّهمّ اغفر له يقال: اللَّهمّ صل عليه وهذا باطل. وإن قيل: تجوز على الصالحين دون غيرهم فهذا مع أنه لا دليل عليه ليس له ضابط فإن كون الرجل صالحا أو غيرهم فهذا مع أنه لا دليل عليه ليس له ضابط فإن كون الرجل صالحا أو غير صالح وصف يقبل الزيادة والنقصان وكذلك كونه وليا للَّه وكونه شقيا وكونه مؤمنا، كل ذلك يقبل الزيادة والنقصان فما ضابط من يصلى عليه من الأمة ومن لا يصلى عليه. نعلم بهذه الوجوه العشرة اختصاص الصلاة بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم.
***(10/375)
فصل فيمن أجاز الصلاة على غير النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال: القاضي أبو سعيد بن الفراء في (رءوس مسائله) : وبذلك قال:
الحسن البصري، وحصيف، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان، وكثير من أهل التفسير، قال: وهو قول الإمام أحمد نص عليه في رواية أبى داود وقد سئل. أينبغي أن يصلى على أحد أو لا يصلى إلا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال:
أليس قال على لعمر: صلى اللَّه عليك قال: وبه قال: إسحاق بن راهويه وأبو ثور، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم وحكى أبو بكر بن أبى داود عن أبيه: قال ذلك أبو الحسن وعلى هذا العمل، واحتج هؤلاء بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فأمر تعالي رسوله أن يأخذ الصدقة من أمته وأن يصلى عليهم ومعلوم أن الأمة من بعده تأخذ الصدقة كما كان يأخذها فيشرع لهم أن يصلوا على المتصدق كما كان يصلى عليه حين يأخذها منه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
الثاني:
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث شعبة عن عمر وعن عبد اللَّه أبى أوفى قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللَّهمّ صل على آل فلان فأتاه أبى بصدقته فقال صلى اللَّه عليه وسلّم أتاه قوم فصدقته قال: اللَّهمّ صل على آل فلان فأتاه أبى بصدقته فقال صلى اللَّه عليه وآله اللَّهمّ صل على آل أبى أوفى.
والأصل عدم الاختصاص وهذا ظاهر في أنه هو المراد من الآية.
الثالث: ما
رواه حجاج عن أبى عوانة عن الأسود بن قيس العمرى عن جابر بن عبد اللَّه أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه صلى على زوجي صلى اللَّه عليك فقال صلى اللَّه عليه وسلّم صلى اللَّه عليك وعلى زوجك
وأجيب عن ذلك بأن الأدلة نوعان:
نوع منها صحيح وهو غير متناول لعمل النزاع فلا يحتج به ونوع غير معلوم الصحة فلا يحتج به أيضا فقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ استدلال في غير محل الكلام لأن النزاع هل يشرع لأحدنا أن يصلى على النبي وآله أم لا وأما صلاته صلى اللَّه عليه وسلّم على من صلى فمسألة أخرى وأين هذه من صلاتنا عليه التي أمرنا اللَّه بها قضاء حتما؟ فان الصلاة عليه حق ل صلى اللَّه عليه وسلّم يتعين على الأمة أداؤه،(10/376)
والقيام به، وأما هو صلى اللَّه عليه وسلّم فيخص من أراد ببعض ذلك الحق وهذا كما تقول شاتمة ومؤذيه قتله حق لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يجب على الأمة القيام به واستيفاؤه وأنه هو صلى اللَّه عليه وسلّم كان يعفو عنه حين كان يبلغه ويقول: رحم اللَّه موسى قد أوذى بأكثر من هذا فصبر.
وقال ابن عبد البر: تهذيب الآثار وحملها على غير المعارضة والتدافع هو أن يقال: أما النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فجائز أن يصلى على من يشاء لأنه قد أمر أن يصلى على كل من يأخذ صدقته وأما غيره فلا ينبغي له إلا أن يخص النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عليه كما قال ابن عباس وجائز أن يحتج في ذلك بعموم قوله تعالى لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يقول: والّذي اختاره في هذا الباب أن يقول: اللَّهمّ ارحم فلانا واغفر له، ورحم اللَّه فلانا وغفر له ورضى عنه، ونحو هذا الدعاء والترحم عليه ولا يقال: إذا ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلا صلى عليه إلا أنه جائز أن يدخل معه في ذلك ما جاء في الأحاديث عنه من قوله: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد واللَّهمّ صل على محمد وعلى آله وذريته، ولا يصلى على غيره بلفظ الصلاة امتثالا لعموم قول اللَّه تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً في حياته وموته صلى اللَّه عليه وسلّم.
الرابع: ما
رواه ابن سعد في كتاب (الطبقات) من حديث ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه أن عليا دخل على عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما وهو مسجى فلما انتهى إليه قال: صلى اللَّه عليك ما أحد لقي اللَّه بصحيفته إلى من هذا المسجى بينكم.
وأجيب بأن هذا الحديث قد اختلف فيه على أنس بن محمد عن أبيه أن عليّا لما غسل عمر وكفن وحمل على سريره وقف عليه فاثنى عليه وقال:
واللَّه ما على الأرض رجل أحب إلى أن ألقى اللَّه بصحيفته من هذا المسجى بالثوب. وكذلك رواه محمد ومحمد ومعلى معلى ابنا عبيد عن حجاج الواسطي عن بعضهم ولم يذكر هذه اللفظة وكذلك رواه سليمان بن بلال عن جعفر عن(10/377)
أبيه وكذلك رواه يزيد بن هارون عن جعفر عن أبيه وكذلك رواه عون بن أبى جحيفه عن أبيه قال كنت عند عمرو فقال: فذكره دون لفظة الصلاة بل قال:
رحمك اللَّه وكذلك رواه حازم بن الفضل عن حماد بن زيد عن أيوب وعمرو بن دينار وأبى جهيم قالوا: لما مات عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فذكروا الحديث دون لفظ الصلاة وكذلك
رواه قيس بن الربيع عن قيس بن مسلم عن محمد بن الحنفية ومع ذلك فإن ابن سعد لم يسند حديثه بل قال: في الطبقات:
أخبرنا بعض أصحابنا عن سفيان بن عينيه أنه سمع منه هذا الحديث عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه فذكروه فقال: لما انتهى اليه فقال:
صلى اللَّه عليك
وهذا الرجل المهمل لم يحفظه فلا يحتج به وقد عارضه قول:
عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما لا ينبغي الصلاة على أحد إلا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فاحتاجا إلى ترجيح أحدهما على الآخر.
الخامس: ما رواه إسماعيل بن إسحاق فقال: حدثنا عبد اللَّه بن مسلم حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم القاري عن نعيم عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه كان يكبر على الجنازة، ويصلى على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ثم يقول:
اللَّهمّ بارك فيه وصل عليه واغفر له وأورده حوض نبيك صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأجيب بأن نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم أبا رويم هذا، قال أبو طالب: عن أحمد بن حنبل كان يؤخذ عنه القرآن وليس في الحديث بشيء.
وقال ابن عدي: وأرجو أنه لا بأس فيه، فقد تبين ضعفه وإن كان من أئمة القراءة، ويدل على أن حديثه هذا ليس بمحفوظ أن مالك لم يروه في (الموطأ) وإنما روى أثرا عن أبى هريرة، فلو كان هذا عند نافع مولاه لكان مالك أعلم به من نافع بن أبى نعيم، وقول ابن عباس يعارضه مع ذلك.
السادس: أن الصلاة هي الدعاء وقد أمرنا بالدعاء بعضنا لبعض، هكذا احتج أبو سليمان بن الفراء. وأجيب عن ذلك بأن الصلاة دعاء مخصوص قد أمروا به في حق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وليس في ذلك دليل على جواز الدعاء به لغيره لما بين الرسول وبين غيره من الفرق العظيم، فلا يصح الإلحاق به، لا في الدعاء ولا في المدعو، وكما لا يصح أن يقاس عليه دعاء غيره لا يصح(10/378)
أن يقاس على الرسول غيره، لا سيما والصلاة تشرع في حق الرسول لكونها دعاء بل لأخص من مطلق الدعاء، وهو كون الصلاة مطلق تعظيمه، وتحميده، والثناء عليه وهذا أخص من مطلق الدعاء.
السابع: ما خرجه مسلم في صحيحه من حديث حماد بن زيد عن يزيد ابن ميسرة عن عبد اللَّه بن شفيق عن أبى هريرة قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك قال:
ويقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللَّه عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلق به إلى ربه عز وجل ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعنا ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، قال: فيقال:
انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبو هريرة: فرد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ربطة كانت عليه على أنفه هكذا. وهو يدل عن عبد اللَّه بن شفيق عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك قال: يقول أهل السماء: روح طيب ريحها وذكر المسك، قال: يقول أهل السماء: روح طيبه جاءت من قبل الأرض صلى اللَّه عليك وعلى جسد كنت تعمر فيه. وذكر الحديث هكذا قال:
مسلم عن أبى هريرة موقوفا وسياقه يدل على أنه مرفوع فإنه قال بعده: وإن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لفها ويقول: أهل السماء روح خبيئة جاءت من قبل الأرض قال: فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل قال: أبو هريرة فرد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ريطة كانت على ألفه هكذا [ (1) ] وهو
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 17/ 210- 211، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب (17) عرض مقعد الميت من الجنة أو النار علية، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، حديث رقم (75) ولفظه حدثني عبيد بن شقيق عن أبى هريرة قال إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعد انها قال حماد فذكر من طيب ريحها وذكر المسك قال ويقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللَّه عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلق به إلى ربه عز وجل ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل قال وان الكافر إذا خرجت روحه قال حماد وذكر من نتنها(10/379)
يدل على أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حدثهم به وقد رواه جماعة عن أبى هريرة مرفوعا منهم أبو سلمة وعمرو بن الحكم وإسماعيل السدي عن أبيه عن أبى هريرة وسعيد بن يسار وغيرهم فإذا كانت الملائكة تقول: المؤمن صلى اللَّه عليك جاز ذلك أيضا للمؤمنين بعضهم لبعض.
وأجيب بان هذا ليس بمتناول لمحل النزاع فإن النزاع فإنه هو هل يسوغ لأحد أن يصلى على غير الرسول وآله وأما الملائكة فليسوا بداخلين تحت تكاليف البشر حتى يصح قياسا عليهم فيها وبفعلونه فأين أحكام الملك من أحكام البشر فالملائكة رسل اللَّه في خلقه وأمر يتصرفون بأمره تعالى لا بأمر البشر.
الثامن: قال اللَّه تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [ (1) ] .
وقال: صلى اللَّه عليه وسلّم إن اللَّه وملائكته يصلون على معلم الناس الخير
[ (2) ] وأجيب بأن هذا أيضا في غير النزاع فكيف يصح النزاع وقياس فعل العبد على فعل الرب وصلاة العبد دعاء وصلاة اللَّه على عبده ليست دعاء وإنما هي أكرم وتعظيم ومحبه وثناء واين هذا من صلاة العبد.
__________
[ () ] وذكر لعنا يقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض قال فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل قال أبو هريرة فرد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ربطة كانت عليه على أنفه هكذا.
قال النووي: قوله في روح المؤمن «ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل ثم قال في روح الكافر فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل» قال القاضي المراد بالأول انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى والمراد بالثاني انطلقوا بروح الكافر إلى سجين في منتهى الأجل ويحتمل أن المراد إلى انقضاء أجل الدنيا قوله «فرد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ربطة كانت عليه على أنفه» الربطه بفتح الراء وإسكان الياء وهو ثوب رقيق وقيل هي الملاءة وكان سبب ردها على الأنف بسبب ما ذكر من نتن ربح الكافر (مسلم بشرح النووي) .
[ (1) ] الأحزاب: 43، وتمامها: (ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) .
[ (2) ] (كنز العمال) 10/ 145، حديث رقم (28736) ، وعزاه إلى الطبراني والضياء المقدس عن أبى أمامه.(10/380)
التاسع: ما
خرجه أبو داود [ (1) ] ومن حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إن اللَّه وملائكته يصلون على ميامن الصفوف [ (2) ]
وفي حديث ارخ عنها قالت: ان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف [ (3) ] وقد جاء صلاة الملائكة على من صلى على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وتقدم جواب هذا كله فيما مضى.
العاشر:
روى مالك بن مخامر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مرسلا أنه قال: اللَّهمّ صلى على آل أبى بكر فإنه يحب اللَّه ورسوله اللَّهمّ صل على عمر فإنه يحب اللَّه ورسوله اللَّهمّ صلى على آل عثمان فإنه يحب اللَّه ورسوله اللَّهمّ صلى على عليّ فإنه يحب اللَّه ورسوله اللَّهمّ صلى على أبى عبيدة فإنه يحب اللَّه ورسوله اللَّهمّ صل على عمرو بن العاص فإنه يحب اللَّه ورسوله،
وأجيب بأن هذا حديث مرسل لا إسناد له حتى نعرف صحته من سقمه ومع هذا فإنه في غير محل النزاع كما تقدم.
الحادي عشر: ما روى عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنه كان يقف على غير النبي فيصلي عليه وسلّم فيصلي عليه وعلى أبى بكر وعمر.
وأجيب بأن ابن عبد البر قال: ولهذا أنكر العلماء على يحيى بن يحيى ومن تابعه في الرواية عن مالك في (الموطأ) عن عبد اللَّه بن دينار قال: رأيت عبد اللَّه بن عمر يقف على قبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيصلي على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وعلى أبى بكر
__________
[ (1) ] رواه أبو داود رقم (664) في الصلاة، باب تسوية الصفوف، والنسائي 2/ 89- 90 في الإمامة، باب كيف يقوم الامام الصفوف، وإسناده محجم. (جامع الأصول) : 5/ 613، حديث رقم (3876) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود رقم (676) في الصلاة، باب بين السواري، وإسناده حسن، حسنه الحافظ في (الفتح) ، ورواه أيضا ابن ماجة رقم (995) في إقامة الصلاة، باب إقامة الصفوف، بلفظ: «إن اللَّه وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» . (جامع الأصول) : 5/ 615، حديث رقم (3880) .
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(10/381)
وعمر قالوا: إنما الرواية وغيره عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يقف على قبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ويدعوا لأبى بكر وعمر وبين يصلى على أبى بكر وعمر فإن كانت الصلاة قد تكون دعاء لما به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من لفظ الصلاة عليه وكذلك روى عن عبد اللَّه بن عباس قال: لا يصلى على أحد إلا على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يعنى وسائر الناس يدي لهم وترحم عليهم ومعلوم ان ابن عباس يعلم أن الصلاة قد تكون الدعاء والرحمة أيضا وقد رد ابن وضاح رواية يحيى إلى رواية ابن القاسم عن سحنون وحدث بها عنه وكما رواه ابن القاسم كذلك رواه القعنبي وابن بكر ومن تابعهم في (الموطأ) وجعلها يصلى على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ويدعو لأبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
الثاني عشر: أنه قد صح عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه في الصلاة عليه وعلى أزواجه وهذا على أصولكم الزم فإنكم لم تدخلوهن في آله الذين تحرم عليهم الصدقة فإذا جازت الصلاة عليهنّ جازت على غيرهن من الصحابة. وأجيب إنما صلى على الأزواج لإضافتهن إلى الرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأهل بيته وزوجاته تبع له فيها.
*** تم بحمد اللَّه تعالى الجزء العاشر ويليه الجزء الحادي عشر وأوله:
فصل في أنهن لم يدخلن فيمن تحرم عليه الصدقة من الآل(10/382)
[المجلد الحادي عشر]
[تتمة الثمانون]
[تتمة الثاني عشر]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فصل في أنهن لم يدخلن فيمن تحرم عليه الصدقة من الآل
فلعموم القرابة التي يثبت بها التحريم، ومع ذلك فإنّهنّ من أهل بيته الذين يستحقون الصلاة عليه، ولا منافاة بين الأمرين.
الثالث عشر:
أنكم قد قلتم بجواز الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تبعا له، وقلتم بجواز أن يقال:
اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه.
قال الشيخ محيي الدين أبو زكريا النووي: واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء تبعا لهم في الصلاة، ثم ذكر هذه الكيفية وقال: الأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أمرنا به في التشهد ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة أيضا. قالوا:
ومنه الأثر المعروف، عن بعض السلف: اللَّهمّ صل على ملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السموات والأرضين.
وأجيب بأن ادعاء الاتفاق غير معلوم الصحة، فقد منع جماعة الصلاة على غير الأنبياء مفردة وتابعة كما تقدم، فمن جعل الاتفاق وهذا التفصيل الّذي ذكرتموه وإن كان معروفا عن بعضهم في أصلهم بقوله: بل يمنعه، وهب أنا نجوز الصلاة على أتباعه بطريق التبعية له فمن أين يجوز إفراد المقر أو غيره بالصلاة عليه استقلالا ودعواكم أن الأحاديث الصحيحة في ذلك غير مسلم بها، فأين تجدون في الأحاديث الصحيحة الصلاة على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وآله وأزواجه وذريته حتى قلتم: والصحابة؟ فليس فيما ذكر الصحابة ولا الأتباع، وكذا قولكم: وقد أمرنا به في التشهد، فما أمرنا في التشهد إلا بالصلاة على آله وأزواجه وذريته فقط دون من عداهم، أوجدونا، ولن تجدوه أبدا.
الرابع عشر:
ما
خرجه أبو يعلى الموصلي، عن ابن زنجويه، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، حدثنا ضمرة بن حبيب بن صهيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابت، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دعاه وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، قال: قل حين تصبح: لبيك اللَّهمّ لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، وتباركت وتعاليت، وأستغفرك وأتوب إليك،(11/3)
اللَّهمّ ما قلت من قول أو نذرت من نذر، وحلفت من حلف، فمشيئتك بين يديك، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة لي إلا بك، أنت على كل شيء قدير، اللَّهمّ ما صليت من صلاة فعلى من صليت، وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
ووجه الاستدلال أنه لو لم تشرع الصلاة على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما كان يصلي على من ليس بأهل للصلاة، ولا يدري استثنى من ذلك كما أستثنى في حلفه ونذره.
أجيب بأن في سند هذا الحديث أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي مريم الغساني الحمصي، قال ابن معين: ضعيف الحديث ليس بشيء، وقال أحمد:
كان عيسى بن يونس لا يرضاه، وقال السعدي: ليس بالقوى في الحديث وهو متهالك. وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو داود: سرق له متاع فأنكره عقله، وقال ابن عدي: والغالب على حديثه الغرائب وكل من يوافقه عليه من الثقات، وقال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام، ولكنه كان رديء الحفظ، يتحدث بالشيء فيهم، وكثر ذلك حتى استحق الترك.
قال ابن القيم: وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الصلاة على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إما أن يكون آله وأزواجه وذريته أو غيرهم، فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وجائزة ومفردة.
وأما الثاني: فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموما الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم جاز ذلك أيضا فيقال: اللَّهمّ صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك والمرسلين وأهل طاعتك أجمعين، وإن كان معينا أو طائفة معينة كره أن تتخذ الصلاة عليه شعارا لا تحل به، ولو قيل بتحريمه لكانت له وجه، ولا سيما إذا جعلها شعارا له، وصنع منها نظيره أو من هو خير منه، وهذا كما يفعل الرافضة بعليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فإنّهم حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهذا ممنوع منه، ولا سيما إذا اتخذ شعارا لا تحل به، فتركه حينئذ متعين، وأما إن صلّى عليه اتفاقا بحيث لا يجعل ذلك شعارا كما يصلي على دافع الزكاة، وكما قال ابن عمر للميت، وكما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على المرأة وزوجها،
وكما روى(11/4)
عن عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من صلاته على عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فهذا لا بأس به، وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، ويكشف وجه الصواب. واللَّه الموفق.
الحادية والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أن الصلاة عليه واجبة
قال أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرض على كل مؤمن بقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] ثم اختلفوا في كيفية ذلك وموضعه، فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرض في الجملة بعقد الإيمان، ولا يتعين في الصلاة ولا في وقت من الأوقات، ومن قول بعضهم: أن من صلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرة في عمره فقد سقط فرض ذلك عنه، وبقي مندوبا إليه في سائر عمره بمقدار ما يمكنه.
قال كاتبه: وهذا أبو محمد بن حزم قال فيمن يقول: أن هذا القول فرض على كل مسلم أن يقوله مرة في الدهر: فإذا فعل ذلك فقد صلّى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما أمر ثم يستحب له ذلك في الصلاة وغيرها فهو يزيد من الأجر.
قيل: من أين اقتصرتم على وجوب هذا مرة في الدهر ولم توجبوا تكرار ذلك متى ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلنا: إن ذلك مرة واحدة واجب، ولا يوجد الاقتصار على أقل من مرة، وأما الزيادة على المرة فنحن نسألكم: كم مرة توجبون ذلك في الدهر؟ أو في الحول؟ أو في الشهر؟ أو في اليوم؟ أو في الساعة؟ ولا يمكن منكم تحديد عدد دون عدد إلا ببرهان، ولا سبيل إليه فقد امتنع هذا بضرورة العقل.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 56.(11/5)
فإن قالوا: نوجب ذلك عليه في الصلاة خاصة، قلنا: ليس هذا موجودا في الآية ولا في شيء من الأحاديث، فهو دعوى منكم بلا برهان، فإن من قال من غير الشافعيّ بقول إيجاب ذلك متى ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلاة أو غيرها، قلنا: هذا لا يوجد في الآية ولا في الصحيح من الأخبار.
قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة، التي لا يسع تركها، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه.
ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره، كما قال في آية السجدة، وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وفي آخره.
ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين، والّذي يقتضيه الاحتياط، الصلاة عليه كلما ذكر، كما ورد من الأخبار في ذلك.
وقال أبو جعفر الطحاوي وأبو عبد اللَّه الحليمي: تجب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وقال: ذلك مستحب، وليس بفرض يأثم تاركه، اختلفوا في ذلك، فقالت فرقة: تجب الصلاة عليه في العمر مرة واحدة، لأن الأمر لا يقتضي تكرارا، والماهية تحصل بمرة، وهذا لأنه يحكي عن أبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي.
وقال القاضي عياض- وهو قول جمهور الأمة-: وقالت فرقه: تجب في كل صلاة في تشهدها الأخير وهو قول الشافعيّ وأحمد في أحد الروايتين عنه.
قال ابن عبد البر: وقال الشافعيّ رحمه اللَّه: إذا لم يصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد الأخير، بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة، قال: وإن صلّى عليه قبل ذلك لم يجز، هذا قول حكاه عنه حرملة، ولا يكاد يوجد عنه إلا من رواية حرملة، وغير حرملة إنما يروى عنه أن الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فرض في كل صلاة، موضعها التشهد الآخر قبل التسليم، ولم يذكر إعادة فيمن وضعها قبل التشهد في الجلسة الأخرى، وأن أصحابه قد تقلدوا رواية حرملة، ومالوا إليها، وناظروا عليها.(11/6)
وقالت فرقة: الأمر بالصلاة عليه أمر استحباب لا أمر وجوب، هذا قول ابن جريج وطائفة، وادعى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فيه الإجماع، وهذا على أصله، فإنه إذا رأى الأكثرين على قول جعل إجماعا يجب اتباعه، والمقدمتان باطلتان، واحتج القائلون بوجوب الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحجج:
الأولى:
ما
خرجه الحاكم [ (1) ] من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ.
ورغم أنفه: دعاء عليه، وذم له.
الثانية:
قوله: من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فمات فأبعده اللَّه، وله طرق عن أبي هريرة، وجابر بن سمرة، وكعب بن عجرة، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك
وكل طريق منها جاءت مستقله، والحديث بهذه الطرق المتعددة يفيد الصحة.
الثالثة:
قوله: من ذكرت عنده فليصل عليّ فإنه من صلّى عليّ مرة صلّى اللَّه عليه عشرا.
لأمر ظاهر في الوجوب.
الرابعة:
قوله: إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ،
وقوله: إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل على،
وقوله: بحسب المؤمن من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي عليّ،
وقوله: كفى به شحا أن أذكر عند رجل فلا يصلي عليّ فإذا ثبت أنه بخيل،
ووجه الدلالة أن البخيل اسم ذمّ، وتارك المستحب لا يستحق اسم الذم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [ (2) ] [وقال تعالى:] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [ (3) ] فقرن تعالى البخل بالاختيال والفخر والأمر بالبخل، وذم على المجموع، فدل على أن البخل صفة ذم،
وقد قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأي داء أدوى من البخل؟
والبخيل هو
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 1/ 734، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم (2016) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] لقمان: 18.
[ (3) ] النساء: 37.(11/7)
مانع ما وجب عليه، فمن أدى الواجب عليه كله لم يسم بخيلا، وإنما البخيل مانع ما يجب عليه إعطاؤه وبذله.
الخامسة:
أن اللَّه تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه، والأمر المطلق للتكرار، ولا يمكن أن يقال: التكرار هو في كل وقت، فإن الأوامر المكررة إنما تكرر في أوقات خاصة، أو عند شروط وأسباب تقتضي تكرارها، وليس وقت أولى من وقت، فتكرر الأمر بتكرار ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أولى لما تقدم من النصوص، وهاهنا ثلاث مقدمات.
المقدمة الأولى:
أن الصلاة مأمور بها أمرا مطلقا، وهذه معلومة.
المقدمة الثانية:
أن الأمر المطلق يقتضي التكرار، وهذا مختلف فيه، فنفاه طائفة، وفرقت طائفة بين الأمر المطلق والمعلق على شرط أو وقت، فأثبت التكرار في المعلق دون المطلق، وهذه الأقوال الثلاثة لأصحابنا، ولأصحاب أحمد وغيرهم يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد، فإن هذا معلوم من خطاب الشارع التكرار، فلا يحمل كلام، وإن كان لا يفرض لصحة المنهي عنه ولا فساده في أصل موضع اللغة، وكذا خطاب الشارع للواحد من الأمة يقتضي معرفة الخاص أن يكون متناولا له ولأمثاله، وإن كان موضوع اللفظ لغة لا يقتضي ذلك، فإن هذه لغة صاحب الشرع، وعرفه في مصادر كلامه، وموارده، وهذا معلوم بالاضطرار عن دينه قبل أن يعلم صحة القياس، واعتباره، وشروطه، وهذا فرق بين اقتضاء اللفظ وعدم اقتضائه لغة، وبين اقتضائه في عرف الشرع وعادة خطابه.
المقدمة الثالثة:
إذا تكرر المأمور به فإنه لا يتكرر إلا بسبب، ولولا الأسباب المقتضية لتكراره ذكر اسمه صلّى اللَّه عليه وسلّم لإخباره برغم أنف من ذكر عنده فلم يصل عليه، والإمحال عليه بالبخل، وإعطائه اسمه، ومما يؤيد ذلك أن اللَّه سبحانه أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه عقب إخباره لهم بأنه وملائكته يصلون عليه لم يكن مرة وانقطعت، بل هي صلاة متكررة، ولهذا ذكرها مبينا بها فضله، وشرفه، وعلو مرتبته، ثم أمر المؤمنين بها، فتكرارها في حقهم أحق وأكثر لأجل الأمر، ولأن اللَّه تعالى أكد السلام بالمصدر الّذي هو التسليم، وهذا يقتضي المبالغة والزيادة في كميته، وذلك بالتكرار، ولأن لفظ المأمور به(11/8)
يدل على التكثير فإن الفعل المشدد يدل على تكرار الفعل كقولك كسّر الخبز وقطّع اللحم، وعلّم الخير، ونحوه، ولأن الأمر بالصلاة عليه في مقابل إحسانه إلى الأمة وتعليمهم وإرشادهم المطلق، وهذه الأقوال الثلاثة لأصحابنا، ولأصحاب أحمد وغيرهم.
ورجحت هذه الطائفة التكرار بأن عامة أوامر اللَّه تعالى على التكرار كقوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (1) ] وقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [ (2) ] وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ (3) ] وقوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ (4) ] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [ (5) ] وقوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ (6) ] وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [ (7) ] وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [ (8) ] وقوله في اليتامى:
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ [ (9) ] وقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [ (10) ] وقوله تعالى:
__________
[ (1) ] الحديد: 7.
[ (2) ] البقرة: 208.
[ (3) ] التغابن: 12.
[ (4) ] النور: 56.
[ (5) ] آل عمران: 200.
[ (6) ] آل عمران: 175.
[ (7) ] آل عمران: 103.
[ (8) ] الإسراء: 34.
[ (9) ] النساء: 5.
[ (10) ] الجمعة: 9.(11/9)
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ (1) ] إلى قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [ (2) ] إلى قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا [ (3) ] وقوله تعالى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [ (4) ] وقوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
[ (5) ] وقوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
[ (6) ] وقوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [ (7) ] وهذا في القرآن كثير جدا.
وإذا كانت أوامر اللَّه تعالى ورسوله على التكرار، حيث وردت إلا في النادر، علم أن هذا عرف خطاب اللَّه ورسوله للأمة، والأمر إن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا فور، وكان قد عرف في خطاب الشارع التكرار، فلا يحمل كلامه إلا على عرفه، والمألوف من خطابه وإن لم يكن ذلك مفهوما من أصل الوضع في اللغة، وهذا كما قلنا: إن الأمر يقتضي الوجوب، والنهى يقتضي الفساد، فإن هذا معلوم من خطاب الشارع التكرار، فلا يحمل كلامه وإن كان لا يفرض لصحة المنهي عنه ولا فساده في أصل موضوع اللغة، وكذا خطاب الشارع بالواحد من الأمة يقتضي معرفة الخاص أن يكون متناولا له ولأمثاله، وإن كان موضوع اللفظ لغة لا يقتضي ذلك فإن هذه لغة صاحب الشرع، وعرفه في مصادر كلامه وموارده، وهذا معلوم بالاضطرار من دينه قبل أن يتعلم صحة القياس، واعتباره، وشروطه، وهذا
__________
[ (1) ] المائدة: 6.
[ (2) ] المائدة: 6.
[ (3) ] المائدة: 6.
[ (4) ] البقرة: 45.
[ (5) ] الأنعام: 152.
[ (6) ] الأنعام: 152.
[ (7) ] الأنعام: 152.(11/10)
الفرق بين اقتضاء اللفظ وعدم اقتضائه لغة، وبين اقتضائه في عرف الشرع وعادة خطابه.
ومعلوم أن مقابلة مثل هذا النفع العظيم لا تحصل بالصلاة مرة واحدة في العمر، بل لو صلّى العبد عليه بعدد أنفاسه لم يكن موفيا لحقه، ولا مؤديا لنعمته، فجعل جزاء هذه النعمة الصلاة عليه عند ذكر اسمه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولهذا أشار صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ذلك بتسمية من لم يصل عليه عند ذكر اسمه بخيلا، لأن من أحسن إلى العبد الإحسان العظيم، وحصل له منه الخير الجسيم، ثم يذكر عنده فلا يثنى عليه، ولا يبالغ في حمده، ومدحه، ويبدئ ذلك ويعيده، ويعتذر من التقصير في القيام بشكره، وواجب حقه، عده الناس بخيلا، لئيما، كفورا، فكيف بمن أو في إحسانه إلى العبد يزيد على إحسان المخلوقين بعضهم لبعض، الّذي بإحسانه حصل للعبد خير الدنيا والآخرة، ونجى من شر الدنيا والآخرة، والّذي لا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلا عن أن يقوم بشكره؟.
أليس هذا المنعم المحسن أحق بأن يعظم ويثنى عليه، ويتفرغ الوسع في حمده ومدحه، إذا ذكر بين الملأ فلا أقل من أن يصلي عليه مرة إذا ذكر اسمه، ولهذا دعي عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برغم الأنف، وهو أن يلصق أنفه بالتراب.
وأيضا فإن اللَّه تعالى: نهى الأمة أن تجعل دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضا بل تدعوه: يا رسول اللَّه، يا نبي اللَّه، وهذا من تمام تعزيره وتوقيره، فلهذا ينبغي أن يخص باقتران اسمه بالصلاة عليه، ليكون ذلك فرقا بينه وبين ذكر غيره، كما كان الأمر به، دعاءه بالرسول، والنبي، فرقا بينه وبين خطاب غيره، فلو كان عند ذكره لا يجب الصلاة عليه لكان ذكره كذكر غيره في ذلك، هذا على أحد التفسيرين في الآية.
وأما التفسير الآخر وهو أن المعنى لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (1) ] فتؤخروا الإجابة بالأعذار والعلل التي يؤخر بعضكم عن إجابة بعض بها، لكن بادروا إليه إذا دعاكم بسرعة الإجابة حتى لم يجعل اشتغالهم بالصلاة عذرا لهم في التخلف عن إجابته، والمبادرة إلى طاعته، فإذا
__________
[ (1) ] النور: 63.(11/11)
لم تكن الصلاة التي فيها شغل يستباح به إجابته فكيف ما دونها من الأسباب والأعذار؟ فعلى هذا يكون المصدر مضافا إلى الفاعل، وعلى القول الأول يكون مضافا إلى المفعول، وقد يقال: إن المصدر هنا لم يضف إلى الفاعل ولا المفعول، وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضا، وعلى هذا فيعم الأمرين معا، ويكون النهى عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضا، عن تأخير إجابته، وعلى كل تقدير فكما أمر اللَّه سبحانه بأن يميز عن غيره في خطابه ودعائه إياهم، قياما للأمة بما يجب عليهم من تعظيمه وإجلاله، فتمييزه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصلاة عليه عند ذكر اسمه من تمام هذا المقصود
وقد أخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم أن من ذكر عنده فلم يصل عليه خطئ طريق الجنة،
فلولا أن الصلاة عليه واجبة عند ذكره، فلم يكن تاركها مخطئا لطريق الجنة، فمن ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عنده فلم يصل عليه فقد جفاه ولا يجوز لمسلم جفاؤه.
والدليل على المقدمة الأولى:
حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، يرفعه: من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي عليّ
وهذا وإن كان مرسلا لا يحتج به، فله شواهد.
والدليل على المقدمة الثانية:
أن جفاءه مناف لكمال حبه، وتقديم محبته على النفس، والأهل، والمال، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإن العبد لا يؤمن حتى يكون الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أحب إليه من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين كما تقدم، فإن المحبة ثلاثة أنواع:
* إما محبة إجلال وتعظيم، كمحبة الوالدين.
* وإما محبة تحنن وبر ولطف، كمحبة الولد.
* وإما محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال، كمحبة الناس بعضهم بعضا.
ولا يؤمن العبد حتى يكون حب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد من هذه المحبات الثلاثة، ومعلوم أن حقا ثانيا في ذلك، فلما كانت محبته صلّى اللَّه عليه وسلّم فرضا وكانت توابعها من الإجلال، والتعظيم، والتوقير، والطاعة، والتقديم على النفس وإيثاره بنفسه بحيث بقي نفسه بنفسه فرضا، كانت الصلاة عليه من لوازم هذه(11/12)
المحبة وتمامها، وإذا ثبت لهذه الوجوه وغيرها وجوب الصلاة على من ذكر عنده، فوجوبها على الذاكر أولى.
ونظير هذا أن السامع آية السجدة إذا أمر بالسجود إما وجوبا واستحبابا على القولين فوجوبها على التالي أولى،
واحتج نفاة الوجوب بوجوه:
أحدها:
أنه من المعلوم الّذي لا ريب فيه أن السلف الصالح الذين هم القدوة لم يكن أحدهم كلما ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرن الصلاة عليه باسمه، وهذا في خطابهم للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر من أن يذكر، فإنّهم كانوا يقولون: يا رسول اللَّه، مقتصرين على ذلك، وربما كان يقول أحدهم: صلى اللَّه عليك، وهذا في الأحاديث ظاهر كثير، فلو كانت الصلاة عليه واجبة عند ذكره لأنكر عليه تركها.
الثاني:
أن الصلاة عليه لو كانت واجبة كما ذكر لكان هذا من أظهر الواجبات، ولبينه لأمته بيانا يقطع العذر وتقوم به الحجة.
الثالث:
أنه لا يعرف عند أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم هذا القول، ولا يعرف أحد منهم قال به، وأكثر الفقهاء حكى الإجماع على أن الصلاة عليه ليست من فروض الصلاة، وقد نسب القائل بوجوبها إلى الشذوذ، ومخالفة الإجماع، فكيف خارج الصلاة؟.
الرابع:
لو وجبت الصلاة عليه عند ذكره دائما لوجب على المؤذن أن يقول: أشهد أن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا يشرع له في الأذان فضلا عن أن تجب عليه.
الخامس:
أنه كان يجب على من سمع النداء ويجيبه أن يصلي عليه، وقد أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نقول كما يقول المؤذن، وهذا دليل على جواز اقتصاره على قوله: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه، هذا هو مثل ما قال المؤذن.
السادس:
أن التشهد الأول ينتهى عند قوله: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اتفاقا، واختلف هل يشرع أن يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى آله في التشهد الأخير أم لا؟ على ثلاثة أقوال: قيل: لا يشرع الصلاة عليه خاصة دون آله، ولم يقل أحد بوجوبها في التشهد الأول عند ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.(11/13)
السابع:
أن المسلم إذا دخل في الإسلام بتلفظه بالشهادتين لم يحتج أن يقول: أشهد أن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
الثامن:
أن الخطيب في الجمع والأعياد ونحوها، لا يحتاج أن يصلي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفس التشهد، ولو كانت الصلاة واجبة عليه عند ذكره لوجب عليه أن يقرنها بالشهادة، فلا يقال: تكفي الصلاة عليه في الخطبة، فإن تلك الصلاة لا تنعطف على ذكر اسمه عند التشهد، ولا سيما مع طول الفصل، والموجبون يقولون: تجب الصلاة كلما ذكر، ومعلوم أن ذكره ثانيا غير ذكره أولا.
التاسع:
أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر على القارئ كلما مرّ بذكر اسمه، يصلي عليه ويقطع بذلك قراءته ليؤدي هذا الواجب، وسواء كان في الصلاة أو خارجها فإن الصلاة عليه لا تبطل الصلاة وهي واجبة، قد تعين فوجب أداؤه، وترك إهماله.
العاشر:
لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب الثناء على اللَّه تعالى كلما ذكر اسمه، وكان يجب على من ذكر اسم اللَّه أن يقرنه بأن يقول: سبحانه وتعالى، أو عز وجل، أو تبارك وتعالى، أو جلت عظمته، أو تعالى جدّه، ونحو ذلك، بل كان ذلك أولى مما روى، فإن تعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وإجلاله، ومحبته، وطاعته تابع لتعظيم مرسلة سبحانه وإجلاله، ومحبته، وطاعته، فمحال أن تثبت المحبة والطاعة، والتعظيم والإجلال، للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم دون مرسلة، بل إنما يثبت له تبعا لمحبة اللَّه تبارك وتعالى، وتعظيمه، وإجلاله، ولهذا كانت طاعة ومتابعة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم متابعة للَّه تبارك وتعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ (1) ] ومحبته محبة للَّه تعالى.
قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ (2) ] وتعظيمه تعظيما للَّه، ونصرته نصرة للَّه، فإنه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وعبده الداعي إليه، وإلى طاعته، ومحبته، وإجلاله، وتعظيمه، وحده لا شريك له. فكيف يقال:
__________
[ (1) ] الفتح: 10.
[ (2) ] آل عمران: 31.(11/14)
تجب الصلاة كلما ذكر اسمه وهي ثناء وتعظيم، ولا يجب الثناء والتعظيم للخالق سبحانه وتعالى كلما ذكر اسمه؟ هذا محال من القول.
الحادي عشر:
أنه لو جلس إنسان ليس له هجير إلا قوله: محمد رسول اللَّه، أو اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد، وبشر كثير يسمعونه، فإن قلتم: يجب على كل من أولئك السامعين أن يكون هجيرا للصلاة عليه ولو طال المجلس ما طال، كان ذلك حرجا ومشقة، وتركا لقراءة قارئهم، ودراسة دارسهم وكلام صاحب الحاجة منهم، وهذا كونه في العلم وتعلمه القرآن وغير ذلك. وإن قلتم: لا تجب عليهم الصلاة في هذه الحالة نقضتم مذهبكم، وإن قلتم: تجب عليه مرة أو أكثر كان تحكما بلا دليل مع أنه مبطل لقولهم.
الثاني عشر:
أن الشهادة له صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة فرض واجب من الصلاة عليه بلا ريب، ومعلوم أنه لا يدخل أحد في الإسلام إلا بها ولا تجب كلما ذكر اسمه فكيف تجب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه؟ وليس من الواجبات بعد كلمة الإخلاص إفراد الشهادة له بالرسالة فمتى أقر له بوجوبها عند ذكر اسمه تذكر العبد الإيمان، وموجبات هذه الشهادة، فكان يجب على من ذكر اسمه أن يقول:
محمد رسول اللَّه، ووجوب ذلك أظهر بكثير من موجب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، فهذه حجج الفريقين، ولكل فرقة منها أجوبة عن حجج الفرقة المنازعة لها، بعضها ضعيف جدا، وبعضها محتمل، وبعضها قوى، والفاضل لا يخفى عليه ذلك عند تأمل حجج الفريقين، وبالجملة فأدلة الوجوب أقوى وأظهر.(11/15)
الثانية والثمانون من خصائصه صلّى اللَّه عليه وسلّم: في كيفية الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أنه قد أوردت أحاديث الصلاة على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم اثنان وأربعون من الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- وهم: أبو مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري، وكعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن الحارث السوداوي حليف الأنصار، وأبو حميد الساعدي واسمه المنذر وقيل:
عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة، وأبو سعيد الخدريّ واسمه سعد بن مالك بن سنان، وطلحة بن عبيد اللَّه، وزيد بن خارجة ويقال: ابن حارثة، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وبريدة بن الحصيب، وسهل بن سعد الساعدي، وعبد اللَّه بن مسعود، وفضالة ابن عبيد، وأبو طلحة الأنصاري واسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، وأنس بن مالك وعمر بن الخطاب، وعامر بن ربيعة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وأوس بن أوس، والحسن والحسين ابنا على بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء، والبراء بن عازب، ورويفع بن ثابت الأنصاري، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو رافع بن ثابت الأنصاري، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعبد اللَّه بن أوفى، وأبو أمامه الباهلي واسمه صدى ابن عجلان، وعبد الرحمن بن بشير بن مسعود، وأبو بردة بن دينار واسمه هاني، وقيل: الحارث، وعمار بن ياسر، وجابر بن سمرة، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، واسمه سعد، ومالك بن الحويرث، وعبد اللَّه بن جزء الزبيدي، وعبد اللَّه بن عباس، وأبو ذر الغفاريّ، واسمه جندب بن جنادة، وقيل: غير ذلك، وواثلة بن الأسقع، وأبو بكر الصديق، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وسعيد بن عمير الأنصاري، وهو من البدريين، وحبان بن منقذ.(11/16)
فأما حديث أبي مسعود [ (1) ]- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
فحديث صحيح خرجه النسائي [ (2) ] عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم عن مالك.
وخرجه الترمذي [ (3) ] عن إسحاق بن موسى، عن معن عن مالك.
وخرجه مسلم [ (4) ] من حديث يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نعيم بن عبد اللَّه المجمر أن زيد بن عبد اللَّه الأنصاري، وعبد اللَّه بن زيد،
__________
[ (1) ] هو أبو مسعود الأنصاري الزرقيّ، روى عن علي بن أبي طالب، وعنه نافع بن جبير بن مطعم، والصواب مسعود بن الحكم. (تهذيب التهذيب) : 12/ 255، ترجمة رقم (1060) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 3/ 52- 53، كتاب السهو، باب (49) ، الأمر بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1284) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 334- 335، كتاب تفسير القرآن، باب (34) ومن سورة الأحزاب، حديث رقم (3220) قال: وفي الباب عن علي، وأبي حميد، وكعب بن عجرة، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأبي سعيد، وزيد بن خارجة- ويقال: حارثة- وبريدة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 366- 367، كتاب الصلاة، باب (17) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (405) ، قال الإمام النووي: اعلم أن العلماء اختلفوا في وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عقب التشهد الأخير في الصلاة فذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما اللَّه تعالى والجمهور إلى أنها سنة لو تركت صحت الصلاة، وذهب الشافعيّ وأحمد رحمهما اللَّه تعالى إلى أنها واجبة لو تركت لم تصح الصلاة، وهو مروى عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما، وهو قول الشعبي، وقد نسب جماعة للشافعيّ رحمه اللَّه تعالى في هذا إلى مخالفة الإجماع ولا يصح قوله فإنه مذهب الشعبي كما ذكرنا، وقد رواه عن البيهقي، وفي الاستدلال لوجوبها خفاء، وأصحابنا يحتجون
بحديث أبي مسعود الأنصاري- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- المذكور، هنا أنهم قالوا: كيف نصلي عليك يا رسول اللَّه؟ فقال: -(11/17)
__________
[ () ] قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد إلى آخره،
قالوا: والأمر للوجوب، وهذا القدر لا يظهر الاستدلال به إلا إذا ضم إليه الرواية الأخرى،
كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد إلى آخره وهذه الزيادة صحيحة. رواها الإمامان الحافظان أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء البستي، والحاكم أبو عبد اللَّه في صحيحيهما،
وقال الحاكم: هي زيادة صحيحة، واحتج لها أبو حاتم وأبو عبد اللَّه في صحيحيهما بما روياه
عن فضالة بن عبيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى رجلا يصلي لم يحمد اللَّه، ولم يمجده، ولم يصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عجل هذا، ثم دعاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد ربه والثناء عليه وليصل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وليدع ما يشاء.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وهذان الحديثان وإن اشتملا على ما لا يجب بالإجماع كالصلاة على الآل والذرية والدعاء فلا يمتنع الاحتجاج بهما فإن الأمر للوجوب فإذا خرج بعض ما يتناوله الأمر عن الوجوب بدليل، بقي الباقي على الوجوب. واللَّه تعالى أعلم.
والواجب عند أصحابنا: اللَّهمّ صلّ على محمد، وما زاد عليه سنة، ولنا وجه شاذ أنه يجب الصلاة على الآل وليس بشيء، واللَّه تعالى أعلم.
واختلف العلماء في آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أقوال: أظهرها وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين، أنهم جميع الأمة، والثاني: بنو هاشم، وبنو المطلب، والثالث: أهل بيته صلّى اللَّه عليه وسلّم وذريته واللَّه تعالى أعلم.
قوله (أمرنا اللَّه تعالى أن نصلي عليك يا رسول اللَّه فكيف نصلي عليك) معناه أمرنا اللَّه تعالى بقوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً فكيف نلفظ بالصلاة؟ وفي هذا أن من أمر بشيء لا يفهم مراده يسأل عنه ليعلم ما يأتى به، قال القاضي: ويحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة ويحتمل أن يكون في الصلاة، قال: وهو الأظهر، قلت: وهذا ظاهر اختيار مسلم وبهذا ذكر هذا الحديث في هذا الموضوع. قوله: (فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله) معناه كرهنا سؤاله مخافة من أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كره سؤاله وشق عليه.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (والسلام كما علمتم)
معناه قد أمركم اللَّه تعالى بالصلاة والسلام على، فأما الصلاة فهذه صفاتها، وأما السلام فكما علمتم في التشهد، وهو قوله: السلام(11/18)
هو الّذي كان أرى النداء بالصلاة، أخرجه عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: أتانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد، أمرنا اللَّه أن نصلي عليك يا رسول اللَّه فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم.
ترجم عليه النسائي باب الأمر بالصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال الترمذي:
هذا حديث حسن صحيح، وخرجه أبو داود [ (1) ] عن القعنبي، عن مالك.
وخرجه الإمام أحمد [ (2) ] بزيادة عن طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد فقال: حدثنا أبو السحيم عبد ربه الأنصاريّ عن أبي مسعود قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن عنده فقال: يا رسول اللَّه أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نحن نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلّى اللَّه عليك؟ قال: فصمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال:
__________
[ () ] عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، وقوله: علمتم هو بفتح العين وكسر اللام المخففة، ومنهم من رواه بضم العين وتشديد اللام أي علمتكموه، وكلاهما صحيح.
وقوله: (من صلّى على واحدة صلّى اللَّه عليه عشرا) ،
قال القاضي: معناه رحمته وتضعيف أجره، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال: وقد يكون الصلاة على وجهها وظاهرها تشريفا له بين الملائكة كما
في الحديث «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» .
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 1/ 600، كتاب الصلاة، باب (183) ، الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (980) ، فذكر معنى حديث كعب بن عجرة وزاد في آخره: في العالمين إنك حميد مجيد. ونعيم: بزنة التصغير، والمجمر: بضم الميم الأولى وسكون الجيم وكسر الميم. لقب بذلك لأنه كان يجمر مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 97، حديث رقم (16624) من حديث أبي مسعود الأنصاريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(11/19)
إذا أنتم صليتم عليّ فقولوا: اللَّهمّ صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك [ (1) ] .
ورواه ابن خزيمة والحاكم [ (2) ] .
قال الحاكم فيه: على شرط مسلم واعترض عليه بأن في هذا نوع تساهل، فإن مسلم لم يحتج بابن إسحاق في الأصول، وإنما خرّج له في المتابعات، وقد أحلت له هذه الزيادة بتفرد ابن إسحاق بها، ومخالفة سائر الرواة له في تركهم ذكرها.
وأجيب عن ذلك بأن ابن إسحاق لم يخرّج بما يوجب ترك الاحتجاج به، وقد وثقه كبار الأمة، وأثنوا عليه بالحفظ والعدالة، وهما ركنا الرواية، ومع ذلك فإنما يخاف من تدليسه، وقد صرح هنا بسماعة الحديث من محمد بن إبراهيم التيمي فزالت تهمة تدليسه، وقد قال الدارقطنيّ في هذا الحديث- وقد خرجه في (السنن) [ (3) ] من هذا الوجه-: وهذا إسناد حسن متصل، وقال في كتاب (العلل) : يرويه محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد عن أبي مسعود، حدث به عنه كذلك القعنبي ومعن وأصحاب (الموطأ) .
[يعنى أصحاب مالك] [ (4) ] .
ورواه حماد بن مسعود عن مالك عن نعيم فقال: عن محمد بن زيد عن أبيه ووهم فيه، ورواه داود بن قيس الفراء عن نعيم عن أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، خالف فيه مالك، وحديث مالك أولى بالصواب. انتهى.
__________
[ (1) ] هذا آخر الحديث في (المسند) ، وتمامه من (المسند) : على محمد النبي الأمي، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
[ (2) ] (المستدرك) : 1/ 401، كتاب الصلاة، حديث رقم (988) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، فذكر الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلوات. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
[ (3) ] (سنن الدارقطنيّ) : 1/ 354- 355، كتاب الصلاة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد، واختلاف الروايات في ذلك.
[ (4) ] زيادة للبيان.(11/20)
وقد اختلف على ابن إسحاق في هذه الزيادة فذكرها إسماعيل بن سعد كما تقدم، ورواه زهير بن معاوية عن ابن إسحاق بدون ذكر الزيادة، كذلك قال عبد بن حميد في (مسندة) : عن أحمد بن يونس والطبراني في (معجمه) عن ابن عباس بن الفضل عن أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية. واللَّه تعالى أعلم.(11/21)
وأما حديث كعب بن عجرة [ (1) ]
فقد رواه أهل الصحيح وأصحاب السنن والمسانيد من حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى عنه، وهو حديث لا مغمز فيه، فخرجه البخاري في كتاب الأنبياء في باب وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا من طريق عبد اللَّه بن عيسى، سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدى لك هدية سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلت: بلى، فاهدها لي قال: فقال: سألنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: يا رسول اللَّه، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن اللَّه قد علمنا كيف نسلم قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد. اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وخرّج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من طريق شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى يقول: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ خرج
__________
[ (1) ] هو كعب بن عجرة الأنصاري المدني أبو محمد، وقيل أبو عبد اللَّه، وقيل: أبو إسحاق، من بنى سالم بن عوف، وقيل: من بنى سالم بن بلى حليف بنى الخزرج وقيل في نسبه غير ذلك.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن عمر بن الخطاب وبلال. روى عنه بنوه إسحاق والربيع ومحمد وعبد الملك، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس وجابر وعبد اللَّه بن معقل بن مقرن المزني وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو وائل ومحمد بن سيرين وأبو عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود وطارق بن شهاب ومحمد بن كعب القرظي وأبو ثمامة الحناط وسعيد المقبري، وقيل: بينهما رجل وإبراهيم وليس بالنخعى، وعاصم العدوي وموسى بن وردان وغيرهما.
قال الواقدي: كان استأخر إسلامه ثم أسلم وشهد المشاهد وهو الّذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية. قال خليفة: مات سنة إحدى وخمسين، وقال الواقدي وآخرون: مات سنة (52) قال بعضهم: وهو ابن خمس وقيل: سبع وسبعين سنة. (تهذيب التهذيب) : 8/ 390- 391، ترجمة رقم (790) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 503، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) بدون ترجمة، حديث رقم (3370) ، (المرجع السابق) : 8/ 682، كتاب التفسير سورة (32) سورة الأحزاب باب (10)(11/22)
__________
[ () ] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، قال أبو العالية: صلاة اللَّه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، قال ابن عباس: يصلون يبركون. لنغرينك: لنسلطنك، حديث رقم (4797) ، (المرجع السابق) : 11/ 183، كتاب الدعوات باب (32) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (6357) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 367، كتاب الصلاة، باب (17) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (66) . قال الإمام النووي:
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: (قولوا اللَّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم)
قال العلماء: معنى البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: هو بمعنى التطهير والتزكية، واختلف العلماء في الحكمة في قوله: اللَّهمّ صلّ على محمد كما صليت على إبراهيم، مع أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل من إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم قال القاضي عياض- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أظهر الأقوال أن نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم سأل ذلك بنفسه ولأهل بيته ليتم النعمة عليهم كما أتمها على إبراهيم وعلى آله، وقيل: بل سأل ذلك لأمته، وقيل بل ليبقى ذلك له دائما إلى يوم القيامة ويجعل له به لسان صدق في الآخرين كإبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقيل كان: ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: سأل صلاة يتخذه بها خليلا كما اتخذ إبراهيم. هذا كلام القاضي، والمختار في ذلك أحد ثلاثة أقوال:
أحدها: حكاه بعض أصحابنا عن الشافعيّ رحمه اللَّه تعالى أن معناه صل على محمد، وتم الكلام هنا، ثم استأنف وعلى آل محمد أي وصل على آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، فالمسئول له مثل إبراهيم وآله هم آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لا نفسه.
القول الثاني: معناه: اجعل لمحمد وآله صلاة منك كما جعلتها لإبراهيم وآله فالمسئول المشاركة في أصل الصلاة لا قدرها.
القول الثالث: أنه على ظاهره، والمراد: اجعل لمحمد وآله صلاة بمقدار الصلاة التي لإبراهيم وآله والمسئول مقابلة الجملة، فإن المختار في الآل كما قدمناه أنهم جميع الأتباع، ويدخل في آل إبراهيم خلائق لا يحصون من الأنبياء، ولا يدخل في آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي، فطلب إلحاق هذه الجملة التي فيها نبي واحد بتلك الجملة التي فيها من الأنبياء. واللَّه تعالى أعلم.(11/23)
__________
[ () ] قال القاضي عياض: ولم يجئ في هذه الأحاديث ذكر الرحمة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد وقع في بعض الأحاديث الغريبة قال: واختلف شيوخنا في جواز الدعاء للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرحمة فذهب بعضهم وهو اختيار أبي عمر بن عبد البر إلى أنه لا يقال، وأجازه غيره وهو مذهب أبي محمد ابن أبي زيد وحجة الأكثرين تعليم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة عليه وليس فيها ذكر الرحمة والمختار أنه لا يذكر الرحمة وقوله: وبارك على محمد وعلى آل محمد، قيل: البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة وقيل الثبات على ذلك من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، ومنه بركة الماء وقيل: التزكية والتطهير من العيوب كلها.
وقوله: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد احتج به من أجاز الصلاة على غير الأنبياء وهذا مما اختلف العلماء فيه، فقال مالك والشافعيّ رحمهما اللَّه تعالى والأكثرون: لا يصلي على غير الأنبياء استقلالا فلا يقال: اللَّهمّ صل على أبي بكر أو عمر أو علي أو غيرهم ولكن يصلي عليهم تبعا فيقال: اللَّهمّ صل على محمد وآل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته، كما جاءت به الأحاديث، وقال أحمد وجماعة: يصلي على كل واحد من المؤمنين مستقلا، واحتجوا بأحاديث الباب
وبقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ صل على آل أبي أوفى،
وكان إذا أتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم، قالوا: وهو موافق لقول اللَّه تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ واحتج الأكثرون بأن هذا النوع مأخوذ من التوقيف واستعمال السلف ولم ينقل استعمالهم ذلك بل خصوا به الأنبياء كما خصوا اللَّه تعالى بالتقديس والتسبيح فيقال: قال اللَّه سبحانه وتعالى، وقال عز وجل، وقد جلت عظمته، وتقدست أسماؤه، وتبارك وتعالى، ونحو ذلك ولا يقال قال النبي: عز وجل وإن كان عزيزا جليلا ولا نحو ذلك. وأجابوا عن قول اللَّه عز وجل هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ومن الأحاديث بأن ما كان من اللَّه عز وجل ورسوله فهو دعاء وترحم وليس فيه معنى التعظيم والتوقير الّذي يكون من غيرهما.
وأما الصلاة على الآل والأزواج والذرية فإنما جاء على التبع لا على الاستقلال وقد بينا أنه يقال تبعا لأن التابع يحتمل فيه ما لا يحتمل استقلالا واختلف أصحابنا في الصلاة على غير الأنبياء، هل يقال هو مكروه أو هو مجرد ترك أدب؟ والصحيح المشهور أنه مكروه كراهة تنزيه، قال الشيخ أبو محمد الجويني، والسلام في معنى الصلاة فإن اللَّه تعالى قرن بينهما فلا يفرد به غائب غير الأنبياء فلا يقال أبو بكر وعمر وعلى عليهم السلام وإنما يقال ذلك خطابا للأحياء والأموات فيقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه. واللَّه تعالى أعلم.(11/24)
علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: يا رسول اللَّه عرّفنا كيف نسلم عليك؟ قال: قولوا:
اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
ذكره البخاري في كتاب الدعاء في باب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وخرجه من طريق شعبة عن الحكم بهذا الإسناد مثله وليس في حديث مسعر: ألا أهدي لك هدية.
وخرجه أيضا عن الأعمش وعن مسعر، وعن مالك بن مغول كلهم عن الحكم بهذا الإسناد مثله غير أنه قال: وبارك على محمد ولم يقل: اللَّهمّ.
وخرجه البخاري [ (1) ] في كتاب التفسير من طريق مسعر عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قيل: يا رسول اللَّه أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ فقال: قولوا: اللَّهمّ صل ... مثل حديث شعبة سواء
وقال: على إثر هذا الحديث: وخرّج الفرياني حديث كعب بن عجرة رواه، عن سيفان الثوري عن الأعمش عن الحكم بن عيينة بنحو ما تقدم بعده وقيل لسفيان: كيف لم يقل: على إبراهيم وآل إبراهيم فقال: ألم تسمع إلى قوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [ (2) ] وفرعون معهم.
وخرجه أبو داود [ (3) ] من حديث شعبة عن الحكم بن أبي ليلى، عن كعب ابن عجرة قال: قلنا: أو قالوا: يا رسول اللَّه أمرنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك فأما السلام فقد عرفناه فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 682، كتاب التفسير [سورة الأحزاب] ، باب (10) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، حديث رقم (4797) .
[ (2) ] غافر: 46.
[ (3) ] (سنن أبي داود) : 1/ 598، كتاب الصلاة، باب (183) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (976) .(11/25)
وخرجه أيضا من حديث شعبة بهذا الحديث، قال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على [آل] إبراهيم إنك حميد مجيد [ (1) ] .
ومن حديث الحسن بن محمد الزعفرانيّ قال: حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش ومسعر ومالك، عن الحكم بن عيينة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن أبي عجرة قال: لما نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (2) ] قلنا: يا رسول اللَّه كيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد [ (3) ] .
وقال ابن عبد البر: وقال شعبة والثوري عن الحكم عن عبد الرحمن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة؟ فقال: قل: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
هذا لفظ حديث الثوري، وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند ويبين معنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] الأحزاب: 56.
[ (3) ] سبق تخريجه.(11/26)
فبين لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام عليه [ (1) ] . وهو
قوله في التحيات: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين،
وهذا معنى
قوله في حديث مالك والسلام كما قد علمتم.
ويشهد لذلك قول عبد اللَّه بن عباس وابن عمر وابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، وهو أيضا معنى حديث كعب بن عجرة المذكور عند نزول الآية وقد قيل: إن السلام في هذه الأحاديث أريد به السلام من الصلاة، والقول الأول أكثر.
__________
[ (1) ] قال الشافعيّ وابن راهويه: ومن قال بوجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة فقوله:
«أمرتنا أن نصلي عليك» يدل على وجوبه، لأن أمره لازم، وطاعته واجبة، وقوله لا يجوز تركه.
قالوا: وقد أمر اللَّه تعالى بالصلاة عليه فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً فكان ذلك منصرفا إلى الصلاة، لأنه إن صرف إلى غيرها كان ندبا، وإن صرف إليها كان فرضا، إذ لا خلاف أن الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم غير واجبة في غير الصلاة، فدل على وجوبها في الصلاة.
واختلفوا في التشهد، هل هو واجب أم لا؟ فروى عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: من لم يتشهد فلا صلاة له. وبه قال الحسن البصري، وإليه ذهب الشافعيّ، ومذهب مالك قريب منه.
وقال الزهري وقتادة وحماد: إن ترك التشهد حتى انصرف مضت صلاته، وقال أصحاب الرأى: التشهد والصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستحب غير واجب، والقعود قدر التشهد واجب. (معالم السنن) : 1/ 598، تعليقا على الحديث رقم (976) ، باب (183) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، من كتاب الصلاة.(11/27)
وأما حديث أبي حميد الساعديّ
[ (1) ]
فخرجه البخاريّ [ (2) ] ومسلم [ (3) ] وأبو داود [ (4) ] والنسائيّ [ (5) ] . فخرجه البخاريّ من طريق عبد اللَّه بن يوسف.
__________
[ (1) ] هو أبو حميد الساعديّ الصحابيّ المشهور، اسمه عبد الرحمن بن سعد، ويقال: عبد الرحمن ابن عمرو بن سعد، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: اسم جده مالك، وقيل هو عمرو بن سعد بن المنذر بن سعد بن خالد بن ثعلبة بن عمرو، ويقال: إنه عم سهل بن سعد.
روى عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عدة أحاديث، وله ذكر معه في الصحيحين. روى عنه ولده سعيد بن المنذر بن أبي حميد، وجابر الصحابي، وعباس بن سهل بن سعد، وعبد الملك بن سعيد بن سويد، وعمرو بن سليم، وعروة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم.
قال خليفة وابن سعد وغيرهما: شهد أحدا وما بعدها، وقال الواقديّ: توفي في آخر خلافة معاوية، أو أول خلافة يزيد بن معاوية. (الإصابة) : 7/ 94- 95، ترجمة رقم (9787) . (الاستيعاب) : 4/ 1633، ترجمة رقم (2921) ، (تهذيب التهذيب) :
12/ 85- 86، ترجمة رقم (339) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 202- 203، كتاب الدعوات، باب (33) هل يصلي على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ حديث رقم (6360) قوله (باب هل يصلي على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ أي استقلالا أو تبعا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون، فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث:
أحدها:
حديث عليّ في الدعاء بحفظ القرآن ففيه «وصل عليّ وعلى سائر النبيين» أخرجه الترمذي والحاكم،
وحديث بريدة رفعه «لا تتركن في التشهد الصلاة على وعلى أنبياء اللَّه» الحديث أخرجه البيهقي بسند واه،
وحديث أبي هريرة رفعه «صلوا على أنبياء اللَّه» الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف،
وحديث ابن عباس رفعه «إذا صليتم على فصلوا على أنبياء اللَّه، فإن اللَّه بعثهم كما بعثني.» أخرجه الطبراني ورويناه في (فوائد العيسوي)
وسنده ضعيف أيضا، وقد ثبت عن على بن عباس اختصاص ذلك بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال «ما أعلم الصلاة تتبغى على(11/28)
__________
[ () ] أحد من أحد إلا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهذا سند، وحكى القول عن مالك وقال: ما تعبدنا به. وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره.
وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخ مذهب مالك: لا يجوز أن نصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به، وخالفه يحيى بن يحيى فقال: واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة لا يمنع إلا بنص أو إجماع.
قال عياض: والّذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا: يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعنى استقلالا لم تكن من الأمر بالمعروف، وإنما أحدثت في دولة بني هاشم، وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصّا وإنما يؤخذ ذلك من الّذي قبله إن ثبت، لأن اللَّه تعالى سماهم رسلا، وأما المؤمنون فاختلف فيه، فقيل: لا تجوز إلا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، وحكى عن مالك كما تقدم، وقالت طائفة: لا تجوز مطلقا استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص أو ألحق به قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ولأنه لما علمهم السلام قال: «السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين» ولما علمهم الصلاة قصر عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في (المعجم) وأبو المعالي من الحنابلة، وقد تقدم تقريره في تفسير سورة الأحزاب، واختيار ابن تيمية من المتأخرين. وقالت طائفة: تجوز مطلقا ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة، وقالت: تكره استقلالا لا تبعا وهي رواية عن أحمد.
وقال النووي: هو خلاف الأولى، وقالت طائفة: تجوز مطلقا، وهو مقتضى صنيع البخاري فإنه صدر بالآية وهو قول اللَّه تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ثم الحديث الدال على الجواز مطلقا وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا، فأما الأول وهو حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى فتقدم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله
عن قيس بن عبادة. «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رفع يديه وهو يقول: اللَّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» أخرجه أبو داود والنسائي
وسنده جيد.
وفي حديث جابر «أن امرأته قالت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: صل عليّ وعلى زوجي ففعل. أخرجه أحمد مطولا ومختصرا وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبراني، واحتجوا بقوله تعالى:(11/29)
__________
[ () ] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ
وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة مرفوعا «إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلّى اللَّه عليك وعلى جسدك»
وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من اللَّه ورسوله ولهما أن يخصا ما شاءا بما شاءا وليس ذلك لأحد غيرهما.
وقال البيهقي: يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم إلا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة.
وقال ابن القيم: المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجماع، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحاديث من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقول ذلك له وهو من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة.
(تنبيه) : اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل: يشرع مطلقا، وقيل بل تبعا، ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.
وأخرجه البخاري أيضا في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) بدون ترجمة، حديث رقم (3369) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 370، كتاب الصلاة، باب (17) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (69) قال الإمام النووي: احتج به من أجاز الصلاة على غير الأنبياء، وهذا مما اختلف العلماء فيه فقال مالك والشافعيّ، والأكثرون: لا يصلي على غير الأنبياء استقلالا، فلا يقال: اللَّهمّ صل على أبي بكر أو عمر، أو عليّ. أو غيرهما، ولكن يصلي عليهم تبعا، فيقال: اللَّهمّ صل على محمد وآل محمد وأصحابه وأزواجه، كما جاءت به الأحاديث.
وقال أحمد وجماعة: يصلي على كل واحد من المؤمنين مستقلا، واحتجوا بأحاديث الباب، وب
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ صل على أبي أوفى.
وأما الصلاة على الآل والأزواج والذرية، فإنما جاء على التبع، لا على الاستقلال (شرح النووي) .(11/30)
وخرجه أبو داود من طريق القعنبي عن روح، كلهم عن مالك بن سليم الزرقيّ قال: أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول اللَّه كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ولم يقل أبو داود: آل في الموضعين. ذكره البخاري في كتاب الأنبياء في آخر باب قول اللَّه تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وفي كتاب الدعاء، في باب هل يصلي على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟.
وخرجه ابن ماجة [ (1) ] من طريق عبد الملك بن الماجشون به، عن مالك به مثله.
__________
[ () ] (4) (سنن أبي داود) : 1/ 599- 600، كتاب الصلاة، باب (183) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (979) .
[ (5) ] (سنن النسائي) : 3/ 57، كتاب السهو، باب (54) نوع آخر من الصلاة على النبي، حديث رقم (1293) .
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 293، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (25) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (905) .(11/31)
وأما حديث أبي سعيد الخدريّ [ (1) ]
فخرّج البخاريّ [ (2) ] في كتاب التفسير من حديث الليث قال: حدثني ابن الهاد، عن عبد اللَّه بن خباب، عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قلنا: يا رسول اللَّه هذا التسليم فكيف نصلي عليك؟ قال:
قولوا: اللَّهمّ صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم.
حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا ابن أبي حازم والدراوَرْديّ عن يزيد يعني ابن الهاد قال: كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم هكذا ذكره في تفسير سورة الأحزاب.
وقال في كتاب الدعاء: حدثنا إبراهيم [ (3) ] بن حمزة حدثنا ابن أبي حازم والدراوَرْديّ عن يزيد عن عبد اللَّه بن خباب عن أبي سعيد الخدريّ قال: قلنا:
يا رسول اللَّه هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم.
__________
[ (1) ] هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبحر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، الأنصاري، الخزرجي، أبو سعيد الخدريّ، مشهور بكنيته، استصغر يوم أحد، واستشهد أبوه بها، وغزا هو ما بعدها.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الكثير، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت وغيرهم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 683، كتاب التفسير، باب (10) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، حديث رقم (4798) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 11/ 183، باب (32) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (6358) .(11/32)
وذكره في باب الصلاة على النبي [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم ورواه النسائي عن قتيبة، عن بكر بن نصر، عن ابن الهاد ورواه ابن ماجة [ (2) ] ، عن أبي بكر بن أبي بكر، عن ابن أبي شيبة عن خالد بن مخلد، عن عبد اللَّه بن جعفر عن ابن الهاد.
وأما حديث طلحة بن عبيد اللَّه [ (3) ]
خرجه الإمام أحمد [ (4) ] من حديث مجمع بن يحيى الأنصاري، قال:
حدثني عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه كيف الصلاة عليك قال: قل: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وخرجه النسائي من طريق شريك، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كيف نصلي عليك يا نبي اللَّه؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد [ (5) ] .
ومن طريق مجمع بن يحيى عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه كيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد [ (6) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 292، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (25) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (903) .
[ (3) ] هو طلحة بن عبيد اللَّه: 3/ 529- 523.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 1/ 263، حديث رقم (1399) ، من مسند أبي محمد طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (5) ] (سنن النسائي) : 3/ 55، كتاب السهو، باب (52) نوع آخر من الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1290) .
[ (6) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (1289) ، وقد انفرد به النسائي.(11/33)
وعثمان بن عبد اللَّه بن موهب أبو عبد اللَّه وأبو عمرو المدني الأعرج مولى آل طلحة يروي عن عمرو وأبي هريرة وأم سلمة وجابر بن سمرة وعبد اللَّه بن أبي قتادة وموسى بن طلحة ويروي عنه شعبة وشيبة وشريك وأبو عوانة وآخرون، وثقة أبو داود. وخرّج له البخاريّ ومسلم والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة [ (1) ] .
وأما حديث زيد بن خارجة [ (2) ]
فرواه الإمام أحمد [ (3) ] من حديث عيسى بن يونس، حدثنا عثمان بن حكيم حدثنا خالد بن سلمة أن عبد الرحمن دعا موسى بن طلحة حين عرس على ابنه عليّ فقال: يا أبا عيسى كيف بلغك في الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال موسى:
سألت زيد بن خارجة فقال: أنا سألت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف الصلاة عليك؟ فقال:
صلوا واجتهدوا، ثم قولوا: اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
__________
[ (1) ] هو عثمان بن عبد اللَّه بن موهب التيمي، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو عمرو المدنيّ الأعرج، مولى آل طلحة وقد ينسب إلى جده. روى عن ابن عمر.
[ (2) ] هو زيد بن خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، شهد أبوه أحدا وشهد هو بدرا.
وذكر البخاريّ وغيره أنه هو الّذي تكلم بعد الموت. وقال ابن السكن: تزوج أبو بكر أخته فولدت له أم كلثوم بعد وفاته.
وروى النسائيّ وأحمد، من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن موسى بن طلحة، عنه قال: سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف الصلاة عليك؟ قال: صلوا فاجتهدوا، ثم قولوا: اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد. الحديث. (الإصابة) : 2/ 603، ترجمة رقم (2896) ، (الاستيعاب) : 2/ 547- 549، ترجمة رقم (844) ، (تهذيب التهذيب) : 3/ 353- 354، ترجمة رقم (747) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 1/ 327، حديث رقم (1716) من حديث زيد بن خارجة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.(11/34)
ورواه النسائيّ، عن سعيد بن يحيى الأمويّ، عن عثمان به، ورواه إسماعيل ابن إسحاق في فضل الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف الصلاة عليك؟ عن عليّ بن عبد اللَّه حدثنا مروان بن معاوية حدثنا عثمان بن الحكيم، عن خالد بن سلمة، عن موسى، عن طلحة، أخبرني زيد بن حارثة بن الخزرج قال:
قلت: يا رسول اللَّه كيف نسلم عليك؟ فذكر نحوه.
قال الحافظ أبو عبد اللَّه بن مندة في كتاب (الصحابة) : روى عبد الواحد ابن زياد عن عثمان بن حكم عن خالد بن سلمة قال: سمعت موسى بن طلحة وسأله عبد الحميد كيف الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: سألت زيد بن خارجة الأنصاري فذكره.
وأما زيد بن حارثة هذا فهو زيد بن ثابت بن الضحاك بن حارث بن ثعلبة من بنى سلمة ويقال: ابن خارجة الخزرجيّ ذكره ابن مندة في (الصحابة) والصواب زيد بن خارجة وهو ابن أبي زهير الأنصاريّ الخزرجيّ، شهد بدرا وتوفي في خلافه عثمان، وهو الّذي تكلم بعد الموت، قاله أبو نعيم وابن مندة وابن عبد البر، وقيل: بل هو زيد بن حارثة والباقي أصح.(11/35)
وأما حديث علي بن أبي طالب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرّج النسائيّ من حديث عمرو بن عاصم، حدثنا حبان بن يسار الكلابيّ، عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعيّ، عن محمد بن علي، عن محمد ابن الحنفية عن عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من سره أن يكتال بالكيل الأوفى إذا صلّى علينا أهلّ البيت فليقل: اللَّهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على محمد النبيّ وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
وحبان بن يسار الكلابي البصريّ وثقة ابن حبان، وقال البخاري:
اختلط في آخر عمره، وقال أبو حاتم الرازيّ: ليس بالقوى ولا بالمتروك، وقال ابن عدي: حديثه فيه ما فيه لأجل الاختلاط الّذي ذكر عنه، ولهذا الحديث علة وهي أن موسى بن إسماعيل التبوذكي خالف عمرو بن عاصم فيه فرواه عن حبان بن يسار.
وحدثني أبو المطرف والخزاعيّ وحدثني محمد بن عطاء الهاشمي عن أبي نعيم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى فذكره.
ورواه أبو داود، عن موسى بن إسماعيل
وله علة أخرى وهي أن عمر بن عاصم قال: حدثنا ابن يسار، عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، وقال: موسى ابن عبيد اللَّه بن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز، وهكذا هو في (تاريخ البخاري) وكتاب ابن أبي حاتم وكتاب (الثقات) لابن حبان، كذا ذكره في كتاب (تهذيب الكمال) لأبي الحجاج المزي فقال ما ملخصه: عبيد اللَّه بن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز أبو مطرف الخزاعي، عن الحسن والزهري ومحمد بن على الهاشميّ وعنه صفوان بن سليم مع تقدمه، وحبان بن يسار وحماد بن زيد وجماعة.
ذكره ابن حبان في (الثقات) ، فإما أن يكون عمرو بن العاص وهم في اسمه، وإما أن يكون اثنين، ولكن عبد الرحمن بن طلحة هذا مجهول لا يعرف في غير هذا الحديث ولم يذكره أحد من المتقدمين، وعمرو بن العاص وإن كان(11/36)
روى عنه البخاريّ ومسلم واحتجا به، فموسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقريّ التبوذكي البصري الحافظ أحفظ منه، والحديث له أصل من رواية أبي هريرة بغير هذا السند والمتن كما يأتي ذكره إن شاء اللَّه تعالى.
وأما حديث أبي هريرة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فقال محمد بن إسحاق السراج: أخبرنا أبو يحيى وأحمد بن محمد اليزني قالا: أنبأنا عبد اللَّه بن مسلمة بن قطب أنبأنا داود بن قيس، عن نعيم بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة أنهم سألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف نصلي عليك؟ قال:
قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم. وهذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، رواه عبد الوهاب ابن مندة في (الخفاف) عنه.
وقال: الشافعيّ أخبرنا إبراهيم بن محمد أنبأنا صفوان بن سليم، عن أبي مسلمة، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول اللَّه كيف نصلي عليك؟ يعني الصلاة في الصلاة. قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم ثم تسلمون عليّ.
وإبراهيم هذا هو ابن محمد بن يحيى الأسلمي كان الشافعيّ يرى الاحتجاج به على هجره، وكان يقول: لأن يخبر من بعد أحب إليه من أن يكذب، وقد تكلم فيه مالك والناس، ورموه بالضعف والترك، وصرح بتكذيبه مالك وأحمد ويحيى ابن سعيد القطان ويحيى بن معين والنسائي، وقال ابن عقدة الحافظ:
نظرت في حديث إبراهيم بن أبي يحيى كثيرا فهو ليس بمنكر الحديث، وقال ابن عديّ: هو كما قال: ابن عقدة وقد نظرت أنا في حديثه الكثير فلم أجد فيه منكرا إلا عن شيوخ يحتلمون، يعنى أن يكون الضعف منهم ومن جهتهم، ثم قال ابن عديّ: وقد نظرت في أحاديثه ومحتوياتها.(11/37)
وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فرواه الحسن بن شاذان، عن عبد اللَّه بن إسحاق الخراسانىّ حدثنا الحسين ابن مكرم، حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي داود عن بريدة قال: قلنا: يا رسول اللَّه قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللَّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتهما على إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأبو داود هذا هو نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى الكوفي القاصّ، وقيل: اسمه نافع الهمدانيّ وقيل: الدارميّ السمعي مولاهم.
قال ابن معين: ليس بشيء وكان أحمد يقول: سمعت العبادلة ابن عمرو وابن عباس وابن الزبير ولم يسمع منهم شيئا، وقال الفلاس: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثنا عن نفيع، وقال همام: قدم علينا أبو داود فجعل يقول:
حدثنا البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقلنا لعبادة: إن أبا داود يحدثنا عن زيد ابن أرقم وعن البراء فقال: كذب إنما كان سائلا يتكفف الناس قبل طاعون الجارف، وقال البخاري: قاصّ يتكلمون، فيه، وقال السعدي: كذاب يتناول قوما من الصحابة بسوء، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي:
وهو من جملة الغالين بالكوفة.
قال كاتبه: وهو وإن كان متروكا كان مطروح الحديث، فالعمدة على ما تقدم ولا يضر إخراج حديثه في الشواهد دون الأصول.(11/38)
وأما حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فخرّج الحاكم في (المستدرك) [ (1) ] من حديث الليث بن سعد، عن خالد ابن يزيد عن سعيد بن أبي هلاك عن يحيى بن السباق، عن رجل من بنى الحارث، عن ابن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ورواه البيهقيّ في (السنن) [ (2) ] هكذا
وقد اعترض على الحاكم في تصحيحه هذا الحديث فإن يحيى بن السباق وشيخه غير معروفين بعدالة ولا جرح.
وقد ذكر أبو حاتم ابن حبان يحيى بن السباق في كتاب (الثقات) [ (3) ] وقد رواه الدارقطنيّ في (السنن) [ (4) ] من حديث عبد الوهاب بن مجاهد بن أبي ليلى وأبو معمر قال: علمني ابن مسعود التشهد وقال: علمنيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما كان يعلمنا السورة من القرآن: التحيات للَّه والصلوات والطيبات، السلام عليك
__________
[ (1) ]
(المستدرك) : 1/ 402، كتاب الصلاة، حديث رقم (991) ، ولفظه: ... حدثنا الليث، عن خالد بن بريدة، عن سعيد بن أبي هلال، عن يحيى بن السباق، عن رجل من بنى الحارث، عن ابن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
قال الحاكم: وأكثر الشواهد لهذه القاعدة لفروض الصلاة. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : مرّ حديث فضالة، ثم ساقه وقال: على شروطها.
[ (2) ] (السنن الكبرى) : 2/ 379، كتاب الصلاة، باب وجوب الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] (الثقات) : 7/ 603، يروى عن رجل، عن ابن مسعود، روى عنه سعيد بن أبي هلال.
[ (4) ] (سنن الدارقطنيّ) : 1/ 354، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التشهد، واختلاف الروايات في ذلك، حديث رقم (1) .(11/39)
أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللَّهمّ صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد. اللَّهمّ صل علينا معهم، اللَّهمّ بارك على محمد وعلى أهل بيته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللَّهمّ بارك علينا معهم، صلوات اللَّه وصلوات المؤمنين على محمد النبيّ الأميّ، السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
قال: وكان مجاهد يقول: إذا سلم فبلغ وعلى عباد اللَّه الصالحين فقد سلم على أهل السماء والأرض. ولهذا الحديث علتان:
إحداهما: أنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر المكيّ، قال ابن معين: ليس ممن يكتب حديثه، ومرة قال: ليس بشيء، ومرة قال: ضعيف، وقال السعدي: غير مقنع، وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه لا يتابع عليه.
والأخرى: أن ابن مسعود المحفوظ عنه في التشهد إلى أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله. ثم روي عنه موقوفا ومرفوعا فإذا قلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم، وأن تقعد فاقعد، والموقوف أشبه وأصح وقد روى ابن ماجة في (سننه) من حديث المسعودي عن عوف بن عبد اللَّه عن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: إذا صليتم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قال: فقالوا له: فعلمنا. قال: قولوا: اللَّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللَّهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(11/40)
وأما حديث عبد الرحمن بن بشر بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه
فقال إسماعيل بن إسحاق في كتابه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد ابن زيد، عن أيوب عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود قال: قيل: يا رسول اللَّه أمرتنا أن نسلم عليك وأن نصلي عليك، فقد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: تقولون: اللَّهمّ صل على آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، اللَّهمّ بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم.
وحدثنا مسدد قال: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عون، عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود فذكره: حدثنا نصر بن على حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام، عن محمد، عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود قال:
قلنا، أو قيل للنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أمرنا أن نصلي عليك، قال: تقولون: اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على آل إبراهيم.
فذكره بمثله سواء، وعبد الرحمن هذا معدود في الصحابة ويقال فيه:
ابن بشير بياء، قال ابن عبد البر: عبد الرحمن بن بشير، روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فضل عليّ روى عنه الشعبيّ.
قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة حدثنا سعيد الجريريّ، عن يزيد بن عبد اللَّه أنهم كانوا يستحبون أن يقولوا:
اللَّهمّ صل على محمد النبيّ الأميّ وعليه السلام.
حدثنا يحيى الحماني حدثنا هشيم، حدثنا أبو صالح حدثني يونس مولى بني هاشم قال: قلت: لعبد اللَّه بن عمرو أو ابن عمر كيف الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: اللَّهمّ اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، اللَّهمّ ابعثه يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه الأولون والآخرون. وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.(11/41)
حدثنا محمود بن خداش، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: قالوا: يا رسول اللَّه قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد عبدك ورسولك وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد [ (1) ] .
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا السري بن يحيى، قال: سمعت الحسن قال: لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (2) ] قالوا: يا رسول اللَّه، هذا السلام قد عرفنا كيف هو، فكيف تأمرنا أن نصلي عليك؟ قال: تقولون: اللَّهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مصنف ابن أبي شيبة) : 2/ 248، باب (786) الصلاة على النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف هي؟ حديث رقم (8635) ، (مسند أحمد) : 6/ 368، حديث رقم (21847) ، (سنن النسائيّ) : 3/ 54، كتاب السهو باب (50) كيف الصلاة على النبي، حديث رقم (1285) ، (1287) ، (1288) (1289) ، (1290) ، (1291) ، (1292) ، (1293) ، من طرق وسياقات مختلفة تشتمل على أحاديث الباب.
[ (2) ] الأحزاب: 56.
[ (3) ] (كنز العمال) : 1/ 496، حديث رقم (2186) ، وعزاه إلى الإمام أحمد عن بريدة، وضعفه.(11/42)