لم يذكر يحى في هذا الحديث غسل اليدين، وقال القعنبيّ، وابن بكير، وجماعة الرواة عن مالك: فغسل وجهه، ويديه، ومرفقيه. قال أبو عمر بن عبد البر: ليس في حديث مالك هذا في غسل العائن عن النبي [عليه السلام] أكثر من قوله: اغتسل له، وفيه كيفية الغسل من فعل عامر بن ربيعة [ (1) ] .
ورواه معمر عن الزهري، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف قال: رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف وهو يغتسل، فتعجب منه، فقال: تاللَّه إني رأيت كاليوم ولا جلدة مخبأة في خدرها، أو قال: جلد فتاة في خدرها، قال: فلبخ به حتى ما يرفع رأسه، قال: فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال:
هل أحدا [تتهمون] ؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، إن عامر بن ربيعة قال له:
كذا، وكذا، فدعا عامرا فقال: سبحان اللَّه! علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى منه شيئا يعجبه، فليدع له بالبركة، قال: ثم أمره، فغسل وجهه، وظهر عينيه، ومرفقيه، وغسل صدره، وداخل إزاره، وركبتيه، وأطراف قدميه ظاهرهما في الإناء، ثم أمره فصبه على رأسه، وكفأ الإناء من خلفه،
__________
[ (1) ] قال الزهري: وهذا من العلم، يغتسل العائن في قدح من ماء، يدخل يده فيه، فيمضمض ويمجه في القدح، ويغسل وجهه فيه، ثم يصب بيده اليسرى على كتفه اليمنى، ثم باليمنى على كتفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى، ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثم يغسل قدمه اليمنى، ثم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين، ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة، ويضع القدح حتى يفرغ.
هكذا رواه ابن أبى ذئب عن الزهري، عن ابن أبى شيبة، وهو أحسن ما فسّر به، لأن الزهري راوي الحديث.
وزاد ابن حبيب في قول الزهري: هذا يصب من خلفه صبة واحدة يجرى على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه المذكورة كلها، وداخلة الإزار في القدح. قاله في (التمهيد) .
زاد في (الإكمال) : الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه، واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل. (الزرقانى) .(7/391)
قال: وأمره فحسا منه حسوات، قال: فقام فراح مع الركب،
فقال جعفر بن برقان للزهري: ما كان نعدّ هذا حقا، فقال بل هي السنة. قال أبو عمر:
وأحسن شيء في تفسير الاغتسال للمعين [حقا] ما وصفه الزهري، وهو راوي الحديث [ (1) ] .
وذكر عن طريق قاسم بن أصبغ، حديث ابن أبى ذؤيب، عن الزهري، عن أبى أمامة بن سهل، عن أبيه، أن عامرا مرّ به وهو يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلدة مخبّأة، قال: فلبط به، حتى ما يعقل لشدة الوجع، فأخبر بذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فتغيظ عليه، فدعاه النبي [عليه السلام] فقال: قتلته؟ علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برّكت؟ فأمر النبي [عليه السلام] بذلك، فقال: اغسلوه، فاغتسل، فخرج مع الركب.
قال: وقال الزهري: إن هذا من العلم، يغتسل له الّذي عانة، [يؤتى] بقدح من ماء، فيدخل يده في القدح، فيمضمض، ويمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى، ثم بكفه اليمنى على كفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب بها على مرفق يده اليمنى، ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثم يغسل قدمه اليمنى، ثم يدخل [يده] اليمنى، فيغسل قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين، ثم يأخذ داخلة إزاره، فيصب على رأسه صبه واحدة تجرى على جسده، ولا يوضع القدح حتى يفرغ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] سبق ذكر ذلك في التعليقات السابقة.
وحديث الاغتسال للمعين ذكره ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1160، كتاب الطب، باب (32) العين، حديث رقم (3509) ، وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 49، كتاب الطب، باب (27) من رخص في الرقية من العين، حديث رقم (33585) ، وفيه صفة الوضوء عن الزهري(7/392)
__________
[ () ] وحديث رقم (33586) ، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها كانت تأمر العائن أن يتوضأ فيغسل الّذي أصابته العين، وحديث رقم (33587)
عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «العين حق، وإذا استغسل أحدكم فليغتسل» .
والبيهقي في (السنن الكبرى) : 9/ 352، كتاب الضحايا، باب الاغتسال للمعين.
قال العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) : والعين عينان: عين إنسية، وعين جنية،
فقد صح عن أم سلمة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «استرقوا لها فإن بها النظرة [أخرجه البخاري في الطب، باب رقية العين، ومسلم في السلام باب رقية العين،
والسفعة- بفتح السين ويجوز ضمها- سواد في الوجه، ومنه سفعة الفرس: سواد ناصيته، وعن الأصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر، وقال: ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة] .
وعن أبى سعيد، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان [أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وحسنه الترمذي، وتمامه: فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك] .
فأبطلت طائفة ممن قلّ نصيبهم من السمع والعقل أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبدعهم معرفة عن الأرواح والنفوس، وصفاتها، وأفعالها، وتأثيراتها.
وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين.
فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعث من عينه قوة سمّيّة تتصل بالمعين فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.
وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه فيحصل له الضرر.
وقالت فرقة أخرى: قد أجرى اللَّه العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سددوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.(7/393)
__________
[ () ] ولا ريب أن اللَّه سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد ومحسوس.
فأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحى منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه، وهذا كله للروح.
والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا، ولهذا أمر اللَّه تعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلم أن يستعيذ من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين: فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، تقابل المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية.
وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر في طمس البصر، كما
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: «إنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل» [أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب قول اللَّه تعالى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، ومسلم في السلام، باب قتل الحيات وغيرها، من حديث ابن عمر،
والطّفيتان: هما الخطّان الأبيضان على ظهر الحية، والأبتر: قصير الذنب، وقوله: يلتمسان البصر، قال الخطابي: فيه تأويلان، أحدهما: معناه يخطفان البصر ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه، بخاصية جعلها اللَّه تعالى في بصريهما إذا وقع على بصر الإنسان، والثاني: أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش، والأول أصح وأشهر] .
ومنها ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قلّ علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة.
بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل.
ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية.
وقد قال تعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ [القلم:
51] ، وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ* وَمِنْ شَرِّ(7/394)
وزاد ابن حبيب في قول الزهري: هذا يصب من خلفه صبة واحدة، تجرى على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه المذكورة كلها، وداخلة إزاره في القدح. انتهى كلام ابن عبد البر [ (1) ] .
__________
[ () ] النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ* وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [سورة الفلق] .
فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه، أثرت فيه، ولا بدّ وإن صادفته حذرا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردّت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء.
فهذا من النفوس والأرواح، وذاك من الأجسام والأشباح، وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمّها بنظرة إلى المعين، وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني.
وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعا. (زاد المعاد) : 4/ 164- 168.
[ (1) ] المرجع السابق.(7/395)
التّداوى بالعجوة
خرّج البخاري من حديث هاشم بن هاشم، أخبرنا عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من اصطبح كل يوم بتمرات [ (1) ] عجوة، لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل [ (2) ] . وقال غيره [ (3) ] : سبع تمرات [ (4) ] .
وخرجه مسلم ولفظه من تصبح بسبع تمرات.. مثله سواء. وفي لفظ: من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح، لم يضره سمّ حتى يمسى [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (الأصلين) : «بثمرات» وصوبناه من البخاري.
[ (2) ] في (الأصلين) : «الليلة» وصوبناه من البخاري.
[ (3) ] وهي رواية إسحاق بن منصور، حديث رقم (5769) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 10/ 292، كتاب الطب، باب (52) الدواء بالعجوة للسحر، حديث رقم (5768) ، (5769) ، والعجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه، يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلى اللَّه عليه وسلم بيده بالمدينة.
قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هي ببركة دعوة النبي صلى اللَّه عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر. (فتح الباري) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 246، كتاب الأشربة، باب (27) فضل تمر المدينة، حديث رقم (154) ، (155) ، والعجوة نوع جيد من التمر، وفي هذه الأحاديث فضيلة تمر المدينة وعجوتها، وفضيلة التصبح بسبع تمرات منه، وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها، وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع، ولا نعلم نحن حكمتها، فيجب الإيمان بها، واعتقاد فضلها، والحكمة فيها، وهذا كأعداد الصلوات، ونصب الزكاة، وغيرها، فهذا هو الصواب في هذا الحديث.
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 350، كتاب الطب، باب (22) ما جاء في الكمأة والعجوة، حديث رقم (2066) ، قال أبو عيسى: وفي الباب عن سعيد بن زيد، وأبى سعيد، وجابر، وهذا حديث حسن غريب، وهو من حديث محمد بن عمرو، ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو. [والكمأة: تكون في وجه الأرض كما يكون الجدري في سطح الجسم،(7/396)
التداوي بالعسل
خرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث محمد [بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبى المتوكل] عن أبى سعيد رضى اللَّه عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن أخى قد استطلق بطنه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
اسقه عسلا، [ثم جاءه فقال] إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: اسقه عسلا، فقال لقد سقيته فلم
__________
[ () ] ولذلك قالت العرب: إنها جدري الأرض] .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1142، كتاب الطب، باب (8) الكمأة والعجوة، حديث رقم (3453) ، وفي الباب أحاديث من طرق وبسياقات مختلفة.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 3/ 446، حديث رقم (11061) .
قال العلامة ابن القيم: وقد قيل: إن هذا في عجوة المدينة، وهي أحد أصناف التمر بها، ومن أنفع تمر الحجاز على الإطلاق، وهو صنف كريم ملذذ، متين للجسم والقوة، من ألين التمر وأطيبه وألذّه، وهو مقو للكبد، ملين للطبع، يزيد في الباه، ولا سيما مع حبّ الصنوبر، ويبرئ من خشونة الحلق، ومن لم يعتده كأهل البلاد الباردة، فإنه يورث لهم السّدود، ويؤذى الأسنان، ويهيج الصداع، ودفع ضرره باللوز والخشخاش.
وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن، بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الدود، فإنه مع حرارته فيه قوة ترياقية، فإذا أديم استعماله على الريق خفّف مادة الدود، وأضعفه، وقلله، أو قتله، وهو فاكهة وغذاء، ودواء وشراب وحلوى. (زاد المعاد) : 4/ 291- 292، 341.
وقال شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدة عنوانها: النخيل بين المنتزة وأبى قير [من أحياء مدينة الإسكندرية بمصر] :
طعام الفقير وحلوى الغنىّ ... وزاد المسافر والمغترب
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 207، كتاب الطب، باب (24) دواء المبطون، حديث رقم (5716) ، وذكر في باب (4) الدواء بالعسل، وقول اللَّه تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ، حديث رقم (5684) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 453، كتاب السلام، باب (31) التداوي بسقى العسل، حديث رقم (91) .(7/397)
يزده إلا استطلاقا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: صدق اللَّه [عزّ وجلّ] . وكذب بطن أخيك، فسقاه، فبرأ.
اللفظ لمسلم، ولم يذكر فيه البخاري قوله: فقال له ثلاث مرات.. إلى قوله: استطلاقا، ولا ذكر قوله: فسقاه فبرأ. وقال بعده: تابعه النّضر عن شعبة. ترجم عليه باب: دواء المبطون.
وأخرجاه أيضا من حديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة، عن أبى المتوكل الناجي، عن أبى سعيد الخدريّ [رضى اللَّه عنه] ، أن رجلا أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن أخى غرب بطنه، فقال: اسقه عسلا
بمعنى حديث شعبة، هذا لفظ مسلم [ (1) ] .
ولفظ البخاري: أن رجلا أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أخى يشتكي بطنه، فقال: اسقه عسلا، ثم أتاه الثانية فقال: اسقه عسلا، ثم أتاه الثالثة فقال:
اسقه عسلا، ثم أتاه فقال: فعلت، فقال: صدق اللَّه، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا، فسقاه، فبرأ. ذكره وحديث جابر في باب: الدواء بالعسل [ (2) ] .
وخرّج الحاكم من حديث سفيان عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن عبد اللَّه [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: عليكم بالشفاءين:
العسل والقرآن.
قال: هذا إسناد صحيح [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) الحديث الّذي يلي الحديث السابق [بدون رقم] .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 172، كتاب الطب، باب (4) الدواء بالعسل، وقول اللَّه تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ، حديث رقم (5684) .
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 222، كتاب الطب، حديث رقم (7435) ، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أوقفه وكيع ابن الجراح، عن سفيان، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.(7/398)
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله: «ليس فيما حرّم شفاء»
__________
[ () ]
وأخرجه أبو بكر بن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 58، كتاب الطب، باب (43) ما قالوا في العسل، حديث رقم (23676) وهو حديث أبى سعيد الخدريّ، وحديث رقم (23677) من حديث يعقوب بن المغيرة عن عليّ قال: «إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، فليشتر بها عسلا فيشربه بماء السماء، فيجمع بين الهنيء والمريء، والماء المبارك، والشفاء،
[فالهنيء المريء ما طابت به نفس زوجته من صداقها، إشارة إلى قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء: 4] ، والماء المبارك هو المطر، والشفاء هو العسل] .
وحديث رقم (23678) ، عن الربيع بن خيثم قال: ما للنفساء عندي إلا التمر، ولا للمريض إلا العسل.
قال العلامة ابن القيم- وقد ذكر منافع السكر-: وبعض الناس يفضله على العسل لقلة حرارته ولينه، وهذا تحامل منه على العسل، فإن منافع العسل أضعاف منافع السكر، وقد جعله اللَّه تعالى شفاء ودواء، وإداما وحلاوة، وأين نفع السكر من منافع العسل: من تقوية المعدة، وتليين الطبع، وإحداد البصر، وجلاء ظلمته، ودفع الخوانيق بالغرغرة به، وإبرائه من الفالج واللقوة، ومن جميع العلل الباردة التي تحدث في جميع البدن من الرطوبات، فيجذبها من قعر البدن، ومن جميع البدن، وحفظ صحته وتسمينه وتسخينه، والزيادة في الباه، والتحليل والجلاء، وفتح أفواه العروق، وتنقية المعى، وإحدار الدود، ومنع التخم وغيره من العفن، والأدم النافع، وموافقة من غلب عليه البلغم والمشايخ، وأهل الأمزجة الباردة.
وبالجملة: فلا شيء أنفع منه للبدن، وفي العلاج، وعجز الأدوية، وحفظ قواها، تقوية المعدة إلى أضعاف هذه المنافع (زاد المعاد) : 4/ 356.(7/399)
[المجلد الثامن]
[تتمة الفصل في طب رسول اللَّه]
بِسْمِ اللَّهِ الرّحمنِ الرَّحيمِ
ليس فيما حرّم شفاء
خرّج مسلم من حديث شعبة، عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرميّ، أن طارق بن سويد الجعفي، سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الخمر فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء، ولكنه داء [ (1) ] . [أخرجه الترمذي من هذه الطريق وقال: إنها ليست بدواء، ولكنها داء] .
وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرّجه أبو داود، ولفظه: عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال: ذكر طارق ابن سويد، أو سويد بن طارق، سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال له: يا نبي اللَّه! إنها دواء، فقال: لا، ولكنها داء [ (3) ] .
وله من حديث إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبى عمران الأنصاري، عن أم الدرداء [عن أبى الدرداء] رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 162- 163، كتاب الأشربة، باب (3) تحريم التداوي بالخمر وبيان أنها ليست بدواء، حديث رقم (1984) ، قال الإمام النووي: هذا دليل على تحريم اتخاذ الخمر، وفيه التصريح بأنها ليست بدواء فيحرم التداوي بها لأنها ليست بدواء- فكأنه يتناولها بلا سبب، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، أنه يحرم التداوي بها، وكذا يحرم شربها للعطش، وأما إذا غصّ بلقمة، ولم يجد ما يسيغها به إلا خمرا، فيلزمه الإساغة بها، لأن حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التداوي- واللَّه تعالى أعلم، (شرح النووي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 339، كتاب الطب، باب (8) ما جاء في كراهية التداوي بالمسكر، حديث رقم (2046) ، وما بين الحاصرتين مستدرك من هامش الأصل (ج) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 304- 306، كتاب الطب، باب (11) في الأدوية المكروهة، حديث رقم (3873) .(8/3)
تداووا بحرام [ (1) ] .
السُّعوط [ (2) ]
خرّج البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم، وأعطى الحجام أجره، واستعط. لفظهما فيه سواء [ (3) ] .
وللبخاريّ من حديث [ابن عيينة قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3874) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1157، كتاب الطب، باب (27) النهى أن يتداوى بالخمر، حديث رقم (3500) ، عن طارق بن سويد من غير شك، ولم يذكر أباه.
وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 37، كتاب الطب، باب (12) في الخمر يتداوى به والسّكر، حديث رقم (23481) ، وفيه: «إنها داء وليست بدواء» .
وحديث رقم (23482) ، وفيه: «إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
وحديث رقم (23488) من حديث الزهري عن عائشة، وفيه «من تداوى بالخمر فلا شفاه اللَّه» .
[ (2) ] السّعوط، والنّشوق والنشوع في الأنف، سعطه الدواء يسعطه ويسعطه سعطا، والضم أعلى، والصاد في كل ذلك لغة عن اللحياني. (لسان العرب) : 7/ 314.
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 182، كتاب الطب، باب (9) السعوط، حديث رقم (5691) . قوله:
«، استعط» أي استعمل السعوط، وهو أن يستلقي على ظهره، ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه، ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب، ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس. (فتح الباري) ، وأخرجه مسلم في السلام، حديث رقم (76) .
وأخرجه كل من أبى داود في (السنن) : 4/ 200، كتاب الطب- باب (8) في السعوط، حديث رقم (3867) مختصرا.
والترمذي في (السنن) : 4/ 430، كتاب الطب، باب (9) ما جاء في السعوط، حديث رقم (2047) ، (2048) بسياقة أتم.(8/4)
عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية: يستعط به العذرة، ويلدّ به من ذات الجنب [ (1) ] ،
ودخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بابن لي لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء، فرشّ عليه [ (2) ] .
وفي لفظ لهما: عن أم قيس قالت: دخلت بابن لي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد أعلقت عنه من العذرة، فقال: [علام] [ (3) ] تدغرن أولاد كن بهذا العلاق؟
عليكنّ بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، منها: ذات الجنب يسعط من العذرة، ويلدّ من ذات الجنب.
فسمعت الزهري يقول: بين لنا اثنين، ولم يبين لنا خمسة، [قال على بن المديني] [ (4) ] : قلن لسفيان: فإن معمرا يقول: أعلقت عليه.. قال: لم يحفظ، إنما قال: أعلقت عنه، حفظته من في الزهري [ (4) ] .
ووصف سفيان: الغلام يحنك بالأصبع، وأدخل سفيان في حنكه، يعنى دفع حنكه بإصبعه، ولم يقل: أعلقوا عليه شيئا. ذكره البخاري في باب اللدود، ولم يذكر فيه دخولها عليه بالابن الّذي لم يأكل الطعام. وقد ذكره
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 183، كتاب الطب، باب (10) السعوط بالقسط الهندي والبحري، حديث رقم (5692) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5693)
[ (3) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (4) ] زيادة للسياق من (الأصلين) .
(فتح الباري) : 10/ 204- 205، كتاب الطب، باب (21) اللدود، حديث رقم (5713) ، وتمامه: «ووصف سفيان الغلام يحنك بالإصبع، وأدخل سفيان من حنكه إنما رفع حنكه بإصبعه، ولم يقل أعلقوا عنه شيئا.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب (28) التداوي بالعود الهندي، وهو الكست، حديث رقم (87) .
واللّدود: هو الدواء الّذي يصب في أحد جانبي فم المريض.(8/5)
في الّذي قبله، والطريق واحدة، وكرره البخاري في مواضع [ (1) ] .
وأخرجه مسلم من طرق، في بعضها: عليكن بهذا العود الهندي، يعنى الكست، يريد: القسط [ (2) ]
، ولأبى بكر بن أبى شيبة، من حديث الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر رضى اللَّه عنه، قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أم سلمة، وعندها صبي [يندر] منخراه دما، فقال: ما هذا؟ قالوا: به العذرة، فقال: علام تدغرن أولادكن؟ إنما يكفى إحداكن أن تأخذ قسطا هنديا فتحه بماء سبع مرات، ثم توجره إياه، قال: ففعلوه، فبرأ [ (3) ] .
ذات الجنب [ (4) ]
خرّج الترمذي من حديث معاذ بن هشام، قال: حدثني أبى، عن قتادة، عن أبى عبد اللَّه، عن زيد بن أرقم رضى اللَّه عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب [قال قتادة: يلدّه ويلدّه من الجانب الّذي
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 451، كتاب السلام، باب (28) التداوي بالعود الهندي، وهو الكست، حديث رقم (2214) مختصرا، والحديث السابق سياقته أتم.
قال الإمام النووي: فمعنى تدغرن أولادكن أنها تغمز حلق الولد بإصبعها، فترفع ذلك الموضع وتكبسه.
وأما العلاق فيفتح العين، وهو مصدر أعلقت عنه، ومعناه أزلت عنه العلوق، وهي الآفة والداهية، والإعلاق هو معالجة عذرة الصبى، وهي وجع حلقه.
[ (3) ] (المصنف) : 5/ 32، كتاب الطب، باب (4) ما رخص فيه من الأدوية، حديث رقم (23427) .
[ (4) ] ذات الجنب اسم يقع على الشوصة، وعلى السل، وعلى كل مرض يضجعه على جنبه، ويختلف الدواء فيها، وتفصيله آخره هذا الباب.(8/6)
يشتكيه] [ (1) ] . قال أبو عيسى: هذا حديث [حسن] [ (1) ] صحيح، وأبو عبد اللَّه اسمه ميمون، هو شيخ بصرى [ (2) ] .
ومن حديث شعبة، عن خالد الحذاء، أخبرنا ميمون أبو عبد اللَّه قال:
سمعت زيد بن أرقم قال: أمرنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت [ (3) ] ، قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 355، كتاب الطب، باب (28) ما جاء في دواء ذات الجنب، حديث رقم (2078) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2079) ، وأخرجه النسائي في (الكبرى) ، في الطب، وابن ماجة في (السنن) : 2/ 1148، كتاب الطب، باب (17) دواء ذات الجنب، حديث رقم (3467) ، وحديث رقم (3468) .
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 224- 225، كتاب الطب، حديث رقم (7443) وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح، وحديث رقم (7444) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) ، وحديث رقم (7445) ، وقال عنه الذهبي في (التخليص) : أسنده معمر عن الزهري، قلت: وميمون أبو عبد اللَّه البصري ضعيف.
قال العلامة ابن القيم: وذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي. فالحقيقي: ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع.
وغير الحقيقي: ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية، تحتقن بين الصّفاقات، فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود، وفي الحقيقي ناخس.
قال صاحب (القانون) : قد يعرض في الجنب، والصّفاقات، والعضل التي في الصدر، والأضلاع، ونواحيها أورام مؤذية جدا موجعة، تسمى شوصة وبرساما، وذات الجنب.
وقد تكون أيضا أو جاعا في هذه الأعضاء ليست من ورم، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العلة، ولا تكون منها.
قال: واعلم أن كلّ وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقا من مكان الألم، لأن معنى ذات الجنب: صاحبة الجنب، والغرض به هاهنا وجع الجنب، فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه، وعليه حمل كلام بقراط في قوله: إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام.(8/7)
صحيح، [لا نعرفه إلا من حديث ميمون عن زيد بن أرقم. وقد روى زيد ابن أرقم عن ميمون غير واحد من هذا الحديث] [ (1) ] وذات الجنب: السل.
__________
[ () ] قيل: المراد به كل من به وجع جنب، أو وجع رئة من سوء مزاج، أو من أخلاط غليظة، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى.
ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض: وهي الحمى والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفس، والنبض والمنشارى، [وهذا الوصف ينطبق على الوجع الصدرى، نتيجة التهابات الرئة، ويعالج الآن بالأدوية المضادة للميكروبات، مثل أقراص السلفا، وحقن البنسلين، قاله الدكتور الأزهري] .
والعلاج الموجود في الحديث ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة، فإن القسط البحري- وهو العود الهندي على ما جاء مفسرا في أحاديث أخر- صنف من القسط إذا دقّ ناعما، وخلط بالزيت المسخن، ودلك به مكان الريح المذكور أو لعق، كان دواء موافقا لذلك، نافعا له، محللا لمادته مذهبا لها، مقويا للأعضاء الباطنة، مفتحا للسّدد، والعود المذكور في منافعه كذلك.
قال المسبّحي عيسى بن يحيى الجرجاني أبو سهل [طبيب حكيم، توفى سنة (390) هـ، وله من العمر (40) سنة] : العود حار يابس، قابض يحبس البطن، ويقوى الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، ويفتح السّدد، نافع من ذات الجنب، ويذهب فضل الرطوبة، والعود المذكور جيد للدماغ.
قال: ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية، لا سيما في وقت انحطاط العلة، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 81- 83، فصل في هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج ذات الجنب مختصرا.
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .(8/8)
الكحل
خرّج أبو داود من حديث زهير قال: أخبرنا عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: البسوا من ثيابكم البياض، فإنّها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الأثمد، يجلو البصر، وينبت الشعر [ (1) ] .
وخرّجه قاسم بن أصبغ، وابن أيمن من حديث أبى عوانة، عن عبد الرحمن بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خير أكحالكم الأثمد، فإنه يجلي البصر، وينبت الشعر.
وللترمذي من حديث عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن خير ما تداويتم به اللدود، والسّعوط، والحجامة، والمشي، وخير ما اكتحلتم به الأثمد، فإنه [يجلو] البصر، وينبت الشعر،
وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكحلة يكتحل بها عند النوم، ثلاثا في كل عين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث عباد
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 4/ 209- 210، كتاب الطب، باب (14) في الأمر بالكحل، حديث رقم (3878) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1156، كتاب الطب، باب (25) الكل بالإثمد، حديث رقم (3495) ، والإثمد هو الكحل الأسود، ويقال: إنه معرّب، قال ابن البيطار في (المنهاج) : هو الكحل الأصفهاني، ويؤيده قول بعضهم: ومعادنه بالشرق، وفي (القاموس) : حجر للكحل.
وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 36، كتاب الطب، باب (10) في الإثمد، من أمر به عند النوم، حديث رقم (23475) : «عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يشدّ البصر، وينبت الشعر» .
وحديث رقم (23476) : «خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر» .(8/9)
ابن منصور [ (1) ] .
وخرّجه ابن أيمن بهذا السند، ولفظه: عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم الكحل الأثمد، [يجلو] البصر، وينبت الشعر.
قال: [وكانت] لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكحلة، فإذا أراد أن ينام، كحل في كل عين ثلاثا [ (2) ] .
قلت: وقد ذكر عباد بن منصور هذا، الحافظ أبو أحمد، عبد اللَّه بن عدىّ في كتابه (الكامل) ، فيما لخصته منه، فقال: عباد بن منصور الناجي، أبو سلمة، بصرى، قاضى البصرة، قال ابن المديني: قلت ليحيى ابن معين: فعبّاد بن منصور، كان تغيّر؟ قال: لا أدرى، إلّا أنّا حين رأيناه كان لا يحفظ، ولم أر يحيى يرضاه. وقال معاذ بن معاذ: كان قدريا [ (3) ] .
وقال عباد بن معين: عباد بن منصور، وعباد بن كثير [ (4) ] ، وعباد بن راشد [ (5) ] ، ليس حديثهم بشيء، ولكنه يكتب. ومرة قال: عباد بن منصور
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 206، كتاب اللباس، باب (23) في الاكتحال حديث رقم (1757) بسياقة أخرى مختصرة.
وأخرجه الترمذي في (الشمائل) : 64، باب (7) ما جاء في كحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن جابر بن عبد اللَّه، حديث رقم (52) : «عليكم بالإثمد عند النوم..» ،
وعن ابن عباس، حديث رقم (53) : «إن خير أكحالكم الإثمد..» ،
وكلاهما حديث صحيح.
[ (2) ]
أخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 237 كتاب الطب، باب (11) كم يكتحل في كل عين، حديث رقم (23477) عن أنس: «أنه كان يكتحل ثلاثة في كل عين» ، وحديث رقم (23480) ، عن ابن عباس قال: «كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مكحلة يكتحل منها ثلاثا في كل عين» .
[ (3) ] (الكامل لابن عدىّ) : 4/ 338- 340، ترجمة رقم (200/ 1167) ، لينه بعضهم، وضعّفه بعضهم، وقال بعضهم: لا بأس به.
[ (4) ] (المرجع السابق) : ترجمة رقم (198/ 1165) عباد بن كثير الثقفي البصري، ضعفه ابن معين، وقال: كان صالحا، وقال النسائي: متروك، وكذا قال غيرهما من شيوخ النقاد، وترجمة رقم (199/ 1166) عباد بن كثير قيس الرمليّ، وثقه ابن معين، وابن أبى شيبة، وقال البخاري: فيه نظر، وضعفه أبو زرعة، وقال النسائي: ليس بثقة.
[ (5) ] (المرجع السابق) : ترجمة رقم (201/ 1168) ، عباد بن راشد التميمي، مولاهم البصري، البزاز، ضعفوه، وقال الجوزجاني عن أحمد: شيخ صدوق ثقة.(8/10)
ضعيف الحديث، وقال النسائي: ضعيف. قال ابن عدىّ: وهو في جملة من يكتب حديثه. انتهى.
[عبّاد هذا، ولى قضاء البصرة، أيام خرج إبراهيم بن عبد اللَّه بن حسن ابن حسن] [ (1) ] ، وقد حدث عن القاسم بن محمد، وعكرمة، وأبى رجاء العطاردي، وعطاء، وأيوب، وجماعة، ويحيى القطّان، وأبو داود، وروح بن عبادة، وخلق، وقال يحيى القطان: ثقة، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأى أخطأ فيه- يعنى القدر- وقال أبو داود: ولى قضاء البصرة خمس مرات، وليس بذاك، وقالوا: تغيّر، مات سنة اثنتين ومائة.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(8/11)
الحبة السوداء
خرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] ، من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضى اللَّه عنه أخبرهما أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: [إن] في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام،
قال ابن شهاب: والسام: الموت، والحبة السوداء: الشّونيز. لم يقل مسلم: قال ابن شهاب.
وخرّجه النسائي ولفظه: عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام، والسام: الموت [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث إسرائيل، عن منصور، عن خالد بن سعيد قال: خرجنا ومعنا غالب بن أبحر، فمرض في الطريق، فقدمنا المدينة وهو مريض، فعاده ابن أبى عتيق، فقال لنا: عليكم بهذه الحبيبة [السوداء] [ (4) ] ، فخذوا منها خمسا أو سبعا، فاسحقوها، ثم قطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب، فإن عائشة رضى اللَّه عنها حدثتني أنها سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن هذه الحبة السوداء، شفاء من كل داء، إلا من السام، قلت: وما السام؟ قال: الموت [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 176، كتاب الطب، باب (7) الحبة السوداء، حديث رقم (5688) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 452، كتاب السلام، باب (29) التداوي بالحبة السوداء، حديث رقم (2251) .
[ (3) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (4) ] في (الأصلين) : «السويداء» على التصغير.
[ (5) ] (فتح الباري) : 10/ 176، كتاب الطب، باب (7) الحبة السوداء، حديث رقم (5687) .
قال العلامة ابن القيم: والشونيز حار يابس في الثالثة، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص، وحمى الرّبع [هي التي تنوب كل رابع يوم] ، والبلغمية، مفتح للسدد، ومحلل للرياح،(8/12)
__________
[ () ] مجفف لبلة المعدة ورطوبتها.
وإن دقّ وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة، ويدرّ البول، والحيض، واللبن، إذا أديم. شربه أياما.
وإذا سخّن بالخل، وطلى على البطن، قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ، كان فعله في إخراج الدود أقوى، ويجلو ويقطع، ويحلل، ويشفى من الزكام البارد إذا دقّ وصيّر في خرقه، واشتمّ دائما، أذهبه.
ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل والخيلان [وهي الشامات والبثور السوداء ينبت حولها الشعر غالبا، ويغلب على شامة الخد، وقد ورد في صفة المسيح عليه السلام أنه كان كثير خيلان الوجه] .
وإذا شرب منه مثقال بماء نفع من البهر وضيق النّفس، والضّماد به ينفع من الصداع البارد، وإذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعا بليغا.
وإذا طبخ بخلّ، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقا، قلع البثور والجرب المتقرح، وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة، وينفع من اللّقوة إذا تسعّط بدهنه.
وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال، نفع من لسع الرّتيلاء [أنواع من الهوام، كالذباب والعنكبوت، والجمع روتيلاوات] ، وإن سحق ناعما وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات نفع من البرد العارض فيها والريح والسّدد.
وإن قلى، ثم دقّ ناعما، ثم نقع في زيت، وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع، نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن، أو دهن الحناء، وطلى به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح.
وإذا سحق بخل، وطلى به البرص والبهق الأسود، والحزاز الغليظ، نفعها وأبرأها. [الحزاز- بفتح الحاء-: داء يظهر في الجسد فينقشر ويتسع، وهو أيضا القشرة التي تتساقط من الرأس كالنخالة] .
وإذا سحق ناعما، واستفّ منه كل يوم درهمين بماء بارد، من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء، نفعه نفعا بليغا، وأمن على نفسه من الهلاك.
وإذا استعط بدهنه، نفع من الفالج والكزاز، وقطع موادهما، وإذا دخّن به، طرد الهوام، [الكزّاز:
داء من شدة البرد، أو الرعدة منها] .
وإذا أذيب الأنزروت بماء، ولطخ على داخل الحلقة، ثم ذر عليها الشونيز، كان من الذروات الجيدة العجيبة النفع من البواسير. (زاد المعاد) : 4/ 298- 300.(8/13)
السنا
خرّج الترمذي من حديث عبد الحميد بن جعفر قال: حدثني عتبة بن عبد اللَّه، عن أسماء بنت عميس [رضى اللَّه عنها قالت:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سألها: بم تستمشين؟ قالت: بالشّبرم، قال: حار، حار، وقال: ثم استمشيت بالسنا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو أن شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنا.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وخرّج الحاكم من حديث ابن جريج، عن سعيد بن عقبة الزرقيّ، عن رعة بن عبد اللَّه بن زياد، أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، حدّثه عن أسماء بنت عميس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل عليها ذات يوم عندها شبرم تدقه، فقال: ما تصنعين بهذا؟ قالت: نسقيه فلانا؟ قالت: يشربه فلان، فقال: لو أن شيئا يدفع الموت، أو ينفع الموت، نفع السنا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وله شاهد من حديث البصريين، عن أسماء بنت عميس [رضى اللَّه عنها] ، فذكر حديث عبد الحميد بن جعفر.
وللنّسائىّ من حديث محمد بن عمارة، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثلاث فيهن شفاء من كل داء إلا السام: [السنا] والسنوت، قال محمد: ونسيت الثالثة، قالوا: يا رسول اللَّه! هذا السّنا قد عرفناه، فما السنوت؟ قال: لو شاء اللَّه لعرفكموه.
والسنوت [ (1) ] : الرّب، وقيل: العسل، وقيل: الكمون
__________
[ (1) ] قال العلّامة ابن القيم: وفيه سبعة أقوال، أحدهما: أنه العسل، الثاني: أنه ربّ عكّة السمن يخرج(8/14)
يمانية، وقيل: هو نبت شبيه بالكمون، وقيل: الرّازيانج، وقيل: الشّبت [ (1) ] ، وقوله:
هم السّمن بالسّنوت لا السّمن فيهم ... وهم يسقون جارهم أن يقرّدا
فسّره يعقوب بأنه الكمون، وفسّره ابن الأعرابي بأنه نبت شبيه بالكمون، والسّنوت: لغة فيه. ذكر ذلك ابن سيده [ (2) ] .
__________
[ () ] خططا سوداء على السمن، الثالث: أنه حبّ يشبه الكمون، وليس بكمون، الرابع: الكمون الكرماني، الخامس أنه الشّبت، السادس: أنه التّمر، السابع: أنه الرّازيانج. (زاد المعاد) : 4/ 320.
[ (1) ] الشّبتّ: نبات من فضيلة الخيميات يشبه الشمر، وهو من التوابل.
[ (2) ] راجع التعليق السابق والّذي قبله.(8/15)
التّلبينة [ (1) ] والحساء
خرّج البخاري ومسلم، من حديث عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، ثم صنع ثريد، فصبّت التلبينة عليها، ثم قالت: كلن منها، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: التلبينة مجمّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن. ذكره البخاري في كتاب الأطعمة [ (2) ] ، وفي الطب [ (3) ] ، ولفظه: كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك، وكانت تقول إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن التلبينة تجمّ فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن.
__________
[ (1) ] التّلبينة- بفتح المثناة، وسكون اللام، وكسر الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة ثم نون-: طعام يتخذ من دقيق أو نخالة وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقا نضيحا لا غليظا نيئا. (فتح الباري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 387، كتاب الأطعمة، باب (24) التلبينة، حديث رقم (5417) .
قوله: «مجمة» بفتح الجيم والميم الثقيلة أي مكان الاستراحة، ورويت بضم الميم، أي مريحة.
(المرجع السابق) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 179- 180، كتاب الطب، باب (8) التلبينة للمريض، حديث رقم (5689) ، وحديث رقم (5690) ، من حديث على بن مسهر، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها كانت تأمرنا بالتلبينة وتقول: هو البغيض النافع.
والبغيض: بوزن عظيم، من البغض، أي يبغضه المريض مع كونه ينفعه كسائر الأدوية.
قال الموفق البغدادي: إن شئت معرفة منافع التلبينة، فاعرف منافع ماء الشعير، ولا سيما إذا كان نخالة، فإنه يجلو، وينفذ بسرعة، ويغذى غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا، وأنمى للحرارة الغريزية.(8/16)
وخرّج الترمذي من حديث محمد بن السائب بن بركة، عن أمه، عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أخذ أهله الوعك، أمر بالحساء فصنع، ثم أسرهم فحسوا منه، وكان يقول: إنه ليرتق [ (1) ] فؤاد المريض، ويسرو [ (2) ] عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها [ (3) ] . هذا لفظ الترمذي.
وقال النسائي: وفؤاد المريض، وقال: كما يسرو أحدكم الوسخ بالماء عن وجهه [ (4) ] . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه ابن المبارك عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] .
__________
[ () ] قال: والمراد بالفؤاد في الحديث رأس المعدة، فإن فؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء، والحساء يرطبها ويغذيها ويقويها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض.
لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مرارى، أو بلغمى، أو صديدى، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة.
قال: وسماه البغيض النافع، لأن المريض يعافه، وهو نافع له، قال: ولا شيء أنفع من الحساء لمن يغلب عليه في غذائه الشعير، وأما من يغلب على غذائه الحنطة، فالأولى به في مرضه حساء الشعير.
(فتح الباري) .
[ (1) ] يرتق: يشد ويرخى، والمراد هنا الشد، لأن الحزن يرخى القلب.
[ (2) ] يسرو: بمعنى يكشف ويجلو.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 336، كتاب الطب، باب (3) ما جاء ما يطعم المريض، حديث رقم (2039) .
[ (4) ] (النسائي في الكبرى) : الطب، باب الدواء بالتلبينة.
[ (5) ] ثم قال: حدثنا بذلك الحسين بن محمد، حدثنا به أبو إسحاق الطالقانيّ عن ابن المبارك.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1140، كتاب الطب، باب (5) التلبينة، حديث رقم (3445) ، وفيه: «إنه ليرتو فؤاد الحزين، ويسر عن فؤاد السقيم» ،
وحديث رقم (3446) من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «عليكم بالبغيض النافع التلبينة»
يعنى الحساء، قالت: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار، حتى ينتهى أحد طرفيه، يعنى: يبرأ أو يموت.(8/17)
__________
[ () ] وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) 5/ 38، كتاب الطب، باب (13) في التلبينة، حديث رقم (23491) .
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 227، كتاب الطب، حديث رقم (7454) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : هكذا رواه المعافى بن سليمان عنه، ورواه زيد بن الحباب، عن فليح، عن أم مبشر بدل أم المنذر، قال: صحيح.
وحديث رقم (7455) ، وقال في (التلخيص) : أيمن هو ابن نايله، صحيح.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب (30) التلبينة مجمة لفؤاد المريض، حديث رقم (2216) .
قال العلامة ابن القيم: التلبين: هو الحساء الرقيق الّذي هو في قوام اللبن- ومن اشتق اسمه، قال الهروي: سميت تلبينة لشبهها باللبن، لبياضها ورقتها، وهذا الغذاء هو النافع للعليل، وهو الرقيق النضيح، لا الغليظ النيئ.
وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة، فاعرف فضل ماء الشعير، بل هي ماء الشعير لهم، فإنّها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحا، والتلبينة تطبخ منه مطحونا، وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن.
وقد تقدم أن للعادات تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صحاحا، وهو أكثر تغذية، وأقوى فعلا، وأعظم جلاء، وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحا ليكون أرق وألطف، فلا يشقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها، وثقل ماء الشعير المطحون عليها.
والمقصود: أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا، ويجلو جلاء ظاهرا، ويغذى غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فيها مجمّة لفؤاد المريض» ، يروى بوجهين: بفتح الميم والجيم، وبضم الميم وكسر الجيم، والأول أشهر، ومعناه: أنها مريحة له، أي تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة.
وقوله: «تذهب ببعض الحزن» ، هذا- واللَّه تعالى أعلم- لأن الغم والحزن يبرّدان المزاج، ويضعفان الحرارة الغريزية، لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الّذي هو منشؤها، وهذا الحساء يقوى الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها، فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن.
وقد يقال- وهو أقرب-: إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية، واللَّه تعالى أعلم.. (زاد المعاد) : 4/ 120- 121.(8/18)
اغتسال المريض
خرّج البخاري من حديث معمر ويونس، قال الزهري: أخبرنى عبيد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، أن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: لما ثقل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واشتد وجعه، استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي، فأذن له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس وآخر، قال عبيد اللَّه:
فأخبرت ابن عباس بما قالت عائشة [رضى اللَّه عنها] فقال: هل تدري من الرجل الآخر الّذي لم تسمّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو على بن أبى طالب [رضى اللَّه عنه] ،
قالت عائشة [رضى اللَّه عنها] : فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما دخل بيتها واشتدّ وجعه: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو كيتهنّ، لعلى أعهد إلى الناس،
قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة، طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب، حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتنّ، قالت: وخرج إلى الناس، فصلى بهم وخطبهم.
ذكره البخاري في الطب [ (1) ] ، وفي آخر كتاب المغازي [ (2) ] ، وقال في آخره:
حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.. الحديث بمثله. وذكره في كتاب الطهارة [ (2) ] وانتهى إلى قوله: ثم خرج إلى الناس وقال: حتى طفق يشير إلينا
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 8/ 178، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4442) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 400، كتاب الوضوء، باب (45) الغسل والوضوء في المخضب والقدح والحجارة، حديث رقم (198) .
قوله: «لما ثقل صلّى اللَّه عليه وسلّم» أي في وجعه. وفي رواية معمر عن الزهري أن ذلك كان في بيت ميمونة رضى اللَّه عنها.
واختلفوا في الرجلين فقيل: «على والعباس» ، وقيل: «أسامة والفضل» ، وقيل: «الفضل(8/19)
أن قد فعلتن، وخرّجه مسلم [ (1) ] ، وانتهى منه إلى قوله: هو عليّ.
__________
[ () ] وثوبان» ، وقيل «بريرة ونوبة» ، وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فيتعدد من اتكأ عليه، وهو أولى من قول من قال: تناوبوا في صلاة واحدة.
قوله: «من سبع قرب» ، قيل: الحكمة من هذا العدد أن له خاصيته في دفع ضرر السم والسحر، وتمسّك به بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا، إنما هو لدفع السمية التي في ريقة.
وقد ثبت حديث «من تصبح بسبع تمرات من عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» ،
وللنسائى في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات، وسنده صحيح، وفي صحيح مسلم: القول لمن به وجع: «أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات» ، وفي النسائي: «من قال عند مريض لم يحضر أجله: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات» (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 379، كتاب الصلاة، باب (21) استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلى بالناس، وأن من صلّى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام، وحديث رقم (90) ، وقال في آخره: قال عبيد اللَّه: فدخلت على عبد اللَّه بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: هات، فعرضت حديثها عليه، فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال:
أسمّت لك الرجل الّذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو على. وتكرر ذلك في آخر الحديث رقم (91) ، (92) ، باختلاف يسير في اللفظ.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 7/ 173- 174، باب ما جاء في استئذانه صلّى اللَّه عليه وسلّم أزواجه في أن يمرّض في بيت عائشة رضى اللَّه عنها، ثم ما جاء في اغتساله وخروجه إلى الناس، وصلاته بهم، وخطبته إياهم ونعيه نفسه إليهم، وإشارته إلى أمنّ الناس عليه في صحبته، وفي ص 189- 191، باب ما جاء في آخر صلاة صلاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، من أولها إلى آخرها.
وتفسير موقف السيدة عائشة رضى اللَّه عنها وتشددها في عدم ذكر الرجل الآخر، وهو الإمام على ابن أبى طالب كرم اللَّه وجهه، يكمن فيما نقله الدكتور عبد المعطى قلعجي محقق (دلائل النبوة للبيهقي) ، حيث نقل من كتاب (عائشة والسياسة) للأستاذ سعيد الأفغاني [ص 76- 82] مختصرا:
«لنرجع ثلاثين سنة قبل أن بويع لعلى بالخلافة، فسنجد ثمة نقطة التحول التي فرضت على عائشة اتجاهها الّذي اتجهته مع على رضى اللَّه عنه ولم تستطع الإفلات منه، ولا من عاطفتها العنيفة التي لم تخفف تتابع الأيام والسنين من حدتها، فلنمعن في هذه الأمور التاليات:
1- لم تجتمع أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على شيء اجتماعهن على الغيرة الشديدة من السيدة عائشة رضى اللَّه عنها، لما خصها به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من محبة، إذ حلّت من قلبه المنزلة التي لا تسامى، والغيرة بين(8/20)
وخرّجه النسائي من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في وجعه الّذي قبض فيه: صبّوا عليّ سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلّى أعهد إلى الناس، فأجلسناه في مخضب لحفصة، فما زلنا نصب عليه، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتنّ. وخرّجه من طريق سويد بن نصر قال: أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك، عن معمر ويونس، ... كما تقدم أولا [ (1) ] .
__________
[ () ] الضرائر أمر فطري مألوف، قلّ أن تتنزه عنه امرأة، وكان عليّ وزوجه السيّدة فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يحاولان حمله صلّى اللَّه عليه وسلّم على التخفيف من حبه لعائشة، ويسفران لبقية أزواجه بما يرضيهن، ويغضب عائشة، وأظن أن مثل هذه السفارة مما لا تغفره أنثى البتة.
2- موقف على من عائشة في حادث الإفك.
3- إشارات عارضة استخرجتها من مواطنها، لأنها عظيمة الدلالة على رأى عائشة رضى اللَّه عنها في عليّ رضى اللَّه عنه، وعاطفتها نحوه.
الأولى:
فقد رواها عطاء بن يسار، قال: جاء رجل فوقع في عليّ وعمار رضى اللَّه عنهما عند عائشة فقالت: أما عليّ فلست قائلة لك فيه شيئا، وأما عمار رضى اللَّه عنه فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما. [أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 163، حديث رقم (24299) ] .
الثانية: نبّه إليها داهية بنى هاشم: عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنه، روى عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: «لما اشتد بالرسول وجعه دعا نساءه فاستأذنهن أن يمرّض في بيتي. فأذن له، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العباس، ورجل آخر تخط قدماه الأرض، عاصبا رأسه حتى دخل بيتي» .
قال راوي الحديث: فحدّثت بهذا الحديث عبد اللَّه بن عباس فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟
قلت: لا، قال: على بن أبى طالب، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع.
حتى بعد انقضاء حرب الجمل، وانتهاء الأمر بينهما على خير وتبادل ثناء، لم يزل ما بنفسها نحوه، فقد ذكروا أنه لما انتهى إلى عائشة قتل عليّ، قالت متمثلة:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
[ (1) ] (سنن النسائي) : 4/ 435- 436، كتاب الإمامة، باب (40) الائتمام بالإمام يصلى قاعدا، حديث رقم (833) بسياقة أخرى، ولعلّ السياقة التي أوردها المقريزي من (الكبرى) .(8/21)
وللبخاريّ من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء. ذكره في كتاب الطب [ (1) ] ، وخرّجه مسلم [ (2) ] ، وخرّجا من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد اللَّه قال:
أخبرنى نافع، عن ابن عمر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء [ (3) ] .
وفي لفظ لمسلم: إن شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء [ (4) ] .
ولهما من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبيه، عن [عبد اللَّه بن رفاعة قال:] أخبرنى رافع بن خديج قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: الحمى من فيح جهنم، فأبردوها عنكم بالماء [ (5) ] . ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق [ (6) ] ، وخرّجه النسائي أيضا [ (7) ] .
وللترمذي من حديث روح بن عبادة قال: أخبرنا مرزوق أبو عبد اللَّه الشامي، أخبرنا سعيد- رجل من أهل الشام- أخبرنا ثوبان، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا أصاب أحدكم الحمى، فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 214، كتاب الطب، باب (28) الحمى من فيح جهنم، حديث رقم (5723) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 447، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء واستحباب التداوي، حديث رقم (79) عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (80) عن زيد عن أبيه عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (78) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق (بدون رقم) ، وأخرجه البخاري في كتاب الطب، باب (28) الحمى من فيح جهنم، حديث رقم (5725) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 449، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء واستحباب التداوي، حديث رقم (84) وفيه: «من فور جهنم» .
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 406- 407، كتاب بدء الخلق، باب (10) صفة النار وأنها مخلوقة، حديث رقم (3262) ، (3263) ، (3264) ، من طرق وبسياقات مختلفة.
[ (7) ] في الطب من (الكبرى) .(8/22)
عنه بالماء، فليستنقع نهرا جارا، ليستقبل جريه الماء، فيقول: بسم اللَّه، اللَّهمّ اشف عبدك، وصدّق رسولك، بعد صلاة الصبح، قبل طلوع الشمس، فليغتمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنّها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن اللَّه.
قال أبو عيسى هذا حديث غريب [ (1) ] .
وللحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس [رضى اللَّه عنه] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا حمّ أحدكم فليشن الماء البارد ثلاث ليال [من السحر]
قال: هذا حديث صحيح [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 357- 358، كتاب الطب، باب (33) بدون ترجمة، حديث رقم (2084) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 223، كتاب الطب، حديث رقم (7438) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق، منه، وقال في آخره: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على الأسانيد في أن الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء. وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.(8/23)
اجتناب المجذوم
[ (1) ]
خرّج البخاري من حديث عفّان قال: [حدثني سليم بن حيّان] ، حدثني سعيد بن ميناء [قال:] سمعت أبا هريرة رضى اللَّه عنه يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الجذام- بضم الجيم وتخفيف المعجمة-: هو علة رديئة، تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتآكل. قال ابن سيده: سمى بذلك لتجذّم الأصابع وتقطعها.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 195، كتاب الطب، باب (19) الجذام، حديث رقم (5707) ، و «عفان» هو ابن مسلم الصفّار، وهو من شيوخ البخاري، لكن أكثر ما يخرّج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولا، وقد وصله أبو نعيم من طريق أبى داود الطيالسي، وأبى قتيبة مسلم بن قتيبة، كلاهما عن سليم بن حيان، شيخ عفان فيه.
وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق، عن سليم، لكن موقوفا، ولم يستخرجه الإسماعيلي، وقد وصله ابن خزيمة أيضا.
قوله: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد» ، لم أقف عليه من حديث أبى هريرة إلا من هذا الوجه، ومن وجه آخر عند أبى نعيم في الطب، لكنه معلول. وأخرج ابن خزيمة في (كتاب التوكل) له شاهد من حديث عائشة، ولفظه: «لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد» .
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه، قال: «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا قد بايعناك فارجع» ، حديث رقم (2231) .
قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم
عن جابر «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكل مع مجذوم وقال: ثقة باللَّه وتوكلا عليه» .
قال: فذهب عمر رضى اللَّه عنه وجماعة من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ. وممن قال بذلك: عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الّذي عليه الأكثر، ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز.(8/24)
__________
[ () ] هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان:
أحدهما: سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفى العدوي وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، مثل حديث الباب، فأعلوه بالشذوذ وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها «أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى، وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحى، وينام على فراشي» ، وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفى العدوي كثيرة شهيرة، بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، وقد أخرجه ابن ماجة وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رفعه: «كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين» ، أخرجه أبو نعيم في الطب، وسنده واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري: «أن عمر رضى اللَّه عنه قالك لمعيقيب: اجلس منى قيد رمح» ، ومن طريق خارجة بن زيد، كان عمر رضى اللَّه عنه يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الّذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك: أن طريق الترجيح لا يصر إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى.
الفريق الثاني: سلكوا في الترجيح عكس ذلك المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه، إما لشكه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج، وأكثر طرقا، فالمصير إليها أولى. قالوا:
وأما حديث جابر: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة باللَّه وتوكلا عليه»
ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي، وبيّن الاختلاف فيه على راويه، ورجح وقفه على عمر رضى اللَّه عنه، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبى هريرة فصح عن عائشة، وابن عمر، وسعد بن أبى وقاص، وجابر، وغيرهم، فلا معنى لكونه معلولا، واللَّه أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخر:
أحدها: نفى العدوي جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن، السليم من الآفة، تعظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونحوه حديث: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوى يقينه وصحّ توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوي، كما يستطيع أن يدفع التّطيّر الّذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوى اليقين لا يتأثر به، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة.(8/25)
__________
[ () ] ثالثها: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوي في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفى العدوي، قال: فيكون معنى قوله: «لا عدوى» أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال: لا يعدى شيء شيئا إلا ما تقدم تبيينى له أن فيه العدوي، وقد حكمي ذلك ابن بطال.
رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوي في شيء، بل هو لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء من جسد لجسد، بواسطة الملامسة، والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته، ومحادثته، ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم، لا على طريق العدوي، بل على طريق التأثر بالرائحة، لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يورد ممرض على مصح» ، لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها، وصل إليها بالماء الّذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به. قال: وأما قوله: «لا عدوى» فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر اللَّه.
خامسها: أن المراد بنفي العدوي أن شيئا لا يعدى بطبعه، نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدى بطبعها، من غير إضافة إلى اللَّه تعالى، فأبطل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن اللَّه هو الّذي يمرض ويشفى، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى اللَّه تعالى العادة بأنها تفضى إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل اللَّه هو الّذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت.
قال البيهقي- بعد أن أورد قول الشافعيّ رضى اللَّه عنه ما نصه-: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدى الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص، أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله.
سادسها: العمل بنفي العدوي أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخالط بشيء من ذلك، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوي التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: «لا يورد ممرض على مصح» إثبات العدوي، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير اللَّه تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوي، فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه. قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوي التي نفاها الشرع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته.
قال الشيخ أبو محمد بن أبى جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير.(8/26)
ولعبد الرزاق من حديث معمر، عن أيوب وخالد، عن أبى قلابة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فرّوا من المجذوم فراركم من الأسد. وفي رواية له: فروا من الأجذم كما تفرون من الأسد.
ولمسلم من حديث يعلى بن عطاء، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال:
كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنّا قد بايعناك، فارجع [ (1) ] . وخرّجه النسائي.
ولأبى بكر بن أبى شيبة من حديث وكيع، عن عبد اللَّه بن سعيد، عن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] ، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تدنوا النظر إلى المجذومين [ (2) ] .
وخرّجه أبو بشر الدولابي، من حديث عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن محمد بن عبد اللَّه، عن أمه فاطمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: نهانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نديم النظر إلى المجذومين، قال: لا تديموا إليهم
__________
[ () ] قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا، لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة اللَّه تعالى وتقديره، كما قال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فمن كان قوى اليقين فله أن يتابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار، لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح، إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء، واختلف في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا، هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع، ولا في شهود الجمعة (فتح الباري) : 10/ 196- 200 مختصرا.
[ (1) ] راجع التعليق السابق والتالي والّذي بعده.
[ (2) ] راجع التعليق السابق والتالي والّذي بعده.(8/27)
النظر [ (1) ] .
ولأبى داود من حديث يونس بن محمد، عن مفضل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر [رضى اللَّه عنه] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ بيد مجذوم، فوضعها معه في القصعة وقال: كل ثقة باللَّه [عزّ وجلّ] وتوكلا عليه [ (2) ] .
وأخرجه الترمذي بهذا السند، ولفظه: أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة [ثم] قال: كل بسم اللَّه، ثقة باللَّه وتوكلا عليه [ (3) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد، عن المفضل ابن فضالة.
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق والتالي والّذي بعده.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 239، كتاب الطب، باب (24) في الطيرة، حديث رقم (3925) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 234، كتاب الأطعمة، باب (19) ما جاء في الأكل مع المجذوم، حديث رقم (817) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1172، كتاب الطب، باب (44) الجذام، حديث رقم (3542) ، وحديث رقم (3543) : أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، وحديث رقم (3544) : كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ارجع فقد بايعناك» .
قال الحافظ ابن حجر في خاتمة كتاب الطب: اشتمل كتاب الطب من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثمانية عشر حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثمانون طريقا، والخالص ثلاثة وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها، سوى حديث أبى هريرة في نزول الداء والشفاء، وحديث ابن عباس: الشفاء في ثلاث، وحديث عائشة في الحبة السوداء، وحديث أبى هريرة «فر من المجذوم» ، وحديث أنس «رخص لأهل بيت في الرقية» ، وحديث أنس «اشف وأنت الشافي» ، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة عشر أثرا، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (فتح الباري) : 10/ 309 آخر كتاب الطب.(8/28)
والمفضّل بن فضالة هذا: شيخ بصريّ [ (1) ] ، المفضّل بن فضالة: شيخ آخر مصرى [ (2) ] أوثق من هذا وأشهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب ابن الشهيد عن ابن بريدة، أن ابن عمر أخذ بيد مجذوم، وحديث شعبة أثبت عندي وأصحّ. ذكره في الأطعمة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو المفضّل بن فضالة بن أبى أمية القرشيّ، أبو مالك البصري، أخو مبارك بن فضالة مولى آل الخطاب. قال الدوري عن ابن معين: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال الآجري عن أبى داود: بلغني عن عليّ أنه قال: في حديثه نكارة، وقال الترمذي: شيخ بصرى، والمصري أوثق منه وأشهر. وقال النسائي ليس بالقوى، وذكره ابن حبان في (الثقات) : له في السنن حديثه عن حبيب عن ابن المندر، عن جابر: أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيد مجذوم فوضعه معه في القصعة ... الحديث. وزعم بعضهم أنه أخو الفرج بن فضالة وليس بشيء. قال الحافظ ابن حجر: هذا قول ابن حبان. قال ابن عدي: لم أر له أنكر من هذا، يعنى حديث جابر. (تهذيب التهذيب) : 10/ 244، ترجمة رقم (492) مختصرا.
[ (2) ] هو المفضّل بن فضالة بن عبيد بن ثمامة بن مزيد بن نوف الرعينيّ ثم القتباني أبو معاوية المصري قاضيها، قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال الدوري عن ابن معين: رجل صدوق، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم وابن خراش: صدوق في الحديث، وقال ابن يونس: ولى القضاء بمصر مرتين، وكان من أهل الفضل والدين، ثقة في الحديث، من أهل الورع.
ذكره أحمد بن شعيب. يوما وأنا حاضر فأحسن الثناء عليه ووثقه، وقال: سمعت قتيبة بن سعيد يذكر عنه فضلا، وقال الآجري عن أبى داود: كان مجاب الدعوة.
ولد سنة سبع ومائة، وقال البخاري: مات في شوال سنة إحدى وثمانين. قال الحافظ ابن حجر:
وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أهل مصر، وقال: كان منكر الحديث. قال عيسى بن حماد: كان مجاب الدعوة، طويل القيام مع ضعف بدنه. (المرجع السابق) :
ترجمة رقم (493) مختصرا.
وذكر أيضا: المفضّل بن فضالة بن المفضل بن فضالة حفيد الّذي قبله، روى عن أبيه عن جده، ذكره ابن حبان في (الثقات) ، وابن يونس في تاريخه وقال: مات سنة أثنيت وخمسين ومائتين (المرجع السابق) : ترجمة رقم (494) .
وذكر أيضا: المفضّل بن فضالة النّسوى أبو الحسن، روى عن إبراهيم بن الهيثم البلدي، وعنه أبو أحمد بن عدي. هو والّذي قبله متأخران، لا يشتبهان بمن قبلهم. (المرجع السابق) : ترجمة رقم (495) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 234، عقب الحديث رقم (1817) .(8/29)
وذكر الحاكم حديث يونس عن الفضل كما تقدم، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 152، كتاب الأطعمة، حديث رقم (7196) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(8/30)
وأما عرق النَّسا
[ (1) ]
فخرج الحاكم من حديث الوليد بن مسلم، حدثنا هشام بن حسان، [قال] : حدثني أنس بن سيرين [قال:] حدثني أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شفاء عرق النّسا: ألية شاة عربية تذاب، ثم تجزّأ ثلاثة أجزاء، فتشرب في ثلاثة أيام. قال: هذا حديث صحيح [على شرط الشيخين ولم يخرجاه] وقد رواه المعتمر بن سليمان، عن هشام بن حسان، بزيادة في المتن [ (2) ] .
فذكره ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصف من عرق النسا ألية شاة عربىّ، ليست بصغيرة، ولا كبيرة، تذاب، ثم تقسم على ثلاثة أجزاء، فيشرب كل يوم جزء على ريق النفس.
قال أنس: وقد وصفت ذلك لثلاثمائة، كلهم يعافيه اللَّه تعالى [ (3) ] .
وقد رواه حبيب بن الشهيد، عن أنس بن سيرين، فذكره [ (4) ] ، ثم قال:
__________
[ (1) ] عرق النّسا: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدته، زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ. (زاد المعاد) : 4/ 71- 72، فصل في هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج عرق النّسا.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 229، كتاب الطب، حديث رقم (7459) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7460) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7461) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1147، كتاب الطب، باب (14) دواء عرق النّساء، حديث رقم (3463) ، وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات، والألية: ما ركب العجز وتدلى من شحم ولحم.
وأخرجه الحاكم أيضا في (المستدرك) : 4/ 452، كتاب الطب، حديث رقم (8247) ،(8/31)
__________
[ () ] من حديث هشام بن حسان، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصف لهم في عرق النسا أن يأخذوا إليه كبش ليس بعظيم ولا صغير فيداف، ثم يجزأ على ثلاثة أجزاء، فيشرب كل يوم جزءا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط البخاري ومسلم.
قال العلامة ابن القيم: وهذا الحديث فيه معنى لغويّ، ومعنى طبىّ، فأما المعنى اللغويّ: فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النّسا خلافا لمن منع هذه التسمية، وقال: النّسا هو العرق نفسه فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع.
وجواب هذا القائل من وجهين، أحدهما: أن العرق أعم من النّسا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص، نحو: كل الدراهم أو بعضها.
الثاني: أن النسا: هو المرض الحالّ بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه.
قيل: وسمّى بذلك لأن ألمه ينسى ما سواه من وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهى إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي، فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي: فقد تقدم أن كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نوعان:
أحدهما: عام بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثاني: خاص بحسب هذه الأمور أو بعضها، وهذا من هذا القسم، فإن هذا خطاب للعرب، وأهل الحجاز، ومن جاورهم، ولا سيما أعراب البوادي، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال، والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج والإخراج.
وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها، لأنها ترعى أعشاب البرّ الحارة، كالشيح، والقيصوم، ونحوهما، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذية بها، ويكسبها مزاجا ألطف منها، ولا سيما الألية.
وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة، وعليه أطباء الهند.
وأما الروم واليونان فيعتنون بالمركّبة، وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء، فإن عجز فبالمفرد، فإن عجز، فبما كان أقلّ تركيبا.
وقد تقدم أنّ غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة، فالأدوية البسيطة تناسبها،(8/32)
هذه الأسانيد كلها صحيحة، وقد أعضله حماد بن سلمة عن أنس بن سيرين فقال: عن أخيه معبد، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، والقول عندنا [فيه] قول المعتمر بن سليمان، والوليد بن مسلم.
__________
[ () ] وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة فغالبا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركبة، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 72- 73، فصل في هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج عرق النّسا.
وقد أثبت محقق (زاد المعاد) تعريف الدكتور عادل الأزهري لعرق النّسا، حيث قال: هو مرض يصيب النساء والرجال على السواء وآلامه مفرطة، تبتدئ غالبا في أسفل العمود الفقرى، ويمتد الألم إلى إحدى الأليتين، ثم إلى الجزء اخلفى من الفخذ، وأحيانا حتى الكعب، وينتج غالبا من انفصال غضروفى بأسفل العمود الفقرى، أو التهاب روماتزمى بالعصب الإنسى، وعلاجه الأساسي الراحة التامة على الظهر، لمدة خمسة عشر يوما على الأقل مع إعطاء مهدئات للألم مثل الأسبرين ... والحجامات الجافة، والكيّ أحيانا، يساعدان على علاجه. (زاد المعاد) : 4/ 73 هامش.(8/33)
وأما كثرة أمراضه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج الحاكم من حديث إسرائيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:
قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: قد أخذت السّنن عن رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، والشعر والعربية عن العرب، فعن من أخذت الطب؟ قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان رجلا مسقاما، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرج [ (1) ] .
وخرّجه ابن حيّان ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان [سقيما] في آخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجها، فمن ثمّ [ (2) ] .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبى معاوية قال: أخبرنا هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة رضى اللَّه عنها: يا أمتاه! لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة رسول اللَّه، وابنة أبى بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام النّاس، أقول: ابنة أبى بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، كيف هو؟ ومن أين هو؟ أو ما هو؟ قال: فضربت على منكبه [و] قالت: أي عريّة، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له فمن ثمّ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المستدرك) : 4/ 218- 219، كتاب الطب، حديث رقم (7426) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 99، حديث رقم (23859) .(8/34)
الحِنَّاء
[ (1) ] قال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن خالد، حدثنا قائد مولى عبيد اللَّه ابن على بن أبى رافع، عن مولاه، عن [عمته] سلمى [ (2) ] ، قالت:
كنت أخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت تصيبه قرحة، ولا نكتة، إلا وأضع
__________
[ (1) ] الحناء: بارد في الأولى، يابس في الثانية، وقوة شجر الحناء وأغصانها مركبة من قوة محللة، اكتسبتها من جوهر فيها مائي، حار باعتدال، ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضى بارد.
ومن منافعه أنه محلّل نافع من حرق النار، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمّد به، وينفع إذا مضغ من قروح الفم والسّلاق-[بثر تخرج على أصل اللسان، وتقشر في أصول الأسنان]- العارض فيه، ويبرئ القلاع-[بثرات تكون في جلدة الفم أو اللسان]- الحادث في أفواه الصبيان، والضماد به ينفع من الأورام الحرة الملتهبة، ويفعل في الجراحات فعل دم الأخوين [مادة تجلب من الهند بهذا الاسم» ] ، وإذا خلط نوره مع الشمع المصفى، ودهن الورد، ينفع من أوجاع الجنب.
ومن خواصه: أنه إذا بدأ الجدرىّ يخرج بصبي، فخضبت أسافل رجليه بحناء، فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شيء منه، وهذا صحيح مجرّب لا شك فيه.
وإذا جعل نوره بين طىّ ثياب الصوف طيبها، ومنع السوس عنها، وإذا نقع ورقه في ماء عذب يغمره، ثم عصر وشرب من صفوه أربعين يوما كل يوم عشرين درهما مع عشرة دراهم سكر، ويغذّى عليه بلحم الضأن الصغير، فإنه ينفع من ابتداء الجذام يخاصية فيه عجيبة.
وحكى أن رجلا تشقّقت أظافر أصابع يده، وأنه بذل لمن يبرئه مالا، فلم يجد، فوصفت له امرأة أن يشرب عشرة أيام حناء، فلم يقدم عليه، ثم نقعه بماء وشربه، فبرأ ورجعت أظافيره إلى حسنها.
والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجونا حسّنها ونفعها، وإذا عجن بالسمن وضمّد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر، نفعها، ونفع من الجرب المتقرّح المزمن منفعة بليغة، وهو ينبت الشعر ويقويه، ويحسنه، ويقوى الرأس، وينفع من النّفّاطات، والبثور العارضة في الساقين والرجلين، وسائر البدن، (زاد المعاد) : 4/ 89- 90.
[ (2) ] سلمى: خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي مولاة صفية بنت عبد المطلب، وهي امرأة أبى رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأم بنيه، وهي التي قبلت إبراهيم بن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت قابلة بنى(8/35)
عليها الحناء [ (1) ] .
__________
[ () ]- فاطمة، وهي التي غسّلت فاطمة مع زوجها ومع أسماء بنت عميس، وشهدت سلمى هذه، خيبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ]
(مسند أحمد) : 7/ 616، حديث رقم (27070) ، ولفظه: «ما سمعت أحدا قط يشكو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا في رأسه إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: اخضبها بالحناء، وحديث رقم (27071) ولفظه: «ما اشتكى أحد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا في رأسه إلا قال:
احتجم، ولا اشتكى إليه أحد وجعا في رجليه إلا قال: اخضب رجليك» .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 194- 195، كتاب الطب، باب (3) في الحجامة، حديث رقم (3858) .
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 343، كتاب الطب، باب (13) ما جاء في التداوي بالحناء، حديث رقم (2054) ، ولفظه: «ما كان يكون برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرحة، ولا نكبة إلا أمرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أضع عليها الحناء»
[والقرحة بضم القاف وفتحها] .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث قائد، وروى بعضهم هذا الحديث عن فائد، وقال: عن عبيد اللَّه بن على عن جدته سلمى، وعبيد اللَّه بن على أصحّ، ويقال: سلمى.
حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا زيد بن حباب عن فائد مولى عبيد اللَّه بن على، عن مولاه عبيد اللَّه بن على، عن جدته، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحوه بمعناه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1158، كتاب الطب، باب (29) الحناء، حديث رقم (3502) ، ولفظه: كان لا يصيب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليه الحناء» .
هذا الحديث لم يحكم عليه الترمذي بشيء من الصحة أو الحسن، أو الضعف، والظاهر أنه حديث حسن، واللَّه تعالى أعلم. (تحفة الأحوذي) : 6/ 178- 179.
قوله في رواية أبى داود: «اخضبهما» زاد البخاري في (تاريخه) «بالحناء» قاله في (فتح الودود) . وقال القاري: والحديث بإطلاقه يشمل الرجال والنساء، لكن ينبغي للرجل أن يكتفى باختضاب كفوف الرّجل، ويجتنب صبغ الأظافر، احترازا من التشبه بالنساء ما أمكن.
قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة مختصرا في الحناء، وقال الترمذي: حديث غريب إنما نعرفه من حديث فائد. هذا آخر كلامه.
وفائد هذا مولى عبيد اللَّه بن على بن أبى رافع، وقد وثقه ابن معين، وقال الإمام أحمد، وأبو حاتم الرازيّ: لا بأس به، وفي إسناده عبيد اللَّه بن على بن أبى رافع، مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال ابن معين: لا بأس به، وقال أبو يحيى الرازيّ: لا يحتج بحديثه، هذا آخر كلامه.(8/36)
__________
[ () ] وقد أخرجه الترمذي من حديث على بن عبيد اللَّه عن جدته، وقال: وعبيد اللَّه بن على أصحّ، وقال غيره: على بن عبيد اللَّه بن أبى رافع لا يعرف بحال، ولم يذكره أحد من الأئمة في كتاب، وذكر بعده حديث عبيد اللَّه بن على بن أبى رافع هذا الّذي ذكرناه وقال: فانظر في اختلاف إسناده بغير لفظه، هل يجوز لمن يدعى السنة أو ينسب إلى العلم أن يحتجّ بهذا الحديث على هذا الحال، ويتخذه سنة وحجة في خضاب اليد والرجل؟ (عون المعبود) :
10/ 242.(8/37)
الذريرة
[ (1) ]
خرّج الحاكم من حديث ابن جريج قال: أخبرنى عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبى حسن، حدثتني مريم بنت إياس بن البكير [ (2) ] ، صاحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن بعض أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأظنها زينب، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل عليها فقال: عندك ذريرة؟ فقالت: نعم، فدعا بها، ووضعها على بثرة [ (3) ] بين إصبعين من أصابع رجله وقال: اللَّهمّ مطفئ [الكير] ، ومكبر الصغير، اطفها عنى، فطفيت [ (4) ] . قال: هذا حديث صحيح [الإسناد ولم يخرجاه] [ (5) ] [وخرّجه الإمام أحمد، من حديث ابن جريج به مثله] [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الذريرة: فتات من قصب الطيب الّذي يجاء به من بلد الهند، يشبه قصب النّشّاب، وفي حديث عائشة رضى اللَّه عنها: طيبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لإحرامه بذريرة، قال: هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط. (لسان العرب) : 4/ 303- 304.
وقال العلامة ابن القيم: الذريرة دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة، وهي حارة يابسة، تنفع من أورام المعدة، والكبد، والاستسقاء، وتقوى القلب لطيبها. (زاد المعاد) : 4/ 113.
[ (2) ] اختلف في صحبتها، وأبوها وأعمامها من كبار الصحابة، ولأخيها محمد رؤية.
[ (3) ] البثرة: خرّاج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترق مكانا من الجسد تخرج منه، فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها، والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك، فإن فيها إنضاجا، وإخراجا، مع طيب رائحتها، مع أن فيها تبريدا للنارية التي في تلك المادة، وكذلك قال صاحب (القانون) : إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل. (زاد المعاد) : 4/ 113- 114.
[ (4) ] (المستدرك) : 4/ 230، كتاب الطب، حديث رقم (7463) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (5) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (6) ] (مسند أحمد) : 6/ 510، حديث رقم (22631) .
وهذا الحديث حديث صحيح، أخرجه ابن السنى (640) ص 237، ووقع له في سنده وهم، -(8/38)
__________
[ () ] وقال الحافظ في (أمالى الأذكار) ، فيما نقله عنه ابن علان: حديث صحيح أخرجه النسائي في (اليوم والليلة) ، وهو حديث صحيح الإسناد كما قال أبو عبد اللَّه الحاكم، فإن رواته من رواة (الصحيحين) ، إلا مريم بنت إياس بن البكير.
وفي لفظه اختلاف يسير، ففي (المستدرك) : «اللَّهمّ مطفئ الكير ومكبر الصغير اطفها عنى» ، وفي (مسند أحمد) : بمثله، وفي (زاد المعاد) : «اللَّهمّ مصغّر الكبير ومكبّر الصغير صغّر ما بى» ، وفي (الأصلين) : «مطفئ الكير» واللَّه تعالى أعلم بالصواب.(8/39)
وأمّا أنّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] سحر
فخرج البخاري من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: سحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من بنى زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، قالت: حتى كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم- أو ذات ليلة- وهو عندي، دعا، ودعا، ثم قال: يا عائشة! أشعرت أن اللَّه [عزّ وجلّ] أفتانى فيما استفتيته فيه، أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال:
من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة! واللَّه لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين فقلت يا رسول اللَّه! أفلا استخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني اللَّه، وكرهت أن أثير على الناس شرا، فأمرت بها فدفنت.
قال البخاري: تابعه أبو أسامة، وأبو ضمرة، وابن أبى الزناد، عن هشام. وقال الليث وابن عيينة، عن هشام: في مشط ومشاقة.
يقال: مشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشّط، والمشاقة: من مشاقة الكتان. ترجم عليه البخاري باب: السحر، وذكره في بدء الخلق، في باب: صفة إبليس وجنوده [ (1) ] . وفي كتاب الدعاء [ (2) ] ، وفي كتاب
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 412، كتاب بدء الخلق، باب (11) صفة إبليس وجنوده، حديث رقم (3268) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 11/ 230، كتاب الدعوات، باب (57) تكرير الدعاء، حديث رقم (6391) .(8/40)
الأدب [ (1) ] ، بزيادة ألفاظ ونقص ألفاظ. وخرّجه مسلم من طرق، وخرّجه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 10/ 587، كتاب الأدب، باب (56) قول اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وقوله: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، حديث رقم (6063) .
قال القاضي عياض: فإن قلت: فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتّابيّ بقراءتي عليه، قال: أخبرنا حاتم بن محمد، أخبرنا أبو الحسن على بن خلف، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا البخاري [بسنده] عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: «سحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله» . وفي رواية أخرى: «حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتى النساء ولا يأتيهن» .
وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك، وكيف جاز عليه، وهو معصوم؟
فاعلم- وفقنا اللَّه وإياك- أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرعت به لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها في التشكيك في الشرع.
وقد نزه اللَّه تعالى الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسا، وإنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته.
وأما ما ورد أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه، أو شريعته، أو يقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروؤه عليه في دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فصّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان. (الشفا) : 2/ 160- 161.
والمشط: معروف، والمشاطة: هي الشعر الّذي يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه، والجفّ:
وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الّذي يكون عليه، ويطلق على الذكر والأنثى، ولذا قيده في الحديث بقوله: «طلعة ذكر» .
قال العلامة ابن القيم: ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشدّ، كانت أبلغ في النّشرة [ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة، لأنه ينشّر بها عنه ما ضاره من الداء] .
وذلك بمنزلة التقاء جيشين، مع كل واحد منهما عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئا من اللَّه مغمورا بذكره، وله من التوجهات، والدعوات، والأذكار،(8/41)
النسائي أيضا [ (1) ] .
وفي جامع معمر بن راشد عن الزهري، قال: سحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، [سنة] [ (2) ] ، يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو [صلّى اللَّه عليه وسلّم] لا يفعله. [وقال ابن سعد: السّحر، سينه مثلثة، والفتح أفصح] [ (3) ] (صلّى اللَّه عليه وسلّم) .
[وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أبو مروان، عن إسحاق
__________
[ () ] والتعوذات، ورد لا يخلّ به، يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه.
وعند السحرة: أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين، والتوكل، والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات والتعوذات النبويّة، وبالجملة: فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، التي يكون ميلها إلى السفليات. قالوا: والمسحور هو الّذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقا كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات.
والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها، فتجدها فارغة لا عدة معها، وفيها ميل إلى ما يناسبها، فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره. واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 126- 127.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فكرهت أن أثير على الناس شرّا» ،
معناه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شرّ، فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من أثر الضرر الناشئ عن السحر شرّ وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني (فتح الباري) : 10/ 588.
وأخرجه البخاري في (الطب) باب (47) السحر، حديث رقم (5763) وفي باب (49) هل يستخرج السحر، حديث رقم (5765) ، وأخرجه مختصرا في كتاب الجزية والموادعة باب (14) هل يعفى عن الذّمىّ إذا سحر، حديث رقم (3175) .
[ (1) ] وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 5/ 40، كتاب الطب، حديث رقم (23508) مختصرا، وحديث رقم (23509) كما ذكره المقريزي من رواية البخاري.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سقط من النسخة (ج) .(8/42)
ابن عبد اللَّه، عن عمر بن الحكم قال: لما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحديبيّة في ذي الحجة ودخل الحرم، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة، ممن يظهر الإسلام، وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودي، وكان حليفا في بنى زريق، وكان ساحرا، قد علمت ذلك يهود، أنه أعلمهم بالسحر وبالسموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحر منّا، وقد سحرنا محمدا فسحره منا الرجال والنساء، فلم نصنع شيئا، وأنت ترى أثره فينا، وخلافه ديننا، ومن قتل منا وأجلى، ونحن نجعل لك [على ذلك] جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكوه، فجعلوا له ثلاثة دنانير، على أن يسحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
[فعمد إلى مشط، وما يمشط [من الرأس] من الشعر، فعقد فيه عقدا، أو تفل فيه تفلا، وجعله في جب طلعة ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة البئر، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرا أنكره، حتى يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دله اللَّه عليه، فدعا جبير بن إياس الزّرقيّ، وقد شهد بدرا، فدله على موضع في بئر ذروان، تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم،
فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقد دلني اللَّه على سحرك، وأخبرنى ما صنعت، قال: حبّ الدنانير يا أبا القاسم] [ (1) ] .
[قال إسحاق بن عبد اللَّه: فأخبرت عبد الرحمن بن كعب بن مالك بهذا الحديث فقال: إنما سحره بنات أعصم- أخوات لبيد- وكنّ أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الّذي ذهب به، فأدخله تحت أرعوفة البئر، فلما عقدوا تلك العقد، أنكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك الساعة بصره، ودسّ بنات
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 197- 199، ذكر من قال: إن اليهود سحرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(8/43)
أعصم إحداهن، فدخلت على عائشة رضى اللَّه عنها، فخبرتها عائشة، أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بصره، ثم خرجت إلى أخواتها، وإلى لبيد، فأخبرتهم، فقالت إحداهن: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يكن غير ذلك، فسوف يدلّهه هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا، فدله اللَّه عليه] [ (1) ] .
قال الحارث بن قيس: يا رسول اللَّه! ألا نهوّر البئر؟ فأعرض عنه [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] فهوّرها الحارث بن قيس وأصحابه، وكان يستعذب منها. قال:
وحفروا بئرا أخرى، فأعانهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حفرها، حين هوّروا الأخرى التي سحر فيها، حتى أنبطوا ماءها، ثم تهوّرت بعد. ويقال: إن الّذي استخرج السحر بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قيس بن محصن] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 197- 199، ذكر من قال إن اليهود سحرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وهذه الفقرات سقطت من النسخة (ج) .(8/44)
وأما أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمّ
فخرّج البخاري في الطب [ (1) ] ، وفي الجزية والموادعة [ (2) ] ، من حديث الليث قال: حدثني سعيد عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: لما فتحت خيبر، أهديت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شاة فيها سمّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقىّ عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] : من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان [فقال كذبتم، أبوكم فلان] فقالوا: صدقت وبررت، فقال: هل أنتم صادقىّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أهل النار؟
قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم: اخسئوا فيها، واللَّه لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم: هل أنتم صادقىّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سمّا؟ قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: إن كنت كاذبا، نستريح منك، وإن كنت نبيا، لم يضرك.
وللبخاريّ من حديث شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه قال:] إن يهودية أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، بشاة مسمومة، فأكل
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 300، كتاب الطب، باب (55) ما يذكر في سمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5777) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 334، كتاب الجزية والموادعة، باب (7) ، إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ حديث رقم (3169) .(8/45)
منها، فجيء بها، [فقيل:] ألا نقتلها؟ قال: لا، [قال:] فما زلت أعرفها في لهوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكره البخاري في كتاب الهبة، في باب: قبول الهدية من المشركين [ (1) ] .
ولمسلم بهذا السند: أن امرأة يهودية أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشاة مسمومة فأكل [منها] ، فجيء بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألها عن ذلك فقالت:
أردت لأقتلك! قال: ما كان اللَّه ليسلطك على ذاك، أو قال: عليّ، قالوا:
ألا نقتلها؟ قال: لا،
قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
وقال البخاري في آخر المغازي، في أول باب مرض النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 287، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (28) قبول الهدية من المشركين، حديث رقم (2617) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 429، كتاب السلام، باب (18) السم، حديث رقم (2190) ، «اللهوات» : جمع لهات- بفتح اللام- وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، وقيل: اللحمات اللواتي في سقف أقضى الفم.
وقوله: «ما زلت أعرفها» أي العلامة، كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما كان اللَّه ليسلطك على ذاك. أو قال: عليّ» ، فيه بيان عصمته صلّى اللَّه عليه وسلّم من الناس كلهم، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وهي معجزة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، في سلامته من السم المهلك لغيره، وفي إعلام اللَّه تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منها له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن الذراع تخبرني أنها مسمومة، وهي المرأة اليهودية الفاعلة للسم اسمها زينب بنت الحارث، أخت مرحب اليهودي، وهي امرأة سلام بن مشكم.
وقصة الشاة المسمومة رواها كل من:
ابن سعد في (الطبقات) : 2/ 200- 203، ذكر ما سمّ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
والحافظ البيهقي في (دلائل النبوة) : 7/ 172، باب ما جاء في إشارته إلى عائشة رضى اللَّه عنها في ابتداء مرضه بما يشبه النعي، ثم إخباره إياها بحضور أجله وما في حديثها من أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم توفى شهيدا.
وأبو داود في (السنن) : 4/ 647، كتاب الديات، باب (6) فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ حديث رقم (4508) ، (4509) ، (4510) ، (4511) ، (4512) ، (4513) ، (4514) ، من طرق مختلفة، وبسياقات مختلفة، بعضها مختصرا وبعضها مطولا.(8/46)
وقال يونس عن الزهرىّ: قال عروة: قالت عائشة [رضى اللَّه عنها] : كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول في مرضه الّذي مات فيه: يا عائشة! ما [أزال] أجد ألم الطعام الّذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 165، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4428) . قوله: «ما أزال أجد ألم الطعام» أي أحسّ الألم في جوفي بسبب الطعام. وقال الداوديّ:
المراد أنه نقص من لذة ذوقه. وقوله: «أوان» بالفتح على الظرفية.
قال أهل اللغة: الأبهر عرق مستبطن متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه، وقال الخطّابى: يقال إن القلب متصل به (فتح الباري) .
قال القاضي عياض: واختلف [أهل] الآثار والعلماء: هل قتلها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أم لا؟ فوقع في صحيح مسلم أنهم «قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا» ومثله عن أبى هريرة، وجابر، وعن جابر من رواية أبى سلمة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتلها، وفي رواية ابن عباس أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور، وكان أكل منها فمات بها فقتلوها، وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتلها.
قال القاضي: ووجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل، أنه لم يقتلها أولا حين أطلع على اسمها، وقيل له: فقال: لا.
فلما مات بشر بن البراء من ذلك [السم] سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا، فيصحّ قوله: لم يقتلها أي في الحال، ويصحّ قولهم: قتلها، أي بعد ذلك، واللَّه تعالى أعلم (مسلم بشرح النووي) : 14/ 429- 430.(8/47)
وأما أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقى
فخرّج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب [قال] : أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان بن أبى العاص الثقفي، أنه شكا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ضع يدك على الّذي تألم من جسدك وقل: باسم اللَّه ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ باللَّه وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر [ (1) ] .
وخرّجه الترمذي من حديث مالك، عن يزيد بن [خصيفة] ، عن عمر ابن عبد اللَّه بن كعب السلمي، أن نافع بن جبير بن معطم، أخبره عن عثمان بن أبى العاص أنه قال: أتانى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبى وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: امسح بيمينك سبع مرات وقل: أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شرّ ما أجد، قال: ففعلت، فأذهب اللَّه ما كان بى، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرّجه أبو داود بهذا الإسناد، أنه أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال عثمان: وبى وجع قد كان يهلكني.. الحديث [ (3) ] .
وخرّجه الحاكم من حديث المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 14/ 439- 440، كتاب السلام، باب (24) استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، حديث رقم (67) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 355- 356، كتاب الطب، باب (29) بدون ترجمة، حديث رقم (2080) .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 217- 218، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى؟ حديث رقم (3891) .(8/48)
ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: كان النبي [عليه السلام] إذا عاد المريض، جلس عند رأسه ثم قال سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، فإن كان في أجله تأخير عوفي من وجعه ذلك. قال:
هذا حديث صحيح [ (1) ] ، وذكر له عدة طرق.
وخرّجه البخاري أيضا في الأدب المفرد به مثله.
ولأبى داود من حديث الليث، عن زياد بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من اشتكى منكم شيئا أو [اشتكاه] أخ له فليقل: ربّنا الّذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرك في السماء والأرض، [كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض] ، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرأ [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(المستدرك) : 4/ 461- 462، كتاب الرقى والتمائم، حديث رقم (8282) ، ولفظه: «من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك، إلا عافاه اللَّه من ذلك المرض»
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، بعد أن اتفقا على حديث المنهال بن عمرو بإسناده، كان يعوذ الحسن والحسين.
وأخرج ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1163، كتاب الطب، باب (36) ما عوّذ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عوّذ به، حديث رقم (3522) ، ولفظه: «قدمت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبى وجع كاد يبطلني، فقال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم اللَّه، أعوذ بعزة اللَّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات» فقلت ذلك، فشفاني اللَّه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 218، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى، حديث رقم (3892) ، الحوب: الإثم، ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: 3] (معالم السنن) ] .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 34- 35، حديث رقم (23437) من مسند فضالة بن عبيد الأنصاري، ولفظه، قال: «علمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رقية أن أرقى بها من بدا لي، قال لي: قل ربنا اللَّه الّذي في السموات، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، اللَّهمّ كما أمرك في السماء فاجعل(8/49)
وللبخاريّ ومسلم وأبى داود، من حديث سفيان، حدثني عبد ربه بن سعيد بن عمرة، عن عائشة رضى اللَّه عنها [قالت] إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول للمريض: بسم اللَّه تربة أرضنا، وريقه بعضنا، يشفى سقيمنا. اللفظ للبخاريّ وفي لفظ له: قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول في الرقية: تربة أرضنا، وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا. ذكرهما في باب: رقية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
ولفظ مسلم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كان به قرحة أو جرح، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبّابته بالأرض ثم رفعها، بسم اللَّه تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا [ (2) ] . وفي لفظ: ليشفى [ (3) ] .
ولفظ أبى داود: قالت كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول للإنسان إذا اشتكى: يقول بريقه، ثم قال: به في التراب تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليشفى سقيمنا، بإذن ربنا [ (4) ] .
__________
[ () ] رحمتك علينا في الأرض، اللَّهمّ رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وذنوبنا وخطايانا، ونزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على ما بفلان من شكوى، فيبرأ، قال: وقل ذلك ثلاثا ثم تعوذ بالمعوذتين ثلاث مرات» .
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 253، كتاب الطب، باب (38) رقية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5745) ، (5746) .
[ (2) ] ، (3) (مسلم بشرح النووي) : 14/ 434، كتاب السلام، باب (21) ، استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، حديث رقم (54) .
[ (4) ]
(سنن أبى داود) : 4/ 219- 220، كتاب الطب، باب (كيف الرقى) ، حديث رقم (3895) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1163، كتاب الطب، باب (36) ما عوذ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عوذ به، حديث رقم (3521) ، ولفظه: عن عائشة رضى اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مما يقول للمريض ببزاقه إصبعه: «بسم اللَّه، تربة أرضنا، بريقه بعضنا، ليشفى سقيمنا بإذن ربنا» .
أي كان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئا ثم يضعها على التراب فيعلق به منه شيء، فيمسح بها على الموضع الجريح، «تربة أرضنا» أي هذه تربة أرضنا «بريقة بعضنا» يدل على أنه كان يتفل عند الرقية.(8/50)
وللبخاريّ من حديث سفيان، حدثني سليمان، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة رضى اللَّه عنها، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعوّذ بعض أهله، يمسح بيده ويقول: اللَّهمّ ربّ الناس، اذهب الباس، واشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما. ذكره في باب رقية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وخرّجه الإمام أحمد بهذا السند، ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعود بعض أهله، يمسحه بيمينه فيقول: أذهب الباس ربّ الناس، واشف إنك أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما.
وخرّجه مسلم عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا اشتكى [منا] [ (2) ] إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، فلما مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وثقل] [ (3) ] أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي، ثم قال: اللَّهمّ اغفر لي، واجعلني مع الرفيق [الأعلى] ،
[قالت:] فذهبت
__________
[ () ] قال النووي: معنى الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب، فعلق به شيء منه، ثم يمسح الموضع العليل أو الجرح، قائلا الكلام المذكور في حالة المسح.
«ليشفى» على بناء المفعول.. متعلق بمحذوف أي قلنا هذا القول، أو صنعنا هذا الصنيع، ليشفى سقيمنا. «بإذن ربنا» متعلق بقوله: «ليشفى» .
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 253، كتاب الطب، باب (38) رقية النبي، حديث رقم (5743) ، وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1163، كتاب الطب، باب (36) ما عوّذ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عوّذ به، حديث رقم (3520) .
[ (2) ]
(مسند أحمد) : 7/ 68- 69، حديث رقم (23662) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها، ثم قالت: «فلما ثقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه، أخذت بيده فجعلت أمسحه بها وأقولها، قالت: فنزع يده منى ثم قال: رب اغفر لي وألحقنى بالرفيق الأعلى- قال أبو معاوية- قالت:
فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه- قال ابن جعفر- إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا عاد مريضا مسحه بيده وقال: اذهب البأس رب الناس» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .(8/51)
انظر، فإذا هو قد قضى، صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ]
وللبخاريّ ومسلم من حديث النضر، عن هشام بن عروة [قال:] أخبرنى أبى عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يرقى يقول: امسح الباس ربّ الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت [ (2) ] .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث يحى، عن هشام قال: حدثني أبى عن عائشة، رضى اللَّه عنها، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يرقى: امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا يكشف الكرب إلا أنت [ (3) ] .
ولمسلم من حديث عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله، نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الّذي مات فيه، جعلت أنفث عليه، وأمسحه بيد نفسه، لأنها كانت أعظم بركة من يدي [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 430، كتاب السلام، باب (19) استحباب رقية المريض، حديث رقم (46) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 253، كتاب الطب، باب (38) رقية النبي، حديث رقم (5744) ، (مسلم بشرح النووي) : 14/ 432، كتاب السلام، باب (19) استحباب رقية المريض، حديث رقم (49) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 7/ 76، حديث رقم (23714) من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه عنها.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 432، كتاب السلام، باب (20) رقية المريض بالمعوذات والنفث، حديث رقم (50) .
قوله: «نفث عليه بالمعوذات» هي بكسر الواو، والنفث: نفخ لطيف بلا ريق، فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
قال القاضي عياض: وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقى، وأجازوا فيها النفخ بلا ريق، وهذا المذهب والفرق إنما يجيء على قول ضعيف، قيل: إن النفث معه ريق، قال: وقد اختلف العلماء في النفث والتفل، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق.(8/52)
وخرّجه البخاري وأبو داود، من حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها. ذكره البخاري في كتاب فضائل القرآن [ (1) ] ، وذكره في آخر كتاب المغازي من حديث يونس، عن ابن شهاب [ (2) ] .
وفي كتاب الطب بهذا السند، ولفظه: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو اللَّه أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده، قالت عائشة رضى اللَّه عنها: فلما اشتكى كان
__________
[ () ] قال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل: عكسه.
وسئلت عائشة عن نفث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه.
قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة، ولا يقصد ذلك، وقد جاء في حديث الّذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل.
قال القاضي: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن، لكن قال: كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى، وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الرقية بالحديدة: والملح، والّذي يعقد، والّذي يكتب خاتم سليمان، والعقد عنده أشد كراهة، لما فيه من مشابهة السحر.
وفي هذا الحديث: استحباب الرقية بالقرآن، والأذكار، وإنما رقى بالمعوذات لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلا، ففيها الاستفادة من شر ما خلق، فيدخل فيه كل شيء، ومن شر النفاثات في العقد، ومن السواحر، ومن شر الحاسدين، ومن شر الوسواس الخناس، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 14/ 431- 433.
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 76، كتاب فضائل القرآن، باب (14) فضل المعوذات، حديث رقم (5016) .
وأخرج من حديث ابن شهاب، عن عروة، عائشة رضى اللَّه عنها، حديث رقم (5017) ولفظه:
«أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات» .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 166، كتاب المغازي، باب (84) مرض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ووفاته، حديث رقم (4439) .(8/53)
يأمرني أن أفعل ذلك به [ (1) ] .
وذكره في باب المرأة ترقى الرّجل، من حديث معمر عن الزهري. ولفظه:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينفث على نفسه في مرضه الّذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن، فأمسح بيده لبركتها [ (2) ] . وذكره في باب: الرقى بالقرآن، عن معمر نحوه [ (3) ] .
وخرّج الحاكم، من حديث سفيان، عن عاصم، عن زياد بن ثويب، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعودني فقال: ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟ فقلت: بلى، بأبي وأمى، قال: بسم اللَّه أرقيك، واللَّه يشفيك، من كل داء فيك، من شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد، فرقى بها ثلاث مرات [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 257، كتاب الطب، باب (39) النفث في الرقية، حديث رقم (5748) ، قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى فراشه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5751) ، وفي آخره: فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال:
ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه.
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (5743) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 224، كتاب الطب، باب (19) كيف الرقى، حديث رقم (3902) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1166، كتاب الطب، باب (38) النفث في الرقية، حديث رقم (3529) .
قال في (النهاية) : النفث بالفم، وهو شبيه النفخ، وهو أقل من التفل، لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 590، كتاب التفسير، تفسير سورة الفلق، حديث رقم (3990) ، وسكت عنه الذهبي في (التلخيص) ، وعزاه السيوطي في (الجامع الصغير) لابن ماجة، والحاكم عن أبى هريرة وصححه، ولم يعلق عليه المناوى.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 3564، قال في (الزوائد) : في إسناده عاصم بن عبيد-(8/54)
__________
[ () ] اللَّه بن عاصم بن عمر العمرى، وهو ضعيف.
قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سرّ بديع، فإن ذوات أثّرت بكيفيات نفوسها الخبيثة ... وسلاحها حماتها اللتي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت، ثار فيها السم، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللَّه سبحانه لكل داء دواء، ولكل شيء ضدا، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقى، فيقع في نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن اللَّه.
ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانيّ، والطبيعي، وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق، والهواء والنفس، كانت أتم تأثيرا وأقوى فعلا ونفوذا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة، شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة: فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتمّ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها.
وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا يفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان، قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ، وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهاما لها، وتمدها بالنفث والتفل الّذي معه شيء من الريق، مصاحب لكيفية مؤثرة.
والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة، بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوى كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل في المحاربة، والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها.
ولكن من غلب عليه الحسّ لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحسّ عليه، وبعده عن عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود: أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الّذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته، واللَّه تعالى أعلم. (زاد المعاد) : 4/ 178- 180.(8/55)
وأما أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم
فخرّج البخاري [ (1) ] ، ومسلم [ (2) ] ، وأبو داود [ (3) ] ، من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، وعطاء، عن ابن عباس رضى اللَّه [تعالى عنهما] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم. ذكره البخاري في الحج والطب ومسلم في الحج.
وللبخاريّ [ (4) ] وأبى داود [ (5) ] ، من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: احتجم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو صائم. وفي لفظ للبخاريّ، أن النبي
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 185، كتاب الطب، باب (12) الحجم في السفر والإحرام، قاله ابن بحينة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5695) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 373، كتاب الحج، باب (11) جواز الحجامة للمحرم، حديث رقم (87) ، وحديث رقم (88) ولفظه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم بطريق وهو محرم وسط رأسه» .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 2/ 418، كتاب المناسك، باب (36) المحرم يحتجم، حديث رقم (1835) .
لا تكره الحجامة للمحرم إلا من أجل قطع الشعر، فإن احتجم في موضع لا شعر عليه فلا بأس به، وإن قطع شعرا افتدى.
وممن رخص في الحجامة للمحرم سفيان الثوري، وأصحاب الرأى، وهو قول الشافعيّ وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة لا بد منها، وكان الحسن يرى في الحجامة دما يريقه (معالم السنن) .
وأخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب (11) الحجامة للمحرم، حديث رقم (1835) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 10/ 184، كتاب الطب، باب (11) أي ساعة يحتجم، حديث رقم (5694) .
[ (5) ] (سنن أبى داود) : 2/ 773، كتاب الصوم، باب (29) الرخصة في الحجامة للصائم، حديث رقم (2372) ، قال أبو داود: رواه وهيب بن خالد، عن أيوب بإسناده مثله، وجعفر بن ربيعة، وهشام ابن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.(8/56)
صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. ومثله للنسائى [ (1) ] .
وفي لفظ البخاري: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم في رأسه، من شقيقة كانت به. ذكره في الحجامة من الشقيقة والصداع.
وله من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: الشفاء في ثلاثة: شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهى أمتى عن الكي. ذكره في كتاب الطب، في باب: الشفاء في ثلاث [ (2) ] . وذكره في باب: الحجامة من الشقيقة، من
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 5/ 212، كتاب المناسك، باب (92) الحجامة للمحرم، حديث رقم (2845) ، (2846) ، (2847) من طرق.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 189، كتاب الطب، باب (15) الحجامة من الشقيقة والصداع، حديث رقم (5701) .
قوله: «باب الحجامة من الشقيقة والصداع» أي بسببهما، والشقيقة- بشين معجمة وقافين- وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وذكر أهل الطب أنه من الأمراض المزمنة، وسببه أبخرة مرتفعة، أو أخلاط حارة، أو باردة، ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا لها أحدثت الصداع، فإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك قمة الرأس أحدث داء البيضة. وذكر الصداع بعده من ذكر العام بعد الخاص.
وأسباب الصداع كثيرة جدا: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء، والاستفراغ، أو السهر، أو كثرة الكلام.
ومنها ما يحدث عن الأعراض النفسانية كالهم والغم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد.
وأما الشقيقة بخصوصها فهي شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف من الرأس، وعلاجها بشد العصابة.
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة «أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ربما أخذته الشقيقة، فيمكث اليوم واليومين لا يخرج» وفي الوفاة النبويّة حديث ابن عباس «خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد عصب رأسه» (فتح الباري) .(8/57)
حديث عاصم بن عمر، عن جابر بنحوه [ (1) ] . وخرّجه مسلم [ (2) ] وفيه قصة [ (3) ] .
وللنسائى من حديث المعتمر، عن حميد عن أنس، رضى اللَّه عنه قال:
إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري. وفي لفظ: خير ما تداويتم به.
وله من حديث معمر عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وثء كان به [ (4) ] .
وللترمذي من حديث همّام [ (5) ] وجرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحتجم في الأخدعين
__________
[ () ] (فتح الباري) : 10/ 168، كتاب الطب، باب (3) الشفاء في ثلاث، حديث رقم (568) ، حديث رقم (5681) ، كلاهما من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما باختلاف يسير في اللفظ.
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 189، كتاب الطب، باب (15) الحجامة من الشقيقة والصداع، حديث رقم (5702) ، وفيه: «وما أحب أن أكتوى» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 442، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء، واستحباب التداوي، حديث رقم (71) .
[ (3) ] وهي: عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: جاءنا جابر بن عبد اللَّه في أهلنا، ورجل يشتكي خراجا به أو جراحا، فقال ما تشتكي؟ قال خراج بى قد شق عليّ، فقال: يا غلام، ائتني بحجام، فقال له: ما تصنع بالحجام يا أبا عبد اللَّه، قال: أريد أن أعلق فيه محجما. قال: واللَّه إن الذباب ليصيبني أو يصيبني الثوب فيؤذينى ويشقّ عليّ، فلما رأى تبرمه من ذلك قال: إني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
إن كان شيء من أدويتكم ... فذكر الحديث.
[ (4) ] (سنن النسائي) : 5/ 213، كتاب المناسك، باب (93) حجامة المحرم من علة تكون به، حديث رقم (2848) ، باب (94) حجامة المحرم على ظهر القدم، حديث رقم (2849) .
«الوثء» بفتح الواو وسكون المثلثة هو وهن في الرجل دون الخلع والكسر، يقال: وثئت رجله فهي موثوءة، ووثأتها أنا، وقد تترك الهمزة (شرح السيوطي على سنن النسائي) .
[ (5) ] في (الأصلين) : «هشام» وصوبناه من (سنن الترمذي) .(8/58)
والكاهل [ (1) ] . وخرّجه [ابن] [ (2) ] أيمن وقال: أخبرنا أحمد بن زهير، سئل يحى عن هذا الحديث فقال: ليس بشيء.
ولأبى داود من حديث حماد، عن محمد بن عمرو، وعن أبى سلمة، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن كان في شيء مما تداويتم به خير فالحجامة [ (3) ] .
وخرّجه ابن أيمن وقال: إن كان في شيء مما تداوون.
ولأبى داود من حديث سعيد بن عبد الرحمن الجمحيّ، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من احتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين، كان شفاء من كل داء [ (4) ] .
ومن حديث أبى بكرة، بكار بن عبد العزيز قال: أخبرتنى عمتي كبشة بنت أبى [بكرة] ، أن أباها كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ [ (5) ] . [سهل وأمه مجهولان وأبو بكرة بن عبد العزيز ضعيف. وعمته كبشة مجهولة [ (6) ]] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 4/ 341- 342، كتاب الطب، باب (21) ما جاء في الحجامة، حديث رقم (2051) ، وقال في آخره: وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن عباس ومعقل بن يسار، وهذا حديث حسن غريب.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 4/ 194، كتاب الطب، باب (3) في الحجامة، حديث رقم (3857) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : باب (5) متى يستحب الحجامة، حديث رقم (3861) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 453، حديث رقم (8254) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3862) .
[ (6) ] ما بين الحاصرتين من تعليق المقريزي رحمه اللَّه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1152، كتاب الطب، باب (21) موضع الحجامة،(8/59)
وخرّج الحاكم من حديث عبد الرحمن بن أبى الموالي، [قال:] حدثني أيوب بن الحسن بن على بن أبى رافع، عن جدته سلمى، قالت: ما سمعت أحدا يشكو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعا في رأسه، إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: اخضبهما [بالحناء] [ (1) ] قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (2) ] . وقد احتج البخاري بعبد الرحمن بن أبى الموالي.
وخرّج الحاكم من حديث أبى موسى عيسى بن عبد اللَّه الخياط، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبى سعيد الخدريّ [رضى اللَّه عنه قال:] إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: المحجمة التي في وسط الرأس من الجنون، والجذام، والنعاس، والأضراس، وكان يسميها: منقذة [ (3) ] .
قال: هذا حديث صحيح الإسناد.
ومن حديث زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى، حدثنا غزال بن محمد، عن محمد بن جحادة، عن نافع، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] قال: [قال] نافع: قال لي ابن عمر: ابغني حجّاما لا يكون غلاما صغيرا، ولا شيخا كبيرا، فإن الدم قد تبيّغ بى، وإني سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: الحجامة تزيد في العقل، وتزيد في الحفظ، فعلى اسم اللَّه احتجموا يوم [الاثنين] والثلاثاء، وما نزل جذام ولا برص إلا في ليلة
__________
[ () ] حديث رقم (3482) ، عن الأصبغ بن نباته، قال في الزوائد: في إسناده أصبغ بن نباته الحنظليّ، وهو ضعيف.
والأخدعان: عرقان في صفحتي العنق، والكاهل: ما بين كتفي العنق، وقيل: هو الكتد.
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 451- 452، كتاب الطب، حديث رقم (8246) .
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 234، كتاب الطب، حديث رقم (7478) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عيسى في الضعفاء لابن حبان وابن عدي.(8/60)
الأربعاء [ (1) ] .
قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات، إلا غزال بن محمد، فإنه مجهول، لا أعرفه بعدالة ولا جرح، وقد صح الحديث عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] من قوله: من غير مسند ولا متصل [ (2) ] . [فذكره عن ابن عمر ثم قال: وقد أسند هذا الحديث عطّاف بن خالد المخزومي عن نافع] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 234، كتاب الطب، حديث رقم (7479) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : غزال بن محمد مجهول.
[ (2) ] (المرجع السابق) : تعليقا على الحديث رقم (7479) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تعليق على الحديث رقم (7480) ، من (المرجع السابق) .(8/61)
وأما الكيّ والسّعوط
فخرج مسلم من حديث الأعمش عن أبى سفيان، عن جابر قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبيّ بن كعب [رضى اللَّه عنه] ظبيا، فقطع منه عرقا [ثم كواه عليه] [ (1) ] . [وخرجه أبو داود بهذا الإسناد إلى قوله:] فقطع منه عرقا ولم يذكر الكيّ [ (2) ] .
وفي لفظ مسلم، من حديث شعبة قال: سمعت سليمان قال: سمعت أبا سفيان قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه [رضى اللَّه عنهما] قال: رمى أبى يوم الأحزاب على أكحله، قال: فكواه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
ومن حديث أبى خيثمة، عن أبى الزبير، عن جابر [رضى اللَّه عنه] قال:
رمى سعد بن معاذ في أكحله، [قال:] فحسمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده بمشقص، ثم ورمت، فحسمه الثانية [ (4) ] .
وخرّجه ابن أيمن ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كوى سعد بن معاذ مرتين [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 443، كتاب السلام، باب (26) لكل داء دواء، واستحباب التداوي، حديث رقم (73) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 4/ 197، كتاب الطب، باب (6) في قطع العرق وموضع الحجم، حديث رقم (3864) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 444، كتاب السلام، باب (26) لكل داء، واستحباب التداوي، حديث رقم (74) .
[ (4) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (75) .
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1156، كتاب الطب، باب (24) من اكتوى، حديث رقم (3494) ، ولفظه: «إن رسول اللَّه كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين» .(8/62)
وقد وردت أحاديث في النهى عن [الكي] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] منها ما أخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 197- 200، كتاب الطب، باب (7) في الكيّ، حديث رقم (3865) ، عن عمران بن حصين قال: «نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الكي، فاكتوينا، فما أفلحن وما أنجحن» ، قال أبو داود: وكان يسمع تسليم الملائكة، فلما اكتوى انقطع عنه، فلما ترك رجع إليه.
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 341، كتاب الطب، باب (10) ما جاء في كراهية التداوي بالكي، حديث رقم (2049) ، وفيه: «فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال:
حدثنا عبد القدوس بن محمد، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين قال: نهينا عن الكي.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن مسعود، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وهذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1154- 1155، كتاب الطب، باب (23) الكي، حديث رقم (3489) ، «من اكتوى أو استرقى فقد بريء من التوكل» ، يريد أن كمال التوكل يقتضي ترك الأدوية، ومن أتى بها فقد بريء من تلك المرتبة العظيمة من التوكل.
وحديث رقم (3490) ، وهو حديث عمران بن الحصين المذكور في الباب.
وحديث رقم (3491) من حديث ابن عباس، وقال في آخره: «وأنهى أمتى عن الكي» .
قال الشيخ: إنما كوى صلّى اللَّه عليه وسلّم سعدا ليرقأ عن جرحه الدم، وخاف عليه أن ينزف فيهلك، والكي مستعمل في هذا الباب، وهو من العلاج الّذي تعرفه الخاصة وأكثر العامة، والعرب تستعمل الكي كثيرا فيما يعرض لها من الأدواء، وتقول في أمثالها: «آخر الدواء الكي» .
وأما حديث عمران بن حصين في النهى عن الكي، فقد يحتمل وجوها، أحدها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون: «آخر الدواء الكيّ» ، ويرون أنه يحسم الداء ويبرئة، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك إذا كان على ذلك الوجه.
وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على اللَّه سبحانه، وطلب الشفاء، والترجي للبرء بما يحدث اللَّه عزّ وجلّ من صنعه فيه، ويجلبه من الشفاء على أثره، فيكون الكي والدواء سببا لا علة.
وهذا أمر قد تكثر في شكوك الناس، وتخطىء فيه ظنونهم وأوهامهم، فما أكثر ما تسمعهم يقولون: لو أقام فلان بأرضه وبلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يسقم، ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب، وتعليق الحوادث بها، دون تسليط القضاء عليها، وتغليب المقادير فيها، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن، لا موجبات لها، وقد بين اللَّه جل جلاله ذلك في كتابه حيث قال:(8/63)
[وقال ابن سعد: أخبرنا هاشم بن القاسم، حدثنا إسرائيل عن جابر، عن أبى جعفر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يستعط بالسمسم، ويغسل رأسه بالسدر] [ (1) ] .
وأمّا الحنّاء
فخرّج الإمام أحمد من حديث قائد مولى عبد اللَّه بن على، عن أبى رافع، عن جدته سلمى [رضى اللَّه عنها] قالت: كنت أخدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة، إلا أمرنى بأن أضع عليها الحناء.
وتقدم في الحجامة طرف من ذلك [ (2) ] .
وأمّا السّفرجل
فخرج البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى [بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد اللَّه] قال: دخلت على رسول اللَّه
__________
[ () ] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ، وقوله تعالى حكاية عن الكفار: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 156] .
وفيه وجه آخر وهو: أن يكون معنى نهى عمران بن حصين خاصة، عن الكي في علة بعينها، لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول: «فما أفلحنا ولا أنجحنا» ، وقد كان به الناصور، فلعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن.
والعلاج: إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورا، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره، وليس كذلك في بعض الأعضاء، فيشبه أن يكون النهى منصرفا إلى النوع المخوف منه. واللَّه تعالى أعلم (معالم السنن) مختصرا.
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 448.
والسعوط: ما يجعل في الأنف مما يتداوى به، وقد سبق شرحه وتخريج أحاديثه في بابه.
[ (2) ] سبق تعريف الحناء والكلام عنها في الحجامة، وذكرنا ما قاله ابن القيم في (زاد المعاد) : 4/ 89- 90، عن فوائدها ومنافعها.(8/64)
صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي يده سفرجلة، فألقاها إليّ وقال: دونكها أبا محمد، فإنّها تجمّ الفؤاد [ (1) ] .
وخرّجه الحاكم من حديث عبد الرحمن بن حماد بن مثله أو قريبا منه [وقال: هذا حديث صحيحة الإسناد] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1118، كتاب الأطعمة، باب (61) أكل الثمار، حديث رقم (3369) ، ورواته قبل طلحة: نقيب بن حاجب، وأبو سعيد، وعبد الملك الزبيري، ثلاثتهم مجاهيل.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 456، كتاب الطب، حديث رقم (8265) ، وما بين الحاصرتين ليست في (المستدرك) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، وفي سنده عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة، قال أبو حاتم، منكر الحديث، وقال ابن حبان وغيره: لا يحتج به.
ورواه النسائي من طريق آخر، وقال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في جماعة من أصحابه، وبيده سفرجلة يقلبها، فلما جلست إليه، دحا بها إليّ ثم قال: «دونكها أبا ذرّ، فإنّها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطحاء الصدر» وهو ضعيف أيضا. قال العلامة ابن القيم: وقد روى في السفرجل أحاديث أخر، هذا أمثلها ولا تصح.
والسفرجل: بارد يابس، ويختلف في ذلك باختلاف طعمه، وكله بارد قابض، جيد للمعدة، والحلو منه أقل برودة ويبسا، وأميل إلى الاعتدال، والحامض أشدّ قبضا ويبسا وبرودة، وكله يسكن العطش والقيء، ويدرّ البول، ويعقب الطبع، وينفع من قرحة الأمعاء، ونفث الدم، والهيضة، وينفع من الغيثان، ويمنع من تصاعد الأبخرة إذا استعمل بعد الطعام، وحراقة أغصانه وورقه المغسول كالتوتياء في فعلها.
وهو قبل الطعام يقبض، وبعده يلين الطبع، ويسرع بانحدار الثفل، والإكثار منه مضر بالعصب، مولد للقولنج، ويطفئ المرة الصفراء المتولدة في المعدة.
وإن شوى كان أقل لخشونته، وأخف، وإذا قوّر وسطه، ونزع حبه، وجعل فيه العسل، طيّن جرمه بالعجين وأودع الرماد الحار، نفع نفعا حسنا.
وأجود ما أكل مشويا أو مطبوخا بالعسل، وحبّه ينفع من خشونة الحلق، وقصبة الرئة، وكثير من الأمراض، ودهنه يمنع العرق، ويقوى المعدة، والمربى منه يقوى المعدة والكبد، ويشد القلب، ويطيب النفس.
ومعنى تجم الفؤاد: تريحه، وقيل: تفتحه وتوسعه من جمام الماء، وهو اتساعه وكثرته والطخاء للقلب مثل الغيم على السماء. قال أبو عبيد: الطخاء ثقل وغشي، تقول: ما في السماء طخاء، أي:
سحاب وظلمة (زاد المعاد) : 4/ 321.(8/65)
فصل في ذكر حركات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وسكونه
[يقال أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أراد الخروج من منزله أمتشط، وسوى جمّته، وأصلح شعره، وقال: إن اللَّه يحب من عبده أن يكون حسن الهيئة] [ (1) ] .
وأما عمله صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيته
فخرج البخاري من حديث إبراهيم عن الأسود، قال: سألت عائشة رضى اللَّه عنها: ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله تعنى خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. ذكره في
__________
[ (1) ]
روى عن عائشة رضى اللَّه عنها أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يخرج يوما إلى الصحابة، فكان ينظر في جب الماء، ويسوى عمامته وشعره، فقالت: أو تفعل ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: «نعم إن اللَّه تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم» أخرجه ابن عدي في (الكامل) ، وذكره الإمام الغزالي في (الإحياء) ، مرة في الطهارة، ومرة في الرياء بالأصحاب والزائرين والمخالطين،
ثم قال:
نعم هذا كان من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبادة، لأنه كان مأمورا بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع، واستمالة قلوبهم، ولو سقط من أعينهم لم يرغبوا في اتباعه، فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله، لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر، فكان ذلك قصد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولكنه لو قصد قاصد به أن يحسّن نفسه في أعينهم حذرا من ذمهم ولومهم، واسترواحا إلى توقيرهم واحترامهم، كان قد قصد أمرا مباحا، إذ للإنسان إن يحترز من ألم المذمة، ويطلب راحة الأنس بالإخوان، ومهما استقلوه واستقذروه. لم يأنس بهم. (إحياء علوم الدين) : 3/ 464- 465، وما بين الحاصرتين لم يظهر في التصوير الضوئى من النسخة (ج) ، وقد استدركناه من النسخة (خ) .(8/66)
كتاب الصلاة [ (1) ] ، وفي كتاب النفقات [ (2) ] ، وفي كتاب الأدب [ (3) ] ، بألفاظ متقاربة.
ولعبد الرّزاق من حديث الزهري، وهشام بن عروة، عن أبيه قال: سأل رجل عائشة رضى اللَّه عنها: أكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعمل في بيته؟ قالت كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته، كما يعمل أحدكم في بيته [ (4) ] .
[وأما ما يقوله إذا دخل بيته صلّى اللَّه عليه وسلّم]
فخرّج الإمام أحمد من حديث مجالد، عن الشعبي، عن مسروق قال:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 207، كتاب الأذان، باب (44) من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج، حديث رقم (676) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 9/ 633، كتاب النفقات، باب (8) خدمة الرجل في أهله، حديث رقم (5363) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 10/ 565، كتاب الأدب، باب (40) كيف يكون الرجل في أهله؟ حديث رقم (6039) .
قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع، والبعد عن التنعيم، وامتهان النفس، ليستن بهم، ولئلا يخلدوا إلى الرفاهيّة المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا. وأخرج ابن حبان في (الصحيح) : 12/ 448- 489، كتاب الحظر والإباحة، باب (6) التواضع والكبر والعجب، ذكر ما يستحبّ للمرء أن لا يأنف من العمل المستحقر في بيته بنفسه وإن كان عظيما في أعين البشر، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها سئلت: ما كان عمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيته؟ قالت ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه [إسناده قوى على شرط مسلم] .
وأخرجه أبو نعيم في (حلية الأولياء) : 8/ 331، في ترجمة عبد اللَّه بن وهب رقم (428) .
وأخرجه أبو الشيخ في (أخلاق النبي) : 21 من طريق عقيل بن خالد من طريق الزهري قال:
سئلت عائشة رضى اللَّه عنها: كيف كان خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيته؟ فقالت: كأحدكم، يرفع شيئا ويضعه، وكان أحب العمل إليه الخياطة. وهذا منقطع بين الزهري وعائشة.
[ (4) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 12/ 490، كتاب الحظر والإباحة، باب (6) التواضع(8/67)
قلت لعائشة [رضى اللَّه عنها] : هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول شيئا إذا دخل البيت؟ قالت: كان إذا دخل البيت تمثل: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ فمه إلا التراب، وما جعلنا المال إلا لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ويتوب اللَّه على من تاب [ (1) ] .
وله من حديث شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] قالت: كان أول ما يبدأ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل بيته السواك، وآخره إذا خرج من بيته الركعتين قبل الفجر [ (2) ] .
وأمّا ما يقوله إذا خرج من بيته [صلّى اللَّه عليه وسلّم]
فخرج الترمذي من حديث سفيان، عن منصور، عن الشعبي، عن
__________
[ () ] والكبر والعجب، ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه، حديث رقم (5676) ولفظه: قلت لعائشة:
يا أم المؤمنين، أي شيء كان يصنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا كان عندك؟ قالت: ما يفعل أحدكم في مهنة أهله، يخصف نعله ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه. [إسناده صحيح، وهو في (مصنف عبد الرزاق) برقم (20492) ] .
وفي (الإحسان) : ذكر ما يجب على المرء من مجانبة الترفع بنفسه في بيته عن خدمته، وإن كان له من يكفيه ذلك، حديث رقم (5677) ، عن عائشة أنها سئلت: ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعمل في بيته؟ قالت: كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. [إسناده صحيح على شرط الشيخين] .
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 82، حديث رقم (23755) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (24274) .
وأخرج ابن ماجة في (السنن) 2/ 1279، كتاب الدعاء باب (19) ما يدعو به إذا دخل بيته، حديث رقم (3887) ، من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إذا دخل الرجل بيته، فذكر اللَّه عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإن دخل ولم يذكر اللَّه عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اللَّه عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء» .
«قال الشيطان» أي لأعوانه.(8/68)
أم سلمة [رضى اللَّه عنها قالت:] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج من بيته قال: بسم اللَّه توكلت على اللَّه، اللَّهمّ إنا نعوذ بك من أن نزلّ، أو نضلّ، أو نظلم، أو نظلم، أو نجهل، أو يجهل علينا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] . وخرّجه النسائي مسندا
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 456، كتاب الدعوات، باب (35) ما يقول إذا خرج من بيته، حديث رقم (3427) .
وفي باب (34) ما يقول إذا خرج من بيته، حديث رقم (3426) ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من قال- يعنى إذا خرج من بيته-: بسم اللَّه توكلت على اللَّه لا حول ولا قوة إلا باللَّه، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ولأبى داود في (السنن) : 5/ 327، كتاب الأدب، باب (211) ما يقول إذا خرج من بيته، حديث رقم (5094) .
وله من حديث أنس بن مالك، قال: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم اللَّه، توكلت على اللَّه، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، قال: يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف برجل قد هدى وكفى ووقى. حديث رقم (5095) .
وعن أبى مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللَّهمّ إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم ولجنا، وبسم اللَّه خرجنا، وعلى اللَّه ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله.
حديث رقم (5096) .
ولابن ماجة في (السنن) : 2/ 1278، كتاب الدعاء، حديث رقم (3884) عن أم سلمة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج من منزله قال: اللَّهمّ إني أعوذ بك أضلّ أو أزلّ، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ.
وحديث رقم (3885) ، عن أبى هريرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج من بيته، قال: بسم اللَّه، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، التكلان على اللَّه،
قال في (الزوائد) : في إسناده عبد اللَّه بن حسين، ضعّفه أبو زرعة، والبخاري، وابن حبّان.
وحديث رقم (388) عن أبى هريرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا خرج الرجل من باب بيته أو من باب داره- كان معه ملكان موكلان به، فإذا قال: بسم اللَّه، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، قالا: وقيت، وإذا قال: توكلت على اللَّه، قالا كفيت. قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدى، وكفى، ووقى؟
قال في (الزوائد) : في إسناده هارون بن هارون بن عبد اللَّه، وهو ضعيف.(8/69)
ومرسلا، وقال: اللَّهمّ إني أعوذ بك، بلفظ الإفراد في الجمع [ (1) ] ،
__________
[ (1) ]
أخرج النسائي في (السنن) : 8/ 661- 662، كتاب الاستعاذة، باب (30) الاستعاذة من الضلال، حديث رقم (5501) ، عن أم سلمة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج من بيته قال: بسم اللَّه، رب أعوذ بك من أن أزل أو أضل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ.
وأخرج ابن أبى شيبة في (المصنف) : 6/ 26، كتاب الدعاء، باب (9) ما يدعو به الرجل إذا خرج من منزله، حديث رقم (29193) ، عن أبى سعيد قال: من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللَّهمّ إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت ابتغاء مرضاتك، واتقاء سخطك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل اللَّه عليه بوجهه حتى ينصرف، ووكل به سبعون ألف ملك يستغفرون له.
وحديث رقم (29195) . عن كعب الأحبار، قال: إذا خرج من بيته فقال: بسم اللَّه، توكلت على اللَّه، ولا قوة إلا باللَّه، بلّغت الشياطين بعضهم بعضا، قالوا: هذا عبد قد هدى وحفظ، وكفى، فلا سبيل لكم عليه، فيتصدعون عنه.
وللحاكم في (المستدرك) : 1/ 700، كتاب الدعاء والتكبير في التهليل والتسبيح والذكر، حديث رقم (1907) ، عن الشعبي، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج من بيته قال: بسم اللَّه، ربّ أعوذ بك أن أزل، أو أضل، أو أظلم، أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وربما يتوهم متوهم أن الشعبي لم يسمع من أم سلمة، وليس كذلك، فإنه دخل على عائشة وأم سلمة جميعا، ثم أكثر الرواية عنهما جميعا.
قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم. وقد دخل الشعبي على عائشة وأم سلمة رضى اللَّه عنهما.
وله من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه، حديث رقم (1908) ، ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا خرج من بيته يقول: بسم اللَّه، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، التكلان على اللَّه.
وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط مسلم.
لكنه فيه عبد اللَّه بن حسين، وهو ضعيف.
وفي (الإحسان) : 3/ 104، كتاب الرقائق، باب (8) الأذكار، ذكر الشيء الّذي يهدى القائل به ويكفى ويوقى إذا قاله عند الخروج من منزله، حديث رقم (882) عن إسحاق بن عبد اللَّه بن(8/70)
وخرجه ابن أيمن.
__________
[ () ] أبى طلحة عن أنس بن مالك، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا خرج من بيته فقال: بسم اللَّه، توكلت على اللَّه، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فيقال له: حسبك، قد كفيت، وهديت، ووقيت، فيلقى الشيطان شيطانا آخر فيقول له: كيف لك برجل قد كفى وهدى ووقى» .
[رجاله ثقات، إلا أن ابن جريج مدلس، وقد عنعن عند الجميع] .(8/71)
وأمّا مشيه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فلمسلم من حديث حسان، [قال:] حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفّأ، وما مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كفّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا شممت مسكة، ولا عنبرة، أطيب من رائحة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
ولأبى داود من حديث وهب بن بقية، قال: أخبرنا خالد، عن حميد، عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مشى كأنه يتوكأ [ (2) ] .
وللترمذي من حديث عن عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الجسم، أسمر اللون وكان شعره ليس بجعد ولا سبط، كأنه إذا مشى [يتكفّأ] [ (3) ] قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
__________
[ (1) ] سبق تخريجه وشرحه.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 5/ 186- 187، كتاب الأدب، باب (35) في هدى الرّجل، حديث رقم (4863) ، وحديث رقم (4864) عن أبى الطفيل عامر بن واثلة رضى اللَّه عنه قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: كيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا، إذا مشى كأنما يهوى في صبوب.
قال الشيخ: «الصّبوب» إذا فتحت الصاد: كان اسما لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه، ومما جاء على وزنه: الطّهور والغسول والفطور لما يفطر به.
ومن رواه (الصّبوب) - بضم الصاد- على أنه جمع الصّبب، وهو ما انحدر من الأرض، فقد خالف القياس، لأن باب فعل لا يجمع على فعول، وإنما يجمع على أفعال، كسبب وأسباب، وقتب وأقتاب. وقد جاء في أكثر الروايات: «كأنه يمشى في صبب» وهو المحفوظ (معالم السنن) .
وأخرجه مسلم بنحوه في الفضائل، باب: كان صلّى اللَّه عليه وسلّم أبيض مليح الوجه، حديث رقم (2340) .
وقال مسلم: مات أبو الطفيل سنة مائة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأخرجه الترمذي بنحوه كما سيأتي.
[ (3) ] في (الأصلين) : «يتوطأ» ، وما أثبتناه من (جامع الأصول) .(8/72)
صحيح [ (1) ] .
ولأبى داود من حديث عبد الأعلى، أخبرنا سعيد، عن أبى الطفيل قال:
رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: كيف رأيته؟ قال: كان [صلّى اللَّه عليه وسلّم] أبيض مليحا، إذا مشى كأنما يمشى في صبوب [ (2) ] .
ولابن أبى خيثمة، من حديث عبد الأعلى، عن الجريريّ، عن أبى الطفيل، قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، [قال:] فقلت: كيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا، مقصّدا، إذا مشى كأنما يمشى في صبب. وخرجه مسلم ولم يقل: إذا مشى [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 11/ 228- 229، الفصل الرابع في صفاته وأخلاقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (8785) ، وأخرج البخاري قريبا منه في المناقب، باب صفة النبي، صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي اللباس، باب الجعد، ومسلم في الفضائل باب صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2347) ، والإمام مالك في (الموطأ) : 659، باب ما جاء في صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من كتاب الجامع، حديث رقم (1664) ، وأخرجه الترمذي في (السنن) : 4/ 204، كتاب اللباس، باب (21) ما جاء في الجمة واتخاذ الشعر، حديث رقم (1754) ، قال: وفي الباب عن عائشة والبراء، وأبى هريرة، وابن عباس، وأبى سعيد، وجابر، ووائل ابن حجر، وأم هانئ.
قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث حميد.
وأخرجه الترمذي أيضا في (الشمائل) : 28- 29، باب (1) ما جاء في خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2) ، وهو حديث صحيح.
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 5/ 186- 187، كتاب الأدب، باب (35) في هدى الرّجل، حديث رقم (4864) ، وقد سبق شرح معنى «الصبوب» .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 101، كتاب الفضائل، باب (28) كيف كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أبيض مليح الوجه، حدث رقم (99) .
قوله: «مقصّدا» : هو بفتح الصاد المشددة، وهو الّذي ليس بجسيم، ولا نحيف، ولا طويل، ولا قصير، وقال شمر: هو نحو الرّبعة، والقصد بمعناه، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .
وأخرجه الترمذي في (الشمائل) : 14، باب (1) ، ما جاء في خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (41) .(8/73)
وللترمذي وبقي بن مخلد، من حديث ابن لهيعة عن أبى يونس، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: ما رأيت أحسن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كأنما الشمس تجرى في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع [من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] في مشيته، كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. قال الترمذي: هذا حديث غريب [ (1) ] .
وقد رواه بقي بن مخلد، من حديث حرملة بن يحى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنى عمرو بن الحادث، أن أبا يونس مولى أبى هريرة حدثه عن أبى هريرة، أنه سمعه يقول: ما رأيت.. فذكره. فإسناد بقي هذا أجود من إسناد الترمذي، وإسناد بقي على شرط مسلم.
فقد روى مسلم عن حرملة بن يحى غير ما حديث، ولم يخرج هؤلاء البخاري من حديث ابن لهيعة شيئا. [وقال الحسين بن إسماعيل المحاملي:
أخبرنا عبد اللَّه بن جوير بن جبلة، أخبرنا ابن أبى بكير، أخبرنا يحيى بن راشد، أخبرنا داود بن أبى هند، عن عكرمة وعن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمشى مشيا يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان] [ (2) ] .
ولتقى من حديث النضر بن شميل قال: أخبرنا صالح بن أبى الأخضر، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبيض، كأنما صنع أو صيغ من فضة، رجل الشّعر، مغاص البطن، عظيم مشاس المنكبين، يطأ بقدميه جميعا، إذا أقبل، جميعا، وإذا أدبر، أدبر جميعا.
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 563، كتاب المناقب، باب (12) في صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3648) ، وأخرجه الترمذي في (الشمائل) : 112، باب (19) ما جاء في مشية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (125) وهو حديث ضعيف الإسناد، رجال إسناده ثقات إلا عبد اللَّه بن لهيعة فإنه ضعيف، ويمكن تحسينه من طرق.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (خ) وليس في (ج) .(8/74)
قال مؤلفه [رحمه اللَّه] : صالح بن أبى الأخضر اليمامي البصري، مولى بنى أمية ويروى عن الزهري، ونافع، وابن المنكدر، وجماعة. وعنه حماد ابن زيد، وابن المبارك، وروح بن عبادة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، ويحيى بن بشير العنبري وجماعة.
قال أبو عثمان بن سعيد بن خالد السجستاني، في سؤاله لابن معين، قلت: فصالح بن أبى الأخضر؟ قال: ليس بشيء في الزهري.
وقال ابن عدي: قال ابن معين: بصرى ضعيف، وقال معاذ بن معاذ: قال لي صالح بن أبى الأخضر: هذا الكتاب قرأه على الزهري، وقرأته عليه، ولا أفضّل هذا من هذا.
وقال يحيى القطان، أتيته أنا ومعاذ وخالد، فأخرج إلينا حديث الزهري فقال: منه ما سمعت، ومنه ما لم أسمع، ومنه عرض. وقال البخاري: ليس بشيء عن الزهري، ومرة قال: ضعيف.
قال ابن عدي: وفي بعض أحاديثه ما ينكر عليه، وهو من الضعفاء الّذي يكتب حديثهم [ (1) ] . انتهى [كلام المقريزي رحمه اللَّه] .
ولا بن أبى شيبة من حديث شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن نافع ابن جبير بن مطعم، عن على رضى اللَّه عنه، أنه وصف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فقال:] كان عالى الهامة، أبيض، مشربا حمرة، عظيم اللحية، ضخم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة، كثير شعر الرأس، رجله، يتكفّأ في مشيته، كأنما ينحدر في صبب، لا طويل، ولا قصير، لم أر مثله، قبله ولا بعده [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] صالح بن أبي الأخضر، له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 4/ 333- 334، ترجمة رقم (650) وهو صالح بن أبى الأخضر اليمامي، مولى هشام بن عبد الملك.
[ (2) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 6/ 332، كتاب الفضائل، باب (1) ما أعطي اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم،(8/75)
وخرّجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عبد اللَّه المسعودي، عن عثمان بن مسلم، عن نافع بن جبير، وفيه: إذا مشى تكفأ تكفيا، كأنما انحط من صبب. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] . [من طريقين عن المسعودي به] [ (2) ] .
وخرّج أبو بكر بن أبى شيبة، حديث عليّ هذا، من حديث عيسى بن يونس، عن عمر مولى عفرة، عن إبراهيم بن محمد، قال: كان على [رضى اللَّه عنه] إذا نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ... فذكر الحديث، وفيه: إذا مشى تقلّع كأنما يمشى في صبب، فإذا التفت التفت معا [ (3) ] . وذكره الترمذي من حديث عيسى بن يونس بسنده،
ثم قال: هذا حديث ليس إسناده متصل [ (4) ] .
وخرّج الحاكم من حديث ثابت البناني، عن شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، عن عبد اللَّه بن عمر، رضى اللَّه [عنهما] قال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكره أن يطأ أحد عقبه، ولكن يمين وشمال [ (5) ] . [قال
__________
[ () ] حديث رقم (31798) .
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 558- 559، كتاب المناقب، باب (8) ما جاء في صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3637) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
وأخرجه أيضا في (الشمائل) : 31، باب (1) ما جاء في خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (5) ، وفي باب (19) ما جاء في مشية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (62) ، وهو حديث صحيح، أخرجه أيضا أبو الشيخ في (أخلاق النبي) صلّى اللَّه عليه وسلّم، ص 93- 96 بنحوه.
[ (3) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 6/ 332، كتاب الفضائل، باب (1) ما أعطى اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (31796) .
[ (4) ] (الشمائل المحمدية) : 112، باب (19) ما جاء في مشية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (125) .
[ (5) ] (المستدرك) : 4/ 311، كتاب الأدب، حديث رقم (7744) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : كذا: رواه شيبان عن سليمان.(8/76)
الحاكم: صحيح على شرط مسلم] [ (1) ] .
وله من حديث إسماعيل بن [أمية] ، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه [عنهما] قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد، وأبو بكر رضى اللَّه عنه عن يمينه، وعمر رضى اللَّه عنه عن شماله، آخذا بأيديهما فقال: هكذا نبعث يوم القيامة [ (2) ] . [قال الحاكم: هذا حديث صحيح] [ (3) ] .
وخرّجه الترمذي من حديث سعيد بن مسلمة، عن إسماعيل بن [أمية] ، عن نافع، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنه] أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج ذات يوم، فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر [رضى اللَّه عنهما] أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما، وقال: هكذا نبعث يوم القيامة.
[قال أبو عيسى: هذا حديث غريب [ (4) ]] سعيد بن مسلمة ليس عندهم بالقوى. وقد روى هذا الحديث [أيضا] [ (5) ] من غير هذا الوجه، عن نافع، عن ابن عمر [ (6) ] .
وخرّج الحاكم من حديث سعيد بن أبى مريم، حدثنا يحى بن أيوب، حدثني حميد قال: سمعت أنسا رضى اللَّه عنه يقول: كان رسول اللَّه
__________
[ (1) ] هذه العبارة ليست في (المستدرك) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 71- 72، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4428) ، ولفظه: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد وإحدى يديه على أبى بكر، والأخرى على عمر، فقال: «هكذا نبعث يوم القيامة» .
قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : سعيد بن مسلمة القرشيّ ضعيف.
[ (3) ] هذه العبارة ليست في (المستدرك) .
[ (4) ] هذه العبارة ليست في (سنن الترمذي) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (6) ] (سنن الترمذي) : 5/ 572، كتاب المناقب، باب (16) في مناقب أبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (3669) .
وأخرجه ابن ماجة في (المقدمة من السنن) ، باب في فضائل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فضل أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه.(8/77)
صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مشى كأنه يتوكأ. قال: هذا حديث صحيح [ (1) ] [على شرط الشيخين ولم يخرجاه] [ (2) ] .
ومن حديث سفيان عن الأسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا خرج من بيته مشينا قدّامه، وتركنا خلفه للملائكة [ (3) ] . وفي رواية: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا خرج مشوا بين يديه، وخلّوا ظهره للملائكة [ (4) ]
وفي رواية أبى عوانة: عن الأسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر [رضى اللَّه عنه] ، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: امشوا أمامى، واخلوا ظهري للملائكة.
ومن حديث شعبة، عن الأسود، عن نبيح العنزي، عن جابر [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تمشوا بين يدي، لا خلفي، فإن هذا مقام الملائكة.
ومن حديث شعبة، عن الأسود، عن نبيح العنزي، عن جابر [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تمشوا بين يدي ولا خلفي، فإن هذا مقام الملائكة. قال: هذا حديث صحيح [ (5) ] .
وخرّجه الخطيب وقال: هذا حديث غريب، من حديث شعبة عن الأسود ابن قيس، لا أعلم رواه عنه غير خالد بن الحارث، وتفرد به أبو الأشعث عنه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 313، كتاب الأدب، حديث رقم (7750) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 313، حديث رقم (2577) .
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 446، كتاب التفسير، تفسير سورة لقمان، حديث رقم (3544) ، قال الحاكم:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (5) ] (المرجع السابق) : 4/ 313 حديث رقم (7753) صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (6) ] (تاريخ بغداد) : 5/ 163، في ترجمة أحمد بن المقدام أبو الأشعث البصري رقم (2609) ، وفيه وفي (المستدرك) : قال جابر: جئت أسعى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأنى شرارة.(8/78)
وخرّج الحاكم من حديث ابن وهب قال: أخبرنى عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر [رضى اللَّه عنه قال] كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مشى لم يلتفت [ (1) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث مكحول، عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: شرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائما وقاعدا، ومشى حافيا وناعلا، وانصرف عن يمينه وعن شماله [ (2) ] .
وذكر ابن ذبالة من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد اللَّه بن دينار، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يأتى مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 325، كتاب الأدب، حديث رقم (7794) ، قال الحاكم: لا أعلم أحدا رواه عن محمد بن المنكدر غير عبد الجبار، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عبد الجبار بن عمر تالف.
[ (2) ] سبق تخريجه.(8/79)
وأما نومه صلّى اللَّه عليه وسلّم
[ (1) ] فخرّج الإمام أحمد من حديث همام قال: أخبرنا يحيى بن أبى كثير، أن أبا سلمة حدثه، أن عائشة رضى اللَّه عنها حدثته، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أراد أن يرقد، توضأ وضوءه للصلاة ثم يرقد [ (2) ] .
والّذي في الصحيحين، عن عائشة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام [ (3) ] . وقد تقدم أنه كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، في كل عين ثلاثة أميال [ (4) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث أبى معاوية [قال:] حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان ضجاع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي ينام عليه بالليل، من أدم محشو ليفا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] كان صلّى اللَّه عليه وسلّم ينام أول الليل ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين، وكان تنام عيناه، ولا ينام قلبه. وكان إذا نام لم يوقظوه حتى يكون هو الّذي يستيقظ.
وكان إذا عرّس بليل، اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرّس قبيل الصبح نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه. وكان نومه أعدل النوم، وهو أنفع ما يكون من النوم، والأطباء يقول: هو ثلث الليل والنهار، ثمان ساعات. (زاد المعاد) : 1/ 158- 159، فصل في هديه سيرته صلّى اللَّه عليه وسلّم في نومه وانتباهه.
والتعريس: نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة أو هو النزول.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 125، حديث رقم (2403) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 517، كتاب الغسل، باب (27) الجنب يتوضأ ثم ينام، حديث رقم (288) ، قوله: «وضوءه للصلاة: أي توضأ وضوءا شرعيا لا لغويا.
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 220، كتاب الحيض، باب (6) ، جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له، وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام، أو يجامع، حديث رقم (21 و 22) .
[ (4) ] سبق تخريجه.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 7/ 73، حديث رقم (23689) ، 7/ 84 حديث رقم (23772) ، 7/ 296،(8/80)
ومن حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتى فراشه في كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين] ، ثم يسمح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بها على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
وأخرجاه في الصحيحين، فذكره البخاري في فضائل القرآن [ (1) ] ، وفي التعوذ والقراءة عند النوم [ (2) ] ، وفي الطب [ (3) ] .
ولأحمد من حديث حماد بن سلمة، عن سهيل، عن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه [قال:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه قال: اللَّهمّ رب السموات السبع ورب الأرضين، وربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر
__________
[ () ] حديث رقم (25201) 7/ 303، حديث رقم (25245) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 76، كتاب فضائل القرآن، باب (14) فضل المعوذات، حديث رقم (5017) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 150، كتاب الدعوات، باب (12) التعوذ والقراءة عند المنام، حديث رقم (6319) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 256- 257، كتاب الطب، باب (39) النفث في الرقية، حديث رقم (5748) ، (الشمائل المحمدية) 218: حديث رقم (258) .
وقد ورد في القراءة عند النوم عدة أحاديث صحيحة: منها حديث أبى هريرة في قراءة آية الكرسي، وحديث ابن مسعود الآيتان من آخر سورة البقر،
وحديث فروة بن نوفل عن أبيه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لنوفل: اقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ في كل ليلة، ونم على خاتمتها فإنّها براءة من الشرك» أخرجه أصحاب السنن الثلاثة، وابن حبان والحاكم.
وحديث العرباض بن سارية: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: فيهن آية خير من ألف آية» أخرجه الثلاثة.
وحديث جابر رفعه: «كان لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) ، وغير ذلك كثير على ما يلي.(8/81)
كل ذي شر، أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغنني من الفقر [ (1) ] .
[و] أخرجه مسلم [ (2) ] ، ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا [أن نقول:] [ (3) ] ... فذكره. وخرجه الترمذي [ (4) ] [أيضا] [ (3) ] .
وخرّج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس [رضى اللَّه عنه] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد للَّه الّذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافى له ولا مؤوى [ (5) ] .
وخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب [ (6) ] .
وللبخاريّ من حديث أبى عوانه بن عبد الملك، عن ربعي، عن حذيفة [رضى اللَّه عنه] قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من الليل، وضع يده
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 355، حديث رقم (10541) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 39، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، والاستغفار، باب (17) ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، حديث رقم (2713) .
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 5/ 440، كتاب الدعوات، باب (19) حديث رقم (3400) قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن صحيح، وخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1274- 1275، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، حديث رقم (3873) ، (سنن أبى داود) : 5/ 301، كتاب الأدب، باب (107) ما يقول عند النوم، حديث رقم (5051) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 41، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث رقم (2715) .
[ (6) ] (سنن الترمذي) : 5/ 438، كتاب الدعوات، باب (16) ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، حديث رقم (3396) ، وأخرجه أيضا في (الشمائل المحمدية) : 220، باب (40) ما جاء في صفة نوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (260) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 5/ 302، كتاب الأدب، باب (107) ما يقول عند النوم، حديث رقم (5053) .(8/82)
تحت خده، ثم يقول: اللَّهمّ باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد للَّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور. ذكره في كتاب الدعوات [ (1) ] ، في باب ما يقول إذا أصبح.
وله من حديث منصور، عن ربعي بن خراش، عن خرشة بن الحر، عن أبى ذرّ [رضى اللَّه عنه] قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من الليل قال: اللَّهمّ باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد للَّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور. ذكره في كتاب التوحيد [ (2) ] .
وخرّجه مسلم من حديث شعبة، عن عبد اللَّه بن أبى السّفر، عن أبى بكر بن أبى موسى، عن البراء. تفرّد به مسلم من حديث البراء [ (3) ] .
وللترمذي من حديث سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش عن حذيفة [رضى اللَّه عنه] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أراد أن ينام، وضع يده تحت رأسه ثم قال: اللَّهمّ قنى عذابك يوم تجمع عبادك، أو تبعث
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 156، كتاب الدعوات، باب (16) ما يقول إذا أصبح، حديث رقم (6324) ، (6325) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 468، كتاب التوحيد، باب (13) السؤال بأسماء اللَّه تعالى والاستعاذة بها، حديث رقم (7395) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 71/ 38، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (17) باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، حديث رقم (2711) .
وأخرجه الترمذي في (الشمائل) : 218، باب ما جاء في صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (257) ، وفي (السنن) : 5/ 448، باب (28) ، حديث رقم (3417) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 5/ 300، كتاب الأدب، باب (107) ما يقول عند النوم، حديث رقم (5049) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1277، كتاب الدعاء، باب (16) ما يدعو به إذا انتبه من الليل، حديث رقم (3880) .
وأخرجه أبو الشيخ في (أخلاق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) : 167.(8/83)
عبادك.
قال: هذا حديث حسن [ (1) ] .
وله من حديث أبى إسحاق، عن أبى بردة، عن البراء بن عازب [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوسد يمينه ثم يقول: رب قنى عذابك يوم تبعث عبادك قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(سنن الترمذي) : 5/ 439، كتاب الدعوات، باب (18) حديث رقم (2398) ، وله من حديث أبى بردة عن البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوسد يمينه عند المنام ثم يقول: ربّ قنى عذابك يوم تبعث عبادك» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وروى الثوري هذا الحديث عن أبى إسحاق عن البراء، لم يذكر بينهما أحدا. وروى شعبة عن أبى إسحاق عن أبى عبيد ورجل آخر عن البراء.
وروى شريك عن أبى إسحاق عن عبد اللَّه بن يزيد عن البراء وعن أبى إسحاق عن أبى عبيدة، عن عبد اللَّه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمثله.
وأخرجه الترمذي أيضا في (الشمائل) : 216، باب (40) ما جاء في صفة نوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (255) .
وأخرجه ابن أبى شيبة في (المصنف) : 6/ 39- 40، كتاب الدعاء، باب (23) ما قالوا في الرجل إذا أخذ مضجعه وأوى إلى فراشه، ما يدعو به؟ حديث رقم (29300) .
وأخرجه ابن حبان في (الصحيح) : 12/ 330- 331، كتاب الزينة والتطيب باب (1) آداب النوم، ذكر ما يقول المرء إذا أوى إلى مضجعه يريد النوم، حديث رقم (5522) عن البراء.
وحديث رقم (5523) في ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر لم يسمعه أبو إسحاق عن البراء، فذكره، وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وهو مكرر ما قبله.
وأخرجه أبو نعيم في (حلية الأولياء) : 2/ 344، في ترجمة قتادة بن دعامة رقم (198) ، وقال:
تفرد به سعيد بن بشير عن قتادة، 8/ 215، في ترجمة محمد بن صبيح بن السماك رقم (399) وقال: صحيح ثابت من حديث البراء، ولم نكتبه من حديث ابن السماك إلا من هذا الوجه، 8/ 312، في ترجمة بكر بن عياش رقم (421) .
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1276، كتاب الدعاء باب (15) ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، حديث رقم (3877) .
وأخرجه الحميدي في (المسند) : 1/ 210- 211، حديث رقم (444) من أحاديث حذيفة ابن اليمان رضى اللَّه عنه.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 439، كتاب الدعوات، باب (18) ، حديث رقم (3399) ، وقد سبق ذكر تعليق الترمذي عليه فليراجع.(8/84)
وروى الثوري هذا الحديث، عن أبى إسحاق، عن البراء، لم يذكر بينهما أحدا، وروى شعبة عن أبى إسحاق عن أبى عبيد، ورجل آخر، عن البراء، وروى شريك عن أبى إسحاق، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن البراء [رضى اللَّه عنه] عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة وعن عبد اللَّه، عن النبي [صلّى اللَّه عليه وسلّم] بمثله [ (1) ] .
وللبخاريّ من حديث العلاء بن المسيب، حدثني أبى عن البراء بن عازب [رضى اللَّه عنهما قال:] كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه، نام على شقه الأيمن ثم قال: اللَّهمّ أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمرى إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الّذي أنزلت، ونبيك الّذي أرسلت. وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قالهن ثم مات تحت ليلته، مات على الفطرة. ذكره في كتاب الدعوات [ (2) ] .
وللترمذي من حديث حماد بن زيد، عن أبى لبابة قال: قالت عائشة رضى اللَّه عنها: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبنى إسرائيل [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 139، كتاب الدعوات، باب (9) النوم على الشق الأيمن، حديث رقم (6315) .
وأخرجه الترمذي في (السنن) : 5/ 438، كتاب الدعوات، باب (16) ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، حديث رقم (3395) ، وفيه: «فإن مات من ليلته دخل الجنة»
وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث رافع بن خديج رضى اللَّه عنه.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 1275- 1276، كتاب الدعاء، باب (15) ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، حديث رقم (3876) وقال فيه: «وإن أصبحت أصبحت وقد أصبت خيرا كثيرا» .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 446، كتاب الدعوات، باب (22) ، حديث رقم (3405) ، ثم قال: أخبرنى محمد بن إسماعيل قال: أبو لبابة هذا اسمه مروان مولى عبد الرحمن بن زياد، وسمع من عائشة منه حماد بن زيد رضى اللَّه عنه.(8/85)
ومن حديث بقية بن الوليد، عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبد اللَّه بن أبى بلال، عن العرباض بن سارية [رضى اللَّه عنه قال:] إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا ينام حتى يقرأ المسبحات، ويقول: [فيها] آية خير من ألف آية. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [ (1) ] .
وخرجه النسائي وقال: خالفه معاوية بن صالح، فذكر حديث ابن وهب، قال: سمعت معاوية يحدث عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ المسبحات، ويقول:
فيهن آية كألف آية.
قال معاوية: إن بعض أهل العلم، كانوا يجعلون المسبحات ستا: سورة الحديد، والحشر، والحواريون، وسورة الجمعة، والتغابن، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث ليث، عن أبى الزبير، عن جابر [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3406) .
وأخرجه أبو داود في (السنن) : 5/ 304، كتاب الأدب، باب (107) ما يقول عند النوم، حديث رقم (5057) .
وأخرجه الترمذي أيضا في ثواب القرآن، باب فضل سورة الإسراء والمسبحات، وقال: هذا حديث حسن غريب.
[ (2) ] أخرجه النسائي في (الكبرى) ، عمل اليوم والليلة، باب ثواب من يأوى إلى فراشه فليقرأ سورة من كتاب اللَّه حين يأخذ مضجعه.
قال الخطابي في (معالم السنن) : المراد بالمسبحات: السور التي افتتحت بسبحان، أو سبح، أو يسبح، وهن سبع سور: الإسراء، والحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 4/ 298، حديث رقم (14249) وعن ليث عن أبى الزبير عن جابر رضى اللَّه عنه، وأخرجه الترمذي في (السنن) : 5/ 442، كتاب الدعوات. باب (22) ، حديث رقم (3404) ، وفيه: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ بتنزيل السجدة وتبارك» .(8/86)
وخرجه [الإمام أحمد] [ (1) ] من حديث حسين المعلم، عن أبى بريدة قال: حدثني ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول إذا تبوّأ مضجعه قال: الحمد للَّه الّذي كفاني، وآوانى، وأطعمنى، وسقاني، والّذي منّ عليّ وأفضل، والّذي أعطانى فاجزل، الحمد للَّه على كل حال، اللَّهمّ رب كل شيء، ومالك كل شيء، وإله كل شيء، [ولك كل شيء] [ (2) ] ، أعوذ بك من النار [ (3) ] .
ومن حديث ابن لهيعة قال: حدثني حيّى بن عبد اللَّه، عن أبى عبد الرحمن الحبلى، عن عبد اللَّه بن عمرو [رضى اللَّه عنهما قال:] أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا اضطجع للنوم يقول: باسمك [رب] [ (4) ] وضعت جنبي فاغفر لي [ (5) ] .
وللترمذي من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن بكر بن عبد اللَّه المزني وعن عبد اللَّه بن رباح، عن أبى قتادة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا عرس بليل، اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرّس قبيل الصبح، نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه [ (6) ] ، وله في (الشمائل) من حديث سلمة بن كهيل،
__________
[ () ] قال أبو عيسى: هكذا روى سفيان وغير واحد هذا الحديث عن ليث عن أبى الزبير عن جابر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحوه.
وروى زهير هذا الحديث عن أبى الزبير، قال: قلت له: سمعته من جابر؟ قال: لم أسمعه من جابر، إنما سمعته من صفوان أو ابن صفوان.
وروى شبابة عن مغيرة بن مسلم عن أبى الزبير عن جابر نحو حديث ليث.
[ (1) ] في (الأصلين) : «الترمذي» ، والصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 265- 266، حديث رقم (5947) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] (مسند أحمد) : 2/ 265، حديث رقم (6583) .
[ (6) ] (الشمائل المحمدية) : 220، باب (40) ما جاء في صفة نوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم(8/87)
عن كريب، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام وصلى ولم يتوضأ [ (1) ] .
وفي الحديث قصة [ (2) ] [وروى أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا جاء الشتاء دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا لبس ثوبا جديدا، حمد اللَّه تعالى، وصلّى ركعتين، وكسا الخلق] [ (3) ] .
__________
[ () ] (261) .
وفي (مسلم بشرح النووي) : 5/ 198، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (55) قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، حديث رقم (313) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) 6/ 404، حديث رقم (22040) ، 6/ 420، حديث رقم (22126) .
[ (1) ] (الشمائل المحمدية) : 219، باب (40) ما جاء في صفة نوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (259) .
[ (2) ] هذه القصة مبثوثة في كتب السيرة، ذكرها الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 404، حديث رقم (22040) ، وقد أمسكنا عن ذكرها لطولها واشتهارها.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سقط في النسخة (ج) ولم أجد لهذه العبارة تخريجا ولا توجيها، والخلق:
القديم.(8/88)
وأما ما يقوله [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إذا استيقظ
تقدم حديث حذيفة [رضى اللَّه عنه] ، وإذا استيقظ قال: الحمد للَّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور [ (1) ] . وحديث أبى ذر [رضى اللَّه عنه] بنحوه [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، [قال:] أن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة [رضى اللَّه عنها] وهي خالته، قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهله في طولها، فنام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنّ معلقة، فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام [يصلى] ، قال ابن عباس [رضى اللَّه عنهما:] فقمت فصنعت مثل ما صنع [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج، فصلى الصبح. ذكره في كتاب الطهارة [ (2) ] ، وفي
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذا الحديث.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 381، كتاب الوضوء، باب (36) قراءة القرآن بعد الحدث وغيره، حديث رقم (183) .
قوله: «يمسح النوم» أي يمسح بيده عينيه، من باب إطلاق الحال على المحل، أو أثر النوم، من باب إطلاق السبب على المسبب.(8/89)
التفسير [ (1) ] ، وخرّجه مسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] .
وللإمام أحمد من حديث همام، حدثنا على بن زيد قال: حدثتني أم محمد، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يرقد ليلا ولا نهارا، فيستيقظ إلا قوّله تسوّك [ (4) ] .
وأما أنّ قلبه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] لا ينام
فخرج البخاري ومسلم من طريق مالك، عن سعيد المقبري، عن أبى سلمة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، [قالت:] إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها:
__________
[ () ] قوله: «ثم قرأ العشر آيات» : أولها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى أخر السورة، قال ابن بطال ومن تبعه: فيه دليل على رد من كره قراءة القرآن على غير طهارة، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ.
وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك، لأنه قال:
«تنام عيناي ولا ينام قلبي» ، وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك فتوضأ. والشنّ: القربة التي تبدت للبلاء. (فتح الباري) .
[ (1) ] (المرجع السابق) : 8/ 298، كتاب التفسير، باب (17) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، حديث رقم (4569) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 300، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (26) الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث رقم (765) ، ولفظه: «عن زيد بن خالد الجهنيّ أنه قال: لارمقن صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين، طويلتين، طويلتين، طويلتين، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة» .
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 2/ 100، كتاب الصلاة، باب (316) في صلاة الليل، حديث رقم (1367) ، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الصلاة: باب كم يصلى بالليل، حديث رقم (1362) .
[ (4) ] (مسند أحمد) : 7/ 175، حديث رقم (24379) .(8/90)
يا عائشة، إن عينىّ تنامان ولا ينام قلبي [ (1) ] .
ولابن الجارود من حديث يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان قال: سمعت أبى يحدث عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تنام عيني، ولا ينام قلبي.
وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى طرق من هذا الحديث.
__________
[ (1) ] (جامع الأصول) : 6/ 93، حديث رقم (1498) ، ضمن حديث طويل عن أبى سلمة: «أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول اللَّه! أتنام قبل أن توتر؟
فقال: يا عائشة، إن عينىّ تنامان وقلبي لا ينام» و 8/ 540- 541، حديث رقم (6346) وفيه: «ما رأينا عبدا قط أوتى مثل ما أوتى هذا النبي، إن عينيه تنامان، وقلبه يقظان» وحديث رقم (6347) ، وفيه: «جاءت ملائكة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم:
العين نائمة والقلب يقظان» .(8/91)
وأما مناماته عليه السلام
[ (1) ]
__________
[ (1) ] سئل ابن الصلاح عن تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر: 42] .
أجاب: اللَّه يقبض الأنفس حين انقضاء أجلها بموت أجسادها، فلا يردها إلى أجسادها، واللَّه يقبضها أيضا عند نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت بموت أجسادها، فلا يردها إلى أجسادها، ويرسل الأخرى التي لم تقبض بموت أجسادها حتى تعود إلى أجسادها، إلى أن يأتى الأجل المسمى لموتها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لدلالات المتفكرين، على عظيم قدرة اللَّه سبحانه، وعلى أمر البعث، فإن الاستيقاظ بعد النوم شبيه ودليل عليه.
وقد نقل أن في التوراة: يا ابن آدم، كلما تنام تموت، وكلما تستيقظ تبعث، فهذا واضح، والّذي يشكل في ذلك أن النفس المتوفاة في المنام أهي الروح المتوفاة عند الموت؟ أم هي غيرها؟ فإن كانت هي الروح فتوفيها في النوم يكون بمفارقتها الجسد أم لا؟ وقد أعوز الحديث الصحيح، والنص الصريح، والإجماع أيضا لوقوع الخلاف فيه بين العلماء:
فمنهم: من يرى أن للإنسان نفسا تتوفى عند منامه، غير النفس التي هي الروح، والروح لا تفارق الجسد عند النوم، وتلك النفس المتوفاة في النوم هي التي يكون بها التمييز والفهم، وأما الروح: فيها تكون الحياة، ولا تقبض إلا عند الموت، ويروى معنى هذا عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما.
ومنهم: من ذهب إلى أن النفس التي تتوفى عند النوم هي الروح نفسها، واختلف هؤلاء في توفيها:
فمنهم: من يذهب إلى أن معنى وفاة الروح بالنوم قبضها عن التصرفات مع بقائها في الجسد، وهذا موافق للأول من وجه، ومخالف من وجه.
ومنهم: من ذهب إلى أن الروح تتوفى عند النوم، بقبضها من الجسد ومفارقتها له، وهذا الّذي نجيب به، وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة.
قال المفسرون: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء اللَّه، فإذا أرادت جميعها الرجوع إلى أجسادها، أمسك اللَّه أرواح الأموات عنده، وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها.
فالفرق بين القبضتين والوفاتين أن الروح في حالة النوم تفارق الجسد على أنها تعود إليه، فلا(8/92)
فخرج أبو عبد اللَّه محمد بن عائد بن عبد الرحمن بن عبيد اللَّه القرشي، في كتاب (المغازي) ، قال: أخبرنى الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة، عن أبى الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، قال: إن اللَّه تبارك وتعالى، بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأراه اللَّه رؤيا في المنام، فشق عليه ذلك، رأى بينا هو بمكة، أتى سقف بيته، فنزع خشبة خشبة، حتى إذا فرغ، أدخل فيه سلم من فضة، ثم سوّل منه رجلان، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأردت أن أستغيث، فحبساني ومنعانى الكلام، وقعد أحدهما إلى كذا، وقعد الآخر إلى جنبي وأنا فرق، فأدخل أحدهما يده في
__________
[ () ] تخرج خروجا ينقطع به العلاقة بينها وبين الجسد، بل يبقى أثرها الّذي هو حياة الجسد باقيا فيه، فأما في حالة الموت، فالروح تخرج من الجسد مفارقة له بالكلية، فلا تخلف فيه شيئا من أثرها، فلذلك تذهب الحياة معها عند الموت دون النوم.
ثم إن إدراك كيفية ذلك والوقوف على حقيقة متعذر، فإنه من أمر الروح، وقد استأثر بعلمه الجليل تبارك وتعالى، فقال سبحانه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] .
وأما قوله تعالى: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ فإن الأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة التي تقبض من الحشيش ونحوه، والأحلام: جمع حلم، وهي الرؤيا مطلقا، وقد تختص بالرؤيا التي تكون من الشيطان، فمعنى الآية أنهم قالوا للملك: إن الّذي رأيته أحلام مختلطة ولا يصح تأويلها.
وقد أفرد بعض أهل التعبير اصطلاحا لأضغاث الأحلام، من شأنها أنها لا تدل على الأمور المستقبلة، وإنما تدل على الأمور الحاضرة أو الماضية، ونجد معها أن يكون الرائي خائفا من شيء. أو راجيا لشيء.
وقال عليّ رضى اللَّه عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين، وتخيل إليها الأباطيل، فهي الرؤيا الكاذبة.
وعن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كما تنامون فكذلك تموتون، وكما توقظون فكذلك تبعثون. وسئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا رسول اللَّه، أينام أهل الجنة؟ قال: لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها. [قال في (العلل المتناهية) : وقد روى بإسناد أصلح من هذا] حديث رقم (1553) . (دلائل البيهقي) :
7/ 11- 31 هامش مختصرا.(8/93)
جنبي، فنزع ضلعين من جانبي، كما ينزع غلق الصندوق الشديد، فأدخل يده في جوفي، وأنا أجد بردها، فأخرج قلبي فوضعه على كفه، وقال لصاحبه: نعم القلب قلبه، قال: قلب رجل صالح، ثم أدخل القلب في مكانه، وردّ الضلعين كما يرد غلق الصندوق الشديد، ثم ارتقيا، ورفعا السلم، فاستيقظت، فإذا سقف البيت كما هو، فقلت: حلم] [ (1) ] .
[وذكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لزوجته خديجة بنت خويلد رضى اللَّه عنها، فعصمها اللَّه تعالى من التكذيب، وقالت: أبشر، فو اللَّه لا يفعل اللَّه بك إلا خيرا، أخبرها أنه رأى بطنه طهر وغسل ثم أعيد كما كان، فقالت: هذا واللَّه خيرا فأبشر.] [ (1) ] .
[قال ابن عائذ: وأخبرنى محمد بن شعيب، عن عثمان بن عطاء، أنه أخبره عن أبيه عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: ثم بعث اللَّه محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رأس خمس سنين من بنيان الكعبة، فكان أول شيء أراه اللَّه تعالى إياه من النبوة، رؤيا في المنام، فشق عليه ذلك، والحق ثقيل، والإنسان ضعيف، فذكر ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لزوجته خديجة ابنة خويلد رضى اللَّه عنها، فعصمها اللَّه تعالى من التكذيب، فقالت: أبشر، فإن اللَّه لا يصنع بك إلا خيرا، فحدّثها أنه رأى بطنه طهّر، وغسل، ثم أعيد كما كان، وقالت: وهذا واللَّه خيرا] [ (2) ] .
وخرّج الحافظ أبو موسى، محمد بن أبى بكر بن أبى عيسى المديني الأصبهاني، من طريق الفرج بن فضالة: حدثنا هلال أبو جبلة، عن سعيد ابن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة رضى اللَّه عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذات يوم، ونحن في صفّة بالمدينة، فقام علينا فقال: إني
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) وأثبتناه من (خ) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) ، وما أثبتناه من (خ) .(8/94)
رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتى أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه برّه بوالديه، فردّ ملك الموت عنه [ (1) ] .
[ورأيت رجلا من أمتى قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه، فاستنقذه من ذلك] .
ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته الشياطين، فجاء ذكر اللَّه عزّ وجلّ، فطرد الشياطين عنه [ (1) ]] [ (2) ] .
ورأيت رجلا من أمّتى قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته، فاستنقذته من أيديهم [ (3) ] .
ورأيت رجلا من أمتى يتلهث- وفي رواية يلهث- عطشا، كلما دنا من حوض منع وطرد، فجاء صيام شهر رمضان، فسقاه وأرواه [ (4) ] .
ورأيت رجلا من أمتى، ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا، كلما دنا إلى حلقة طرد، فجاء غسله من الجنابة، فأخذ بيده، فأقعده إلى جنبي.
ورأيت رجلا من أمتى من بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن قوفه ظلمة، وهو متحيّر [فيه] ، فجاء حجّه وعمرته فأخرجاه من الظلمة، وأدخلاه في النور.
ورأيت رجلا من أمتى يتقى بيده وجهه وهج النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سترة بينه وبين النار، [وظلا] على رأسه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مجمع الزوائد) : 7/ 179.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) ، وما أثبتناه من (خ) .
[ (3) ] اتحاف السادة المتقين) : 8/ 119.
[ (4) ] (المرجع السابق) .
[ (5) ] (مجمع الزوائد) : 7/ 179.(8/95)
ورأيت رجلا من أمتى يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المسلمين، إنه كان وصولا لرحمه فكلموه، فكلمه المؤمنون، وصافحوه، وصافحهم.
ورأيت رجلا من أمتى قد احتوشته الزبانية، فجاء أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة [ (1) ] .
ورأيت رجلا من أمتى جاثيا على ركبتيه، وبينه وبين اللَّه تعالى حجاب، فجاءه حسن خلقه، فأخذ بيده، فأدخله على اللَّه عزّ وجل [ (2) ] .
ورأيت رجلا من أمتى قد ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من اللَّه عزّ وجل، فأخذ صحيفته، فوضعها في يمينه [ (3) ] .
ورأيت رجلا من أمتى خفّ ميزانه، فجاءه أفراطه فثقّلوا ميزانه [ (4) ] .
ورأيت رجلا من أمتى قائما على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من اللَّه [عزّ وجل] ، فاستنقذه من ذلك ومضى.
ورأيت رجلا من أمتى في النار، فجاءته دمعته التي بكى من خشية اللَّه [عزّ وجلّ] ، فاستنقذته من ذلك.
ورأيت رجلا من أمتى قائما على الصراط، يرعد كما [ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه باللَّه عزّ وجلّ، فسكّن رعدته ومضى] [ (5) ] .
[ورأيت رجلا من أمتى يزحف على الصراط، ويحبو أحيانا، ويتعلق
__________
[ (1) ] المرجع السابق.
[ (2) ] (اتحاف السادة المتقين) : 7/ 323.
[ (3) ] (مجمع الزوائد) : 7/ 179.
[ (4) ] (المرجع السابق) .
[ (5) ] (المرجع السابق) .(8/96)
أحيانا فجاءته صلاته عليّ، فأقامته على قدميه، وأنقذته] [ (1) ] .
[ورأيت رجلا من أمتى انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا اللَّه، ففتحت له الأبواب، وأدخلته الجنة] [ (2) ] .
[قال أبو موسى: هذا حديث حسن جدا، رواه عن سعيد بن المسيب، عمر بن ذرّ، وعلى بن زيد بن جدعان. قال: والفرج بن فضالة بن النعمان ابن نعيم، أبو فضالة، كان وسطا في الرواية، ليس بالقوى ولا المتروك. وأبو جبلة سعيد بن هلال، كأنه مدني، لا يعرف بغير هذا، ذكره ابن أبى حاتم عن أبيه هكذا. وذكره الحاكم أبو عبد اللَّه بغير هذا الحديث، وأحاله على مسلم بن الحجاج، ورواه عن الفرج بن فضالة، بشر بن الوليد بن خالد، أبو الوليد الكندي، قاضى بغداد، كان جميل [المذهب] ، حسن الطريقة] [ (2) ] .
[وخرّج مسلم [ (3) ] ، وأبو داود [ (4) ] ، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت ذات ليلة في ما يرى النائم، كأنّا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب] [ (2) ] .
[وخرّج البخاري في المناقب، في باب: علامات النبوة في الإسلام [ (5) ] ،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) واستدركناه من (خ) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 36- 37، كتاب الرؤيا، باب (4) رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2270) .
[ (4) ] (سنن أبي داود) : 5/ 286، كتاب الأدب، باب (96) ما جاء في الرؤيا، حديث رقم (5025) ، وابن طاب: رجل معروف من أهل المدينة، نسب إليه نوع خاص من التمر. (معالم السنن) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 6/ 778، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3622) .(8/97)
من حديث حماد بن سلمة، وخرّج مسلم في الرؤيا [ (1) ] ، من حديث أبى أسامة، قالا جميعا: عن بريد، عن أبى بردة، [عن] جده، عن أبى موسى رضى اللَّه عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، [فذهب وهلى] أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه، أنى هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء اللَّه به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت أيضا فيها بقرا، واللَّه خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء اللَّه [به] من الخير بعد، وثواب الصّدق الّذي أتانا اللَّه بعد يوم بدر] [ (2) ] .
[وخرجه البخاري في كتاب التعبير، في باب: إذا رأى بقرا تنحر [ (3) ] ، وفي باب: إذا هزّ سيفا في المنام [ (4) ] ، من حديث أبى أسامة بهذا الإسناد،
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 37- 38، كتاب الرؤيا، باب (4) رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2272) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) واستدركناه من (خ) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 12/ 521، كتاب التعبير، باب (39) إذا رأى بقرا تنحر، حديث رقم (7035) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 12/ 528، كتاب التعبير، باب (44) إذا هزّ سيفا في المنام، حديث رقم (7041) ، قال الحافظ: ولما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصول بالصحابة- رضوان اللَّه تعالى عليهم- عبّر عن السيف بهم، وبهزّه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وفي الهزة الأخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبّر به عن اجتماعهم والفتح عليهم.
ولأهل التعبير في «السيف» تصرف على أوجه: منها، أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، إما ولاية، وإما وديعة، وإما زوجة، وإما ولدا فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، وإن سلما أو عطبا فكذلك وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونصله بالأم وذوى الرحم، وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده في خصومه، وربما عبر السيف بسلطان جائر.
وقال بعضهم: من رأى أنه أغمد السيف فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما فهي فتنة،(8/98)
وقال: عن أبى موسى، أراه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال فيه وفي الّذي قبله: فإذا هي اليمامة أو البحر. وقال: فإذا هم المؤمنون يوم أحد. وذكر طرفا منه في غزوة بدر [ (1) ] بهذا الإسناد وقال: أراه عن رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] . وذكره أيضا في غزوة أحد [ (2) ] .] [ (3) ] .
[وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للمسلمين بمكة: قد رأيت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان] [ (3) ] .
وخرّج البيهقي من طريق عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرنى ابن أبى الزناد، عن أبيه، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: تنفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سيفه ذا الفقار يوم بدر، قال ابن عباس: هو الّذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما جاءه المشركون يوم أحد، كان رأى رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] أن يقيم بالمدينة يقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: يخرج بنا رسول اللَّه نقاتلهم بأحد، ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لبس أداته، ثم ندموا، وقالوا: يا رسول اللَّه! أقم، فالرأي رأيك، فقال: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها، حتى يحكم اللَّه بينه وبين عدوه، قالوا: وكان مما قال لهم رسول اللَّه للَّه، يومئذ قبل] أن يلبس الأداة:
إني رأيت أنى في درع حصينة، فأولتها المدينة، وإني مردف كبشا، فأوّلته
__________
[ () ] ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره، وإن رأى أنه يجر حمائله فإنه يعجز عنه. (فتح الباري) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 390، كتاب المغازي، باب (10) بدون ترجمة، حديث رقم (3987) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 476، كتاب المغازي، باب (27) من قتل من المسلمين يوم أحد، حديث رقم (4081) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) ، واستدركناه من (خ) .(8/99)
كبش الكتيبة، [وإني] رأيت [أن] سيفي ذا الفقار فلّ، [فأولته] فلّا فيكم، ورأيت بقرا تذبح، فبقر واللَّه خير، فبقر واللَّه خير [ (1) ] .
ومن حديث حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت فيما يرى النائم، كأنى مردف كبشا، وكأن ظبّة سيفي انكسرت، فأولت أنّى أقتل كبش القوم، وأولت كسر ظبّة سيفي، قتل رجل من عترتي، فقتل حمزة رضى اللَّه عنه، وقتل طلحة، بن أبى طلحة ابن عبد العزى بن عثمان، بن عبد اللَّه بن عبد العزى، بن عثمان بن عبد الدار بن قصي [وكان] صاحب اللواء. وخرّجه الإمام أحمد به نحوه [ (2) ] .
وقال الواقدي في مغازيه- وقد ذكر غزاة أحد-: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح واجتمع المسلمون وخطب فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر عن قتادة، عن محمود بن لبيد قال: ظهر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على المنبر، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأنى في درع حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورأيت بقرا تذبح، ورأيت كأنى مردف كبشا، فقال الناس: يا رسول اللَّه! فما أولتها؟ قال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:] أما الدرع الحصينة، فالمدينة-، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته، فمصيبة في نفسي، وأما البقر المذبّح، فقتلى في أصحابى، وأما مردف كبشا، فكبش الكتيبة، نقتله إن شاء اللَّه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 205، باب ذكر ما أرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في منامه من شأن الهجرة وأحد، وما جاء اللَّه به من الفتح بعد.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 447، حديث رقم (2441) .(8/100)
[تعالى] [ (1) ] .
حدثني محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ورأيت في سيفي فلا فكرهته، فهو الّذي أصاب وجهه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وخرج البخاري في كتاب (المغازي) في وفد بنى حنيفة، وخرّج مسلم أيضا من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال:
هذا ما حدثنا أبو هريرة رضى اللَّه عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم، أوتيت خزائن الأرض- وقال البخاري: فأوتيت بخزائن الأرض- فوضع في يدي سوارين- وقال البخاري: في كفّى سوارين- من ذهب، فكبرا عليّ وأهمانى، فأوحى إلى أن انفخهما، فنفختهما، فذهبا، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما:
صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة [ (2) ] .
وخرج البخاري في كتاب التعبير، من حديث عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضى اللَّه عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نحن الآخرون السابقون، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم، إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يدي أسواران من ذهب، فكبرا عليّ.
. الحديث إلى آخره، وترجم عليه باب: النفخ في المنام.
__________
[ (1) ]
(مغازي الواقدي) : 1/ 208- 209، (سيرة ابن هشام) : 4/ 8 رؤيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومشاورته القوم، قال ابن هشام: «وحدثني بعض أهل العلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت بقرا لي تذبح؟ قال:
فأما البقر فهي ناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الّذي رأيت في ذباب سيفي، فهو رجل من أهل بيتي يقتل.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 112، كتاب المغازي، باب (71) وفد بنى حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، حديث رقم (4375) .(8/101)
وخرج البخاري في كتاب التعبير، من حديث عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضى اللَّه عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نحن الآخرون السابقون، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم، إذا أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يدي أسواران من ذهب، فكبرا عليّ.
. الحديث إلى آخره، وترجم عليه باب: النفخ في المنام [ (1) ] .
وخرّج في باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة، فأسكنه [موضعا] آخر، من حديث موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة- وهي الجحفة- فأولت أن وباء المدينة نقل إليها [ (2) ] ،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 12/ 523، كتاب التعبير، باب (40) النفخ في المنام، حديث رقم (7037) .
قوله: «فكبرا عليّ» ، قال القرطبي: وإنما عظم عليه ذلك لكون الذهب من حليه النساء ومما حرم على الرجال.
قوله: «فأولتهما الكذابين» ، قال القاضي عياض: لما كان رؤيا السوارين في اليدين جميعا من الجهتين، وكان النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ. بينهما فتأول السوارين عليهما لوضعهما في غير موضعهما، لأنه ليس من حلية الرجال، وكذلك الكذب يضع الخبر في غير موضعه، وفي كونهما من ذهب إشعار بذهاب أمرهما.
وقال ابن العربيّ: السوار من حلى الملوك الكفار، كما قال تعالى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ. واليد لها معان: منها القوة، والسلطان، والقهر.
قال: ويحتمل أن يكون ضرب المثل بالسوار كناية عن الأسوار، وهو من أسامى ملوك الفرس، قال:
وكثيرا ما يضرب المثل بحذف بعض الحروف.
وقال القرطبي في (المفهم) : مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا أسلموا، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا على أهلها بزخرف أقوالهما، ودعواهما الباطلة، انخدع أكثرهم بذلك، فكان اليدان بمنزلة البلدين والسواران بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفاه، والزخرف من أسماء الذهب.
(فتح الباري) : مختصرا، وأخرجه مسلم في كتاب الرؤيا حديث رقم (2274) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (41) إذا رأى أنه أخرج الشيء من كوة وأسكنه موضعا آخر، حديث رقم (7038) .(8/102)
وخرّجه في باب المرأة السوداء [ (1) ] ، وفي باب المرأة الثائرة [بهذا] الإسناد نحوه [ (2) ] .
وخرّج الترمذي من حديث عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت: سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ورقة، فقالت له خديجة رضى اللَّه عنها: إنه كان صدقك، ولكنه مات قبل أن تظهر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريته في المنام وعليه ثياب بياض، ولو كان من أهل النار، لكان عليه لباس غير ذلك،
قال: هذا حديث غريب. وعثمان ابن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوى [ (3) ] .
وخرّج مسلم [ (4) ] والترمذي [ (5) ] من طريق وهب بن جرير، [قال:] حدثنا أبى، عن أبى رجاء العطاردي، عن حمزة بن جندب رضى اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه، فقال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ هذا آخر حديث لمسلم في كتاب الرؤيا، ولم يذكر منه غير هذا الّذي كتبناه، وهو أيضا آخر حديث في كتاب الرؤيا عند الترمذي ولفظه فيه: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلّى بنا الصبح، أقبل على الناس بوجهه وقال: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ثم قال بعده: هذا حديث حسن [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : باب (42) المرأة السوداء، حديث رقم (7039) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (43) المرأة الثائرة الرأس، حديث رقم (7040) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 468، كتاب الرؤيا، باب (10) ما جاء في رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الميزان والدلو، حديث رقم (2288) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 40 كتاب الرؤيا، باب (4) رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (2275) .
[ (5) ] (سنن الترمذي) : 4/ 471، كتاب الرؤيا، باب (10) ما جاء في رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الميزان والدلو، حديث رقم (2294) ، وأخرجه البخاري في الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، وفي التعبير، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
[ (6) ] راجع التعليق السابق.(8/103)
قال: ويروى هذا عن عوف وجرير بن حازم، عن أبى رجاء، عن سمرة رضى اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قصة طويلة. قال: وهكذا روى محمد بن بشار هذا الحديث عن وهب بن جرير مختصرا [ (1) ] .
وخرجه البخاري في باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، وهو آخر أبواب كتاب التعبير، من حديث إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عوف، حدثنا أبو رجاء، حدثنا سمرة بن جندب رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يعنى مما] يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قال: فقص عليه ما شاء اللَّه [تعالى] أن يقص، وأنه قال لنا ذات غداة: إنه أتانى الليلة آتيان وأنهما ابتعثانى، وإنهما قالا لي:
انطلق، وإني انطلقت معهما، وإن أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم [عليه] بصخرة، وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى [يصح] رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل به [المرة] الأولى، قال: قلت لهما: سبحان اللَّه! ما هذان؟ فقال: قالا لي: انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه، وإذا هو يأتى أحد شقي وجهه، فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه- قال: وربما قال أبو رجاء: فيشق- قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب، حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان اللَّه! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور، قال: وأحسب أنه كان يقول، فإذا فيه
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : تعليقا على الحديث رقم (2294) .(8/104)
لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء [عراة] ، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهم: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر حسبت كأن يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع [حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتى ذلك الّذي قد جمع عنده الحجارة] فيفغر له فاه، فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجرا، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
قال: فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلا مرآة، وإذا عنده نار يحشها، ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قلت لهما: ما هذا؟
ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
فانطلقنا، فانتهينا إلى روضة عظيمة، لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق، فارتقيت فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب، ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال:
وإذا نهر معترض يجرى، كأن ماءه المحض من البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، فذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال:
قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك. قال: فسما بصرى صعدا، فإذا(8/105)
قصر مثل [الربابة] البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك قال: قلت لهما:
بارك اللَّه فيكما، ذراني فأدخله، قالا: أما الآن، فلا، وأنت داخله، قال:
قلت لهما: فإنّي قد رأت منذ الليلة عجبا، فما هذا الّذي رأيت؟ [قال:] قالا لي: إنا سنخبرك.
أما الرجل الأول الّذي أتيت عله يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الرجل الّذي أتيت عليه يشر شر شدقه إلى قفاه [ومنخره إلى قفاه] ، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة، الذين في مثل بناء التنور، [فهم] الزناة والزواني.
وأما الرجل الّذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الّذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه [مالك] خازن جهنم.
وأما الرجل الطويل الّذي في الروضة، فإنه إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة. قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول اللَّه! وأولاد المشركين؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأولاد المشركين.
وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسنا، وشطر منهم قبيحا، فإنّهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تجاوز اللَّه عنهم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 542- 544، كتاب التعبير، باب (48) تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، حديث رقم (7047) .
قوله: «باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح» فيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر(8/106)
__________
[ () ] عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم، قال: «لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشميس» .
وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: أن المستحب أن يكون تعبير الرؤيا من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة [من الشروق] ، ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة.
قال المهلب: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها، لقرب عهده بها، قبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر، وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير، ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير عن معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا.
[وقد] كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجيد تعبير الرؤيا، وكان له مشارك في ذلك منهم، لأن الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا ممن تدرب فيه، ووثق بإصابته، كقولك: كان زيد من العلماء بالنحو، ومنه قول صاحبي السجن ليوسف عليه السلام: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 36] ، أي من المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلما ذلك مما رأياه منه، هذا من حيث البيان.
وأما من حيث النحو: فيحتمل أن يكون
قوله: «هل رأى أحد منكم رؤيا»
مبتدأ، والخبر مقدم عليه على تأويله هذا القول، مما يكثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقوله.
قوله: «وإنهما ابتعثانى» ،
معنى ابتعثانى: أرسلانى، يقال: ابتعثه إذا أثاره وأذهبه، وقال ابن هبيرة: معنى ابتعثانى: أيقظاني، ويحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه، فرأى ما رأى في المنام، ووصفه بعد أن أفاق على منامه كاليقظة، لكن لما رأى مثالا كشفه التعبير دل على أنه كان مناما.
قوله: «وإني انطلقت معهما» ، زاد جرير بن حازم في روايته: «إلى الأرض المقدسة» ، وعند أحمد: «إلى أرض فضاء أو مستوية» ، وفي حديث على: «فانطلقا بى إلى السماء» .
قوله: «وإنا أتينا على رجل مضطجع» ، في رواية جرير: «مستلق على قفاه» .
قوله: «وإذا آخر قائم عليه بصخرة» ، في رواية جرير: «بفهر أو صخرة» ، وفي حديث على: «فمررت على تلك وأمامه آدمي، وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي» .
قوله: «يهوى»
بفتح أوله وكسر الواو، أي يسقط، يقال: هوى- بالفتح- يهوى هويا، سقط إلى أسفل. وضبطه ابن التين بضم أوله من الرباعي، وقال: أهوى من بعد، وهوى- بفتح الواو- نم قرب.
قوله: «بالصخرة لرأسه فيثلغ»
- بفتح أوله وسكون المثلثة اللام بعدها غين معجمة- أي يشدخه، وقد وقع في رواية جرير: «فيشدخ» والشدخ: كسر الشيء الأجوف.(8/107)
__________
[ () ] قوله: «فيتدهده الحجر»
- بفتح المهملتين بينهما هاء ساكنة- وفي رواية اللشمهينى: «فيتدأدأ» بهمزتين بدل الهاءين، وفي رواية النسفي، وكذا هو في رواية جرير بن حازم: «فيتدهدأ» بهاء ثم همزة، وكل بمعنى. والمراد: أنه دفعه من علو إلى أسفل، وتدهده إذا انحط، والهمزة تبدل من الهاء كثيرا، وتدأدأ تدحرج، وهو بمعناه.
قوله: «فيتبع الحجر»
أي الّذي رمى به «فيأخذه» .
قوله: «فلا يرجع إليه»
أي إلى الّذي شدخ رأسه.
قوله: «حتى يصح رأسه» ، وفي رواية جرير: «حتى يلتئم» ، وعند أحمد: «عاد رأسه كما كان» ، وفي حديث على: «فيقع دماغه جانبا وتقع الصخرة جانبيا» .
قال ابن العربيّ: جعلت العقوبة في رأس هذه النومة عن الصلاة.
قوله: «فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد» ،
وفي كتاب الجنائز ضبطه «كلوب» ،
ووقع في حديث على: «فإذا أنا بملك وأمامه آدمي، وبيد الملك كلّوب من حديد فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه» .
قوله: «فيشرشر شدقه إلى قفاه»
أي يقطعه شقا، والشدق جانب الفم،
وفي رواية جرير: «فيدخله في شقه فيشقه حتى يبلغ قفاه» .
قال ابن العربيّ: شرشرة شدق الكاذب إنزال العقوبة بمحل المعصية، وعلى هذا تجرى العقوبة في الآخرة بخلاف الدنيا.
قوله: «وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا»
بغير همز للأكثر وحكى الهمز، أي رفعوا أصواتهم مختلطة، ومنهم من سهّل الهمزة.
قال في (النهاية) : الضوضاء أصوات الناس ولغطهم، وكذا الضوضى بلا همز مقصور.
وقال الحميدي: المصدر بغير همز.
قوله: «كريه المرآة»
بفتح الميم وسكون الراء وهمزة ممدودة بعدها هاء تأنيث، قال ابن التين: أصله المرأية تحركت الياء، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وزنه مفعلة، أي قبيح المنظر.
قوله: «عنده نار يحشها»
قال الجوهري: حششت النار أحشاها حشا: أوقدتها. وقال في (التهذيب) : حششت الناد بالحطب: ضممت ما تفرق من الحطب إلى النار. وقال ابن العربيّ:
حشّ النار: حرّكها.
قوله: «فأتينا على روضة معتمة»
قال الحافظ: الّذي يظهر أنه من العتمة وهو شدة الظلام، فوصفها بشدة الخضرة، كقوله تعالى: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] .
قوله: «فانتهينا إلى المدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة»
اللبن بفتح اللام وكسر الموحدة جمع(8/108)
__________
[ () ] لبنة، وأصلها ما يبنى به من طين.
قوله: «فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم» ،
هذا الإطلاق يحتمل أن يكون المراد أن نصفهم حسن كله ونصفهم قبح كله، ويحتمل أن يكون كل واحد منهم نصفه حسن ونصفه قبيح- والثاني هو المراد، ويريده قوله في صفتهم: «هؤلاء قوم خلطوا» أي عمل كل منهم صالحا وخلطه بعمل سيئ.
قوله: «فقعوا في ذلك النهر»
بصيغة فعل الأمر بالوقوع، والمراد أنهم ينغمسون فيه ليغسل تلك الصفة بهذا الماء الخاص.
قوله: «كأن ماءه المحض»
بفتح الميم وسكون المهملة بعدها ضاد معجمة، هو اللبن الخالص من الماء، حلوا كان أو حامضا.
قوله: ذهب ذلك السوء عنهم، أي صار القبح كالشطر الحسن، فلذلك قال: وصاروا في أحسن صورة.
قوله: فيرفضه»
بكسر الفاء ويقال بضمها، قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة، لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه، فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن، عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس.
قوله: «وينام عن الصلاة المكتوبة،
هذا أوضح من رواية جرير بن حازم بلفظ: «وعلمه اللَّه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار» .
فإن ظاهره أنه يعذب على ترك قراءة القرآن بالليل، بخلاف رواية عوف فإنه على تركه الصلاة المكتوبة، ويحتمل أن يكون التعذيب على مجموع الأمرين، ترك القراءة وترك العمل.
قوله: «فهم الزناة»
مناسبة العرى لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة، فعوقبوا بالهتك، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون جنايتهم من أعضائهم السفلى.
قوله: «فإنه آكل الربا» .
قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة، لأن أصل الربا يجرى في الذهب، والذهب أحمر، وأما إلقام الملك الحجر، فإنه إشارة إلى أنه لا يغنى عنه شيئا، وكذلك الربا، فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، واللَّه من ورائه محقه.
قوله: «خازن جهنم»
إنما كان كريه الرؤية، لأن في ذلك زيادة في عذاب أهل النار.
قوله: «وأما الرجل الطويل الّذي في الروضة فإنه إبراهيم»
وإنما اختص إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه أبو المسلمين، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج: 78] ، وقال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمران: 68] .
قوله: «وأما القوم الذين كانوا شطرا منهم حسن وشطرا منهم قبيح» ،
كذا في الموضعين بنصب الشطر ... ولغير أبى ذر «شطر» في الموضعين بالرفع، و «حسنا» و «قبيحا» بالنصب، ولكل وجه.(8/109)
__________
[ () ]
وفي حديث أبى أمامة: «ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء أقبح شيء منظرا وأنتنه ريحا كأنما ريحهم المراحيض، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة، ثم انطلقنا، فإذا نحن بموتي أشد شيئا انتفاخا وأنتنه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى الكفار، ثم انطلقناه فإذا نحن برجال نيام تحت ظلال الشجر، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى المسلمين، ثم انطلقناه، فإذا نحن برجال أحسن شيء وجها وأطيبه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء هم الصديقون والشهداء والصالحون» .
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الإسراء وقع مرارا، يقظة ومناما، على أنحاء شتى، وفيه أن العصاة يعذبون في البرزخ.
وفيه نوع من تلخيص العلم، وهو أن يجمع القضايا جملة، ثم يفسرها على الولاء، ليجتمع قصورها في الذهن، والتحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفض القرآن لمن يحفظه، وعن الزنا، وأكل الربا، وتعمد الكذب، وأن الّذي له قصر في الجنة لا يقيم فيه وهو في الدنيا بل إذا مات، حتى النبي والشهيد.
وفيه الحث على طلب العلم، واتباع من يلتمس منه ذلك، وفيه فضل الشهداء، وأن منازلهم في الجنة أرفع المنازل، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا أرفع درجة من إبراهيم عليه السلام، لاحتمال أن إقامته هناك بسبب كفالته الولدان، ومنزله هو في المنزلة التي هي أعلى من منازل الشهداء، كما تقدم في الإسراء، أنه رأى آدم في السماء الدنيا، وإنما كان كذلك لكونه يرى نسم بنيه من أهل الخير ومن أهل الشر، فيضحك ويبكى، مع أن منزلته هو في عليين، فإذا كان يوم القيامة استقر كل منهم في منزلته.
وفيه أن الاهتمام بأمر الرؤيا بالسؤال عنها، وفضل تعبيرها، واستحباب ذلك بعد صلاة الصبح، لأنه الوقت الّذي يكون فيه البال مجتمعا.
وفيه استقبال الإمام أصحابه بعد الصلاة إذا لم يكن بعدها راتبة، وأراد أن يعظهم أو يفتيهم، أو يحكم بينهم.
وفيه أن ترك استقبال القبلة للإقبال عليهم لا يكره، بل يشرع كالخطيب.
قال الكرماني: مناسبة العقوبات المذكورة فيه للجنايات ظاهرة إلا الزنا ففيها خفاء، وبيانه أن العرى فضيحة كالزنا، والزاني من شأنه طلب الخلوة فناسب التنور، ثم خائف حذر حال الفعل كأن تحته نار.
وقال أيضا: الحكمة في الاقتصار على من ذكر من العصاة دون غيرهم أن العقوبة تتعلق بالقول أو الفعل، فالأول: على وجود ما لا ينبغي منه أن يقال. والثاني: إما بدنىّ أو مالي، فذكر لكل منهم مثال ينبه به على من عداه، كما نبه بمن ذكر من أهل الثواب، وأنهم أربع درجات: درجات النبي،(8/110)
وخرجه في آخر كتاب الجنائز، في باب أولاد المشركين، من حديث جرير ابن حازم، عن أبى رجاء، بتقديم وتأخير، وزيادة بعض ألفاظ [ (1) ] .
وخرّج في كتاب الإيمان، في باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، من حديث إبراهيم بن [سعد] ، عن صالح، عن ابن شهاب، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، أنه سمع أبا سعيد الخدريّ [رضى اللَّه عنه] يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون عليّ، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثّديّ، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب [رضى اللَّه عنه] وعليه قميص يجرّه، قالوا: [فما] أوّلت ذلك يا رسول اللَّه؟ قال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] : الدين [ (2) ] .
وخرّجه في كتاب التعبير في باب القميص في المنام [ (3) ] ، من حديث إبراهيم، بسنده.. الحديث، ولم يقل: عليّ، وقال: ومرّ عمر بن الخطاب [رضى اللَّه عنه] ، وخرّجه مسلم به [ (4) ] .
__________
[ () ] ودرجات الأمة أعلاها الشهداء، وثانيها من بلغ، وثالثها من كان دون البلوغ (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 321- 322، كتاب الجنائز، باب (93) بدون ترجمة، حديث رقم (1386) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 100، كتاب الإيمان، باب (15) تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، حديث رقم (23) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 12/ 488- 489، كتاب التعبير، باب (17) القميص في المنام، حديث رقم (7008) .
قوله: «منها ما يبلغ الثديّ»
بضم المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدي بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدا بحيث لا يصل من الحلق إلى نحو السرة، بل فوقها.
وقوله: «ومنها ما يبلغ دون ذلك»
يحتمل أن يريد دونه من جهة السفل وهو الظاهر، فيكون أطول، ويحتمل أنه دونه من جهة العلو، فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي من طريق أخرى، عن ابن المبارك، عن يونس عن الزهري، في هذا الحديث:
«فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان قميصه إلى «أنصاف ساقيه» .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 51/ 168- 169، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) من فضائل عمر(8/111)
وخرّجه البخاري من حديث الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، قال:
أخبرنى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبى سعيد الخدريّ [رضى اللَّه عنه] قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: بينا أنا نائم، رأيت الناس عرضوا عليّ، وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض على عمر وعليه قميص اجترّه، قالوا: فما أولته يا رسول اللَّه؟ قال: الدين.
ذكره في كتاب التعبير، وترجم عليه باب: جر القميص في [المنام] [ (1) ] .
وخرّج في باب اللبن، من حديث يونس عن الزهري، قال: أخبرنى حمزة ابن عبد اللَّه، أن ابن عمر رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إني لأرى الرىّ يخرج في أظافيرى، ثم أعطيت فضلي [يعنى] عمر رضى اللَّه عنه، [قالوا] : فما أولته يا رسول اللَّه؟ قال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] : العلم [ (2) ] . و [خرجه] في
__________
[ () ] رضى اللَّه عنه، حديث رقم (2390) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 489- 490، كتاب التعبير، باب (18) جر القميص في المنام، حديث رقم (7009) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 486، كتاب التعبير، باب (15) اللبن، حديث رقم (7006) .
قوله: «باب اللبن» أي إذا رئي في المنام بماذا يعبر؟ قال المهلب: اللبن يدل على الفطرة، والسنة، والقرآن، والعلم.
قال الحافظ: وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبى هريرة رفعه: «اللبن في المنام فطرة» ،
وعند الطبراني من حديث أبى بكرة رفعه: «من رأى أنه شرب لبنا فهو الفطرة،
ومن حديث أبى هريرة: «أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أخذ قدح اللبن قال له جبريل: الحمد للَّه الّذي هداك للفطرة» .
وذكر الدينَوَريّ: أن اللبن المذكور في هذا يختص بالإبل، وأنه لشاربه مال حلال، وعلم، وحكمة. قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال، وفطرة أيضا. ولبن الشاة مال، وسرور، وصحة جسم. وألبان الوحش شك في الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبؤة مال، مع عداوة لذي أمر.
قال ابن العربيّ: اللبن رزق يخلقه اللَّه طيبا بين أخباث من دم وفرث، كالعلم، نور يظهره اللَّه(8/112)
المناقب [ (1) ] ، وخرجه في كتاب التعبير، في باب إذا أعطى فضله غيره في النوم [ (2) ] ، من حديث الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، وخرجه في كتاب العلم، في باب فضل العلم [ (3) ] ، كذلك.
وخرجه مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب [ (4) ] ، ومن حديث الليث عن ابن عقيل، عن ابن شهاب [ (5) ] .
__________
[ () ] في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام.
قال بعض العارفين: الّذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، ويحفظ العمل عن غفلة وزلل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم، والّذي ذكره قد يقع خارقا للعادة، فيكون من باب الكرامة.
وفي الحديث مشروعية قص الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل واختبار أصحابه في تأويلها، وأن من الأدب أن يرد الطالب علم ذلك إلى معلمه، قال: والّذي يظهر أنه لم يرد منهم أن يعبروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده، فسألوه، فأفادهم، وكذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات.
وفيه أن علم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم باللَّه لا يبلغ أحد درجته فيه، لأنه شرب حتى رأى الري يخرج من أطرافه، وأما إعطاؤه فضله عمر، فيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم باللَّه، بحيث كان لا يأخذه في اللَّه لومة لائم.
وفيه أن من الرؤيا ما يدل على الماضي، والحال، والمستقبل، وهذه أوّلت على الماضي، فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع، لأن الّذي أعطيه من العلم كان قد حصل له، وكذلك أعطيه عمر، فكانت فائدة هذه الرؤيا تعريف قدر النسبة بين ما أعطيه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العلم، وما أعطيه عمر رضى اللَّه عنه..
(فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 50 كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشي العدوي رضى اللَّه عنه، حديث رقم (3681) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 516، كتاب التعبير، باب (34) إذا أعطى فضله غيره في النوم، حديث رقم (7027) ، وقيل الرّيّ اسم من أسماء اللبن.
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 238، كتاب العلم، باب (22) فضل العلم، حديث رقم (82) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 196، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، حديث رقم (2391) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي الحديث السابق [بدون رقم] .(8/113)
وخرّج الحاكم من حديث معتمر بن سليمان، حدثنا عبيد اللَّه بن عمر، أنه سمع أبا بكر بن سالم يحدث عن أبيه، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني رأيت في النوم أنى أعطيت عسّا مملوءا لبنا، فشربت منه حتى تملأت، حتى رأيته في عرق بين الجلد واللحم، ففضلت فضلة، فأعطيتها عمر بن الخطاب [رضى اللَّه عنه] ؟
فقال: أصبتم.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (1) ] .
ولم يخرجاه [ (2) ] .
وخرّجا من حديث يونس عن ابن شهاب، أن [سعيد] بن المسيب أخبره أنه سمع أبا هريرة [رضى اللَّه عنه] يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء اللَّه [تعالى] ، ثم أخذها ابن أبى قحافة [رضى اللَّه عنه] ، فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، واللَّه [تعالى] يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب [رضى اللَّه عنه] ، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر [رضى اللَّه عنه] ، [حتى] ضرب الناس بعطن. لفظهما فيه متقارب.
أورده البخاري في مناقب أبى بكر رضى اللَّه عنه [ (3) ] ، وأورده في كتاب
__________
[ (1) ] (المستدرك) 3/ 92، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4496) ، قال الحافظ الذهبي في (التخليص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 26، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (5)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا» ،
حديث رقم (3664) .
قوله: «وفي نزعه ضعف» أي أنه على مهل ورفق.
قوله: «واللَّه يغفر له» قال النووي: هذا دعاء من المتكلم، أي أنه لا مفهوم له. وقال غيره: فيه إشارة إلى قرب وفاة أبى بكر، وهو نظير قوله تعالى لنبيه عليه السلام: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ(8/114)
التعبير [ (1) ] ، من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب. وخرّجه مسلم عن الليث أيضا [ (2) ] ، وعن إبراهيم بن سعد، عن صالح، بإسناد يونس، نحو
__________
[ () ] وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً، فإنّها إشارة إلى قرب وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن قلة الفتوح في زمانه لا صنع له فيه، لأن سببه قصر مدته، فمعنى المغفرة له رفع الملامة عنه.
قوله: «فاستحالت في يده غربا» بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة، أي دلوا عظيمة.
قوله: «فلم أر عبقريا» بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها قاف مفتوحة وراء مكسورة وتحتانية ثقيلة، والمراد به كل شيء بلغ النهاية، وأصله أرض يسكنها الجن، ضرب بها العرب المثل في كل شيء عظيم. وقيل: قرية يعمل بها الثياب البالغة في الحسن، والعطن: هو مناخ الإبل إذا شربت ثم صدرت.
قال البيضاوي: أشار بالبئر إلى الدين الّذي هو منبع ماؤها حياة النفوس، وتمام أمر المعاش والمعاد، والنزع منه إخراج الماء، وفيه إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه، وقوله: «يغفر اللَّه له» إشارة إلى ضعفه- المراد به الرّفق- غير قادح فيه، أو المراد بالضعف ما وقع في أيامه من أمر الردة، واختلاف الكلمة، إلى أن اجتمع ذلك في آخر أيامه وتكمل في زمان عمر، وإليه الإشارة بالقوة.
وقد وقع عند الإمام أحمد من حديث سمرة: «أن رجلا قال: يا رسول اللَّه، رأيت كأن دلوا من السماء دليت، فجاء أبو بكر فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فشرب حتى تضلع» .. الحديث ففي هذا إشارة إلى بيان المراد بالنزع الضعيف والنزع القوى، واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 512- 513، كتاب التعبير، باب (29) نزع الذنوب والذنوبين من البئر بضعف، حديث رقم (7021) ، وفي هذا الحديث والّذي قبله (7020) : أنه من رأى أنه يستخرج من بئر ماء أنه يلي ولاية جليلة، وتكون مدته بحسب ما استخرج قلة وكثرة، وقد تعبر البئر بالمرأة، وما يخرج منها بالأولاد، وهذا الّذي أعتمده أهل التعبير، ولم يعرجوا على الّذي قبله، فهو الّذي ينبغي أن يعوّل عليه، لكنه بحسب حال الّذي نزع الماء. (فتح الباري) مختصرا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 170، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، حديث رقم (2392) .(8/115)
حديثه [ (1) ] .
وخرّجه البخاري في كتاب التوحيد، في باب المشيئة والإرادة، من حديث إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] ، وقال في آخره: حتى ضرب الناس حوله بعطن [ (2) ] .
وخرّجه مسلم [ (3) ] من حديث إبراهيم، عن صالح، قال: قال الأعرج
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي السابق مختصرا بدون رقم.
قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن بركته وآثار صحبته، فكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو صاحب الأمر. فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره، وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا. وأنزل اللَّه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ثم توفى صلّى اللَّه عليه وسلّم فخلفه أبو بكر رضى اللَّه عنه سنتين وأشهرا. وهو المراد بقوله: صلّى اللَّه عليه وسلّم ذنوبا أو ذنوبين، وهذا شك من الراويّ، والمراد ذنوبان كما صرح به في الرواية الأخرى، وحصل في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم واتساع الإسلام، ثم توفى فخلفه عمر رضى اللَّه عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر بالقليب عن أمر المسلمين، لما فيها من الماء الّذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقى لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم. وتدبير أمورهم، وأما قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في أبى بكر رضى اللَّه عنه: «وفي نزعه ضعف» ، فليس فيه حطّ من فضيلة أبى بكر، ولا إثبات فضيلة لعمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها ولاتساع الإسلام وبلاده، والأموال، وغيرها من الغنائم، والفتوحات، ومصّر الأمصار، ودوّن الدواوين.
وأما قوله: «واللَّه يغفر له» ، فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم، ونعمت الدعامة، كانوا يقولون: افعل كذا واللَّه يغفر لك.
قال العلماء وفي كل هذا إعلام بخلافة أبى بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها. (شرح النووي على صحيح مسلم) مختصرا.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 549 كتاب التوحيد، باب (31) في المشيئة والإدارة، حديث رقم (7475) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 171، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) ، من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، حديث [بدون رقم] .(8/116)
وغيره: إن أبا هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: رأيت ابن أبى قحافة [رضى اللَّه عنه] ينزع.. بنحو حديث الزهري.
وخرجه البخاري في كتاب التعبير، في باب الاستراحة في المنام، من حديث عبد الرّزاق، عن معمر، عن همام أنه سمع أبا هريرة [رضى اللَّه عنه] يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم، رأيت أنى على حوض أسقى الناس، فأتانى أبو بكر [رضى اللَّه عنه] ، فأخذ الدلو من يدي ليريحنى، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف، واللَّه يغفر له، فأتى ابن الخطاب [رضى اللَّه عنه] ، فأخذ منه، فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض ينفجر [ (1) ] .
وخرّجه مسلم من طريق عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرنى عمرو بن الحارث، أن أبا [يونس] مولى أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] ، حدثه عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] ، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بينا أنا نائم، أريت أنى أنزع على حوضي أسقى الناس، فجاءني أبو بكر [رضى اللَّه عنه] ، فأخذ الدلو من يدي ليروّحنى، فنزع دلوين وفي نزعه ضعف، واللَّه يغفر له، فجاء ابن الخطاب [رضى اللَّه عنه] فأخذه منه، فلم أر نزع رجل أقوى منه، حتى تولى الناس، والحوض ملآن يتفجّر [ (2) ] .
وذكره البخاري في مناقب عمر رضى اللَّه عنه، من طريق [عبيد] اللَّه ابن عمر قال: حدثني [أبو بكر] بن سالم، عن سالم، عن عبد اللَّه بن عمر
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 513، كتاب التعبير، باب (30) الاستراحة في المنام- حديث رقم (7022) .
قوله: «الاستراحة في المنام» قال أهل التعبير: إذا كان المستريح مستلقيا على قفاه فإنه يقوى أمره، وتكون الدنيا تحت يده، لأن الأرض أقوى ما يستند إليه، بخلاف ما كان منبطحا فإنه لا يدرى ما وراءه.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 171، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، حديث رقم (18) .(8/117)
رضى اللَّه [عنهما] ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أريت في المنام أنى أنزع بدلو بكرة [على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين، نزعا ضعيفا، واللَّه يغفر له، ثم جاء عمر [رضى اللَّه عنه] فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفرى فريّه، حتى روى الناس وضربوا بعطن] [ (1) ] .
وخرّجاه من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، وخرّجه البخاري من حديث شعيب بن حرب، حدثنا صخر بن جويرية، حدثنا نافع أن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] حدثه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينما أنا على بئر أنزع منها إذا جاءني أبو بكر وعمر [رضى اللَّه عنهما] ، فأخذ أبو بكر [رضى اللَّه عنه] الدلو، فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، فغفر اللَّه له، ثم أخذها ابن الخطاب [رضى اللَّه عنه] من يد أبى بكر، فاستحالت في يده غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفرى فريه، حتى ضرب الناس بعطن. ذكره في كتاب التعبير في باب نزع الماء من البئر حتى يروى الناس [ (2) ] . وخرجه في مناقب أبى بكر رضى اللَّه عنه، من حديث وهب بن جرير، أخبرنا صخر عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر [رضى اللَّه عنهما] قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:.. الحديث، وقال فيه: واللَّه يغفر له، وقال في آخره:
فنزع حتى ضرب الناس بعطن،
وقال بعد هذا: وقال وهب: العطن، مبرك الإبل، يقول: حتى رويت الإبل فأناخت [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 50، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، حديث رقم (3682) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 509، كتاب التعبير، باب (28) نزع الماء من البئر حتى يروى الناس، رواه أبو هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (7019) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 26، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (5)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا» ،
حديث رقم (3676) .(8/118)
وخرّج الحافظ ابن الجوزي وغيره، من طريق مطر الوراق وهشام، كلاهما عن ابن سيرين: عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت كأنى أنزع على غنم سود، وخالطها غنم عفر، إذ جاء أبو بكر [رضى اللَّه عنه] ، فنزع ذنوبين وفيهما ضعف، ويغفر اللَّه له، إذ جاء عمر [رضى اللَّه عنه] ، فأخذ الدلو، فاستحالت غربا، فأروى الناس، وصدر الشاء، فلم أر عبقريا يفرى فريه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأوّلت أن الغنم السوداء العرب، وأن العفر إخوانهم من هذه الأعاجم [ (1) ] .
وخرّج البخاري في كتاب النكاح، في باب الغيرة، من حديث يونس عن الزهري، أخبرنى ابن المسيب، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: بينما نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جلوس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم، رأيتني في الجنة [ (2) ] .
وخرجه مسلم في المناقب، من حديث يونس، أن ابن شهاب أخبره عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] ، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة، فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب [رضى اللَّه عنه] ، فذكرت غيرة عمر، فوليت مدبرا، قال أبو هريرة [رضى اللَّه عنه] : فبكى عمر رضى اللَّه عنه، ونحن جميعا في ذلك المجلس [مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] ، ثم قال عمر [رضى اللَّه عنه] بأبي أنت يا رسول اللَّه، أعليك أغار [ (4) ] ؟
__________
[ (1) ] (تاريخ أصفهان لأبى نعيم) : 1/ 8.
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 400، كتاب النكاح، باب (108) الغيرة، حديث رقم (5227) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 173، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، حديث رقم (2395) .(8/119)
وقال البخاري: فبكى عمر [رضى اللَّه عنه] وهو في المجلس، وقال:
أو عليك يا رسول اللَّه أغار؟ [ (1) ] . ورواه مسلم أيضا من حديث صالح، عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله [ (2) ] .
وخرجه البخاري من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب. ذكره في كتاب بدء الخلق، في باب صفة [الجنة] [ (3) ] ، وفي مناقب عمر [رضى اللَّه عنه [ (4) ] ، و] في التعبير، في باب القصر في المنام [ (5) ] .
وخرجه أيضا في التعبير، من حديث معمر، أخبرنا عبيد اللَّه بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟
قالوا: لرجل من قريش، فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب إلا ما أعلم من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 400، كتاب النكاح، باب (108) الغيرة، حديث رقم (5227) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 174، كتاب فضائل الصحابة باب (2) من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، الحديث الّذي يلي الحديث رقم (2395) [بدون رقم] .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 391، كتاب بدء الخلق، باب (8) ما جاء في صفة الجنة وأنه مخلوقة، حديث رقم (3242) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 50، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (6) مناقب عمر رضى اللَّه عنه، حديث رقم (3680) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 12/ 514، كتاب التعبير، باب (31) القصر في المنام، حديث رقم (7023) ، وهذه المرأة هي أم سليم، وكانت في قيد الحياة حينئذ، فرآها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجنة إلى جانب قصر عمر، فيكون تعبيره بأنها من أهل الجنة، لقول الجمهور من أهل التعبير: أن من رأى أنه دخل الجنة أنه يدخلها، فكيف إذا كان الرائي لذلك أصدق الخلق.
وأما وضوئها فيعبر بنظافتها حسا ومعنى، وطهارتها جسما وحكما، وأما كونها إلى جانب قصر عمر، ففيه إشارة إلى أنها تدرك خلافته، وكان كذلك.
قوله: «أعليك أغار» فهو من المقلوب لأن القياس أن يقول: أعليها أغار منك. وفي الحديث جواز ذكر الرجل بما علم من خلقه كغيرة عمه.(8/120)
غيرتك، قال: وعليك أغار يا رسول اللَّه [ (1) ] ؟ وخرجه في النكاح، في باب الغيرة [ (2) ] . وخرجه مسلم من حديث سفيان، عن عمرو، وابن المنكدر [أنهما] سمعا جابرا [رضى اللَّه عنه] ، يخبر عن النبي فذكره [ (3) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه [عنهما] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت كأنى أتيت بكثلة تمر، فعجمتها في فمي، فوجدت فيها نواة آذتني، فلفظتها، ثم أخذت فيها نواة، فلفظتها] ، فقال أبو بكر رضى اللَّه عنه: دعني، فلأعبرها، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اعبرها، قال [رضى اللَّه عنه:] هو جيشك الّذي بعثت، يسلمون ويغنمون، فيلقون رجلا، فينشدهم ذمتك، فيدعونه، ثم
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (7024) ، قوله: «القصر في المنام» قال أهل التعبير: القصر في المنام عمل صالح لأهل الدين، ولغيرهم حبس وضيق، وقد يفسر دخول القصر بالتزويج.
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 399، كتاب النكاح، باب (108) الغيرة، حديث رقم (5226) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 172، كتاب فضائل الصحابة، باب (2) من فضائل عمر رضى اللَّه عنه، حديث رقم (2394) .
قوله: «الغيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء. قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين.
هذا في حق الآدمي.
وأما في حق اللَّه تعالى، فقال الخطابي: أحسن ما يفسر به، ما فسر به، حديث أبى هريرة: «وغيرة اللَّه أن يأتى المؤمن ما حرّم اللَّه عليه» .
قال عياض: ويحتمل أن تكون الغيرة في حق اللَّه الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل: الغيرة في الأصل الحمية والأنفة، وهو تفسير يلازم التغير فيرجع الغضب، وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتاب العزيز الغضب والرضا.
وقال ابن العربيّ: التغير محال على اللَّه بالدلالة القطعية، فيجب تأويله بلازمه، كالوعيد أو إيقاع العقوبة بالفاعل، ونحو ذلك.
ثم قال: ومن أشرف وجوه غيرته تعالى، اختصاصه قوما بعصمته، يعنى فمن ادعى شيئا من ذلك لنفسه عاقبه، قال: وأشد الآدميين غيرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنه كان يغار للَّه ودينه، ولهذا كان لا ينتقم لنفسه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(8/121)
يلقون رجلا فينشدهم ذمتك فيدعونه، ثم يلقون رجلا فينشدهم ذمتك فيدعونه، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذاك قال الملك [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الرزاق، وقال: أخبرنا معمر عن قتادة، عن الحسن بن عمران بن حصين، عن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: أكثرنا الحديث ذات ليلة، عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم غدونا [إليه] ، فقال:
عرضت عليّ الأنبياء [الليلة] [ (2) ] بأممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة [والنبي ومعه العصابة] ، والنبي ومعه النفر، والنبي وليس معه أحد، حتى مرّ [عليّ] [ (2) ] موسى عليه الصلاة والسلام، ومعه [كبكبة] من بنى إسرائيل، فأعجبوني، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل [لي] [ (2) ] هذا أخوك موسى، معه بنو إسرائيل [قال] [ (2) ] فقلت: أين أمتى؟ فقيل لي: انظر عن يمينك، فنظرت، فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال [ثم قيل لي: انظر عن يسارك، فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال] [ (2) ] فقيل لي: أرضيت؟
فقلت: رضيت يا رب، [قال:] [ (2) ] فقيل لي: إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فداكم أبى وأمى، إن استطعتم أن تكونوا من السبعين الألف فافعلوا، فإن قصرتم، فكونوا من أهل الظراب، فإن قصرتم، فكونوا من أهل الأفق، فإنّي قد رأيت ثم ناسا يتهاوشون، فقام عكاشة بن محصن رضى اللَّه عنه فقال: أدع اللَّه لي يا رسول اللَّه أن يجعلني من السبعين فدعا له، فقام رجل آخر فقال: ادع اللَّه يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجعلني منهم؟ فقال: قد سبقك بها عكاشة.
[ثم تحدثنا] [ (2) ] ، فقلنا: من ترون هؤلاء السبعين الألف. قوم ولدوا في الإسلام، ثم لم يشركوا باللَّه شيئا حتى ماتوا، فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 397، حديث رقم (14864) ، وفيه: «يسلم ويغنم» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (مسند أحمد) .(8/122)
صلّى اللَّه عليه وسلّم: هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون [ (1) ] .
وخرّج البخاري ومسلم، من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه [قال] : إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان [رضى اللَّه عنها] فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت [رضى اللَّه عنهما] . [فدخل] عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما، فأطعمته، ثم جلست تفلى رأسه، فنام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه! ما يضحك؟ قال: ناس من أمتى عرضوا عليّ غزاة في سبيل اللَّه، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة- يشك أيهما- قال: قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه [تعالى] أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه، فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول اللَّه؟
قال: ناس من أمتى عرضوا عليّ غزاة في سبيل اللَّه [تعالى] ، كما قال في [الأولى] ، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أدع اللَّه أن يجعلني منهم، قال:
أنت من الأولين، فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية، [بن أبى سفيان] فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
خرجه البخاري بهذا السند في باب الدعاء بالجهاد، والشهادة للرجال والنساء [ (2) ] ، وفي كتاب الإستئذان [ (3) ] ، وكذلك خرجه أبو
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 662- 663، حديث رقم (3796) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 12، كتاب الجهاد والسير، باب (3) الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، حديث رقم (2788) ، (2789) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 83، كتاب الاستئذان، باب (41) من زار قوما فقال عندهم، حديث رقم (6282) ، (6283) .
قوله: «قال عندهم» أي وقت القيلولة، والفعل الماضي منه ومن القول مشترك، بخلاف المضارع(8/123)
داود [ (1) ] ، وخرجه الترمذي أيضا من حديث مالك، وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] ، وأخرجوه من حديث يحى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أنس رضى اللَّه عنه [ (3) ] ، وخرجه البخاري من حديث الليث، عن محمد بن يحى بن حبان، عن أنس، ومن حديث أبى إسحاق [بن] عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أنس رضى اللَّه عنه [ (4) ] .
__________
[ () ] فقال يقيل: من القائلة، وقال يقول: من القول: وقد تلطف النضير المناوى حيث قال في لغز.
قال قال النبي قولا صحيحا ... قلت قال النبي قولا صحيحا
قال المهلب: في هذا الحديث مشروعية القائلة للكبير في بيوت معارفه لما في ذلك من ثبوت المودة، وتأكد المحبة.
قوله: «ثبج هذا البحر» الثبج بفتح المثلثة والموحدة ثم جيم: ظهر الشيء وقال الخطّابى: متن البحر وظهره، وقال الأصمعي: ثبج كل شيء وسطه، وقال أبو على في (أماليه) : قيل: ظهره، وقيل:
معظمه، وقيل: هوله، وقال أبو زيد في (نوادره) : ضرب ثبج الرجل بالسيف أي وسطه، وقيل: ما بين كتفيه، والراجح أن المراد هنا ظهره، كما وقع في التصريح به، والمراد أنهم يركبون السفن التي تجرى على ظهره. كما وقع في التصريح به، والمراد أنهم يركبون السفن التي تجرى على ظهره. (فتح الباري) مختصرا.
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 3/ 14، كتاب الجهاد، باب (10) فضل الغزو في البحر، حديث رقم (2490) ، (2491) مختصرا.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 152- 153، كتاب فضائل الجهاد، باب (15) ما جاء في غزو البحر، حديث رقم (1645) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأم حرام بنت ملحان هي أخت أم سليم، وهي خالة أنس بن مالك رضى اللَّه عنه.
[ (3، 4) ] (فتح الباري) : 6/ 21- 22، كتاب الجهاد والسير، باب (8) فضل من يصرع في سبيل اللَّه فمات فهو منهم، حديث رقم (2799) و (2800) .
وفي (مسلم بشرح النووي) : 13/ 61- 62، كتاب الإمارة، باب (49) فضل الغزو في البحر، حديث رقم (1912) .
في هذا الحديث معجزات للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: منها إخباره ببقاء أمته بعده، وأنه تكون لهم شوكة وقوة(8/124)
__________
[ () ] وعدد، وأنهم يغزون، وأنهم يركبون البحر، وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان، وأنها تكون معهم، وقد وجد بحمد اللَّه تعالى كل ذلك.
وفيه فضيلة لتلك الجيوش، وأنهم غزاة في سبيل اللَّه تعالى، واختلف العلماء متى جرت هذه الغزوة التي توفيت فيها أم حرام في البحر، قال أهل السير والأخبار: أن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه [كان ذلك في سنة (28 هـ) وكان معاوية في هذه الغزوة ومعه زوجته فاختة، فأتى قبرص وفتحها، وتوفيت أم حرام بها ودفنت هناك وقبرها فيها يزار] (شرح النووي على صحيح مسلم) مختصرا.
وفي هذا الحديث جواز ركوب البحر للرجال والنساء، وكذا قاله: الجمهور وكره مالك ركوبه للنساء، لأنه لا يمكنهن غالبا التستر فيه، ولا غض البصر عن المتصرفين فيه، ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن، لا سيما فيما صغر من السفيان، مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال، [لكن في هذه الأيام فالسفن مجهزة بكافة حاجات الإنسان المعيشية خلال رحلته في الباخرة مهما طال وقتها، الأمر الّذي تنتفى معه هذه الكراهة] .
قال القاضي: وروى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضى اللَّه عنه عنهما منع ركوبه، وقيل: إنما منعه العمران للتجارة وطلب الدنيا لا للطاعات.
وقد روى عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم النهى عن ركوب البحر، إلا لحاج أو معتمر أو غاز. وضعف أبو داود هذا الحديث وقال: رواته مجهولون. (شرح النووي على صحيح مسلم) مختصرا.
وهذا الحديث [حديث الباب] أخرجه أيضا كل من:
ابن ماجة في (السنن) : 2/ 927، كتاب الجهاد، باب (10) فضل غزو البحر، حديث رقم (2776) .
والنسائي في (السنن) : 6/ 347- 349، كتاب الجهاد باب (40) فضل الجهاد في البحر، حديث رقم (3171) ، (3172) .
والدارقطنيّ في (السنن) : 2/ 129، باب فضل غزاة البحر، حديث رقم (2426) .
والإمام مالك في (الموطأ) : 309، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد، حديث رقم (1002) بسياقه أتم.
والإمام أحمد في (المسند) : 4/ 124، حديث رقم (13108) ، 4/ 165- 116، حديث رقم (13379) كلاهما مختصر جدا.(8/125)
وخرّج الحاكم من حديث عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني الليث عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبى هلال، عن عطاء، أن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، رضى اللَّه [عنهما] ، قال: خرج إلينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما فقال:
إلى رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي، وميكائيل عليه السلام عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، مثلك ومثل أمتك، كمثل ملك اتخذ دارا، ثم بنى فيها بيتا، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فاللَّه هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول، من أجابك دخل [الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها] . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (1) ] .
وخرّجه البيهقي من حديث عبد اللَّه بن صالح، حدثني الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبى هلال، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على بن الحسين، وتلا هذه الآية: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فقال: حدثني جابر بن عبد اللَّه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما.. فذكر الحديث [ (2) ] .
وخرّج البخاري من حديث سليم بن حبان، أخبرنا سعيد بن مينا [قال] : أخبرنا- أو سمعت- جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنها يقول: جاءت ملائكة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن
__________
[ (1) ] (المستدرك) 2/ 369، كتاب التفسير، تفسير سورة يونس عليه السلام عند قوله تعالى: اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، حديث رقم (3299) باختلاف يسير في اللفظ، وما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (الأصلين) ، وصوبناه من (المستدرك) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] هذه الفقرة هي صدر الحديث السابق رقم (3299) من (المستدرك) .(8/126)
العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها بفقهها، فقالوا: فالدار، الجنة، والداعي، محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمن أطاع محمدا فقط أطاع اللَّه، ومن عصى محمدا فقد عصى اللَّه، ومحمد فرق بين الناس [ (1) ] .
وخرّج الحاكم [ (2) ] من طريق محمد بن فضيل، عن حصين، بن عبد الرحمن عن ابن أبى ليلى، عن أبى أيوب رضى اللَّه عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني رأيت في المنام غنما سودا، يتبعها غنم عفر، يا أبا بكر، أعبرها، فقال أبو بكر رضى اللَّه عنه: يا رسول اللَّه، هي العرب تتبعك، ثم تتبعها العجم حتى تغمرها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هكذا عبرها الملك سحرا.
وخرّج من حديث عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت غنما كثيرة سوداء، دخلت فيها غنما كثيرة بيض، قالوا: فما أولته يا رسول اللَّه؟
قال: [العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم، قالوا: العجم يا رسول اللَّه؟
قال: لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من العجم وأسعدهم به الناس] [ (3) ] .
قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط البخاري
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 310- 311، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (2) الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً حديث رقم (7281) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 437، كتاب تعبير الرؤيا، حديث رقم (8193) ، وقد سكت عنه الذهبي في التلخيص.
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 437، كتاب تعبير الرؤيا، حديث رقم (8194) ، وما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (الأصلين) وصوبناه من (المستدرك) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري.(8/127)
ولم يخرجاه.
وخرج من حديث يحى بن محمد بن يحى الذهلي، حدثنا مسدد، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن عوف، حدثنا أبو رجاء عن سمرة بن جندب رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قال: فيقص عليه من شاء، وإنه قال ذات غداة: أنه أتاني الليلة آتيان ملكان، فقعد أحدهما عند رأسي، والأخر عند رجلي، فقال الّذي عند رجلي للذي عند رأسي: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثله ومثل أمته، كمثل قوم سفّر انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينا هم كذلك، إذ أتاهم رجل مرجل في حلة حبرة، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء [أتتبعوني؟ فقالوا: نعم، فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء] ، فأكلوا، [وشربوا] ، وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال، فقلت لكم إن وردت بكم رياضا عشبة، وحياضا رواء تتبعوني قالوا: بلى، فقال: إن بين أيديكم رياضا أعشب من هذا، وحياضا أروى من هذه، فاتبعوني، فقالت طائفة: صدق واللَّه، لنتبعن، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا، نقيم عليه [ (1) ] .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] .
وخرّج الحاكم من طريق موسى بن يعقوب الزمعى، قال: أخبرنى هاشم ابن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، عن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة، قال:
أخبرتنى أم سلمة رضى اللَّه عنها قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 439، كتاب تعبير الرؤيا، حديث رقم (8200) وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) وقال الحافظ الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.(8/128)
دون ما رأيت به المرة الأولى، ثم اضطجع، فاستيقظ، وفي يده تربة حمراء يقبلها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول اللَّه؟ قال: أخبرنى جبريل عليه السلام أن هذا يقتل بأرض العراق، للحسين رضى اللَّه عنه، فقلت لجبريل:
أرنى تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها [ (1) ] .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج الترمذي من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتانى الليلة ربى في أحسن صورة، قال: أحسبه في المنام [قال: كذا في الحديث] ، فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي- أو قال: في نحري- فعلمت ما في السموات وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، قال: في الكفارات والمفازات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد، إذا صليت فقل: اللَّهمّ إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنى إليك غير مفتون، قال: والدرجات، إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام [ (2) ] . قال أبو عيسى: وقد ذكروا بين أبى قلابة وبين ابن عباس رضى اللَّه عنها في هذا الحديث، [وقد رواه قتادة عن أبى
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 440، كتاب تعبير الرؤيا، حديث رقم (8202) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : مرّ هذا على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 342، كتاب تفسير القرآن، باب (39) ومن سورة (ص) ، وحديث رقم (3233) ، وما بين الحاصرتين في آخره من (الترمذي) .(8/129)
قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس] .
ثم ذكر من طريق هشام الدستوائى، عن قتادة، عن أبى قلابة، عن خالد ابن اللجلاج، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتانى ربى في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربى وسعديك، قال فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: ربى لا أدرى، فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما بين المشرق والمغرب، قال: يا محمد، فقلت: لبيك رب وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات، والكفارات، وفي نقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن يحافظ عليهنّ عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه [ (1) ] .
قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وفي الباب: عن معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه، وعبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد روى هذا الحديث [عن] معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه عن النبي بطوله، وقال: إني نعست فاستثقلت نوما، فرأيت ربى في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ [ (2) ] .
وخرّج من طريق يحيى بن أبى كثير، عن زيد بن سلام، عن أبى سلام، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ، أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي، عن معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه، قال: احتبس عنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى، أي عين الشمس، فخرج سريعا، فثوب بالصلاة، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتجوز في الصلاة، فلما
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 342- 343، كتاب تفسير القرآن، باب (39) ومن سورة (ص) ، حديث رقم (3234) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 343 تعليقا على الحديث السابق رقم (3234) .(8/130)
سلم، دعا بصوته، قال لنا: على مصافكم، كما أنتم، ثم انفتل إلينا، ثم قال: أما [إني] سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، قال: إني قمت من الليل فتوضأت، وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدرى، قالها ثلاثا، قال:
فرأيته وضع كفه بين كتفىّ، فوجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشى الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد [بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام] ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام، قال: سل، قلت: اللَّهمّ إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم، فتوفني غير مفتون، أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنها حق، فادرسوها، ثم تعلموها.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن [يزيد بن] جابر، قال:
حدثنا خالد بن اللجلاج، قال حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ... فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه، عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وروى بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد، عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهذا أصح.(8/131)
وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث زهير بن محمد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائش، عن بعض أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، [قال:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس، مشرق الوجه، أو مسفر الوجه، فقلنا: يا رسول اللَّه! إنا نراك مسفر الوجه، أو مشرق الوجه، فقال: وما يمنعني وأتانى ربى عز وجل الليلة في أحسن صورة، فقال: يا محمد، فقلت: لبيك ربى وسعديك، قال:
فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدرى، أي رب، قال ذاك مرتين أو ثلاثا، قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين كتفي، حتى تجلى لي ما في السموات والأرض [وليكون من الموقنين] قال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام، والجلوس في المسجد خلاف الصلوات، وإسباغ الوضوء في المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، [ومات بخير] ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، ومن الدرجات طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، وقال: يا محمد، إذا صليت فقل: اللَّهمّ إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تتوب عليّ، وإذا أردت فتنة في الناس، فتوفني غير مفتون [ (2) ] . [قال: والدرجات بذل الطعام،
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 343- 344، كتاب تفسير القرآن، باب (39) ومن سورة (ص) ، حديث رقم (3235) .
والملأ الأعلى: الملائكة المقربون، واختصامهم إما عبارة عن تبادرهم إلى إثبات تلك الأعمال والصعود إلى السماء، وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها، وقد سماها مخاصمة، لأنه ورد مورد سؤال وجواب، وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة، فلهذا أحسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه (زاد المعاد) :
1/ 137.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 607، حديث رقم (3474) ، بزيادة ونقصان.(8/132)
وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام] [ (1) ] .
وقال الواقدي في غزوة الطائف: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لأبى بكر رضى اللَّه عنه: إني رأيت أنى أهديت لي قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك، [فأهراق] ما فيها،
قال أبو بكر [رضى اللَّه عنه] : ما أظن أن تدرك منهم يا رسول اللَّه يومك هذا ما تريد، قال أبو بكر رضى اللَّه عنه: وأنا لا [أرى] ذلك [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد [رحمه اللَّه] ، من حديث حماد بن سلمة، حدثنا الأشعث بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن سمرة بن جندب رضى اللَّه عنه قال: إن رجلا قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت كأن دلوا دليت من السماء، فجاء أبو بكر رضى اللَّه عنه، فأخذ بعراقيبها، فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر رضى اللَّه عنه، فأخذ بعراقيبها، فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان رضى اللَّه عنه، فأخذ بعراقيبها، فشرب، فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء [ (3) ] . [ثم جاء على فأخذ بعراقيبها، فانتشطت وانتضح عليه منها شيء] [ (4) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث إسماعيل بن عياش: سمعت عمرو بن [العاص] رضى اللَّه عنه يقول: سمعت عن عبد اللَّه بن الحرث، قال:
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المسند) . وأخرجه أيضا في (المسند) : 6/ 322- 323، حديث رقم (21604) بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 936، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 5/ 653، حديث رقم (19730) باختلاف يسير في اللفظ، وأخرجه أبو داود في (السنن) : 5/ 31- 32، كتاب السنة، باب (9) في الخلفاء، حديث رقم (4637) ، وقال فيه: «بعراقيبها» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (سنن أبى داود) .(8/133)
سمعت عمرو بن [العاص] رضى اللَّه عنه يقول: بينا أنا في منامي أتتنى الملائكة، فحملت عمود الكتاب من تحت وسادتي فعمدت به إلى الشام، ألا فالإيمان حيث تقع الفتن بالشام [ (1) ] .
ومن حديث زيد بن واقد قال: حدثني بشر بن [عبد] اللَّه، عن أبى إدريس الخولانيّ، عن أبى الدرداء رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب، فأتبعته بصرى فعهد به إلى الشام.
. الحديث [ (2) ] .
وخرّج الحاكم من حديث عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نمت فرأيتني في الجنة، فسمعت صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا: قالوا: حارثة بن النعمان، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذلك البر، قال: وكان أبر الناس بأمه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة. قال ابن عيينة وغيره: قالوا فيه: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجنة، ولم يذكروا فيه النوم ولا برّ أمه [ (3) ] .
[وخرّج عثمان بن سعيد الدارميّ] من حديث محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه [عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أريت الليلة رجل صالح أن أبا بكر رضى اللَّه عنه نيط برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
قلنا: أما الرجل الصالح، فرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأما ما ذكر ما نوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الّذي بعث اللَّه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 222، حديث رقم (17321) .
[ (2) ] انظر التعليق السابق.
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 167، كتاب البر والصلة، حديث رقم (7247) ، وقال عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم وأخرجاه مختصرا.(8/134)
[تعالى] به نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] . قال الدارميّ: فسمعت يحيى بن معين يقول:
محمد بن حرب يسند هذا الحديث، والناس يحدثون به عن الزهري مرسلا، وإنما هو عمر بن أبان، ولم يكن لإبان بن عثمان أن يقال له:
عمرو [ (2) ] .
وخرّج الحاكم من حديث زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها، فإذا جعفر رضى اللَّه عنه يطير مع الملائكة، وإذا حمزة رضى اللَّه عنه متكئ على [سرير] .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (3) ] [ولم يخرجاه] .
وخرجه من حديث على بن عبد اللَّه المديني قال: حدثني أبى عبد اللَّه ابن جعفر، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: [رأيت] جعفر بن أبى طالب [رضى اللَّه
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود في (السنن) : 5/ 30- 31، كتاب السنة، باب (9) في الخلفاء، حديث رقم (4636) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 348، (كنز العمال) : (14963) .
[ (2) ] فعلى ما ذكره أبو داود عنهما يكون الحديث منقطعا، لأن الزهري لم يسمع من جابر. وقوله: «نيط» معناه: علق، والنوط: التعليق، والتنوط: التعلق. (معالم السنن) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 32، حديث رقم (14407) ، (مسند أحمد) : 5/ 222، حديث رقم (17321) .
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 217، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4890) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : سلمة بن وهرام ضعفه أبو داود.
وسنده في (المستدرك) : حدثنا الهيثم بن خلف الدوري، حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عبيد اللَّه بن عبد المجيد الحنفي، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن سلمة بن وهرام: عن عكرمة، عن ابن عباس به.
وأخرجه أيضا بسياقة أخرى في مناقب جعفر بن أبى طالب، حديث رقم (4933) ، وقد حذفه الحافظ الذهبي من (التلخيص) لضعفه.(8/135)
عنه] ملكا يطير مع الملائكة بجناحين.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (1) ] [ولم يخرجاه] .
ومن حديث معن بن زائدة [الأسدي الكوفي قائد الأعمش] عن الأعمش، عن أبى صالح، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت كأنى دخلت الجنة، فرأيت لجعفر [رضى اللَّه عنه] درجة فوق درجة زيد [رضى اللَّه عنه] فقلت: ما كنت أظن أن زيدا يدون أحدا، فقيل: يا محمد، تدري بم رفعت درجة جعفر [رضى اللَّه عنه] ؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
قلت: لا، قيل: لقرابة ما بينك وبينه [ (2) ] .
قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] .
ومن حديث عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن الزهري، عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت في المنام كأن أبا جهل أتانى فبايعني، فلما أسلم خالد بن الوليد رضى اللَّه عنه، قيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد صدق اللَّه تعالى رؤياك يا رسول اللَّه، هذا كان إسلام خالد رضى اللَّه عنه، [فقال:] ليكونن غيره
حتى أسلم عكرمة بن أبى جهل رضى اللَّه عنه، [وكان] ذلك تصديق رؤياه [ (3) ] . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] .
[وقال الزبير بن بكار: قال عمى مصعب بن عبد اللَّه: وزعم من يعلم أن قيام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عكرمة بن أبى جهل، وفرحه به، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4935) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : المديني واه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4938) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : منكر، وإسناده مظلم.
[ (3) ] (المرجع السابق) : ذكر مناقب عكرمة بن أبى جهل، حديث رقم (5060) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.(8/136)
رأى في منامه الجنة، ورأى فيها عذقا مذللا فأعجبه، فقال: لمن هذا؟ فقيل لأبى جهل، فشق ذلك عليه، وقال: ما لأبى جهل والجنة؟ واللَّه لا يدخلها،
فلما رأى عكرمة أباه مسلما، ناول ذلك العذق عكرمة بن أبى جهل] [ (1) ] .
وخرج الحاكم من حديث الربيع بن سليمان، حدثنا بشر بن بكر التنيسي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سليم بن عامر الكلاعي، حدثني أبو أمامة الباهلي [رضى اللَّه عنه قال:] سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يقول:] بينا أنا نائم إذا أتانى رجلان فأخذا بضبعي، فأتيانى جبلا وعرا، فقالا لي: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، قلت:
ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بى، فإذا [أنا] بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما، قلت: من [هؤلاء] ؟ قال: [هؤلاء] الذين يفطرون قبل تحلة صومهم [ (2) ] .
ثم انطلق بى، فإذا بقوم أشد شيء انتفاخا، وأنتنه ريحا [وأسوئه] منظرا، فقلت: من [هؤلاء] ؟ قال: [هؤلاء] الزانون والزواني، ثم انطلق بى، فإذا أنا بنساء ينهشن ثديهن الحيات، فقلت: ما بال [هؤلاء] ؟.
فقال: [هؤلاء] اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن.
ثم انطلق بى، فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين، فقلت: من [هؤلاء] ؟
قالوا: [هؤلاء] [ذراري] المؤمنين، ثم [تشرف بى شرفا] ، فإذا أنا بثلاثة نفر يشربون من خمر لهم، قلت: من [هؤلاء] ؟ [قالوا] : [هؤلاء] جعفر بن أبى طالب، وزيد، [و] ابن رواحة [رضى اللَّه عنهم] ، ثم [تشرف بى
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) واستدركناه من (خ) .
[ (2) ] إلى هنا ذكره الحاكم في (المستدرك) : 1/ 595، كتاب الصوم، حديث رقم (1568) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.(8/137)
شرفا] آخر، فإذا أنا بثلاثة نفر، قلت: من [هؤلاء] ؟ قال: [هؤلاء] إبراهيم، وموسى، وعيسى، [عليهم الصلاة والسلام] ، وهم ينتظرونك.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري بجميع رواته، غير سليم بن عامر، وقد احتج به مسلم، [وخرّجه ابن حبان في صحيحه، خلا قوله: قالوا: [هؤلاء] على بن أبى طالب، وزيد، وابن رواحة] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 16/ 536- 537، كتاب إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، باب (6) صفة النار وأهلها، حديث رقم (7491) ، وهو آخر أحاديث الكتاب، وقال في هامشه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير بشر بن أبى بكر فمن رجال البخاري، وسليم بن عامر فمن رجال مسلم، وابن جابر: هو عبد الرحمن بن زيد بن جابر، وهو في (صحيح ابن خزيمة) حديث رقم (1986) بأطول منه.(8/138)
فصل في ذكر صديق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل النّبوّة
قال الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم: كان عمرو بن عبسة [بن منقذ بن خالد بن حذيفة] [ (1) ] السلمي [كان] [ (1) ] ، صديق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية [ (2) ] . وقال أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر: عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد السلمي، يكنى أبا نجيح، ويقال أبا شعيب، وينسبونه عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتاب ابن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، أسلم قديما في أول الإسلام، وذكر حديث إسلامه، وهو يقضى أنه قدم مكة، وأسلم بعد أبى بكر وبلال، رضى اللَّه عنهما، ثم رجع إلى قومه، ومقتضاه أنه لم يكن يعرف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل إسلامه، وأنه فارقه فلم يره بعد ذلك، حتى قدم عليه المدينة، فتعرف له، فعرفه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
[وقال ابن الكلبي: عياض بن حماد بن محمد بن سفيان، كان حرمىّ [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يسلم، ومعه نجيبة
__________
[ (1) ] زيادة للنسب والسياق من (جمهرة أنساب العرب لابن حزم) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 264.
[ (3) ] عمرو بن عبسة، له ترجمة في (الاستيعاب) : 3/ 1192- 1194، ترجمة رقم (1937) ، (جمهرة أنساب العرب) : 186، 264، (طبقات خليفة) : 49، 302، (المعارف) : 290، (الجرح والتعديل) : 6/ 241، (المستدرك) : 3/ 714، ذكر عمرو بن عبسة السلمي رضى اللَّه عنه، (جامع الأصول) : 9/ 116، (تهذيب التهذيب) : 8/ 61، ترجمة رقم (107) ، (الإصابة) : 4/ 658- 661، ترجمة رقم (5907) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 456- 460، ترجمة رقم (88) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 96، ترجمة رقم (84) ، (تاريخ الصحابة) : 175، ترجمة رقم (890) .
[ (4) ] الحرمىّ: قال في (اللسان) : الحريم: ثوب المحرم، وكانت العرب تطوف عراة وثيابهم مطروحة بين أيديهم في الطواف.
وفي الحديث: أن عياض بن حمار المجاشعي كان حرمىّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكان إذا حج طاف في ثيابه، كان أشراف العرب يتحمسون على دينهم، أي يتشدّدون إذا حجّ أحدهم لم يأكل إلا طعام رجل من الحرم، ولم يطف إلا في ثيابه، فكان لكل رجل من أشرافهم رجل من قريش، فيكون كل واحد منهما حرمىّ صاحبه، كما يقال: كريّ للمكرى والمكترى. (لسان العرب) : 12/ 120.(8/139)
يهديها له، فقال: أسلمت؟ قال: لا، قالك إن اللَّه نهاني أن أقبل [زبدا] [ (1) ] من المشركين، فأسلم، فقبلها منه، فقال: يا رسول اللَّه! الرجل من قومي أسفل منى يشتمني، أفأنتصر منه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: المستبّان شيطانان يتكاذبان [ (2) ] ، ويتهاتران] [ (3) ] .
[وقال ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي، وكان يقال: العياض حرمي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان ينزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مك، إذا قدمها في الجاهلية] [ (3) ] .
وقال محمد بن حزم: وكان عياض بن حمار بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، حرمي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الزبد: الهدية.
[ (2) ] (جمهرة النسب) : 203- 204.
[ (3) ] قوله: «يتهاتران» زيادة للسياق من (مسند أحمد) : 5/ 166- 167، حديث رقم (17033) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (خ) وليس في (ج) . وعياض بن حمار له ترجمة في:
(الإصابة) : 4/ 752، ترجمة رقم (6132) ، (تهذيب التهذيب) : 8/ 179، ترجمة رقم (367) ، (الاستيعاب) : 3/ 1232- 1233، ترجمة رقم (2011) .
[ (4) ] (جمهرة أنساب العرب) : 231.(8/140)
ومعنى ذلك أن قريشا كانت [في] الحمس، وكانت [بنو] مجاشع من الحلة، وهما دينان من أديان العرب في الجاهلية، فكان الحلي لا يطوف بالبيت إلا عريان، إلا أنه يعيره رجل من الحمس ثيابا يطوف فيها، وكان عياض يطوف في ثياب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ابن عبد البر [رحمه اللَّه] : عياض بن حمار بن أبى حمار بن ناجية ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع المجاشعي التميمي، كان من الحلة الذين لا يطوفون إلا في ثياب الحمس [ (1) ] .
وقال في (التمهيد) : روينا عن طاووس ومجاهد، وأبى صالح، ومحمد ابن كعب القرظي، ومحمد بن شهاب الزهري، يعنى ما نورده بدخول [كلام] بعضهم في بعض، وأكثره على لفظ ابن شهاب قال [جامعه:
كانت] العرب تطوف بالبيت عراة، إلا الحمى: قريش وأحلافهم، فمن جاء من [غيرهم] ، وضع ثيابه فطاف في ثوبي أحمس يستعيرها منه، فإن لم يجد من يعيره، استأجر من ثيابهم، فإن لم يجد [من يستأجر منه ثوبه من الحمس، ولا من يعيره ذلك] ، كان بين أحد أمرين: إما أن يلقى [عليه] ثيابه ويطوف عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا طاف في ثيابه ألقاها عن نفسه إذا قضى طوافه، وحرمها عليه [فلا] يقربها غيره، فكان ذلك الثوب يسمى اللقى [ (2) ] ، وفي ذلك قول بعضهم:
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 1232- 1233.
[ (2) ] قال ابن الأثير: قيل: أصل اللقى أنهم كانوا إذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا: لا نطوف في ثياب عصينا اللَّه فيها، فيلقونها عنهم، ويسمون ذلك الثوب لقي، فإذا قضوا نسكهم لم يأخذوها، وتركوها بحالها ملقاة.
وقال أبو الهيثم: اللقى ثوب المحرم يلقبه إذا طاف بالبيت في الجاهلية، وجمعه ألقاء. (لسان العرب) : 15/ 255- 256.(8/141)
كفى حزنا حزني عليه كأنه ... لقي بين أيدي الطائفين حريم [ (1) ]
والمرأة في ذلك والرجل سواء، إلا أن النساء كن يطفن بالليل، والرجال [بالنهار] ، فقدمت امرأة لها هيئة وجمال، فطافت عريانة، وقال بعضهم:
بل كان عليها من ثيابهم ما ينكشف عنها، فجعلت تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله
[وكانوا] على ذلك، حتى بعث اللَّه [تعالى] نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه [تعالى] عليه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى [ذلِكَ خَيْرٌ] [ (2) ] [لأنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة] ، ونزلت: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ (3) ] ، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مناديا فنادى: ألا لا يطوفون بالبيت عريان [ (4) ] .
__________
[ (1) ] هذا البيت في كافة المراجع هكذا:
كفى حزنا كرى عليه كأنه ... لقي بين أيدي الطائفين حريم
[ (2) ] الأعراف: 26.
[ (3) ] الأعراف: 31.
[ (4) ] كان هذا النداء بمكة سنة تسع (البحر المحيط) : 5/ 40. والحديث في ذلك رقم (1347) من (صحيح مسلم) . ويذكر أن المرأة القائلة:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة، ثم من بنى سلمة بن قشير.
وذكر محمد بن حبيب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبها، فذكرت له صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها كبرة، فتركها فقيل إنها ماتت كمدا وحزنا على ذلك.
قال ابن حبيب: إن كان صح هذا، فما أخرها عن أن تكون أما للمؤمنين، وزوجا لرسول رب العالمين إلا قولها: اليوم يبدو بعضه أو كله، تكرمة من اللَّه لنبيه، وعلما منه بغيرته، واللَّه تعالى أغير منه (سيرة ابن هشام) : 2/ 25.(8/142)
ذكر أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحسن العوم في الماء
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن واقد الأسلمي، حدثنا محمد بن عبد اللَّه عن الزهري قال: وحدثنا محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وحدثنا [عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد اللَّه بن أبى بكر بن عمرو بن حزم، قالوا: حدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن أبيه، عن ابن عباس، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أمه آمنة بنت وهب، فلما بلغ ست سنين، خرجت به إلى [أخواله] بنى عدي ابن النجار بالمدينة، تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به ى دار النابغة فأقامت به عندهم شهرا، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يذكر أمورا كانت في مقامه ذلك، لما نظر إلى أطم بنى عدي بن النجار عرفه، وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالى، نطيّر طائرا كان يقع عليه، ونظر إلى الدار، فقال: ها هنا نزلت بى أمى، وفي هذه الدار قبر أبى عبد اللَّه بن عبد المطلب، وأحسنت العوم في بئر بنى عدي بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه، فقالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول:
هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء، توفيت آمنة بنت وهب، فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما [إلى] مكة، وكانت تحضنه مع أمه، ثم أن بعد أن ماتت(8/143)
[أيضا] .. وذكر الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وتمامه:
فلما مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عمرة الحديبيّة بالأبواء، قال: إن اللَّه قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقيل له، فقال:
أدركتنى رحمتها فبكيت. (طبقات ابن سعد) : 1/ 116- 117، ذكر وفاة آمنة أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما بين الحاصرتين ليس في (ج) .(8/144)
ذكر شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل البعث
[قال أبو بكر بن أبى [شيبة] ، حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن [خيثم] ، عن مجاهد، عن السائب، أنه كان يشارك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح، أتاه فقال:
مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري، ولا يمارى، يا سائب! كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبل منك، وهي اليوم تتقبل منك، وكان ذا سلف وصلة] [ (1) ] .
وقال الزبير بن بكار: وحدثني أبو ضمرة، أنس بن عياض الليثي، قال:
حدثني أبو السائب، عبد اللَّه بن السائب المخزومي، قال: كان جدي أبو السائب شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم الشريك، كان أبو السائب لا يشارى ولا يمارى] .
[وخرج أبو نعيم الأصفهاني، من حديث الأعمش، عن مجاهد، قال:
حدثني مولاي عبد اللَّه بن السائب، قال: كنت شريك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية، فلما قدمت المدينة، قال: تعرفني؟ قلت: نعم، كنت شريكي، قال: نعم الشريك، لا تدارى، ولا تمارى] [ (2) ] .
[وقال ابن عبد البر: الحديث في من كان شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مضطرب جدا، من يجعل الشركة للسائب بن أبى السائب، ومنهم من
__________
[ (1) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 7/ 410، كتاب المغازي، باب (34) فتح مكة، حديث رقم (36937) ، وما بين الحاصرتين ليس في (خ) .
[ (2) ] (مجمع الزوائد) : 9/ 409. وما بين الحاصرتين ليس في (ج) في كل المواضع.(8/145)
يجعلها لأبى السائب أبيه، ومنهم من يجعلها لقيس بن السائب، ومنهم من يجعلها لعبد اللَّه بن السائب، [و] هذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة] [ (1) ] .
[وقال الزبير بن بكار، في كتاب (نسب قريش) ومنه نقلت: وولد عائذ ابن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، أبا السائب، واسمه صيفي، وأبا رفاعة، واسمه أمية، وعتيق، وزهير، فولد أبو السائب بن عائد. السائب، قتل ببدر كافرا، والمسيب وأبا نهيك، واسمه عبد اللَّه، وأبا عطاء، واسمه عبد اللَّه، أسر ببدر] .
[قال: ومن ولد أبى السائب بن عائذ، أو السائب الّذي كان يستغرب في الشعر إذا استحسنه، وكان علماء قريش يذكرون منه عفافا، ثم ذكر حديث أبى السائب، عبد اللَّه بن السائب [قال] : كان جدي أبو السائب شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكر ابن إسحاق فيمن قتل ببدر من المشركين:
السائب بن أبى السائب بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم [ (2) ] .
[قال ابن هشام عفى اللَّه عنه: السائب بن أبى السائب، شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الّذي جاء فيه الحديث،
عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم الشريك السائب،
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 3/ 915، ترجمة رقم (1543) ، 3/ 1288- 1289، ترجمة قيس بن السائب رقم (2133) .
[ (2) ]
وقال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: فمن ولد أبى السائب: عبد اللَّه بن أبى السائب، كان شريكا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجاهلية، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الفتح فقال: يا رسول اللَّه أتعرفنى؟
قال: ألست شريكي؟ قال: بلى يا رسول اللَّه. فكنت خير شريك، كنت لا تدارى لا تمارى.
[مات عبد اللَّه بن أبى السائب بمكة في إمارة ابن الزبير، وقال الحافظ في (الإصابة) : والمحفوظ أن هذا لأبيه السائب] . (جمهرة النسب) : 90.(8/146)
[لا يشارى، ولا يمارى] .
وكان أسلم فحسن إسلامه فيما بلغنا] [ (1) ] .
[وذكر ابن شهاب الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس، أن السائب بن أبى السائب بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، ممن بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قريش، وأعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين] [ (2) ] .
[وقال أبو محمد بن حزم: والسائب بن أبى السائب بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، اختلف فيه، فقيل: لم يقتل يومئذ- يعنى يوم بدر- بل أسلم بعد ذلك] [ (3) ] .
[وقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف في إسلامه، ثم ذكر قول ابن إسحاق، وقول الزبير الّذي تقدم ذكره، ثم قال: وقد نقض الزبير ذلك في موضعين من كتابه، فذكر ما أورده الزبير من حديثه، عن يحيى بن محمد ابن عبد اللَّه بن ثوبان، عن جعفر بن عكرمة، عن يحيى بن كعب، عن أبيه كعب، مولى سعيد بن العاصي، وهو يطوف بالبيت ومعه جنده، فرجموا
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 268، وقال في هامشه: وذكر فيمن قتل من المشركين: السائب بن أبى السائب، واسم أبى السائب صيفي بن عابد [أو ابن عائذ] ، وأنكر ابن هشام أن يكون السائب قتل كافرا، قال: وقد أسلم وحسن إسلامه. وفي هذا الموضوع اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة، واللَّه تعالى أعلم.
ثم ذكره ابن هشام في باب توزيع غنائم حنين على المبايعين من قريش، قال ابن هشام: ومن بنى مخزوم بن يقظة ... والسائب ابن أبى السائب بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم. (سيرة ابن هشام) : 5/ 172.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] الّذي قاله أبو محمد بن حزم: وولد عبد اللَّه بن عائذ: السائب، وولد أبو السائب- وهو صيفي بن عائذ- المسيب بن أبى السائب، والسائب بن أبى السائب، وأبا نهيك بن أبى السائب، فولد السائب:
عبد اللَّه بن السائب، شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فولد عبد اللَّه أبو السائب: السائب بن أبى السائب، قتل يوم بدر كافرا. (جمهرة أنساب العرب لابن حزم) : 143.(8/147)
السائب بن صيفي بن عائذ، فسقط، فوقف عليه معاوية- وهو يومئذ خليفة- فقال: ارفعوا الشيخ، فلما قام قال: هيا معاوية! أجئتنا بأوباش الناس يصرعوننا حول البيت، [أما] واللَّه لقد أردت أن أتزوج أمك، فقال معاوية: ليتك فعلت فجاءت بمثل أبى السائب، يعنى عبد اللَّه بن السائب] [ (1) ] .
[قال ابن عبد البر: وهذا واضح في إدراكه الإسلام، وفي طول عمره، تم ذكر حديث الزبير الّذي تقدم ذكره، من
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم الشريك كان أبو السائب] [ (1) ] .
[قال ابن عبد البر: وهذا كله من الزبير مناقضة لما ذكر أن السائب بن السائب قتل يوم بدر كافرا، ثم ذكر ابن عبد البر قول ابن هشام الّذي تقدم ذكره، ثم قال: وهذا أولى ما عول عليه في هذا الباب، يعنى أن السائب بن السائب من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم] [ (1) ] .
وقد خرج حديث السائب- رحمه اللَّه- أبو داود في سننه [ (2) ] ، وابن ماجة [ (3) ] أيضا من حديث سفيان، قال: حدثني إبراهيم بن المهاجر، عن
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين ليس في (ج) .
[ (2) ] (سنن أبى داود) : 5/ 170- 171، كتاب الأدب، باب (20) في كراهية المراء، حديث رقم (4836) .
وقال في هامشه: السائب هذا قد ذكر بعضهم أنه قتل كافرا يوم بدر، قتله الزبير بن العوام، وذكر بعضهم أنه أسلم وحسن إسلامه، وهذا هو المعول عليه، وقد ذكره غير واحد من الأئمة في كتب الصحابة، والسائب بن أبى السائب من المؤلفة قلوبهم [من المنذري باختصار] .
قال الشيخ:
قوله: «لا تدارى»
يعنى لا تخالف ولا تمانع، وأصل الدرء: الدفع، يصفه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحسن الخلق والسهولة في المعاملة.
وقوله: «لا تمارى»
يريد المراء والخصومة، (معالم السنن) .
[ (3) ] (سنن ابن ماجة) : 2/ 768، كتاب التجارات، باب (63) الشركة والمضاربة، حديث رقم(8/148)
مجاهد، عن [قائد] السائب عن السائب قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعلوا يثنون عليّ ويذكرونني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا أعلمكم- يعنى به- فقلت: صدقت، بأبي [أنت] [ (1) ] وأمى، كنت شريكي، فنعم الشريك، كنت لا تدارى ولا تمارى. رواه عند أبى داود: يحيى عن سفيان، وهذه سياقته، ذكره في كتاب الأدب. ورواه عند ابن ماجة: عبد الرحمن بن مهدي، ولفظه: عن السائب أنه قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك، كنت لا تدارينى، ولا تمارينى] [ (2) ] .
__________
[ () ] (2287) ، وقال في هامشه: «لا تدارينى» من درأ بالهمز إذا دفع، وفي النهاية) : أصله يدارئنى مهموز، وجاء في الحديث غير مهموز ليزاوج يمارينى.
«ولا تمارينى» من المراء وهو الجدال، والمراد أنه كان شريكا موافقا، لا يخالف ولا ينازع.
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن أبى داود) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين ليس في (ج) .(8/149)
فصل في ذكر سفره صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحب السفر في يوم الخميس، وكان يذكر اللَّه تعالى عند سفره، وإذا رجع من سفره، بأذكار معلومة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو اللَّه تعالى إذا ودع مسافرا، وإذا نزل منزلا، وإذا كان وقت السحر، وكان يتنفل على الراحلة، وله سير معروف، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا.
أما يوم سفره صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج البخاري عن يونس، عن الزهري قال: أخبرنى عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن كعب بن مالك كان يقول: لقل ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج إذا خرج [في سفر] إلا يوم الخميس [ (1) ] . هكذا وقع الحديث في كتاب البخاري، عن يونس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، قال:
سمعت مالكا يقول.. والحديث منقطع، لأنه لم يسمع عبد الرحمن بن عبد اللَّه، من جده كعب بن مالك شيئا، وإنما سمع من أبيه عبد اللَّه، ومن عمه عبيد اللَّه، عن أبيهما كعب بن مالك، ونسب ذلك لابن المبارك، لا ليونس، لأن الليث بن سعد، وعبد اللَّه بن وهب، روياه عن يونس، عن الزهري، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده كعب بن مالك، ورواه الليث أيضا، عن عقيل، عن الزهري، بهذا الإسناد أيضا متصلا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 140، كتاب الجهاد، باب (103) من أراد غزوة فوري بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس، حديث رقم (2949) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] قال الحافظ في (الفتح) : والحاصل أن رواية الزهري للجملة الأولى هي عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه(8/150)
وخرج النسائي من طريق ابن جريج، قال أخبرنى معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن جده، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس، وخرج من طريق ابن وهب قال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، عن جده، قال: ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج في سفر جهاد وغيره، إلا في يوم الخميس. هكذا قال في الأول: عبد الرحمن عن جده، وفي الثاني: عبد الرحمن عن أبيه [ (1) ] .
وخرج أبو بكر الشافعيّ، من طريق عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط، أبى محمد العبديّ قال: حدثنا يونس عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال: قل ما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد سفرا، أن يخرج إلا يوم الخميس [ (2) ] .
وخرج ابن حيان من طريق خالد بن إلياس [ويقال: ابن إياس] ، عن
__________
[ () ] ابن كعب بن مالك، وروايته للجملة الثانية المتعلقة بيوم الخميس هي عن عمه عبد الرحمن بن كعب ابن مالك، وقد سمع الزهري منهما جميعا، وحدّث يونس عنه بالحديثين مفصلا، وأراد البخاري بذلك دفع الوهم واللبس عمن يظن فيه اختلافا (فتح الباري) .
[ (1) ] نسبة المنذري إلى النسائي، ولعله في (الكبرى) ، وأخرجه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) :
14/ 219، في ترجمة يحيى بن إسحاق، رقم (7510) .
[ (2) ] وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 79، كتاب الجهاد، باب (84) حديث رقم (2605) ، وقال في هامشه: وأخرجه النسائي.
وأخرجه أيضا أبو محمد الدارميّ في (السنن) : 2/ 214، كتاب السير، باب في الخروج يوم الخميس، بسنده ولفظه.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 491، حديث رقم (15352) من حديث كعب بن مالك الأنصاري، ولفظه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك» وحديث رقم (15354) من حديث كعب بن مالك الأنصاري ولفظه: «أقلّ) ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج إذا أراد سفرا إلا يوم الخميس» ، وحديث رقم (26637) من حديث كعب بن مالك ولفظه: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد أن يسافر لم يسافر إلا يوم الخميس» .(8/151)
محمد بن المنكدر، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب يوم الخميس، ويستحب أن يسافر فيه [ (1) ] . وخالد بن إياس هذا، قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه [ (2) ] .
وخرج أيضا من طريق عثمان بن المخارق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسافر في يوم الاثنين والخميس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (أخلاق النبي) : 243.
[ (2) ] له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 3/ 70- 71، ترجمة رقم (152) .
[ (3) ] (أخلاق النبي) : 244.(8/152)
وأما ما يقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا خرج مسافرا
فخرج النسائي من طريق حماد، عن عاصم قال: قال عبد اللَّه بن سرجس: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سافر يقول: اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهمّ أصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا، اللَّهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
(سنن النسائي) : 8/ 666، كتاب الاستعاذة، باب (41) ، الاستعاذة من الحور بعد الكور، حديث رقم (5513) ، ولفظه: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سافر قال: اللَّهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال» .
وحديث رقم (5514) : عن عبد اللَّه بن سرجس: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سافر قال: اللَّهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد» .
وفي باب (42) الاستعاذة من دعوة المظلوم، حديث رقم (5515) عن عبد اللَّه بن سرجس:
كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر» .
وفي باب (43) الاستعاذة من كآبة المنقلب، حديث رقم (5516) ، عن أبى هريرة قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سافر فركب راحلته قال بإصبعه، ومد شعبة بإصبعه قال: اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، اللَّهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب» .
قوله: «من وعثاء السفر»
بفتح واو، وسكون عين مهملة، ومثلثة، ومد، أي شدته ومشقته.
قوله: «وكآبة المنقلب»
بفتح كاف وهمزة ممدودة أو ساكنة كرأفة ورآفة، في (القاموس) : هي الغم، وسوء الحال، والانكسار من حزن، والمنقلب: مصدر بمعنى الانقلاب، أو اسم مكان.
قال الخطابي: معناه أن ينقلب إلى أهله كئيبا حزينا لعدم قضاء حاجته، أو إصابة آفة له، أو يجدهم مرضى، أو مات منهم بعضهم.
«والحور بعد الكور» الكور لف العمامة، والحور نقضها، والمراد الاستعاذة من النقصان بعد(8/153)
وخرجه الترمذي بهذا السند مثله، وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] ، قال: ويروى: الحور بعد الكور
أيضا، قال: ومعنى
قوله: الحور بعد الكون أو الكور
فكلاهما له وجه: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعنى الرجوع من شيء إلى شيء من الشر [ (2) ] .
وخرجه أبو بكر الشافعيّ رحمه اللَّه، من حديث عاصم [قال:] حدثنا أبو الأحوص، عن سماك عن عكرمة، عن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج إلى سفر قال: اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهمّ إني أعوذ بك من الفتنة في السفر، والكآبة في المنقلب، اللَّهمّ اقبض لنا الأرض، وهون علينا السفر [ (3) ] .
وللإمام أحمد من حديث عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبى يحى، عن على رضى اللَّه عن قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد سفرا قال: اللَّهمّ
__________
[ () ] الزيادة، أو من الشتات بعد الانتظام، أي من فساد الأمور بعد صلاحها، وقيل: من الرجوع عن الجماعة بعد الكون فيهم.
وروى «بعد الكون» بنون، أي الرجوع من الحالة المستحسنة بعد أن كان عليها، قيل: هو مصدر كان التامة، أي من التغير بعد الثبات.
«ودعوة المظلوم» : استعاذة من الظلم، فإنه يترتب عليه دعوة المظلوم، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين اللَّه حجاب.
«وسوء المنظر» : هو كل منظر يعقب النظر إليه سوء.
(حاشية السندي على سنن النسائي) : 8/ 666.
(سنن الترمذي) : 5/ 464، كتاب الدعوات، باب (42) .
[ (1) ] ما يقول إذا خرج مسافرا، حديث رقم (3439) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] (كنز العمال) : 6/ 735- 736، حديث رقم (17627) وعزاه لابن أبى شيبة، وزاد في آخره:
فإذا أراد الرجوع من السفر قال: تائبون عابدون لربنا حامدون، وإذا دخل على أهله قال: توبا توبا، لربنا أوبا، لا يغادر علينا حوبا.(8/154)
بك أصول، وبك أجول، وبك أسير [ (1) ] .
ولمسلم من حديث إسماعيل بن علية، عن عاصم الأحول، عن عبد اللَّه ابن سرجس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سافر يتعوذ باللَّه من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال. انفرد بإخراجه مسلم [ (2) ] .
ولمسلم من حديث ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير، أن عليا الأزدي أخبره أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، علمهم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر، كبر ثلاثا ثم قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ [ (3) ] اللَّهمّ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللَّهمّ هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون [ (4) ] .
وخرجه الترمذي من حديث حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن على ابن عبد اللَّه البارقي، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما قال:] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سافر ركب راحلته، كبر ثلاثا ويقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 145، حديث رقم (693) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 119، كتاب الحج، باب (75) ، يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، حديث رقم (1343) .
[ (3) ] الزخرف: [13- 14] .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 9/ 118- 119، كتاب الحج، باب (75) ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، حديث رقم (1342) .
قوله: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ معنى مقرنين مطيقين، أي ما كنا نطيق قهره واستعماله، لولا تسخير اللَّه تعالى إياه لنا، وفي الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة جمعتها في كتاب (الأذكار) (شرح النووي) .(8/155)
وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم يقول: اللَّهمّ إني أسألك في سفري هذا من البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللَّهمّ هون علينا السفر، واطو عنا بعد الأرض، اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهمّ أصبحنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا. وكان يقول إذا رجع إلى أهله: آئبون [إن شاء اللَّه] [ (1) ] تائبون عابدون، لربنا حامدون [ (2) ] .
قال:
هذا حديث حسن [غريب من هذا الوجه] [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد رحمه اللَّه، ولفظه: عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا ركب راحلته- يعنى إلى السفر- كبر ثلاثا ثم قال:
سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم يقول: اللَّهمّ إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللَّهمّ هون علينا السفر، واطو لنا بعده، اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهمّ اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا [ (3) ] .
وللنسائى من حديث جرير، عن منصور، عن أبى إسحاق، عن على بن ربيعة الأسدي، قال: أتى على رضى اللَّه عنه بدابة، فوضع رجله في الركاب فقال: بسم اللَّه، فلما استوى عليها قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم كبر ثلاثا، وحمد اللَّه ثلاثا، ثم قال: لا إله إلا أنت، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوما مثل ما قلت، ثم استضحك، فقلت: مم استضحكت؟ قال: يعجب ربنا من قول عبده:
سبحانك إني ظلمت نفسي، فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 468، كتاب الدعوات، باب (47) ، يقول إذا ركب الناقة، حديث رقم (3447) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 312- 133، حديث رقم (6275) ، وزاد في آخره: «وكان إذا رجع إلى أهله قال: آئبون تائبون إن شاء اللَّه عابدون لربنا حامدون» .(8/156)
قال: علم عبدي أنه له ربا يغفر له الذنوب [ (1) ] .
وخرجه الترمذي من حديث قتيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن أبى إسحاق، فذكره وقال: حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وقال محمد بن إسحاق [عفى اللَّه عنه] : وبلغني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما خرج من مكة مهاجرا إلى اللَّه يريد المدينة قال: الحمد للَّه الّذي خلقني ولم أك شيئا، اللَّهمّ أعنى على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام، اللَّهمّ اصحبنى في سفري واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فوجهني، وإلى الناس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربى، أعوذ بوجهك الكريم الّذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن يحل عليّ غضبك، أو ينزل بى سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك، وجميع سخطك، لك العتبى عندي ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك. كذا ذكره أبو نعيم، عن ابن إسحاق [رحمه اللَّه تعالى] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه النسائي في (الكبرى) ، السير، باب التسمية عند ركوب الدابة والتحميد والدعاء إذا استوى على ظهرها.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 467، كتاب الدعوات، باب (47) ما يقول إذا ركب الناقة، حديث رقم (3446) ، وقال الترمذي: وفي الباب عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما، وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 77، كتاب الجهاد، باب (81) ما يقول الرجل إذا ركب، حديث رقم (2602) .
[ (3) ] لم أجده.(8/157)
وأمّا ما يقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا علا على شيء
فخرج الإمام أحمد من حديث عمارة، حدثنا زياد النميري، حدثني أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا علا نشزا من الأرض قال: اللَّهمّ لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حال [ (1) ] .
وأمّا الدعاء لمن ودّعه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج النسائي من حديث حماد بن سلمة، قال: أنبأنا أبو جعفر الخطميّ، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن عبد اللَّه بن يزيد الخطميّ قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا شيع جيشا فبلغ عقبة الوداع قال: استودع اللَّه دينكم، وأعمالكم، وخواتيم أعمالكم [ (2) ] .
ومن حديث يحيى بن إسماعيل عن قزعة، عن ابن عمر رضى اللَّه عنه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 122، حديث رقم (13092) .
[ (2) ] عبد اللَّه الخطميّ: هو عبد اللَّه بن يزيد الأنصاري الخطميّ، له صحبة، سكن الكوفة، وكان أميرا عليها. (معالم السنن) .
والحديث أخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 76- 77، كتاب الجهاد، باب (80) في الدعاء عند الوداع، حديث رقم (2601) ، ولفظه: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد أن يستودع الجيش قال: استودع اللَّه دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم.
والنسائي في (الكبرى) ، السير، باب ما يقول إذا ودع، وفي عمل اليوم والليلة، باب ذكر الاختلاف على حنظلة بن أبى سفيان في باب ما يقول عند الوداع.
وابن ماجة في (السنن) : 2/ 943، كتاب الجهاد، باب (24) تشييع الغزاة ووداعهم، حديث رقم (2825) .(8/158)
قال: ودع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا فقال: استودع اللَّه دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك [ (1) ] .
وفي لفظ عن قزعة قال: كنت عند عبد اللَّه بن عمر، فأردت الانصراف، فقال: كما أنت حتى أودعك كما ودعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذ بيدي، فصافحني، ثم قال: استودع اللَّه دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك [ (1) ] .
وخرجه الترمذي [رحمه اللَّه] من حديث سعيد بن خيثم، عن حنظلة، عن سالم، أن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] كان يقول للرجل إذا أراد سفرا:
ادن منى أودعك كما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يودعنا، فيقول: استودع اللَّه دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [غريب] من هذا الوجه من حديث سالم [ (2) ] .
وله من حديث جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! إني أريد سفرا فزودنى، قال: زودك اللَّه التقوى، قال: زدني، قال: وغفر ذنبك، قال: زدني بأبي أنت وأمى، قال: ويسر لك الخير حيثما ما كنت.
قال: هذا حديث حسن غريب [ (3) ] .
وله من حديث أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه [قال:] أن رجلا قال: يا رسول اللَّه! إني أريد أن أسافر فأوصنى، قال: عليك بتقوى اللَّه، والتكبير على كل شرف، فلما أن ولى الرجل،
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 466، كتاب الدعوات، باب (44) ما يقول إذا ودع إنسانا، حديث رقم (3443) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3444) .
وأخرج الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 69- 70، حديث رقم (4510) من حديث عبد اللَّه(8/159)
قال: اللَّهمّ طو له البعد، وهون عليه السفر،
قال: هذا حديث حسن [ (1) ] .
وخرجه تقى بن مخلد بهذا الإسناد، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أوصيك بتقوى اللَّه، والتكبير على كل شرف، فلما ولّى قال: اللَّهمّ ازو له الأرض، وهون عليه السفر [ (2) ] .
ولابن يونس من حديث ابن لهيعة، عن الحسن بن ثوبان، عن موسى بن وردان، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: ودعني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
استودعك اللَّه الّذي لا تضيع ودائعه [ (3) ] .
__________
[ () ] ابن عمر عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، قال: «كان أبى عبد اللَّه بن عمر إذا أتى الرجل وهو يريد السفر قال له: ادن حتى أودعك اللَّه كما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يودعنا فيقول: أستودع اللَّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك» .
وحديث رقم (4766) بنحوه، وكذلك حديث رقم (4937) ، وحديث رقم (6164) .
«الأمانة» ها هنا: أهله ومن يخلفه منهم، وماله الّذي يودعه ويستحفظه أمينه ووكيله، ومن في معناهما، وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر موضع خوف وخطر، وقد تصيبه فيه المشقة والتعب فيكون سبب لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين، فدعا له بالمعونة والتوفيق. (معالم السنن) .
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 466- 467 كتاب الدعوات، باب (46) [بدون ترجمة] ، حديث رقم (3445) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق، والشرف: المكان المرتفع، وأخرجه ابن ماجة مختصرا في (السنن) : 2/ 926، كتاب الجهاد، باب (8) فضل الحرس والتكبير في سبيل اللَّه، حديث رقم (2771) ، وقال في هامشه: «كل شرف» : أي كل أرض مرتفعة، فإن ارتفاع المخلوق يذكر بارتفاع الخالق.
[ (3) ] (سنن ابن ماجة) : 2/ 943، كتاب الجهاد، باب (24) تشييع الغزاة ووداعهم، حديث رقم (2825) . قال في (الزوائد) : في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.(8/160)
وأمّا كيف سيره صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج البخاري من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: سئل أسامة- وأنا جالس- كيف كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسير في حجة الوداع حين دفع؟
قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، قال هشام: والنص، فوق العنق، قال أبو عبد اللَّه: فجوة، متسع، والجمع فجوات وفجاء، وكذلك ركوة وركاء.
ذكره في كتاب الجهاد [ (1) ] ، وفي آخر حجة الوداع [ (2) ] . وخرجه مسلم من
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 6/ 171، كتاب الجهاد والسير، باب (136) السرعة في السير، وقال أبو حميد:
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد أن يتعجل معى فليتعجل، حديث رقم (2999) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 3/ 660، كتاب الحج، باب 92 السير إذا دفع من عرفة، حديث رقم (1666) .
وأخرجه أيضا في كتاب المغازي، باب (78) حجة الوداع، حديث رقم (4413) .
وفي (مسلم بشرح النووي) : 9/ 38، كتاب الحج، باب (47) الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة في هذه الليلة، حديث رقم (283) ، (284) .
قوله: «وكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص» ، وفي الرواية الأخرى: «قال هشام: والنص فوق العنق» أما العنق فبفتح العين والنون، والنص بفتح النون وتشديد الصاد المهملة، وهما نوعان من إسراع السير، وفي العنق نوع من الرّفق، والفجوة بفتح الفاء المكان المتسع، ورواه بعض الرواة في الموطأ «فرجة» بضم الفاء وفتحها، وهي بمعنى الفجوة، وفيه من الفقه استحباب الرّفق في السير في حال الزحام، فإذا وجد فرجه استحب الإسراع ليبادر إلى المناسك، وليتسع له الوقت ليمكنه الرّفق في حال الزحمة، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .
وفي (سنن أبى داود) : 2/ 472- 473، كتاب مناسك الحج، باب (64) الدفعة من عرفة، حديث رقم (1923) .(8/161)
حديث الربيع بن حماد، حدثنا هشام عن أبيه، فذكره. ومن حديث حميد بن عبد الرحمن عن هشام.
وخرج الحاكم من حديث الإمام أحمد، حدثنا إسماعيل بن أبى علية، حدثنا الحجاج بن أبى عثمان، عن أبى الزبير، أن جابر بن عبد اللَّه [رضى اللَّه عنهما] حدثهم قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتخلف عن المسير، [فيزجى] الضعيف ويردف، ويدعو لهم. [قال:] صحيح على شرط مسلم. [ولم يخرجاه] [ (1) ] .
__________
[ () ] العنق: السير الوسيع، والنص: أرفع السير، وهو من قولهم: نصصت الحديث إذا رفعته إلى قائله ونسبته إليه، ونصصت العروس إذا رفعتها فوق المنصة، والفجوة: الفرجة بين المكانين.
وفي هذا بيان أن السكينة والتؤدة المأمور بهما إنما هي من أجل الرّفق بالناس، لئلا يتصادموا، فإذا لم يكن زحام، وكان في الموضع سعة سار كيف شاء. (معالم السنن) وأخرجه الإمام مالك في (الموطأ) : 270 كتاب الحج، باب السير في الدفعة، حديث رقم (888) .
وأخرجه النسائي في (السنن) : 5/ 285- 286، كتاب المناسك، باب (205) كيف السير من عرفة، حديث رقم (2023) .
وابن ماجة في (السنن) : 2/ 1004، كتاب المناسك، باب (58) الدفع من عرفة، حديث رقم (3017) وفي هامشه: «العنق» : سير سريع معتدل، و «نص» : أي حرك الناقة يستخرج أقصى سيرها.
والدارميّ في السنن: 2/ 57، كتاب الحج، باب كيف السير في الإفاضة من عرفة.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 266- 267 من حديث أسامة بن زيد، حديث رقم (21276) ، ولفظه: «كان سيره صلّى اللَّه عليه وسلّم العنق، فإذا وجد فجوة نص، والنص فوق العنق، وأنا رديفه، وحديث رقم (21326) بنحوه.
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 126، كتاب الجهاد، حديث رقم (2541) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.(8/162)
وأمّا ما يقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ويعمله إذا نزل منزلا
فخرج النسائي من حديث بقية [قال:] حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا شريح بن عبيد، عن الزبير بن الوليد، عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه [عنهما] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سافر فأقبل الليل قال: يا أرض، ربى وربك اللَّه، أعوذ باللَّه من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، ومن شر ما يدب عليك، وأعوذ باللَّه من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد بهذا السند، ولفظه: عن عبد اللَّه بن عمر [رضى اللَّه عنهما] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا غزا أو سافر، فأدركه الليل قال: يا أرض، ربى وربك اللَّه، أعوذ باللَّه من شرك وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما دب عليك، أعوذ باللَّه من شر كل أسد وأسود، وحية وعقرب، ومن شر ساكن البلد، [ومن شر] [ (2) ] والد وما ولد [ (3) ] .
وخرج الحاكم من حديث محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن أبى صفوان الثقفي، حدثنا عبد السلام بن هاشم، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب، عن أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ينزل منزلا إلا ودعه بركعتين. قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم
__________
[ (1) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) ، والحديث أخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 78، كتاب الجهاد باب (82) ما يقول الرجل إذا نزل المنزل، حديث رقم (2603) .
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 110، حديث رقم (2487) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 291، حديث رقم (6126) من مسند عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما، وحديث رقم (11840) من مسند أنس ابن مالك رضى اللَّه عنه.(8/163)
يخرجاه، وعثمان بن سعد ممن يجمع حديثه [في البصريين] [ (1) ] .
وأمّا ما يقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في السّحر
خرج مسلم [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث ابن وهب قال: أخبرنى سليمان ابن بلال، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: سمع سامع بحمد اللَّه، وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا، وأفضل عائذا باللَّه [من] النار [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 1/ 460- 461، من كتاب صلاة التطوع، حديث رقم (1188) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : ذكر أبو حفص الفلاس عبد السلام هذا فقال: لا أقطع على أحد بالكذب إلا عليه، وحديث رقم (1635) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : عثمان ضعيف ما احتج به البخاري، وحديث رقم (2492) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعثمان بن سعد ممن يجمع حديثه، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : لا، فإن عبد السلام كذبه الفلاس، وعثمان لين.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 43، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (18) التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، حديث رقم (2716) .
قوله: «أسحر» فمعناه قام في السحر، أو انتهى في سيره إلى السحر، وهو آخر الليل.
وقوله: «سمع سامع»
فروى بوجهين أحدهما فتح الميم من سمع، وتشديدها، والثاني كسرها مع تخفيفها، واختار القاضي هنا وفي (المشارق) ، وصاحب (المطالع) التشديد، وأشار إلى أنه رواية أكثر رواة مسلم، قال: ومعناه بلغ سامع قولي هذا لغيره، وقال مثله تنبيها على الذكر في السحر والدعاء في ذلك، وضبطه الخطابي وآخرون بالكسر والتخفيف، قال الخطابي: معناه شهد شاهد على حمدنا للَّه تعالى على نعمه وحسن بلائه.
وقوله: «ربنا صاحبنا وأفضل علينا»
أي احفظنا واكلأنا، وأفضل علينا بجزيل نعمتك، واصرف عنا كل مكروه.
[ (3) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (4) ] وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 615، كتاب المناسك، حديث رقم (1636) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.(8/164)
ذكر ما يقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا رأى قرية
خرج النسائي من حديث سليمان بن بلال [قال:] حدثنا أبو بكر، حدثنا سليمان عن أبى سهيل بن مالك، عن أبيه، أنه كان يسمع قراءة عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، وهو يؤم الناس في مسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من دار أبى جهم [ (1) ] .
وقال كعب الأحبار: والّذي فلق البحر لموسى، لين مهيبا، حدثني أن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: اللَّهمّ رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أظللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها [ (2) ] .
وحلف كعب بالذي فلق البحر لموسى، لأنها كانت دعوة داود عليه السلام حين يرى القرية. ذكره من طرق.
__________
[ (1) ] لم أجده في (المجتبى) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (2) ] إلى هنا ذكره الحاكم في (المستدرك) : 1/ 614، كتاب المناسك، حديث رقم (1634) من حديث كعب الأخبار، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(8/165)
ذكر تنفله صلّى اللَّه عليه وسلّم على الراحلة
خرج البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن نافع قال: كان ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] يصلى على راحلته ويوتر عليها، ويخبر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يفعل ذلك [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
أخرجه أبو داود من حديث أنس بن مالك رضى اللَّه عنه: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سافر أراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته، ثم كبر، ثم صلى حيث وجهه ركابه» ، حديث رقم (1225) في الصلاة، باب التطوع على الراحلة والوتر، وإسناده حسن.
وحديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنه أخرجه كل من البخاري، ومسلم، ومالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ويومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله» أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج الترمذي رواية سعيد بن يسار، وهذا لفظه: قال: «كنت مع ابن عمر في سفر فتخلفت عنه، فقال: أين كنت؟ فقلت: أوترت..» فذكر الحديث، وفيه: «على راحلته» .
وأخرج الرواية التي فيها ذكر الآية، وهذا لفظه: «إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلى على راحلته أينما توجهت به، وهو جاء من مكة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] ، وقال: في هذا أنزلت.
(جامع الأصول) : 5/ 476- 478، [ما جاء] في أمكنة الصلاة وما يصلى عليه، وفيه أربعة أنواع، النوع الثالث: في الصلاة على الدابة، حديث (3675) ، ومعنى قوله: «يسبح» : التسبيح صلاة النافلة هاهنا، يراجع في ذلك:
البخاري: في تقصير الصلاة، باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت به، وباب الإيماء على الدابة، وباب من لم يتطوع في السفر دبر كل صلاة، وباب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة، وباب من تطوع في السفر، وفي الوتر، باب الوتر على الدابة، وباب الوتر في السفر.
ومسلم في صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.
والموطأ في قصر الصلاة، باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل، وأبو داود في الصلاة، باب التطوع على الراحلة والوتر.(8/166)
وخرجه مسلم من حديث عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان يصلى سبحته حيث توجهت به ناقته.
وفي لفظ: كان يصلى على راحلته حيث توجهت به.
ذكره من عدة طرق.
وللإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون، قال: أخبرنا ربعي بن الجارود [قال] : حدثني عمرو بن الحجاج، عن الجارود بن أبى سبرة، عن أنس رضى اللَّه عنه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد أن يصلى على راحلته، استقبل القبلة، وكبر للصلاة، ثم خلى عن راحلته، فصلى حيث توجهت به [ (1) ] .
وأمّا ما يقول إذا رجع من سفره
فخرّج البخاري من حديث مالك عن نافع، عن ابن عمر [رضى اللَّه عنهما قال:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا قفل من غزوة، أو حج، أو عمرة، يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آئبون، تائبون، عابدون، [ساجدون] لربنا حامدون، صدق اللَّه وعده، ونصر
__________
[ () ] والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في الوتر على الراحلة، وفي التفسير، باب ومن سورة البقرة.
والنسائي في القبلة، باب الحالة التي يجوز فيها استقبال غير القبلة، وفي قيام الليل، باب الوتر على الراحلة.
[ (1) ] وأخرج أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 175، حديث رقم (5312) من مسند عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنه، 4/ 238، حديث رقم (13860) من مسند جابر بن عبد اللَّه، وحديث رقم (14124) من مسند جابر بن عبد اللَّه، وحديث رقم (14620) من حديث جابر بن عبد اللَّه، بسياقات مختلفة، (سنن الدارميّ) : 1/ 356، باب في الصلاة في الراحلة، من حديث جابر.(8/167)
عبده، وهزم الأحزاب وحده. وخرجه مسلم،
فذكره من طرق عديدة [ (1) ] .
ولأبى بكر الشافعيّ من حديث أبى الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد الرجوع من سفر قال: آئبون تائبون، لربنا حامدون، فإذا دخل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أهله قال:
أوبا أوبا، لربنا توبا، لا [يغادر] علنيا حوبا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 789، كتاب العمرة، باب (12) ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو؟
حديث رقم (1797) وفي كتاب الجهاد والسير، باب (133) التكبير إذا علا شرفا، حديث رقم (2995) ، وفي كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، حديث رقم (4116) ، وفي كتاب الدعوات، باب (52) الدعاء إذا أراد سفرا، حديث رقم (6385) .
و (مسلم بشرح النووي) : 9/ 120- 121، كتاب الحج، باب (76) ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، حديث رقم (1344) و (سنن أبى داود) : 3/ 214، كتاب الجهاد، باب (170) في التكبير على كل شرف في المسير، حديث رقم (2770) .
و (سنن الترمذي) : 3/ 285، كتاب الحج، باب (104) ما جاء ما يقول عند القفول من الحج والعمرة، حديث رقم (950) .
و (موطأ مالك) : 291، كتاب الحج، حديث رقم (952) .
[ (2) ]
(مسند أحمد) : 1/ 423، حديث رقم (2311) من مسند عبد اللَّه بن عباس، وهو حديث طويل، وفيه: «توبا توبا، لربنا أوبا» .(8/168)
وأمّا ما يصنع إذا قدم من سفر
فخرج البخاري [ (1) ] من حديث محمد بن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن أبيه، وعمه عبيد اللَّه بن كعب بن مالك [رضى اللَّه عنه قال:] أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا قدم من سفر ضحى، دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس. وذكره مسلم بنحو ذلك [ (2) ] .
وخرّجه النسائي بهذا السند، ولفظه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يقدم من سفر إلا نهارا ضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 238، كتاب الجهاد، باب (198) الصلاة إذا قدم من سفر، حديث رقم (3088) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 235- 236، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (12) استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه، حديث رقم (716) .
في هذه الأحاديث استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر، لا أنها تحية المسجد، والأحاديث المذكورة صريحة فيما ذكرته. وفيه استحباب القدوم أوائل النهار، وفيه أنه يستحب للرجل الكبير في المرتبة، ومن يقصده الناس إذا قدم من سفر للسلام عليه أن يقعد أول قدومه قريبا من داره في موضع بارز سهل على زائريه، إما المسجد، وإما غيره. (شرح النووي) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 2/ 386، كتاب المساجد، باب (38) الرخصة في الجلوس فيه والخروج منه بغير صلاة، حديث رقم (830) ، وهو حديث طويل، وفيه: «ثم جلس للناس» .
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب التوبة، باب (9) حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، حديث رقم (2769) ، وهو حديث طويل، وفيه: «وكان [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وكل سرائرهم إلى اللَّه» .(8/169)
وخرّجه ابن حيان من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن تميم، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن كعب بن مالك [رضى اللَّه عنه] قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم يقعد ما قدر له في مسائل الناس وسلامهم [ (1) ] .
وخرّج البخاري من حديث شعبة، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه [عنهما] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما قدم المدينة، نحر جزورا أو بقرة، زاد معاذ عن شعبة، عن محارب، سمع جابر بن عبد اللَّه: اشترى منى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعيرا [بأوقيتين] ودرهم أو درهمين، فلما قدم صرارا، أمر ببقرة فذبحت، فأكلوا منها، فلما قدم المدينة أمرنى أن آتى المسجد فأصلى ركعتين، ووزن ثمن البعير. ذكره في كتاب الجهاد، وترجم عليه باب:
الطعام عند القدوم [ (2) ] .
__________
[ () ] وأخرجه أبو داود في (السنن) : 3/ 320- 321، كتاب الجهاد، باب (178) في الصلاة عند القدوم من السفر، حديث رقم (2781) ، وفي باب (173) في إعطاء البشير، حديث رقم (2773) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 490، حديث رقم (15345) ، (15346) ، (15347) ، (15348) بسياقات مختلفة، كلهم من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضى اللَّه عنه.
وأخرجه ابن عدي في (الكامل) : 4/ 293، في ترجمة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، شامي دمشقي، رقم (153/ 1120) ، ولفظه: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يقعد ما قدر له لمسائل الناس ولكلامهم» .
قال: وقوله في هذا المتن: «يقعد لمسائل الناس وكلامهم» لا أعرفه إلا من حديث ابن تميم هذا عن الزهري.
[ (1) ] (أخلاق النبي) : 244.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 238، كتاب الجهاد والسير، باب (199) ، الطعام عند القدوم، وكان ابن عمر يفطر لمن يغشاه، حديث رقم (3089) .(8/170)
وخرّج مسلم من حديث شعبة عن محارب [أنه] سمع جابر بن عبد اللَّه [رضى اللَّه عنهما] يقول: اشترى منى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعيرا بأوقيتين ودرهم أو درهمين، قال: فلما قدم صرارا أمر ببقرة فذبحت، فأكلوا منها، فلما قدم المدينة، أمرنى أن آتى المسجد فأصلى ركعتين، ووزن ثمن البعير فأرجح لي [ (1) ] . وفي لفظ له: وقال أمر ببقرة فنحرت، ثم قسم لحمها [ (2) ] .
وأما كونه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا
فخرج البخاري من حديث همام عن إسحاق بن أبى عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس رضى اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا، كان لا يدخل إلا غدوة أو عشية. وخرجه مسلم بهذا السند، ولفظه: كان لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية [ (3) ] .
__________
[ () ] قال ابن بطال: فيه إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب عند السلف، ويسمى النقيعة بنون وقاف، وزن عظيمة، ونقل عن المهلب أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أطعم من يأتيه، ويفطر معهم، ويترك قضاء رمضان، لأنه كان لا يصوم السفر، فإذا انتهى الطعام ابتدأ قضاء رمضان.
قال: وقد جاء هذا مفصلا في (كتاب الأحكام) لإسماعيل القاضي وتعقبه ابن بطال بأن الأثر الّذي أخرجه إسماعيل ليس فيه ما ادعاه المهلب، يعنى من التقييد برمضان، وإن كان يتناوله بعمومه.
مختصرا من (فتح الباري) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 38، كتاب المساقاة، باب (21) بيع البعير واستثناء ركوبه، حديث رقم (115) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (116) .
[ (3) ]
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلا» .
قال الحافظ في (الفتح) : التقييد فيه بطول الغيبة، يشير إلى أن علة النهى إنما توجد حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلما كان الّذي يخرج لحاجة مثلا نهارا، ويرجع ليلا، لا يتأتى(8/171)
__________
[ () ] له ما يحذر، مثل الّذي يطيل الغيبة، كأن طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالبا ما يكره، إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما.
قال: وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على التستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «أن يتخونهم ويتطلب عثراتهم» ، فعلى هذا من أعلم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلا، لا يناوله النهى.
قال الحافظ: وفي الحديث الحث على التواد والتحاب، خصوصا بين الزوجين، لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين، مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك فقد نهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه.
قال: ويؤخذ منه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة ليس داخلا في النهى عن تغيير الخلقة، وفيه التحريض على ترك التعرض لما يوجب سوء الظن بالمسلم. (فتح الباري) .
وفي رواية أخرى: «نهى أن يطرق أهله ليلا» وزاد في رواية: «لئلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم» .
وفي رواية: قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إذا جئت من سفر فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة، وعليك بالكيس» هذه روايات البخاري ومسلم.
وفي رواية أبى داود قال: «كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فلما ذهبنا لندخل، قال: أمهلوا حتى لا ندخل ليلا، لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة» .
وفي رواية له: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر: أول الليل» .
وفي أخرى له، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكره أن يأتى الرجل أهله طروقا» .
وفي رواية الترمذي: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهاهم أن يطرقوا النساء ليلا» .
وفي أخرى له أنه قال: «لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجرى من أحدكم مجرى الدم، قلنا: ومنك؟ قال: ومنى، ولكن اللَّه أعاننى عليه فأسلم» .
قال سفيان بن عيينة: معنى «أسلم» أي فأسلم أنا منه فإن الشيطان لا يسلم. قال: و «المغيبات» جمع مغيبة، وهي التي زوجها غائب.
يراجع في ذلك: البخاري في النكاح، باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، وفي الحج باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة.
ومسلم في الإمارة، باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلا. وأبو داود في الجهاد، باب في الطروق(8/172)
__________
[ () ] والترمذي في الرضاع والاستئذان، باب ما جاء في كراهية طروق الرجل أهله ليلا.
وفي رواية ذكرها رزين قال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قفل من غزاة أو سفر فوصل عشية، لم يدخل حتى يصبح، فإن وصل قبل أن يصبح، لم يدخل إلا وقت الغداة، ويقول، أمهلوا، كي تمتشط التفلة الشعثة، وتستحد المغيبة» .
شرح الغريب:
«يطرقوا» الطروق: أن يأتى الرجل المكان الّذي يريده ليلا.
«يتخونهم» التخون: طلب الخيانة والتهمة.
«تستحد» الاستحداد: حلق العانة، وهو استفعال من الحديد، كأنه استعمل الحديد، على طريق الكناية أو التورية.
«المغيبة» : التي غاب عنها زوجها.
«الشعثة» : البعيدة العهد بالغسل، وتسريح الشعر، والنظافة.
«الكيس» : الجماع، والكيس: العقل، فيكون قد جعل طلب الولد من الجماع عقلا.
«التفلة» ، امرأة تفلة: إذا كانت غير متطيبة، (جامع الأصول) : 5/ 28- 31.(8/173)
فصل في الأماكن التي حلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي الرحلة النبويّة
اعلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سافرت به أمه إلى المدينة وهو غلام، وسافر إلى الشام مرة مع عمه أبى طالب، وله من العمر نحو اثنتي عشرة سنة، ومرة في تجارة لخديجة بنت خويلد، فبلغ أرض بصرى، وأسرى به صلّى اللَّه عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فاجتمع بالأنبياء عليهم السلام، وصلّى بهم فيه، ثم رقا إلى السماء، [و] قد روى أنه نزل في ليلة الإسراء بطيبة، وطور سيناء [و] بيت لحم، وبقبر إبراهيم الخليل، وأنه ذهب إلى يأجوج ومأجوج، وإلى مدينة جابلقا بالمشرق، وإلى مدينة جابرسا بالمغرب، وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف، وحضر مجنة، وعكاظ، [وذا المجاز] ، ثم هاجر إلى طيبة، واتخذها وطنا، وغزا منها سبعا وعشرين غزاة، وخرج إلى العمرة مرتين، صدّ عن البيت في الأولى، وطاف في الثانية بالبيت، وسعى [بين] الصفا والمروة، وقدم مكة مرتين بعد هجرته، سوى القدمة التي اعتمر فيها، ففتح مكة في إحدى قدمتيه، وسار منها إلى الطائف، وحج في الثانية صلّى اللَّه عليه وسلّم تسليما كثيرا.
وأمّا سفره صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمه
فخرّج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، من حديث قراد أبى نوح، واسمه عبد الرحمن بن غزوان قال: أخبرنا يونس بن أبى إسحاق، عن أبى بكر بن أبى موسى، عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا(8/174)
رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه اللَّه رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة، لم يبق حجر، ولا شجر، إلا خرّ ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبىّ، وإني لأعرفه بخاتم النبوة، أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به، وكان هو في رعيه الإبل، قال:
أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا إلى القوم، وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم [أن لا] يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه، عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة [من الروم قد أقبلوا] ، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟.
قالوا: جئنا [أن] هذا النبي، خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد [أخبرنا خبره] وبعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ فقالوا: إنما أخبرنا خبره لطريقك هذا، قال:
أفرأيتم أمرا أراد اللَّه أن يقضيه، هل يستطيع أحد [من الناس] رده؟ قالوا:
لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم اللَّه، أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى ردّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر رضى اللَّه عنه بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت. قال أبو عيسى: هذا حديث [حسن غريب] لا نعرفه إلا من هذا الوجه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 550- 551، كتاب المناقب، باب (3) ما جاء في بدء نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3620) .
وأخرجه أبو عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 672- 673، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4229) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم(8/175)
[قال مؤلفه] عفى اللَّه عنه: في هذا الحديث وهم، وهو أن أبا بكر رضى اللَّه عنه لم يكن حاضرا، ولا كان في حال من يملك، ولا ملك بلالا إلا بعد ذلك بنحو ثلاثين عاما، فإنه ما اشتراه إلا بعد المبعث، وخروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمه كان وله من العمر اثنى عشر سنة ونيف.
وقال البيهقي [رحمة اللَّه عليه] : قال أبو العباس محمد بن يعقوب، سمعت العباس بن محمد يقول: ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد [ (1) ] ، وسمع هذا أحمد ويحيى بن معين من قراد. قال البيهقي [ (2) ] : وإنما أراد بإسناده هذا موصولا، فأما القصة، فهي عند أهل المغازي مشهورة [ (3) ] .
__________
[ () ] يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التخليص) : أظنه موضوعا فبعضه باطل.
وأخرجه الحافظ البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 24- 26، باب ما جاء في خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أبى طالب حين أراد الخروج إلى الشام تاجرا، ورؤية بحيرى الراهب من صفته وآياته، ما استدل به على أنه هو النبي الموعود في كتبهم صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] هو عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي، أبو نوح المعروف بقراد، روى عنه: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وأخرج له البخاري، والأربعة سوى ابن ماجة.
ووثقه: على بن المديني، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة، وابن سعد، وابن حبان، وقال: «كان يخطئ» ، وروى له الدارقطنيّ في (غرائب مالك) ، وقال: «أخطأ فيه قراد» ، وقال الخليلي: «قراد قديم، روى عنه الأئمة، ينفرد بحديث عن الليث لا يتابع عليه» ، وقال الدار قطنى: «ثقة، وله أفراد» ، ترجمته في (تهذيب التهذيب) : 6/ 223- 225، ترجمة رقم (498) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 26.
[ (3) ] ذكرها الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 170- 172، باب ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشام في المرة الأولى، وما اشتمل عليه ذلك من الدلائل المتقدمة لنبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن عشر سنين، حديث رقم (109) .
وذكرها ابن هشام في (السيرة) : 1/ 319- 322، قصة بحيرى.
وذكرها ابن سيد الناس في (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) : 1/ 40- 44 ذكر سفره صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمه أبى طالب إلى الشام، وخبره مع بحيرى الراهب، وذكر نبذة من حفظ اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل النبوة، ثم قال في آخره: قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في(8/176)
وقال شيخنا العماد بن كثير: وهو إسناد صحيح، ولكن في متنه غرابة، وفيه ذكر الغمامة، ولم أر لها ذكرا في حديث ثابت أعلمه سواه [ (1) ] .
[وفي هذا الحديث أمور ينبغي النظر فيها:] [ (2) ] .
[الأول: على أي شيء تابعوه أو بايعوه؟ وهل البيعة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ أو
__________
[ () ] الصحيح» ، وعبد الرحمن بن غزوان لقبه قراد، انفرد به البخاري، ويونس بن أبى إسحاق انفرد به مسلم، ومع ذلك ففي متنه نكارة، وهي إرسال أبى بكر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا، وكيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسن من أبى بكر بأزيد من عامين، وكانت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم تسعة أعوام، على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر على ما قاله آخرون.
وأيضا فإن بلالا لم ينتقل لأبى بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما، فإنه كان لبني خلف الجمحيين، وعند ما عذب في اللَّه على الإسلام اشتراه أبو بكر رضى اللَّه عنه رحمة له، واستنقاذا له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور.
وقوله «فبايعوه» : إن كان المراد فبايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقريب، وإن كان غير ذلك، فلا أدرى ما هو؟ (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) : 1/ 43- 44.
[ (1) ] قال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة وعلى تقدير ذلك فهو مرسل.
فإن هذه القصة كانت ولرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة. ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضى اللَّه عنهم، أو كان هذا مشهورا مذكورا، أخذه من طريق الاستفاضة.
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.
الثالث: أن قوله: «وبعث معه أبو بكر بلالا» ، إن كان عمره صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ ذاك ثنتى عشرة سنة، فقد كان عمر أبى بكر إذا ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثم أين كان بلال؟ كلاهما غريب، اللَّهمّ إلا أن يقال: إن هذا كان ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كبيرا، إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتى عشرة سنة غير محفوظ، فإنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي.
وحكى السهيليّ عن بعضهم: أنه كان عمره صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ ذاك تسع سنين، واللَّه تعالى أعلم. (البداية والنهاية) : 2/ 348.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين في كل الفقرات زيادة للسياق من النسخة (ج) .(8/177)
للراهب؟ فإن كانت للراهب فلا فائدة إذا، لأنه قد ناشدهم فتركوه عند المناشدة، وإن كانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو الظاهر، لأن سياق اللفظ إنما هو راجع إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان إذا ذاك في حيّز من لا يبايع، لأنه كان ابن تسع سنين] [ (1) ] .
[الثاني: أبو بكر رضى اللَّه عنه لم يكن معهم في هذه السفرة، ولا كان في سنّ من يملك ولا ملك بلالا، إلا بعد هذا بنحو ثلاثين سنة، ولعل بعضهم وهم في هذا، ويشتبه أن يكون الحمل فيه على عبد الرحمن بن غزوان، الملقب بقراد، وإن كان البخاري قد خرّج حديثه، فإنه موصوف بالخطإ، والتفرد، وقلة العلم، وقد تفرد بهذا الحديث. قال العباس بن محمد الدوري، فيما ذكره ابن عساكر: ليس في الدنيا مخلوق يحدث بهذا غير قراد، أي نوح عن يونس بن أبى إسحاق، عن أبى بكر بن أبى موسى، عن أبيه] [ (1) ] .
[وقال أبو الخطاب عمر بن دحية: يمكن أن يكون أبو بكر استأجر بلالا حينئذ، أو يكون أمية بن خلف بعثه معه، وذلك فيه أمران:] [ (1) ] .
[أحدهما: أن أبا بكر رضى اللَّه عنه لم يكن معهم في هذه السفرة، ولا كان في سن من يملك، فإنه كان أصغر من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنحو ثلاث سنين، وإذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذه السفرة ابن تسع سنين، فيكون حينئذ أبو بكر له من العمر نحو ست سنين] [ (1) ] .
[الثاني: أنّ بلالا رضى اللَّه عنه، توفى سنة عشرين، وقيل إحدى وعشرين، وسنه تسع وستون سنة، فيكون سنه في هذه السفرة نحو سنتين] [ (1) ] .
[وشيء آخر: وهو أن أبا بكر رضى اللَّه عنه صحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين في كل الفقرات زيادة للسياق من النسخة (ج) .(8/178)
ابن ثمان عشرة، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عشرين سنة، فكيف يكون معه في هذه السفرة وهو لم يصحبه إلا بعدها بنحو إحدى عشرة سنة؟] [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير [رحمه اللَّه] : قال محمد بن إسحاق: وكان أبو طالب هو الّذي يلي أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد جده وكان معه، ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجرا، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع السير، صب له [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذ بزمام ناقته، وقال: يا عم! إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم لي، فرق له أبو طالب وقال: واللَّه لأخرجن به معى ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا..
أو كما قال.
فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام [ (3) ] ، وبها راهب يقال له: بحيرا، في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة راهب بصير، وكان علمهم عن كتاب فيه فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ببحيرا ذلك العام، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى إذا كان ذلك العام، نزلوا به قريبا من صومعته، فصنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة، حتى أظلت
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين في كل الفقرات زيادة للسياق من (ج) .
[ (2) ] الصبابة: الشوق، وقيل: رقته، وحرارته، وقيل: رقة الهوى. صببت إليه صبابة، فأنا صب أي عاشق مشتاق، والأنثى صبة. قال ابن الأعرابي: صب الرجل إذا عشق، يصب صبابة، ورجل صب، ورجلان صبان، ورجال صبون، وامرأتان صبتان، ونساء صبات. مختصرا من (لسان العرب) : 1/ 518.
[ (3) ] بصرى، بضم أوله، وإسكان ثانيه، وفتح الراء المهملة: مدينة جوران، مشهورة عند العرب قديما وحديثا، وهي التي وصل إليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للتجارة. (معجم البلدان) : 1/ 522 موضع رقم (1949) ، (معجم ما استعجم) : 1/ 253، (مراصد الاطلاع) : 1/ 201.(8/179)
الشجرة، وشمرت أغصان الشجرة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرا، نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وحركم وعبدكم، فقال له رجل منهم: يا بحيرا! إن لك اليوم لشأنا، ما كنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم.
فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم، لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش، لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا، قالوا له: يا بحيرا. ما تخلف عنك أحد ينبغي أن يأتيك إلا غلام، وهو أحد القوم سنا، تخلف في رحالهم، قال: فلا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش مع القوم: [واللات والعزى] [ (1) ] إن هذا للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد اللَّه بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا [قال:] ثم قام إليه فاحتضنه، ثم أقبل حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا، جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا،
قام بحيرا [فقال] [ (1) ] له: يا غلام! أسألك باللات والعزى ألا أخبرتنى عما أسألك عنه، وإنما قال بحيرا ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا تسألنى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/180)
باللات والعزى شيئا، فو اللَّه ما أبغض بعضهما شيئا قط.
فقال له بحيرا: فباللَّه إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، [فقال] [ (1) ] :
سلني عما بدا لك،
فجعل يسأله عن أشياء، من حاله في نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، على موضعه من صفته التي عنده.
[قال] [ (1) ] : فلما فرغ منه أقبل على عمه أبى طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، فقال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخى، قال: فما فعل أبوه؟ قال:
مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، قال: ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود فو اللَّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن، فأسرع به إلى بلاده.
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة، حين فرغ من تجارته بالشام، فزعموا فيما يتحدث الناس، أن زريرا [ (2) ] ، وتماما [ (3) ] ، ودريسا- وهم نفر من أهل الكتاب- قد كانوا رأوا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك السفر الّذي كان فيه مع عمه أبى طالب أشياء، فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم اللَّه، وما يجدون في الكتاب من ذكر وصفته، وأنهم إن أجمعوا بما أرادوا، لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قاله لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا [عنه] [ (4) ] ، فقال أبو طالب في ذلك شعرا، يذكر مسيره برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] في (الأصلين) : «زبيرا» ، وصوبناه من كتب السيرة.
[ (3) ] في (دلائل البيهقي) : «ثمام» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .(8/181)
وما أراد منه أولئك النفر، وما قال لهم فيه بحيرا [ (1) ] .
وقال الواقدي [رحمه اللَّه تعالى] : حدثنا محمد بن أبى حبيبة، عن داود ابن الحصين، قالوا لما خرج أبو طالب إلى الشام، خرج معه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المرة الأولى، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب بصرى، وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة، يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا ببحيرا، وكانوا كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام، نزلوا [منزلا] قريبا من صومعته [قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا به] ، فصنع لهم طعاما،
__________
[ (1) ] قال أبو طالب:
إن ابن آمنة الأمين محمدا ... عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته ... والعيس قد قلصن بالأزواد
فارفضّ من عيني دمع ذارف ... مثل الجمان مفرق الأفراد
راعيت منه قرابة موصولة ... وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومة ... بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة ... فلقد تباعد طية المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد
حبرا فأخبرهم حديثا صادقا ... عنه ورد معاشر الحساد
قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى ... ظل الغمامة ثاغرى الأكباد
ساروا لفتك محمد فنهاهمو ... عنه وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى [زبيرا] بحير فانثنى ... في القوم بعد تجادل وتعاد
ونهى دريسا فانتهى لما نهى ... عن قول حبر ناطق بسداد
(دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 29، باب ما جاء في خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أبى طالب حين أراد الخروج إلى الشام تاجرا، ورؤية بحيرى الراهب من صفته وآياته ما استدل به على أنه هو النبي الموعود في كتبهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال الحافظ البيهقي: وذكر ابن إسحاق ثلاث قصائد من شعره في ذلك.(8/182)
ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائمهم، أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بين القوم، حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، فأخضلت أغصان الشجرة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين استظل تحتها.
فلما رأى بحيرا، نزل من صومعته، وأمر بذلك الطعام، فأتى به وقال:
إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروه كلكم، ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا، حرا ولا عبدا، فإن هذا شيء تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنا يا بحيرا، ما كنت تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم؟ قال: إني أحببت أن أكرمكم، ولكم حق، فاجتمعوا إليه.
وتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بين القوم لحداثة سنه، ليس في القوم أصغر منه في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا إلى القوم، ولم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده، جعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ويراها متخلفة على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: يا معشر قريش! لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم، فقال: ادعوه ليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد، مع أنى أراه من أنفسكم، فقال القوم: هو واللَّه أوسطنا نسبا، وهو ابن أخى هذا الرجل- يعنون أبا طالب- وهو من ولد عبد المطلب، فقال الحارث بن المطلب: واللَّه إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامة تسير على رأسه.
وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء في جسده، قد كان [يجدها] عنده في صفته، فلما تفرقوا عن طعامهم،
قام إليه الراهب فقال:(8/183)
يا غلام! أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتنى عما أسألك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسألنى باللات والعزى، فو اللَّه ما أبغضت شيئا بعضهما، قال:
فباللَّه إلا أخبرتنى عما أسألك، قال: سلني عما بدا لك،
فجعل يسأله عن أشياء من حاله، حتى نومه، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخبره، فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر في عينيه، ثم كشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده، فقبل موضع الخاتم.
وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا، وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب، يخاف على ابن أخيه، فقال الراهب لأبى طالب: ما هذا الغلام منك؟
قال أبو طالب: ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فابن أخى، قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى به، قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فو اللَّه إن رأوه، وعرفوا منه ما أعرف ليبغنه سوءا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتابنا، وما درينا عن آبائنا، وأعلم أنى قد أديت إليك النصيحة.
فلما فرغوا من تجارتهم، خرج به سريعا، وكان رجال من اليهود قد رأوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بحيرا، فذاكروه أمره، فنهاهم أشد النهى وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل، فصدقوه وتركوه، ورجع به أبو طالب، فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه قال البلاذري [رحمة اللَّه عليه] فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اثنتي عشرة سنة، عرض لأبى طالب شخوص إلى الشام في تجارة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يألفه، فسأله إخراجه معه، فأبى ذلك ضنا عليه،(8/184)
وصيانة له، فاغتم وبكى، فأخرجه، فرآه راهب من علماء الرهبان يقال له:
بحيرا، وكانت قد أظلته غمامة، قال: ابن أخى، قال أما ترى هذه الغمامة كيف تظله وتنتقل معه، واللَّه إنه لنبي كريم، وإني لأحسبه الّذي بشر به عيسى عليه السلام، فإن زمانه قد قرب، وينبغي لك أن تحتفظ به، فرده أبو طالب إلى مكة. وذكر بعض الرواة أن أبا طالب أشخص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشام وهو ابن تسع، والأول أثبت.(8/185)
وأمّا سفره صلّى اللَّه عليه وسلّم في تجارة خديجة رضى اللَّه تعالى عنها
فخرج البيهقي من حديث محمد بن فضيل قال: حدثنا الربيع بن بدر، عن أبى الزبير عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه [عنهما] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: وكانت خديجة بنت خويلد [رضى اللَّه عنها] امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعل لهم منه، وكانت قريش قوما تجارا، فلما بلغها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله منها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخرج في مالها، ذلك ومعه غلامها ميسرة، حتى قدم الشام.
فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ظل شجرة، قريب من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الّذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 66، وقال في هامشه: «الخبر في إسناده الربيع بن بدر ضعفه ابن معين وقال: «ليس بشيء» ، وقال النسائي ويعقوب بن سفيان: «متروك» ، وقال ابن حبان: «بقلب الأسانيد، ويروى عن الثقات المقلوبات» ، وقال الدارقطنيّ والأزدي: «متروك» (تهذيب التهذيب) : 3/ 207- 208، ترجمة رقم (462) .(8/186)
الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي [ (1) ] ، ثم باع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشترى، ثم أقبل قافلا إلى مكة، ومعه ميسرة، وكان ميسرة- فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعفت أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة، شريفة لبيبة، مع ما أراد اللَّه [تعالى] بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة عما أخبرها به، بعثت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: فيما يزعمون يا ابن عم؟ إني قدر رغبت فيك لقرابتك منى، وشرفك في قومك، ووسيطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها قد كان حريصا على ذلك منها، لو يقدر على ذلك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] قول الراهب: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي» ، قال السهيليّ: «يريد ما نزل تحتها هذه الساعة قط إلا نبي، لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك ... والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل، حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى صلّى اللَّه عليه وسلّم أو غيره من الأنبياء» .
[ (2) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 66- 67، (سيرة ابن هشام) : 2/ 6- 8، ثم قال في هامشه:
«قول خديجة رضى اللَّه عنها: لسطتك- أو وسيطتك- في عشيرتك» ، وقوله في وصفها: «هي أوسط قريش نسبا» فالسطة: من الوسط، مصدر، كالعدة والزنة، والوسط من أوصاف المدح، والتفضيل، ولكن في مقامين: في ذكر النسب، وفي ذكر الشهادة.
أما النسب، فلأن أوسط القبيلة أعرفها، وأولاها بالصميم، وأبعدها عن الأطراف، وأجدر أن لا تضاف إليه الدعوة، لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب، فكان الوسط من أجل هذا مدحا في النسب بهذا السبب.
وأما الشهادة، فنحو قوله سبحانه: قالَ أَوْسَطُهُمْ، وقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، فكان هذا مدحا في الشهادة، لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطا(8/187)
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: حدثني موسى بن شيبة، عن عميرة بنت عبيد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية- أخت يعلى بن منية- قالت:
لما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسا وعشرين سنة، قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت [إليك] ، وبلغ خديجة ما كان من [محاورة] عمه له، فأرسلت إليه في ذلك، وقالت له: أنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك، فقال أبو طالب: هذا رزق قد ساقه اللَّه إليك، فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، حتى قدما بصرى من [أرض] الشام [ (1) ] .
فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة [قط] [ (2) ] إلا نبيّ، ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم، قال: لا تفارقه؟ قال نعم، قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء، ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاح [ (3) ] ،
فقال له: احلف باللات والعزى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما حلفت بهما قط، وإني لأمر [عليهما] فأعرض عنهما،
فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا واللَّه نبي تجده أحبارنا منعوتا في
__________
[ () ] كالميزان، لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميما، لا يجذبه هوى، ولا تميل به رغبة ولا رهبة، من هاهنا، ولا من هاهنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل.
وظنّ كثير من الناس أن معنى الأوسط: الأفضل على الإطلاق، وقالوا: معنى الصلاة الوسطى:
الفضلى، وليس كذلك، بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم كما يقتضي لفظ التوسط.
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 129، ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشام في المرة الثانية.
[ (2) ] زيادة للسياق من (الطبقات) .
[ (3) ] التلاحي: الشقاق والمنازعة.(8/188)
كتبهم، وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة، واشتد الحر، يرى ملكين يظلان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشمس، فوعى ذلك كله ميسر [ (1) ] .
وباعوا تجارتهم، وربحوا ضعف ما كانوا يربحون [حتى] [ (2) ] دخل مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة [رضى اللَّه عنها] في علية لها، فرأت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على بعيره، وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها، فتعجبن لذلك، ودخل عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما ربحوا في وجههم فسرّت بذلك، فلما دخل عليها فميسرة أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال الراهب نسطور، وبما قال الآخر الّذي خالفه [في البيع] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 130.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(8/189)
وأمّا الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم إلى السماوات العلى ورؤيته آيات ربه الكبرى
فإنه ثابت بكتاب اللَّه العزيز، الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبسنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الثابتة، المستفيضة عنه بالنقل، من حديث عبد اللَّه بن مسعود، وأبى ذر، وحذيفة، وعبد اللَّه بن عباس، وأبى هريرة، وأبى سعيد الخدريّ، ومالك بن صعصعة، وأبى بن كعب وأنس بن مالك، وشداد بن أوس، وأبى ليلى الأنصاري، وعبد الرحمن بن قرظ، وأم هاني بنت أبى طالب، رضى اللَّه عنهم، حتى صار في الثبوت مصير التواتر.
قال اللَّه جلّ وعزّ سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ (1) ] .
اعلم ان التسبيح هو التنزيه، والتنزيه والتبعيد مأخوذ من قولهم: سبح الرجل في الأرض إذا ذهب فيها، ومنه قيل للفرس إذا كان جيد الركض:
سابح، ومنه السبح في الماء، فقولك: سبحت اللَّه، أي نزّهته وبرأته مما لا يليق بجلاله، وأصل المعنى والاشتقاق، باعدته مما لا يليق به، أي جعلته بمعزل منها، متباعدا تباعد المنزلة والرتبة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الإسراء: 1.
[ (2) ] قال ابن الفرج: سمعت أبا الجهم الجعفري يقول: سبحت في الأرض وسبخت فيها إذا تباعدت فيها، ومنه قوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي يجرون، ولم يقل: تسبح، لأنه وصفها بفعل من يعقل.
وكذلك قوله: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً هي النجوم تسبح في الفلك، أي تذهب فيها بسطا، كما يسبح السابح في الماء سبحا، وكذلك السابح في الماء سبحا، وكذلك السابح من الخيل يمد يديه في(8/190)
__________
[ () ] الجرى سبحا.
وقال الأزهري في قوله عز وجل: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، قيل: السابحات السفن، والسابقات الخيل.
والتسبيح: التنزيه، وسبحان اللَّه: معناه: تنزيلها للَّه من الصاحبة والولد. وقيل: تنزيه للَّه تعالى عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف.
تقول: سبّحت اللَّه تسبيحا له أي نزّهته تنزيها، وكذلك روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الزجّاج في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا قال: منصوب على المصدر، المعنى: أسبح اللَّه تسبيحا، قال: وسبحان في اللغة تنزيه اللَّه عزّ وجلّ عن السوء.
وسبّح الرجل: قال سبحان اللَّه، وفي التنزيل: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.
وقال قوم: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي ما من دابة إلا وفيه دليل على أن اللَّه عز وجلّ خالقه، وأن خالقه مبرأ من الأسواء، ولكنكم أيها الكفار لا تفقهون أثر الصنعة في هذه المخلوقات.
قال الأزهري: ومما يدلك. على أن تسبيح هذه المخلوقات تسبيح تعبدت به، قول اللَّه عز وجلّ للجبال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ، ومعنى أوبي: سبحي مع داود النهار كله إلى الليل ولا يجوز أن يكون معنى أمر اللَّه عزّ وجل للجبال بالتأويب إلا تعبدا لها.
وكذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها، لا نفقهها عنها، كما لا نفقه تسبيحها.
وكذلك قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقد علم اللَّه تعالى هبوطها من خشيته، ولم يعرفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أعلمنا، ولا ندعى بما لا نكلّف بأفهامنا من علم فعلها كيفية نحدها.
ومن صفات اللَّه عز وجل: السّبوح القدوس، قال أبو إسحاق: السبوح: الّذي ينزه عن كل سوء، والقدوس: المبارك، وقيل: الطاهر.
وقال ابن سيده: سبوح قدوس، من صفة اللَّه عز وجل، لأنه تعالى يسبّح ويقدس، ويقال: سبّوح قدس، قال الحيانى: المجتمع عليه فيها الضم.
وسبحات وجه اللَّه، بضم السين والباء: أنواره، وجلاله، وعظمته، وقال جبريل عليه السلام: إن للَّه دون العرش سبعين حجابا، لو دنونا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجه ربنا، رواه صاحب (العين) .
قال ابن شميل: سبحات وجهه، نور وجهه. وفي حديث آخر: حجابه النور والنار، لو كشفه(8/191)
والإسراء: سير الليل، يقال: سرى سرى ومسرا، وأسرى إسراء، وقيل:
أسرى، سار في أول الليل، وسرى، سار في آخره [ (1) ] .
__________
[ () ] لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره.
وقال ابن عرفة الملقب بنفطويه. في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ: أي سبّحه بأسمائه، ونزهه عن التسمية بغير ما سمى به نفسه. قال: ومن سمى اللَّه تعالى بغير ما سمى به نفسه فهو ملحد في أسمائه، وكل من دعاه بأسمائه فمسبح له بها، إذ كانت أسماؤه مدائح له وأوصافا، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها، وهي صفاته التي وصف بها نفسه، وكل من دعا اللَّه بأسمائه فقد أطاعه ومدحه، ولحقه ثواب. (لسان العرب) : 2/ 471- 474 مختصرا.
[ (1) ] أسرى: لغة في سرى، بمعنى سار في الليل، فالهمزة هنا ليست للتعدية، لأن التعدية حاصلة بالباء، بل أسرى فعل مفتتح بالهمزة، مرادف سرى، وهو مثل: أبان المرادف بان، ومثل: انهج الثوب بمعنى نهج زي بلى ف أَسْرى بِعَبْدِهِ بمنزلة ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.
وللمبرد والسهيل نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء: بأن الثانية أبلغ، لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعول في الفعل، فأصل ذهب به أنه استصحبه. كما قال تعالى: وَسارَ بِأَهْلِهِ.
وقالت العرب: أشبعهم شتما، وراحوا بالإبل، وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا، إذا قال:
أَسْرى بِعَبْدِهِ دون سرى بعبده، وهي التلويح إلى أن اللَّه تعالى كان مع رسوله في أسرائه، بعنايته وتوفيقه، كما قال تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، وقال: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا.
فالمعنى: الّذي جعل عبده مسريا، أي ساريا، وهو كقوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ.
وإذ قد كان السّرى خاصا بسير الليل، كان قوله: ليلا إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جزء ليلة، وإلا لم يكن ذكره إلا تأكيدا على أن الإفادة- كما يقولون- خير من الإعادة.
وفي ذلك إيماء إلى أنه إسراء خارق للعادة، لقطع المسافة التي بين مبدإ السير ونهايته في بعض ليلة، وأيضا ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره، المفيد للتعظيم.
فتنكير ليلا للتعظيم بقرينة الاعتناء بذكره، مع علمه من فعل أسرى، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليل عظيم، باعتبار جعله زمنا لذلك السري العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم، ألا ترى كيف احتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ إذا وقعت ليلة القدر غير منكرة (تفسير التحرير والتنوير) : 15/ 11- 12.(8/192)
والمراد بعبده: محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليلا: [أي] في جوف الليل، وقيل: في بعض الليل، لا في كله، وقيل: أي ذهب بعبده في سراة الأرض، أي متسعها [ (1) ] .
والمسجد الحرام، قيل: المراد به نفس الكعبة، وقيل: نفس المسجد الّذي فيه الكعبة، وفيه يقع الطواف والصلاة إليها، وقيل: نفس مكة، وقيل:
جميع الحرم، وقد أطلق لفظ المسجد الحرام بهذه الاعتبارات الأربعة، على الموضع الّذي [اسرى منه بالنبيّ عليه الصلاة والسلام] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] و «عبد» المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، كما هو مصطلح القرآن، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافا إلى ضمير الغيبة الراجع إلى اللَّه تعالى، إلا مرادا به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين، وشاع إنكاره بين المشركين، فصار المراد «بعبده» معلوما.
والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف، لأن وصف العبوديّة للَّه متحقق لسائر المخلوقات، فلا تفيد إضافته تعريفا. (المرجع السابق) .
[ (2) ] ذكر الماوردي في (الحاوي) في كتاب الجزية، أن كل موضوع ذكر اللَّه فيه المسجد الحرام، فالمراد به:
الحرم، إلا في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنه أراد به الكعبة.
وأما ابن أبى الصيف اليمنى فقال بعد ذكر المواضع الخمسة عشر [التي ذكر اللَّه تعالى فيها اسم المسجد الحرام في القرآن الكريم] : منها ما أراد اللَّه به الكعبة، كقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] ، ومنها ما أراد به مكة كقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] ، وقد روى أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرى به من بيت أم هانئ بنت أبى طالب.
ومنها ما أراد به الحرم، كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة:
28] . قال:
وقد روى النسائي في سننه، من حديث ميمونة رضى اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الكعبة.
وروى أيضا من حديث أبى هريرة: إلا الكعبة. وفي رواية ابن ماجة: وصلاته بمكة بمائة ألف. مع ذكر المساجد يظهر أنه أراد مسجد مكة، والمصلى فيه مصل بمكة.
[فإنه قال في الحديث الّذي أخرجه جابر، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل مائة ألف صلاة فيما سواه] . رواه ابن ماجة.
قال: والإنصاف أن الكل داخل في الاسم المذكور في القرآن، إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى(8/193)
فقد ثبت من حديث أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبي [عليه الصلاة والسلام] ، قال: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان..
وذكر حديث الإسراء. وفي رواية: بينا أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجعا، إذا أتانى آت.. الحديث [ (1) ] ،
فإن كان في الحجر، فقد وقع
__________
[ () ] المسجد الّذي قدر به الطواف، ولهذا ورد: كنا في المسجد الحرام، وخرجنا من المسجد الحرام، واعتكفنا في المسجد الحرام، وبتنا فيه، ولا شك أن مساجد الحرم متعددة، واختص هو من بينها بالمسجد الحرام في العرف.
وقد ذكر الأزرقي في (أخبار مكة) : عن جده، عن مسلم بن خالد، عن محمد بن الحارث، عن سفيان، عن على الأزدي، قال: سمعت أبا هريرة رضى اللَّه عنه يقول: إنا لنجد في كتاب اللَّه عزّ وجل أن حدّ المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى.
وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: أساس المسجد الّذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد. [الحزورة: موضع بمكة يلي البيت، وهو بفتح الحاء وسكون الزاى، والمحدثون يقولونه بتشديد الواو، وهو تصحيف، وأجياد: موضع من بطحاء مكة] (معجم ما استعجم للبكرى) ، (إعلام الساجد بأحكام المساجد) : 60- 61.
فالمسجد الحرام هو المكان المعدّ للسجود، أي الصلاة، وهو الكعبة والفناء المجعول حرما لها، وهو يختلف سعة وضيقا باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف، والاعتكاف، والصلاة.
والحرام: فعال بمعنى مفعول، كقولهم: امرأة حصان، أي ممنوعة بعفافها عن الناس. (تفسير التحرير والتنوير) : 15/ 13.
ومن ذلك ما قاله حسّان بن ثابت رضى اللَّه عنه معتذرا عن خوضه مع الذين خاضوا في حديث الإفك، فقال مخاطبا لأم المؤمنين، المبرأة، أم عبد اللَّه عائشة رضى اللَّه عنها:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤيّ بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
(ديوان حسان بن ثابت) : 228.
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 371، كتاب بدء الخلق، باب (6) ذكر الملائكة، حديث رقم (3207) ، وهو حديث طويل أمسكنا عن ذكره لطوله واشتهاره. وفي (المرجع السابق) : 7/ 255، كتاب مناقب الأنصار، باب (42) المعراج، حديث رقم (3887) ، وفيه: «بينما أنا في الحطيم- وربما قال: في الحجر- مضطجعا إذ أتانى آت ... فذكره، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (264) ، وأخرجه الترمذي في (السنن) : 5/ 281، كتاب تفسير القرآن، باب (18) ومن سورة بنى إسرائيل،(8/194)
الإسراء من نفس الكعبة، لأن معظم الحجر من البيت [ (1) ] .
وإن كان من الحطيم، فقد وقع الإسراء من نفس المسجد، فإن الحطيم ما بين الركن والمقام، وما بين زمزم والحجر، على أن رواية «عند» محتملة للأمرين، فإن كان بالحجر، فإنه عند البيت، لأن الحجر لما أخرج من البيت، صار كأنه ليس منه، ولو لم يثبت أنه كان في الحجر، لصح لمن كان عند البيت أن يقال عنه أنه أسرى به من البيت، أي من عند البيت [ (2) ] .
__________
[ () ] حديث رقم (3133) عن جابر بن عبد اللَّه مختصرا، ولفظه: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا اللَّه لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب عن مالك بن صعصعة، وأبى سعيد، وابن عباس.
وأخرجه النسائي في (السنن) : 1/ 237، كتاب الصلاة، باب (1) فرض الصلاة، حديث رقم (447) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 236، حديث رقم (17378) من حديث مالك بن صعصعة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحديث رقم (17379) ، وحديث رقم (17380) ، وحديث رقم (17381) كلهم من حديث مالك بن صعصعة بسياقات مختلفة.
[ (1) ] قال الإمام النووي: قال أصحابنا: ست أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف، وفي الزائد خلاف، فإن طاف في الحج وبينه وبين البيت أكثر من ستة أذرع ففيه وجهان لأصحابنا، أحدهما: يجوز، لظواهر هذه الأحاديث، وهذا هو الّذي رجحه جماعات من أصحابنا الخراسانيين.
والثاني: لا يصح طوافه في شيء من الحجر ولا على جداره، ولا يصح حتى يطوف خارجا من جميع الحجر، وهذا هو الصحيح، وهو الّذي نصّ عليه الشافعيّ، وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين، ورجحه جمهور الأصحاب، وبه قال علماء المسلمين، سوى أبى حنيفة فإنه قال: إن طاف في الحجر وبقي في مكة أعاده، وإن رجع من مكة بلا إعادة أراق دما، وأجزأه طوافه.
واحتج الجمهور بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم طاف من وراء الحجر وقال: لتأخذوا [عنى] مناسككم، ثم أطبق المسلمون عليه من زمنه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الآن، وسواء كان كله من البيت أم بعضه، فالطواف يكون من ورائه، كما فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 9/ 99- 100، كتاب الحج، باب (69) نقض الكعبة وبنائها.
[ (2) ] حطيم مكة هو ما بين الركن والباب، وقيل: هو الحجر المخرج منها، سمى به لأن البيت رفع وترك هو محطوما، وقيل لأن العرب كانت تطرح فيه ما كانت به من الثياب، فبقي حتى حطم بطول الزمان، فيكون فعيلا بمعنى فاعل.(8/195)
وثبت أيضا من حديث أنس، عن أبى ذر [رضى اللَّه عنهما] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل.
.. الحديث، وهذا صريح في أنه كان بمكة خارج المسجد لأن بيته بمكة لم يكن بالمسجد [ (1) ] .
وروى الواقدي [رحمه اللَّه] ، أنه أسرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من شعب أبى طالب [ (2) ] إلى بيت المقدس، ليلة سبع عشرة من ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة. قال الواقدي: وذلك غير ثبت، كذا رواية أنه أسرى به من بيت أم هانئ، فإنّها تدل على أن الإسراء كان من خارج المسجد.
[وقد روى إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد، وروى عبد اللَّه بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قالا: الحرم كله مسجد. وعن عطاء:
الحرم مسجد كله. وعن عطاء، عن ابن عباس: الحرم كله المسجد الحرام.
ذكره عمر بن [أبى] شيبة في كتاب (أخبار مكة) ] [ (3) ] .
والمسجد الأقصى، هو مسجد بيت المقدس، سمى بذلك لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، وقيل: وصف بالأقصى من العرب، أو من أهل مكة، أو من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والأقصى: أفعل من القصي، والقاضي، وهو
__________
[ () ] وقال ابن عباس: الحطيم الجدار بمعنى جدار الكعبة. وقال ابن سيده: الحطيم حجر مكة مما يلي الميزاب، سمى بذلك لانحطام الناس عليه، وإنما سمى حطيما لأن البيت رفع وترك ذلك محطوما.
(لسان العرب) : 12/ 139- 140 مختصرا.
[ (1) ] (جامع الأصول) : 11/ 305- 307، في الإسراء وما يتعلق به، حديث رقم (8868) .
[ (2) ] كانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة، ومجموع البيوت يسمى «شعبا» - بكسر الشين- وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دورها، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يحفظ به، وكانت المسالك التي بين دور العشائر تسمى أبوابا، لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام، مثل باب بنى شيبة، وباب بنى هاشم، وباب بنى مخزوم- وهو باب الصفا- وباب بنى سهم، وباب بنى تيم، وأول من جعل للمسجد الحرام جدار يحفظ به هو عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه سنة سبع من الهجرة. (تفسير التحرير والتنوير) 15/ 13 مختصرا.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (خ) وليس في (ج) .(8/196)
البعيد [ (1) ] .
وقد كثرت الأحاديث الواردة في صفة الإسراء، وتباينت كيفيته، وجاء في بعضها: أن الإسراء كان بجسده [صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي بعضها: أن الإسراء كان
__________
[ (1) ] المسجد الأقصى: هو المسجد المعروف ببيت المقدس الكائن. بإيلياء، وهو المسجد الّذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام.
والأقصى: أي الأبعد، والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء، وكونه خارقا للعادة لكونه قطع مسافة طويلة في بعض ليلة.
وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علما بالغلبة على مسجد بيت المقدس، كما كان المسجد الحرام علما بالغلبة على مسجد مكة.
وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزة خفيّة من معجزات القرآن، إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم، هو مسجد طيبة، الّذي هو قصي عن المسجد الحرام، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذ.
فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية، والتي بينها
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي» .
والمسجد الأقصى هو ثانى مسجد بناه إبراهيم عليه السلام، كما ورد ذلك عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ففي الصحيحين عن أبى ذر قال: قلت يا رسول اللَّه، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة.
فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم، لأنه حدّد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام، وقد قرن ذكره بذكر المسجد الحرام.
وهذا مما أهمل أهل الكتاب ذكره، وهو ما خصّ اللَّه تعالى نبيه بمعرفته، والتوراة تشهد له، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر: أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان [وهي بلاد فلسطين] ، نصب خيمته في الجبل شرقىّ بيت إيل [بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلا من أورشليم إلى الشمال، وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين «لوزا» فسماه يعقوب: «بيت إيل، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين] وغربىّ بلاد عاى [مدينة عبرانية تعرف الآن «الطيبة» ] وبنى هنالك مذبحا للرب (تفسير التحرير والتنوير) : 15/ 16، (العهد القديم) : 45، سفر التكوين، الإصحاح الثامن والعشرون، عدد (19) .(8/197)
بروحه، فكان ذلك مناما، وفي بعضها: أن الإسراء كان بجسده] [ (1) ] في اليقظة إلى بيت المقدس فقط، فكانت رؤية عين، ثم عرج بروحه إلى السموات، فكانت رؤيا قلب.
وذهب إلى كل من هذه الأحاديث جماعة، ثم من الناس من يقول: كان ذلك كله في ليلة واحدة، ومنهم من يقول: كان الإسراء في ليلة، والمعراج في أخرى، وأن المعراج غير الإسراء [ (2) ] .
واختلفوا في تاريخ الإسراء، فقال أبو بكر محمد بن على بن [القاسم] الدّهنى في تاريخه: ثم أسرى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء، بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا [ (3) ] .
قال ابن عبد البر [رحمه اللَّه] : لا أعلم أحدا من أهل السّير، قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم، ولا رفعه إلى من يحتج به.
وقال أبو إسحاق [الحربي، رحمه اللَّه] : فلما كانت ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة، أسرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفرض عليه خمسون صلاة، ثم نقصت إلى خمس صلوات، فأتاه جبريل [عليه السلام] ، فأمّه عند البيت، فصلى الظهر أربعا، والعصر أربعا، والمغرب، ثلاثا، والعشاء أربعا، والفجر ركعتين، كل ذلك نحو بيت المقدس، فلما كان الموسم من هذه السنة، لقيه الأنصار [رضى اللَّه عنهم] فبايعوه ثم انصرفوا.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (ج) .
[ (2) ] الواقدي من الذين فرقوا بين الإسراء والمعراج، وجعلهما في تاريخين. (تاريخ الإسلام للذهبى) :
2/ 272.
[ (3) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 213- 216، ذكر ليلة أسرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيت المقدس.(8/198)
قال ابن عبد البر: هكذا قال في الإسراء، قبل الهجرة بسنة، وهو قول موسى بن عقبة واختلف في ذلك عن ابن شهاب، فذكر [رحمه اللَّه تعالى] من طريق محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: ثم أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وفرض اللَّه [تعالى] عليه الصلاة.
قال ابن شهاب: وزعم ناس أنه كان يسجد نحو بيت المقدس، ويجعل وراء ظهره الكعبة وهو بمكة. ويزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة حتى خرج منها، فلما قدم المدينة، استقبل بيت المقدس، وقد اختلف في ذلك.
قال ابن عبد البر: هكذا قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وذلك بعد مبعثه بسبع سنين، أو باثني عشر سنة، على حسب اختلافهم في مقامه بمكة [بعد] مبعثه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وروى يونس عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بسبعة أعوام، وخالفه الوقاصى عن ابن شهاب فقال:
أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين، وقال يونس بن بكير: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن- هو الوقاصى- عن الزهري، قال: فرضت الصلاة بمكة، بعد ما أوحى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بخمس سنين، وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرّمت الخمر بعد أحد.
وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- وهو بيت المقدس- وقد فشا [ (1) ] الإسلام بمكة، وفي القبائل كلها.
قال يونس بن بكير وغيره، عن ابن إسحاق: ثم إن جبريل أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] فشا: ذاع وانتشر.(8/199)
حين افترضت عليه الصلاة- يعنى في الإسراء- فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت عين ماء مزن، فتوضأ جبريل عليه السلام، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر، فوضأ وجهه واستنشق، ومضمض، ومسح برأسه وأذنيه، ورجليه إلى الكعبين، ونضح فرجه، ثم قام [فصلى] ركعتين وأربع سجدات، فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد أقرّ اللَّه تعالى عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من أمر اللَّه، فأخذ بيد خديجة رضى اللَّه تعالى عنها، ثم أتى بها العين، فتوضأ كما توضأ جبريل [عليه الصلاة والسلام] ، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، هو وخديجة [رضى اللَّه عنها] ، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء.
قال ابن عبد البر [رحمة اللَّه عليه] : هذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام، لأن خديجة [رضى اللَّه عنها] ، توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بثلاثة [أعوام] ، وقيل: بأربع [سنين] [ (1) ] .
وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب في الإسراء، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه في ذلك، على ما ذكرنا من رواية ابن عقبه، ورواية يونس بن بكير، ورواية الوقاصى، وهي روايات [مختلفات] على ما ترى.
وروى أحمد بن زهير [عفا اللَّه عنه] : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] قالت: فتزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد متوفّى خديجة [رضى اللَّه عنها] ، وقبل هجرته إلى المدينة بسنتين أو ثلاث.
وقال يونس عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السّدى، قال: فرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [الصلوات] الخمس في بيت المقدس، ليلة أسرى به، قبل
__________
[ (1) ] (التمهيد لابن عبد البر) عند ذكر فرض الصلاة، كما أشار إليه فيه (الاستيعاب) : 1/ 40.(8/200)
مهاجره بستة عشر شهرا.
وقال الواقدي: عن معمر بن راشد، عن عمرو بن عبد اللَّه، عن عكرمة، قال: أسرى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من المسجد، وهو نائم في الحجر، بعد هدوء من الليل.
وقال سفيان: عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، في قول اللَّه عز وجل: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ (1) ] ، قال: رؤيا عين.
وقال ابن أبى الزناد: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قال: أسرى بروح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو نائم على فراشه.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن قتادة عن الحسن قال: أسرى بروح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو نائم على فراشه.
قال الحافظ أبو نعيم [الأصفهاني] : وحقيقة الإسراء، أوضح وأبين من أن يستقصى فيه بآحاد الأخبار، ولورود نص القرآن الكريم، يذكر المسرى، وظاهر القرآن يدل [على] أنه أسرى ببدنه يقظانا، إذ لو كان ذلك مناما على ما ذكرته الزائفة، لما اعترض فيه المشركون، وطعنوا عليه، ونسبوه فيه إلى الاستحالة، فإنه غير مستنكر في الرؤيا- رؤيا المنام- قطع تلك المسافة بين المسجدين، الحرام والأقصى، في حكم ساعة من الليل.
__________
[ (1) ] الإسراء: 60، يقول ابن عباس: قالت عائشة، ومعاوية، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وابن أبى نجيح، وابن زيد: وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه أسرى به، وقيل: كانت رؤيا نوم، وهذا الآية تقضى بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها.
حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عبّاس في قوله تعالى:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، قال: هي رؤيا عين، رآها ليلة أسرى به. (تفسير الطبري) : 15/ 76، (تفسير عبد الرزاق) : 1/ 324، مسألة رقم (1582) .(8/201)
وقال القاضي عياض: الحق والّذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف، وعامة المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين: أنه أسرى بجسده صلّى اللَّه عليه وسلّم والآثار تدل عليه لمن طالعها، وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه، فيحتاج إلى تأويل [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض: ثم اختلف السلف والعلماء، هل كان إسراؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بروحه أو جسده؟ على ثلاث مقالات: فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن، والمشهور عنه خلافه، وإليه أشار محمد بن إسحاق وحجتهم قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ.
وما حكوا عن عائشة رضى اللَّه عنها: «ما فقدت جسد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بينا أنا نائم» ،
وقول أنس: «وهو نائم في المسجد الحرام» وذكر القصة، ثم
قال في آخرها: «فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام» .
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حبّة البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد والحسن وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.
وهو دليل قول عائشة، وهو قول الطبري، وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين، وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، والمفسرين.
وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الّذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتّمدح بتشريف النبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه، قال هؤلاء: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
ثم اختلفت هذه الفرقتان، هل صلّى في بيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه، وأنكر ذلك حذيفة بن اليمان، وقال: ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
قال القاضي- وفقه اللَّه- والحق من هذا والصحيح إن شاء اللَّه: أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة.
وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل:
بعده، وقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، ولو كان مناما لما كانت فيه آية(8/202)
وقد تعقب العلامة شمس الدين أبو شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل ابن إبراهيم، قول القاضي عياض، رحمه اللَّه، فقال: أما أن هذا مذهب الأكثر فصحيح، وبه نقول، وأما أنه لم يكن إلا ذلك، فهذا موضع نظر، وأما أن الآثار تدل عليه، فإن أراد كل الآثار فممنوع، فإن فيها ما صرّح بأنه كان نائما، ثم ذكر حديث شريك، وفيه: أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ... فذكره، وفي آخره: فاهبط [بسم] اللَّه، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام. وهذا نصّ لا يحتمل التأويل [في أنه كان نائما، وإن أراد بعض الآثار أو معظمها] ، فهو صحيح، فقد ظهر وجه قول من زعم أن الإسراء كان مناما.
واستدل أبو شامة [أيضا] بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وزعموا أن المراد بها ليلة الإسراء، [وقالوا: الرؤيا] ما كان في النوم، والّذي في اليقظة: رؤية، بالهاء، وفتنة الناس بها: أن منهم من ارتاب وتغيّر.
واستدل من ذهب إلى أنه أسرى بجسده يقظة إلى السموات، بحديث حماد عن ثابت، عن أنس رضى اللَّه عنه، ظاهره أن الإسراء إلى بيت
__________
[ () ] ولا معجزة، ولما استبعده الكفار، ولا كذبوه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته، إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس رضى اللَّه عنه، أو في السماء على ما روى غيره، وذكر مجيء جبريل له بالبراق، وخبر المعراج، واستفتاح السماء فيقال: ومن معك، فيقول: محمد، ولقائه بالأنبياء فيها، وخبرهم معه وترحيبهم به، وشأنه في فرض الصلاة، ومراجعته مع موسى في ذلك.
وفي بعض هذه الأخبار: فأخذ- يعنى جبريل- بيدي فعرج بى إلى السماء ... إلى قوله: ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره. قال ابن عباس رضى اللَّه عنه: هي رؤيا عين رآها صلّى اللَّه عليه وسلّم لا رؤيا منام (الشفا) : 1/ 113- 115 مختصرا.(8/203)
المقدس، والمعراج كان في ليلة واحدة من غير نوم، ويؤيد ذلك: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أخبر به، كذبه المشركون، وارتد جماعة ممّن أسلم! ولو كان مناما لم يستنكر لمن هو بمكة، أن يرى نفسه ببيت المقدس، وقد يرى الإنسان أعظم من ذلك، فيحدّث به، فلا ينكر عليه.
وقد اختلف الصحابة [رضى اللَّه عنهم] في رؤيته عليه الصلاة والسلام ربّه [ (1) ] ، [سبحانه و] تعالى، في ليلة الإسراء، حتى قالت عائشة رضى اللَّه
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض: وأما رؤيته صلّى اللَّه عليه وسلّم لربه جلّ وعزّ، فاختلف السلف فيها، فأنكرته عائشة رضى اللَّه عنها: حدثنا أبو الحسين سراج بن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه، قال: حدثني أبى وأبو عبد اللَّه ابن عتّاب الفقيه، قالا: حدثنا القاضي يونس بن مغيث، حدثنا أبو الفضل الصقلى، حدثنا ثابت ابن قاسم، عن أبيه وجده، قالا: حدثنا عبد اللَّه بن على، حدثنا محمود بن أدم، حدثنا وكيع، عن ابن أبى خالد، عن عامر، عن مسروق، أنه قال لعائشة رضى اللَّه عنها: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربّه؟ فقالت: لقد قفّ شعرى مما قلت- ثلاث من حدثك بهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب، ثم قرأت: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وذكر الحديث.
وقال جماعة بقول عائشة رضى اللَّه عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود، ومثله عن أبى هريرة أنه قال: إنما رأى جبريل، واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدّثين والفقهاء والمتكلمين.
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه رآه بعينه، وروى عطاء عنه أنه رآه بقلبه، وعن أبى العالية عنه: رآه بفؤاده مرتين، وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس رضى اللَّه عنهما يسأله:
هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم، والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه، روى ذلك عنه من طرق وقال: إن اللَّه تعالى اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرؤية، وحجته قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 11- 31] .
قال الماوردي: قيل: إن اللَّه تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلّى اللَّه عليهما وسلّم، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين.
وحكى أبو الفتح الرازيّ، وأبو الليث السمر قندى الحكاية عن كعب، وروى عبد اللَّه بن الحارث قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس، أما نحن بنو هاشم فنقول: إن محمدا قد رأى ربه مرتين، فكبّر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إن اللَّه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلمه موسى، ورآه محمد بقلبه.(8/204)
__________
[ () ] وروى شريك عن أبى ذر رضى اللَّه عنه في تفسير الآية، قال: رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه.
وحكى السمر قندى عن محمد بن كعب القرظيّ، وربيع بن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سئل: هل رأيت ربك؟ قال: رأيته بفؤادى ولم أره بعيني.
وروى مالك بن يخامر، عن معاذ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت ربى، وذكر كلمة، فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ... الحديث.
وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف باللَّه لقد رأى محمد ربه، وحكاه أبو عمر الطّلمنكيّ عن عكرمة.
وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود.
وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم. وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه، حتى انقطع نفسه- يعنى نفس أحمد.
وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: رآه بقلبه وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار.
وقال سعيد بن جبير: لا أقول رآه، ولا لم يره، وقد اختلف في تأويل الآية، عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن مسعود، فحكى عن ابن عباس وعكرمة: رآه بقلبه، وعن الحسن وابن مسعود: رأى جبريل، وحكى عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه: أنه قال: رآه.
وعن ابن عطاء في قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، قال: شرح صدره للرؤية، وشرح صدر موسى للكلام. وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري رضى اللَّه عنه وجماعة من أصحابه، أنه رأى اللَّه تعالى ببصره وعيني رأسه، وقال: كل آية أوتيها نبي من الأنبياء عليهم السلام، فقد أوتى مثلها نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخصّ من بينهم بتفضيل الرؤية، ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز أن يكون.
قال القاضي أبو الفضل- وفقه اللَّه- والحق الّذي لا امتراء فيه، أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، وليس في العقل ما يحيلها، والدليل على جوازه في الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على اللَّه وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الّذي لا يعلمه إلا من علمه، فقال له اللَّه تعالى: لَنْ تَرانِي أي لن تطيق، ولا تحتمل رؤيتي، ثم ضرب له مثلا مما هو أقوى من بنية موسى وأثبت، وهو الجبل، وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا، بل فيه جوازها على الجملة، وليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها، ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة، ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لاختلاف التأويلات في الآية.
وليس يقتضي قول من قال: في الدنيا الاستحالة، وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على(8/205)
عنها: قفّ شعرى، لما سألها مسروق عن ذلك، ولو كان مناما، لما قفّ [ (1) ] شعرها من سؤاله، إذ آحاد الناس يرى ذلك مناما.
وسأل أبو ذر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل رأيت ربك؟ وهذا دليل على أن مسراه جميعه المذكور في الحديث كان يقظة، ويرد على من زعم أنه كان مناما، بأن الرؤيا بمعنى الرؤية، وله شاهد.
وقال عكرمة عن ابن عباس: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً
__________
[ () ] جواز الرؤية وعدم استحالتها على الجملة.
وقد قيل: لا تدركه أبصار الكفار، وقيل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، لا تحيط به، وهو قول ابن عباس. وقد قيل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وإنما يدركه المبصرون.
وكل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ولا استحالتها، وكذلك لا حجة لهم بقوله تعالى:
لَنْ تَرانِي، وقوله تعالى: تُبْتُ إِلَيْكَ لما قدمناه، ولأنها ليست على العموم، ولأن من قال:
معناها لن تراني في الدنيا، إنما هو تأويل.
وأيضا فليس فيه نص الامتناع، وإنما جاءت في حق موسى، وحيث تتطرق التأويلات، وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع إليه سبيل.
وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ* أي من سؤالي ما لم تقدره لي، وقد قال أبو بكر الهدلى في قوله: لَنْ تَرانِي أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا، وأنه من نظر إليّ مات.
وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه أن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة عرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان في الآخرة وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية.
وقد رأيت نحو هذا الملك بن أنس رحمه اللَّه، قال لم ير في الدنيا لانه باق، لا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رئي الباقي بالباقي.
وهذا كلام مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة، إلا من حيث ضعف القدرة، فإذا قوى اللَّه تعالى من شاء من عباده، وأقدره على حمل أعباء الرؤية، لم تمتنع في حقه.
وقد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعوذ إدراكهما بقوة إلهية منحاها لإدراك ما أدركاه، ورؤية ما رأياه. واللَّه تعالى أعلم. (الشفا) 1/ 121- 123 مختصرا.
[ (1) ] أي قام من الفزع والقفقفة: الرعدة من حمى أو غضب أو نحوه، وقيل: هي الرعدة مغموما. (لسان العرب) : 9/ 288.(8/206)
للناس، قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسرى به، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، هي شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
وعن ابن عباس، أن هذه الرؤيا: [ما رآه] عليه [الصلاة و] السلام قبل عمرة الحديبيّة، أنه يدخل مكة، وأخبر بذلك، فخرج معتمرا، وصده المشركون بالحديبية، فكان ذلك فتنة للناس، وامتنعوا من الحلق والنحر، وشك قوم، وتكلم عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه بما تكلم به، وبأن حديث شريك إنما هو حكاية حكاها عن أنس من تلقاء نفسه، فلا تعارض الروايات المتصلة من حديث أنس [ (1) ] .
فقد روى الزهري عن أنس، عن أبى ذر [رضى اللَّه عنهما] ، وروى قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وروى ثابت عن أنس، حديث الإسراء، وهم أئمة حفاظ، ولم يقل أحد منهم في روايته ما قاله شريك عن أنس، [رضى اللَّه عنه] ، وقد عد جماعة من الحفاظ هذا من أوهام شريك التي أعكروها عليه، [ونبه] مسلم على ذلك بقوله: فقدم وأخر، وزاد ونقص [ (2) ] ، فأما قوله: قبل أن يوحى إليه، فإنه غلط [منه] ، لم يوافق عليه، فإن الإسراء قد اختلف في تاريخه، فقال الزهري [في تاريخه] : أسرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد مبعثه بثمانية وعشرين شهرا.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: أسرى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة سبع وعشرين من [شهر] ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، وفرضت الصلاة عليه.
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض: وقوله فتنة للناس يؤيد أنها رؤيا عين، وإسراء بشخص، إذ ليس في الحلم فتنة، ولا يكذب به أحد، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون، في ساعة واحدة، في أقطار متباينة. على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قضية الحديبيّة، وما وقع في نفوس الناس من ذلك، وقيل غير هذا. (الشفا) : 1/ 116.
[ (2) ] ثم قال: «وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه» . (جامع الأصول) : 11/ 300، آخر الحديث رقم (8867) .(8/207)
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة.
وروى يونس بن بكير، عن عثمان بن عبد الرحمن الوحاطى، عن ابن شهاب: أن الصلاة فرضت بمكة، بعد ما أوحى إليه بخمس سنين.
فعلى قول موسى بن عقبة، إذا كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فهو بعد مبعثه بتسع سنين، أو باثنتي عشرة سنة، على اختلافهم في مقامه بمكة قبل المبعث.
وقول الزهري أولى من قول الوحاطى، لأن ابن إسحاق قال: أسرى به وقد [فشا] الإسلام بمكة، وفي القبائل كلها.
ورواية الوحاطى من رواية موسى بن عقبة، لأنهم لم يختلفوا أن خديجة رضى اللَّه عنها، صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه، وأنها توفيت قبل الهجرة بمدة، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وهذا يدل على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام.
وقد أجمع العلماء على أن فرض الصلاة، كان ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟.
وأما قول شريك [ (1) ] : وهو نائم، وفي رواية: بينا أنا عند البيت بين النائم
__________
[ (1) ] هو شريك بن عبد اللَّه بن أبى نمر القرشيّ، وقيل: الليثي أبو عبد اللَّه المدني، روى عن أنس رضى اللَّه عنه وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبى عتيق، وعبد الرحمن بن أبى سعيد الخدريّ وغيرهم.
وعنه سعيد المقبري، وهو أكبر منه، والثوري، ومالك، ومحمد بن جعفر بن أبى كثير، وإسماعيل ابن جعفر، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز الدراوَرْديّ، وغيرهم.
قال ابن معين والنسائي: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.
وقال ابن عدي: إذا روى عنه ثقة، فلا بأس برواياته.
قال ابن عبد البر: مات سنة (44) ، وقال النسائي أيضا: ليس بالقوى، وذكره ابن حبان(8/208)
واليقظان، فلا حجة فيه على أن الإسراء كان بروحه عليه [الصلاة و] السلام دون بدنه، أو قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة [كلها] ، وقد أنكر أهل العلم [رضى اللَّه عنهم] ، رواية شريك. [واللَّه أعلم] .
قال الحافظ عبد الحق [رحمه اللَّه] في كتاب (الجمع بين الصحيحين) :
هذا الحديث بهذا اللفظ، من رواية شريك بن [عبد اللَّه بن] أبى تمر [ (1) ] ، عن أنس رضى اللَّه عنه، [وقد زاد فيه] زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.
وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقدمين، والأئمة المشهورين، كابن شهاب، وثابت البناني، وقتادة- يعنى عن أنس- فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث [ (2) ] ، قال: والأحاديث التي تقدمت قبل هذا، هي المعول عليها.
انتهى.
ولئن سلمنا أنه كان نائما إذ أتاه الملك، فقد نبه، وأسرى به، كما جاء
في حديث أبى سعيد الخدريّ، [رضى اللَّه عنه] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام، إذ أتانى آت فأيقظنى، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم عدت في النوم فأيقظنى، كذلك أربع مرات، فإذا أنا بكهيئة [الخيال] ، فأتبعته حتى خرجت من المسجد، فإذا أنا بدابة يقال لها:
__________
[ () ] في (الثقات) وقال: ربما أخطأ، وقال ابن الجارود: ليس به بأس، وليس بالقوى، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. قال الساجي: كان يرى القدر. (تهذيب التهذيب) : 4/ 296- 297، ترجمة رقم (588) .
[ (1) ] ترجمته في التعليق السابق.
[ (2) ] راجع ترجمته في التعليق السابق.(8/209)
البراق، فركبته..
الحديث.
وزعم من قال: إن الإسراء إلى بيت المقدس، كان يقظة بجسده صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن الإسراء إلى السموات كان مناما بروحه، [عليه الصلاة والسلام] ، أن المشركين إنما استبعدوا، وأنكروا، وشنعوا قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه [عليه الصلاة والسلام] أتى بيت المقدس ورجع من ليلته، ولو كان صعوده صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات منضما إلى ذلك، لكان الاستبعاد أكبر، والشناعة به أتم، [واللَّه سبحانه وتعالى أعلم] ، فحيث لم يذكروا ذلك البتة، علم أن النبي عليه السلام، إنما ادعى أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس فحسب، والعروج به إلى السموات كان مناما.
وحديث شريك لا ينافي ذلك، لأنه ليس فيه ذكر [الإسراء] إلى بيت المقدس، إنما فيه بيان العروج إلى السماء في نومه، وأيضا فإن اللَّه تعالى تمدح بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فلم يذكر إلا الانتهاء به إلى المسجد الأقصى، ولو كان انتهى به إلى أكثر من ذلك لذكره، فإنه كان أعظم للآية، وأبلغ في المدح.
وأجيب بأن اللَّه تعالى قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، ثم قال ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، فأثبت- سبحانه- أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى جبريل في الصورة التي خلق عليها بعين بصره، وهكذا كان كل شيء رآه في تلك الليلة، إنما هو بعين بصره.
وأما اقتصار شناعة أهل الكفر على ذكرهم مسراه إلى بيت المقدس دون السموات، [فلأنهم] أرادوا تكذيبه عليه السلام بما شاهده الناس وعلموه، دون ما غاب عنهم، مما لم يعلموا كنهه، ولم يذكروا أنه صعد السموات، لأنه عندهم معلوم كذبه فيه، فطلبوا منه نعت بيت المقدس، لأنهم كانوا(8/210)
يخبروا به، [ومتحققون] أنه عليه السلام لم يره قط، فعدوا قوله: أنه أسرى به إلى السموات من جنس قوله: أن الملك يأتيه منها في طرفة عين، وكان ذلك مستقرا عندهم استحالته، ولا يعلم إلا من جهته، إذ لا دليل عليه من خارج يشاهدونه، إلا قيام صدقه بالمعجزة، وقد عاندوا فيها، بخلاف إخباره أنه أتى بيت المقدس في ليلته، فإنه أمكنهم استعلام صدقه في ذلك، فطالبوه بنعته، فجلاه اللَّه له، فطفق يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه، ولم يكن عليه السلام أتى بيت المقدس قبل الإسراء، فكان معلوما عندهم من حاله أنه لم يره قط، وإلا لما طالبوه بنعته.
وعلى هذا، جاءت الآية: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تشنيعا عليهم، ونداءا بما علموا صدقه فيه، فأصروا على تكذيبه، فلهذا اقتصر اللَّه تعالى على ذلك، دون ذكر صعوده إلى السماء.
وزعم من قال: بأن [الإسراء] إلى بيت المقدس وإلى السموات، وقع أكثر من مرة واحدة، تارة في المنام، وتارة في اليقظة، بأن هذا فيه جمع بين الأحاديث المختلفة، وعليه، يخرج أيضا الاختلاف في المكان الّذي وقع منه الإسراء، وهذه اختيار أبى نصر بن أبى القاسم القشيري، وأبى القاسم السهيليّ، وأبى بكر محمد بن العربيّ، والمهلب بن أبى صفرة، وإليه مال أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابورىّ الواعظ.
قال: وترتيب الأخبار أن يقال: كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معاريج، منها ما كان حقيقة، ومنها ما كان رؤيا، وعليه عوّل أبو شامة وقال: أنه أسرى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مرارا قبل البعثة وبعدها.
فأما قبل البعثة، فكان في النوم على ما شهد له حديث شريك، وكان ذلك من جملة ما أخبرت عنه عائشة رضى اللَّه عنها، وأجملته من حاله(8/211)
حين قالت: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي، الرؤيا الصادقة في النوم.. الحديث. وكانت الحكمة في ذلك، التدرج له، والتسهيل عليه، لضعف القوى البشرية.
وأما بعد تحقق البعثة والوحي إليه، تركه اللَّه ما شاء أن يتركه، ثم أسرى به يقظة، واستدل لذلك، ثم قال: أول ما أسرى به يقظة كان إلى بيت المقدس، وقد جاءت أحاديث تدل على ذلك، ثم تارة عرج به إلى السماوات، ولم يأت فيها بيت المقدس، وهو ظاهر حديث أنس [رضى اللَّه عنه] ، عن مالك بن صعصعة، فوقع كل منهما مفردا.
ثم جمع له الأمر، أن في ليلة أخرى أسرى به إلى بيت المقدس، ورفع منه إلى السماء، وهو ظاهر حديث ثابت عن أنس [رضى اللَّه عنه] ، ويجوز أن تكون هذه الحالة وقعت ثانية، لأنه كان عليه السلام قد تأنس به لإسرائه إلى بيت المقدس، فكرر عليه ذلك، وتمم بصعوده إلى السماء، ثم لما تأنس بصعوده إلى السماء، استغنى عن توسط بيت المقدس، فرفع من مكة إلى السماء، والأحاديث على اختلافها لا تخرج عن هذه الأحوال، فنزل على كل حال ما يليق بها منها، وبعض ذلك ظاهر، وبعضه فيه خفاء.
ويدل على أن الإسراء وقع مرارا، اختلاف رؤية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لموسى، فإنه أخبر مرة أنه رآه قائما يصلى في قبره، ومرة أنه صلّى ببيت المقدس بجماعة من الأنبياء، وذكر موسى منهم، ومرة قال: إنه رآه في السماء السادسة، وفي حديث آخر رآه في السماء السابعة.
وعلى ذلك أيضا، يحمل [الاختلاف] في وقته، فقيل: في رمضان، وقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رجب، والكل صواب إن شاء اللَّه تعالى.
ثم إنه ظاهر في بعض الأحاديث، أنه صعد إلى السماء على ظهر البراق، كما في حديث مالك بن صعصعة.(8/212)
وقد ذهب العارف محيي الدين أبو عبد اللَّه محمد بن العربيّ الخاتمى الصوفىّ، إلى أن الإسراء وقع ثلاثين مرة، بحسب اختلاف الأحاديث التي جمعها في كتاب، فجعل كل حديث إسراء، ولم أقف على كتابه هذا.
وقال البيهقي: وقد أوردوا أحاديث رؤية الأنبياء ليلة الإسراء، وليس بين هذه الأحاديث منافاة، فقد يراه قائما يصلى في قبره، ثم يساريه إلى بيت المقدس كما أسرى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيراه فيه، ثم يعرج به إلى السماء السادسة، كما عرج بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيراه في السماء، وكذلك سائر من رآه من الأنبياء في الأرض ثم في السماء، والأنبياء أحياء عند ربهم كالشهداء، [فلا ينكر] حلولهم في أوقات بمواضع مختلفات، كما ورد خبر الصادق به
.(8/213)
فصل جامع في ذكر حديث الإسراء والمعراج
[فقد] روى من حديث أنس، فتارة يرويه أنس عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتارة يرويه عن أبى [ذرّ] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتارة يرويه دون ذكرهما.
فأما رواية حديث الإسراء عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، [قال] حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضى اللَّه [تعالى] عنه [قال] : إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافرة عند منتهى طرفه، فركبته حتى أتيت بيت المقدس، [قال:] فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام، بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] «البراق» بضم الباء الموحدة، قال أهل اللغة: البراق اسم الدابة التي ركبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء. قال الزبيدي في (مختصر العين) ، وصاحب (التحرير) : هي دابة كانت الأنبياء صلوات اللَّه وسلام عليهم يركبونها. وهذا الّذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء فيها، يحتاج إلى نقل صحيح.
قال ابن دريد: اشتقاق البراق من البرق إن شاء اللَّه تعالى، يعنى لسرعته، وقيل: سمى بذلك لشدة صفائه، وتلألئه، وبريقه، وقيل: لكونه أبيض.
وقال القاضي: يحتمل أنه سمى بذلك لكونه ذا لونين، يقال: شاه برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود. قال: ووصف في الحديث بأنه أبيض، وقد يكون من نوع الشاة البرقاء، وهي(8/214)
قال: ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، قال: ففتح لنا، فإذا أنا بآدم عليه السلام، فرحّب بى، ودعا لي بخير [ (1) ] .
__________
[ () ] معدودة في البيض، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 569، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (259) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط به الأنبياء صلوات اللَّه عليهم»
أما بيت المقدس ففيه لغتان مشهورتان غاية الشهرة: إحداهما: بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال المخففة، والثانية: بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة.
قال الواحدي: أما من شدده فمعناه المطهر، وأما من خففه فقال أبو على الفارسي: لا يخلو إما أن يكون مصدرا، أو مكانا، فإن كان مصدرا كان كقوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ* ونحوه من المصادر، وإن كان مكانا فمعناه بيت المكان الّذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره: إخلاؤه من الأصنام، وإبعاده منها. وقال الزجاج: البيت المقدس المطهر، وبيت المقدس أي المكان الّذي يطهر فيه من الذنوب. (المرجع السابق) .
قوله: صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء»
الحلقة بإسكان اللام على اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى الجوهري وغيره فتح اللام أيضا.
قال الجوهري: حكى يونس عن أبى عمرو بن العلاء حلقة بالفتح، وجمعها حلق وحلقات. وأما على لغة الإسكان فجمعها حلق وحلق بفتح الحاء وكسرها، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس واللَّه أعلم. وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطى الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، إذا كان الاعتماد على اللَّه تعالى. (المرجع السابق) .
قوله: «اخترت الفطرة»
فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة، ومعناه واللَّه تعالى أعلم: اخترت علامة الإسلام، والاستقامة، وجعل اللبن علامة لكونه سهلا، طيبا، طاهرا، سائغا للشاربين، سليم العاقبة. أما الخمر فإنّها أم الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل. واللَّه تعالى أعلم.
(المرجع السابق) .
[ (1) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه» .
أما
قوله: «عرج»
فبفتح العين والراء، أي صعد،
وقوله: «جبريل»
فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدق الباب ونحوه، فقيل له:
«من أنت» ، فينبغي أن يقول: زيد، مثلا، إذا كان اسمه زيدا، ولا يقول: أنا، فقد جاء الحديث(8/215)
[قال:] ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، [قيل] : وقد بعث إليه؟
قال: قد بعث إليه، قال: ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، عليهما السلام، فرحبا بى، ودعوا لي بخير [ (1) ] .
ثم عرج [بنا] إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، [قيل:] وقد بعث إليه؟ قال:
قد بعث إليه، قال: ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام، [إذ] هو قد أعطى شطر الحسن، قال فرحب بى، ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا، قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير، قال اللَّه [تبارك و] تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.
__________
[ () ] بالنهى عنه، ولأنه لا فائدة فيه.
وأما قول بواب السماء: «وقد بعث إليه» فمراده: وقد بعث إليه للإسراء وصعود السماوات، وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة، فهذا هو الصحيح، واللَّه أعلم بمعناه.
ولم يذكر الخطابي في شرح البخاري وجماعة من العلماء غيره، وأن كان القاضي قد ذكر خلافا، أو أشار إلى خلاف في أنه استفهم عن أصل البعثة، أو عما ذكرته، قال القاضي: وفي هذا أن للسماء أبوابا حقيقية، وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) .
[ (1) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فإذا أنا بآدم فرحّب بى ودعا لي بخير» ثم قال في السماء الثانية: «فإذا أنا بابني الخالة، فرحبا بى ودعوا» ،
وذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم في باقي الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم نحوه، فيه استحباب لقاء أهل الفضل بالبشر والترحيب، والكلام الحسن، والدعاء لهم، وإن كانوا أفضل من الداعي، وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فإذا أنا بابني الخالة» ،
قال الأزهري: قال ابن السكيت: يقال لهما: ابنا عم، ولا يقال: ابنا خال، ويقال: هما ابنا خالة، ولا يقال ابنا عمة.(8/216)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى، عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، مسند ظهره إلى البيت المعمور [ (1) ] ، وإذا يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه.
ثم ذهب بى إلى السدرة المنتهى [ (2) ] ، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال [ (3) ] ، فلما غشيها اللَّه ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق اللَّه يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إليّ ما أوحى، فعرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى عليه السلام، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإنّي قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربى فقلت: [يا رب] ، خفف على أمتى،
__________
[ (1) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور» ،
قال القاضي: يستدل به على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إليها.
[ (2) ] هكذا وقع في كل الأصول «السدرة» بالألف، وفي الروايات بعد هذا «سدرة المنتهى» . قال ابن عباس، والمفسرون، وغيرهم: سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهى إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وحكى عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه أنها سميت بذلك لكونها ينتهى إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر اللَّه تعالى. (المرجع السابق) .
[ (3) ] القلال بكسر القاف: جمع قلة، والقلة جرّة عظيمة تسع قريتين أو أكثر.(8/217)
فحط عنى خمسا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حط عنى خمسا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربى [ (1) ] تبارك وتعالى، وبين موسى عليه السلام، حتى قال يا محمد، انهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تكتب له شيئا، فإن عملها، كتبت له سيئة واحدة.
قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه.
[وفي بعض الطرق: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم راجع، وخفف عنه في كل مراجعة، وفي أخرى: أنه خفف عنه أولا الشطر، ثم خفف عنه ثانيا تخفيفا واحدا إلى الخمس، فتكون المراجعة على هذا مرتين، وفي أخرى: أن التخفيف كان عشرا عشرا، إلى المرة الأخيرة، فكان التخفيف فيها خمسا، وبقيت هذه الخمس] [ (2) ] .
[والجمع بينهما أن يقال: لا تعارض، إنما فيه إجمال في بعضها، وتفصيل في الأخرى، لأن قوله فخفف عنى الشطر، أعم من كونه خففه مرة واحدة، أو في مرار متعددة، ولذا ذكر التفصيل والإجمال، وحمل الإجمال على التفصيل ولا تعارض. وللَّه الحمد] [ (2) ] .
[وأما الحديث الّذي رواه حماد عن ثابت، عن أنس رضى اللَّه عنه، وفيه: فحط عنى خمسا، من أفراد مسلم، والّذي اتفقا عليه من حديث
__________
[ (1) ] معناه رجعت إلى الموضع الّذي ناجيته منه أولا، فناجيته فيه ثانيا، (المرجع السابق) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط من النسخة (خ) وأثبتناه من (ج) .(8/218)
أنس، أنه حطّ عنه عشرا عشرا، وزعم ابن الجوزي: أن هذه الرواية التي فيها فحط عنى خمسا، غلط من الراويّ.] [ (1) ] .
وخرّج مسلم أيضا من حديث بهز [قال:] حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا [ثابت عن] أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه قال:] قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيت فانطلقوا بى إلى زمزم، فشرح عن صدري، ثم غسل بماء زمزم، ثم أنزلت [ (2) ] .
ومن حديث حماد بن سلمة، [قال:] حدثنا ثابت عن أنس [رضى اللَّه عنه قال:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، ثم قال:
هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان إلى أمه- يعنى ظئره- فقالوا: إن
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط من النسخة (خ) وأثبتناه من (ج) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 573، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفرض الصلوات، حديث رقم (260) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت»
معنى «شرح» ، شقّ، كما قال في الرواية التي بعد هذه.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثم أنزلت»
هو بإسكان اللام وضم التاء، وهكذا ضبطناه، وكذا هو في جميع الأصول والنسخ، وكذا نقله القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى عن جميع الروايات، وفي معناه خفاء، واختلاف.
قال القاضي: قال الوقشى: هذا وهم من الرواة وصوا به «تركت فتصحف» . قال القاضي: فسألت عنه ابن السراج فقال: أنزلت في اللغة بمعنى تركت صحيح، وليس فيه تصحيف.
قال القاضي: وظهر لي أنه صحيح بالمعنى المعروف في أنزلت، فهو ضد رفعت، لأنه قال: انطلقوا بى إلى زمزم ثم أنزلت، أي ثم صرفت إلى موضعي الّذي حملت منه.
قال: ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبى بكر البرقاني، وأنه طرف حديث، وتمامه «ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا» هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى (المرجع السابق) .
ومقتضى رواية البرقاني أن يضبط أنزلت بفتح اللام وإسكان التاء، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وحكى الحميدي هذه الزيادة المذكورة عن رواية البرقاني وزاد عليها.
(المرجع السابق) .(8/219)
محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس رضى اللَّه عنه: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
وخرّج أيضا من حديث ابن وهب، قال: أخبرنى سليمان بن بلال قال:
[حدثني] شريك بن عبد اللَّه بن أبى نمر قال: سمعت أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه] ، يحدثنا عن ليلة أسرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة، أن جاءه ثلاثة نفر قبل أن [يوحى] إليه، وهو نائم في المسجد
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (261) .
قوله: «ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه» أما الطّست: فبفتح الطاء وإسكان السين المهملتين، وهي إناء معروف، وهي مؤنثة، قال: وحكى القاضي عياض كسر الطاء لغة، والمشهور الفتح كما ذكرنا، ويقال فيها: طسّ بتشديد السين وحذف التاء، وطسّة أيضا، وجمعها طساس، وطسوس، وطسات. (المرجع السابق) .
وأما «لأمه» فبفتح اللام وبعدها همزة، على وزن ضربه، وفيه لغة أخرى: لاءمه بالمد، على وزن آذنه، ومعناه: جمعه، وضمّ بعضه إلى بعضه، وليس في هذا ما يوهم جواز استعمال إناء الذهب لنا، فإن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس باللازم أن يكون حكمهم حكمنا، ولأنه كان أول الأمر، قبل تحريم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أواني الذهب والفضة. (المرجع السابق) .
قوله: «يعنى ظئره» هي بكسر الظاء المعجمة بعدها همزة ساكنة، وهي المرضعة [من غير الأم الوالدة] ، ويقال أيضا لزوج المرضعة ظئر. قوله: «فاستقبلوه وهو منتقع اللون» هو بالقاف المفتوحة أي متغير اللون، قال أهل اللغة: امتقع لونه، فهو ممتقع، وابتقع بالباء فهو مبتقع، فيه ثلاث لغات، والقاف مفتوحة فيهن.
قال الجوهري وغيره: والميم أفصحهنّ، ونقل الجوهري اللغات الثلاث عن الكسائي، قال: ومعناه تغير من حزن أو فزع.
وقال الهروي في (الغريبين) ، في تفسير هذا الحديث: يقال: انتقع لونه، وانتقع، وامتقع، واستقع، وانتسف وانتشف- بالسين والشين- والتمع، والتمغ- بالعين والغين- وابتسر، والتهم، (المرجع السابق) .
قوله: «كنت أرى أثر المخيط في صدره» هو بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء، وهي الإبرة.
وفي هذا دليل على جواز نظر الرجل إلى صدر الرجل، ولا خلاف في جوازه، إلا أن ينظر بشهوة فإنه يحرم، إلا الزوج لزوجته ومملوكته إلا أن يكون لحاجة البيع والشراء، والتطبيب والتعليم ونحوهما، واللَّه تعالى أعلم (المرجع السابق) مختصرا.(8/220)
الحرام ... وساق الحديث بقصته، نحو حديث ثابت البناني، [وقدّم] فيه شيئا وأخر، وزاد ونقص. هكذا قال مسلم [ (1) ] .
وخرّجه البخاري من حديث سليمان عن شريك بن عبد اللَّه بن أبى نمر قال: سمعت أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه] ، يحدثنا عن ليلة أسرى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة، جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام فقال [أولهم] : أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، أو قال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى في ما يرى قلبه، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نائمة عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فتولاه جبريل عليه السلام ثم عرج به إلى السماء.. هذا الّذي ذكره البخاري من هذا الحديث، وذكره في كتاب المناقب، وترجم عليه باب: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تنام عيناه ولا [ينام قلبه] [ (2) ] .
وخرّجه في كتاب التوحيد، في باب: وكلم اللَّه موسى تكليما بهذا السند، ولفظة: سمعت ابن مالك يقول: ليلة أسرى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: [هو خيرهم] ، [فقال] أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، [فيما] يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند [بئر] زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبّته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه،
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 575 كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (262) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 718- 719، كتاب المناقب، باب (24) كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تنام عينه ولا ينام قلبه، حديث رقم (3570) .(8/221)
ثم أتى [بطست] من ذهب، فيه تور من ذهب، محشورا إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده- يعنى عروق حلقه- ثم أطبقه.
ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: [معى محمد] قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء ما يريد اللَّه به في الأرض حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلّم عليه فسلم عليه وردّ عليه آدم وقال: مرحبا وأهلا يا بنىّ، نعم الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، قال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في السماء، فإذا بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي خبّأ لك ربّك.
ثم عرج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى:
من هذا؟ قال جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا.
ثم عرج إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك.
كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت، منهم: إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة، لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، بفضل كلامه للَّه، فقال موسى: ربّ لم أظنّ أن ترفع عليّ أحدا، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا اللَّه، حتى(8/222)
جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى اللَّه فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة.
ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إلى خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار [عليه] جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى فقال وهو مكانه: [يا رب] خفف عنا، فإن أمتى لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه، حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد، واللَّه لقد راودت بنى إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادا، وقلوبا، وأبدانا، وأبصارا، وأسماعا، فارجع [فليخفف] عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل.
فرفعه عند الخامسة، فقال: [يا رب] ، إن أمتى ضعفاء أجسادهم، وقلوبهم، وأسماعهم، وأبدانهم، فخفف عنا، فقال الجبار: يا محمد، قال:
لبيك وسعديك، [قال] : إنه لا يبدل القول لدىّ، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهن خمس عليك.
فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفّف عنّا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها، قال موسى: قد واللَّه راودت بنى إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا، قال رسول اللَّه(8/223)
صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا موسى! قد واللَّه استحييت من ربى مما اختلفت إليه، قال: فاهبط باسم اللَّه، قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام [ (1) ] .
وقد انتقد الحافظ أبو محمد أحمد بن على بن حزم، رحمه اللَّه [تعالى] ، حديث شريك هذا فقال: وما وجدنا للبخاريّ ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين، لكل واحد منهما حديث، ثم عليه في تخريجه الوهم، مع اتفاقهما، وحفظهما، وصحة معرفتهما،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 584- 585، كتاب التوحيد، باب (37) ما جاء في قوله اللَّه عز وجل:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم (7517) ، قوله: «فاستيقظ وهو في المسجد الحرام» ، قال القرطبي: يحتمل أن يكون استيقاظا من نومة نامها بعد الإسراء، لأن إسراءه لم يكن طول ليلته، وإنما كان في بعضها، ويحتمل أن يكون المعنى أفقت مما كنت فيه مما خامر باطنه من مشاهده الملأ الأعلى، لقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، فلم يرجع إلى حال بشريتة صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا وهو بالمسجد الحرام.
وأما
قوله في أوله: «بينا أنا نائم» ،
فمراده في أول القصة وذلك أنه كان قد ابتدأ نومه فأتاه الملك فأيقظه.
وفي
قوله في الرواية الأخرى: «بينا أنا بين النائم واليقظان أتانى الملك»
إشارة إلى أنه لم يكن استحكم في نومه.
وهذا كله يبنى على توحيد القصة. وإلا فمتى حملت على التعدد، بأن كان المعراج مرة في المنام وأخرى في اليقظة، فلا يحتاج ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: قيل: اختص موسى عليه السلام بهذا دون غيره ممن لقيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنه أول من تلقاه عند الهبوط، ولأن أمته أكثر من أمة غيره، ولأن كتابه أكبر الكتب المنزلة قبل القرآن وتشريعا وأحكاما، أو لأن أمة موسى كانوا كلفوا من الصلاة ما ثقل عليهم. فخاف على أمة محمد مثل ذلك، وإليه الإشارة بقوله: «فإنّي بلوت بنى إسرائيل» ، قاله القرطبي.
وأما قول من قال: إنه أول من لاقاه بعد الهبوط فليس بصحيح، لأن حديث مالك بن صعصعة أقوى من هذا، وفيه: أنه لقيه في السماء السادسة.
وإذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في الصعود في السادسة، وصعد موسى إلى السابعة، فلقيه فيها بعد الهبوط ارتفع الإشكال، وبطل الرد المذكور، واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) .(8/224)
ثم ذكر هذا الحديث. وقال عقيبة: فهذه ألفاظ معجمة بلا شك، والآفة من شريك من ذلك.
[وأما] قوله: إن ذلك كان قبل أن يوحى إليه، وأنه حينئذ فرضت عليه الخمسون صلاة، وهذا بلا خلاف بين أحد من أهل العلم، إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد أن أوحى إليه بنحو اثنتي عشرة سنة.
ثم قوله: إن الجبار دنا فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، وعائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها، تروى أن الّذي دنا فتدلى، جبريل عليه السلام.
قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي، رحمه اللَّه، في مسألة الانتصار لإمامى الأمصار، رحمهما اللَّه [تعالى] : ورأيت لأبى عبد اللَّه الحميدي بخط يده: ذكرت للقاضي الفقيه- أطال اللَّه [تعالى] مدته، وقرن بالسلامة أوبته- حديثين يتبعهما الحافظ على رواتهما، وأخرجت في الصحيح على ذلك لغرض لعله وقع لمخرجهما، وأردت أن أبين لك الحديثين، لتقف عليهما، وتعرضهما على من ربما وجد مخرجا لهما، وذكر الحديثين بلفظ ابن حزم، ثم قال عقبيهما: وقد عرضت هذا الاعتراض الّذي رأيته لبعض الحفاظ، على جماعة من المتحققين بعلم الحديث، فكلهم تحيّر في وجه المخرج في ذلك، وذكر لي أن لأبى سليمان الخطابي في ذلك كلاما، ذكره في كتاب (أعلام الحديث) ، الّذي [ألفه] في شرح معاني كتاب (الجامع الصحيح) ، وذكر كلام أبى سليمان على حديث شريك.
قال ابن طاهر: [و] الحميدي سلك طريق أستاذه في التحريف، [لأنه] نسب البخاريّ ومسلما، إلى أنهما أخرجا هذين الحديثين لغرض وقع لهما، مع العلم بعلتهما، وهذا ارتكاب كبيرة في حقهما، فإنّهما معروفان(8/225)
بالإنصاف، غير متعصبين لفرقة، لم يسلكا في تصنيفهما ما سلكه المصنفون قبلهما أو بعدهما، من نصرة مذهب واحد، وإنما نصرا الصحيح وأخرجاه، ولذلك رفع اللَّه عزّ وجل كتابيهما، وجعلهما حجة بين المسلمين، لما علم من صدق نيتهما في ذلك، ولو سلكا طريق التعصب، لخرجا عن حيّز التحكيم، لأن شرط الحكم أن ينصف بين الخمصين، ورأينا الفرق قاطبة تحتج بما أخرجاه، [ويلتزم] الخصم ذلك من خصمه، فصح بذلك ما قلناه.
قال جامعه ومؤلفه [عفى اللَّه عنه] : في كلام ابن طاهر هذا تحامل على الحميدي، فإنه لم يرد قط أن البخاريّ ومسلما، خرجا الحديثين لغرض سيئ، لكن أعلم أنهما- ومكانهما من العلم مكانهما- أخرجا ذلك مع ما فيهما [مما] ينتقد، لشيء من الأشياء قصداه، لا أنهما خفي عليهما ما ظهر لغيرهما، والحميدي لا يخفى عليه البتة شيء مما ذكره ابن طاهر، من جميل مقصد البخاري ومسلم فيما أخرجاه في صحيحيهما، واللَّه تعالى الموفق.
قال ابن طاهر: إن كلامه في شريك، شيء لم يسبقه إليه أحد من أئمة الجرح والتعديل، بل قبلوه، ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال عنه: ليس به بأس، وذكر عن ابن [عدي] أنه قال: شريك رجل مشهور من أهل المدينة، حدّث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عن نفسه فإنه لا بأس بروايته، إلا أن يروى عن ضعيف، ثم قال: فحكم ابن عدىّ، أن الآفة إنما تأتينا من الراويّ عنه، والراويّ عنه هذا الحديث سليمان بن بلال، أحد ثقات أهل المدينة، ومن عدّله مالك فمن بعده من الأئمة، لا يسمع فيه قول المتأخر بحال، فلما ثبتت عدالته، خرج عما قاله ابن حزم، وأن الآفة ليست(8/226)
من شأنه، ويقول: إنّ الوهم في قوله: «وذلك قبل أن يوحى إليه» صحيح، وبالوهم لا يسقط حديث المحدّث الثقة الحافظ، على أن هذا الوهم قديم على من روى عنه هذا الحديث إلى عصر ابن حزم، ولم يستدركه أحد وقد قال يحيى بن معين: لو تركنا أحدا لكثرة غلطه، لتركنا حديث عيسى ابن يونس، على أن هذا الوهم ليس فيه ارتكاب كبيرة يترك لأجلها حديثه، وإنما هو وهم في التاريخ، ولو ترك حديث من وهم في تاريخ، لترك جماعة من أئمة المسلمين لاختلافهم في التواريخ في [الوفيات] وغيرها، ولعله أراد أن يقول: وذلك بعد أن أوحى إليه بنحو من كذا، فقال: وذلك قبل أن يوحى إليه، جريان اللسان، وهذا الوهم على الحقيقة، إنما يأتى من جهة ثلاثة: إما أنس رضى اللَّه عنه، وإمّا شريك، وإمّا سليمان، فلم خصّه من بينهم بهذا الوهم؟ فدلّ جميع ذلك عن أن كلامه في شريك لا وجه له. وأما احتجاجه بقول عائشة رضى اللَّه عنها، فذكره ابن طاهر من طريق أبى بكر بن أبى شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا بن أشوع، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة [رضى اللَّه عنها قالت:] قلت [لها] : دَنا فَتَدَلَّى، قالت: ذاك جبريل [عليه السلام] ، ثم قال: وهذا حديث مخرج في الصحيحين من حديث أبى أسامة، وحماد بن سلمة، عن زكريا بن أبى زائدة، ويعد في أفراد زكريا، عن سعيد بن عمرو بن أشوع.
والحديث موقوف على عائشة [رضى اللَّه عنها] لم يتجاوز به غيرها، فيكون مع اتفاقه والتفرد الّذي في إسناده، قول واحد من الصحابة، [رضى اللَّه عنهم] والكلام عليه من وجهين:
أحدهما: أن قولها يدل على [أن] الموحى جبريل [عليه الصلاة والسلام] ، وأجمعت الأمة على [أن] الموحى هو اللَّه عز وجل، لقوله [تبارك] وتعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى(8/227)
والوجه الثاني: خلاف أنس وعبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما، أما حديث أنس، فقد تقدم من حديث شريك، المخرّج في الصحيحين، وأما حديث ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، فذكره ابن طاهر من طريق أبى القاسم البغوي، [قال:] حدثنا سعيد [بن] يحيى الأموي، قال: حدثني أبى، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن أبى سلمة، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] ، في قول اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قال: فدنا ربه عزّ وجل [منه] ، فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، قال: قال ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] : ورواه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال ابن طاهر: وهذا إسناد متصل، ورجاله ثقات، وهو من أصح الروايات في التفسير، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] .
ورواه عكرمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، وأخرج من حديثه في كتاب البخاري، ثم ذكر أيضا من حديث الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا على بن مسلم، حدثنا سفيان عن عمر، وعن عكرمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، قال:
هي رؤيا عين رآها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسرى به، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قال: شجرة الزقوم.
وأخرجه البخاري في صحيحه، عن على بن [المديني] ، والحميدي عبد اللَّه بن الزبير، كليهما عن سفيان بن عيينة، هذا في التفسير، والقدر، والبعث، ثم ذكر أيضا من طريق أبى القاسم البغوي، حدثنا زيد بن أخرم، حدثنا عبد اللَّه بن داود، عن الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس قال: أدركت خمسين أو سبعين من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس، لم يقوموا حتى يقولوا: هو كما قلت،(8/228)
أو صدقت.
وقد سئل الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ عن معنى هذا الحديث- يعنى قول عائشة رضى اللَّه عنها: من حدثك أن محمدا [صلّى اللَّه عليه وسلّم] رأى ربه؟ - فقال: معناه في الدنيا، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حيث عرج به، صار إلى الآخرة، فلما صحّ الإسناد إلى هذين الصحابيين، كان الرجوع إلى قولهما أولى بلا خلاف بين أئمة المحدثين وهو ظاهر الآية، فلا يترك الظاهر مع قوليهما، ويرجع إلى قول من فسّر القرآن على حسب رأيه ومراده، وتأويل من تأوله، على وفق مذهبه واجتهاده [وبذلك صح] ما رسمناه، وأن البخاري ومسلما في تخريجهما هذا الحديث مصيبان، وأن المعترض عليهما دخل عليه الوهم في نقده عليهما، لأنه وإن كان إماما مفتيا في علوم شتى، إلا أن كلامه على هذا الحديث يدل على أنه لم يسلك طريق الحفاظ في تعليل الحديث.
وذلك أن الحفّاظ النقّاد، إنما يعللون الحديث من طريق الإسناد، الّذي هو المرقاة إليه، وهذا الرجل علل من حيث اللفظ، ولم يقف على أن لهذا اللفظ متابعات مع صحة النقل إليهما، والدليل على ذلك، أنه لو شرع في تعليله من طريق الإسناد، لوجد طريقا إلى ذلك، لاختلاف الرواة على أنس في إيراد هذا الحديث، على أن الجواب عن الاختلاف إن اعترض عليه معترض من أهل الصنعة، هو أن هذا الحديث رواه عن أنس أربعة من ثقات التابعين، فسلك كل رجل منهم في إيراده غير طريق صاحبه.
[وروى] أبو بكر محمد بن مسلم الزهري، عن أنس، عن أبى ذر جندب بن جنادة، وتابع عقيلا- يعنى في روايته- عن ابن شهاب يونس ابن يزيد الإملي، وعنه مخرّج في الصحيحين، ورواه أبو خطاب قتادة بن دعامة السدوسي، عن أنس [بن] مالك، عن مالك بن صعصعة الأنصاري.(8/229)
وهذا الحديث أخرجه البخاري من كتابه في أربعة مواضع، عن هدبة بن خالد، وتابع قتادة على روايته عن أنس عباد بن على. هكذا ذكره البخاري في بعض الروايات عنه.
وروى أبو محمد ثابت بن أسلم البناني، عن أنس [رضى اللَّه عنه] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم متصلا، ولم يذكر بينهما أحدا، ورواه أبو عبد اللَّه شريك بن عبد اللَّه بن أبى نمر الليثي، عن أنس رضى اللَّه عنه، موقوفا عليه، ثم صح النقل إلى كل واحد منهم، مع حفظهم وإتقانهم، فاحتجنا أن نطلب لهذا الاختلاف وجها، إذ ليس في بعض الأسانيد من يحمل عليه، فيسقط من طريق الترجيح.
فلم يبق إلا أن نقول: هذه قصة جرت بمكة، لم يحضرها أنس [رضى اللَّه عنه] ، وإنما [سمعها] من غيره، سمعها أولا من أبى ذر، ومالك بن صعصعة، ثم سمعها من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والدليل على ذلك: أنا رأيناه سمع أحاديث من صحابى، ثم رواها عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذلك في روايته عن عبادة ابن الصامت، مشهور عند أهل الحديث.
ثم ذكر ابن طاهر من طريق البغوي، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال: حدثني محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك [قال:] فقدمت المدينة، فلقيت عتبانا فقلت: حديث بلغني عنك، قال: أصابنى في بصرى بعض الشيء، فذكر الحديث بطوله، فأنس رضى اللَّه عنه سمع هذا الحديث من محمود بن الربيع، وهو أصغر منه، ولم يقتصر على قوله، حتى رحل إلى المدينة، فسمعه من عتبان، على أن هذا الحديث الّذي رحل لأجله، وسمعه من غيره، لا يقاوم حديث الإسراء في الجلالة والشهرة، فتحققنا أنه سمعه بعد ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والدليل عليه، رواية جابر بن عبد اللَّه [رضى اللَّه(8/230)
عنهما] ، وغيره لهذا الحديث، ممن لم يحضر القصة.
ثم ذكر حديث ابن وهب: حدثني يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب:
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: سمعت جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه [عنهما] يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لما كذبتني قريش، قمت في الحجر، فجلى اللَّه عز وجل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا انظر إليه.
ورواه عقيل، ومعمر، وابن أخى الزهري، عن الزهري كذلك
[ومفاده] أن [جابرا] [رضى اللَّه عنه] لم يحضر هذه القصة، فإن قيل: فما السبب في هذا التفصيل؟ ولم لم يجمع بينهما وبين روايته، أو يقتصر على بعضها، إما على قول أحدهما أو على ما سمعه هو؟.
الجواب أنه رضى اللَّه عنه أراد أن يؤدى عن كل واحد ما سمعه منه، ويفصل حديثه من حديثهم، لأن الجمع بين هذه الثلاثة يصعب، لما فيه من تقديم وتأخير، وزيادة ونقصان، أو لعله ذكر حديث مالك عقيب حديث إلى ذر [رضى اللَّه عنه] ، أو حديث أبى ذر عقيب حديث مالك، ثم ذكر حديثه بعدهما، فحمل كل واحد من الرواة ما حدثه به من الطرق، واقتصر على إيراده منها، لما قدمنا من صعوبة الجمع بين الطرق.
والدليل على هذا: أن قتادة وثابتا من كبار أصحابه البصريين، حافظان متقنان جليلان، كانا في عصر واحد، ومصر واحد، نقل قتادة عنه عن مالك بن صعصعة، ونقل ثابت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعلم بذلك ما قلناه.
ثم ذكر عن أبى محمد عبد الرحمن بن أبى حاتم قال: سألت أبى عن حديث رواه الزهري عن أنس، عن أبى ذر [رضى اللَّه عنهما] في المعراج، ورواه قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقيل لأبى:
أيهما أشبه؟ قال: أنا لا أعدل بالزهري أحدا من أهل عصره، ثم قال: إني(8/231)
لأرجو أن يكونا جميعا صحيحين.
قال ابن طاهر: وأما الكلام على إيقاف شريك للحديث، فإن الشيخ: أبا سليمان الخطابي- رحمه اللَّه تعالى- أشار إلى تعليل هذا الحديث من وجهين، أحدهما: إيقاف شريك له، والثاني: تفرده بهذه الزيادة، والجواب: أن هذا الحديث من طريق شريك، وإن كان موقوفا من حيث الحقيقة، مسندا لأنه قد روي من غير وجه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، يزيده بيانا طريق ثابت المتصل.
وأما الجواب عن زيادته: فلا خلاف بين أهل الصّنعة، أن الزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححنا ثقته مع متابعة ابن عباس رضي اللَّه [عنهما] له على روايته.
واعلم أن إنكارهما لم يصدر عن معرفة صحيحة بعلم الحديث وصناعته، إنما ورد من جهة أخرى، وهي أنهما استبشعا هذه اللفظة وأنكراها، ولم يجدا طريقا إلى رفعها إلا من هذا الوجه الّذي انتقص عليهما، ثم إن القرآن والسنة، غير خاليين من هذا النوع، وأخبار الصفات غير عارية من مثل هذا الفن الّذي أنكراه، على أنهما ممن يثبت الصفات ويؤمن بها. انتهى كلام ابن طاهر، وفيه ما يقبل، وما ينتقد.
وأما [ما رواه قتادة عن أنس بن مالك عن صعصعة [بن مالك] ، رضي اللَّه عنهما، فخرجه البخاري في كتاب [مناقب الأنصار] [ (1) ] من حديث همام [عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه] عن مالك بن صعصعة [قال] : أن [نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدثه]
__________
[ (1) ] في (الأصلين) : في كتاب مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والصواب ما أثبتناه، وسياق أول هذه الفقرة مضطرب في (الأصلين) .(8/232)
عن ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم- وربما قال: في الحجر- مضطجعا، إذا أتاني آت، فقد- قال: وسمعته يقول:
فشق- ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول: من قصّه إلى شعرته، فاستخرج قلبي، ثم أتيت [بطست] من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة، قال أنس [رضي اللَّه عنه] : نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت، فإذا فيها آدم [عليه السلام] فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت، إذا يحيى وعيسى [عليهما السلام] وهما ابنا خالة، قال:
هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت، فردّا، ثم قالا:
مرحبا بالنبيّ الصالح والأخ الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت، إذا يوسف، قال: هذا يوسف، فسلم عليه، فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.(8/233)
ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس [عليه السلام] ، قال: هذا إدريس، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا هارون [عليه السلام] ، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا موسى، قال: هذا موسى، فسلم عليه [فسلمت عليه] فردّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما جاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته، أكثر مما يدخلها من أمتي.
ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم قال: مرحبا به، ونعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فردّ السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا(8/234)
ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان، فنهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات.
ثم رفع لي البيت المعمور، [يدخله كل يوم سبعون ألف ملك] [ (1) ] ، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.
ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني واللَّه قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كلّ يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (الأصلين) وليس في رواية البخاري التي نحن بصددها.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 255- 257، كتاب مناقب الأنصار، باب (42) حديث رقم (3887) .(8/235)
__________
[ () ] «المعراج» بكسر الميم، وحكى ضمها من عرج بفتح الراء يعرج بضمها إذا صعد، وقد اختلف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام كما تقدم، وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا، فقيل: قبل الهجرة بسنة، قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود، فإن في ذلك اختلافا كثيرا يزيد على عشرة أقوال، [ذكرها الحافظ في (الفتح) : 7/ 257، وما بعدها] .
قوله: «عن مالك بن صعصعة» أي ابن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري من بني النجار، ليس له في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس بن مالك، [له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 10/ 16، ترجمة رقم (22) قال الحافظ ابن حجر: نسبه ابن سعد فقال: مالك بن صعصعة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار] .
قوله «في الحطيم وربما قال في الحجر»
هو شك من قتادة، كما بينه
أحمد عن عفان عن همام ولفظه: «بينا أنا نائم في الحطيم» ، وربما قال قتادة: «في الحجر» ،
والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفا في الحطيم، هل هو الحجر أم لا؟ لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع فيها ذلك، ومعلوم أنها لم تتعدد، لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها، وقد تقدم في أول بدء الخلق بلفظ: «بينا أنا عند البيت» ، وهو أعم.
وفي حديث أم هانئ عند الطبراني: أنه بات في بيتها، قال: «ففقدته من الليل فقال:
إن جبريل أتاني» . والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيتها، فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «مضطجعا» زاد في بدء الخلق: «بين النائم واليقظان»
وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه استمر في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك الآتية في التوحيد في آخر الحديث:
«فلما استيقظت» ،
فإن قلنا بالتعدد، فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد باستيقظت: أفقت، أي أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال، بمشاهدة الملكوت، ورجع إلى العالم الدنيوي.
قوله: «من نغره» بضم المثلثة وسكون المعجمة، وهي الموضع المنخفض الّذي بين الترقوتين.
قوله: «إلى شعرته» بكسر المعجمة، أي شعر العانة، وفي رواية مسلم: «إلى أسفل بطنه» ، وفي بدء الخلق: «من النحر إلى مراق بطنه» .(8/236)
__________
[ () ] قوله: «من قصّة» بفتح القاف وتشديد المهملة، أي رأس صدره.
وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به.
وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) ، ولكل منهما حكمة، فالأولى عن طفولته صلّى اللَّه عليه وسلّم لاستخراج حظ الشيطان، والثانية عند إرادة العروج إلى السماء، ليتأهب للمناجاة، وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك. قال القرطبي في (المفهم) : لا يلتفت لإنكار الشقّ ليلة الإسراء، لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فغسل قلبي»
قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأرض.
قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلب صلّى اللَّه عليه وسلّم- مع القدرة على أن يمتلئ إيمانا وحكمة بغير شق- الزيادة في قوة اليقين، لأنه أعطي برؤية شق بطنه، وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالا ومقالا، ولذلك وصف بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى واختلف هل كان شق الصدر وغسله مختصا به صلّى اللَّه عليه وسلّم أو وقع لغيره من الأنبياء؟ فقد وقع عند الطبراني في قصة تابوت بني إسرائيل أنه كان فيه الطست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثم أتيت بدابة»
قيل: الحكمة في الإسراء به صلّى اللَّه عليه وسلّم راكبا مع القدرة على طي الأرض له، إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت بأن الملك إذا استدعى من يختص به، يبعث إليه بما يركبه.
قوله: «دون البغل وفوق الحمار أبيض» كذا ذكر باعتبار كونه مركوبا، أو بالنظر للفظ البراق، والحكمة لكونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بداية لا توصف بذلك في العادة (فتح الباري) .
قوله: «فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم» هذا يوضح أن الّذي وقع في رواية بدء الخلق بلفظ دون البغل وفوق الحمار، أي هو البراق، وقع بالمعنى، لأن أنسا لم يتلفظ بلفظ البراق في رواية قتادة.
قوله: «يضع خطوه» بفتح المعجمة أوله: المرة الواحدة، وبضمها: الفعلة.(8/237)
__________
[ () ] قوله: «عند أقصى طرفه» بسكون الراء وبالفاء، أي نظره، أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره.
قوله: «حتى أتى السماء الدنيا» ظاهرة أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة المذكور قريبا، وتمسك به أيضا من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، فأما العروج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقى المعراج، وهو السلم كما وقع مصرحا به
في حديث أبي سعيد عن ابن إسحاق والبيهقي في (الدلائل) ، ولفظه: «فإذا أنا بدابة كالبغل مضطرب الأذنين يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي فركبته»
فذكر الحديث
قال: «ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصليت، ثم أتيت بالمعراج» .
وفي رواية ابن إسحاق: «سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج فلم أر قط شيئا كان أحسن منه، وهو الّذي يحد إليه الميت عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء»
الحديث.
وفي رواية كعب: «فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب، حتى عرج هو وجبريل» وفي رواية لأبي سعيد في (شرف المصطفى) أنه «أتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد باللؤلؤ، وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة» .
وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له، لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراويّ. (فتح الباري) .
قوله: «أرسل إليه» ؟ أي للعروج، وليس المراد أصل البعث، لأن ذلك كان قد اشتهر في الملكوت الأعلى، وقيل: سألوا تعجبا من نعمة اللَّه عليه بذلك، أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن اللَّه تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه، وقوله: «من معك» ؟ يعشر بأنهم أحسوا معه برفيق، وإلا لكان السؤال بلفظ «أمعك أحد» ، وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوي كزيادة أنوار أو نحوها، يشعر بأمر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة. (فتح الباري) .
وفي قول: «محمد» دليل على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية، وقيل: الحكمة في سؤال الملائكة: «وقد بعث إليه» ؟ أن اللَّه تعالى أراد إطلاع نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أنه معروف عند الملأ الأعلى لأنهم قالوا: «أوبعث إليه» ؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلا (فتح الباري) .
قوله: «مرحبا به» أي أصاب رحبا وسعة، وكنى بذلك عن الانشراح، واستنبط منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظ السلام، وتعقب بأن قول الملك: «مرحبا به»(8/238)
__________
[ () ] ليس ردا للسلام، فإنه كان قبل أن يفتح الباب، والسياق يرشد إليه.
قوله: «فنعم المجيء جاء» قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: «جاء فنعم المجيء مجيئه» .
وقال ابن مالك: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف في باب نعم، لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها، وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير نعم المجيء الّذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاءه، وكونه موصولا أجود، لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة، (فتح الباري) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي»
هذا من أقوى ما استدل به على أن اللَّه سبحانه وتعالى كلم نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء بغير واسطة.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم:
أن للسماء أبوابا حقيقية وحفظة موكلين بها.
وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان، ولا يقتصر على أنا، لأنه ينافي مطلوب الاستفهام.
وأن المار يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل من القاعد.
وفيه استحباب تلقى أهل الفضل بالبشر، والترحيب، والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه.
وفيه جواز الاستناد إلى القبلة، بالظهر وغيره، مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة.
وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل.
وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار، لما وقع من الإسراء بالليل ولذلك كانت أكثر عيادته بالليل،
وكان أكثر سفره صلّى اللَّه عليه وسلّم بالليل، وقال: «عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل» .
وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه عالج الناس قبله وجربهم.
ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه: إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة- قال:
ويستفاد منه أن مقام الرضا والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثمّ استبدّ موسى عليه السلام بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بطلب التخفيف، دون إبراهيم عليه(8/239)
وخرّج البخاريّ أيضا في [كتاب] بدء الخلق، في باب ذكر الملائكة، من حديث همام عن قتادة، ومن حديث سعيد وهشام عن قتادة، حدثنا أنس عن مالك بن صعصعة، قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ... الحديث إلى آخره بمعنى هذا، وقال في آخره: إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا [ (1) ] .
وخرّج مسلم [ (2) ] من حديث ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، لعله قال: عن مالك بن صعصعة- رجل من قومه- قال: قال نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي، فأتيت بطست من ذهب، فيها من ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا، قال قتادة: فقلت للذي معي: ما
__________
[ () ] السلام، مع أن للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة، ورفعة المنزلة، والاتباع في الملة.
وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها، وأنهم خالفوه وعصوه.
وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض طرقه:
«عرضت عليّ الجنة والنار» .
وفيه استحباب الإكثار من سؤال اللَّه تعالى وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إجابته مشورة موسى عليه السلام في سؤال التخفيف.
وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك (فتح الباري) .
[ (1) ]
(فتح الباري) : 6/ 371- 373، كتاب بدء الخلق، باب (6) ذكر الملائكة، حديث رقم (3207) ، وفي آخره: وقال همام عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «في البيت المعمور» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 581- 583، كتاب الإيمان باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (264) .(8/240)
يعني؟ قال: إلى أسفل بطنه، فاستخرج قلبي، فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة.
ثم أتيت بدابة أبيض يقال له: البراق، فوق الحمار، ودون البغل، يقع خطوة عند أقصى طرفه، فحملت عليه، ثم انطلقنا حتى أتينا سماء الدنيا، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، قيل:
وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: ففتح لنا، وقال: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، قال: فأتينا على آدم صلّى اللَّه عليه وسلّم.
. وساق الحديث بقصته، وذكر أنه لقي في السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون.
قال: ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى السماء السادسة، فأتيت على موسى عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما جاوزته بكى، فنودي: ما يبكيك؟
قال: رب هذا غلام بعثته بعدي، يدخل من أمته الجنة، أكثر مما يدخل من أمتي، قال: ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى السماء السابعة، فأتيت على إبراهيم.
وقال في الحديث: وحدث نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنه رأى أربعة أنهار، يخرج من أصلهما نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت:
يا جبريل! ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان، فنهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات.
ثم رفع لي البيت المعمور، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟
قال: هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم.(8/241)
ثم أتيت بإناءين، أحدهما لبن، والآخر خمر [ (1) ] ، فعرضا عليّ، فاخترت اللبن، فقيل: أصبت، أصاب اللَّه بك أمتك على الفطرة، ثم فرضت عليّ كل يوم [ (2) ] خمسون صلاة، ثم ذكر قصتها.. إلى آخر الحديث. هكذا أورد مسلم هذا الحديث كما كتبنا.
وخرّج بعده من طريق معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة. أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال ... فذكر نحوه، وزاد فيه: فأتيت بطست من ذهب، ممتلئ حكمة وإيمانا، فشق من النحر إلى مراق البطن، فغسل بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا [ (3) ] .
وأما حديث أنس عن أبي ذرّ، فخرجه البخاري من حديث الليث [ (4) ] ، وخرجه مسلم من حديث ابن وهب [ (5) ] ، كلاهما عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس [بن] مالك [رضى اللَّه عنه قال:] كان أبو ذر [رضي اللَّه عنه] يحدث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل صلّى اللَّه عليه وسلّم ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب، ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء الدنيا.
__________
[ (1) ] في (صحيح مسلم) : «أحدهما خمر، والآخر لبن» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (265) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 461- 463، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (5) ذكر إدريس عليه السلام، حديث رقم (3342) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 576- 580، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (263) .(8/242)
فلما جئنا السماء الدنيا، قال جبريل [عليه السلام] [ (1) ] لخازن السماء الدنيا: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، [معي] [ (1) ] محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فأرسل إليه؟
قال: نعم، ففتح، [قال:] فلما علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، عن يمينه أسوده، وعن يساره أسوده، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبيّ الصالح والابن الصالح، [قال] : قلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه والأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، الأسودة التي عن يساره أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.
قال: ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية، [فقال] لخازنها: افتح، فقال له خازنها، مثل ما قال خازن السماء الدنيا، ففتح، فقال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السموات:
آدم، وإدريس، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، صلوات اللَّه عليهم [أجمعين] [ (2) ] ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة، [قال:] [ (2) ] [فلما مرّ جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بإدريس قال: مرحبا بالنبيّ الصالح والأخ الصالح، قال ثم مرّ، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا إدريس] [ (2) ] .
ثم مررت بموسى، فقال: مرحبا بالنبيّ الصالح والأخ الصالح، [قال] : قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى، قال: ثم مررت بعيسى فقال: مرحبا بالنبيّ الصالح والأخ الصالح، قلت:
من هذا؟ قال: عيسى ابن مريم، قال: ثم مررت بإبراهيم [عليه
__________
[ (1) ] زيادات للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] زيادات للسياق من (صحيح مسلم) .(8/243)
السلام] [ (1) ] فقال: مرحبا بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم.
قال ابن شهاب: وأخبرنى ابن حزم أن ابن عباس [رضي اللَّه عنهما] ، وأبا حبة الأنصاري، كانا يقولان: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثم عرج بي حتى ظهرت [لمستوى] [ (1) ] أسمع فيه صريف الأقلام.
قال ابن حزم: وأنس بن مالك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ففرض اللَّه عزّ وجلّ على أمتي خمسين صلاة، قال: فرجعت بذلك حتى مرّ بموسى، فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت:
فرض عليهم خمسين صلاة، قال لي موسى: فراجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربي عزّ وجلّ، فوضع شطرها.
قال: فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربّي فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدّل القول لدي، قال: فرجعت إلى موسى فقال:
راجع ربك، فقلت: قد استحييت من ربي [ (2) ] .
قال: ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك.
وقال البخاري: حبائل اللؤلؤ، وقال بعد قوله: فوضع شطرها: فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال:
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] (المرجع السابق) .(8/244)
ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق، فرجعت، فوضع عني شطرها.. الحديث ترجم عليه باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء [ (1) ] .
وذكر مسلم في كتاب الإيمان، في أحاديث الإسراء [ (2) ] ، وذكره البخاري أيضا في كتاب الأنبياء، في ذكر إدريس [ (3) ] ، من حديث يونس عن الزهري، ومن حديث يونس عن ابن شهاب، قال: أنس [رضي اللَّه عنه] : كان أبو ذر ... بنحو ما تقدم، وقال فيه: فقال موسى: ما الّذي فرض على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسون صلاة، قال: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك.
فرجعت، فراجعت ربي، فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فذكر مثله، فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، فأخبرته فقال: راجع ربّك، فإن أمتك لا تطيق ذلك،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 605، كتاب الصلاة، باب (8) كيف فرضت الصلوات في الإسراء، حديث رقم (349) .
قوله «جنابذ اللؤلؤ» ، «حبائل» : قال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاري:
فتشت على هاتين اللفظتين فلم أجدهما، ولا واحدة منهما، ولا وقفت على معناهما.
وذكر غيره أن الجنابذ شبه القباب، واحدها جنبذة بالضم، وهو ما ارتفع من البناء، فهو فارسيّ معرب، وأصله بلسانهم كنبذه بوزنه لكن الموحدة مفتوحة، والكاف ليست خالصة،
ويؤيده ما رواه المصنف في التفسير من طريق شيبان عن قتادة، عن أنس قال: «لما عرج بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ» .
وقال صاحب (المطالع) : في الحبائل قيل: هي القلائد والعقود، أو هي من حبال الرمل أي فيها لؤلؤ مثل حبال الرمل، جمع حبل، وهو ما استطال من الرمل، وتعقب بأن الحبائل لا تكون إلا جمع حبالة، أو حبيلة، بوزن عظيمة.
وقال بعض من اعتنى بالبخاري: الحبائل جمع حبالة، وحبالة جمع حبل على غير قياس، والمراد أن فيها عقودا وقلائد من اللؤلؤ.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 576- 580، كتاب الإيمان باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (263) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 461- 462، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (5) ذكر إدريس عليه السلام، حديث رقم (3342) .(8/245)
فراجعت ربي ... الحديث، وقال في آخره: فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، كما قال مسلم في حديثه [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: ورواه أبو ضمرة أنس بن عياض، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أنس [رضي اللَّه عنه] عن أبي، وليس بشيء، وإنما هو عن أبي ذر واللَّه أعلم.
وخرّج من حديث شعبة عن قتادة، قال: سمعت أبا العالية يقول: حدثني ابن عم نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم- يعني ابن عباس- قال: ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ليلة] [ (2) ] أسري به، فقال: موسى آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، وقال: عيسى جعد مربوع،
وذكر مالكا خازن [النار] [ (3) ] ، وذكر الدجال [ (4) ] .
وذكره البخاري في كتاب الأنبياء، وفي كتاب بدء الخلق، من حديث شعبة عن قتادة، ومن حديث سعيد عن قتادة، عن أبي العالية، قال: حدثنا ابن عم نبيكم- يعني ابن عباس- عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: رأيت ليلة أسري بي، موسى رجلا أدم طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 462، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (5) ذكر إدريس عليه السلام، حديث رقم (3342) .
[ (2) ] في (الأصلين) : «حين» وصوبناه من (البخاري) .
[ (3) ] في (الأصلين) : «جهنم» وصوبناه من (البخاري) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 530، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (34) قول اللَّه تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم (3396) .
قوله: «كأنه من رجال شنوءة» بفتح المعجمة، وضم النون، وسكون الواو بعدها همزة، ثم هاء تأنيث: حي من اليمن ينسبون إلى شنوءة، وهو عبد اللَّه بن كعب بن عبد اللَّه بن مالك بن نصر بن الأزد، ولقب شنوءة لشنآن كان بينه وبين أهله، والنسبة إليه شنوئي بالهمز بعد الواو وبالهمز بغير واو. (فتح الباري) .
قال ابن قتيبة: سمي بذلك من قولك: رجل فيه شنوءة أي تقزز، والتقزز بقاف وزايين: التباعد من الأدناس (فتح الباري) .(8/246)
إلى [الحمرة] والبياض، سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار في آيات أراهنّ اللَّه، فلا تكن في مرية من لقائه [ (1) ] .
وخرّجه مسلم في كتاب الإيمان، من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، عن أبي العالية قال: حدثنا ابن عم نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم، ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يعني مررت ليلة أسري بي على موسى بن عمران، رجل آدم، طوال، جعد، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم، مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، وأرى مالكا خازن النار، والدجال، في آيات أراهن اللَّه إياه، فلا تكن في مرية من لقائه.
قال: كان قتادة يفسرها أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد لقي موسى عليه السلام [ (2) ] .
وللبخاريّ [ (3) ] ومسلم [ (4) ] ، من حديث معمر عن الزهري قال:
أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، حين أسري به- وقال البخاري: ليلة أسري بي- لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل- حسبته قال: مضطرب- رجل الرأس، كأنه من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 386، كتاب بدء الخلق، باب (7) إذا قال أحدكم «آمين» والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم كم ذنبه،
حديث رقم (3239) ، ثم قال: قال أنس وأبو بكرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: تحرس الملائكة المدينة من الدجال.
(المرجع السابق) : 350، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (24) قول اللَّه تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم (3396) مختصرا.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 585، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (267) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 529، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (24) قول اللَّه تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم (3394) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 589- 590، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات، وفرض الصلوات، حديث رقم (272) .(8/247)
رجال شنوءة، قال: ولقيت عيسى، فنعته النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ربعة، أحمر، كأنما خرج من ديماس- يعني حمّاما- قال: ورأيت إبراهيم صلوات اللَّه عليه، وأنا أشبه ولده به، قال: فأتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: هديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما أنك لو أخذت الخمر، غوت أمتك.
لفظهما فيه متقارب.
ذكره البخاري في باب: واذكر في الكتاب مريم [ (1) ] ، وذكر في باب: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [ (2) ] ، حديث معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليلة أسري بي، رأيت موسى، وإذا هو رجل ضرب رجل، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى، فإذا هو رجل ربعة أحمر.. الحديث إلى آخره، وفيه: فقال: أخذت الفطرة- ولم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 589، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (48) قول اللَّه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا،
حديث رقم (3437) ولفظه:
«قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسري بي: لقيت موسى، قال فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، قال: ولقيت عيسى، فنعته النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس- يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به، قال: وأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر فيه خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: هديت الفطرة- أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 529، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (23) . قول اللَّه تعالى:
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ إلى قوله تعالى: مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، وقعت هذه الترجمة بغير حديث.
واختلف في اسم هذا الرجل، فقيل: هو يوشع بن نون، وبه جزم ابن التين، وهو بعيد، لأن يوشع ابن نون كان من ذرية يوسف عليه السلام، ولم يكن من آل فرعون.
والصحيح أن المؤمن المذكور كان من آل فرعون، واستدل لذلك الطبري بأنه لو كان من بني إسرائيل لم يصغ فرعون إلى كلامه ولم يستمع منه، اختلف في اسمه على أقوال ذكرها الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) .(8/248)
يشك- ولم يقل فيه: يعني الحمام، وقال: اشرب أيهما شئت.
وخرّج مسلم [ (1) ] من حديث عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد اللَّه بن الفضل، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة [رضي اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس، لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط، قال:
فرفعه اللَّه لي انظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى [ابن] مريم [عليه السلام] قائما يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم [عليه السلام] قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم- يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام.
وأخرجاه معا من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن [قال:] سمعت جابر بن عبد اللَّه [رضي اللَّه عنهما] ، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لما كذبتني قريش، قمت في الحجر، فجلى اللَّه لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا انظر إليه [ (2) ] ، ذكره البخاري في مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكره في كتاب التفسير،
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 594، كتاب الإيمان، باب (75) ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، حديث رقم (278) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 593، كتاب الإيمان، باب (75) ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، حديث رقم (276) .(8/249)
وقال بعقبة: زاد يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن أخي شهاب عن عمه: لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس.. نحوه [ (1) ] . وخرجه الترمذي بمثله [ (2) ] .
وخرّج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك [رضي اللَّه عنه] ، [قال:] إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتيت على موسى ليلة أسري بي، عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره [ (3) ] .
وله من حديث مالك بن معول، عن الزبير بن عدي، عن طلحة، عن [مرة] ، عن عبد اللَّه [رضي اللَّه عنه] قال: لما أسري برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فقبض منها، قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، قال: فراش من ذهب، فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك باللَّه من أمته شيئا المقحمات [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 499، كتاب التفسير، باب (3) أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، حديث رقم (4710) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 281، كتاب تفسير القرآن، باب (18) ومن سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3133) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن مالك بن صعصعة وابن سعيد وابن عباس.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 360، حديث رقم (14616) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 141، كتاب الفضائل، باب (42) من فضائل موسى صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (164) ولفظه: أتيت، وفي رواية هدّاب: مررت على موسى ليلة أسري بي ... إلخ.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 5، كتاب الإيمان باب (76) في ذكر سدرة المنتهى، حديث رقم (279) .(8/250)
وخرجه النّسائي [ (1) ] والترمذي [ (2) ] بنحوه أو قريب منه.
وخرج البيهقي من حديث عمرو بن الحارث، عن عبد اللَّه بن سالم الأشعري، عن الزبيدي محمد بن الوليد بن عامر، [قال:] حدثنا الوليد بن عبد الرحمن، أن جبير بن نفير [قال:] حدثنا شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول اللَّه! كيف أسري بك؟
قال: صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما، وأتاني جبريل [عليه السلام] [ (3) ] بدابة بيضاء، فوق الحمار ودون البغل، فقال:
اركب، فاستصعبت عليّ، فدارها بأذنها ثم حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضا ذات نخل، فأنزلني فقال: صلّ، فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: اللَّه أعلم، قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة.
فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 1/ 243، كتاب الصلاة، باب (1) فرض الصلاة، وذكر اختلاف الناقلين في إسناد حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه واختلاف ألفاظهم فيه، حديث رقم (450) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 366- 367، كتاب تفسير القرآن، باب (53) ومن سورة النجم، حديث رقم (3276) .
قوله: «المقحمات» ، هو بضم الميم وإسكان القاف وكسر الحاء ومعناه الذنوب العظام الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم إياها والتقحم الوقوع في المهالك ومعنى الكلام من مات من هذه الأمة غير مشرك باللَّه غفر له المقحمات والمراد واللَّه أعلم بغفرانها أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين وليس المراد أنه لا يعذب أصلا فقد تقررت نصوص الشرع وإجماع أهل السنة على إثبات عذاب بعض العصاة من الموحدين ويحتمل أن يكون المراد بهذا خصوصا من الأمة أي يغفر لبعض الأمة المقحمات وهذا يظهر على مذهب من يقول أن لفظة من لا تقتضي العموم مطلقا وعلى مذهب من يقول لا تقتضيه في الأخبار وإن اقتضته في الأمر والنهي ويمكن تصحيحه على المذهب المختار وهو كونها للعموم مطلقا لأنه قد قام دليل على إرادة الخصوص وهو ما ذكرناه من النصوص والإجماع واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/251)
بلغنا أرضا، فقال: انزل، فنزلت، ثم قال: صل، فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: اللَّه أعلم، قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. [عليه السلام] [ (1) ] .
ثم انطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا، بدت لنا قصور، فقال: انزل، فنزلت، فقال: صلّ، فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: اللَّه أعلم، قال: صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى [عليه السلام] [ (1) ] المسيح ابن مريم.
ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء اللَّه.
وأخذني من العطش ما أخذني، فأتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر العسل، أرسل إليّ بهما جميعا، فعدلت بينهما، ثم هداني اللَّه عزّ وجلّ، فأخذت اللبن، فشربت حتى قرعت به جبيني، وبين يدي شيخ متكئ على مثراة له، فقال: أخذ صاحبك الفطرة، إنه ليهدى.
ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الّذي في المدينة، فإذا جهنم تنكشف عن [مثل] الزرابي، قلت: يا رسول اللَّه: كيف وجدتها؟
قال: مثل الجمة السخنة.
ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش بمكان [كذا] وكذا، قد أضلوا بعيرا لهم، فجمعه فلان، فسلمت عليهم، فقال بعضهم:
هذا صوت محمد.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/252)
ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتى أبو بكر رضي اللَّه عنه، فقال: يا رسول اللَّه! أين كنت الليلة؟ فقد التمستك في مكانك، فقال: علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة؟ فقال: يا رسول اللَّه! إنه مسيرة شهر، فصفه لي، قال: ففتح لي صراط كأني انظر فيه، لا يسلني عن شيء إلا أنبأته عنه، قال أبو بكر:
أشهد أنك رسول اللَّه.
فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة، يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة، قال: فقال: إن من آية ما أقول لكم: أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرا لهم، فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا، ويأتوكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل أدم، عليه مسح أسود، وغرارتان سوداوان.
فلما كان ذلك اليوم، أشرف الناس ينتظرون، حتى كان قرب من نصف النهار، حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الّذي وصفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وروى ذلك مفرقا في أحاديث غيره [ (1) ] .
وخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث يونس عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبى هريرة [رضي اللَّه عنه] قال: أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسري به، بإيلياء بقدحين من خمر ولبن،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 354- 357، باب الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما ظهر في ذلك من الآيات.
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 37، كتاب الأشربة، باب (1) قول اللَّه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، حديث رقم (5576) ، وقال في آخره: تابعه معمر وابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 589- 590، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (272) .(8/253)
فنظر إليهما، ثم أخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد للَّه الّذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر، غوت أمتك.
وقال صالح بن كيسان: عن ابن شهاب، قال: سمعت ابن المسيب يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين انتهى إلى بيت المقدس، لقي فيه إبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم السلام، وأنه أتى بقدحين، قدح لبن، وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: هديت الفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمتك.
ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة، فأخبر أنه أسري به، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه، قال ابن شهاب: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: [فتجهزوا] ، وكلمه نحوها ناس من قريش، إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه فقالوا له: هل لك في صاحبك! يزعم أنه قد جاء بيت المقدس، ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة.
فقال أبو بكر: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأشهد لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة، ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح! قال: نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فيها سمي أبو بكر الصديق.
قال أبو سلمة: فسمعت جابر بن عبد اللَّه [رضي اللَّه عنه] يحدث أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر، فجلى اللَّه عزّ وجل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا انظر إليه.
وخرج البيهقي من حديث عبد اللَّه بن وهب، قال: حدثني(8/254)
يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك [رضي اللَّه عنه] قال: لما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبراق، فكأنها أمرّت ذنبها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فو اللَّه إن ركبك مثله.
وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سر يا محمد، فسار ما شاء اللَّه أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال [له] [ (1) ] جبريل: سر يا محمد، فسار ما شاء اللَّه أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق، فقالوا: السلام عليكم يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل:
أردد السلام يا محمد، فردّ السلام.
ثم لقيه الثانية، فقال له مثل مقالته الأولى، ثم الثالثة كذلك، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء، والخمر، واللبن، فتناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اللبن، فقال له جبريل:
أصبت الفطرة، لو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغويت أمتك، ثم بعث له آدم، فمن دونه من الأنبياء [عليهم السلام] [ (1) ] فأمّهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك الليلة.
ثم قال له جبريل [عليه السلام] [ (1) ] : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الّذي أراد أن تميل إليه، فذلك عدو اللَّه إبليس، أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك، فإبراهيم، وموسى،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/255)
وعيسى [ (1) ] . [عليهم السلام] [ (2) ]
وقال النضر بن شميل: أخبرنا عوف [قال:] [ (2) ] ، حدثنا زرارة بن أوفى قال: قال ابن عباس [رضي اللَّه عنهما] : قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لما كانت ليلة أسري بي، ثم أصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعلمت بأن الناس يكذبوني، قال: فقعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل عدو اللَّه، فجاء فجلس، فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] : نعم، فقال: ما هو؟ قال: إني أسري بي الليلة، فقال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث، إذا دعا قومه، قال: أرأيت إن دعوت إليك قومك، أتحدّثهم بما حدثتني؟ قال: نعم، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، [هلم!] [ (2) ] ، قال: فانفضّت المجالس، فجاءوا حتى جلسوا إليهما، فقال أبو جهل: حدّث قومك بما حدثتني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال:
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم، قال: فمن بين مصفق واضع يده على رأسه مستعجب للكذب، قال: وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد، ورأى المسجد، فقال: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فذهبت [أنعت فما زلت] [ (2) ] حتى التبس عليّ بعض النّعت، قال: فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، قال:
فنعته وأنا انظر إليه: وقد كان مع هذا حديث لم يحفظه عوف، قال:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 12/ 361- 362.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/256)
فقالوا: أما النعت فقد واللَّه أصاب [ (1) ] .
وخرّج أبو داود الطيالسي، من حديث حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن حذيفة [رضى اللَّه عنه قال] : أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى بالبراق، وهو دابة أبيض، فوق الحمار ودون البغل، فلم يزايلا. ظهره، هو وجبريل [عليه السلام] [ (2) ] ، حتى انتهيا به إلى بيت المقدس، فصعد به جبريل إلى السماء، فاستفتح جبريل، فأراه الجنة والنار، ثم قال لي: هل صلى في بيت المقدس؟ قلت نعم، قال: اسمع يا أصيلع، إني لأعرف، وجهك، ولا أدرى ما اسمك؟ قال: قلت: أنا زرّ بن حبيش، قال: فأين تجده صلّاها؟ فتأولت الآية: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى آخر الآية، قال: فإنه لو صلّى لصليتم كما يصلون في المسجد الحرام، قال: قلت لحذيفة: أربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، قال: أكان يخاف أن يذهب منه، وقد آتاه اللَّه بها؟ [ (3) ] .
قال البيهقي: وبمعناه رواه حماد بن زيد، عن عاصم، إلا أنه لم يحفظ صفة البراق، وكان حذيفة لم يسمع صلاته في بيت المقدس [ (3) ] .
وقد روينا في الحديث الثابت عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] [ (2) ] وغيره:
أنه صلّى فيه، وأما الربط، فقد رويناه أيضا في حديث غيره، والبراق دابة مخلوقة، وربط الدواب عادة معهودة، وإن كان اللَّه عزّ وجلّ القادر على
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 363- 364، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 508. حديث رقم (2815) من مسند عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 364، وقد أخرجه الترمذي في (السنن) : 5/ 287- 288. كتاب تفسير القرآن باب (18) ومن سورة بنى إسرائيل، حديث رقم (3147) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه النسائي في (الكبرى) .(8/257)
حفظها، والخبر المثبت أولى من النّافى [ (1) ] .
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، عن أبى بكر بن أبى سبرة، وغيره من رجاله، قالوا: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان ليلة السبت، ليلة سبع عشر خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نائم في بيته [ظهرا] أتاه جبريل وميكائيل، فقالا: انطلق إلى ما سألت اللَّه، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأتى بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرجا به إلى السموات سماء سماء، فلقى فيها الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، وأرى الجنة والنار، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولما انتهيت إلى السماء السابعة، لم أسمع إلا صريف الأقلام، وفرضت عليّ الصلوات الخمس، ونزل جبريل [عليه السلام] فصلى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلوات في مواقيتها] [ (2) ] .
وخرّج البيهقي من حديث سعيد بن منصور قال: حدثنا الحارث بن عبيد الإيادي، عن أبى عمران الجونى، عن أنس [رضى اللَّه عنه] قال:
[قال] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا أنا جالس، إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكز بين كتفي، فقمت يعنى إلى شجرة، فيها مثل وكرى الطير، فقعد جبريل في أحدهما، وقعدت في الآخر، فسمت وارتفعت حتى سدّت الخافقين، وأنا أقلب طرفي، فلو شئت أن أمسّ السماء مسست، فالتفتّ إلى جبريل، فإذا هو كأنه جلس، فعرفت فضل علمه باللَّه عليّ، فتح لي باب من أبواب السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دوني حجاب رفرف الدّرّ والياقوت، فأوحى إليّ ما شاء اللَّه أن يوحى. قال البيهقي، وقال غيره في
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 365.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 213، ذكر المعراج وفرض الصلوات.(8/258)
هذا الحديث: ولطّ دوني الحجاب رفرف الدر والياقوت [ (1) ] . هكذا رواه الحارث بن عبيد.
ورواه حماد بن سلمة، عن أبى عمران الجونى، عن محمد بن عمير بن عطارد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان في ملأ من أصحابه، فجاءه جبريل، فنكت في ظهره، فذهب به إلى الشجرة، فيها مثل وكرى الطير، فقعد في أحدهما، وقعد جبريل في الآخر فتسامت بنا حتى بلغت الأفق، فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها، فدلى بسبب، وهبط النور، فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه جلس، فعرفت فضل خشيته، فأوحى إليّ: نبيا ملكا أو نبيا عبدا، أو إلى الجنة، ما أنت؟ [فأومأ] [ (2) ] إليّ جبريل وهو مضطجع: أن تواضع، قال: قلت: لا، بل نبيا عبدا [ (3) ] .
وخرج من حديث عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، [عن] سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال:
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لما أسرى بى، مرّت بى رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة؟ قالوا: ماشطة ابنة فرعون وأولادها، [كانت تمشطها] [ (4) ] ، فسقط مشطها من يدها فقالت: بسم اللَّه، فقالت بنت فرعون: أبى؟ قالت: ربى وربك ورب أبيك، قالت: أو لك رب غير أبى؟ قالت: نعم، ربى وربك ورب أبيك، قالت: أو لك رب غير أبى؟ قالت: نعم، ربى وربك ورب أبيك اللَّه، قال: فدعاها، فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربى وربك
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 368. 369.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 369، مرسل، وله شاهد عند الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 460- 461، حديث رقم (7120) مختصرا من مسند أبى هريرة، دون قصة الشجرة.
[ (4) ] ليست في (دلائل البيهقي) .(8/259)
اللَّه [عزّ وجلّ] ، قال: فأمر ببقرة من نحاس [ (1) ] فأحميت، ثم أمر بها لتلقى فيها.
قالت: إن لي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي، وعظام ولدى في موضع، قال: ذاك لك، لمالك علينا من الحق، قال: فأمر بهم فألقوا واحدا واحدا، حتى بلغ رضيعا فيهم، فقال: قعى يا أمه، ولا تقاعسى، فإنا على الحق، قال: وتكلم أربعة وهم صغار، هذا وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى [ابن] مريم عليه السلام [ (2) ] .
__________
[ (1) ] قدر كبير من نحاس.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 389.
وأما الثلاثة الذين تكلموا في المهد،
فخرّج البخاري من حديث جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بنى إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلى، فجاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلى؟
فقالت: اللَّهمّ لا تمته حتى تريه وجه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبّوه، فتوضأ وصلّى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبنى صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بنى إسرائيل، فمرّ راكب ذو شارة، فقالت: اللَّهمّ اجعل ابني مثله، فترك ثديها، وأقبل على الراكب، فقال: اللَّهمّ لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصّه، قال أبو هريرة: كأنى انظر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يمص إصبعه، ثم مرّ بأمة فقالت: اللَّهمّ لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال:
الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون: سرقت، زنيت، ولم تفعل» ، أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (48) قول اللَّه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، حديث رقم (3436) .
قوله: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» ،
قال القرطبي: في هذا الحصر نظر، إلا أن يحمل على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك، وفيه بعد.
ويحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد، لكنه يعكر عليه أن في رواية ابن قتيبة أن الصبى الّذي طرحته أمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر، وصرّح بالمهد في حديث أبى هريرة.(8/260)
__________
[ () ] وفيه تعقيب على النووي في قوله: إن صاحب الأخدود لم يكن في المهد، والسبب في قوله هذا، ما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد، والبزار، وابن حبان، والحاكم: «لم يتكلم في المهد إلا أربعة» ، فلم يذكر الثالث الّذي هنا، وذكر شاهد يوسف، والصبى الرضيع الّذي قال لأمه- وهي ماشطة بنت فرعون- لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار: «اصبري يا أمه فإنا على الحق» .
وأخرج الحاكم نحوه من حديث أبى هريرة، فيجتمع من هذا خمسة، ووقع ذكر شاهد يوسف أيضا في حديث عمران بن حصين، لكنه موقوف، وروى ابن أبى شيبة من مرسل هلال بن يساف مثل حديث ابن عباس، إلا أنه لم يذكر ابن الماشطة.
وفي صحيح مسلم من حديث صهيب في قصة أصحاب الأخدود «أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمه اصبري فإنك على الحق» .
وزعم الضحاك في تفسيره أن يحيى تكلم في المهد، أخرجه الثعلبي، فإن ثبت صاروا سبعة.
وذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد. وفي (سير الواقدي) أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تكلم أوائل ما ولد، وقد تكلم في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مبارك اليمامة، وقصته في (دلائل النبوة للبيهقي) من حديث معرض- بالضاد المعجمة- واللَّه تعالى أعلى وأعلم (فتح الباري) .
وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع، لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرها واجب قال النووي وغيره: إنما دعت عليه فأجيبت، لأنه كان يمكنه أن يخفف ويجيبها، لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها، كذا قال النووي، وفيه نظر، بسط القول فيه الحافظ في (الفتح) .
وفي الحديث أيضا عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذورا، لكن يختلف الحال فيه بحسب المقاصد.
وفيه الرّفق بالتابع إذا جرى منه ما يقتضي التأديب، لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرّفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة أو القتل.
وفيه أن صاحب الصدق مع اللَّه لا تضره الفتن.
وفيه قوة يقين جريج المذكور وصحة رجائه، لأنه أستنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه.
وفيه أن الأمرين إذا تعارضا بدئ بأهمّهما، وأن اللَّه تعالى يجعل لأوليائهم عند ابتلائهم مخارج، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيبا، وزيادة لهم في الثواب.
وفيه إثبات كرامات الأولياء، ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم.
وفيه جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه قوة على ذلك.
وفيه أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة، وأن المفزع في الأمور المهمة إلى اللَّه يكون بالتوجه(8/261)
وخرّجه الحاكم بسنده، ومتنه،
وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه [ (1) ] .
وخرج أيضا من حديث عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرنا أبو محمد ابن راشد الحمامي، عن أبى هارون العبديّ، عن أبى سعيد الخدريّ [رضى اللَّه عنه] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال له أصحابه: يا رسول اللَّه، أخبرنا عن ليلة أسرى بك فيها، قال: قال اللَّه عزّ وجلّ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [ (2) ] بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، قال: فأخبرهم، قال: بينما أنا قائم عشاء في المسجد الحرام، إذ أتانى آت فأيقظنى، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم عدت في النوم، ثم أيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، [ثم عدت في النوم، ثم أيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا] [ (2) ] .
فإذا أنا بكهيئة خيال، فأتبعته ببصرى حتى خرجت من المسجد، فإذا أنا بدابة أدنى شبيهه بدوا بكم هذه، بغالكم هذه، مضطرب الأذنين، يقال له: البراق، وكانت الأنبياء [صلوات اللَّه عليهم] [ (2) ] تركبه قبلي، يقع حافره مدّ بصره، فركبته.
فبينما أنا أسير عليه، إذ دعاني داع عن يميني: يا محمد، أنظرني
__________
[ () ] إليه بالصلاة.
وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافا لمن زعم ذلك، وإنما الّذي يختص بها الغرة والتحجيل في الآخرة (فتح الباري) ، (مصنف ابن أبى شيبة) : 6/ 342- 343، كتاب الفضائل، باب (7) ما ذكر فيما فضل به عيسى عليه السلام، حديث رقم (31864) ، (مسند أحمد) : 2/ 592- 593، حديث رقم (8010) مسند أبى هريرة رضى اللَّه عنه، (المستدرك) : 2/ 650، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4161) ، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 14/ 411- 413، كتاب التاريخ، باب (5) المعجزات، ذكر خبر ثان يصرح بأن غير الأنبياء قد يوجد لهم أحوال تؤدى إلى المعجزات، حديث رقم (6489) .
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/262)
أسألك، يا محمد، أنظرني أسألك، فلم أجبه، ولم أقم عليه.
فبينما أنا أسير عليه، [إذ دعاني داع عن يسارى: يا محمد! أنظرني أسألك يا محمد أنظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه] .
وبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، وعليها من كل زينة خلقها اللَّه، [فقالت] : يا محمد، أنظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، ولم أقم عليها، حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها به.
فأتانى جبريل عليه السلام بإناءين، أحدهما خمر، والآخر لبن، فشربت اللبن وتركت الخمر، فقال جبريل: أصبت الفطرة، فقلت: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فقال جبريل: ما رأيت في وجهك هذا؟ قال: فقلت: بينما أنا أسير، إذ دعاني داع عن يميني: يا محمد، أنظرني أسألك، فلم أجبه، ولم أقم عليه، قال: ذاك داعي اليهود، أما أنك لو أجبته أو وقفت عليه، [لتهودت] أمتك.
قال: وبينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يسارى، فقال: يا محمد، أنظرني أسألك، فلم ألتفت إليه، ولم أقم عليه، قال: ذاك داعي النصارى، أما أنك لو أجبته لتنصّرت أمتك.
فبينما أنا أسير، إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة خلقها اللَّه، تقول: يا محمد، أنظرني أسألك، فلم أجبها، ولم أقم عليها، قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
قال: ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كله واحد منا ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الّذي تعرج عليه أرواح بنى آدم، فلم ير الخلائق أحسن(8/263)
من المعراج ما رأيتم الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء فإنما يشق بصره طامحا إلى السماء عجبه بالمعراج.
قال: فصعدت أنا وجبريل، فإذا أنا بملك يقال له: إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف ملك. قال: وقال اللَّه عزّ وجلّ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، فاستفتح جبريل باب السماء، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟
قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، فإذا أنا بآدم كهيئة يوم خلقه اللَّه على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين.
ثم مضت هنية، فإذا بأخونة- يعنى بالخوان: المائدة التي يؤكل عليها-، عليها لحم مشرح، ليس يقربها أحد، وإذا بأخونة أخرى، عليها لحم قد أروح ونتن، عندها أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال:
هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام.
ثم مضت هنية، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم، خرّ يقول: اللَّهمّ لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، قال: فتجيء السابلة فتطؤهم، قال: فسمعتهم يضجون إلى اللَّه سبحانه، قلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلوا الربا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ.
قال ثم مضت هنية، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، قال: فتفتح على أفواههم، ويلقمون ذلك الجمر، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى اللَّه عز وجل، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال هؤلاء من(8/264)
أمتك يأكلون أموال اليتامى ظلما إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.
قال: ثم مضت هنية، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن، فسمعتهن [يصحن] إلى اللَّه عزّ وجلّ، قلت: يا جبريل! من هؤلاء النساء؟ قال:
هؤلاء الزناة من أمتك.
قال: ثم مضت هنية، فإذا أنا بأقوام تقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون، فيقال له: كل ما كنت تأكل من لحم أخيك، قلت: يا جبريل! من هؤلاء؟
قال: هؤلاء الهمّازون من أمتك اللمازون.
ثم صعدنا إلى السماء الثانية، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق اللَّه، قد فضّل عن الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلّم عليّ.
ثم صعدت إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بيحيى وعيسى، ومعهما نفر من قومهما، فسلمت عليهما وسلما عليّ.
ثم صعدت إلى السماء الرابعة، فإذا أنا بإدريس، قد رفعه اللَّه مكانا عليا، فسلمت عليه وسلّم عليّ.
ثم صعدت إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون، ونصف لحيته بيضاء، ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرّته من طولها، قلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: هذا المحب في قومه، هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلّم عليّ.
ثم صعدت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى بن عمران، رجل آدم، كثير الشعر، لو كان عليه قميصان، لنفذ شعره دون القميص، وإذا هو(8/265)
يقول: يزعم الناس أنى أكرم على اللَّه من هذا، بل هذا أكرم على اللَّه منى، قال: قلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران، قال:
ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلّم عليّ.
ثم صعدت إلى السماء السابعة، فإذا أنا بأبينا إبراهيم خليل الرحمن ساندا ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال، قلت: يا جبريل! من هذا؟ قال هذا أبوك إبراهيم خليل الرحمن، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلّم عليّ.
وإذا بأمتي شطرين، شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمد، قال: فدخلت البيت المعمور، ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرّمد، وهم على خير، فصليت أنا ومن معى في البيت المعمور، ثم خرجت أنا ومن معى، قال: والبيت المعمور يصلى فيه كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة.
قال: ثم رفعت إلى السدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطى هذه الأمة، وإذا فيها عين تجرى يقال لها: سلسبيل، فينشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: نهر الرحمة، فاغتسلت فيه، فغفر لي، ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
ثم إني دفعت إلى الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟
قالت: لزيد بن حارثة، وإذا أنا بأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمرة لذة للشاربين، وأنهار من عسل وصفى، وإذا رمانها كأنه الدّلاء عظما، وإذا بطير كالبخاتي هذه، فقال عندها صلّى اللَّه عليه وسلّم [وعلى جميع أنبيائه] [ (1) ] : إن اللَّه قد أعدّ لعباده الصالحين ما لا عين رأت،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/266)
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال: ثم عرضت عليّ النار، فإذا فيها غضب اللَّه وزجره ونقمته، لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت دوني.
ثم إني دفعت إلى السدرة المنتهى، فتغشى لي، وكان بين وبينه قاب قوسين أو أدنى، قال: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة، قال: وقال:
فرضت عليّ خمسون صلاة، وقال: لك بكل حسنة عشر، [وإذا] هممت بالحسنة فلم تعملها، كتبت لك حسنة، وإذا عملتها كتبت لك عشرا، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها، لم يكتب عليك شيء، فإن عملتها، كتبت عليك سيئة واحدة.
ثم دفعت إلى موسى فقال: بما أمرك؟ قلت: بخمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، ومتى لا تطيقه تكفر، فرجعت إلى ربى فقلت [يا رب] ، خفف عن أمتى، فإنّها أضعف الأمم فوضع عنى عشرا، وجعلها أربعين، فما زلت اختلف بين موسى وربى، [كلما] أتيت عليه، قال لي مثل مقالته، حتى رجعت إليه فقال لي: بما أمرت؟ قلت: أمرت بعشر صلوات، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف عن أمتك فرجعت إلى ربى فقلت: أي ربّ، خفّف عن أمتى، فإنّها أضعف الأمم، فوضع عنى خمسا، وجعلها خمسا، فناداني ملك عندها: تمت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها.
ثم رجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: بخمس صلوات، قال:
ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فإنه لا يؤوده شيء، فسله التخفيف لأمتك، فقلت: رجعت إلى ربى حتى [استحييته] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(8/267)
ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب، إني رأيت البارحة بيت المقدس، وعرج بى إلى السماء، ورأيت كذا، ورأيت كذا، فقال أبو جهل بن هشام:
ألا تعجبون مما يقول محمد، يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس، ثم أصبح فينا! وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرا، ومنقلبة شهرا، فهذا مسيرة شهرين في ليلة واحدة، قال: فأخبرهم [بعير] لقريش لما كان في مصعدى، رأيتها في مكان كذا وكذا، وأنها نفرت، فلما رجعت رأيتها عند العقبة، وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا، ومتاعه كذا وكذا، فقال أبو جهل:
يخبرنا بأشياء؟ فقال رجل من المشركين: أنا أعلم الناس ببيت المقدس، وكيف بناؤه، وكيف هيئته، وكيف قربه من الجبل، فإن يكن محمد صادقا فسأخبركم، وإن يكن كاذبا فسأخبركم، فجاءه ذلك المشرك فقال:
يا محمد! أنا أعلم الناس ببيت المقدس، فأخبرني كيف بناؤه، وكيف هيئته، وكيف قربه من الجبل.
قال: فرفع لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيت المقدس من مقعده، فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته، فقال: بناؤه كذا وكذا، وهيئته كذا وكذا، وقربه من الجبل كذا وكذا، فقال الآخر: صدقت، فرجع إلى أصحابه فقال: صدق محمد فيما قال، أو نحو هذا من هذا الكلام [ (1) ] .
وخرّج البيهقي أيضا من حديث عيسى بن ماهان، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قال: أتى بفرس فحمل عليه، قال: كل خطوة منتهى أقصى بصره، فسار وسار معه جبريل عليه السلام.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 392 وما بعدها.(8/268)
فأتى على قوم [ (1) ] يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون في سبيل اللَّه، يضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، لا يفتّر عنهم من ذلك شيئا، فقال: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال:
هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة.
ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام عن الضريع، والزقوم، ورضف جهنم، وحجارتها، قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم اللَّه، وما اللَّه بظلام للعبيد.
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضج طيب، ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون من الخبيث ويدعون النضج الطيب، فقال: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هذا الّذي يقوم وعنده امرأة حلالا طيبا، فيأتى المرأة الخبيثة، فتبيت معه حتى يصبح.
ثم أتى على خشبة على الطريق، لا يمر بها شيء إلا قصعته، يقول اللَّه عزّ وجلّ: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ [صِراطٍ] تُوعِدُونَ [ (2) ] .
ثم مرّ على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك، عليه أمانة لا يستطيع أداءها، وهو يزيد عليها.
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما
__________
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «فأتى قوم» وما أثبتناه من (الأصلين) .
[ (2) ] الأعراف: 86.(8/269)
قرضت عادت كما كانت، ولا يفتّر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم أتى على حجر صغير، يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج، ولا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها، فيريد أن يردّها ولا يستطيع.
ثم أتى على واد، فوجد فيه ريحا باردة طيبة، ووجد ريح المسك، وسمع صوتا، فقال: يا جبريل! ما هذه الريح الباردة الطيبة؟ وريح المسك؟ وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: يا رب ائتني بأهلى وبما وعدتني، فقد كثر عرفي، وحريرى، وسندسى، وإستبرقى، وعبقري، ولؤلؤى، ومرجانى، وفضتى، وذهبي، وأباريقى، وفواكهى، وعسلى، وخمرى، ولبني، فائتني بما وعدتني، فقال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بى وبرسلي، وعمل صالحا، ولم يشرك بى شيئا، ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشينى أمنته، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضنى جزيته، ومن توكل على كفيته، وأنا اللَّه لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [ (1) ] قالت: قد رضيت.
__________
[ (1) ] المؤمنون: 1- 14.(8/270)
ثم أتى على واد، فسمع صوتا منكرا، قال: يا جبريل! ما هذا الصوت؟
قال: هذا صوت جهنم، يقول: ائتني بأهلى وما وعدتني، فقد كثر سلاسلى، وأغلالى، وسعيرى، وزقومى، وحميمي، وحجارتى، وغسّاقى، وغسلينى، وقد بعد قعرى، واشتد حرى، فائتنى بما وعدتني، فقال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت.
قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت قالوا: يا جبريل! من هذا معك؟
قال: محمد رسول اللَّه وخاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه اللَّه من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء.
قال: ثم أتى أرواح الأنبياء، فأثنوا على ربهم، قال فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد اللَّه الّذي اتخذ إبراهيم خليلا، وأعطانى ملكا عظيما، وجعلني أمة قانتا [للَّه] [ (1) ] يؤتم بى، وأنقذنى من النار، وجعلها عليّ بردا وسلاما.
قال: ثم إن موسى أثنى على ربه فقال: الحمد للَّه الّذي كلمني تكليما، واصطفاني برسالته وكلماته، وقربني إليه نجيا، وأنزل عليّ التوراة، وجعل هلاك آل فرعون على يدي، ونجى بنى إسرائيل على يدي.
قال: ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد للَّه الّذي خوّلني ملكا، وأنزل عليّ الزبور، وألان لي الحديد، وسخّر لي الطير، والجبال، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد للَّه الّذي سخر لي الرياح، والجن، والإنس، وسخر لي الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب
__________
[ (1) ] زيادات للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/271)
وتماثيل، وجفان كالجواب، وقدور راسيات ... وعلمني منطق الطير، وكل شيء، وأسال لي عين القطر، وأعطانى ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.
ثم إن عيسى أثنى على ربه فقال: الحمد للَّه الّذي علمني التوراة والإنجيل [و] جعلني أبرئ الأكمه والأبرص، وأحى الموتى بإذنه، ورفعني وطهرني من الذين كفروا، وأعاذنى وأمى من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليها سبيل.
ثم إن محمدا أثنى على ربه فقال: كلكم قد أثنى على ربه، وإني مثن على ربى، فقال: الحمد للَّه الّذي أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليّ الفرقان فيه تبيانا لكل شيء، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون، وهم الآخرون، وشرح صدري، ووضع عنى وزري، ورفع لي ذكرى، وجعلني فاتحا وخاتما. فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال: ثم أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتى بإناء منها فيه ماء، فقيل له: اشرب، فشرب منه يسيرا، ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن، فشرب منه حتى روى، ثم رفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقال: قد رويت لا أريده، فقيل له: قد أصبت، أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل. قال ثم صعد به إلى السماء.. فذكر الحديث بنحو ما رويناه بالأسانيد الثابتة إلى أن قال:
ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟
قال: محمد، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه اللَّه من أخ وخليفة، فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء.
فدخل فإذا برجل أشمط، جالس على كرسي عند باب الجنة، وعنده قوم بيض الوجوه، وقوم سود الوجوه، وفي ألوانهم شيء، فأتوا نهرا، فاغتسلوا(8/272)
فيه، فخرجوا منه، وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم إنهم أتوا نهرا آخر، فاغتسلوا فيه، فخرجوا [وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا النهر الثالث، فخرجوا] وقد خلصت [من] [ (1) ] ألوانهم مثل ألوان أصحابهم، فجلسوا إلى أصحابهم.
فقال: يا جبريل! من هؤلاء بيض الوجوه؟ وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فدخلوا النهر [فخرجوا] [ (1) ] وقد خلصت ألوانهم؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم، هو أول رجل شمط على وجه الأرض، وهؤلاء بيض الوجوه، قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، خلطوا عملا صالحا، وآخر سيئا، فتابوا فتاب اللَّه عليهم، فأما النهر الأول، فرحمة اللَّه، وأما النهر الثاني، فنعمة اللَّه، وأما النهر الثالث، فسقاهم ربهم شرابا طهورا ثم انتهى إلى السدرة [المنتهى] [ (1) ] ، فقيل لي: هذه السدرة، إليها منتهى كل أحد من أمتك، يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، قال: وهي شجرة يسير الراكب في أصلها عاما لا يقطعها، وأن الورقة منها مغطية الخلق.
قال: فغشيها نور الخالق، وغشيتها الملائكة، فكلمه ربه عند ذلك، قال له: سل، قال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما، وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له [الجبال] [ (2) ] والجن والإنس، وسخرت له الشياطين والرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ
__________
[ (1، 2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/273)
الأكمه والأبرص، ويحى الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان فلم يكن له عليهما سبيل.
فقال له ربه: قد اتخذتك خليلا، قال: وهو مكتوب في التوراة خليل الرحمن، وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى- يعنى بذلك الأذان- وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك [أمة وسطا] وجعلت أمتك هم الأولون، وهم الآخرون وجعلت من أمتك أقواما قلوبهن أنا جيلهم، وجعلت أمتك لا تجوز عليهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقا، وآخرهم مبعثا، وآتيتك سبعا من المثاني، لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم أعطها نبيا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما.
قال: وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فضلني ربى، أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وألقى في قلب عدوى الرعب [من] [ (1) ] مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت الأرض كلها لي مسجدا وطهورا، وأعطيت فواتح الكلام، وخواتمه، وجوامعه، وعرضت عليّ أمتى، فلم يخف عليّ التابع والمتبوع.
ورأيتهم أتوا على قوم ينتعلون الشّعر، ورأيتهم أتوا على قوم عراض الوجوه، صغار الأعين، كأنما خزمت أعينهم بالمخيط، فلم يخف عليّ ما هم لاقون من بعدي، وأمرت بخمسين صلاة، فرجعت إلى موسى.. فذكر الحديث بمعنى ما روينا في الأسانيد الثابتة، غير أنه قال في آخره: قال:
فقيل له: اصبر على خمس، فإنّهم يجزين عنك بخمس، كل خمس بعشر أمثالها، قال: فكان موسى أشدّ عليهم حين مرّ به، وخيرهم حين رجع
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(8/274)
إليه [ (1) ] .
قال كاتبه [عفى اللَّه عنه] : هكذا ساق البيهقي هذا الحديث كما أردته، وأن الوضع لائح عليه، ولولا أن الأئمة روته لما ذكرته.
قال البيهقي: وقد روى في المعراج أحاديث أخر: منها حديث أبى حذيفة، إسحاق بن بشر، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] [ (2) ] ، وجوير عن الضحّاك، عن ابن عباس. وإسحاق بن بشير متروك، لا [يفرح] [ (3) ] بما ينفرد به [ (4) ] .
ومنها حديث إسماعيل بن موسى القواريري عن عمر بن سعد المصري، من بنى نصر بن قعين، قال: حدثني عبد العزيز، وليث بن أبى سليم، وسليمان الأعمش، وعطاء بن السائب- بعضهم يزيد في الحديث على بعض- عن على بن أبى طالب، وعن عبد اللَّه بن عباس، ومحمد بن إسحاق بن يسار، عن من حدثه عن ابن عباس، وعن سليم- أو سلم- العقيلي، عن عامر الشعبي، عن عبد اللَّه بن مسعود، وجويبر، عن الضحاك ابن مزاحم، قالوا: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت أم هانئ راقدا، وقد صلّى العشاء الآخرة ... فذكر حديثا طويلا، يذكر فيه عدد الدرج [ (5) ] والملائكة، وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة اللَّه [تعالى] [ (6) ] ، إن صحت الرواية، [قال: وذلك حديث [راويه] مجهول، وإسناده منقطع] [ (7) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 397- 403.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 404.
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «عدد الروح» وما أثبتناه من الأصلين وهو الأصوب، ولعلها درج الجنة.
[ (6) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين ليس في (المرجع السابق) ، وهو في الأصلين فقط.(8/275)
وخرج النسائي من حديث سعيد بن عبد العزيز، قال: حدثنا يزيد بن أبى مالك، حدثنا أنس بن مالك [رضى اللَّه عنه] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها عند منتهى طرفها، فركبت، ومعى جبريل عليه السلام، فسرت، فقال: انزل فصلّ، ففعلت، فقال:
أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة، وإليها المهاجر.
ثم قال: انزل فصلّ، فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء، حيث كلم اللَّه عز وجل موسى عليه السلام.
ثم قال: انزل فصلّ، فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى عليه السلام.
ثم دخل بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني جبريل حتى أممتهم.
ثم صعد بى إلى السماء الدنيا، فإذا فيها آدم [عليه السلام] ثم صعد بى إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة، عيسى ويحى [عليهما السلام] ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فإذا فيها يوسف [عليه السلام] ثم صعد بى إلى السماء الرابعة، فإذا فيها هارون [عليه السلام] ثم صعد بى إلى السماء الخامسة، فإذا فيها إدريس [عليه السلام] ثم صعد بى إلى السماء السادسة، فإذا فيها موسى [عليه السلام] ثم صعد إلى السماء السابعة، فإذا فيها [إبراهيم] ، عليه وعليهم السلام.
ثم صعد بى فوق سبع سماوات، فأتينا سدرة المنتهى، فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فقيل لي: [إني] يوم خلقت السموات والأرض، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك.(8/276)
فرجعت إلى إبراهيم، فلم يسألنى عن شيء، ثم أتيت على موسى، فقال: كم فرض [اللَّه] [ (1) ] عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال:
فإنك لا تستطيع أن تقوم بها أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك [فاسأله] التخفيف، فرجعت إلى ربى، فخفف عنى عشرا، ثم أتيت موسى، فأمرنى بالرجوع، فرجعت فخفف عنى عشرا، ثم ردّت إلى خمس صلوات، قال:
فارجع إلى ربك، [فاسأله] التخفيف، فإنه فرض على بنى إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما، فرجعت إلى ربى [عز وجل] [ (1) ] فسألته التخفيف. فقال:
إني يوم خلقت السموات والأرض، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أنها من اللَّه [تبارك وتعالى] [ (1) ] صرّى، فرجعت إلى موسى [عليه السلام] [ (1) ] فقال: ارجع، فعرفت أنها من اللَّه صرّى [ (2) ] : [أي حتم] ، فلم أرجع [ (3) ] .
وخرج أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، في أول تاريخه [ (4) ] ، من حديث أبى نعيم عمر بن صبح، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، [فذكر] حديثا طويلا فيه: أن اللَّه تعالى خلق مدينتين، [إحداهما] بالمشرق، والأخرى بالمغرب، أهل المدينتين جميعا من ولد آدم، فالمدينة التي بالمشرق، من بقايا عاد، من نسل مؤمنيهم، وأهل التي بالمغرب، من بقايا ثمود، من نسل الذين آمنوا بصالح.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن النسائي) .
[ (2) ] صرّى: بكسر الصاد المهملة وفتح الراء المشددة آخرها ألف مقصورة، أي عزيمة باقية لا تقبل النسخ.
(حاشية السندي) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 1/ 241- 242، كتاب الصلاة باب (1) فرض الصلاة، حديث رقم (449) .
[ (4) ] (تاريخ الطبري) : 1/ 69 وما بعدها.(8/277)
[و] اسم التي بالمشرق بالسريانية: قرقيسيا، وبالعربية جابلق [ (1) ] ، واسم التي بالمغرب بالسريانية: برجيسيا، وبالعربية: جابرس [ (2) ] ، ولكل مدينة
__________
[ (1) ] جابلق بالباء الموحدة المفتوحة وسكون اللام، روى أبو روح، عن الضحاك، عن ابن عباس. أن جابلق مدينة بأقصى المغرب، وأهلها من ولد عاد، أهل جابرس من ولد ثمود، ففي كل واحدة منهما بقايا ولد موسى عليه السلام، كل واحدة من الأمتين.
ولما بايع الحسن بن عليّ بن أبى طالب معاوية، قال عمرو بن العاص لمعاوية: قد اجتمع أهل الشام والعراق، فلو أمرت الحسن أن يخطب، فلعله يحصر، فيسقط من أعين الناس، فقال: يا ابن أخى، لو صعدت، وخطبت، وأخبرت الناس بالصلح، قال: فصعد المنبر، وقال بعد حمد اللَّه، والصلاة على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيها الناس، إنكم لو نظرتم ما بين جابرس وجابلق، ما وجدتم ابن نبي غيري وغير أخى، وإني رأيت أن أصلح بين أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكنت أحقهم بذلك، ألا إنا بايعنا معاوية، وجعل يقول: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ (لَكُمْ) وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، فجعل معاوية يقول: انزل، انزل. (معجم البلدان) :
2/ 105- 106، موضع رقم (2868) .
[ (2) ] جابرس: مدينة بأقصى المشرق، يقول اليهود: إن أولاد موسى عليه السلام هربوا، إما في حرب طالوت، أو في حرب بخت نصّر، فسيرهم اللَّه، وأنزلهم بهذا الموضع، فلا يصل إليهم أحد، وإنهم بقايا المسلمين، وإن الأرض طويت لهم، وجعل الليل والنهار عليهم سواء، حتى انتهوا إلى جابرس، فهم سكانها، ولا يحصى عددهم إلا اللَّه، فإذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه، وقالوا: لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك، فيستحلون دمه بذلك.
وذكر غير اليهود أنهم بقايا المؤمنين من ثمود، وبجابلق بقايا المؤمنين من ولد عاد (المرجع السابق) : 2/ 105، موضع رقم (2865) .
وذكر القزويني في ترجمة جابرس هذه حديثا عن ابن عباس، - اللَّه أعلم بصحته- عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة أسرى به قال لجبريل عليه السلام: إني أحب أن أرى القوم الذين قال اللَّه تعالى فيهم: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، فقال جبريل عليه السلام: بينك وبينهم مسيرة ست سنين ذهابا، وست سنين راجعا، وبينك وبينهم نهر من رمل يجرى كجرى السهم، لا يقف إلا يوم السبت، لكن سل ربك، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمّن جبريل عليه السلام، فأوحى اللَّه تعالى إلى جبريل عليه السلام، أن أجبه ما سأل، فركب البراق، وخطا خطوات، فإذا هو بين أظهر القوم، فسلم عليهم، فسألوه: من أنت؟ فقال: أنا النبي الأمي! فقالوا: نعم، أنت الّذي بشر بك موسى، عليه السلام، وإن أمتك لولا ذنوبها لصافحتها الملائكة.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأيت قبورهم على باب دورهم، فقلت لهم: لم ذاك؟ قالوا: لنذكر الموت صباحا ومساء، وإن لم نفعل ذلك ما نذكر إلا وقتا بعد وقت(8/278)
منها عشرة آلاف باب، ما بين كل باب [منهما] فرسخ، يئوب كل يوم على كل باب من أبواب هاتين المدينتين عشرة آلاف رجل من الحراس، عليهم السلاح، ثم لا تنوبهم الحراسة عد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فو الّذي نفس محمد بيده، لولا كثرة هؤلاء القوم، وضجيج أصواتهم يسمع الناس من جميع أهل الدنيا، هذه وقعة الشمس حين تطلع، وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاث أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج ومأجوج.
وإن جبريل انطلق بى إليهم ليلة أسرى بى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فدعوت يأجوج ومأجوج إلى [عبادة] اللَّه، فأبوا أن يجيبوني، ثم انطلق بى إلى أهل المدينتين، فدعوتهم إلى دين اللَّه وعبادته، فأجابوا وأنابوا، فهم في الدين من أحسن منهم، فهو مع محسنكم، ومن أساء منهم، فأولئك مع المسيئين منكم.
ثم انطلق بى إلى الأمم الثلاثة، فدعوتهم إلى دين اللَّه وإلى عبادته، فأنكروا ما دعوتهم إليه، وكفروا باللَّه، وكذبوا رسله، فهم مع يأجوج ومأجوج، وسائر من عصى اللَّه في النار.
. وذكر الحديث بطوله [ (1) ] .
وعمر بن الصبح بن عمران أبو نعيم التيمي- ويقال: العدوي الخراساني السمرقندي- يروى عن أبان بن أبى عياش، وقتادة، [والأوزاعي] وطائفة، وعنه مخلد بن يزيد الحراني، وعيسى غنجار، ومحمد بن حميد الحمصي، وآخرون، وهو [متهم] .
قال البخاري: حدثنا على بن جرير قال: سمعت عمر بن الصبح يقول:
أنا وضعت خطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال إسحاق بن راهويه: أخرجت خراسان
__________
[ () ] فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما لي لا أرى بنيانكم مستويا؟ قالوا: لئلا يشرف بعضنا على بعض، ثم ذكر الحديث بطوله. (المرجع السابق) : ص 105 هامش، نقلا عن (آثار البلاد) : 27.
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 2/ 69 وما بعدها.(8/279)
ثلاثة، لم يكن [لهم في الدنيا] نظير- يعنى في البدعة والكذب- جهم ابن صفوان، وعمر بن صبح، ومقاتل بن سليمان. وقال [ابن] عدي: منكر الحديث، وعامة ما يرويه غير محفوظ، لا متنا، ولا إسنادا. وقال الدارقطنيّ:
متروك، له في ابن ماجة حديث في الجهاد [ (1) ] .
وخرّج أبو نعيم من حديث الواقدي، قال مالك بن أبى الرجال، عن عمر ابن عبد اللَّه، عن محمد بن كعب، أن أبا سفيان قال [لقيصر] في آخر القصة أيها الملك، ألا أخبرك عنه خبرا، تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟
قلت: إنه يزعم أنه خرج من أرضنا- أرض الحرم- في ليلة، فجاء مسجدكم هذا- مسجد إيليا- ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح، قال: وبطريق إيليا عند رأس قيصر، فقال بطريق إيليا، عند رأس قيصر، فقال: بطريق إيليا، قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر إليه قيصر، فقال: وما علمك بهذا؟
قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كنت تلك الليلة، أغلقت الأبواب كلها، غير باب واحد، فاستعييت عليه عمالى، ومن يحضرني كلهم علاجه، فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول جبلا، فدعوت النجاجرة، فنظروا إليه، فقالوا: هذا باب سقط عليه النحاف والبنيان، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فننظر من أين أتى.
قال: فرجعت وتركت الناس مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما، فإذا الحجر الّذي في زاوية المسجد منقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة، قال:
قلت لأصحابى: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلّى الليلة في مسجدنا [نبي] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 7/ 407- 408، ترجمة رقم (722) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وحديثه في (سنن ابن ماجة) في كتاب الجهاد، باب رقم (7) فضل الرّباط في سبيل اللَّه، حديث رقم (2766) .(8/280)
قال أبو نعيم: حدّث أبو عبد اللَّه الجرشى، [حدثنا] يونس من أرقم الكندي، [قال] أخبرنا سعيد بن دينار، عن أبى الجارود زياد بن المنذر، عن أبى العلاء، قال: قلت لمحمد بن الحنفية: إنا نتحدث أن [بدء] هذا الأذان إنما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، [قال:] ففزع لذلك فزعا شديدا وقال: عمدتم إلى أجسم دينكم، فزعمتم أنه كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه.
قال: قلت: هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا واللَّه هو الباطل، قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما عرج به إلى السماء، فانتهى إلى مكان من السماء، وقف به، وبعث اللَّه ملكا، فقام من السماء مقاما، ما قامه قبل ذلك، قيل له: علمه الأذان، فقال الملك: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فقال اللَّه:
صدق عبدي، أنا اللَّه الأكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال اللَّه: صدق عبدي، أنا أرسلته، وأنا اخترته، وأنا ائتمنته، فقال الملك: حي على الصلاة، فقال اللَّه: صدق عبدي، ودعا إلى فريضتي وحقي، فمن أتاها محتسبا لها، كانت كفارة لكل ذنب.
فقال الملك: حي على الفلاح، قال اللَّه: صدق عبدي، هي الفلاح، وهي النجاح، فقال الملك: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال اللَّه: صدق عبدي، أنا أقمت فريضتها، وعدتها، ومواقيتها. ثم قيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
تقدم، فتقدم، فأم أهل السماء، فتم له شرفه على سائر الخلق.
وخرّج الإمام أحمد من حديث حماد، عن على بن زيد، عن أبى الصلت، عن أبى هريرة [رضى اللَّه عنه] قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت ليلة أسرى بى، لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوق-[قال عفان:
فوقى]-[ (1) ] ، فإذا أنا برعد، وبرق، وصواعق، [قال] [ (1) ] فأتيت على قوم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مسند أحمد) .(8/281)
بطونهم كالبيوت، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الرّبا، فلما [نزلت] إلى السماء الدنيا، نظرت أسفل منى، فإذا أنا برهج ودخان وأصوات، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال:
هذه الشياطين [يوحون] على أعين بنى آدم، أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب] [ (1) ] .
وروى ابن ماجة منه، قصته آكل الربا] [ (2) ] .
وذكر أبو القاسم، الحسن بن محمد بن حبيب المفسر، في كتاب (التنزيل) في الآيات السّفرية، قال: وأنزل بيت المقدس، وقوله تعالى في الزخرف: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ (3) ] نزلت عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسرى به، وقد عدّها غير ابن حبيب في الشامي، والأول أحسن مما ذكره.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 3/ 33، حديث رقم (8426) ، من مسند أبى هريرة، ونحوه بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير حديث رقم (8539) .
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 762، كتاب التجارات، باب (58) التغليظ في الربا، حديث رقم (2273) ، قال في (مجمع الزوائد) : في إسناده على بن زيد بن جدعان. وهو ضعيف.
[ (3) ] الزخرف: 45.
قال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة اللَّه وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله جلت عظمته: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ. قال مجاهد في قراءة عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه واسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا، وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي وابن مسعود رضى اللَّه عنه، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة واللَّه أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد أسلم: وأسألهم ليلة الإسراء فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا له، واختار ابن جرير الأول واللَّه أعلم. (تفسير ابن كثير) : 4/ 139، وما بين الحاصرتين سقط من (ج) وأثبتناه من (خ) .(8/282)
فصل جامع في معراج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال اللَّه جلّ جلاله: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [ (1) ] .
قوله: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، قسم، هوى، سقط، ما ضَلَّ، ما حاد عن الصواب، صاحِبُكُمْ، هو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وَما غَوى ما تعلم بالباطل، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، أي وما يتقول من هواه وشهوته، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما القرآن إلا وحي من اللَّه يوحى إليه.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، أي جبريل، ذو شدة وقوة، ذُو مِرَّةٍ، أي ذو إحكام للشيء، فَاسْتَوى، يعنى جبريل، وهو يعنى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، أي أيهما استويا بالأفق الأعلى ليلة الإسراء، وقيل: استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى، على صورته التي خلقه اللَّه عليها، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، أي تدلى [فدنا] ، لأن التدلي سبب الدنوّ، وقيل: تدلى [للدنو] ، ودنا [للتدلى] ، وقيل: دنا، أي قرب، فتدلى، زاد في القرب.
والمشار إليه، قيل: هو اللَّه، كما في الصحيح، من حديث أنس [رضى
__________
[ (1) ] النجم (1- 18) .(8/283)
اللَّه تعالى عنه] قال: دنا الجبار ربّ العزة، فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. وهو اختيار مقاتل، ورواه أبو سلمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] .
وقيل: المشار إليه، هو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، دنا من ربه تعالى، قاله ابن عباس [والقرطبي] وقيل: ثم دنا محمد من ساق العرش، فتدلى، أي جاوز الحجاب والسرادقات، وهو قائم بإذن اللَّه، كالمتعلق بالشيء، لا تثبت قدمه على مكان، وهذا قول الحسين [بن] الفضل، وقيل: تدلى، [أي] هوى للسجود.
وقيل: المشار إليه، هو جبريل عليه السلام، أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، حين كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق، فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مغشيا عليه، فنزل جبريل وتدلى [إليه] ، حتى قرب لإلقاء الوحي، فكان قربه منه قاب قوسين، أي لم يماسه، وهذا قول الحسن وقتادة.
وقيل: دنا جبريل ليلة الإسراء من [النبي] صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتدلى أي دنا، فإنّ دنا وتدلى بمعنى واحد، وقيل: دنا جبريل من ربه تعالى، [فكان] منه قاب قوسين أو أدنى. قاله مجاهد، والقاب، قيل: هو القدر، وقيل: ما بين مقبض القوس والسّية، ولكل قوس قابان، وسية القوس: ما انعطف من طرفها، يعنى قدر طول قوسين. قاله قتادة.
وقيل: بحيث الوتر من القوس. قاله مجاهد، وقيل: هو من مقبض القوس إلى طرفيها. قاله عبد الوارث، وقيل: ما بين الوتر إلى كبد القوس.
قاله عكرمة، وقيل: كان بينهما، أي بين محمد وجبريل عليهما السلام، قدر ذراعين. قاله عبد اللَّه بن مسعود، وسعيد بن جبير، والسّدى أَوْ أَدْنى أي أقرب.(8/284)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
أي أوحى اللَّه إلى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم كفاحا ليلة المعراج، وقيل: أوحى جبريل إلى محمد ما أوحى اللَّه إليه. رواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: أوحى اللَّه إلى جبريل ما يوحيه. روى ذلك عن عائشة، والحسن، وقتادة.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى يعنى ما أنكر فؤاده ما رأته عيناه، وقيل: ما أوهمه فؤاده أنه رأى ولم ير، بل صدقه الفؤاد، وهذا إخبار عن رؤية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه تعالى. قاله ابن عباس، وأنس، والحسن، وعكرمة.
قال ابن عباس: رآه تعالى بفؤاده، ولم يره بعينه، وعن أنس، وعكرمة، والحسن، أنه رآه بعينه، وقال السّدى: رآه في المنام، وعن أبى العالية، أنه رأى جلال اللَّه وعظمته، وعن أبى ذرّ، وأبى سعيد الخدريّ، ومجاهد، أنه رأى نورا، وعن ابن مسعود، وعائشة رضى اللَّه عنها، أنه رأى جبريل على صورته التي خلق عليها.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟ أي أفتجحدونه؟ قاله أبو عبيدة، وعن المبرّد، أفتدفعونه عما يرى؟ وقيل: أفتجادلونه وتدافعونه؟
لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، يعنى رأى محمد ربّه عزّ وجل، في قول ابن عباس وكعب، وقيل: رأى جبريل مرة أخرى، فسماها نزلة على الاستعارة، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى جبريل على صورته التي خلق عليها مرتين:
مرة بالأفق، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء. وهذا قول عائشة وغيرها، اختاره الثعلبي.
وقال الواحدي: معنى [قوله:] نَزْلَةً أُخْرى: يعود إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقد كانت له عرجات في تلك الليلة، لاستحطاط عدد الصلوات، فكل عرجة نزلة عند سدرة المنتهى، ففي حديث مالك بن صعصعة- المتقدم(8/285)
ذكره- أنها فوق السماء السابعة، وقال مقاتل: هي عن يمين العرش، وتقدم في حديث مسلم، أنها في السماء السادسة، وبه قال الضحاك.
وعن هلال بن يساف: سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر، فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش، على رءوس حملة العرش، إليها ينتهى علم الخلائق، وعن مقاتل: هي طوبى التي ذكرها اللَّه في سورة الرعد [وهي قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ] .
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، أي عند سدرة المنتهى، [قال مجاهد: سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قال: أقصى الدنيا، وأدنى الآخرة، وعندها يجتمع الليل والنهار، وقال زهير بن محمد: المنتهى، قد انتهى علم الخلائق دونها] [ (1) ] .
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، ففي حديث مسلم قال: غشيها فراش من ذهب، وفي حديث مالك بن صعصعة قال: لما غشيها من أمر اللَّه ما غشيها، تغيرت، فما أحد من خلق اللَّه يستطيع أن يصفها من حسنها، وعن الحسن ومقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان، حيث يقعن على الشجر، وعن الضحاك: غشيها نور العزة جل جلاله.
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، أي بصر محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا زاد ولا جاوز ما أمر بالنظر إليه، وعن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] : ما مال بصره عن رؤية الآيات خوفا وجزعا، بل قوى على النظر في الآيات.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، أي رأى من آيات ربه الآية الكبرى، يعنى أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق. قاله ابن مسعود، وقيل
__________
[ (1) ] زيادة للسياق، الرعد: 29.(8/286)
أنه رأى جبريل عليه السلام، في صورته التي يكون عليها في السموات.
قاله ابن زيد، وابن عباس، في رواية أبى صالح ومقاتل بن حيان.
وقيل: رأى سدرة المنتهى. قاله الضحاك، وقيل: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب. قاله عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه، وقيل: رأى [المعراج] وما مرّ به في مسراه وعوده. قاله محمد بن جرير الطبري، وقيل: ما رآه حين نامت عيناه ونظر فؤاده. وهذا قول حكى عن الضحاك، وقيل من التبعيض، أي رأى بعض الآيات، وقيل: هي زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى، وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي رأى الكبرى من آيات ربه عزّ وجلّ.
[و] خرّج مسلم من حديث سليمان بن فيروز الشيباني، قال: سألت زرّ بن حبيش عن قول اللَّه تبارك وتعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، قال: أخبرنى ابن مسعود أن النبي رأى جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح [ (1) ] .
وخرجه البخاري، ولفظه، قال: سألت زرا عن قوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: أخبرنا عبد اللَّه، أنه محمد رأى جبريل له ست مائة جناح. ذكره في كتاب التفسير [ (2) ] ، وفي كتاب بدء الخلق [ (3) ] ، وخرجه النسائي أيضا.
ولمسلم عن الشيباني عن زر، عن عبد اللَّه ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى،
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 6، كتاب الإيمان باب (76) في ذكر سدرة المنتهى حديث رقم (280) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 784، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، حديث رقم (4856) ، (4857) ، وفي باب فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 385، كتاب بدء الخلق، باب (7) إذا قال أحدكم: آمين، حديث رقم 3232.(8/287)
قال: رأى جبريل عليه السلام، له ست مائة جناح [ (1) ] .
وفي حديث آخر له، عن سليمان الشيباني، سمع زر بن حبيش، عن عبد اللَّه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، قال رأى جبريل في صورته، له ست مائة جناح [ (2) ] . وذكره النسائي.
وللبخاريّ من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق [ (3) ] . ذكره في التفسير. وفي كتاب بدء الخلق، ولفظه: رأى رفرفا خضرا سدّ أفق السماء [ (4) ] .
ولمسلم من حديث عطاء، عن أبى هريرة، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قال:
رأى جبريل [عليه السلام] [ (5) ] .
وله أيضا عن عطاء، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: رآه بقلبه [ (6) ] . ولمسلم والنسائي من حديث الأعمش، عن زياد بن الحصين أبى جهمة، عن أبى العالية، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، ما كَذَبَ
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 6، كتاب الإيمان، باب (76) في ذكر سدرة المنتهى، حديث رقم (281) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (282) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 8/ 786، كتاب التفسير، تفسير سورة (53) ، باب لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، حديث رقم (4858) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 385، كتاب بدء الحلق، باب (7) إذا قال أحدكم: آمين، حديث رقم (3233) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 7، كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء؟ حديث رقم (283) .
[ (6) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (284) .(8/288)
الْفُؤادُ ما رَأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، قال رآه بفؤاده مرتين [ (1) ] .
وللبخاريّ من حديث ابن عون، قال: أنبأنا القاسم عن عائشة رضى عنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم [الفرية] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق [ (2) ] . ذكره في بدء الخلق.
وللبخاريّ [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث زكريا، عن أبى الأشوع، عن عامر، عن مسروق قال: قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: فأين قوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى؟ [ (5) ] قالت: ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجل وإنما أتاه هذه المرة، في صورته التي هي صورته، فسدّ الأفق. ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق.
ولمسلم [ (6) ] [والترمذي] [ (7) ] ، من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة رضى اللَّه عنها، فقالت: [يا أبا] عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على اللَّه الفرية، فقلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمد
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (285) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 385، كتاب بدء الخلق، باب (7) إذا قال أحدكم: آمين حديث رقم (3234) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (3235) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 14، كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء؟ حديث رقم (290) .
[ (5) ] النجم. 9
[ (6) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 10- 12، كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم (287) .
[ (7) ] (سنن الترمذي) : 5/ 245- 246، كتاب التفسير، باب (7) ومن سورة الأنعام، حديث رقم (3068) وفي آخره، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ومسروق بن الأجدع يكنى أبا عائشة، وهو مسروق بن عبد الرحمن، وكذا كان اسمه في الديوان.(8/289)
رأى ربه، فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت:
[يا أم] المؤمنين! أنظريني، ولا تعجلينى، ألم يقل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ؟ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى؟ فقالت: إنا أول هذه الأمة،
سأل عن ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها، غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض،
فقالت: أو لم تسمع أن اللَّه عزّ وجل يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ (1) ] ؟ أو لم تسمع أن اللَّه عزّ وجلّ يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [ (2) ] ؟.
قالت: ومن زعم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتم شيئا من كتاب اللَّه، فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه عزّ وجلّ يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [ (3) ] .
قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه عزّ وجلّ يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [ (4) ] . اللفظ لمسلم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ذكره في تفسير سورة الأنعام، وذكره النسائي في تفسير [سورة] النجم.
وذكر مسلم [ (5) ] بعقبه، حديث محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود بهذا الإسناد نحو حديث ابن علية، وزاد، قالت: ولو
__________
[ (1) ] الأنعام: 103.
[ (2) ] الشورى: 51.
[ (3) ] المائدة: 67.
[ (4) ] النحل: 65.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 3/ 13- 14، كتاب (الإيمان) ، باب (77) معنى قول اللَّه عز وجلّ:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم (288) .(8/290)
كان محمد كاتما شيئا مما أنزل عليه، لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [ (1) ] .
وخرّجه النسائي بهذا الإسناد الأخير في كتاب التفسير كما قال مسلم، وخرّج أيضا من حديث ابن عليه، عن الشعبي، عن مسروق، قال: سألت عائشة رضى اللَّه عنها، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان اللَّه! لقد قفّ شعرى لما قلت.. وساق الحديث بقصته، وحديث داود أتم وأطول [ (2) ] .
وخرّجه البخاري من حديث وكيع عن إسماعيل بن أبى خالد، عن عامرة عن مسروق، قال: قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: [يا أمتاه] ! هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ.
ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، ولكن رأى جبريل في صورته مرتين. ذكره في تفسير سورة النجم [ (3) ] . وفي كتاب
__________
[ (1) ] الأحزاب: 37.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (289) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 8/ 780، كتاب التفسير، تفسير سورة (53) سورة النجم، باب (1) حديث رقم (4855) .
قولها: «قف شعرى» أي قام من الفزع لما حصل من هيبة اللَّه واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شميل: القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد(8/291)
التوحيد [ (1) ] ، في باب قول اللَّه عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وفي تفسير سورة المائدة [ (2) ] ، وفي أول كتاب التوحيد [ (3) ] ، في باب قول اللَّه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، لكن باختصار.
وخرج مسلم من حديث وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد اللَّه بن شقيق، عن أبى ذر رضى اللَّه عنه، [قال] : سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل رأيت ربك؟ قال نور أنى أراه [ (4) ] .
ومن حديث همام عن قتادة، عن عبد اللَّه بن شقيق قال: قلت لأبى ذر:
لو رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسألته، فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال:
كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: رأيت نورا [ (5) ] .
وخرجه الإمام أحمد بهذا السند، ولفظه، قلت لأبى ذر، لو رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسألته، قال: وما كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأى ربه؟
قال: فإنّي قد سألته، فقال: رأيته نورا أنى آراه
. وقال: قال عفان: وبلغني عن ابن هشام- يعنى معاذ- أنه رواه عن أبيه كما قال همام: قد رأيته [ (6) ] .
__________
[ () ] ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك (فتح الباري) .
قولها: «أين أنت من ثلاث» ؟ أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاث، وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها، ومعتقدا كذب من يدعى وقوعها. (فتح الباري) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 615، كتاب التوحيد، باب (46) قول اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، حديث رقم (7531) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 8/ 349، كتاب التفسير، باب (7) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، حديث رقم (4612) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 447، كتاب التوحيد باب (4) قول اللَّه تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، حديث رقم (7380) .
[ (4) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 15، كتاب الإيمان، باب (78) قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم نور أنى أراه، وفي قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت نورا، حديث رقم (291) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (292) .
[ (6) ] (مسند أحمد) : 6/ 215، حديث رقم (20987) .(8/292)
وله أيضا من حديث الأعمش، عن عمرو [بن] مرة، عن أبى عبيدة، عن أبى موسى قال: قام فينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخمس كلمات فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور [ (1) ] .
وفي رواية أبى بكر بن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش: النار لو كشفته لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه [ (2) ] .
ومن حديث جرير عن الأعمش بهذا الإسناد، قال: قام فينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأربع كلمات، ثم ذكر بمثل حديث أبى معاوية، ولم يذكر: من خلقه، وقال: حجابه النور [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ (4) ] ، قال: هي رؤيا عين، أريها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسرى به، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [ (4) ] ، قال: شجرة الزقوم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 553، حديث رقم (19135) .
[ (2) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 16- 17، كتاب الإيمان، باب (79) في قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه لا ينام، وفي قوله: حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، حديث رقم (293) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (294) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 536، حديث رقم (19036) .
[ (4) ] الإسراء: 60.
[ (5) ] (فتح الباري) : 8/ 508، كتاب التفسير باب (9) وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، حديث رقم (4716) .
قوله: «والشجرة الملعونة في القرآن قال: شجرة الزقوم» هذا هو الصحيح، ذكره ابن أبى حاتم عن بضعة عشر نفسا من التابعين، ثم روى من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن الشجرة الملعونة: الحكم بن أبى العاص وولده، وإسناده ضعيف.(8/293)
وخرّج الترمذي من حديث يحيى بن كثير العنبري، قال: حدثنا مسلم ابن جعفر، عن الحكم، عن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: رأى محمد ربه، قلت: أليس اللَّه يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ؟ قال: ويحك! ذاك إذا تجلى بنوره، الّذي هو نوره [وقال: أريه مرتين] [ (1) ] . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب [ (2) ] .
وقال يونس بن بكير: حدثنا عبد اللَّه بن لهيعة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن عروة عن عائشة، رضى اللَّه عنهما، أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان أول شأنه يرى في المنام، فكان أول ما رأى، جبريل بأجياد، أنه خرج لبعض حاجته، فصرخ به: يا محمد! يا محمد! فنظر يمينا وشمالا، فلم ير شيئا، ثم نظر فلم ير شيئا، فرفع بصره، فإذا هو يراه ثانيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى، على أفق السماء، فقال: يا محمد! جبريل، يسكنه، فهرب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى دخل في الناس، فنظر، فلم ير شيئا، ثم خرج من الناس، فنظر فرآه، فذلك قول اللَّه عزّ وجلّ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * [وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى] .
__________
[ () ] وأما الزقوم، فقال أبو حنيفة الدينَوَريّ في (كتاب النبات) : الزقوم شجرة غبراء تنبت في السهل، صغيرة الورق مدورته، لا شوك لها، زفرة، ولها نور أبيض تجرسه النمل، ورءوسها قباح جدا.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: قال المشركون: يخبرنا محمد أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فكان ذلك فتنة لهم.
وقال السهيليّ: الزقوم فعول من الزقم، وهو اللقم الشديد، وفي لغة تميمية: كل طعام يتقيّأ منه يقال له: زقوم، وقيل: هو كل طعام ثقيل. (فتح الباري) .
[ (1) ] في (الأصلين) : «وقد رأى ربه مرتين» ، وما أثبتناه من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 386، كتاب تفسير القرآن، باب (53) تفسير سورة النجم، حديث رقم (3279) .(8/294)
وقد اختلف سلف الأمة وخلفها، في رؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه تعالى ليلة الإسراء، بعد اتفاق جمهور أهل العلم، على أنه سبحانه وتعالى، يضح أن يرى، وقالت المعتزلة والفلاسفة: لا يصح أن يرى، وقالت الأشاعرة: يصح أن يرى، واحتج من أثبت الرؤية بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وبقوله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، وبقوله تعالى عن موسى عليه السلام: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي.
ثم اختلف القائلون بجواز الرؤية، فذهب الأكثرون إلى جوازها في الدنيا، ومنهم من خصّها بالآخرة، وهو مذهب عائشة رضى اللَّه عنها، ونقل عثمان بن سعيد الدارميّ، إجماع الصحابة رضى اللَّه عنهم على قول عائشة في عدم وقوع رؤية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ربه تعالى ليلة الإسراء.
[وقد] اختلف القائلون بجواز الرؤية، فقالت [الكرامية] والمشبهة- خزاهم اللَّه-: رؤيته كرؤية غيره، بارتسام، واتصال، ومواجهة. وقالت الأشاعرة: معناها أن تحصل لنا حالة في الانكشاف والظهور، نسبتها إلى ذاته المخصوصة، كنسبة الحالة المسماة بالإبصار، والرؤية إلى هذه المرئيات.
فإذا تقرر ذلك فنقول: قد اختار إمام الأئمة محمد بن خزيمة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رآه سبحانه ببصره، وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين، وقد قال عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنه: أنه رآه بفؤاده، كما مرّ في رواية مسلم، وأنكرت عائشة رضى اللَّه عنها رؤية البصر، وإلى هذا مال جماعات من الأئمة قديما وحديثا، اعتمادا على حديث أبى ذرّ وأتباعا لقول عائشة رضى اللَّه عنها، وقالوا: وهذا مشهور عنها، ولم يعرف لها مخالف من الصحابة، إلّا ما روى عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، أنه رآه بفؤاده، ونحن نقول به. وما روى من ذلك من إثبات الرؤية بالبصر، فلا يصح شيء(8/295)
من ذلك، لا مرفوعا، ولا موقوفا.
وقال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف، هل رأى نبيّنا صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة [الإسراء] ؟ فأنكرته عائشة [رضى اللَّه عنها] ، وجاء مثله عن أبى هريرة وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين.
وروى عن ابن عباس أنه رآه بعينه، ومثله عن أبى ذر، وكعب، والحسن، وكان الحسن يحلف على ذلك، وحكى [مثله] عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وأحمد بن حنبل، وحكى أصحاب المقالات عن أبى الحسن الأشعري، وجماعة من أصحابه، أنه رآه، ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز.
ورؤية اللَّه تعالى في الدنيا جائزة، وسؤال موسى عليه السلام إياها، دليل على جوازها، إذ لا يجهل نبيّ ما يجوز أو يمتنع على ربه تعالى، وقد اختلفوا في رؤية موسى عليه السلام ربه تعالى، وفي مقتضى الآية، ورؤية الجبل، جواب القاضي أبى بكر، ما يقتضي أنهما رأياه.
قال: وكذلك اختلفوا في قوله: ثُمَّ [دَنا] فَتَدَلَّى، والأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي، مقسم بين جبريل والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو مختص بأحدهما من الآخر، أو من السدرة المنتهى.
وذكر ابن عباس، والحسن، ومحمد بن كعب، وجعفر بن محمد، وغيرهم، أنه دنوّ من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ربه تعالى، أو من اللَّه تعالى، وعلى هذا القول، يكون الدنوّ والتدلي منا ليس على وجهه، بل كما
قال جعفر بن محمد الصادق: الدنوّ من اللَّه تعالى، لا حدّ له، ومن العباد بالحدود،
فيكون معنى دون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ربه سبحانه وتعالى، وقربه منه، ظهور(8/296)
عظيم منزلته [لديه] ، وإشراق أنوار معرفته عليه، [وإطلاقه] من غيبه، وأسرار ملكوته، على ما لم يطلع سواه عليه.
والدنوّ من اللَّه تعالى، لهو إظهار ذلك له، وعظيم يده، وفضله العظيم لديه، ويكون قوله تعالى: قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، على هذا عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة، من نبينا [صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، ومن اللَّه تعالى، إجابة الرغبة، وإبانة المنزلة، ونتناول في ذلك ما يتناول في
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ربه تعالى: من تقرب منى شبرا، تقربت منه ذراعا.
.. الحديث.
قال الشيخ محيي الدين أبو زكريا، يحيى النووي، رحمه اللَّه: وأما صاحب التحرير، فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة، وإن كانت كثيرة، لكنا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس رضى اللَّه عنه: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. وعن عكرمة، سئل ابن عباس: هل رأى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [ربه] ؟
قال: نعم.
وقد روى بإسناد لا بأس به، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه عنه، قال: رأى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه. وكان الحسن يحلف: لقد رأى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه. والأصل في الباب، حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر رضى اللَّه [عنهما] في هذه المسألة [وقد سأله:] هل رأى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه؟ فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضى اللَّه عنها، لأن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، لم تخبر أنّها سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لم أر ربى، وإنما ذكرت ما ذكرت، متأولة لقول اللَّه تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره، لم يكن قوله حجة، وإذا صحّت(8/297)
الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية، وجب المصير إلى إثباتها، فإنّها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما تلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس، أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد.
وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: عائشة ليست عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي.
قال النووي: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، إثبات هذا لا يأخذونه بالسماع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، هذا مما لا ينبغي أن يتشكّك فيه، ثم إن عائشة رضى اللَّه عنها، لم تنف الرؤية بحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات، وسنوضح الجواب عنها.
فأما احتجاج عائشة [رضى اللَّه عنها] بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، واللَّه تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النصّ بنفي الإحاطة، لا يلزم منه نفى الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن الآية بأجوبة أخرى، لا حاجة إليها مع ما ذكرناه، فإنه في نهاية من الحسن مع اختصاره.
وأما احتجاجها بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حالة الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.(8/298)
الثاني: أنه عام، مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي، الكلام من غير واسطة، وهذا الّذي قاله هذا القائل، وإن كان محتملا، ولكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا، الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما سمّى وحيا.
وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، فقال الواحدىّ وغيره: معناه غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه سبحانه وتعالى من حيث لا يرونه، وليس المراد أن هناك حجاب يفصل موضعا عن موضع، ويدل على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم، واللَّه أعلم. انتهى.
قال كاتبه-[عفى اللَّه عنه]-: قد تحصّل مما تقدم أن في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه رآه ببصره وعيني رأسه، وهو قول أنس بن مالك، وعكرمة، والربيع، وحكاه بعضهم عن عبد اللَّه بن مسعود، وهو المشهور عن عبد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عباس، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم. وحكى النقاش عن الإمام أبى عبد اللَّه أحمد ابن محمد بن حنبل، أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه- رآه حتى انقطع نفسه، يعنى نفس أحمد بن حنبل- وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري، وجماعة من المتكلمين، أنه رأى اللَّه سبحانه ببصره، وعيني رأسه.
الثاني: أنه رآه بفؤاده وقلبه لا بعينه، وقد روى ذلك عن عبد اللَّه بن عباس، وأبى ذر، وإبراهيم التيمي، وأبى العالية، والربيع بن أنس، وحكى عن عكرمة، وقاله أحمد بن حنبل، قال: رآه بقلبه، وجبن عن القول(8/299)
برؤيته تعالى في الدنيا بالأبصار، وعن الإمام مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة، رزقوا أبصارا باقية، رأوا الباقي بالباقي.
قال القاضي عياض: وهذا الكلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة، إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوّى اللَّه تعالى من يشاء من عباده، وأقدره على القيام بأعباء الرؤية، لم يمتنع في حقه.
وقال القاسم أبو عاصم، محمد بن أحمد العبادىّ، في قول ابن عباس وغيره، رآه بقلبه: وعلى هذا رأى ربه رؤية صحيحة، وهي أن اللَّه تعالى جعل بصره في فؤاده، وخلق لفؤاده بصرا حتى رأى ربه رؤية صحيحة، كما ترى العين.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: ومعنى الآية- يعنى قوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى - أن الفؤاد رأى شيئا فصدق فيه ما رأى، أي ما كذب الفؤاد مرئيه، وقرأ أبو عامر: ما كَذَبَ بالتشديد، قال المبرد:
معناه أنه رأى شيئا فقبله.
قال الواحدي: وهذا الّذي قاله المبرد على أن الرؤية للفؤاد، فإن جعلها للبصر فظاهر، أي ما كذّب الفؤاد ما رأى البصر، واللَّه أعلم.
الثالث: أنه إنما رأى ليلة الإسراء جبريل، ولم ير رب العزة تعالى، وهو مذهب عائشة، وعبد اللَّه بن مسعود، ويروى عن أبى هريرة، وأبى ذر، رضى اللَّه عنهم.
فظهر مما تقدم، أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء على صورته، وكان قد رآه قبل ذلك في ابتداء الوحي، منهبطا من السماء إلى الأرض، على الصورة التي خلق عليها، وهو المعنيّ بقوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ(8/300)
الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ [دَنا] فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فالصحيح من قول المفسرين: أن المتدلى في هذه الآية، هو جبريل،
كما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة، أنها سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك فقال: [ذلك] جبريل،
فقد قطع هذا الحديث النزاع و [أزاح] الإشكال، [واللَّه الحمد] .(8/301)
فصل في كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للَّه عزّ وجلّ ليلة الإسراء
اعلم أن الإله سبحانه وتعالى متكلم، دلّ على ذلك الكتاب و [السنة] ، وإجماع الأمة، فالمنكر كافر، وكلامه معلوم لكل عاقل ذي قلب سليم، والكيف مجهول، لا يعلمه إلا من سمعه منه، وغيرهم لا برهان لهم به، إن يتبعون إلا الظن.
وقالت الأشاعرة [ (1) ] : كلامه معنى واحد، قائم بذاته، مغاير لعلمه وإرادته، وهو طلب فعل، أو طلب ترك، أو الحكم بنفي، أو إثبات.
وقالت المعتزلة [ (1) ] : إذا أراد اللَّه شيئا، أو كرهه، أو حكم به، خلق الأصوات المخصوصة، في جسم من الأجسام، التي لا يصح أن تتصف بالكلام، لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدا لذاك الشيء، أو كارها له، أو حاكما به، بنفي أو إثبات، وكلامه على هذا، هو خلقه لتلك الأصوات، إلا أن الخلق عندهم نفس المخلوق، فيكون كلامه إذن: هو تلك الأصوات، فلهذا قالوا بأن كلام [اللَّه تعالى] مخلوق، لأن تلك الأصوات مخلوقة، ونفوا أن يقوم بذاته طلب أو حكم.
وقالت الكرامية [ (1) ] ومن تبعهم: كلامه لفظ قائم بذاته، وهذا معنى كلام الإمام أحمد رحمه اللَّه، قال الإمام أحمد في رواية يعقوب والمروزي:
تكلم اللَّه بصوت، وذكر الحديث:
إذا تكلم اللَّه بالوحي، سمع صوته أهل السماء،
فالأشاعرة والمعتزلة، متفقون على أن اللفظ لا يقوم بذاته تعالى،
__________
[ (1) ] من الفرق الإسلامية.(8/302)
وأنه مخلوق، واختلفوا في قيام المعنى به، فنفاه المعتزلة كدأبهم في نفى الصفات، وأثبته الأشاعرة.
واتفق الأشاعرة والكرامية، على أن الكلام يجب أن يقوم بذاته عزّ وجل، واختلفوا في ذلك الكلام، فقال الأشاعرة: هو المعنى، وقال الكرامية: هو اللفظ، واتفق الكرامية والمعتزلة على أن كلامه سبحانه يجب أن يكون أصواتا وحروفا، واختلفوا بعد ذلك، فقال الكرامية: هو قائم به، وقالت المعتزلة: هو مخلوق في غيره، ولكل فريق من هذه الفرق الثلاثة احتجاجات، ورد ذكرها في غير هذا الكتاب، فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن السلف والخلف في أن نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، هل كلم ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة؟ أم لا؟
فحكى عن الشيخ أبى حسن الأشعري- رحمه اللَّه- وقوم من المتكلمين، أنه كلّمه، وعزا بعضهم هذا إلى جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وإلى عبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه [عنهم] ، ذكره القاضي عياض.
وأشهر قولي أهل الحديث أنه كلمه ربه تعالى، فسمع خطابه، واستدلوا على ذلك بقوله [في] حديث الإسراء،
فنوديت: أن قد أتممت فريضتي وخففت عن عبادي، يا محمد، إنه لا يبدّل القول لدى، هي خمس، وهي خمسون،
قالوا: فمثل هذا لا يقوله إلا رب العالمين، كما في قوله لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [ (1) ] .
قال علماء السلف وأئمتهم: هذا من أدلّ الدلائل على أن كلام اللَّه غير مخلوق، لأن هذا لا يقوم بذات مخلوقة، وقال جماعة منهم: من زعم أن قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، مخلوق، فهو كافر، لأنه
__________
[ (1) ] طه: 14.(8/303)
بزعمه يكون ذلك المحل المخلوق، قد دعا موسى عليه السلام إلى عبادته، واستدلوا أيضا بقوله في الحديث الّذي
خرّجه أبو بكر البزار، من طريق على رضى اللَّه عنه، وقد تقدم ذكره في ذكر من كان يؤذن لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفيه: [إذا] خرج ملك من الحجاب، وأنه أذن، فكان يجاب من وراء الحجاب بقوله: صدق عبدي، أنا أكبر، وبقوله: صدقت، أنا لا إله إلا أنا، وبقوله: أنا أرسلت محمدا،
وظاهره يقتضي أنه عليه السلام، سمع كلام اللَّه تعالى، ولكن من وراء حجاب، كما قال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أي وهو لا يراه، حجب بصره عن رؤيته.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: اتفق أهل [الحق] على أن اللَّه تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني، أدرك به كلامه، و [به] كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله، في جميع خلقه، واختلفوا في نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [هل سمع في] ليلة المعراج كلام اللَّه تعالى؟ وهل سمع جبريل [كلامه] ؟ على قولين.(8/304)
فصل في سفر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سافر- فيما حفظ من أحواله- إلى الطائف مرتين، مرة قبل الهجرة، ومرة بعد الهجرة، فأما التي قبل الهجرة، فإنه خرج بعد موت عمه أبى طالب، وبعد موت زوجته خديجة بنت خويلد، بثلاثة أشهر، ومعه زيد بن حارثة، في شوال سنة عشر من المبعث- في قول الواقدي- ليدعو ثقيفا إلى نصرته، فأقام بالطائف عشرة أيام، وقيل:
شهرا.
قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأذى، ما لم تكن تناله منه في حياة عمه أبى طالب، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النّصرة، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من اللَّه [عزّ وجلّ] فخرج إليهم وحده.
قال: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف، عهد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود ابن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة [بن] غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش، من بنى جمح، فجلس إليهم [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] ، فدعاهم إلى اللَّه، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم- وهو يمرط [ (2) ] ثياب الكعبة-: إن كان اللَّه أرسلك! وقال
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] يمرط: ينزع ويرمى.(8/305)
الآخر: أما وجد اللَّه أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: واللَّه لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من اللَّه كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على اللَّه، ما ينبغي لي أن أكلمك،
فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من عندهم، و [قد] يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم- فيما ذكر لي-: إذا فعلتم ما فعلتم، فاكتموا عنى [ (1) ] .
وكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبلغ ذلك قومه، فيذئرهم [ (2) ] ذلك عليه، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه، ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، [وألجئوه] [ (3) ] إلى حائط [ (4) ] لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعهد إلى ظل حبلة [ (5) ] من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف.
وقد لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما ذكر لي- المرأة [التي] [ (6) ] من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن، قال- فيما ذكر لي: اللَّهمّ إليك [أشكو] ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت، رب المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني [ (7) ] ؟ أو إلى عدوّ ملكته أمرى، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالى، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بوجهك الّذي أشرقت له
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 267.
[ (2) ] يذئرهم: يثيرهم.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] حائط: حديقة أو بستان.
[ (5) ] حبلة: شجرة العنب.
[ (6) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (7) ] تجهم فلانا: أي استقبله بوجه قبيح.(8/306)
الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بى غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
فلما رآه ابنا ربيعة- عتبة وشيبة- وما لقي، تحركت له رحمهما [ (1) ] ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له: عدّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده فيه قال: باسم اللَّه، ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه ثم قال: واللَّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ومن أهل أي البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك؟ قال:
نصرانىّ، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ فقال له عدّاس: وما يدريكك ما يونس بن متى؟
قال: ذلك أخى كان نبيا، وأنا نبي، قال: فأكبّ عدّاس على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقبّل رأسه، ويديه، و [قدميه] [ (2) ] .
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك، فقد أفسد عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس، ما لك تقبل رأس هذا الرجل، ويديه، وقدميه؟! قال: يا سيدي! ما في الأرض [شيء] [ (3) ] خير من هذا، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبي، قال: ويحك يا عداس! لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من
__________
[ (1) ] الرحم: شرعا، الصلة والقرابة.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) ، وقال في هامشها: في قصة عداس غلام بنى ربيعة من فقه السنة: قبول هدية المشرك، وأن لا يتورع عن طعامه، وفيه تعجب عداس لمعرفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبار يونس ابن متى، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم أمىّ، وفي أمّة أمّية صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(8/307)
خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة [ (1) ] ، قام من جوف الليل يصلى، فمرّ به النفر من الجن الذين ذكر اللَّه تبارك وتعالى، وهم- فيما ذكر لي- سبعة نفر من جن نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته، ولّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا، وأجابوا إلى ما سمعوا، فقصّ اللَّه خبرهم عليه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] ، فقال [تعالى] [ (2) ] : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ* يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [ (3) ] .
وقال [تعالى] [ (2) ] : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ... [ (4) ] إلى آخر القصة، من خبرهم في هذه السورة [ (5) ] ، وأما خروجه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف بعد الهجرة، فسيأتي في فتح مكة إن شاء اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] نخلة: اسم وادي.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] الأحقاف: 29- 31.
[ (4) ] الجن: أول سورة الجن.
[ (5) ] (سيرة ابن هشام) : 2: 266- 269، سعى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف، وموقف ثقيف منه، وشكواه إلى اللَّه تعالى، وقصته مع عدّاس.(8/308)
فصل في خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عكاظ، ومجنّة، وذي المجاز
اعلم أنه كانت للعرب أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم، ويجتمع إليها سائر الناس، فإذا انقضت لا يصل إليها أحد، ولا يرجع منها أحد إلا بخفيه، وكانت أعظم هذه الأسواق [عشرة أسواق] ، منها ما يقوم في أشهر الحرم، ثم لا يقوم إلى مثل ذلك من قابل، ومنها ما لا يقوم في أشهر الحرم ويقوم في غيرها.
فمن الأسواق العشرة: عكاظ، في أعلا نجد، قريب من عرفات، وكانت تقوم في النصف من ذي القعدة، وكانت من أعظم أسواق العرب، وكانت قريش تنزلها، وهوازن، وغطفان، والأحابيش- وهم الحرث [من بنى] [ (1) ] عبد مناة، وعضل، والمصطلق، وطوائف أفناء العرب، فإذا نزلوها في نصف ذي القعدة، لا يبرحون حتى [يروا] [ (1) ] هلال ذي الحجة، فإذا رأوه انقشعت.
وكان قيامها فيما بين نخلة والطائف، بينها وبين الطائف عشرة أيام، وبها نخل وأموال لثقيف، ولم يكن فيها عشور [ (2) ] ولا خفارة [ (3) ] ، وكانت فيها أشياء ليست في شيء من أسواق العرب، كأن يوافي [بالأسرى] [ (1) ]
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] عشر القوم يعشرهم عشرا بالضم، وعشورا، وعشّرهم: أخذ عشر أموالهم، والعشّار: قابض العشر.
(لسان العرب) : 4/ 570.
[ (3) ] الخفير: المجير، فكل واحد منهم مجير لصاحبه، والاسم من ذلك كله الخفرة، والخفارة: الأمان وخفير القوم: مجيرهم الّذي يكونوا في ضمانه ما داموا في بلاده. (المرجع السابق) : 253.(8/309)
فيفادون بها، وكان بيعهم في السرار، وإذا وجب البيع [وعند التاجر فيها ألف ممن يريد الشراء، ومن لا يريد أشركه في الربح] [ (1) ] .
خرّج البيهقيّ من حديث سفيان بن عيينة، عن أبى حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: قدم وفد إياد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألهم عن قس بن ساعدة الإيادي فقالوا: هلك يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد شهدته في الموسم بعكاظ، وهو على جمل له أحمر، أو على ناقة حمراء، وهو ينادى في الناس،
فذكره [ (2) ] .
وقال جابر بن عبد اللَّه: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين يتتبّع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنه، وفي [المواسم] [ (3) ] ، ويقول: من يؤوينى؟ من ينصرني؟
ومجنة سوق من أسواق العرب، بين عكاظ وذي المجاز، كانت بأسفل مكة، على بريد منها، وهي سوق لكنانة، وأرضها من أرض كنانة.
وخرّج الدارقطنيّ من حديث ابن نمير، عن يزيد بن زياد بن أبى الجعد [قال] [ (4) ] : حدثنا أبو ضمرة جامع بن شداد، عن طارق بن عبد اللَّه المحاربي، قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتين، مرة بسوق ذي المجاز، وأنا في تباعة لي- هكذا قال- أبيعها، فمرّ وعليه حلة حمراء، وهو ينادى
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) ، واستدركناه من (ج) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 102، حديث قسّ بن ساعدة بن عمرو بن عدىّ بن مالك، من بنى إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم في الجاهلية، ويقال: إنه أول عربي خطب متوكئا على سيف، أو عصا، وأول من قال في كلامه: أما بعد، وكان يفد على قيصر الروم زائرا فيعظمه، ويكرمه، وهو معدود في المعمرين، طالت حياته، وأدركه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل النبوة، ورآه في عكاظ، وسئل عنه بعد ذلك، فقال: يحشر أمة واحدة، خطب الناس بعكاظ وبشرهم بمبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحثهم على اتباعه، وذلك قبل البعثة.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق من (سنن الدار قطنى) .(8/310)
[بأعلى] صوته: [يا أيها] [ (1) ] الناس! قولوا: لا إله إلّا اللَّه تفلحوا، ورجل يتبعه بالحجارة، قد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: [يا أيها] الناس! لا تطيعوه فإنه كذاب، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا غلام [بنى] [ (1) ] عبد المطلب، قلت: من هذا الّذي يتبعه يرميه؟ قالوا: عمه عبد العزّى- وهو أبو لهب-.
فلما ظهر الإسلام، وقدم المدينة، أقبلنا في ركب من الرَّبَذَة، وجنوب الرَّبَذَة، حتى نزلنا [قريبا] [ (1) ] من المدينة، ومعنا ظعينة لنا، فبينا نحن قعود، إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان، فسلّم، فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من [الرَّبَذَة] [ (2) ] ، وجنوب الرَّبَذَة، [قال: ومعنا] [ (2) ] جمل أحمر، قال: تبيعوني جملكم؟ قلنا نعم، قال: بكم؟ قلنا: بكذا و [كذا] [ (2) ] صاعا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئا، وقال: قد أخذته.
ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة، فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تلاوموا، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليكم، وأنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا.
قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فلما كان من الغد دخلنا المدينة، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائم على المنبر، يخطب الناس وهو يقول: يد المعطى [العليا] [ (2) ] ، وابدأ بمن تعول، أمّك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك، فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه! هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه
__________
[ (1، 2) ] زيادة للسياق من (سنن الدار قطنى) .(8/311)
حتى [رأينا] [ (1) ] بياض إبطيه، فقال: ألا لا يجنى والد على ولده [ (2) ] .
[وخرجه الحاكم وابن حبان] [ (3) ] .
[وذكر ابن سعد عن عبد اللَّه بن عون، عن عمرو بن سعيد، أن أبا طالب قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخى- يعنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- فأدركنى العطش فشكوت إليه، فقلت: يا ابن أخى! قد عطشت- وما قلت له ذاك وأنا أرى أن عنده شيئا إلا الجزع- قال: فثنى وركه، ثم نزل فقال: يا عم! أعطشت؟ قال: قلت: نعم، قال: فأهوى بعقبه إلى الأرض، فإذا [بالماء] ، قال: اشرب يا عم، قال: فشربت] [ (4) ] .
[وروى عبد اللَّه بن الأجلح، عن الكلبي، عن أبى صالح، عن ابن عباس، عن العباس رضى اللَّه عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عباس، لا أرى لي عندك ولا عند بنى أبيك ممنعة، فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا، حتى تعرفني منازل قبائل الناس؟ قلت: نعم، قال: فخرجت به، فأتيت به سوق عكاظ- وكانت مجمع العرب- قال: فقلت هذه كندة ولفها، وهي أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بنى عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك، قال: فبدأ بكندة، فأتاهم، فقال:
ممن [القوم] ؟ فقالوا: من أهل اليمن، قال: من أي اليمن؟ قالوا: من كندة، قال: من أي كندة؟ قالوا: من بنى عمرو بن معاوية، قال: فهل لكم إلى خير؟ قالوا: وما هو؟ قال: تشهدون أن لا إله إلا اللَّه، وتقيمون الصلاة،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الدار قطنى) .
[ (2) ] (سنن الدارقطنيّ) : 3/ 44- 45، كتاب البيوع، حديث رقم (186) .
[ (3) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 8/ 130- 131، كتاب الزكاة، باب (9) صدقة التطوع، حديث رقم (3341) وأخرجه النسائي في الزكاة، باب أيتهما اليد العليا؟ عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى بهذا الإسناد، وهو إسناد صحيح.
[ (4) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 152- 153، ذكر علامات النبوة في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يوحى إليه.(8/312)
وتؤمنون بما جاء به من عند اللَّه] .
[قال ابن الأجلح: وحدثني أبى عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الملك للَّه يجعله حيث شاء، قالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به. قال الكلبي في حديثه: فقال جئتنا لتصدنا عن آلهتنا، وتنابذ العرب، ألحق بقومك، فلا حاجة لنا بك] .
[فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من عندهم، فأتى بكر بن وائل فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بكر بن وائل، قال: من أي بكر بن وائل؟ قالوا: من بنى قيس بن ثعلبة، قال: كيف [الغلبة] ؟ قالوا: كثير مثل الثرى، قال: فكيف المنعة؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس، فنحن لا نمنع منهم، ولا نجير عليهم، قال: فتجعلون للَّه عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبحوا اللَّه ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه ثلاثا وثلاثين، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم انطلق عنهم] .
[وكان عمه أبو لهب يتبعه، فيقول للناس: لا تسمعوا منه، ولا تقبلوا قوله، قال: ثم مرّ أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم، هذا في الذروة منّا، أيّ شأنه تسألونى؟ فأخبروه بما دعاهم، وقالوا: زعم أنه رسول اللَّه، قال: لا ترفعوا لقوله رأسا، فإنه مجنون، يهذى من أم رأسه، قالوا: لقد رأينا ذلك، حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر] .
[وروى يزيد بن هارون، عن جرير بن عثمان، عن سليم بن عامر، عن عمرو بن عبسة، قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعكاظ فقلت: من تبعك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد] .
[وروى أبو الزبير عن جابر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مكث سبع سنين، يتبع الحاج(8/313)
في منازلهم في المواسم، بعكاظ ومجنة، يعرض عليهم الإسلام، وبعكاظ رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قسّ بن ساعدة، وحفظ كلامه] .
[وخرج] الحاكم من حديث يونس بن بكير، حدثنا يزيد بن زياد بن أبى الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق [بن] عبد اللَّه المجازي، قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتين [ (1) ] ، رأيته بسوق ذي المجاز- وأنا في بياعة لي- فمرّ وعليه حلة حمراء، فسمعته يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا اللَّه، تفلحوا،
ورجل يتبعه يرميه بالحجارة، قد أدمى كعبيه، وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوا هذا فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا غلام من بنى عبد المطلب، قلت: من الرجل الّذي يرجمه؟ قيل لي: هو عمه عبد العزّى أبو لهب.
فلما أظهر اللَّه الإسلام خرجنا من الرَّبَذَة، ومعنا ظعينة لنا، حتى نزلنا قريبا من المدينة، فبينا نحن قعود، إذ أتانا رجل عليه ثوبان، فسلم علينا وقال: من أين القوم؟ فقلنا: من الرَّبَذَة، ومعنا جمل أحمر، فقال:
تبيعوننى الجمل؟ فقلنا: نعم، فقال: بكم؟ فقلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر، قال: أخذته
وما استقضى، فأخذ بخطام الجمل، فذهب به حتى توارى في حيطان المدينة، فقال بعضنا لبعض: تعرفون الرجل؟ فلم يكن منا أحد يعرفه، فلام القوم بعضهم بعضا، فقالوا: أتعطون جملكم من لا تعرفون؟
فقالت الظعينة: لا تلاوموا، فلقد رأيت وجه رجل لا يغدرنكم، ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه.
فلما كان العشىّ، أتانا رجل فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه، أنتم الذين جئتم من الرَّبَذَة؟ قلنا: نعم، قال: أنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليكم، وهو يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى
__________
[ (1) ] في (المستدرك) : «مرّ بسوق ذي المجاز» .(8/314)
تستوفوا، فأكلنا من التمر حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا.
ثم أتينا المدينة من الغد، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائم يخطب الناس على المنبر، فسمعته يقول: يد المعطى العليا، وابدأ بمن تعول، أمّك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك، وثمّ رجل من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه! هؤلاء [بنو] ثعلبة بن يربوع، الذين قتلوا فلانا في الجاهلية، فخذ لنا ثأرنا، فرفع رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] يديه حتى رأيت بياض إبطيه فقال: لا تجنى أم على ولد، لا تجنى أم على ولد،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (1) ] .
ولأبى نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبى شيبة قال: [حدثنا] محمد بن [مكاره، حدثنا] ابن أبى الزياد، قال: حدثني أبى قال: رأيت رجلا يقال له: ربيعة بن عباد، قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمر في فجاج ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، قال: فما يؤذيه أحد إلا أنهم يتبعونه، قال: فقالوا: هذا ابن عبد اللَّه بن عبد المطلب، إلا رجل أحول، وضيء، ذو غديرتين، يتبعه في فجاج ذي المجاز وهو يقول: إنه صابئ كاذب، قال: فقلنا: من هذا؟ قالوا: عمه أبو لهب.
قال أبو نعيم: ورواه زيد بن أسلم، وسعيد بن خالد القارظي، وحسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس، في آخرين، عن ربيعة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 668- 669، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4219) وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : روى ابن أبى شيبة بعضه، وابن ماجة بعضه.
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 292- 293 مطولا، وبسياقه أتم من هذه التي اختصرها المقريزي، وزاد أبو نعيم في آخرها: قال الشيخ رحمة اللَّه عليه: ومن القبائل التي سماهم الواقدي أنه عليه السلام عرض عليهم نفسه، ودعاهم إلى الإسلام: بنو عامر، وغسّان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر من هوازن، وثعلبة بن العكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو الجيش أنس بن رافع [أو ابن رافع] .
وأخرجه أيضا ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 216، ذكر دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبائل العرب في المواسم.(8/315)
فصل في ذكر هجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة
خرّج البخاري في آخر كتاب الكفالة، في باب جوار أبى بكر في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي كتاب الهجرة، من حديث الليث عن عقيل، قال [ابن] شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة [رضى اللَّه عنها] ، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طرفي النهار، بكرة وعشية.
فلما ابتلى المسلمون، خرج أبو بكر [رضى اللَّه عنه] مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدّغنّة- وهو سيد القارة-[فقال] : أين تريد يا أبا بكر؟ [فقال] أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربى، فقال ابن الدّغنّة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، أنت تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكلّ، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع، وارتحل معه ابن الدّغنّة [فطاف ابن الدّغنّة] [ (1) ] عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب [قريش] [ (1) ] بجوار ابن الدّغنّة.
وقالوا لابن الدّغنّة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره، فليصلّ فيها، وليقرأ [ما شاء] ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدّغنّة لأبى بكر، فلبث أبو بكر [رضى اللَّه عنه] ، يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .(8/316)
ثم بدا لأبى بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه، ويقرأ فيه القرآن، [فيتقذّف] عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنّة، فقدم عليهم، فقالوا:
إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أقام على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبى بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدّغنّة أبا بكر [رضى اللَّه عنه] فقال: قد علمت الّذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليّ ذمتي، فإنّي لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار اللَّه، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ بمكة.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [للمسلمين] [ (1) ] : إن أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين، وهما الحرّتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهّز أبو بكر قبل المدينة، فقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم:
على رسلك، فإنّي أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر [رضى اللَّه عنه] : وهل ترجو ذلك؟ بأبي أنت! قال: نعم،
[فحبس] أبو بكر نفسه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليصحبه، وعلف راحلتين [كانتا] [ (1) ] عنده، ورق السمر- وهو الخبط
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .(8/317)
- أربعة أشهر [ (1) ] .
زاد في كتاب الهجرة: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة رضى اللَّه عنها: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبى بكر في نحو الظهيرة، وقال قائل لأبى بكر: هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر [فداء] له أبى وأمى، ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر؟!
قالت: فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبى بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه، قال: فإنّي قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحابة، بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم، قال أبو بكر، فخذ بأبي أنت يا رسول إحدى راحلتيّ هاتين، قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بالثمن.
قالت عائشة: فجهّزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سمّيت: ذات النّطاقين. قالت: ثم لحق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد اللَّه بن أبى بكر، وهو غلام شاب، ثقف، لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة- كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبى بكر- منحة من غنم، فيريح عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر رجلا من بنى الديل، وهو من بنى عبد
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 599- 600، كتاب الكفالة، باب (4) جوار أبى بكر رضى اللَّه عنه في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعهده، حديث رقم (2297) .(8/318)
ابن عدىّ، هاديا خرّيتا- والخرّيت: الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاصي بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 291- 293، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3905) .
قوله: «برك الغماد» : موضع باليمن.
قوله: «ابن الدّغنّة» : فتح الغين، وقيل: إن ذلك كان لاسترخاء في لسانه، والصواب الكسر، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق، وهي أمه، وقيل: أم أبيه، وقيل: دابته، ومعنى الدغنه المسترخية، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر.
واختلف في اسمه، فعند البلاذري من طريق الواقدي، عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد، وحكى السهيليّ أن اسمه مالك، وقيل غير ذلك.
قوله: «وهو سيد القارة» ، بالقاف وتخفيف الراء، وهي قبيلة مشهورة من بنى الهون- بالضم والتخفيف- ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بنى زهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي.
قوله: «أخرجني قومي» ، أي تسببوا في إخراجي.
قوله: «فأريد أن أسيح» ، بالمهملتين، لعلّ أبا بكر طوى عن ابن الدّغنّة تعيين جهة مقصدة لكونه كافرا، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها، حتى يسير في الأرض وحده زمانا، فيصدق أنه سائح، ولكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعا بعينه يستقر فيه.
قوله: «وتكسب المعدوم» - أو المعدم في رواية- وقد تقدم شرح هذه الكلمات في حديث بدء الوحي، وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبى بكر رضى اللَّه عنه بمثل ما وصفت به خديجة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ما يدل على عظيم فضل أبى بكر، واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال.
قوله: «وأنا جار لك» ، أي مجير أمنع من يؤذيك.
قوله: «فيتقذّف» بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر.
قوله: «بكّاء» بالتشديد أي كثير البكاء.
قوله: «لا يملك عينيه» ، أي لا يطيق إمساكها عن البكاء من رقة قلبه، وقوله: «إذا قرأ» ، إذا(8/319)
__________
[ () ] ظرفية، والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية والجزاء مقدر.
قوله: «فأفزع ذلك» أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام.
قوله: «نخفر له» بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء، أي نغدر بك، يقال: خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به.
قوله: «مقرين لأبى بكر الاستعلان» أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الّذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبناءهم أن يدخلوا في دينه.
قوله: «وأرضى بجوار اللَّه» أي أمانته وحمايته، وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين- وقوة يقين أبى بكر رضى اللَّه عنه.
قوله: «ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة» ، أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة، رجعوا إلى مكة، فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم، لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى، لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمين في سورة النجم، فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا، فرجع من رجع من الحبشة، فوجدوهم أشدّ ما كانوا.
قوله: «الخبط» بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر. قاله ابن فارس.
قوله: «في نحر الظهيرة» ، أي أول الزوال، وهو أشدّ ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها، وفي رواية ابن حبان: «فأتاه ذات يوم ظهرا» ، وفي حديث أسماء بنت أبى بكر عند الطبراني: «كان يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت: يا أبت هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قوله: «هذا رسول اللَّه متقنّعا» ، أي مغطيا رأسه، وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب، قالت عائشة: «وليس عند أبى بكر إلا أنا وأسماء» .
وفي هذا الحديث جواز لبس الطيلسان، وجزم ابن القيم بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يلبسه ولا أحد من أصحابه، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطليس.
قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يكثر التقنع» . وفي (طبقات ابن سعد) مرسلا: «ذكر الطيلسان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: هذا ثوب لا يؤدى شكره» .
قوله: «ثقف» بفتح المثلثة وكسر القاف، ويجوز إسكانها وفتحا وبعدها فاء» الحاذق، تقول:
ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه.
قوله: «لقن» بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون، اللّقين: السريع الفهم.(8/320)
قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي- وهو ابن أخى سراقة بن مالك بن جعشم- أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءتنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر دية، كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بنى مدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال:
يا سراقة: إني رأيت قد آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجّه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بى حتى دنوت منهم، فعثرت بى فرسي، فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى
__________
[ () ] قوله: «فيدلّج» بتشديد الدال بعدها جيم، أي يخرج بسحر إلى مكة.
قوله: «فيصبح مع قريش بمكة كبائت» أي مثل البائت، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه بغلس.
قوله: «يكتادان به» في رواية الكشميهني: «يكادان به» بغير مثناة، أي يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد.
قوله: «رضيفهما» بفتح الراء وكسر المعجمة، بوزن رغيف، أي اللبن المرضوف، أي التي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار، لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع، ويجوز الجر.
قوله: «حتى ينعق بها عامر» ينعق بكسر العين المهملة أي يصيج بغنمه، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم.
قوله: «والخريت الماهر بالهداية» قال ابن سعد وقال الأصمعي: إنما سمّى خريتا لأنه يهدى خرت الإبرة أي ثقبها، وقال غيره: قيل له ذلك لأنه يهتدى لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية.
قوله: «وقد غمس» بفتح العين المعجمة بعدها مهملة «حلفا» بكسر المهملة وسكون اللام، أي كان حليفا، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم، أو خلوق، أو في شيء يكن فيه تلويث، فيكون ذلك تأكيدا للحلف.(8/321)
كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الّذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرّب بى حتى إذا سمعت قراءة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر [رضى اللَّه عنه] يكثر الالتفات، ساخت [يدا] فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة، إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الّذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى، ولم يسألانى إلا أن قال:
أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة [رضى اللَّه عنه] ، فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، [فكسا] الزبير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبا بكر رضى اللَّه عنه ثياب بياض.
وسمع المسلمون بالمدينة فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، من مكة [فكانوا] يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه، حتى يردّهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم- قال ابن زبالة: وهي عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها من عدوهم- قال ابن شهاب: لأمر ينظر إليه، فبصر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال [بأعلى] صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الّذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظهر الحرّة، فعدل بهم ذات(8/322)
اليمين، حتى نزل بهم في بنى [عمرو] بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، [وقيل: لثمان خلون منه] [ (1) ] .
وفي الإكليل عن الحاكم، تواترت الأخبار بذلك، وقيل: قدم المدينة يوم الجمعة عشاء لثنتى عشرة مضت منه، وقيل: لليلتين مضتا منه، وقيل:
لثمان عشرة ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة، وعند البيهقي اثنتين، وعندي ليلة، وعند ابن حزم: خرجنا من مكة وقد بقي من صفر ثلاث ليال، وقال البرقي: قدمها ليلا، وقيل قدم لثلاث عشر ليلة مضت منه، وجزم ابن النجار بقدومه حين [الضحى] يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة من ربيع الأول، ووافقه جازما بذلك النووي في زوائده من كتاب السير من (الروضة) [ (2) ] .
قال [ابن] شهاب: فقام أبو بكر [رضى اللَّه عنه] للناس، وجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحىّ أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك، فلبث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بنى [عمر] بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسّس المسجد الّذي أسّس على التقوى، وصلّى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم ركب راحلته، فسار يمشى معه الناس، حتى بركت عند مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة، وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء اللَّه المنزل.
ثم دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغلامين، فساومهما بالمربد، ليتخذه مسجدا،
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 302- 303.
[ (2) ] (روضة الطالبين للنووي) : 7/ 407.(8/323)
فقالا: بل نهبه لك يا رسول اللَّه، فأبى أن يقبل [منهما] هبته، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر
ويقول:
اللَّهمّ إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار [والمهاجرة]
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
وخرّجه أيضا في كتاب اللباس، في باب التقنع، من حديث معمر عن الزهري، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] باختصار [ (1) ] ، وفرّقه في كتاب الجهاد في باب حمل الزاد في الغزو [ (2) ] ، وهجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة [ (3) ] ، وفي كتاب الأطعمة في باب الخبز المرقق، والأكل على الخوان والسفرة [ (4) ] .
وخرّج البخاري أيضا في الهجرة من حديث شعبة قال: سمعت أبا إسحاق الهمدانيّ يقول: سمعت البراء [رضى اللَّه عنه] يقول: أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة، فذكر قطعة مما تقدم [ (5) ] . وخرّجه
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 236، كتاب اللباس، باب (16) التقنّع، حديث رقم (5807) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 159، كتاب الجهاد والسير، باب (123) حمل الزاد في الغزو، وقول اللَّه عزّ وجلّ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] ، حديث رقم (2979) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 302- 303، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3906) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 662، كتاب الأطعمة، باب (8) الخبز المرقق، والأكل على الخوان والسّفرة، حديث رقم (53388) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 304، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3908) .(8/324)
مسلم كذلك [ (1) ] .
وخرّج البخاري ومسلم من حديث أبى إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب [رضى اللَّه [عنه]] يقول: جاء أبو بكر رضى اللَّه [عنه] إلى أبى في منزله، فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث معى ابنك يحمله معى إلى منزلي، فقال أبى: احمله، فحملته، وخرج أبى معه ينتقد ثمنه، فقال له أبى: يا أبا بكر، حدثني كيف صنعت ليلة سريت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال:
نعم، أسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت الشمس بعد، فأتيت الصخرة، فنزلنا عندها، وسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول اللَّه، وأنا أنفض لك ما حولك.
فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الّذي أردنا، فلقيته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال:
لرجل من أهل المدينة، قلت له: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت:
أفتحلب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر، والتراب، والقذى، قال: فرأيت البراء يضرب بيده على الأرض ينفض، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن، قال: ومعى إداوة أرتوى فيها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ليشرب منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فشرب منها وتوضأ] ، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوافقته قد استيقظ، فصببت على اللبن من الماء، حتى برد أسفله،
فقلت يا رسول اللَّه، اشرب من هذا اللبن، قال:
فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن للرحيل؟ قلت: بلى.
قال: فارتحلنا بعد ما زالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك، ونحن في
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 190، كتاب الأشربة، باب (10) جواز شرب اللبن، حديث رقم (2009) .(8/325)
جلد من الأرض فقلت: يا رسول اللَّه! أتينا، فقال: لا تحزن إن اللَّه معنا،
[فدعا] عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فارتطمت فرسه إلى بطنها- أرى- فقال:
إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، [فاللَّه] لكما أن أردّ عنكما الطلب، فدعا [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] اللَّه، فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم هاهنا، فلا يلقى أحدا إلا ردّه ووفّى لنا. اللفظ لمسلم، وقال فيه البخاري: فقال لرجل من أهل المدينة أو مكة، وقال فيه: فقال: إني أراكما قد دعوتما عليّ. ذكره البخاري في باب علامات النبوة [ (1) ] .
ولمسلم من حديث عثمان بن عمر، والنضر بن شميل، كلاهما عن أبى إسحاق، عن البراء، قال: اشترى أبو بكر من أبى [ (2) ] رحلا بثلاثة عشر درهما.. وساق الحديث بمعنى ما تقدم [ (3) ] .
وقال في حديثه من رواية عثمان بن عمر، [عن إسرائيل] : فلما دنا [دعا] عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فساخ
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 771- 772، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3615) .
وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقاق، باب (19) في حديث الهجرة، ويقال حديث الرحل، حديث رقم (3009) .
[ (2) ] (الرحل) : سرج البعير- وهو الكور- وقد يراد به القتب والحداجة.
(قائم الظهيرة) : أشدّ الحر وسط النهار، وقائمها: وقت استواء الشمس في وسط السماء.
(كثبة) : الكثبة القليل من اللبن.
(أرتوى) فيها الماء، أي أحمله للوضوء والشرب.
(ألم يأن) : ألم يقرب ويجيء وقت الرواح.
(الجلد) : الأرض الغليظة الصلبة.
(أتينا) : أتى الرجل، أي قصد وطلب، والمراد: أنهم لحقونا وأدركونا.
(فارتطمت) : ارتطمت في الوحل: إذا نشبت فيه ولم تكد تتخلص، وارتطم الرجل في أمره إذا سدّت عليه مذاهبه. (جامع الأصول) : 11/ 599، شرح الحديث رقم (9304) .
[ (3) ] في (صحيح مسلم) : «معنى حديث زهير عن أبى إسحاق» .(8/326)
فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه وقال: يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع اللَّه أن يخلصني مما أنا فيه، ولك عليّ لأعمينّ على من ورائي، وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك ستمر على إبلي وغلماني [بمكان] كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، قال: لا حاجة لي في إبلك.
فقدمنا المدينة ليلا، فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
انزل على بنى النجار أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطريق ينادون: يا محمد، يا رسول اللَّه [ (1) ] ... يا محمد يا رسول اللَّه! وخرّج البخاري في المناقب، من حديث إسرائيل بمعناه، وذكر نحوا أو
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 357- 358، كتاب الزهد والرقائق، باب (19) في حديث الهجرة، الحديث الّذي يلي الحديث رقم (3009) ، بدون رقم.
قال الإمام النووي: وهذا الحديث مما يسأل عنه، فيقال: كيف شربوا اللبن من الغلام وليس هو مالكه؟ وجوابه من أوجه:
أحدها: أنه محمول على عادة العرب أنهم يأذنون للرعاة إذا مرّ بهم ضيف أو عابر سبيل أن يسقوه اللبن ونحوه.
الثاني: أنه كان لصديق لهم يدلون عليه، وهذا جائز.
الثالث: لعلهم كانوا مضطرين، والجوابان الأولان أجود.
وفي هذا الحديث فوائد، منها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفضيلة ظاهرة لأبى بكر رضى اللَّه عنه من وجوه.
وفيه خدمة التابع للمتبوع، وفيه استصحاب الركوة والإبريق ونحوهما في السفر للطهارة والشرب.
وفيه فضل التوكل على اللَّه سبحانه وتعالى وحسن عاقبته، وفيه فضائل للأنصار لفرحهم بقدوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وظهور سرورهم به، وفيه فضيلة صلة الأرحام، سواء قربت القرابة والرحم أم بعدت، وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيه أقارب ينزل عندهم يكرمهم بذلك. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .(8/327)
قريبا منه في باب هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثني قدامة بن موسى، عن عائشة بنت قدامه قالت:
لما أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتحول عن فراشه، ولا ينام عليه في الليلة التي ائتمرت قريش في دار الندوة، على أن يثبتوه فيقتلوه، خرج على القوم حتى انتهى إلى بيت بكر رضى اللَّه عنه، وكان فيه حتى خرجا منه إلى الغار- غار ثور- خرجا من خوخة في ظهر بيت أبى بكر رضى اللَّه عنه ليلا.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث: لقد خرجت من الخوخة متنكرا، وكان أول من لقيني، الخبيث أبو جهل، فعمى اللَّه تعالى بصره عنى وعن أبى بكر [رضى اللَّه عنه] حتى مضيت،
ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر [رضى اللَّه عنه] ، فقال أبو بكر لعائشة [رضى اللَّه عنهما] : لو رأيتني ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ صعدنا الغار، فأما قدما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فتقطرتا دما، وأما قدماي، فعادتا كأنها صفوان، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يتعود الحفية، ولا الرعية، ولا الشقوة، [قال:] ولو رأيتنا ونحن نصعد في الغار، مرة هو أمامى، ومرة أنا أمامه، حتى سبقته إلى الغار فدخلته، وكان فيه جحر، فألقمته عقبى، ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليّ، قال أبو بكر رضى اللَّه عنه: إن كانت لدغة لدغتني، أحب إلى من أن تلدغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن أبى الحسن بن زبالة، في (تاريخ المدينة) : حدثني محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حارثة، عن أبيه قال: نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كلثوم ابن الهدم، بغلام [يقال] له: يا نجيح، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنجحت يا أبا بكر.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 317- 318، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3911) .(8/328)
وذكر عن محمد بن كعب القرظيّ وغيره، قالوا: لما بركت ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بباب أبى أيوب [رضى اللَّه عنه] ، جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يريد أن ينزل فتخلخل، فيطيف بها أبو أيوب [رضى اللَّه عنه] ، فيجد جبار بن صخر- أخا بنى سلمة- ينخسها، فقال أبو أيوب: يا جبار! أعن منزلي تنخسها؟
واللَّه بعثه بالحق، لولا الإسلام لضربتك بالسيف. قال: فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزل أبى أيوب، وقرّ قراره، وطابت داره، ونزل معه زيد بن حارثة.(8/329)
فصل في ذكر غزوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
[اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزا بنفسه سبعا وعشرين غزوة [ (1) ] ، وكانت سراياه التي بعث فيها، سبعا وأربعين سرية، وكان ما قاتل فيه من المغازي تسع غزوات] [ (2) ] .
قال البخاري: وقال محمد بن إسحاق: أول ما غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة [ (3) ] .
وخرّج من طريق شعبة، عن أبى إسحاق [قال:] كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، [قيل:] كم [غزوت] أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت: فأيهم كانت أول؟ قال:
[العشيراء] أو العشير، فذكرت ذلك لقتادة فقال: العشيرة [ (3) ] . وخرجه مسلم بمعناه [ (4) ] .
وقال محمد إسحاق: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة يوم الاثنين حين اشتد [الضحى] وكادت الشمس تعتدل لثنتى عشرة مضت من شهر ربيع الأول، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه اللَّه
__________
[ (1) ] اصطلح الرواة وأصحاب السّير، أن الغزوة: هي الحرب التي يحضرها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفسه. وأما البعث أو السرية: فإنه يرسل فيها طائفة من أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (ج) ، وأثبتناه من (خ) ، و (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) : 1/ 223، ذكر الخبر عن عدد مغازي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعوثه.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 354، كتاب المغازي، باب (1) غزوة العشيرة أو العشيرة، قال ابن إسحاق:
أول ما غزا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة، حديث رقم (3949) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 435- 436، كتاب الجهاد والسير، باب (49) عدد غزوات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1254) .(8/330)
بثلاث عشرة سنة، فأقام بقية ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وجمادين، ورجبا، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال، وذا القعدة، وذا الحجة [وولى تلك الحجة المشركون] [ (1) ] .
ثم خرج غازيا في صفر، على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة [ (2) ] ، حتى بلغ ودّان، وهي: [غزوة الأبواء] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 125.(8/331)
غزوة الأبواء
[ (1) ] يريد قريشا وبنى ضمرة، بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الّذي وادعه منهم مخشىّ بن عمرو الضمريّ، وكان سيدهم في زمانه ذلك.
__________
[ (1) ] الأبواء بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد: قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. قيل: سميت بذلك لما كان فيها من الوباء، وهي على القلب، وإلا لقيل:
الأوباء. (فتح الباري) .
وقال ثابت بن أبى ثابت اللغوي: سميت الأبواء لتبوّئ السيول فيها، وهذا أحسن، وقال غيره:
الأبواء فعلاء من الأبواة، أو أفعال كأنه جمع بوّ، وهو الجلد الّذي يحشى ترأمه الناقة فتدر عليه إذا مات ولدها، أو جمع بوى، وهو السواء، إلا أن تسمية الأشياء بالمفرد ليكون مساويا لما سمّى به، أو لا ترى أنا نحتال لعرفات وأذرعات، مع أن أكثر أسماء البلدان مؤنثة، ففعلاء أشبه به، مع أنك لو جعلته جمعا لاحتجت إلى تقدير واحده أو مفردة.
وسئل كثير الشاعر: لم سميت الأبواء أبواء؟ فقال: لأنهم تبوءوا بها منزلا، والأبواء قرية من أعمال الفرع في المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.
وقيل: الأبواء جبل على آرة، ويمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة، وهناك جبل ينسب إلى هذا الجبل، وقد جاء ذكره في حديث الصعب بن جثامة وغيره.
قال السكرى: الأبواء جبل شامخ مرتفع، ليس عليه شيء من النبات غير الخزم والبشام، وهو لخزاعة وضمرة.
وبالأبواء قبر أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم آمنة بنت وهب، وكان السبب في دفنها هناك، أن عبد اللَّه والد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمرا، فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ست سنين خرجت زائرة لقبره، ومعها عبد المطلب، وأم أيمن حاضنته صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة، ماتت بها.
ويقال: إن أبا طالب زار أخواله صلّى اللَّه عليه وسلّم بنى النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رجع منصرفا إلى مكة ماتت آمنة بالأبواء. (معجم البلدان) : 1/ 102، موضع رقم (152) .(8/332)
ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، ولم يلق كيدا، [فأقام بها بقية صفر، وصدرا من شهر ربيع الأول، وهي أول غزو غزاها] [ (1) ] .
وقال الواقدي: وفي هذه الغزاة، وادع بنى ضمرة من كنانة، على أن لا يكثروا عليه، ولا يعينوا عليه أحدا، ثم كتب بينهم كتابا [ (2) ] ، ثم رجع، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ]
(مجموعة الوثائق السياسية) : 158، ونصّ كتاب الموادعة: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لبني ضمرة، فإنّهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم، أن لا يحاربوا في دين اللَّه ما بلّ بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة اللَّه ورسوله. (المواهب اللدنية) : 1/ 340.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 125، (مغازي الواقدي) : 1/ 12.(8/333)
[غزوة بواط]
[ (1) ] قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في شهر ربيع الأول يريد قريشا حتى بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا [ (2) ] .
وقال الواقدي: ثم غزا بواط- وبواط حيال ضبّه من ناحية ذي خشب، بين بواط والمدينة ثلاثة برد- يعترض لعير قريش، فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش وألفان و [خمسمائة] بعير، [في ربيع الأول، على رأس ثلاث عشر شهرا] ، [ثم رجع ولم يلق كيدا] [ (3) ] .
وقال ابن إسحاق: فلبث بها- يعنى المدينة-[بقية] [ (4) ] شهر ربيع الآخر، وبعض [جمادى الأولى] ، ثم غزا قريشا، فسلك نقب بنى دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده صلّى اللَّه عليه وسلّم وصنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناس منه، فموضع أثافى البرمة معلوم [هنالك] [ (4) ] ، واستقى له من ماء به يقال له: المشترب، ثم ارتحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فترك الخلائق بيسار، [وسلك
__________
[ (1) ] بالضم وآخره طاء مهملة: واد من أودية القبيلة، عن الزمخشريّ عن على العلويّ، ورواه الأصيلي، والعذري، والمستملي- من شيوخ المغاربة- بواط، بفتح أوله، والأول أشهر، وقالوا: هو جبل من جبال جهينة بناحية رضوى، غزاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في شهر ربيع الأول في السنة الثانية من الهجرة يريد قريشا، ورجع ولم يلق كيدا. (معجم البلدان) : 1/ 596، موضع رقم (2209) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 142، وقال: «فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى» .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 12.
[ (4) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) 3/ 143، والضبوعة: اسم موضع، وملل: اسم موضع، يقال:
إنما سمى مللا لأن الماشي إليه من المدينة لا يبلغه إلا بعد جهد وملل. (المرجع السابق) : هامش ص 143.(8/334)
شعبة يقال لها: شعبة عبيد اللَّه، ثم صبّ لليسار حتى هبط بليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة] [ (1) ] واستقى من بئر بالضبوعة، ثم سلك الفرش، فرش [ملل] [ (1) ] ، حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام، ثم اعتدل [به] [ (1) ] الطريق حتى نزل العشيرة [واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) 3/ 143.(8/335)
غزوة بدر الأولى
ثم غزا في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا، في طلب كرز بن جابر الفهري، أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء ونواحيها، حتى بلغ بدرا ولم يدركه] [ (1) ] .
وذكر الواقدي أن غارة كرز في ربيع الأول بعد بواط، أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلبه، حتى بلغ واديا يقال له: سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، وهي غزوة بدر الأولى، ثم رجع إلى المدينة [ (2) ] ، [وكان قد استخلف عليها زيد بن حارثة رضى اللَّه عنه] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (خ) وليس في (ج) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 12.(8/336)
غزوة ذي العشيرة
[ثم غزا] العشيرة في جمادى الآخرة، على رأس ستة عشر شهرا، يعترض لعيرات قريش حين أبدأت إلى الشام، وكان قد جاءه الخبر بفصول العير من مكة تريد الشام، قد جمعت قريش أموالها، فهي في تلك العير، فسلك على نقب من بنى دينار، يريد بيوت السّقيا وهي غزوة ذي العشيرة، [واستخلف على المدينة في هذه الغزوة، أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضى اللَّه عنه] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ولم يقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلبه، حتى بلغ واديا يقل له:
سفوان [ (2) ] ، من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر فلم يدركه، وهي غزوة بدر الأولى، ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة، ورجبا، وشعبان] .
[قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بنى دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناس معه،
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 145- 146.
[ (2) ] وسفوان واد من ناحية بدر، قال ابن إسحاق: ولما أغار كرز بن الفهري.. إلخ. (معجم البلدان) : 3/ 254.(8/337)
فموضع أثافىّ البرمة معلوم هنالك، واستقى له صلّى اللَّه عليه وسلّم من ماء به، يقال له:
المشترب [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/338)
غزوة بدر الكبرى
ثم خرج إلى غزاة بدر، [وهي البطشة التي أعزّ اللَّه تعالى بها الإسلام، وأهلك رءوس الكفر] [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وبلغ [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [بدارا- ماء كان ليخلد بن النضر، ويقال لرجل من جهينة- وبين بدر والمدينة ثمانية برد] [ (2) ] ، وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أبا سفيان بن حرب، مقبل من الشام، في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجارتهم، وفيها ثلاثون رجلا من قريش، أو أربعون، منهم: مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، و [عمرو] بن العاص بن وائل،
فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأبي سفيان مقبلا من الشام، ندب إليهم المسلمين، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل اللَّه ينفلكموها،
فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز، يتحسس [ (3) ] الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان، أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتى قريشا
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) وأثبتناه من (ج) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) وأثبتناه من (خ) .
[ (3) ] التحسس بالحاء: أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم: هو أن تفحص عنها بغيرك،
وفي الحديث: «لا تجسسوا ولا تحسسوا» .(8/339)
فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه.
فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، فصرخ ببطن الوادي يقول: يا معشر قريش!! اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبى سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
فتجهز الناس سراعا، فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، فلم يتخلف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب قد تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان قد لاط [ (1) ] له بأربعة آلاف درهم، كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يجزئ [عنه] بعثه، فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.
وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة [يوم الاثنين] [ (2) ] لثمان ليالي خلون من رمضان، فساروا حتى التقوا مع المشركين ببدر.
وقال الواقدي: ولما [تحين] [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انصراف العير من الشام، ندب أصحابه للعير، وبعث طلحة بن عبيد اللَّه، وسعيد بن زيد، قبل خروجه من المدينة بعشر ليال، يتحسسان خبر العير، قال: وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمن معه، حتى انتهى إلى نقب بنى دينار، ثم نزل بالبقيع- وهي بيوت السّقيا- يوم الأحد لثنتى عشرة [ليلة] خلت من رمضان، فضرب عسكره هناك، وعرض المقاتلة.
[قال:] وقدم عدي بن أبى الزغباء، وبسبس بن عمرو، وراح عشية الأحد من بيوت السقيا، وخرج المسلمون معه، وهم ثلاثمائة وخمسة،
__________
[ (1) ] لاط له: أي أربى له، وقال أبو عبيد: وسمى الرّبا لياطا لأنه ملصق بالبيع، وليس بيع، وقيل للربا:
لياطا لأنه لاصق بصاحبه، لا يقتضيه، ولا يوضع عنه.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] في (الأصلين) : «تحقق» وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .(8/340)
وثمانية تخلفوا ضرب لهم بسهامهم وأجورهم، وكانت الإبل سبعين بعيرا، وكانوا يتعاقبون الإبل، الاثنين، والثلاثة، والأربعة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى بن أبى طالب رضى اللَّه عنه، [ومرثد] ، ويقال: زيد بن حارثة، يتعاقبون بعيرا واحدا، واستعمل على الماء قيس [بن] أبي صعصعة عمرو ابن زيد بن عوف بن مبذول، وأمره حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين، فوقف لهم، فعدّهم، وأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان [دوين] [ (1) ] ماء بدر، أتاه الخبر بمسير قريش،
فأخبرهم [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ]] بمسيرهم، واستشار [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ]] الناس، قال: فلما فرغ سعد من المشورة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
سيروا على بركة اللَّه، فإن اللَّه وعدني إحدى الطائفتين، واللَّه لكأنّي انظر إلى مصارع القوم،
قال: ونزل بأدنى بدر، عشاء ليلة الجمعة، ولسبع عشرة ليلة من رمضان، واستشار في المنزل، فأشار الحباب بن المنذر بنزوله على قليب بدر، فتحول إليه، وبنى له عريش من جريد، فدخله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر رضى اللَّه عنه [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو في قبته يوم بدر: اللَّهمّ أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهمّ إن تشأ لا تعبد بعد اليوم، فأخذ أبو بكر رضى اللَّه عنه بيده فقال: حسبك يا رسول اللَّه، ألححت على ربك، فخرج وهو ثبت في الدرع، فخرج وهو يقول:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ذكره في كتاب التفسير [ (4) ] ، وفي غزوة
__________
[ (1) ] دوين: تصغير دون، أي على مسافة أقل.
[ (2) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 19- 49 مختصرا.
[ (4) ] (فتح الباري) : 8/ 796، كتاب التفسير، باب (5) قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(8/341)
بدر، في باب ما قيل في درع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ () ] حديث رقم (4875) ، قال الحافظ في (الفتح) : هذا من مرسلات ابن عباس لأنه لم يحضر القصة،
وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، إن عمر قال: لما نزلت سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يثب في الدرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، فكأن ابن عباس حمل ذلك عن عمر، وكأن عكرمة حمله عن ابن عباس عن عمر، وقد أخرج مسلم من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس: حدثني عمر ببعضه.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 364، كتاب المغازي، باب (4) إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ... حديث رقم (3953) .
قوله: «اللَّهمّ إني أنشدك»
- بفتح الهمزة وسكون النون والمعجمة وضم الدّال، أي أطلب منك.
وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: «ما سمعنا منا شدا ينشد ضالة أشدّ منا شدة من محمد لربه يوم بدر: «اللَّهمّ إني أنشدك ما وعدتني» .
قال السهيليّ: سبب شدة اجتهاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ونصبه في الدعاء لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال، والأنصار يخوضون في غمرات الموت، والجهاد تارة يكون بالسلاح وتارة بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراء الجيش، لأنه لا يقاتل معهم فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء.
قوله: «اللَّهمّ إن شئت لم تعبد»
إنما قال ذلك لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ. لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، واستمر المشركون يعبدون غير اللَّه، فالمعنى: لا تعبد في الأرض بهذه الشريعة.
قوله: «فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك» قال الخطّابى: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحال، بل الحامل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على ذلك شفقته على أصحابه، وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة.
فلما قال له أبو بكر ما قال كفّ عن ذلك وعلم أنه استجيب له، لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ.
وقال غيره: وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. (فتح الباري) مختصرا.(8/342)
وخرج مسلم [ (1) ] والترمذي، من حديث ابن المبارك، عن عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك الحنفي قال: قال يونس: سمعت ابن عباس رضى اللَّه عنهما يقول: لما كان يوم بدر. وذكر مسلم من طريق عمر بن يونس الحنفي [قال:] حدثنا عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: لما كان يوم بدر، نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلة، ثم مدّ يديه، فجعل يهتف بربه: اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللَّهمّ آتني ما وعدتني، اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض.
فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه،
فأتاه أبو بكر رضى اللَّه عنه، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي اللَّه! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللَّه [تعالى:] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، فأمده اللَّه [تعالى] بالملائكة [ (1) ] .
زاد مسلم: قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: [بينما] رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخرّ مغشيا، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه بضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين [ (1) ] .
قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 327- 330، كتاب الجهاد والسير، باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإتاحة الغنائم، حديث رقم (1763) .(8/343)
لأبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضى اللَّه عنه: يا نبي اللَّه! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن نأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى اللَّه أن يهديهم للإسلام، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما ترى يا ابن الخطاب: قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ما أرى الّذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد، جئت فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول اللَّه! أخبرنى من أي شيء تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبكى الّذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة
- شجرة قريبة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فأنزل اللَّه عزّ وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [ (1) ] إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [ (1) ] فأحل اللَّه تعالى الغنيمة لهم [ (2) ] .
قال الواقدي: كان انهزام القوم وتوليهم حين زالت الشمس، فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببدر، وأمر عبد اللَّه بن كعب بقيض الغنائم وحملها، [وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نفرا من أصحابه أن يعينوه [ (3) ]] فصلى العصر ببدر، ثم راح فمر
__________
[ (1) ] الأنفال: 67- 69.
[ (2) ] (مسلم الشرح النووي) : 12/ 327- 330، كتاب الجهاد والسير، باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم (1763) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .(8/344)
بالأثيل [ (1) ] قبل غروب الشمس، فنزل به، وبات به، وأقبل بالأسرى، حتى إذا كان بعرق الظبية [ (2) ] ، أمر عاصم بن ثابت أن يضرب عنق عقبة بن أبى معيط، فقدمه فضرب عنقه، ولما نزلوا يسيرا بشعب بالصفراء، قسم الغنائم بها بين أصحابه، [وقدم] زيد بن حارثة، وعبد اللَّه بن رواحة، وتلقاه الناس يهنئونه بالروحاء حتى قدم المدينة [ (3) ] [واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الأثيل: واد طوله ثلاثة أميال، بينه وبين بدر ميلان، فكأنه بات على أربعة أميال من بدر. (المرجع السابق) .
[ (2) ] عرق الظبية: موضع بالصفراء، وهناك قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقبة بن أبى معيط. قال ابن هشام: وغير ابن إسحاق يقول: عرق الظّبية- بضم أوله- وكان عقبة بن أبى معيط قد تفل في وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم: لئن أخذتك خارج الحرم لأقتلنك، فلما أسره ببدر وبلغ عرق الظبية، ذكر نذره فقتله صبرا، وقتل حين خرج من مضيق الصفراء النضر بن الحارث. (معجم ما استعجم) : 2/ 903.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 114- 115.
[ (4) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/345)
غزوة بنى قينقاع
ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة بنى قينقاع من اليهود، في يوم السبت، النصف من شوال بعد البدر، فحصرهم إلى هلال ذي القعدة وجلالهم.
وقيل: كانت في صفر سنة ثلاث من الهجرة، وجعلها ابن إسحاق بعد غزاة قرارة الكدر، ولم يتجاوز أرض المدينة.
[قال ابن الأثير: لما عاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر، أظهرت يهود له الحسد بما فتح عليه، وبغوا ونقضوا العهد، وكان قد وادعهم حين قدم المدينة مهاجرا] .
[فلما بلغه حسدهم جمعهم بسوق بنى قينقاع، فقال لهم: احذروا ما نزل بقريش وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبي مرسل. فقالوا: يا محمد! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة] .
[فكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبينه، فبينما هم على مجاهرتهم، إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوق بنى قينقاع، فجلست عند صائغ لأجل حلىّ لها، فجاء رجل منهم فحل درعها إلى ظهرها، وهي لا تشعر، فلما قامت بدت عورتها، فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله، ونبذوا العهد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتحصنوا في حصونهم، فغزاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حكمه، فكتفوا وهو يريد قتلهم، وكانوا حلفاء الخزرج،
فقام إليه عبد اللَّه بن أبىّ بن سلول، فكلمه فيهم، فلم يجبه، فأدخل يده إلى جيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فغضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: ويحك! أرسلنى، فقال: لا أرسلك حتى تحسن إلى موالىّ،(8/346)
أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعونى من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، وإني واللَّه لأخشى الدوائر، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هم لك، خلوهم، لعنهم اللَّه ولعنه معهم] [ (1) ] .
[وغنم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون ما كان لهم، ولم يكن لهم أرضون، إنما كانوا صاغة، وكان الّذي أخرجهم عبادة بن الصامت الأنصاري، فبلغ بهم ذباب [اسم موضع] ، ثم ساروا إلى أذرعات من أرض الشام، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى هلكوا] [ (1) ] .
[وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استخلف على المدينة أبا لبابة، وكان لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع حمزة، وقسم الغنيمة بين أصحابه وخمسها، وكان أول خمس أخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قول] [ (1) ] .
[ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحضر الأضحى، وخرج إلى المصلّى، فصلى بالمسلمين، وهي أول صلاة عيد صلاها، وضحى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشاتين، وقيل بشاة، وكان أول أضحى رآه المسلمون، وضحى معه ذو اليسار، وكانت الغزاة في شوال بعد بدر، وقيل: كانت في صفر سنة ثلاث، وجعلها بعضهم بعد غزوة الكدر] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ) : 2/ 137- 139.(8/347)
غزوة السويق
ثم خرج إلى غزوة السويق [ (1) ] ، يوم الأحد الخامس من ذي الحجة، على رأس اثنتين وعشرين شهرا من مهاجره صلّى اللَّه عليه وسلّم، فغاب خمسة أيام في طلب أبى سفيان بن حرب ومن معه [ (2) ] ، و [استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر العمرى] [ (3) ] .
[قال ابن هشام: [لما] فل [المنهزمون] من قريش من بدر نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له: ثيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيىّ بن أخطب فضرب على بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مكشم- وكان سيد بنى النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم- فاستأذن عليه فأذن له. فقراه وسقاه، وبطنه من خبر الناس [أعلمه بسرهم] ، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها: العريض، فحرقوا أصوار نحل بها [أي نخل مجتمع] . ووجدوا بها رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] السويق: طعام عبارة عن حنطة، أو شعير محمص مطحون، ممزوج بعسل وسمن.
[ (2) ] (سيرة بن هشام) : 3/ 310- 311.
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/348)
[فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، وهو أبو لبابة فيما قال ابن هشام، حتى بلغ قرارة الكدر [أرض ملساء]- ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون منها للنجاة،
فقال المسلمون حين رجع بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا رسول اللَّه أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: وإنما سميت غزوة السويق، فيما حدثني أبو عبيده، أن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة السويق] [ (1) ] .
[وفي هذا الحديث أن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية، بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، كما بقي فيهم الحج، والزواج، ولذلك سموها جنابة، وقالوا: رجل جنب، وقوم جنب، لمجانبتهم في تلك الحال البيت الحرام، ومواضع قرباتهم، ولذلك عرف معنى هذه الكلمة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [ (2) ] ، وقوله تعالى:
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] المائدة: 6.
[ (3) ] النساء: 43.(8/349)
غزوة قرارة الكدر
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة قرارة الكدر، للنصف من المحرم، على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من هجرته في قول الواقدي. وعند ابن إسحاق: أنه خرج في شوال سنة اثنتين بعد بدر، في طلب غطفان وسليم، وعاد بعد خمس عشرة ليلة بغنائم [ (1) ] ، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم المعيصى] [ (2) ] .
[قال الواقدي: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى قرارة الكدر إلى بنى سليم وغطفان للنصف من المحرم، على رأس ثلاثة وعشرين شهرا، وغاب خمس عشرة ليلة، وكان الّذي هاجه على ذلك أنه بلغه أن بها جمعا من غطفان وسليم، فسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم، وأخذ عليهم الطريق حتى جاء فرأى أثار النعم ومواردها، ولم يجد في المجال أحدا، فأرسل في أعلى الوادي نفرا من أصحابه، واستقبلهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بطن الوادي، فوجد رعاء فيهم غلام يقال له يسار، فسألهم عن الناس، فقال يسار: لا علم لي بهم، إنما أورد لخمس وهذا يوم ربعي، والناس قد ارتيعوا إلى المياه] [ (1) ] .
[فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد ظفر بنعم، فانحدر إلى المدينة حتى إذا صلى الصبح، فإذا هو بيسار، فرآه يصلى، فأمر القوم أن يقسموا غنائمهم، فقال القوم: يا رسول اللَّه! إن أقوى لنا أن نسوق النعم جميعا، فإن فينا من يضعف عن حظه الّذي يصير إليه] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 183- 184.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/350)
[فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقتسموا، فقالوا: يا رسول اللَّه: إن كان أنمّ بك العبد الّذي رأيته يصلى، فنحن نعطيكه في سهمك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
قد طبتم نفسا؟ قالوا: نعم، فقبله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأعتقه، وارتحل الناس،
فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، واقتسموا غنائمهم، فأصاب كل رجل منهم سبعة أبعرة، وكان القوم مائتين] [ (1) ] .
[وعن أبى أروى الدوسيّ قال: كنت في السرية، وكنت ممن يسوق النعم، فلما كنا بصرار- على ثلاثة أميال من المدينة- خمس النعم، وكان النعم خمسمائة بعير، فأخرج خمسة، وقسم أربعة أخماس على المسلمين- فأصابهم بعيران] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/351)
غزوة ذي أمر [وهي غزوة غطفان]
ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة ذي أمر- وهي غزوة غطفان- وكانت يوم الخميس الثامن عشر من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا في قول الواقدي [ (1) ] ، وعند ابن إسحاق [ (2) ] : أنها كانت في المحرم سنة ثلاث من الهجرة، يريد ثعلبة ومحارب، وعاد من غير أن يلقى كيدا، بعد إحدى عشرة ليلة، [واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى اللَّه تعالى عنه] [ (3) ] .
[سببها أن جمعا من بنى ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربي، وكان شجاعا] [ (3) ] .
[فندب صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فلما سمعوا بمهبطه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليهم هربوا في رءوس الجبال، فأصابوا رجلا منهم يقال له: حبان من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وضمه إلى بلال رضى اللَّه تعالى عنه- ليعلمه الشرائع-] [ (3) ] .
[وأصاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مطر، فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفّا، واضطجع تحتها، وهم ينظرون إليه، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 193.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 312.
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(8/352)
به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من يمنعك منى؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّه، فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من يمنعك منى؟ فقال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام.
وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ (1) ] ، ويقال:
كان ذلك في ذات الرقاع] [ (2) ] .
[وقال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلا منه] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] المائدة: 11.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 388- 389.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 312.(8/353)
غزوة بحران
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بحران من ناحية الفرع، في سادس [جمادى] الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا، ثم عاد بعد عشر ليالي، ولم يلق صلّى اللَّه عليه وسلّم كيدا، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[وسببها: أنه بلغه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن بها جمعا كبيرا من بنى سليم، فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، فرجع ولم يلق كيدا] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران من ناحية الفرع بضمتين، يقال: هي أول قرية مارت إسماعيل وأمه التمر بمكة، وهي من ناحية المدينة، وفيها عينان يقال لهما: الربض والنجف، يسقيان عشرين ألف نخلة، كانت لحمزة بن عبد اللَّه بن الزبير، والفرع بفتحتين موضع بين الكوفة والبصرة، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 389.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 313.(8/354)
غزوة أحد
ثم كانت غزاة أحد، يوم السبت لسبع خلون من شوال، على رأس اثنتين وثلاثين شهرا ظاهر المدينة، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال الواقدي: وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد منهم: واللَّه إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، وكلما أتى خالد من قبل مسيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليجوز حتى يأتى من قبل السفح فيرده الرماة، حتى فعلوا ذلك مرارا، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو عز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هكذا فاحموا ظهرنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا] [ (2) ] .
[فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم، حيث شاءوا حتى أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر] [ (2) ] .
[قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون هنا في غير شيء؟ قد هزم اللَّه العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم، فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لكم: احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا، احموا ظهورنا؟] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 229 وما بعدها مختصرا.(8/355)
[فقال الآخرون: لم يرد رسول اللَّه هذا، وقد أذل اللَّه المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون به من الدهشة والعجل. ولقد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدرى، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري!
وكر أبو زغنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين وما يشعر، إنه يقول: خذها وأنا أبو زغنة! حتى عرفه بعد ذلك، فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بى، فيقول له أبو زغنة: أنت ضربت أسيد ابن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل اللَّه] [ (1) ] .
[فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو في سبيل اللَّه، يا أبا بردة لك أجره، حتى كأنه ضربك أحد من المشركين، ومن قتل فهو شهيد] [ (1) ] .
[وكانت عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرجت في نسوة تستروح الخبر- ولم يضرب الحجاب يومئذ- حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بنى حارثة إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام، أخت عبد اللَّه بن عمرو ابن حرام تسوق بعيرا لها، عليه زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد بن عمرو، وأخوها عبد اللَّه بن عمرو بن حرام أبو جابر، فقالت عائشة- رضى اللَّه عنها- عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت: هند: خيرا، أما رسول اللَّه فصالح، وكل مصيبة بعده جلل] [ (1) ] .
[واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (2) ]] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 229 وما بعدها مختصرا.
[ (2) ] الأحزاب: 25.(8/356)
غزوة حمراء الأسد
وخرج يوم الأحد، صبيحة أحد إلى حمراء الأسد، في طلب قريش، ثم عاد بعد ثلاث، ولم يلق كيدا، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال الواقدي: وكانت يوم الأحد لثمان خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا، ودخل المدينة يوم الجمعة وغاب خمسا] [ (2) ] .
[وقال جابر بن عبد اللَّه: يا رسول اللَّه، إن مناديا نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس، وقد كنت حريصا على الحضور، ولكن أبى خلفنى على أخوات لي وقال: يا بنى، لا ينبغي لي ولك أن ندعهن ولا رجل عندهن، وأخاف عليهنّ وهن نسيات ضعاف، فأذن لي يا رسول اللَّه أن أسير معك، فأذن له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] .
[قال جابر: فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري، واستأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم] [ (2) ] .
[وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد شطيت، وشفته قد كلمت من باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه محجوشتان] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 334 وما بعدها مختصرا.(8/357)
[فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد فركع ركعتين، والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحقوهم بحمراء الأسد، ولهم زجل، وهم يأتمرون بالرجوع] [ (1) ] .
[ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد، قال جابر: وكان عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملا حتى وافت الحمراء، وساق جزرا فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثا] [ (1) ] .
[وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران، فيوقد كل رجل نارا، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان مما كبت اللَّه تعالى عدونا] [ (1) ] .
[ومر بأبي سفيان نفر من عبد القيس يريدون المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون محمدا وأصحابه ما أرسلكم به، على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ، إن أنتم جئتمونى؟ قالوا: نعم، قال: حيثما لقيتم محمدا وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم، وأنا في آثارهم، فانطلق أبو سفيان] [ (1) ] .
[وقد الركب على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بالحمراء، فأخبروهم الّذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وفي ذلك أنزل اللَّه عز وجل:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [ (2) ] ، وقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ (3) ]] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 334 وما بعدها.
[ (2) ] آل عمران: 172.
[ (3) ] آل عمران: 173.(8/358)
غزوة بنى النضير
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزوة بنى النضير من اليهود، في ربيع الأول، على رأس سبعة وعشرين شهرا من الهجرة، في قول الواقدي. وقال الزهري: [هي] غزوة كانت على رأس ستة أشهر من وقعة [بدر] قبل أحد. وجعلها ابن إسحاق بعد بئر معونة وأحد، فحصرهم ست ليالي، حتى أنزلهم وجلاهم عن المدينة، ثم عاد بعد خمسة عشر يوما [ (1) ] ، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بنى النضير يستعينهم في دية القتيلين من بنى عامر، فلما أتاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه] [ (3) ] .
[ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد- فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟] [ (3) ] .
[فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفر من أصحابه، فيهم: أبو بكر، وعمر وعلى- رضوان اللَّه تعالى عليهم] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] قال الواقدي: كانت في ربيع الأول، على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(المغازي) : 1/ 363.
[ (2) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 43- 146 مختصرا.(8/359)
[فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انتهوا إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد! قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟] [ (1) ] .
[قال أهل التأويل: وقع في نفوس المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل اللَّه تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها، واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرني، ففي هذه الآية: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يحرق من نخلهم إلا ما ليس بقوت للناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وقال تعالى: لِينَةٍ، ولم يقل: نخلة على العموم، تنبيها على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو، إذا رجى أن يصير إلى المسلمين] [ (1) ] .
[وخلوا الأموال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
[ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان: يامين بن عمير، أبو كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 143- 146 مختصرا.(8/360)
[قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما هم به؟
فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون] .
[ونزل في بنى النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم اللَّه به من نقمته، وما سلط عليهم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما عمل به فيهم [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام: 4/ 143- 146 مختصرا.(8/361)
غزوة بدر الموعد
وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بدر الموعد لهلال ذي القعدة، على رأس خمسة وأربعين شهرا، فأقام بها ليوافيه أبو سفيان، فلم يأته، وعاد بعد ست عشرة ليلة إلى المدينة، ولم يلق كيدا. [واستعمل على المدينة عبد اللَّه بن أبى ابن سلول الأنصاري] [ (1) ] .
[خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لملاقاة أبى سفيان في شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان، قال ابن إسحاق: فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، من ناحية الظهران] [ (2) ] .
[وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع، فارجعوا، فرجع الناس.
فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق] [ (2) ] .
[وأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده، فأتاه مخشى بن عمرو الضمريّ، وهو الّذي كان وادعه على بنى ضمرة في غزوة ودان، فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم يا أخا بنى ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم اللَّه بيننا وبينك، قال: لا واللَّه يا محمد، ما لنا بذلك منك حاجة [ (2) ]] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 165.(8/362)
غزوة ذات الرقاع
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، ليلة السبت، لعشر خلون من المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، يريد أنمارا وثعلبة، فبلغ صرار، وعاد يوم الأحد لخمس بقين منه، [فكانت] غيبته خمسة عشرة ليلة، ولم يلق كيدا، [واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى اللَّه عنه] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى، ثم غرا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلا [موضع بنجد] ، وهي غزوة ذات الرقاع] [ (2) ] .
[قال ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع، لأنهم رفعوا فيها راياتهم، ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع] [ (2) ] .
[وذكر غيره: أنها أرض فيها يقع سود، ويقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك، وكانوا قد نزلوا في تلك الغزاة] [ (2) ] .
[وأصح من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخاري في صحيحه من طريق أبى موسى الأشعري، قال: «خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفارى، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من
__________
[ (1) ] قال ابن إسحاق: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاريّ، ويقال: عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام، (المرجع السابق) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165.(8/363)
الخرق على أرجلنا، فحدق أبو موسى بهذا، ثم كره ذلك فقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلقى بها جمعا عظيما من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد اللَّه، أن رجلا من بنى محارب، يقال له: غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف نقلته؟ قال: أفتك به، قال: فأقبل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس، وسيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجره، فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم- وكان محلى بفضة، فيما قال ابن هشام- قال: فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه، ويهم فيكبته اللَّه تعالى، ثم قال: يا محمد! أتخافنى؟ قال: لا، وما أخاف منك؟
قال: أما تخافنى وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني اللَّه منك، ثم عمد إلى سيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرده عليه] [ (1) ] .
[قال: فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش، أخى بنى النضير، وما هم به، فاللَّه أعلم أي ذلك كان] [ (1) ] .
[ثم
حكى ابن إسحاق قصة جمل جابر بن عبد اللَّه- رضى اللَّه عنه- وتخلفه، وأنه سبق بعد ذلك ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا جابر،
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165.(8/364)
هل تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يا رسول اللَّه، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أثيبا أم بكرا؟
قال: لا، بل ثيبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك! قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن، وتقوم عليهنّ، قال: أصبت إن شاء اللَّه] [ (1) ] .
[قال: فلما جئنا صرارا [موضع قريب من المدينة] أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل ودخلنا] [ (1) ] .
[فترك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منزلا، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين، رجل آخر من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول اللَّه، قال:
فكونا بفم الشعب،
قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما: عمار بن ياسر، وعباد بن بشر، فيما قال ابن هشام] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجرى: أي الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله، قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلى، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم أي الطليعة الّذي يحرس القوم من مكان مرتفع] [ (1) ] .
[قال: فرمى بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه ووضعه، فثبت قائما، قال:
ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، قال: فنزعه ووضعه فيه، وثبت قائما، ثم عادله بالثالث، فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبة فقال: اجلس قد أثبت «أي جرحت جراحة بالغة» ] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165.(8/365)
[قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به، فهرب، قال: ولما رأى المهاجري، بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان اللَّه! أفلا أهببتنى أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها «أتم قراءتها» ، فلما تابع على الرمي ركعت فأذنتك، وأيم اللَّه لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها] [ (1) ] .
[وفي هذا الحديث من الفقه صلاة المجروح، وفيه متعلق لمن يقول: إن غسل النجاسة لا يعد في شروط صحة الصلاة، وفيه من الفقه أيضا تعظيم حرمة الصلاة، وأن للمصلى أن يتمادى عليها وإن جر إليه ذلك القتل، وتفويت النفس، مع أن التعرض لفوات النفس لا يحل إلا في حالة المحاربة، ألا ترى إلى قوله: «لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها» يعنى السورة التي كان يقرأها] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة من غزوة الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجبا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165 مختصرا.(8/366)
غزوة دومة الجندل
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة دومة الجندل، في الخامس والعشرين من ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرا، وعاد في العشرين من ربيع الآخر، [واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة] [ (1) ] .
[دومة الجندل: بينها وبين المدينة خمس عشر ليلة بسير الإبل، وسميت بدومى بن إسماعيل عليه السلام، لأنها نزلها] [ (2) ] .
[كانت غزوة دومة الجندل- كما قال الواقدي- في ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرا، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخمس ليال بقين من ربيع الأول، وقدم لعشر بقين من ربيع الآخر] [ (2) ] .
[[لما] أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يدنو إلى الشام، وقيل له: إنها طرف من أفواه الشام، فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر، وقد ذكر له أن بدومة الجندل جمعا كثيرا، وأنهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة [جمع ضافط، وهو الّذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الّذي يكرى الأحمال، وكانوا يؤمئذ قوما من الأنباط، يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت] ، وكان بها سوق عظيم وتجار، وضوى إليهم قوم من العرب كثير، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة] [ (2) ] .
[فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، فخرج في ألفين من المسلمين، فكان يسير الليل ويمكن النهار، ومعه دليل من بنى عذرة يقال له: مذكور، هاد خرّيت [ماهر بالطرق ومسالكها] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 402- 404 مختصرا.(8/367)
[فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مغذّا للسير، ونكب عن طريقهم، ولما دنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من دومة الجندل- وكان بينه وبينها يوم أو ليلة سير الراكب المعتق-[السريع] ،
قال له الدليل: يا رسول اللَّه: إن سوائمهم ترعى، فأقم لي حتى أطلع لك، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم] [ (1) ] .
[فخرج العذري طليعة حتى وجد آثار النعم والنساء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا] [ (1) ] .
[ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا، وفرقها، حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه، ولم يصادفوا منهم أحدا، وترجع السرية بالقطعة من الإبل، إلا أن محمد بن مسلمة أخذ رجلا منهم، فأتى به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم] [ (1) ] .
[فعرض عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الإسلام أياما فأسلم، فرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 402- 404.(8/368)
غزوة المريسيع
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة المريسيع، يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس من الهجرة، فأوقع بنى المصطلق من خزاعة، وعاد لهلال رمضان، فغاب شهرا إلا ليلتين، وعند ابن إسحاق: أنها كانت في شعبان من السنة السادسة، [واستخلف على المدينة زيد بن حارثة] [ (1) ] .
[المريسيع] : بضم أوله وفتح ثانيه بعده ياء ساكنة، وسين مكسورة مهملة، بعدها ياء أخرى، وعين مهملة، على لفظ التصغير: قرية من وادي القرى، كان الزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير نازلا في ضيعته بالمريسيع، مقيما في مسجدها، لا يخرج منها إلا إلى وضوء، فكان دهره كالمعتكف] [ (2) ] .
[قال البخاري: المريسيع: ماء بنجد، في ديار بنى المصطلق من خزاعة] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: من ناحية قديد إلى الشام، غزاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سنة ست، فهي غزوة المريسيع، وغزوة بنى المصطلق، وغزوة نجد، قال ابن إسحاق: سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع، قال الزهري: وفيها كان حديث الإفك] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا، ثم غزا بنى المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاريّ، ويقال: نميلة بن عبد اللَّه الليثي.
[ (2) ] المرجع السابق (سيرة ابن هشام) : 4/ 252.(8/369)
[قالوا: [لما] بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن بنى المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار، أبو جويرية بنت الحارث، زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له:
المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم اللَّه بنى المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم] [ (1) ] .
[وقد استشهد رجل من المسلمين يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ] [ (1) ] .
[ثم راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له: بقعاء، فلما راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها] [ (1) ] .
[فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تخافوها، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، أحد بنى قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود، وكهفا للمنافقين، مات في ذلك اليوم] [ (1) ] .
[وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما- فيما يظهر- فقال: يا رسول اللَّه، جئتك مسلما، وجئتك أطلب دية أخى، قتل خطأ، فأمر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .(8/370)
[وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أصاب منهم سبيا كثيرا، فشا قسمه بين المسلمين، وكان فيمن أصيب من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
[وقد أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سفره ذلك، حتى إذا كان قريبا من المدينة، وكانت معه عائشة في سفره ذلك، قال فيها أهل الإفك ما قالوا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 252 وما بعدها مختصرا، وحديث الإفك معروف أمسكنا عن ذكره لطوله واشتهاده.(8/371)
[غزوة الخندق]
ثم كانت غزاة الخندق، ظاهر المدينة، في ذي القعدة سنة خمس، وقيل:
كانت في شوال، وقيل: بل كانت في سنة أربع، فأقام فيها خمسة عشر يوما، وقيل: عشرين يوما، وقيل: نحو شهر، ولم يتجاوز أرض المدينة، [وهي آخر غزاة غزاها أهل الكفر إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[لم يكن حفر الخندق من عادة العرب، ولكنه من مكايد الفرس وحربها، ولذلك أشار به سلمان الفارسي رضى اللَّه عنه] [ (2) ] .
[كان من حديث الخندق: أن نفرا من اليهود حزّبوا الأحزاب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله] [ (2) ] .
[فلما سمع بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وظهر أثناء حفر الخندق كثير من المعجزات ودلائل النبوة، سبق ذكرها في أبواب معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] .
ولما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة [أسماء مواضع] في عشرة آلاف من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.(8/372)
أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة، وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد، وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع [جبل بالمدينة] في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآكام، [الحصون] .] [ (1) ] .
[وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بنى عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: وأخبرنى من أثق به من أهل العلم أن معتب بن قشير لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كانت من أهل بدر] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وحتى قال أوس بن قيظى أحد بنى حارثة بن الحارث:
يا رسول اللَّه، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنّها خارج من المدينة، فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة، قريبا من شهر، لم تكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وكانت عائشة أم المؤمنين في حصن بنى حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة. قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، فقالت عائشة وذلك قبل أن يضرب عليها الحجاب: فمرّ سعد وعليه درع له مقصلة [قصيرة قد ارتفعت عن حدها] ، قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل بها ويقول:] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.(8/373)
[لبّث قليلا يشهد الهيجا جمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل] [ (1) ]
[فقالت له أمه: ألحق أي بنى، فإنك واللَّه أخّرت!] [ (1) ] [قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد، واللَّه لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ مما هي؟ قال: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمى سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل [عرق في وسط الذراع] ، رماه كما حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة: حبان بن قيس بن العرقة، أحد بنى عامر بن لؤيّ، فلما أصابه قال: خذها منى وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرّق اللَّه وجهك في النار، اللَّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه.
اللَّهمّ إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتنى حتى يقرّ عيني من بنى قريظة.] [ (1) ]
[فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع اللَّه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة:
عكرمة بن أبى جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر [الإبل والخيل] ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ ما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نفعل فيه شيئا، وقد كان أحدث بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا، ثقة لنا نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرّتكم الحرب [نالت منكم] ، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا [ترجعوا] إلى بلادكم، وتتركونا، والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه.] [ (1) ]
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.(8/374)
[فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان:
واللَّه إن الّذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا واللَّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا] [ (1) ] .
[فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذين ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، خلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا واللَّه لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذّل اللَّه بينهم] [ (1) ] .
[وبعث اللَّه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم واللَّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأحلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الّذي نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنّي مرتحل] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة، والمسلمين، ووضعوا السلاح [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.(8/375)
[غزوة بنى قريظة]
وخرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى غزاة بنى قريظة من اليهود، يوم الأربعاء لسبع خلون من ذي الحجة، سنة خمس، فحصرهم خمسا وعشرين ليلة، وقيل:
خمسة عشر يوما، وقيل: شهرا، حتى نزلوا، فقتل المقاتلة، وسبى النساء والذّرية، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلما كانت الظهيرة أتى جبريل عليه السلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما حدثني الزرى، معتجرا [الاعتجار التعمم على الرأس فقط دون جوانب الوجه أو اللحية] بعمامة من إستبرق [ديباج غليظ حسن] على بغلة عليها رحالة [سرج] عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن اللَّه عزّ وجلّ يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم] [ (2) ] .
[فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤذنا، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة، وقدّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليّ بن أبى طالب برايته إلى بنى قريظة، وابتدرها الناس، فسار عليّ بن أبى طالب حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرجع حتى لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالطريق، فقال: يا رسول اللَّه، لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول اللَّه، قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 192- 212 مختصرا.(8/376)
حصونهم قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم اللَّه وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم. ما كنت جهولا] [ (1) ] .
[ومرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفر من أصحابه قبل أن يصل إلى بنى قريظة، قال:
هل مرّ بكم أحد؟ قالوا: يا رسول اللَّه قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة دباج، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ذلك جبريل بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، وحاصرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: حدثني بعض من أثق به من أهل العلم: أن على بن أبى طالب صاح وهم محاصرو بنى قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام، وقال: واللَّه لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم،
فقالوا: يا محمد، ننزل على حكم سعد بن معاذ، ثم استنزلوا فحبسهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة في دار بنت الحارث، - امرأة من بنى النجار- ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ثم يخرج بهم أرسالا [طائفة بعد أخرى] وفيهم عدو اللَّه حيىّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة، وأتى بحييّ بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أما واللَّه ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل اللَّه يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر اللَّه، كتاب وقدر، ملحمة كتبها اللَّه على بنى إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه، قال ابن إسحاق:] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 912- 212 مختصرا.(8/377)
[ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قسم أموال بنى قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأخرج منها الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازي] [ (1) ] .
[ثم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصاري بسبي من سبايا بنى قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بنى قريظة، انفجر بسعد بن معاذ جرحه، فمات منه شهيدا [ (1) ] .]
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 192- 212 مختصرا.(8/378)
[غزوة بنى لحيان]
ثم خرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى غزوة بنى لحيان من هذيل، لهلال ربيع الأول سنة ست، فنزل عسفان وعاد بعد أربع عشرة ليلة، وقيل: كانت في [جمادى] بعد بنى قريظة، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: ثم أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح قريظة، إلى بنى لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من العدو غرّة] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: فسلك على غراب، - جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام-، ثم على محيص، ثم على البتراء، ثم صفّق [عدل] ذات اليسار، فخرج على بين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجّة من طريق مكة، إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فلما نزلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال: لو أنّا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنّا قد جئنا مكة،
فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغ كراع الغميم، ثم كرّ وراح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قافلا] [ (2) ] .
[فكان جابر بن عبد اللَّه يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول حين وجه راجعا: آئبون تائبون إن شاء اللَّه لربنا حامدون، أعوذ باللَّه من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] المرجع السابق.(8/379)
[غزوة الغابة]
ثم خرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى الغابة، في طلب عيينة بن حصن الفزاري، لما أغار على لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ست، ورجع ليلة الإثنين، وقيل: بل خرج إلى غزاة المريسيع في شعبان، بعد غزوة الغابة هذه، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[وتعرف بذي قرد- بفتح القاف وبالدال المهملة- وهو ماء على بريد من المدينة، في ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبيّة] [ (2) ] .
[وعند البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. قال مغلطاى: وفي ذلك نظرا لإجماع أهل السير على خلافهما. قال القرطبي- شارح مسلم- لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبيّة. وقال الحافظ ابن حجر: ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكر أهل السير] [ (2) ] .
[وسببها أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرون لقحة- وهي ذوات اللبن، القريبة العهد بالولادة- ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء، في أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبى ذرّ] [ (2) ] .
[ونودي: يا خيل اللَّه اركبي، وكان أول ما نودي بها، وركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في خمسمائة، وقيل: سبعمائة وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 474- 476.(8/380)
يحرسون المدينة] [ (1) ] .
[وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء في رمحه وقال له: امض حتى تلحقك هذه الخيول، وأنا على أثرك، فأدرك أخريات العدو، وأدرك سلمة ابن الأكوع القوم وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل وهو يقول:] [ (1) ]
[خذها وأنا بن الأكوع ... واليوم يوم الرّضع] [ (1) ]
[يعنى هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أي راضع اللؤم في بطن أمه، وقيل: معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره] [ (1) ] .
[وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتى والرجل على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد، فاستنفذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر] [ (1) ] .
[وصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع.
وقد غاب خمس ليال، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 474- 476، مختصرا.(8/381)
[غزوة خيبر]
ثم خرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى غزوة خيبر في صفر سنة سبع، وقيل: كانت في سنة ست، فحاصر اليهود حتى غنّمه اللَّه ديارهم، وأموالهم، ومضى منها إلى وادي القرى، فقابل يهود، وأخذها عنوة، وانصرف بعد ما أقام بوادي القرى أربعة أيام، فقدم المدينة، [واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ] [ (1) ] .
[أخرج البخاري من حديث أبى هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لرجل ممن معه يدّعى الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول اللَّه، صدّق اللَّه حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: قم يا فلان فأذّن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر] [ (2) ] .
[وقاتل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل خيبر، وقاتلوه أشدّ القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون، وفتحها اللَّه حصنا حصنا، وهي: النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبىّ، وحصن البريء، والقموص، والوطيح،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] رواه البخاري برقم (4203) .(8/382)
والسلام، وهو حصن بنى أبى الحقيق] [ (1) ] .
[وأخذ كنز آل بنى الحقيق الّذي كان في مسك [جلد] الحمار، وكانوا غيبوه في خربة، فدل اللَّه رسوله عليه فاستخرجه] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 4/ 517- 524 مختصرا.(8/383)
[غزوة الفتح]
ثم كانت غزاة الفتح، خرج إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة، يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان سنة ثمان من الهجرة، ونزل الحجون يوم الجمعة، لعشر بقين منه، وقيل: لثلاث عشرة مضت منه، وكان يأتى المسجد من الحجون لكل صلاة، وقد فتح اللَّه عليه مكة عنوة، وقيل:
صلحا، وقيل: بعضها عنوة، وبعضها صلحا، [واستخلف ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الّذي وقع بالحديبية، فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللَّه وعهده] [ (2) ] .
[ثم خرج عليه السلام فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت:
فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقال: واللَّه ما أدرى، فقال: واللَّه ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول اللَّه؟ قالت: واللَّه لا علم لي] [ (2) ] .
[وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة، فأبى عليه فانصرف إلى مكة، فتجهز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 580 مختصرا.(8/384)
من غير إعلام أحد بذلك. فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك، فأطلع اللَّه نبيه على ذلك، فقال عمر رضى اللَّه عنه: دعني يا رسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان من عند عمر من القوة في الدين، وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استحق القتل، لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر، وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا أن لا ضرر فيه] [ (1) ] .
[وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح ما بين العشرة آلاف والاثني عشر ألفا على خلاف بين أهل السير] [ (1) ] .
[وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قال الواقدي: وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال:
خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان، ثم سار صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات، ودفعها إلى القبائل. ثم نزل مرّ الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره، وهم مغتمون لما يخافون من غزوهم إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم] [ (1) ] .
[فرآهم ناس من حرس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأدركوهم، فأخذوهم، فأتوا بهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: احبس أبا
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 180 باختصار.(8/385)
سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كتيبة كتيبة على أبى سفيان] [ (1) ] .
[قال الخطّابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم، وقيل هذا يوم الغضب للحريم والأهل، والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتى من أن ينالني مكروه] [ (1) ] .
[وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول اللَّه! ما آمن أن يكون لسعد في قريش صولة، فقال لعلىّ: أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها] [ (1) ] .
[وقد روى أن أبا سفيان قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟
قال: لا، فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده اللَّه والرحم، فقال: يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز اللَّه قريشا، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه، فدفعها إلى ابنه قيس] [ (1) ] .
[وفي يوم فتح مكة اغتسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت أم هانئ ثم صلّى الضحى ثماني ركعات، قالت: لم أره صلّى صلاة أخفّ منها، غير أنه يتم الركوع والسجود] [ (1) ] .
[ولما كان الغد من يوم الفتح، قام صلّى اللَّه عليه وسلّم خطيبا في الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن اللَّه حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 580 باختصار.(8/386)
ترخص فيها لقتال رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فقولوا: إن اللَّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب] [ (1) ] .
[ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 580 باختصار.(8/387)
[غزوة حنين]
ثم سار إلى غزاة حنين، وقد اجتمع بها هوازن وثقيف، فأوقع بهم، وغنم ما بأيديهم، في يوم [الثلاثاء] ، لعشر خلون من شوال، ثم نزل على الطائف ثمانية عشر يوما، وقيل: تسعة عشر يوما، وقيل: خمسة عشر يوما، وقيل: أربعين يوما، ثم رحل عن ثقيف، وعاد إلى الجعرانة، وقسّم غنائم هوازن، وأقام بها ثلاثة عشر يوما، وخرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، ودخل مكة محرما بعمرة، وخرج منها يوم الخميس، فسلك على سرف إلى مرّ الظهران، وقد يوم الجمعة، لثلاث بقيت من ذي القعدة، [واستخلف يومئذ ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[حنين- بالتصغير- واد قرب ذي المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن] [ (2) ] .
[لما فرغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري] [ (2) ] .
[فخرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال، في اثنى عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفان ممن أسلم من أهل مكة، وهم الطلقاء، يعنى الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم، فلم يسترقهم، واحدهم طليق- فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 596- 605 مختصرا.(8/388)
[وخرج معه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال، فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب، ووجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن أبى حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به، وجاء بخبرهم] [ (1) ] .
[وقال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشقّ ذلك على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم ركب بغلته البيضاء [دلدل] ، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بنى سليم مولية، وتبعهم أهل مكة والناس] [ (1) ] .
[ولم يثبت معه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد، في أناس من أهل بيته وأصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
[قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل عليه السلام يقول للعباس: ناديا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة [يعنى شجرة بيعة الرضوان] التي بايعوه تحتها أن لا يفروا عنه] [ (1) ] .
[فجعل ينادى تارة: يا أصحاب السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة- وكان العباس رجلا صيتا- فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 596- 605 مختصرا.(8/389)
[فأمرهم صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار،
فأشرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنظر إلى قتالهم فقال: الآن حمى الوطيس،
وهو التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الّذي يشبه حرها حرّه، وهذه من فصيح الكلام الّذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
وتناول صلّى اللَّه عليه وسلّم حصيات من الأرض ثم قال: شاهت الوجوه
- أي قبحت- ورمى بها في أوجه المشركين، فما خلق اللَّه تعالى منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة] [ (1) ] .
[وفي البخاري [4316، 4317] عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين؟ فقال ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يفر، كانت هوازن رماة، ولما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام، ولقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أبا ابن عبد المطلب] [ (1) ] .
[وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال:
أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الّذي وعدني اللَّه به من النصر حق، فلا يجوز عليّ الفرار] [ (1) ] .
[وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بطلب العدوّ، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس، واستشهد من المسلمين أربعة، وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 596- 605 مختصرا.(8/390)
[غزوة تبوك]
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة تبوك، في رجب سنة تسع، فأقام بها عشرين ليلة وعاد ولم يلق كيدا، وهي آخر غزوة خرج إليها بنفسه [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم، [واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، وقيل: على بن أبى طالب، وقيل: سباع بن عرفطة] [ (2) ] .
وقاتل صلّى اللَّه عليه وسلّم مع هذه في تسع، وهي: بدر المعظمة، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وقيل أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتل في وادي القرى والغابة، ولم يكن في سائرها قتال أصلا.
[تبوك: مكان معروف، وهي نصف طريق المدينة إلى دمشق وهي غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها] [ (2) ] .
[كانت يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وكان حرا شديدا، وجدبا كثيرا، فلذلك لم يور عنها كعادته صلّى اللَّه عليه وسلّم في سائر الغزوات] [ (2) ] .
[وفي (تفسير عبد الرزاق) ، عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر وفي حرّ شديد، حيث كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة في الماء، وفي الظهر، وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المرجع السابق) : 629.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 625- 638 مختصرا.(8/391)
[وسببها أنه بلغه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل، فندب صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الّذي يريد، ليتأهّبوا لذلك] .
[وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا] .
[وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقلبها في حجره وهو يقول: ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم] .
[ولما تأهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للخروج، قال قوم من المنافقين لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ] [ (1) ] .
[وأرسل صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة وقبائل العرب يتنفرهم، وجاء البكاءون يستحملونه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا أجد ما أحملكم عليه، وهم الذين قال اللَّه فيهم تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ] [ (2) ] .
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة، جرأة على اللَّه ورسوله، وهو قوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] [ (3) ] .
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب بن
__________
[ (1) ] [التوبة: 81] .
[ (2) ] [التوبة: 91] .
[ (3) ] [التوبة: 90] .(8/392)
مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وفيهم نزل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا] [ (1) ] .
[ولما رأى أبا ذر الغفاريّ- وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل في بعض الطريق- فقال:
يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فكان كذلك] [ (1) ] .
[ولما انتهى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء، وأذرح [بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال] فأعطوه الجزية وكتب لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا] [ (1) ] .
[وفي هذه الغزوة كتب صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم تجب] [ (1) ] .
[وفي (مسند أحمد) أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنى مسلم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذب، وهو على نصرانيته] [ (1) ] .
[وفي كتاب (الأموال) لأبى عبيد بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد اللَّه نحوه، ولفظه: فقال: كذب عدوّ اللَّه، ليس بمسلم] [ (1) ] .
[ثم انصرف صلّى اللَّه عليه وسلّم من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشر ليلة وأقبل حتى نزل بدى أوان [بينها وبين المدينة ساعة] جاءه خبر مسجد الضرار من السماء، فدعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي العجلاني فقال: فخرجا فحرّقاه وهدماه، وذلك بعد أن أنزل اللَّه فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً] [ (2) ] .
[ولما دنا من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج الناس والصبيان والولائد يقلن:] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 625- 638 مختصرا.
[ (2) ] التوبة: 107.(8/393)
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا للَّه داع
[وقد وهم بعض الرواة وقال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع [ (1) ] إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام]
[وفي البخاري [ (2) ] : «لما رجع صلّى اللَّه عليه وسلّم من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال:
إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم.
قالوا: يا رسول اللَّه، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر] .
[وهذا يؤيد معنى ما
ورد: «نية المؤمن خير من عمله»
[ (3) ] ، والمسابقة إلى اللَّه تعالى وإلى الدرجات العلا بالنيات والهمم، لا بمجرد الأعمال] .
[وجاء من كان تخلف عنه- فحلفوا له فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب وصاحبيه، حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
__________
[ (1) ] ثنية الوداع: بفتح الواو، وهو اسم من التوديع عند الرحيل: وهي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة، واختلف في تسميتها بذلك، فقيل: لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة، وقيل:
لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ودع بها بعض من خلفه بالمدينة في آخر خرجاته، وقيل: في بعض سراياه المبعوثة عنه، وقيل: الوداع اسم واد بالمدينة، والصحيح أنه اسم جاهلي قديم، سمي لتوديع المسافرين (معجم البلدان) : 2/ 100، موضع رقم (2846) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 159، كتاب المغازي- باب (82) بدون ترجمة، حديث رقم (4423) .
[ (3) ] قال ابن دحية: لا يصح، وقال البيهقي: إسناده ضعيف، ورواه العسكري في (الأمثال) عن أنس به مرفوعا وسنده ضعيف، وله طريق ضعيف عن النواس بن سمعان، كما ذكره الزركشي.
وإنما كانت نية المؤمن خير من عمله، لأنها بانفرادها تصير عبادة يترتب عليها الثواب، بخلاف أعمال الجوارح، فإنّها إنما تكون عبادة إذا صاحبت النية لخبر: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنه كاملة» ولأن مكانها مكان المعرفة، أعني قلب المؤمن. (الموضوعات لابن الجوزي) : 3/ 375- 376 حديث رقم (568) .(8/394)
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ (1) ] .
[وعند البيهقي في (الدلائل) : من حديث ابن عباس في قوله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ (2) ] . قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فلما رجع أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد،
وكان ممر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا رجع من المسجد عليهم، فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسوارى؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عنك يا رسول اللَّه، حتى يطلقهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويعذرهم] قال: وأنا أقسم باللَّه لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون اللَّه تعالى هو الّذي يطلقهم: رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين!! فلما أن بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون اللَّه تعالى هو الّذي يطلقنا، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (3) ] فلما نزلت، أرسل إليهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول اللَّه! هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، قال:
ما أمرت أن آخذ أموالكم، فأنزل اللَّه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ (4) ] .
وبمعناه رواه عطية بن سعد عن ابن عباس- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما-[ (5) ] .
__________
[ (1) ] التوبة: 117- 118.
[ (2) ] التوبة: 102.
[ (3) ] التوبة: 102.
[ (4) ] التوبة: 103.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 272، حديث أبى لبابة وأصحابه.(8/395)
[المجلد التاسع]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فصل في ذكر عمرات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التي اعتمرها بعد هجرته
قال [الزّجّاج] : معنى العمرة في العمل: الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فقط، والعمرة للإنسان في جميع السنة، والحج وقته وقت واحد من السنة، ومعنى اعتمر في قصد البيت، أنه إنما خصّ بهذا، لأنه قصد بعمل في موضع عامر، وقال كراع: الاعتمار: العمرة، سمّاها بالمصدر.
قاله ابن سيده في (المحكم) [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال في (اللسان) : والعمرة: طاعة اللَّه عزّ وجل، والعمرة في الحج: معروفة، وقد اعتمر، وأصله من الزيارة، والجمع العمر.
وقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قال الزّجّاج: معنى العمرة في العمل:
الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فقط، والفرق بين الحج والعمرة أن العمرة تكون للإنسان في السنة كلها، والحج في وقت واحد في السنة.
قال: ولا يجوز أن يحرم به إلا في أشهر الحج: شوال، وذي القعدة، وعشر من ذي الحجة، وتمام العمرة أن يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، والحج لا يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة.
والعمرة مأخوذة من الاعتمار، وهو الزيارة ومعنى اعتمر قصد البيت، إنه إنما خص بهذا لأنه قصد بعمل في موضع عامر، ولذلك قيل للمحرم بالعمرة: معتمر.
وفي الحديث ذكر العمرة والاعتمار في غير موضع، وهو الزيارة والقصد، وهو في الشرع: زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة.
وفي حديث الأسود قال: خرجنا عمارا فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال: أحلقتم الشعث وقضيتم التفث عمارا؟ أي معتمرين.
وقال الزمخشريّ: ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر، ولكن عمر اللَّه إذا عبده، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما، وهو يعمر ربه أي يصلى ويصوم.
والعمرة: أن يبنى الرجل بامرأته في أهلها، فإن نقلها فذلك العرس، قاله ابن الأعرابي.
(لسان العرب) 4/ 604- 605 مختصرا.(9/3)
وقد اتفقوا على أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، اعتمر ثلاث عمر، صدّه المشركون في الأولى عن البيت، فعاد من الحديبيّة ثم اعتمر من قابل، وكانت عمرة القضاء، واعتمر أيضا من الجعرانة، بعد فتح مكة- شرّفها اللَّه-[قال] ابن إسحاق: واعتمر عمرة رابعة مع حجته.
خرج الحاكم من حديث داود بن عبد الرحمن قال: سمعت عمرو بن دينار يحدّث عن عكرمة [عن] ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبيّة، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجّته. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. [ولم يخرجاه] [ (1) ] .
وأما عمرة الحديبيّة [ (2) ] فقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة رمضان، وشوّالا- يعنى سنة ست- وخرج من ذي القعدة معتمرا،
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 52، كتاب المغازي والسرايا، حديث رقم (4372) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] الحديبيّة: بئر سمى المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت فسمى المكان بها. قال المحب الطبري: الحديبيّة قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
ووقع في رواية ابن إسحاق في (المغازي) عن الزهري: «خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبيّة يريد زيارة البيت لا يريد قتالا. ووقع عند ابن سعد: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة. في بضع عشر مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، يدعى ناجية، يأتيه بخبر قريش، كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الّذي بعث معه الهدى، كما صرح بذلك ابن إسحاق وغيره. وأما الّذي بعثه عينا لخبر قريش، فاسمه بسر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق، وهو بضم الموحدة، وسكون المهملة على الصحيح.
وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كان بغدير الأشطاط [اسم موضع] أتاه عينه قال: إن قريشا جمعوا جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك، عن البيت، ومانعوك، فقال:
أشيروا علي أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان اللَّه عز وجل قد قطع عينا من المشركين، إلا وتركناهم محروبين. -(9/4)
__________
[ () ] فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد توجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم اللَّه،
وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وبلغ المشركين خروجه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأجمعوا رأيهم على صده عن مكة وعسكروا ببلدح [موضع خارج مكة] .
وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان بالثنية فقال: من يخرجنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول اللَّه، فسلك بهم طريقا وعرا، فخرجوا منها بعد أن شق عليهم، وأفضوا إلى أرض سهلة، فقال لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم: استغفروا اللَّه ففعلوا. فقال: والّذي نفسي بيده إنها للحطة التي عرضت على بنى إسرائيل فامتنعوا [إشارة إلى قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ البقرة: [58- 59] .
قال ابن إسحاق عن الزهري في حديثه، فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض، في طريق تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبيّة. وثنية المرار- بكسر الميم وتخفيف الراء هي طريق في الجبل تشرف على الحديبيّة- وزعم الداوديّ أنها الثنية التي أسفل مكة، وهو وهم.
وسمى ابن سعد الّذي سلك بهم: حمزة بن عمرو الأسلمي. وفي رواية أبى الأسود عن عروة: فقال من رجل يأخذ بنا عن يمين المحجة نحو سيف البحر، لعلنا نطوى مسلحة القوم، وذلك من الليل، فنزل رجل من دابته، فذكر القصة.
فلما فرغوا من القضية أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهدى فساقه المسلمون- يعنى إلى جهة الحرم- حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنحر.
فما قام رجل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطاء الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ ذلك لهم لأنه كان في زمان وقوع النسخ.
ويحتمل أن يكونوا قد ألهتهم صورة الحال، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، من ظهور قوتهم، واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه-(9/5)
__________
[ () ] الأمور جميعها، كما سيأتي في كلام أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب، لما يطرق القصة من الاحتمال.
فاشتد ذلك عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا فلم يفعلوا،
قال: فجلى اللَّه تبارك وتعالى عنهم يومئذ بأم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
قالت أم سلمة رضى اللَّه وتبارك وتعالى عنها: يا نبي اللَّه! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم، فإنّهم قد دخلوا في أمر عظيم لما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفى عنهم هذا الاحتمال.
وعرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.
وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة، كذا قال: وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسى عليه السّلام.
نحر صلّى اللَّه عليه وسلّم هديه، وكان سبعين بدنة، كان فيها جمل لأبى جهل، في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم غنمه منه في غزوة بدر، ودعا حالقة خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فحلقه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد اللَّه بن أبى نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس: حلق رجال يومئذ وقصر آخرون، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يرحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين ... الحديث، وفي آخره قالوا: يا رسول اللَّه! لم ظاهرت للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا.
قال ابن إسحاق: قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، ونزلت سورة الفتح- فذكر الحديث في تفسيرها إلى أن قال: - قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبيّة. (فتح الباري) :
5/ 412 كتاب الشروط باب (15) الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابه الشروط حديث رقم (2731، 2732) مع اختصار الشرح. -(9/6)
__________
[ () ] (3) عمرة القضاء، تسمى بعمرة القضية، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاضى فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صدّ عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمرات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعا.
وقال آخرون بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدوا عمرة الحديبيّة في العمر لثبوت الأجر فيها. لا لأنها كملت، وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت، فقال الجمهور: يجب عليه الهدى ولا قضاء عليه.
وعند أبى حنيفة عكسه، وعن أحمد رواية: أنه لا يلزمه هدى ولا قضاء، وأخرى: أنه يلزمه القضاء والهدى.
فحجة الجمهور: قوله تبارك وتعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] .
وحجة أبى حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.
وحجة من أوجبها: ما وقع للصحابة، فإنّهم نحروا الهدى حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدى.
وحجة من لم يوجبها: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدى بل أمر من معه هدى أن ينحر، ومن ليس معه هدى أن يحلق.
قال الحاكم في (الإكليل) : تواترت الأخبار أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما هلّ ذو القعدة- يعنى سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبيّة، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر، ورجال ماتوا.
وخرج معه من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاريّ، وساق صلّى اللَّه عليه وسلّم ستين بدنة، وحمل السلاح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الخليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشير بن سعد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وأحرم صلّى اللَّه عليه وسلّم ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء اللَّه تعالى. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.(9/7)
لا يريد حربا، واستنفر العرب من حوله من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا
__________
[ () ] ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج [موضع بمكة] حيث ينظر إلى أنصاب الحرم [أي إلى حدوده] ، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال.
وقدّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الهدى أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف محدّقون برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلبّون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته، ولم يزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه، وطاف على راحلته والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم.
ثم طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه- وقد وقف الهدى عند المروة- قال: هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر، وحلق هناك وكذلك فعل المسلمون.
وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجالا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا وأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة ثلاثا: (المواهب اللدنية) : 1/ 540- 546 مختصرا.
قال ابن سعد: أخبرنا أحمد بن عبد اللَّه بن يونس، عن داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الملك، عن محرش الكعبي، هكذا قال: اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلا من الجعرانة ثم رجع كبائت، قال: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس، قال داود: عام الفتح.
ثم قال: أخبرنا موسى بن داود، أخبرنا ابن لهيعة عن عياض بن عبد الرحمن، عن محمد بن جعفر، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتمر من الجعرانة، وقال: اعتمر منها سبعون نبيا. (طبقات ابن سعد) : 2/ 171- 172، ذكر عمرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن سعد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا يحى بن حمزة عن أبى وهب عن مكحول أنه سئل: كيف حج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن حج معه من أصحابه؟ فقال: حج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن حج معه من أصحابه معهم النساء والولدان، قال مكحول: تمتعوا بالعمرة إلى الحج، فحلوا فأحل لهم ما يحل للحلال من النساء والطيب. (طبقات ابن سعد) : 2/ 176.(9/8)
معه، وهو يخشى من قريش الّذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظما له.
وخرّج البخاري في كتاب الشروط، من حديث عبد الرزاق، قال:
أنبأنا معمر قال: أخبرنى الزهري قال: أخبرنى عروة بن الزبير، عن المسور ابن مخرمة، [ومروان] ، يصدّق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زمن الحديبيّة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فو اللَّه ما شعر بهم خالد، حتى إذا هم بقترة- القترة: غبرة الخيل، ويقال: القتر أيضا- فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والّذي نفسي بيده، لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أعطيتهم إياها،
ثم زجرها فوثبت، قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو اللَّه ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك، إذ
جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أهل تهامة- فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبيّة، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت(9/9)
بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمّوا، وإن هم أبوا فو الّذي نفسي بيده لأقتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن اللَّه أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتى أتى قريشا قال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذوو الرأى منهم: هات ما سمعته يقول، قال: يقول سمعته يقول: كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال:
أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموننى؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنى استنفرت أهل عكاظ، فلما بلّحوا عليّ [أي تمنعوا من الإجابة] جئتكم بأهلى وولدى ومن أطاعنى؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه. قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه نحوا من قوله لبديل. قال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإنّي واللَّه لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والّذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرب يده بنصل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟
قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟
وكان(9/10)
المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء.
ثم إن عروة أخذ يرمق أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعينه. قال: فو اللَّه ما تنخم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! واللَّه لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، واللَّه إن رأيت مليكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، واللَّه إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بنى كنانة دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان اللَّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته.
فلما أشرف عليهم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا مكرز، وهو رجل فاجر.
فجعل يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر:
فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
قد سهل لكم من أمركم.
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاءه سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكاتب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال سهيل: أما الرحمن فو اللَّه ما أدرى ما هي، ولكن اكتب باسمك اللَّهمّ كما كنت تكتب، فقال المسلمون: واللَّه لا نكتبها إلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ(9/11)
الرَّحِيمِ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اكتب «باسمك اللَّهمّ» . ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللَّه» ، فقال سهيل: واللَّه لو كنا نعلم أنك رسول اللَّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد اللَّه» قال الزهري: وذلك لقوله «لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أعطيتهم إياها» ، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: واللَّه لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك في العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان اللَّه، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلى. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لم نمض الكتاب بعد. قال: فو اللَّه إذا لم أصالحك على شيء أبدا. قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال:
بلى فافعل،
قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في اللَّه.
قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: ألست نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول اللَّه ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال:
بلى. فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال فإنك آتيه ومطوف به.
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى.
قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليس يعصى ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فو اللَّه إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا(9/12)
سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه:
قوموا فانحروا ثم احلقوا.
قال: فو اللَّه ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي اللَّه أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقة فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [ (1) ] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبى سفيان والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير، لأحد الرجلين: واللَّه إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل واللَّه إنه لجيد، فقد جربت به ثم جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرنى انظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد،
وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: قتل واللَّه صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي اللَّه، قد واللَّه أوفى اللَّه ذمتك قد رددتني إليهم، ثم أنجانى اللَّه منهم. قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ويل أمه مسعر حرب لو
__________
[ (1) ] الممتحنة: 10(9/13)
كان معه أحد،
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فو اللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها.
فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تناشده اللَّه والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم، فأنزل اللَّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ حتى بلغ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [ (1) ] وكانت حميتهم أنهم لا يقروا أنه نبي اللَّه، ولم يقروا ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الفتح: 24- 26
[ (2) ] (فتح الباري) : 5/ 412، 416، كتاب الشروط، باب (15) الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2731) ، (2732) ، وفي هذا الحديث فوائد تتعلق بالمناسك، منها: أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة للحاج والمعتمر، وأن تقليد الهدى وسوقه سنة للحاج وللمعتمر فرضا كان أو سنة، وأن الإشعار سنة لامثله، وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصورا كان أو غير محصور، وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر ولو لم يصل إلى الحرم ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقا، وغير ذلك مما قد تقدم بسط أكثره في كتاب الحج، وفيه أشياء تتعلق بالجهاد: منها جواز سبى ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال، وفيه الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإن كان من خصائصه أنه منهيّ عن خائنة الأعين.
وفي الحديث أيضا فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأى واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحا في أصله إذا تعين ذلك(9/14)
[قال أبو عبد اللَّه: معرة، العر: الجرب، تزيلوا: انمازوا، وحميت القوم منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل. وأحميت الرجل إذا أغضبته إحماء.]
قال عقيل عن الزهري: قال عروة: فأخبرتنى عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يمتحنهن وبلغنا أنه لما أنزل اللَّه أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهن، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، أن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه طلق امرأتين، قريبة بنت أبى أمية، وابنة جرول الخزاعي، فتزوج قريبة معاوية، وتزوج الأخرى أبو جهم.
فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم، أنزل اللَّه: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [ (1) ] ، والعقب ما أدى المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يعطى من ذهبت له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن، وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها.
وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤمنا مهاجرا في المدة، فكتب الأخنس بن شريق [إلى] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسأله أبا
__________
[ () ] للسلامة في المال والسلاح والمآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال بل عليه التسليم، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبا بكثرة التجربة ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي.
وفيه جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قال الخطابي مستدلا بأن الخزاعي الّذي بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عينا له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافرا: وإنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم، والاختلاط بهم، والاطلاع على أسرارهم، قال:
ويستفاد من ذلك قبول قول الطبيب الكافر، قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم حينئذ، فليس ما قاله دليلا على ما ادعاه، واللَّه سبحانه أعلم بالصواب.
[ (1) ] الممتحنة: 11(9/15)
بصير، فذكر الحديث [ (1) ] . ترجم عليه وعلى ما اتصل به: باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط مع الناس بالقول، فذكر منه طرفا في غزوة الحديبيّة [ (2) ] ، وفرقه في كتاب الشروط.
وخرجه باختصار من حديث البراء بن عازب [ (3) ] ، وخرجه مسلم من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 416، 417، كتاب الشروط، باب (15) ، الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2733) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 557- 558، وكتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4178) ، (4179) ، (4180) ، (4181) ، (4185) .
[ (3) ] ولفظه:
حدثني فضل بن يعقوب، حدثنا الحسن بن أعين أبو على الحراني، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال، أنبأنا البراء بن عازب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنهم كانوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة ألفا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتى البئر ثم قعد على شفيرها ثم قال: ائتوني بدلو من مائها، فأتى به، فبصق فدعا، ثم قال: دعوها ساعة، فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا. (فتح الباري) : 7/ 559، 560، كتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، حديث رقم (4151) .
ونحوه حديث رقم (4152) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وذكر معجزة تكثير الماء في الركوة، وقال في آخره: «فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» .
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، من طريق نبيح العنزي عنه، وفيه: فجاء رجل بإداوة فيها شيء من ماء ليس يفى الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: فتزاحم الناس على القدح، فقال: على رسلكم، فوضع كفه صلّى اللَّه عليه وسلّم في القدح ثم قال:
أسبغوا الوضوء، قال: فلقد رأيت العيون عين الماء تخرج من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم. (فتح الباري) :
7/ 561.(9/16)
حديث أنس [ (1) ] ، وحديث البراء مختصرا [ (2) ] ، وفرقه البخاري في مواضع.
وأما عمرة القضاء
فقال ابن إسحاق: فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهري ربيع، وجمادين ورجبا، وشعبان، و [شهر] [ (3) ] رمضان، وشوالا ثم خرج في ذي القعدة، في الشهر الّذي صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء، مكان عمرته التي صدوه عنها [ (4) ] .
قال ابن هشام- ويقال لها: عمرة القصاص [ (5) ] ، لأنهم صدوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذي القعدة، في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتص رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 380، 381، كتاب الجهاد والسير، باب (34) صلح الحديبيّة، حديث رقم (1784) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (91) ، قال الإمام النووي: وفي هذه الأحاديث جواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة، وهو مجمع عليه عند الحاجة، وأن مدتها لا تزيد على عشر سنين إذا لم يكن الإمام مستظهرا عليهم، وإن كان مستظهرا لم يزد على أربعة أشهر، وفي قول: يجوز دون سنة، وقال الإمام مالك: لا حد لذلك، بل يجوز ذلك قل أم كثر بحسب رأى الإمام، واللَّه تعالى أعلم.
[ (3) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 17، عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع.
[ (5) ] وهذا الاسم أولى بها لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وهذه الآية فيها نزلت، فهذا الاسم أولى بها، وسميت عمرة القضاء لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاضى قريشا عليها، لا لأنه قضى العمرة التي صد عن البيت فيها، فإنّها لم تكن فسدت بصدهم عن البيت، بل كانت عمرة تامة متقبلة، إنهم حين حلقوا رءوسهم بالحل احتملها الريح فألقتها في الحرم، فهي معدودة في عمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي أربع: عمرة الحديبيّة، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي قرنها مع حجه في حجة الوداع، فهو أصح القولين أنه كان قارنا في تلك الحجة وكانت إحدى عمره عليه السّلام في شوال كذلك.(9/17)
صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخل مكة في الشهر الحرام الّذي صدوه فيه من سنة سبع-: بلغنا عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال: فأنزل اللَّه في ذلك:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [ (1) ] .
__________
[ () ] روى عروة عن عائشة وأكثر الروايات أنهن كن كلهن في ذي القعدة إلا التي قرن مع حجه، كذلك روى الزهري وانفرد معمر عن الزهري بأنه عليه السلام كان قارنا، وأن عمراته كن أربعا بعمرة القران.
وأما حجاته عليه السلام فقد روى عن الترمذي أنه حج ثلاث حجات ثنتين بمكة، وواحدة بالمدينة، وهي حجة الوداع، ولا ينبغي أن يضاف إليه في الحقيقة إلا حجة الوداع، وإن كان حج مع الناس، إذ كان بمكة، كما روى الترمذي، فلم يكن ذلك الحج على الناس، وكماله، لأنه كان مغلوبا على أمره وكان الحج منقولا عن وقته، كما تقدم في أول الكتاب، فقد ذكر أنهم كانوا ينقلونه على حسب الشهور الشمسية، ويؤخرونه في كل سنة أحد عشر يوما، وهذا هو الّذي منع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحج من المدينة، حتى كانت مكة دار إسلام، وقد كان أراد أن يحج مقفله من تبوك، وذلك بإثر الفتح بيسير، ثم ذكر أن بقايا المشركين يحجون، ويطوفون عراة فأخر الحج، حتى نبذ إلى كل ذي عهد عهده، وذلك في السنة التاسعة، ثم حج في السنة العاشرة بعد إمحاء رسوم الشرك، وانحسار سير الجاهلية، ولذلك قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض» .
والعمرة واجبة في قول أكثر العلماء، وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال الشعبي:
ليست بواجبة، وذكر عنه أنه كان يقرؤها: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بالرفع أي برفع لفظ العمرة على جعل وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ كلاما مستأنفا- لا يعطفها على الحج.
وقال عطاء: هي واجبة إلا على أهل مكة، ويكره مالك أن يعتمر الرجل في العام مرارا، وهو قول الحسن وابن سيرين، وجمهور العلماء على الإباحة في ذلك، وهو قول على وابن عباس وعائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالوا: يعتمر الرجل في العام ما شاء.
[ (1) ] البقرة: 194.(9/18)
قال موسى بن عقبة: فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ناجح، وضع الأداة كلها: الجحف، والرماح، والمجان، والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب:
السيوف في القرب.
قال ابن إسحاق: فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه، وتحدثت قريش بينها: أن محمدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة، فحدثني من لا أتهم، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: صفوا له عند دار الندوة، لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد، اضطبع بردائه [ (1) ] ، واخرج عضده اليمنى، ثم قال: رحم اللَّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة،
ثم استلم الركن، وخرج يهرول [ (2) ] ويهرول أصحابه معه حتى واراه البيت منهم، واستلم [ (3) ] الركن اليماني، ومشى حتى استلم الركن الأسود ثم يهرول كذلك ثلاثة أشواط، ومشى سائرها، فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما صنعها لهذا الحي من قريش، للذي بلغه عنهم، حتى حج حجة الوداع، فلزمها فمضت السنة بها.
قال موسى بن عقبة: فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة، أمر أصحابه فقال: اكشفوا عن المناكب، واسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدكم وقوتكم، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكايدهم بكل ما استطاع، فانكفأ أهل مكة، الرجال والنساء ينظرون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، وهم يطوفون بالبيت، وعبد اللَّه بن رواحة يرتجز بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، متوشحا بالسيف، وهو يقول:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... إني شهدت أنه رسوله
حقا وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله
__________
[ (1) ] اضطبع: أدخل الرداء تحت إبطه الأيمن وغطى به الأيسر.
[ (2) ] الهرولة ضرب من السير، فوق المشي ودون الجرى.
[ (3) ] في (ابن هشام) : «حتى يستلم» .(9/19)
ويذهل الخليل عن خليله [ (1) ]
فقال عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عمر، إني أسمع! فأسكت عمر.
قال: وتغيب رجال من أشراف المشركين، كراهية ان ينظروا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه غيظا، وحنقا، ونفاسة، وحسدا، خرجوا إلى بوادي مكة.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة، فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبى قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، في نفر من قريش، في اليوم الثالث، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة، فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما عليكم لو تركتموني، فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟
قالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسرف [ (2) ] ، فبنى بها هنالك ثم انصرف إلى المدينة.
__________
[ (1) ] هذه الأبيات في (ابن هشام) هكذا:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله ... أعرف حق اللَّه في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قاتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
[ (2) ] مكان قرب التنعيم، وبسرف كانت وفاتها رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وذلك سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ست وستين، صلى عليها ابن عباس ويزيد بن الأصم، وكلاهما ابن أخت لها، ويقال فيها نزلت: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ [الأحزاب: 50] في أحد الأقوال، وذلك أن الخاطب جاءها وهي على بعيرها فقالت البعير وما عليه لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واختلف الناس في تزويجه إياها، أكان محرما أم حلالا، وقد أوضحنا ذلك مفصلا في الحديث عن أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(9/20)
قال ابن هشام [ (1) ] : فأنزل اللَّه عز وجل- فيما حدثني أبو عبيدة: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 20- 21.
[ (2) ] الفتح: 27، والفتح القريب: يعنى خيبر.(9/21)
وأما عمرة الجعرانة [ (1) ]
فخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث همام، حدثنا قتادة، أن أنسا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي كانت في حجته، عمرة من الحديبيّة أو [زمن] الحديبيّة في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة [حيث قسم] غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
لم يقل البخاري: أو زمن الحديبيّة. ذكره في عمرة الحديبيّة، وذكره في آخر كتاب الجهاد، في باب من قسم الغنيمة في غزوة وسفره، ولفظه: أن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أخبره قال: اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين. لم يذكر في هذا الباب غير هذا، وكرره.
__________
[ (1) ] الجعرانة: ماء بين مكة والطائف، وهر إلى مكة أقرب، نزلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما قسم غنائم هوازن مرجعه من غزاة حنين، وأحرم منها صلّى اللَّه عليه وسلّم، وله فيها مسجد، وبها آبار متقاربة، وفي الحديث دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الجعرانة، فجاء إلى المسجد فركع ما شاء اللَّه تعالى، ثم أحرم ثم استوى على راحلته» . (معجم البلدان) 2/ 165، (الروض المعطار) : 176 قال ابن سعد: اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلا من الجعرانة، ثم رجع كبائت، قال: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.
ثم
قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتمر من الجعرانة، وقال: اعتمر منها سبعون نبيا.
(طبقات ابن سعد) 2/ 171- 172.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 557- 558، كتاب المغازي، باب (36) ، غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4148) ، (فتح الباري) : 6/ 223، باب 186، من قسم الغنيمة في غزوة وسفره، حديث رقم (3066) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 484- 485، كتاب الحج، باب (35) بيان عدد عمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وزمانهن، حديث رقم (1253) .(9/22)
وخرج النسائي من حديث ابن جريج قال: حدثني مزاحم بن أبى مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد اللَّه، عن [محرش] الكعبي، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج من الجعرانة يعتمر ليلا، فدخل مكة ليلا فقضى عمرته، ثم خرج من تحت ليلته، فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد، خرج من بطن سرف، حتى جامع الطريق- طريق المدينة بسرف [ (1) ]- فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.
وقال الواقدي: انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون إلى المدينة، خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء [لاثنتي] عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم من المسجد الأقصى، الّذي بحيز [ (2) ] الوادي بالعدوة القصوى ولم يجز الوادي إلا محرما، فلم يزل يلبى حتى استلم الركن.
ويقال لما نظر إلى البيت قطع التلبية، فلما أتى البيت أناخ راحلته على باب بنى شيبة ودخل فطاف ثلاثة أشواط، يرمل من الحجر إلى الحجر، ثم خرج فطاف بين الصفا والمروة على راحلته، حتى إذا انتهى إلى المروة في الطواف السابع حلق رأسه عند المروة، ثم انصرف إلى الجعرانة من ليلته، فكان كبائت بها، فلما رجع الجعرانة، خرج يوم الخميس فسلك في وادي الجعرانة، وسلك معه الناس، حتى خرج على سرف، ثم أخذ الطريق حتى انتهى إلى مر الظهران [ (3) ] . قال: وقدم المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 5/ 219- 220، كتاب المناسك، باب (104) دخول مكة ليلا، حديث رقم (2863) ، حديث رقم (2864) .
وأخرجه أيضا: أبو داود في مناسك الحج باب المهلة بالعمرة تحيض فيدركها الحج فتنقض عمرتها وتهل بالحج هل تقضى عمرتها؟ حديث رقم (1996) ، رقم (935) .
[ (2) ] في (المواهب اللدنية) : «تحت الوادي» .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 959 مختصرا.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 960.(9/23)
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول:
أخبرني عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر، مستندين إلى حجرة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أنا لنسمعها بست [ (1) ] ، قلت: يا أبا عبد الرحمن، اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رجب؟ [قال: نعم، قلت: يا أماه! أما تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قلت يقول: اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في [رجب] [ (2) ] ، قالت: يغفر اللَّه لأبى عبد الرحمن، [نسي] [ (3) ] ، ما اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رجب، قال: وابن عمر يسمع، فما قال: لا، ولا نعم، سكت [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (مسند أحمد) : «تسنن» .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المسند) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المسند) .
[ (4) ] (مسند أحمد) : 7/ 82- 83، حديث رقم (23758) .(9/24)
فصل في ذكر حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد الهجرة
قال سفيان: حج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يهاجر حججا، وحج بعد ما هاجر الوداع. ذكره الحاكم [ (1) ] ، [وقيل: حج ثلاث حجج، حجتين قبل الهجرة، وحجة بعد ما هاجر، معها عمرة] .
وخرج مسلم [ (2) ] من حديث أبى بكر بن أبى شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل المزني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فسأل عن القوم حتى انتهى إلى فقلت: أنا محمد بن على بن حسين، فأهوى بيده الى رأسي، فنزع زرى الأعلى، ثم نزع زرى الأسفل، ثم وضع كفه على ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبا بك يا ابن أخى، سل عما شئت، فسألته- وهو أعمى وحضر وقت الصلاة- فقام في [شملة ملتحفا بها] ، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرنى عن حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال بيده: فعقد تسعا، فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة، أن
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 56- 57، كتاب المغازي والسرايا حديث رقم (4382) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) ، ولفظه: حج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يهاجر حجة الوداع، وكان جميع ما جاء به مائة بدنة، فيه جمل كان في أنفه برة من فضة، نحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده الشريفة ثلاثا وستين ونحر على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه غير، فقيل للثوري من ذكره؟ فقال: جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وابن أبى ليلى عن مقسم، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
قال الحاكم: وأما الأحاديث المأثورة المفسرة في حجة الوداع قد اتفق الشيخان على إخراجها بأسانيد صحيحة على شرطهما وأتمها وأصحها حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جابر الّذي انفرد بإخراجه مسلم بن الحجاج، وقد انتهيا بمشيئة اللَّه وعونه إلى ابتداء مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 420- 439، باب (19) حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1218) ، وهو حديث طويل ذكر المقريزي طرفا منه.(9/25)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف أصنع؟ فقال:
اغتسلي واستشفرى بثوب، وأحرمى.
فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت بها ناقته على البيداء، نظرت إلى مدّ بصرى، بين يديه من راكب، وماش ويمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به، وأهل بالتوحيد: لبيك اللَّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الّذي يهلون به، فلم يرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليهم شيئا منه، ولزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلبيته.
قال جابر: لسنا ننوى إلا الحج لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ [مُصَلًّى] ، فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبى يقول- ولا أعلمه ذكرها إلا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- كان يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فبدأ بما بدأ اللَّه به، فبدأ بالصفا، فرقى عليها حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد اللَّه عز وجل، وكبره، وقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا، مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة، قال: لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت، لم أسق الهدى، ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل، وليجعلها عمرة، فقام(9/26)
سراقة بن مالك بن جشعم [فقال: يا رسول اللَّه] [ (1) ] ! ألعامنا هذا أم لأبد؟
فشبك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصابعه، واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل أبدا أبدا.
وقدم على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (2) ] من اليمن ببدن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوجد فاطمة [ (3) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ممن حل ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبى أمرنى بهذا، قال: وكان علي يقول بالعراق فذهبت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محرشا على فاطمة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها للذي صنعت، مستفتيا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [فيما] [ (4) ] ذكرت عنه، فأخبرته أنى أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت، صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللَّهمّ إني أهل بما أهل به رسول اللَّه [ (5) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فإن معى [الهدى فلا تحل] .
قال: فكان جماعة الهدى الّذي قدم به عليّ من اليمن، والّذي أتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مائه، قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن كان معه هدى، فلما كان يوم التروية، توجهوا إلى منى، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر، فضربت [ (6) ] له بنمرة، فسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا تشك قريش، إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: ان دماءكم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] كذا في (الأصلين) ، وفي (صحيح مسلم) : «رضى اللَّه عنها» .
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] في (صحيح مسلم) : «رسولك» .
[ (6) ] في (صحيح مسلم) : «تضرب له» .(9/27)
وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا، دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بنى سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا عباس ابن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا اللَّه في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمان اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلام اللَّه، ولكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللَّه.
وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس، اللَّهمّ اشهد، اللَّهمّ اشهد، [اللَّهمّ اشهد] [ (1) ] ، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل [ (2) ] المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة، السكينة.
كلما [ (3) ] أتى جبلا من الجبال، أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل
__________
[ (1) ] في (صحيح مسلم) «اللَّهمّ أشهد» .
[ (2) ] في الأصلين:. «خيل» .
[ (3) ] في الأصلين:. «فلما» .(9/28)
القبلة، فدعاه وكبره، وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأردف الفضل بن عباس- وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما- فلما دفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مرت ظعن يجزين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يديه على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى، التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي.
ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنه، ثم أعطى عليا فنحر ما غير، وأشركه في هديه، ثم أمر من بين بدنه ببضعه، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بنى عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه [ (1) ] .
وكرره مسلم من طرق [ (2) ] ، وأخرجه أبو داود من طريق حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه بنحو حديث مسلم [ (3) ] ، وقد روى هذا الحديث عن جعفر بن محمد، وعبد الملك بن جريج، وعبيد اللَّه وعبد اللَّه العرنيين وسفيان الثوري، وعلى بن صالح، ومالك بن أنس، ومحمد بن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 8/ 420- 439، باب (19) حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1218)
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (148) ، من حديث جابر.
[ (3) ] (سنن أبى داود) : 2/ 455، 456، كتاب المناسك، باب (57) صفة حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (1905) ، أخرجه النسائي في الحج، باب الكراهية في الثياب المصبغة للمحرم مختصرا رقم (46) ، حديث رقم (2713) ، وفي مواضع أخر، وفي مواقيت الصلاة، باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وأخرجه ابن ماجة في المناسك، باب حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3074) .(9/29)
إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعبد اللَّه بن عمرو بن علقمة المكيّ، وحاتم بن إسماعيل، وسلام القاري، وجماعة يطول ذكرهم.
وقال الواقدي: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، سار من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، ودخل مكة يوم الثلاثاء، الرابع من ذي الحجة، وكان يوم التروية يوم الجمعة، فركب حين زاغت الشمس إلى [منى] ، ويقال: بل ركب يوم الخميس، فبات بمنى ليلة الجمعة، التاسع من ذي الحجة، ثم أصبح فركب إلى عرفة. [ (1) ]
وقد اختلف العلماء فيما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجته به محرما، فقال قوم: كان مفردا.
روى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وعن محمد بن عبد الرحمن بن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفرد بالحج.
وروى ابن عيينة وغيره، عن الزهري عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أراد أن يهل بحج فليهل، من أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل.
قالت عائشة: وأهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحج، وأهل به الناس معه. وذكر الحديث.
وكذلك رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها سواء وقالوا فيه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأما أنا فإنّي أهل بالحج.
وروى الدراوَرْديّ، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفرد بالحج.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1101.(9/30)
وروى الدراوَرْديّ، عن علقمة بن أبى علقمة، عن أمه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفرد بالحج [ (1) ] .
وروى أبو مصعب عن مالك، عن علقمة بإسناد مثله، ورواه عباد بن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: أهللنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحج مفردا، وروى بكر المزني عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما مثله. وهذا حجة من قال بإفراد الحج وفضله، وهو قول مالك، وأشهر قول الشافعيّ، واستحسنه أبو ثور، وفضله على التمتع والقران، وهو قول عبد العزيز بن أبى مسلمة، والأوزاعي وغيره، وروى ذلك عن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعن عائشة وجابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
وقال قوم: بل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متمتعا، فروى معمر عن أيوب قال: قال عروة لابن عباس: ألا تتق اللَّه ترخص لي المتعة، فقال ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: سل أمك يا عروة، فقال عروة: أما أبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما فلم [يفعلاه] ، فقال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: واللَّه ما أراكم منتهين حتى يعذبكم اللَّه! أحدثكم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتحدثونا عن أبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
وروى عن الليث عن عقيل، عن ابن شهاب عن سالم، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: تمتع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، وساق الهدى معه من ذي الحليفة، وبدأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعمرة
__________
[ (1) ] أخرج ابن سعد من حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ثلاثة أنواع: منا من قرن بين عمرة وحج، ومنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بعمرة، فأما من قرن بين عمرة وحج، فإنه لا يحل حتى يقضى المناسك، ومن أهل بعمرة فإنه إذا طاف وسعى حل من كل شيء حتى يستقبل الحج.
ثم قال: أخبرنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة عن أنس: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صرح بهما جميعا. (طبقات ابن سعد) : 2/ 74- 175.(9/31)
إلى الحج، قال عقيل: قال ابن شهاب: وأخبرنى عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها بمثل خبر سالم عن أبيه، في تمتع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج.
وعن سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في المتعة:
صنعها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصنعناها معه، وعن عمران بن حصين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: تمتعنا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متعة الحج،
وروى شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، عن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تمتع، ورواه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد،
وروى مالك وعبيد اللَّه بن عمر عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها أنها قالت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما بال الناس حلوا بعمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر [ (1) ] .
روى ابن إسحاق عن الزهري، عن سالم قال: إني [لجالس] مع ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما في المسجد، [إذ] جاءه رجل من أهل الشام، فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: حسن جميل، قال: فإن أباك كان ينهى عنها، فقال: ويلك! فإن كان أبى نهى عن ذلك، وقد فعله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر به، أفبقول أبى آخذ، أم بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قم عنى.
وقال عبد الملك بن شريك: تمتعت، فسألت ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، رضى اللَّه تعالى تبارك وتعالى عنهم فقالوا: هديت لسنة نبيك.
وقال شعبة عن أبى حمزة: تمتعت، فنهاني عنها أناس، فسألت ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما فقال: سنة أبى القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم هي التمتع. وروى الثوري عن ليث بن أبى سليم، عن [طاووس] ، عن ابن عباس رضى اللَّه
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 6/ 7، لبد رأسه: جعل في رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم صمغا حتى لا يتشعث، (مغازي الواقدي) : 3/ 1092.(9/32)
تبارك وتعالى عنهما قال: تمتع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه حتى مات، وأول من نهى عنها معاوية.
قال ابن عبد البر: ليث هذا منكر ضعيف، والمشهور عن عمر وعثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنهما كانا ينهيان عن التمتع.
وذكر معمر عن الزهري، عن سالم قال: سئل ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل له: إنك لتخالف أباك، فقال ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: لم يقل الّذي تقولون، إنما قال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: أفردوا الحج من العمرة، فإنه أتم للعمرة، إن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدى، وأراد أن يزار البيت في غير شهر الحج، فجعلتموها أنتم حراما، وعاقبتم الناس عليها، وقد أحلها اللَّه تعالى، وعمل بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا أكثروا عليه قال: كتاب اللَّه بيني وبينكم، كتاب اللَّه أحق أن يتبع، أم عمر؟.
وهذا نحو حجة من قال: التمتع أفضل، وهو مذهب عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن الزبير، وعائشة أيضا رضى اللَّه تعالى تبارك وتعالى عنهم، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعيّ، كان رحمه اللَّه يقول: الإفراد أحب إلى من التمتع، ثم القران، وقال في (البويطي) : التمتع أحب إليّ من القران.
[وقال] قوم: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قارنا، وجعل القران الأصل، وهم:
أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وإسحاق بن راهويه، وروى عن على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وحجتهم
حديث عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول وهو بوادي العقيق: أتانى الليلة آت من ربى، فقال: صلى في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة. رواه الأوزاعي، وعلى بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، [أنه] سمع عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: [إنه] سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول بذلك.(9/33)
وحديث الصبى بن معبد، عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال الصبى: أهللت بالحج والعمرة، فلما قدمت على عمر، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ذكرت ذلك له فقال، هديت لسنة نبيك صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن عبد البر: وهو حديث كوفى جيد الإسناد ورواه الثقات عن أبى وائل عن الصبى [ (1) ] بن معبد، عن عمر، ومنهم من يجعله عن أبى وائل، عن عمر، فيمن رواه هكذا عن أبى وائل، عن عمر: الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وعاصم بن أبى النجود، وسيار [والحكم، ورواه الأعمش، منصور، وعبدة بن أبى لبابة عن أبى وائل، عن الصبى بن معبد، عن عمر، وهو الأجود، وهم أحفظ] .
وقد روى عن الصبى بن معبد، وأبو وائل، حديث أنس [بن مالك] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لبيك بحج وعمرة معا، رواه حميد الطويل، وحبيب بن الشهيد، وعن بكر المزني قال:
سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلبى بالحج والعمرة جميعا.
قال بكر: فحدثت بذلك عن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال لي:
بالحج وحده،
فلقيت أنسا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فحدثته فقال: ما تعدونا إلا صبيانا، سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لبيك بحج وعمرة معا [ (2) ] .
قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يعارض ما روى عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تمتع، وفيهما نظر، ويخرج على مذهب ابن عمر في التمتع، أنه لبى بالحج وحده، وقد روى معمر وغيره، عن أيوب عن أبى قلابة، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل بحجة وعمرة، وروى عن أنس من وجوه، وروى قتادة عن مطرف، عن عمران بن حصين
__________
[ (1) ] هو الصبى بن معبد التغلبي الكوفي، روى عن عمر في الجمع بين الحج والعمرة، وفيه قصة زيد ابن صوحان، وسلمان بن ربيعة، وحكى عن هريم بن عبد اللَّه التغلبي، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وهو تابعي ثقة، رأى عمر ابن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وعامة أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم (تهذيب التهذيب) : 4/ 359 360 مختصرا.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 174.(9/34)
أنه قال له: إني أحدثك حديثا، لعل اللَّه أن ينفعك به: اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد جمع بين حج وعمرة، ولم ينزل فيها كتاب، ولم ينه عنها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال فيها برأيه.
قال ابن عبد البر: وهذا قد تأوله جماعة على التمتع وقالوا: إنما الّذي أراد ابن عمر أن يقوله: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد جمع بين حج وعمرة، أي أنه جمع بينهما في سفرة واحدة، وحجة واحدة، وقد روى عن عمر ما يعضد هذا التأويل.
روى أبو الحسن، وأبو رجاء، عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه تعالى، وفعلناها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنه حتى مات، قال رجل بعد برأيه ما شاء.
وروى شعبة عن الحكم، عن على بن حسين، عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان، وعلى بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ما بين مكة والمدينة، وعثمان ينهى أن يجمع بين الحج والعمرة، فلما رأى ذلك على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أتى بهما جميعا، فقال: لبيك بحجة وعمرة معا، فقال له عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: تراني أنهى عنهما وأفعله؟ فقال على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: لم أكن [أخالف] سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن عبد البر: وهذا يحتمل أن يكون، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أباح ذلك فصار سنة. فقال: والإفراد أفضل، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مفردا، فلذلك قلنا: أنه أفضل، لأن آثاره أصح في إفراده صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد اختلف أيضا في وقت خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة، فقيل:
كان خروجه [صلّى اللَّه عليه وسلّم لخمس] بقين من ذي القعدة، [و] قال بعضهم: كان يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة بالمدينة، وصلّى العصر بذي الحليفة.
وذكر الواقدي أنه كان يوم السبت لخمس ليال [ (1) ] بقين من ذي القعدة، ولا يصح على ما جاء في الصحيح، أن الوقفة كانت بالجمعة، فيكون هلال
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1089.(9/35)
ذي الحجة بالخميس، فلا يكون المتبقى خمسا، ولا يصح حمله على الأيام، ويحسب يوم الخروج منها لقوله لخمس، ولو أراد الأيام لقال: لخمسة.
وذكر الواقدي أيضا: أن يوم التروية وافق يوم الجمعة [ (1) ] ، فعلى هذا تكون الوقفة يوم السبت، ويكون قوله: لخمس بقين، مستقيما، إلا أنه خلاف ما جاء في الصحيح.
وقال أبو محمد على بن حزم: أنه خرج يوم الخميس لستة بقين، وهو أيضا [خلاف ما] جاء في الصحيح، أنه لخمس بقين.
وخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن أبى زيادة عن زيد بن حباب، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حج ثلاث حجج قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر، ومعها عمرة، وساق ثلاثة وثلاثين بدنة، وجاء على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، من اليمن ببقيتها، فيها جمل لأبى جهل في أنفه برة من فضة فنحرها، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كل بدنة ببضعة، فطبخت، وشرب من مرقها، وقال: [قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من حديث سفيان لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب] .
ورأيت عبد اللَّه بن عبد الرحمن يروى هذا الحديث، عن عبد اللَّه بن أبى زياد، وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري، عن جعفر، عن أبيه عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورأيته لا يعده محفوظا. قال: وإنما روى عن الثوري، عن أبى إسحاق، عن مجاهد مرسلا [ (2) ] ، حدثنا عبد اللَّه بن أبى زياد، حدثنا زيد بن حباب، فذكره سواء.
وخرجه ابن ماجة عن أبى محمد القاسم بن محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبى صفرة، حدثنا عبد اللَّه بن داود، حدثنا سفيان الثوري قال:
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 3/ 178- 179، كتاب الحج، باب (6) ما جاءكم حج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (815) .(9/36)
حج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث حجج: حج حجتين قبل أن يهاجر، وحج حجة بعد ما هاجر إلى المدينة، وقرن في حجته عمرة، واجتمع ما جاء به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما جاء به على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، مائة بدنة، فيها جمل لأبى جهل، على أنفه برة من فضة، فنحر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة وستين، ونحر على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه ما غير. قيل له: من ذكره؟ قال:
جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، وابن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. [ (1) ]
__________
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) : 2/ 1027، كتاب المناسك، باب (84) باب حجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3076) .(9/37)
فصل في ذكر من حدّث عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبر عن رب العزة جلت قدرته، بما أوحى إليه من الكتاب والحكمة، فالكتاب هو القرآن الكريم، والحكمة سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وروى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ربه عز وجل أحاديث كثيرة، ورأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين، ونزل عليه بالقرآن عن اللَّه تعالى على قلبه الكريم، ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء خازن الجنة وخازن النار، وشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، وتلقاه المقربون من الأخرى، وأتاه صلّى اللَّه عليه وسلّم ملك الجبال يوم قرن الثعالب برسالة من اللَّه فقال: إن شاء أن يطبق عليهم الأخشبين، فقال: بل استأنى بهم، ونزل عليه ملك يبشره بالفاتحة، وبالآيتين من آخر سورة البقرة، وأتاه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يجمع الأقباض، وجبريل عليه السلام عن يمينه ملك، فبلغه سلام ربه، وأخبره عن اللَّه بتصويب ما أشار به الحباب بن المنذر، واجتمع ليلة الإسراء بالأنبياء، ورآهم على مراتبهم، فرأى إبراهيم، وإدريس، وموسى، وعيسى، ويحيى، ويوسف، وهارون، وآدم، وسلموا عليه، ورحبوا به وحدثه إبراهيم عليه السلام، بحديث رواه عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحدث صلّى اللَّه عليه وسلّم عن تميم الداريّ بقصة الدجال، وحدث صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قس بن ساعدة، بما سمعه يقول بسوق عكاظ.
فأما ما أخبر به صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رب العزة جلت قدرته
فقد قدمت فيما سلف اختلاف أئمة الإسلام في رؤيته صلّى اللَّه عليه وسلّم للَّه عز وجل، وفي سماعه كلام اللَّه تعالى وخطابه له ليلة الإسراء فأغنى عن إعادته.
فالكتاب العزيز الّذي هو القرآن العظيم، المعجز المبين، وحبل اللَّه المتين، فإنه علم على صدق نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم، اقترن بدعوته، ولم يزل أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته وهو كما وصفه به من أنزله فقال جل من قائل:(9/38)
إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ (1) ] ، وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [ (2) ] ، وقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ (3) ] ، وقال: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [ (4) ] وقال: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ (5) ] ، وقال: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ [ (6) ] ، وقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (7) ] فإن اللَّه جل جلاله أنزل هذا القرآن الكريم، على وصف مباين لأوصاف كلام البشر، لأنه منظوم وليس منثور ونظمه ليس كنظم الرسائل، ولا نظم الخطب، ولا نظم الأشعار، ولا هو كسجع الكهان.
وأعلم سبحانه وتعالى أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله، ثم أمره صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتحداهم على الإتيان به إن ادعوا أنهم قادرون عليه، أو ظنوه، فقال تبارك وتعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [ (8) ] ثم أنقصهم تسعا، فقال:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (9) ] ، وكان امتناع قريش من ذلك، دلالة على صدقه، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان من الموافق له، والمخالف عليه، غير مدفوع عن الحصانة والمتانة، ورصانة العقل، وقوة الرأى.
__________
[ (1) ] فصلت: 41، 42.
[ (2) ] الواقعة: 77، 78، 79، 80.
[ (3) ] البروج: 21، 22.
[ (4) ] آل عمران: 62.
[ (5) ] الأنعام: 155.
[ (6) ] عبس: 11- 16.
[ (7) ] الإسراء: 88.
[ (8) ] هود: 13.
[ (9) ] البقرة: 23.(9/39)
ومعلوم أن من كان بهذه المنزلة، وهو مع ذلك قد انتصب لدعوة الناس إلى دينه، لم يجز بوجه من الوجوه أن يقول للناس: ائتوا بسورة من مثل ما جئتكم به من القرآن، ولن تستطيعوا أن تأتوا بذلك، فإن أتيتم به فأنا كاذب، وهو يعلم من نفسه أن القرآن لم ينزل عليه، ولا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه، وأنه إن عارضه أحد بطلت دعوته.
فكان هذا دليل قاطع، على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يقل للعرب: ائتوا بمثله إن استطعتموه، ولن تستطيعوه، إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعونه، ولا يجوز أن يكون هذا اليقين وقع له إلا من قبل ربه الّذي أوحى إليه به، حتى إنه وثق بخبره، ويؤيد ذلك
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لهم: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وطالت النظرة والمهلة لهم في ذلك، ووقائعه لهم تتواتر، ومحاربته لهم لا تزال: فيقتل صناديدهم، ويسبى ذراريهم، ونساءهم، ويأخذ أموالهم بالقوة، فلم يتعرض أحد لمعارضته، ولو قدروا عليها، لافتدوا بها أنفسهم، وأولادهم، وأهاليهم، وأموالهم، ولكان الأمر في ذلك قريبا سهلا عليهم، إذ هم أهل اللسن، والفصاحة، والشعر، والخطابة.
فلما لم يأتوا بذلك، ولا ادعوه صح أنهم كانوا عاجزين عنه، وفي ظهور عجزهم بيان أنه في العجز مثلهم، إذ كان بشرا مثلهم، لسانه لسانهم وعاداته عاداتهم، وطباعه طباعهم، وزمانه زمانهم، وإذ كان كذلك، وقد جاء بالقرآن، وجب القطع بأنه من عند اللَّه تعالى، لا من عنده صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فإن أورد ملحد أسجاع مسيلمة، قيل له: إنما كان الّذي جاء به مسيلمة، لا [يعدو] أن يكون إلا مجالا، أو سرقة، أو كأسجاع الكهان، وأراجيز العرب، وقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هو أحسن لفظا، وأقوم معنى، وأبين فائدة، من أسجاع مسيلمة، ومع ذلك فلم تقل له العرب: يا محمد، أما أنت تتحدانا على الإتيان بمثل [القرآن] ، وتزعم أن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لم يقدروا عليه، ثم قد جئت بمثله، فما هو إلا مفترى، إنه ليس من عند اللَّه، وذلك
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:(9/40)
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
تاللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم:
[اللَّهمّ] إن العيش عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: تعس عبد الدينار والدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطى منها رضى، وإن لم يعط سخط، نفس وانتكس، وإن شيك فلا انتكش.
فلم يدع أحد من العرب أن شيئا من هذا يشبه القرآن، ولا أن فيه كسر لقوله، وكان عرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على العرب هذا الكلام، الّذي أعجزهم عن الإتيان بمثله، أعجب في الآية، وأوضح في الدلالة، من إحياء عيسى عليه السّلام الموتى، وإبرائه الأكمه والأبرص، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى أهل البلاغة، وأرباب الفصاحة، ورؤساء البيان، والمتقدمين في اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم، فكان عجزهم عن الإتيان بمثله أعجز من عجز شاهد المسيح، وعجز عن إحياء الموتى لأنهم لم يكونوا يطيقون إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ولا يتعاطون علمه، بخلاف قريش فإنّها كانت تتعاطى الكلام الفصيح، والبلاغة والخطابة فدل [على] أن العجز عن إتيانهم بمثل القرآن، إنما كان معجزة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتؤيد صدق رسالته، وصحة نبوته.
وهذا برهان واضح وحجة قاطعة لمن وفقه اللَّه، ومع ذلك ففي القرآن الكريم وجهان آخران في الإعجاز:
أحدهما: ما تضمنه من الإخبار عن المغيبات، كقوله تعالى:
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (1) ] وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (2) ] وقوله في الروم:
__________
[ (1) ] الفتح: 28.
[ (2) ] النور: 55.(9/41)
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (1) ] ونحوها من الآيات التي وعد اللَّه فيها بالفتوح في زمن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعده، وكان كما أخبر، ومعلوم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يعلم النجوم ولا الكهانة، ولا يجالس أهلها.
والثاني: ما اشتمل عليه من قصص الأولين، من غير أن يعلم ذلك من أحد من علماء أهل الكتاب، ومعلوم أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أميا، لا يقرأ كتابا، ولا يخطه، ولا يجالس أهل الكتاب، ليأخذ عنهم، ولما زعم بعض مشركي قريش أن ما يعلمه بشر، ردّ اللَّه تعالى عليه قوله، فقال سبحانه: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ (2) ] ، وذلك أنه كان لابن الحضرميّ غلامان نصرانيان، يقرءان كتابا لهما بالعبرانية، وبالرومية، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتيهما فيحدثهما، ويعلمهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمد منهما، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وإذا تقرر ذلك، فاعلم أن أعظم المعجزات، وأشرفها، وأوضحها دلالة، القرآن الكريم، لأن الخوارق في الغالب، تقع مغايرة للوحى الّذي يتلقاه النبي، وتأتى المعجزة شاهدة به، والقرآن بنفسه هو الوحي [المدعى] ، وهو الخارق المعجز فدلالته في عينه، ولا نفتقر إلى دليل أجنبى عنه، كسائر الخوارق مع الوحي، فهو أوضح دلالة، لاتحاد الدليل والمدلول فيه.
وهذا معنى ما خرجه البخاري ومسلم، من حديث الليث، عن سعيد بن أبى سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبى هريرة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الّذي [أوتيته] وحيا أوحى اللَّه إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الروم: 3- 4.
[ (2) ] النحل: 103.
[ (3) ]
رواه البخاري في فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، وفي الاعتصام، باب قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،: بعثت بجوامع الكلم، ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (152) ، (جامع الأصول) : 8/ 533، حديث رقم (6333) .(9/42)
يشير صلّى اللَّه عليه وسلّم، إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الموضوع، وقوة الدلالة، وهي كونها نفس الوحي، كان المصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق المؤمن، وهم التابع والأمة. واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
ويدلك هذا، على أن القرآن من بين الكتب [الإلهية] ، إنما تلقاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلا كما هو، بكلماته وتراكيبه، بخلاف التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب الإلهية، فإن الأنبياء عليهم السلام يتلقونها في حال الوحي، معاني يعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية، بكلامهم المعتاد لهم، ولذلك لم يكن فيها إعجاز، واختص الإعجاز بالقرآن الكريم.
وكان تلقى الأنبياء لكتبهم، مثل ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتلقى المعاني التي يسندها إذا حدث بها إلى اللَّه تعالى، ويشهد لتلقيه صلّى اللَّه عليه وسلّم القرآن متلوا قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[ (1) ] ، أي محمد لا تحرك بالقرآن لسانك عجلان، خائفا أن يفوتك، ويزول حفظه عن قلبك، إن علينا أن نجمعه في نفسك، حتى تقرأه بلسانك، فإذا أنزلناه عليك فاستمع قراءته ثم علينا أن نحفظه، ونبينه بلسانك.
خرج البخاري ومسلم من حديث أبى عوانة، موسى بن أبى عائشة، عن سعيد بن الجبير، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] في قوله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
، قال: [كان] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فأنزل اللَّه عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
، قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه، فإذا قرأناه فاتبع قراءته، قال: فاستمع، وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما قرأه. ذكره مسلم [ (2) ] في كتاب الصلاة،
__________
[ (1) ] القيامة: 16- 18.
[ (2) ] (فتح الباري) ،: 13/ 611، كتاب التوحيد، باب رقم 43 [بدون ترجمة] ، حديث رقم (7524) ، وزاد عليه بعد قوله: يحرك به شفتيه فقال ابن عباس: أحركهما لك كما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحركهما؟ فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه.(9/43)
وذكره البخاري في كتاب التوحيد، في باب قول اللَّه عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
، وذكره في أول كتابه، [وذكره في] التفسير، في فضائل القرآن، ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل جبريل بالوحي، كان يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل اللَّه [عز وجل] الآية التي في: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[ (1) ] ، قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقراءته، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[ (2) ] ، فإذا أنزلناه فاستمع ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [ (3) ] ، علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتاه جبريل [عليه السلام] يقرئه القرآن؟ فإذا ذهب قرأه كما وعده اللَّه [عز وجل] . أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [ (4) ] ، توعد [ (5) ] .
فقد تبين أن سبب نزول الآية، ما كان يقع له صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدارة إلى تدارس الآية، خشية من النسيان، وحرصا على حفظ ذلك المتلو المنزل، فتكفل اللَّه عز وجل له بحفظه، يقول [تبارك وتعالى] : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (6) ] ، هذا هو معنى الحفظ الّذي اختص به القرآن، لا قيل غير ذلك، فإنه بمعزل عن المراد.
وفي القرآن الكريم آيات عديدة، تشهد بأنه نزل قرآنا، متلوا، معجزا بسورة منه، وهذا القرآن العظيم، أعظم معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يكن في معجزاته- مع كثرتها- أعظم منه ومن ائتلاف العرب على دعوته، كما
__________
[ (1) ] القيامة: 16- 17.
[ (2) ] القيامة: 18.
[ (3) ] القيامة: 19.
[ (4) ] القيامة: 34.
[ (5) ] زيادة للسياق من (البخاري) ، (فتح الباري) : 8/ 882، كتاب التفسير باب رقم 2 [بدون ترجمة] ، حديث رقم (4929) .
[ (6) ] الحجر: 9.(9/44)
قال [تبارك] وتعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما [أَلَّفْتَ] بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ (1) ] .
فاعلم هذا، وتذكره، تجده صحيحا، وكما قررت لك، وتأمل ما يشهد لك به، من ارتفاع رتبته على الأنبياء، وعلو مقامه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] الأنفال: 63.(9/45)
وأما الأحاديث [الإلهية] [ (1) ]
__________
[ (1) ] وتسمى أيضا [الأحاديث القدسية] ، والحديث القدسي: هو ما رواه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ربه تبارك تعالى على غير النسق القرآني، ونظمه، وإعجازه، ولكنه في نظمه وأسلوبه بسائر الحديث النبوي أشبه، وهو يعد في جملة السنة النبويّة لكون راويه هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وله صيغ متعددة يعرف بها.
صيغة الحديث القدسي: أكثر الصيغ التي يعرف بها الحديث القدسي وأشهرها ما كان صريحا في بيان هذه النسبة، مثل قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وقال اللَّه» أو «يقول اللَّه:» أو «قال ربكم: «أو يقول ربكم» أو «أوحى اللَّه» أو ما أشبه ذلك من الصيغ التي تثبت القول للرب تبارك وتعالى عن طريق إسناد فعل القول أو ما يؤدى معناه إسنادا صريحا إليه، وهناك صيغ أخرى يعرف بها الحديث القدسي عن طريق الدلالة،
منها: ما رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يؤتى بالموت يوم القيامة فيوثق على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة، فينطلقوا خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الّذي هم فيه، ثم يقال: يا أهل النار، فينطلقوا فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الّذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون ذلك؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقال: هذا الموت فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلود ولا موت فيه أبدا.
ففي هذا الحديث يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فيقال» هكذا على من لم يسم فاعله، فلم يحدد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الّذي نادى أهل الجنة وأهل النار فسألهم جميعا عن الموت قائلا لهم: «هل تعرفون ذلك؟ «فلم نعرف هل هو الحق تبارك وتعالى؟ أم هو ملك من ملائكته؟ حتى ورد في الحديث جواب أهل الجنة وأهل النار لهذا السائل قائلين: «نعم ربنا» فدل جوابهم هذا على أن الّذي خاطبهم بالنداء والسؤال هو المولى عز وجل، فعرفنا حينئذ أن الحديث قدسي بهذه الدلالة.
مكان الحديث القدسي: الحديث القدسي مبثوث في مدونات السنة ومصنفاتها المختلفة من مسانيد وسنن، ومعاجم وجوامع وغيرها، لا يتميز دون سائر أحاديثها في باب مستقل، أو موضع محدد.
أهم المؤلفات في الحديث القدسي:
* كتاب (مشكاة الأنوار فيما روى عن اللَّه سبحانه من الأخبار) للشيخ محيي الدين بن عربي.
* كتاب (الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية) للشيخ محمد المدني.(9/46)
وهي التي يرويها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن اللَّه تبارك وتعالى، فهي كثيرة، كحديث: [يا عبادي] كلكم جائع إلا من أطعمته.. الحديث أخرجه مسلم [ (1) ] ، وله أشباه عديدة، وقد أفرد العلماء فيها مصنفات فجمع زاهر بن طاهر فيها مصنفا، وكتب الحافظ الضياء فيها كتابا، ولعلى بن بليان فيها مجلد، يحتوي على نحو مائة حديث، وقد تقدم رؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جبريل عليه السّلام، على صورته التي خلقها اللَّه عليها، وكيف تلقى عنه القرآن الكريم، الّذي نزل على قلبه المقدس، وتقدم أيضا رؤية خازن الجنة وخازن النار، وتشييع ملائكة السموات، وتلقيهم له.
__________
[ () ] * كتاب (الأحاديث القدسية) إعداد لجنة القرآن والحديث بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
[ (1) ]
ونحوه في (سنن الترمذي) : 4/ 556، 567، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (48) بدون ترجمة، حديث رقم (2495) ولفظه: «حدثنا هناد، حدثنا أبو الأحوص عن ليث عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبى ذر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يقول اللَّه تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت، فمن علم منكم أنى ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالى، ولو أن، أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي، ما نقص ذلك من ملكي شيئا ... (الحديث) . وأخرجه ابن ماجة في (السنن) :
2/ 1422- كتاب الزهد، باب (30) ذكر الذنوب، حديث رقم (4257) ، (صحيح الأحاديث القدسية) : 174، فصل في النهى عن الظلم، باب (7) حديث إني حرمت الظلم على نفسي رقم (167) ،
والمقصود من هذا المثل هو التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه، فإن البحر من أعظم المرئيات عيانا.(9/47)
وأما الحكمة، وهي سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعيّ- رحمه اللَّه ورضى عنه-: قد وضع اللَّه [عز وجل] رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من [دينه] ، وفرضه، وكتابه، الموضع الّذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علما لدينه بما افترض من طاعته، وحرم معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله، مع الإيمان به، فقال: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (1) ] ، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (2) ] ، فجعل كمال ابتداء الإيمان الّذي ما سواه، تبع له الإيمان باللَّه، ثم برسوله.
قال الشافعيّ: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (3) ] قال: لا أذكر إلا ذكرت، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدا رسول اللَّه. قال: وفرض اللَّه على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [يَتْلُوا] عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (4) ] مع آي سواها، ذكر فيهن الكتاب والحكمة.
قال الشافعيّ: فذكر اللَّه الكتاب والقرآن، وذكر الحكمة، فسمعت ممن أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ (5) ] ، فقال: بعض أهل العلم [أولو] الأمر: هم أمراء سرايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: فإن تنازعتم في
__________
[ (1) ] النساء: 136.
[ (2) ] النور: 62.
[ (3) ] الشرح: 4.
[ (4) ] آل عمران: 164.
[ (5) ] النساء: 59.(9/48)
شيء، يعنى اختلفتم في شيء، يعنى- واللَّه أعلم- هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعته، فردوه للَّه والرسول، يعنى- واللَّه أعلم- إلى ما قاله اللَّه والرسول.
ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أن طاعة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طاعته، فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] .
واحتج أيضا في فرض اتباع أمره بقوله عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [ (2) ] وقوله: [وَ] ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (3) ] ، وغيرها من الآيات التي دلت على اتباع أمره، ولزوم طاعته.
قال: وكان فرضه جل ثناءه على من عاين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعده إلى يوم القيامة واحدا، من أن على كل طاعته، لم يكن أحد غاب عن رؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بالخبر عنه، والخبر عنه خبران:
خبر عامة عن عامة: عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بجمل ما فرض اللَّه سبحانه من العبادات، يأتوا به بألسنتهم وأفعالهم، ويؤتوه من أنفسهم وأموالهم، وهذا ما لا يسع جهله، وما يكاد أهل العلم والعوام أن يستووا فيه لأن كلا كلفه، كعدد الصلاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وتحريم الفواحش، وأن للَّه عليهم حقا في أموالهم، وما كان في معنى هذا.
وخبر خاصة: في خاص الأحكام، لم يأت أكثره كما جاء الأول، لم يكلفه العامة وكلف علم ذلك من فيه الكفاية للقيام به دون العامة، وهذا مثل ما يكون بينهم في الصلاة من سهو يجب به سجود السهو أو لا يجب، وما يفسد الحج، و [ما] لا يفسده، وما يجب به الفدية، وما لا يجب فيما لا يفعل، وغير
__________
[ (1) ] النساء: 5.
[ (2) ] النور: 63.
[ (3) ] الحشر: 7.(9/49)
ذلك. وهو الّذي على العلماء فيه عندنا، قبول خبر الصادق على صدقه، ولا يسعهم رده، بفرض اللَّه طاعة نبيه.
قال: ولولا ثبوت الحجة بالخبر، لما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم: ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلما ندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى استماع مقالته وأدائها، أمر أن يؤديها، والأمر واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم الحجة به على من أدى إليه.
قال: سفيان بن عيينة: أخبرنى سالم أبو النصر، أنه سمع عبيد اللَّه ابن أبى رافع، يخبر عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمرى، مما أمرت به أو نهيت عنه، يقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب اللَّه اتبعنا [ (1) ] .
والحجج في تثبيت خبر الواحد كثيرة، وفيما احتج به الإمام الشافعيّ رحمه اللَّه [و] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على ذلك كفاية.
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 5/ 12، كتاب السنة، باب (6) في لزوم السنة، حديث رقم (4605) ، (سنن الترمذي) : 5/ 36- 37، كتاب العلم، باب (9) ما جاء فيمن روى حديثا، وهو يرى أنه كذب، حديث رقم (2663) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وروى بعضهم عن سفيان عن ابن المنكدر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا، وسالم ابن لأبى النضير عن عبيد اللَّه بن أبى رافع عن أبيه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث على الانفراد بين حديث ابن المنكدر من حديث سالم ابن أبى النضر، وإذا جمعهما روى هكذا، وأبو رافع مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، اسمه أسلم.(9/50)
وأما مجيء الجبال إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج البخاري في كتاب بدء الخلق، في باب ذكر الملائكة، من حديث ابن وهب قال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير، أن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حدثته أنها قالت: يا رسول اللَّه! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم، يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن اللَّه قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، وسلم على، ثم قال: يا محمد! إن اللَّه عز وجل قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرنى بأمرك، فما شئت [ (1) ] ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد اللَّه وحده لا يشرك به شيئا [ (2) ] ، وذكر طرفا من هذا الحديث في كتاب التوحيد [ (3) ] ، وخرجه مسلم أيضا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين ليس في (البخاري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 384، كتاب بدء الخلق، باب (7) بدون ترجمة، حديث رقم (3231) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 460، كتاب التوحيد، باب (9) بدون ترجمة، حديث رقم (7389) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 396- 397، كتاب الجهاد والسير، باب (39) ما لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أذى المنافقين، حديث رقم (111) .(9/51)
وأما إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة
فخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن عباس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنها] قال: بينما جبريل عليه السّلام قاعدا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، ولم يفتح قط إلا اليوم! فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم! فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتها، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، [لم] تقرأ بحرف منها الا أعطيته [ (1) ] .
وأما الملك الّذي نزل بتصويب الحباب
ففي مغازي الأموي، عن أبيه قال: وزعم الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجمع الأقباض وجبريل عن يمينه، إذ أتاه ملك من الملائكة، قال: يا محمد، إن اللَّه يقرأ عليك السلام، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، فقال الملك: إن اللَّه يقول لك: إن الأمر الّذي أمرك به الحباب ابن المنذر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا جبريل! هل تعرف هذا؟ قال: ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق، وما هو بشيطان [ (2) ] .
وإسناد هذا الحديث ليس بذاك، وقد خالف فيه
محمد بن عمر الواقدي فقال: حدثني ابن أبى حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: نزل جبريل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 339، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (43) فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، حديث رقم (806) .
[ (2) ] قال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 327، قال الأموي: حدثنا أبى قال: وزعم الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس به، والكلبي وهو مدلس.(9/52)
فقال: الرأى ما أشار به حباب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حباب! أشرت بالرأي،
فنهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ففعل كل ذلك [ (1) ] .
وأما اجتماعه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنبياء ورؤيتهم في ليلة الإسراء
فقد مضى ذكر ذلك مجودا فراجعه [ (2) ] .
وأما حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن إبراهيم عليه السّلام
فخرج الترمذي من حديث القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بى، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك منى السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان اللَّه، والحمد اللَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر.
قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجهة [ (3) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه ابن عمر، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبى أيوب الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة أسرى به مر على إبراهيم عليه السلام، فقال من معك يا جبريل؟ قال: هذا محمد، قال له إبراهيم: مر أمتك
__________
[ (1) ] أخرجه الواقدي في (المغازي) : 1/ 54، وفي إسناده داود بن الحصين وهو ضعيف، فضلا عن أن روايته عن عكرمة منكرة، كما صرح بذلك الحفاظ كعليّ بن المديني وابن معين، انظر (تهذيب التهذيب) : 3/ 157.
[ (2) ] راجع (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 1/ فصل في الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 476، كتاب الدعوات باب 59 [بدون ترجمة] (3462) وفيه عبد الرحمن ابن إسحاق بن سعد الحارث، قال فيه أحمد: ليس بشيء، منكر الحديث، وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف، ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وكذا ضعفه النسائي.(9/53)
فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه [ (1) ] .
وخرج ابن حبان في صحيحه، من حديث حيوة بن شريح قال: أخبرنى أبو صخر، أن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، أخبره عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر قال: حدثني أيوب صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة اسرى به، مر على إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، فقال لجبريل عليه السّلام،: من معك يا جبريل؟ فقال جبريل: هذا محمد، فقال: مر أمتك أن يكثروا غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لإبراهيم: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه [ (2) ] .
[[و] إبراهيم خليل الرحمن، أبو الضيفان] ، وهو الأب الثالث، أب الآباء، وعمود العالم، وإمام الحنفاء، الّذي اتخذه اللَّه تعالى خليلا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، وشيخ الأنبياء ابن [آذر] ، ويقال: [آذر] بن تارح ابن نوحود بن مسروغ بن رعوا بن فالغ بن عيبر، ويقال: عابر بن شالخ بن أرفخشاذ بن سام بن نوح [ (3) ] ، صلوات اللَّه وسلامه عليه، كان آباؤه في
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 3948.
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 3/ 101، كتاب الرقاق، باب (8) الأذكار، ذكر البيان بأن المرء كلما كثر تبريه من الحول والقوة إلا ببارئه كثر غراسه في الجنة، حديث رقم (821) ، وفيه عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، وثقة ابن حبان، وأبو صخر وهو حميد بن زياد وهو متكلم فيه من قبل حفظه، وما بين الحاصرتين سقط من (ج) .
[ (3) ] وتمام النسب: ابن نوح بن لامخ بن مثوشالح بن حنوح- وهو إدريس- بن يارذ بن ماهللئيل بن قنن بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السّلام، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. (المقفى الكبير) :
1/ 13.
قال العلامة المقريزي رحمه اللَّه: هذه الأسماء كلها ليست بعربية، وقد خبط في ضبطها كثير من نقلة الأخبار لبعدهم عن معرفة العبرانية، والصواب في ذلك ما وقع في التوراة، إذ هذه الأسماء ليست مما يدخله النسخ والتبديل، وهي هناك كما أوردته لك هنا.(9/54)
__________
[ () ] وأزيدك أيضا بيانا بضبطها بالحروف، فإنّها إنما كتبت في التوراة بالقلم العبرانىّ، وقد منّ اللَّه بعد معرفتها بالقلم العبرانىّ أن يسّر ضبطها بالحروف العربية.
فإبراهيم، كان اسمه «أبرام» بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وضم الراء المهملة، ثم ألف بعدها ميم، ومعنى ذلك تقريبا: رفيع القدر «فسماه اللَّه تعالى: أبروهام: وصار معناه: أبو جمهور الأحزاب. وعرّبته العرب فقالت: إبراهيم: بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وكسر الهاء ثم ياء آخر الحروف ساكنة بعدها ميم.
وقالت أيضا «إبراهام» بفتح الهاء، وبهما جاء تنزيل العزيز الحكيم في القرآن المجيد.
وسمع أيضا «إبرهم» . قال عبد المطلب بن عبد مناف بن أساف: نحن آل اللَّه في بلدته، لم يزل ذاك على عهد إبرهم.
وتارح، بفتح التاء المثناة من فوق ثم ألف ساكنة بعدها راء مهملة مفتوحة ثم حاء مهملة.
ونوحور، بضم النون وسكون الواو وضمّ الحاء المهملة، وبعدها واو ثم راء مهملة.
وسروغ، بفتح السين المهملة وضم الراء المهملة، ثم واو ساكنة بعدها غين معجمة.
ورعو، بضم الراء والعين المهملتين ثم واو.
وفالغ، بفاء مفتوحة بعدها ألف ثم لام مفتوحة وغين معجمة. وهذه الفاء ليست في اللغة. وبعضهم يقول: فالج بالجيم، وهذه الفاء بين الفاء والباء الموحدة.
وعيبر، بكسر العين المهملة وسكون الباء اخر الحروف وفتح الباء الموحدة ومن نقلة الأخبار من يقول: «عابر بفتح العين» . وأصله ما ذكرت.
وشالح، بفتح الشين المعجمة واللام وسكون الحاء المهملة.
وأرفخشاذ، بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة، وفتح الفاء وسكون الخاء المعجمة وفتح الشين، ثم ألف بعدها ذال معجمة. وهذه الفاء أيضا بين الفاء والباء الموحدة.
وسام، أصله بشين معجمة، وعرّب فقيل: بسين مهملة مفتوحة، ثم ألف بعدها ميم، وكثيرا ما تكون الشين المعجمة في العبرانية سينا مهملة في اللسان العربيّ.
ولامخ، بفتح اللام والميم وبعدها خاء معجمة.
ومثوشالح، بفتح الميم وضم المثلثة وسكون الواو وفتح الشين المعجمة بعدها ألف ساكنة ثم لام مفتوحة ثم حاء مهملة كأن بعدها ألفا.
وحنوخ، بحاء مهملة مفتوحة ونون مضمومة بعدها واو ساكنة، ثم خاء معجمة.(9/55)
السريانيين، يقال: ابن الكنعانيين، وولد [عليه السّلام] بكوثى، وقيل: ولد بهرمزجرد، ثم انتقل إلى كوثى من أرض بابل، وأمه [عليه الصلاة والسلام] يونا بنت كرنيا بن كوثى، من بنى أرفخشاذ بن سام، ويقال: بل اسمها أبيونا وأنها من ولد أفرام بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن أرفخشاذ.
وكان أبوه [ (1) ] على أصنام الملك نمروذ، ولسانهم السريانية، وبينه عليه السّلام، وبين نوح [عليه السّلام] عشرة قرون، وولد ولأبيه من العمر سبعون سنة، وخرج به أبوه بعد ما تزوج بسارة، ومعه لوط فسكن حران، وبها [مات] أبوه.
وكان قد أراه اللَّه تعالى ملكوت السموات والأرض، وكاد أصنام قومه [ (2) ] ، وحاجهم
__________
[ () ] ويرذ، ويقال يارذ- بياء آخر الحروف مفتوحة إذا أشبعت الفتحة صار كأن بعدها ألفا ثم راء مهملة مفتوحة بعدها ذال معجمة.
وماهللئيل، بميم مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم هاء مفتوحة ولام مفتوحة أيضا، ثم لام أخرى ساكنة بعدها ألف مهموزة مكسورة كأنما بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، ثم لام ثلاثة.
وقنن، بقاف مكسورة كأن بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، ثم نون مضمومة كأن بعدها واو ساكنة، ثم نون أخرى.
وأنوش، بفتح الهمزة وضم النون وسكون الواو ثم شين معجمة.
(المقفى الكبير) : 1/ 13- 15، ترجمة إبراهيم الخليل عليه السّلام، ترجمة رقم (1) .
[ (1) ] عن مجاهد قال: آزر صنم، ليس بأبيه، وفي التوراة: «إبراهيم بن تارح» . وهذا قول مردود، فقد قال تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74] ، وهذا هو الحق. وقال بعضهم: آزر هو تارح، وأحدهما اسم، والآخر لقب، وليس ببعيد. (المرجع السابق) .
[ (2) ] أخذ إبراهيم قدوما وأتاها ليلا وكسرها وعلّق القدوم على عنق صنم الشمس وهو أكبرها- حيث قد كانوا سموها بأسماء الكواكب- فلما رأوها قالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: 59] ، قال رجل منهم: سمعت إبراهيم يذكرها، فأتوا إبراهيم فقالوا: من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال لهم:
سلوا كبيرهم هذا إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 63] . (المرجع السابق) .(9/56)
في إثبات اللَّه تعالى [ (1) ] ، فألقوه في النار، فصارت بردا
__________
[ (1) ] عن كعب الأحبار قال: رأى إبراهيم عليه السلام قوما يأتون نمروذ الجبار فيصيبون منه طعاما، فانطلق معهم، فكان مرّ بالنمروذ رجل قال له: «من ربك؟» قال: «أنت ربى» ، وسجد له إعظاما له، فأعطاه حاجته، حتى مرّ به إبراهيم فقال: من ربك؟ قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة: 258] ، وخرج إبراهيم ولم يعطه شيئا، فعمد إبراهيم إلى تراب فملأ به وعاءه ودخل به منزله، وأمر أهله أن لا يحلوه، ووضع رأسه فنام، فحلت امرأته الوعاء فإذا هو أجود دقيق رأت. (المرجع السابق) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني أبو الأحوص بن عبد اللَّه قال: خرج قوم إبراهيم إلى عيد لهم فمروا عليه فقالوا: يا إبراهيم، ألا تخرج معنا؟ قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] . وقد كان قبل ذلك قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57] . فسمعه إنسان منهم فلما خرجوا إلى عيدهم انطلق إلى أهله فأخذ طعاما ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات: 91- 93] فكسرها إلا كبيرا لهم، ثم ربط في يده الفأس الّذي كسر به آلهتهم.
فجاهرهم عند ذلك وقال: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ [الصافات: 95] ، أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: 66- 67] . (المرجع السابق) .
عن عكرمة في قوله تعالى قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 96] أن نار الدنيا كلها لم ينتفع بها أحد من أهلها، فلما أخرج اللَّه تبارك وتعالى إبراهيم عليه السّلام من النار زاده اللَّه في حسنه وجماله سبعين ضعفا.
وعن على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كانت البغال تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لحرق إبراهيم عليه السّلام فدعا عليها، فقطع اللَّه نسلها.
وكانت الضفادع مساكنها القفار فجعلت تطفئ النار عن إبراهيم عليه السّلام فدعا لها فأنزلها اللَّه الماء، وكانت الأوزاغ تنفث عليه النار فلعنها فصارت ملعونة، فمن قتل منها أجر. (المرجع السابق) .
وعن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما ألقى بإبراهيم عليه السّلام في النار قال: حسبي اللَّه ونعم الوكيل. (المرجع السابق) .(9/57)
__________
[ () ] وقال الزبير بن بكار: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة قال: لما رأى الناس أن إبراهيم عليه السلام لا تحرقه النار قالوا: ما هو إلا عرق الندى وما نعرفه، ألا ترى ما تضره النار ولا تحرقه؟
فسمى عرق الندى. (المرجع السابق) .
وقال مقاتل: أول من اتخذ المنجنيق نمروذ، وذلك أن إبليس جاءهم لما لم يستطيعوا أن يدنوا من النار التي أضرمها لرمي إبراهيم عليه السّلام فيها، فقال: أنا أدلكم، فاتخذ لهم المنجنيق، صنعه له رجل من الأكراد يقال له: هبون. وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف اللَّه به الأرض، وجيء بإبراهيم عليه السّلام فخلعوا ثيابه وشدوا رباطه، فوضع في المنجنيق، فبكت السموات، والأرض، والجبال، والشمس، والقمر، والعرش، والكرسي، والسحاب، والريح، والملائكة، كل يقول: يا رب عبدك إبراهيم بالنار يحرق، فائذن لنا في نصرته، فقالت النار وبكت: يا رب سخرتني لبني أدم، وعبدك يحرق بى عليه السّلام.
فأوحى اللَّه إليهم أن عبدي إياي عبد، وفي جنبي أوذى، إن دعاني أجبته، وإن استنصركم فانصروه. فلما رمى استقبله جبريل عليه السّلام بين المنجنيق والنار فقال: السلام عليك يا إبراهيم، أنا جبريل، ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حاجتي إلى اللَّه ربى. (المرجع السابق) .
قال اللَّه تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] ، فلو لم يخلط بالسلام لآذاه البرد، ودخل جبريل معه وإسرائيل، وأنبت اللَّه تعالى حوله روضة خضراء، وبسط له بساط من درنوك [بسط] الجنة، وأتى بقميص من حلل جنة عدن فألبسه، وأجرى عليه الرزق غدوة وعشيا. (المرجع السابق) .
قال وهب: فلما رأوا الآية الباهرة، آمن منهم بشر كثير فأتى الجمع إلى نمروذ فقالوا: إن إبراهيم قد استمال الناس، وقد صبأ إليه خلق كثير، فجمع نمروذ وزحف، يريد إبراهيم ومن معه، فأوحى اللَّه إلى إبراهيم: أرحل بمن معك، فرفع بامرأته سارة وجميع من آمن به حتى بلغ مدين، فنزل، ونمروذ سائر بجموعه خلفه، فأرسل اللَّه عليهم جندا من البعوض فأعمى أعين الدواب، ودخل خياشيم الرجال حتى ماتوا، وأبقى اللَّه نمروذ، وقد دخلت خيشومه بعوضة فسكنت دماغه حتى كان أحب الناس إليه من ضرب رأسه ليكف عنه أكل البعوض. ثم هلك بعد ذلك. (المرجع السابق) .(9/58)
وسلاما [ (1) ] فخرج عليه الصلاة والسلام عند ذلك بزوجته سارة، ومعه لوط إلى حران، فأقام بها خمس سنين ثم مضى منها وعمره خمس وسبعون، فهاجر إلى ربه [ (2) ] .
فلما عبر الفرات من حران، غير اللَّه تعالى لسانه، وتكلم بالعبرانية، وسار حتى نزل أرض القدس، ومعه مواشيه، وزوجته، ولوط، فبنى عند صخرة بيت المقدس مذبحا، يقرب فيه قرابينه للَّه تعالى.
ثم قدم مصر لغلاء نزل [بأرض] القدس، فكان أمر سارة مع الملك ما كان [ (3) ] وأخذ منها هاجر، ثم خرج [عليه الصلاة والسلام] من مصر، بعد ما أقام بها ثلاثة أشهر، فنزل خارج غزة، وقد كثر ماله، وابتنى بئر سبع، وجعلها سبيلا، وفرق أموالا في وجوه البر، وكان عليه الصلاة والسلام نصيف من كل مزية، وأمر ابن أخيه لوطا أن يتحول عنه، فسار عنه لوط إلى أرض القدس، ونزل سدوم، ونزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام حبرون، التي تعرف اليوم ببلد الخليل.
وولد له عليه الصلاة والسلام بعد عشر سنين من سكناه إسماعيل عليه السلام من هاجر، وعمره ست وثمانون سنة، [ثم اختتن وله تسع وتسعين سنة] [ (4) ] وفي الصحيح أنه اختتن وعمره ثمانون سنة، وولد له إسحاق
__________
[ (1) ] قال العلامة المقريزي: وكان من خبر إبراهيم عليه السّلام مع طوطيس بن ماليا فرعون إبراهيم، أنه عليه الصلاة والسلام قدم إلى مصر بزوجته سارة، فعند ما رآها الحرس الموكلون بأبواب مدينة منف عجبوا من حسنها، فرفعوا خبرها إلى طوطيس، فأمر وزيره فأحضر إبراهيم عليه السّلام وسأله عنها وبعث بها إلى طوطيس، فأكرمها وكف عنها طوطيس، وجفت يده لما مدها إليها حتى دعت اللَّه سبحانه وتعالى فخلصها، وهابها طوطيس بعد ذلك وبعث بها إلى ابنته حوريا فأكرمتها وأعادتها إلى إبراهيم عليه السّلام، ووهبتها هاجر أم إسماعيل. (المقفى الكبير) : 4/ 36.
[ (2) ] هكذا ورد في التوراة وهو خلاف لما في الصحيح.
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 104، كتاب الاستئذان، باب (51) ، الختان بعد الكبر ونتف الإبط، حديث رقم (6298) .
[ (4) ] قال تعالى: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا مريم: 41.(9/59)
[عليهما السلام] وهو ابن مائة سنة من سارة، وأنزل ابنه إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر بمكة، وقد وعده اللَّه [تبارك و] تعالى أن يجعل منه ومن إسحاق [عليهما السلام] شعوبا كبارا.
وامتحنه اللَّه [عز وجل] بذبح ولده، فبادر لطاعة ربه، وأراد ذبحه، ففداه اللَّه [تعالى] بذبح عظيم، وماتت سارة، فتزوج بعدها قطورا، فولدت له عليه السلام ستة أولاد، ثم مات عليه السلام، وعمره مائة وخمس وسبعون سنة، فدفن حيث قبره الآن من قرية حبرون، مع زوجته سارة.
ويقال: معنى إبراهيم بالسريانية، أب رحيم، وقد سماه اللَّه تعالى إماما [ (1) ] [وحليما [ (2) ] ، وأواها، ومنيبا وصديقا [ (3) ]] وأمّة، وقانتا، وحنيفا [ (4) ] ، فالأمة: هو القدوة، المعلم للخير. والقانت: المطيع للَّه، الملازم لطاعته.
والحنيف: المقبل على اللَّه، المعرض عما سواه. وقد اتفق أهل الملة على تعظيمه، وتوليته، [و] محبته، وكان خير بنيه، وسيد ولد آدم، محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، يجله، ويعظمه، ويبجله، ويحترمه.
ففي صحيح مسلم من حديث المختار بن فلفل، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا خير البرية، فقال ذاك إبراهيم [ (5) ] ،
وسماه شيخه، فإنه لما دخل الكعبة، وجد
__________
[ (1) ] قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً البقرة: 124.
[ (2) ] قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ هود: 75.
[ (3) ] قال تعالى: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا مريم: 41.
[ (4) ] قال تعالى: أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً النحل: 120.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 130، كتاب الفضائل، باب (41) من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام، حديث رقم (2369) .
قال العلماء: إنما قال هذا تواضعا واحتراما لإبراهيم لخلقه وأبوّته، وإلا فنبينا أفضل، كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم،
ولم يقصد به الافتخار ولا التطاول على من تقدمه، بل قاله بيانا لما أمر ببيانه وتبليغه، ولهذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولا فخر،
لينفى ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة.
(المرجع السابق) . -(9/60)
المشركين قد صوروا فيها صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال قائلهم: سبحان اللَّه! لقد علموا أن شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام، ولم يأمر اللَّه [تبارك وتعالى] رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتبع ملة أحد من الأنبياء، غير إبراهيم عليه السّلام، وأمر أمته بذلك.
وأخبر صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن إبراهيم عليه السّلام، أول من [يكسي] يوم القيامة، وكان أشبه الخلق به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو عليه [الصلاة] والسّلام أول من [أقرى] الضيف، وأول من اختتن، وأول من رأى الشيب، وقد شهد اللَّه [تبارك و] تعالى له، أنه وفّى ما أمر به، يعنى وفّى جميع ما أمر به من تبليغ الرسالة، وفّى جميع شرائع الإسلام، وجعله [تبارك] تعالى إماما للخلائق يأتمون به.
وكان كما قيل: قلبه للرحمن، وولده للقربان، وبدنه للنيران، وماله للضيفان، وبه سنّ اللَّه الهدايا والضحايا، وهو الّذي للأمة مناظر المشركين، والمبطلين، وكسر حجتهم، وهو أذن في الناس بالحج، لما فرغ من بناء الكعبة البيت الحرام، فكل من حجه واعتمره، كان لإبراهيم مزيد الثواب، بعدد الحجاج والمعتمرين إلى يوم القيامة، وقد ذكرت له سيرة في (التاريخ الكبير المقفى) [ (1) ] ، صلى اللَّه عليه وعلى نبينا وسلم.
__________
[ () ] وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب من سورة لم يكن، حديث رقم (3349) .
وأبو داود في كتاب السنة باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، حديث رقم (4672) ، (جامع الأصول) : 8/ 512، كتاب الفضائل في فضل جماعة من الأنبياء، حديث رقم (6306) ، (مسند أحمد) : 4/ 19، حديث رقم (12415) من مسند أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (1) ] (المقفى للمقريزي) : 1/ 13، 4/ 36.(9/61)
وأما حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن تميم الداريّ [ (1) ]
__________
[ (1) ] هو تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم بن عدي، ينسب إلى الدار، وهو بطن من لخم، يكنى أبا رقية [بابنة له تسمى رقية] لم يولد له غيرها.
كان نصرانيا، وكان إسلامه في سنة تسع من الهجرة، وكان يسكن المدينة ثم انتقل منها إلى الشام بعد قتل عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وروى عنه عبد اللَّه بن وهب، وسليم بن عامر، وشرحبيل بن مسلم، وقبيصة بن ذؤيب، وعطاء بن يزيد الليثي.
روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يذكر الدجال في خطبته، وقال فيها: حدثني تميم الداريّ، وذكر خبر الجساسة وقصة الدجال. وهذا أولى مما يخرجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار.
قال أبو نعيم: كان راهب أهل فلسطين، وعالم أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد. رواه الطبراني من حديث أبى هريرة، وأول من قصّ: وذلك في عهد عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. رواه إسحاق بن راهويه، وابن أبى شيبة.
كان كثير التهجد، قام ليلة بآية حتى أصبح، وهي أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] ، رواه البغوي في (الجعديات) بإسناد صحيح إلى مسروق.
وروى البغوي في (الصحابة) قصة مع عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فيها كرامة واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عمر له، موجزها، عن معاوية بن حرمل قال: قدمت على عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، تائب من قبل أن يقدر عليّ، فقال: من أنت؟ قلت: معاوية بن حرمل صهر مسيلمة، قال: اذهب فانزل على خير أهل المدينة، قال:
فنزلت على تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فبينا نحن نتحدث إذ خرجت نار بالحرة، فجاء عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه إلى تميم، فقال: يا تميم، فخرج، فقال: وما أنا؟ وما تخشى أن يبلغ من أمرى؟ فصغر نفسه، ثم قام فحاشها حتى أدخلها الباب الّذي خرجت منه، ثم اقتحم في أثرها، ثم خرج فلم تضر. له ترجمة في: (مسند أحمد) : 4/ 102، (طبقات ابن سعد) :
7/ 408 (طبقات خليفة) : 70، 305، (تاريخ خليفة) : 341، (التاريخ الكبير) : 2/ 150- 151، (المعارف 102، 168 (الجرح والتعديل) : 2/ 440، (الإستيعاب) : 2/ 58، (تهذيب(9/62)
فخرج مسلم من حديث الحسين بن ذكوان قال: حدثنا ابن بريدة قال:
حدثني عامر بن شرحبيل الشعبي، شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس- أخت الضحاك بن قيس، وكانت من المهاجرات الأول، - فقال: حدثيني حديثا سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا [تسنديه] إلى أحد غيره، فقالت: لئن شئت لأفعلن، فقال [لها] : أجل حدثيني، فقالت: نكحت ابن المغيرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما تأيمت خطبنى عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في نفر من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخطبنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على مولاه أسامة بن زيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكنت قد حدثت
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من أحبنى فليحب أسامة، فلما كلمني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قلت: أمرى بيدك، فأنكحنى من شئت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: انتقلي إلى أم شريك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- وأم شريك امرأة غنية من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل اللَّه، ينزل عليها الضيفان-[فقلت: سأفعل، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تفعلي، إن أم شريك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها ينزل عليها الضيفان] فإنّي أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك، عبد اللَّه بن عمرو بن أم مكتوم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو رجل من بنى فهر قريش، وهو من البطن الّذي هي منه، فانتقلت إليه، فلما انقضت عدتى، سمعت المنادي- منادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- ينادى: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكنت في صف النساء الّذي يلي ظهور القوم، فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك، فقال:
ليلتزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ فقالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: إني واللَّه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما الداريّ كان رجلا نصرانيا، فجاء وبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الّذي أحدثكم عن مسيح الدجال.
__________
[ () ] التهذيب) : 1/ 511، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 442: 448، (ضوء الساري في معرفة خبر تميم الداريّ للمقريزي) : 38 وما بعدها، قصة الجساسة والدجال.(9/63)
حدثني أنه ركب في سفينة بحرية، مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم [أرفأوا] إلى جزيرة في البحر، حيث مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب، كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره، من كثرة الشعر، فقالوا:
ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، فقالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال:
لما سمّت لنا رجلا، فرقنا منها أن تكون شيطانا، فانطلقنا سراعا حتى أتينا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه بالحديد إلى كعبيه، قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين [اغتلم] ، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا الى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب، كثير الشعر، لا ندري ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا:
ويلك! ما أنت؟ فقال: الجساسة، فقلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعبروا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانا.
قال: أخبرونى عن نخل بيسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال:
أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ فقلنا له: نعم، قال: أما إنه توشك ألا يثمر، قال: أخبرونى عن بحيرة طبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب.
قال: أخبرونى عن عين زغر؟ قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال:
هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبرونى عن نبي الأميين ما فعل؟
[قالوا] : أخرج من مكة، ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال:
كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا له: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عنى: إني أنا المسيح [الدجال] ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قريه إلا هبطتها في أربعين(9/64)
ليلة، إلا مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.
قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وطعن [أو طنّ] بمخصرته في المنبر:
هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، يعنى المدينة، ألا هل كنت أحدثكم ذاك؟
فقال الناس: نعم، فإنه أعجبنى حديث تميم، أنه وافق الّذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة، ومكة، إلا أنه في بحر الشام، أو نحو اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق وما هو من قبل المغرب، ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق،
قالت: فحفظت هذا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر له عدة طرق، تدور على الشعبي [ (1) ] .
__________
[ (1) ] مسلم: (18/ 291- 297) ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجساسة، باب (24) ، (حديث رقم 119، 120، 121، 122، 123) ، وهذا الحديث معدود في مناقب تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم روى هذه القصة وهي من باب رواية الفاضل عن المفضول، والمتبوع عن تابعه، وفيها دليل على قبول خبر الواحد.
[والجساسة- بفتح الجيم وتشديد السين المهملة الأولى- سميت بذلك لأنها تتجسس الأخبار للدجال] .
[وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما أنها دابة الأرض المذكورة في القرآن] ، في قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ النمل: (82) .
[وفاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان ابن محارب بن فهر القرشية الفهرية، إحدى المهاجرات الأول الجميلات العاقلات النبيلات، كانت عند أبى عمرو بن حفص [بن عمرو] بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي، واسمه: عبد الحميد، وقيل: اسمه كنيته. طلقها لما بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع على بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حين وجهه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أميرا على اليمن، وبعث إليها تطليقة، وهي بقية طلاقها، ثم مات هناك مع على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فتأيمت- أي صارت أيّما- وهي [التي] لا زوج لها، فخطبها معاوية، وأبو جهم بن حذيفة، فاستشارت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيهما، فأشار عليها بأسامة بن زيد، فتزوجته] . -(9/65)
__________
[ () ] [وذكر البخاري في (التاريخ) أنه عاش إلى خلافة عمر، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه] .
[وقولها: «فأصيب» ، وليس معناه أنه قتل في الجهاد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتأيمت بذلك، بل إنما تأيمت بطلاقه البائن، ويكون معنى فأصيب [بجراحة أو أصيب] في ماله أو نحو ذلك، وأرادت عد فضائله، فابتدأت بكونه خير شباب قريش، ثم ذكرت الباقي] .
[وقوله: «وأم شريك من الأنصار» أنكر هذا بعضهم وقال: إنما هي قريشة، وهي من بنى عامر بن لؤيّ، واسمها غزية، وقيل: غزيلة. وذهب آخرون إلى أنهما ثنتان: قريشة وأنصارية، فالقرشية العامرية هي: أم شريك غزية بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن حجر. ويقال: حجير بن عبد معيص بن عامر بن لؤيّ [وقيل: هي أم شريك بنت عوف بن جابر بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر ابن لؤيّ] وهي التي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، على خلاف في ذلك قد ذكرته في كتاب (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع) ، [عند ذكر أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، قال محققه: راجع (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: الجزء السادس.
وأما أم شريك الأنصارية فمن بنى النجار، ولم يذكرها ابن عبد البر، وإنما
روى الحاكم في (المستدرك) عن طريق محمد بن إسحاق: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا زهير بن العلاء، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة قال: وتزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم شريك الأنصارية من بنى النجار قال: «إني أحب أن أتزوج في الأنصار» ، ثم قال: «إني أكره غيرتهن» فلم يدخل بها.
[و
قوله: «انتقلي إلى ابن عمك: عبد اللَّه بن عمرو بن أم مكتوم» وهو رجل من بنى فهر- فهر قريش- وهو من البطن الّذي هي منه- ابن أم مكتوم
صفة لعبد اللَّه لا لعمرو، فإنه عبد اللَّه ابن أم مكتوم [وهي أمه فينسب تارة إلى أبيه عمرو، وتارة ينسب إلى أمه أم مكتوم] ، فينبغي أن يكتب في قولنا: ابن أم مكتوم بألف في «ابن» وفي قولها هذا إشكال، فإن ابن أم مكتوم من بنى عامر بن لؤيّ، وفاطمة بنت قيس من بنى محارب بن فهر، فكيف يكون ابن عمها، وأنها من البطن الّذي هو منه] ؟.
[وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن المراد بالبطن هاهنا: القبيلة، لا البطن الّذي هو دون القبيلة، والمراد ابن عمها مجازا، لكونه من قبيلتها. وفيه نظر] ! (هدى الساري) .
قال أبو الفوز محمد أمين البغدادي الشهير بالسويدي: اعلم أن العرب كلها ترجع إلى أصلين: عدنان، وقحطان، وكان الملك في الجاهلية لقحطان حتى نقله الإسلام إلى عدنان، ولكل واحد منهم فروع اتفقت العرب فيما نقل إلينا على أن جعلتها ست طبقات، وكذلك عدها أهل اللغة.(9/66)
__________
[ () ] الطبقة الاولى: الشعب بفتح الشين، وهو النسب الأبعد كعدنان مثلا، قال الجوهري:
وهو أبو القبائل الّذي ينسبون اليه وبجمع على شعوب. قال الماوردي في الأحكام السلطانية: وسمى شعبا لأن القبائل تتشعب منه، وذكر الزمخشريّ في كشافه نحوه.
الطبقة الثانية: القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر. قال الماوردي: وسميت قبيلة لتقابل الأنساب فيها، وتجمع القبيلة على قبائل وربما سميت القبائل جماجم أيضا كما يقتضيه كلام الجوهري، حيث قال: جماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطون.
الطبقة الثالثة: العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة وتجمع على عمارات وعمائر.
الطبقة الرابعة: البطن، وهي ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبنى مخزوم، ويجمع على بطون وأبطن.
الطبقة الخامسة: الفخذ. وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم، وبنى أمية، ويجمع على أفخاذ.
الطبقة السادسة: الفصيلة. بالصاد المهملة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبنى عبد المطلب هكذا رتبها الماوردي رحمه اللَّه في الأحكام السلطانية، وعلى نحو ذلك جرى الزمخشريّ في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ [الحجرات: 13] إلا أنه مثّل الشعب بخزيمة، وللقبيلة بكنانة، وللعمارة بقريش، وللبطن بقصي، وللفخذ بهاشم، وللفصيلة بالعباس.
وبالجملة، فالفخذ يجمع القبائل، والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل، وإنما يعلو بعضها على بعض بشرطين: قدم المولد، وكثرة الولد، وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده.
قال النووي في (تحرير التنبيه) : وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة.
قال الجوهري: وعشيرة الرجل رهطه الأدنون.
وحكى أبو عبيد، عن ابن الكلبي، عن أبيه: تقديم الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم الفخذ، فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة، والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ، ولم يذكر ما يخالفه (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب) : 13- 14.(9/67)
وأما حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قسّ بن ساعدة
[يقال: عاش قس بن ساعدة ستمائة سنة، وهو أول من أخبر بالبعث من أهل الجاهلية في غير علم، وأول من خطب بعصا، وقد ثبت قوم قسا وهم الأكثر، ونفاه آخرون، وقالوا: لم يخلق قس وقد ذكره الشعراء] ففي سنده نظر.
وقد خرجه البيهقيّ من حديث أبو عبيد اللَّه سعيد بن عبد الرحمن [بن] حسان القرشيّ المخزوميّ، وقد وثقه النسائىّ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبى حمزة الثماليّ، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللَّه بن عباس، رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] قال: قدم وفد أياد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألهم عن قس بن ساعدة الأيادي، فقالوا: هلك يا رسول اللَّه، فقال: لقد شهدته في الموسم بعكاظ، وهو على جمل له أحمر- أو على ناقة حمراء- وهو ينادى في الناس: اجتمعوا، واسمعوا، وعوا، واتعظوا، تنتفعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
أما بعد، فإن [في] السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، نجوم تمور، وبحار تفور ولا تخور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، ونهار منبوع.
أقسم قس قسما باللَّه، لا كذبا [ولا إثما] ليتبعن هذا الأمر سخطا، ولئن كان بعضه رضا، إن بعضه سخطا، وما هذا باللعب، وإن من وراء هذا للعجب.
أقسم قس قسما باللَّه، لا كذبا ولا إثما، إن للَّه دينا، هو أرضى له من دين نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثم أنشد قس بن ساعدة أبيات من الشعر لم أحفظها عنه فقام أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فقال: أنا حضرت ذلك المقام، وحفظت تلك المقالة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هي؟
فقال أبو بكر: قال قس بن ساعدة في آخر كلامه:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر(9/68)
ورأيت قومي نحوها ... تمضى الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أنى لا محالة ... حيث صار القوم صائر
ثم أقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم على وفد أياد فقال: هل وجد لقس بن ساعدة وصية؟
فقالوا: نعم، وجدوا له صحيفة تحت رأسه مكتوب فيها:
يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا بزهم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... فهم إذا أنبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودا لحال غير حالهم ... خلقا جديدا كما من قبل قد خلقوا
منهم عراة، ومنهم [في] ثيابهم ... منها الجديد، ومنها المنهج الخلق [ (1) ]
وقد روى من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومن حديث مجالد عن الشعبي، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ومن حديث على بن سليمان، عن سليمان ابن على بن عبد اللَّه بن عباس، عن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، [ومن حديث الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس] ، وروى عن الحسن البصري منقطعا، وروى من حديث سعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما بزيادات ألفاظ، ونقصان ألفاظ، وفيها ما هو مختصر، وفيها ما هو مطول.
قال البيهقي: وإذا روى الحديث من أوجه، وإن كان بعضها ضعيفا، دل على أن للحديث أصلا، واللَّه تبارك وتعالى أعلم [ (2) ] . قال [الحافظ] : إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم روى هذه الخطبة، وهي فضيلة لأياد.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 101، باب ذكر حديث قس بن ساعدة الأيادي، هو قس بن ساعدة ابن عمرو بن عدي بن مالك، من بنى أياد، أحد حكماء العرب، وهو من كبار خطبائهم في الجاهلية، ويقال: إنه أول عربي خطب متوكئا على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه: أما بعد، وكان يفد على قيصر الروم زائرا فيطعمه ويكرمه، وهو معدود في المعمرين، طالت حياته، وأدركه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل النبوة، ورآه في عكاظ، وسئل عنه بعد ذلك
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يحشر أمة وحده
[ (2) ] راجع هذه الأسانيد والألفاظ في المرجع السابق.(9/69)
وأما حديثه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أبى كبشة
فذكر الكلبي في كتاب (الرقائق) : حدثني أبى عن أبى صالح، عن ابن عباس- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: حدثني أبو كبشة: أنهم لما أرادوا دفن [بلال] بن حبشية- وكان سيدا معظما- حفروا له، فوقعوا له على باب مغلق، ففتحوه، فإذا سرير عليه رجل، وعليه ملك عدة، وعند رأسه كتاب: أنا أبو سمر، ذو النون، مأوى المساكين، ومستفاد الغارمين، أخذنى الموت غصبا، وقد أعيا الجابرة قبلي.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: كان ذو النون هذا، هو سيف [ذي النون] الحميري، وأبو كبشة هذا، يقال: أنه الحوت، زوج حليمة السعدية، ظئر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ]
. فصل في ذكر من حدث وروى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أصحابه رضى اللَّه تعالى عنهم بمكة والمدينة وغيرهما من البلدان التي غزا إليها وحلها بعرفة ومنى غير ذلك
اعلم أنه آمن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الجن والإنس خلائق حدثوا عنه، ورووا ما وعوه، وسمعوه، فسمع منه الجن القرآن وهو يقرأ بأصحابه بعكاظ وجاءوه فسألوه عن أشياء، ومكث معهم أيضا في ليلة شهدها عبد اللَّه بن مسعود، فأسلم منهم طائفة من جن نصيبين.
إسلام الجن، وإنذارهم قومهم
فقد ثبت بكتاب اللَّه تعالى، وحديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال اللَّه تعالى:
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ
__________
[ (1) ] وهذا الحديث، الآفة فيه، الكلبي، وهو متهم، وضعفه أكثر أهل العلم.(9/70)
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (1) ] اختلف أئمة التفسير في سبب صرف الجن إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قيل: وصرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب، وقيل: صرفوا إليه لينذرهم، وأمر عليه السّلام أن يقرأ عليهم القرآن، وإليه ذهب قتادة. وقيل:
مروا به وهو يقرأ القرآن بنخلة [ (2) ] ، لما عاد من الطائف [ (3) ] .
واختلف أيضا في المكان الّذي سمعوا فيه قراءة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قيل:
بالحجون [ (4) ] ، وهو قول ابن مسعود وقتادة، وقيل ببطن نخل [ (5) ] ، وهو قول ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
واختلف من أي بلدهم، فقيل: هم جن نصيبين- قرية باليمن- لا مدينة نصيبين التي بالجزيرة- قاله ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما وقيل: من أهل نينوى [ (6) ] ، قاله قتادة. وقيل: من جزيرة الموصل، قاله عكرمة، وقيل: من أهل حيران، قاله مجاهد، واختلف في عدتهم.
فقيل: كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزر بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة بن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
وقيل: كانوا تسعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.
وقيل: كانوا اثنى عشر، وهو مروى عن عكرمة، ويرد بقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ والنفر لا يطلق على الكثير، فإن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة.
__________
[ (1) ] الأحقاف 29- 32
[ (2) ] نخلة: اسم موضع
[ (3) ] الطائف: مسيرة يوم للطالع من مكة، ونصف يوم للهابط إلى مكة.
[ (4) ] الحجون: جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها.
[ (5) ] بطن نخل: قريبة من المدينة على طريق البصرة.
[ (6) ] نينوى: قرية يونس بن متى عليه السّلام بالموصل.(9/71)
وذكر السهيليّ في (التفسير) أنهم كانوا يهودا، لذلك قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى ولم يقولوا: «من بعد عيسى» ذكره ابن سلام، وكانوا سبعة، وقد ذكروا بأسمائهم في التفاسير والمسندات، وهم: شاصر، وآصر، ومنشى، وماشى، والأحقب، وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن دريد، ووجدت في خبر ذكره، أن منهم آخر يقال له: سرق، وفي خبر آخر: أن منهم عمرو بن [جابر] [ (1) ]] فَلَمَّا حَضَرُوهُ، أي حضروا استماعه، قالوا: أنصتوا، قال
__________
[ (1) ] مطموس بالأصل، واستدركناه من كتب السيرة.
قال الحافظ ابن كثير في (التفسير) : كانوا سبعة نفر: ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، وكانت أسماؤهم: حسي، وحسبي، ومنسي، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم. وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم بنو الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا، وأشرفهم نسبا، وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن ابن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه:
كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه من أصل نخلة وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر.
وفي رواية أنهم كانوا اثنى عشر ألفا فلعل هذا الاختلاف دليل تكرر وفادتهم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في صحيحه حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب حدثنا عمر وهو ابن محمد قال إن سالما حدثه عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: ما سمعت عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا إلا كما يظن، بينما عمر ابن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه جالس إذا مر به رجل جميل فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، عليّ بالرجل، فدعى له فقال له: ذلك فقال: ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم قال: فأنى أعزم عليك إلا ما أخبرتنى قال كنت كاهنكم في الجاهلية فما أعجب ما جاءتك به جنيتك قال بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها من بعد إنكاسها
ولحقوها بالقلاص وأحلاسها
قال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا اللَّه قال: فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح أمر نجيح برجل فصيح يقول لا إله إلا اللَّه فقمت فما نشبنا إن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري.(9/72)
بعضهم لبعض: اسكتوا كي نستمع إلى قراءته، فَلَمَّا قَضى، أي فرغ من التلاوة، وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، انصرفوا إليهم محذرين عذاب اللَّه إن لم يؤمنوا.
واختلف هل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم؟ أم جعلهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رسلا إلى قومهم؟ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى يعنى القرآن، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [ (1) ] .
قال عطاء: كان دينهم اليهودية، ولذلك قالوا: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [ (2) ] ، يعنون محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو دليل على أنه بعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، قال مقاتل: ولم يبعث اللَّه نبيا إلى الجن والإنس قبله.
قال ابن عبد البر: ولا يختلفون أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رسول إلى الإنس والجن، نذيرا، وبشيرا، هذا مما فضل به على الأنبياء، أنه بعث إلى الخلق كافة، الجن والإنس، وغيره لم يرسل إلا بلسان قومه، ودليل ذلك ما نطق به القرآن الكريم من دعائهم إلى الإيمان، بقوله في مواضع من كتابه: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [ (3) ] وقال ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما:
فاستجاب لهم من قومهم سبعين رجلا من الجن، ثم رجعوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوافوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم، ونهاهم.
__________
[ () ] وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بنفسه سمع الصارخ صرخ من العجل الّذي ذبح وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الّذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه واللَّه أعلم، (تفسير ابن كثير) : 4/ 180.
[ (1) ] الأحقاف: 30.
[ (2) ] الأحقاف: 30.
[ (3) ] الرحمن: 33.(9/73)
وقال أبو حنيفة [رحمه اللَّه] : ليس لمؤمن الجن ثواب إلا النجاة من النار، لقوله تعالى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [ (1) ] . وقال الحسن: ثوابهم أن يجاروا من النار، يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال مالك وابن أبى ليلى: إن كان عليهم العقاب في الإساءة، وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس. وقال جويبر عن الضحاك: الجن يدخلون الجنة، ويأكلون، ويشربون.
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [ (2) ] أي لا يعجز اللَّه في الأرض ولن يعجزه هربا، وليس له من دونه أولياء، أي أنصار يمنعونه من عذاب اللَّه أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أي الذين لا يجيبون الرسل.
وقال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً* وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً* وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً* وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً* وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً* وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً* وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً* وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً* وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً* وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[ (3) ] .
أي قل يا محمد لأمتك: أوحى إلى على لسان جبريل، أنه استمع إليك نفر من الجن، ولم يكن صلّى اللَّه عليه وسلّم عالما به قبل أن يوحى إليه.
__________
[ (1) ] الأحقاف: 31.
[ (2) ] الأحقاف: 32.
[ (3) ] الجن: 1- 15.(9/74)
قال ابن عباس وغيره: وظاهر القرآن يدل على أنه يراهم، [لقوله] اسْتَمِعْ، ولقوله: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ: وقال عكرمة:
السورة التي كان يقرؤها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ* كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى * إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى* أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى* أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ* فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ* كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [ (1) ] .
وقد خرج البخاري ومسلم، من حديث [أبى] عوانه، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: ما قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الجن ولا أراهم، انطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيئا حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السماء.
فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك [النفر] الذين توجهوا إلى نحو تهامة، إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا واللَّه الّذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، فأنزل اللَّه
__________
[ (1) ] العلق: 1- 19.(9/75)
عز وجل على نبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [ (1) ] وإنما أوحى إليه قول الجن [ (2) ] .
قال البيهقي: وهذا الّذي حكاه عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، إنما [هو] أول ما سمعت الجن قراءة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد اللَّه بن مسعود، ورأى آثارهم وآثار نيرانهم، وعبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حفظ القصتين جميعا فرواهما.
أما القصة الأولى: فذكر البيهقي من طريق أبى بكر بن أبى شيبة، حديث سفيان عن عاصم، عن زر، عن عبد اللَّه قال: [هبطوا] على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوا قالوا: أنصتوا، قالوا:
صه، وكانوا سبعة، أحدهم زوبعة، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ* يا قَوْمَنا أَجِيبُوا.
__________
[ (1) ] الجن: 1.
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 321، كتاب الأذان، باب (105) الجهر بقراءة صلاة الفجر، حديث رقم (773) .
وذكره أيضا في: 8/ 865، كتاب التفسير، باب (1) سورة قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ، حديث رقم (4921) .
وذكره في مسلم: 4/ 411، كتاب الصلاة، باب (33) في (السنن) ، حديث رقم (149) .
وذكره الترمذي: 5/ 3980، كتاب تفسير القرآن، باب (69) ومن سورة الجن، حديث رقم (3323) ، قال أبو عيسى الترمذي: وبهذا الإسناد عن ابن عباس، قال قول الجن لقومهم:
لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: 19] قال: لما رأوه يصلى وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده، قال: فعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم:
لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.(9/76)
داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (1) ] .
وخرجه الحاكم وصححه، وذكر ما خرجه البخاري ومسلم، من حديث أبى قدامة، عبيد اللَّه بن سعيد قال: حدثنا أبو أسامة عن مسعر، عن معن، قال: سمعت أبى قال: سألت مسروقا: من آذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك- يعنى عبد اللَّه- أنه آذنت به الشجرة، ذكره البخاري في كتاب المبعث، وذكره مسلم في كتاب الصلاة، ولفظه: حدثني أبوك- يعنى ابن مسعود- أنه آذنته بهم شجرة [ (2) ] . قال البيهقي:
وأما القصة الأخرى: فذكر حديث مسلم من طريق عامر الشعبي، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن؟
فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير [ (3) ] أو اغتيل [ (4) ] ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا، إذ هو جاء من قبل حراء، [قال] : فقلنا: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال:
أتانى داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم اللَّه عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلا تستنجوا بهما، فإنّهما طعام إخوانكم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 228، باب ذكر إسلام الجن وما ظهر في ذلك من آيات المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، والآيات: 29- 32، من سورة الأحقاف.
[ (2) ] سبق تخريج أحاديث البخاري ومسلم والترمذي.
[ (3) ] استطير: طارت به الجن.
[ (4) ] اغتيل: قتل سرا.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 228- 229، واللفظ لمسلم كما قال.(9/77)
وفي لفظ له قال: قال الشعبي: وسألوه الزاد وكان من جن الجزيرة- إلى آخر الحديث، من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد اللَّه. وقد خرجه الترمذي من طريق الشعبي.
قال البيهقي: والأحاديث الصحاح، تدل على أن عبد اللَّه بن مسعود لم يكن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن، وإنما كان معه حين انطلق به وبغيره، يريهم آثار الجن وآثار نيرانهم.
وقد خرج مسلم من حديث أبى معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ووددت أنى كنت معه.
ذكره في كتاب الصلاة [ (1) ] .
قال البيهقي: وقد روى من أوجه أخر، أنه كان معه ليلتئذ، فذكر من طريق الليث بن سعد قال: حدثني يونس بن زيد، عن ابن شهاب قال:
أخبرنى أبو عثمان بن سنة الخزاعي- وكان رجلا من أهل الشام- أنه سمع عبد اللَّه ابن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل، فلم يحضر منهم أحد غيري، فانطلقنا، حتى إذا [كنا] بأعلى مكة، خط لي برجله خطا، ثم أمرنى أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن، فغشيته، أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى بقي منهم رهط، وفرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع الفجر، فانطلق فبرز، ثم أتانى فقال: ما فعل الرهط؟
فقلت: هم أولئك يا رسول اللَّه
فأخذ عظما وروثا، فأعطاهم إياه زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو بروث [ (2) ] .
قال البيهقي: يحتمل قوله في الحديث الصحيح، ما صحبه منا أحد، أراد به في حال ذهابه لقراءة القرآن عليهم، إلا أنه ما روى في هذا الحديث، من إعلام أصحابه بخروجه إليهم، يخالف ما روى في الحديث الصحيح من
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 415، كتاب الصلاة، باب (33) الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، حديث رقم (125) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 230.(9/78)
فقدانهم إياه، حتى قيل: اغتيل، استطير، إلا أن يكون المراد بمن فقده غير، الّذي علم بخروجه [ (1) ] .
وذكر البيهقي أيضا: من طريق موسى بن على بن رباح، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: استتبعني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن نفرا من الجن خمسة عشر، بنى إخوة، وبنى عم، يأتوننى الليلة، فأقرأ عليهم القرآن، فانطلقت معه إلى المكان الّذي أراد، فخط خطا وأجلسنى فيه، وقال لي: لا تخرج من هذا، فبت فيه، حتى أتانى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع السحر، في يده عظم حائل، وروثة، وحممة، فقال لي: إذا ذهبت إلى الخلاء فلا [تستنج] بشيء من هؤلاء،
قال: فلما أصبحت قلت: لأعلمن حيث كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال:
فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا [ (1) ] .
وذكر أيضا من طريق يزيد بن هارون، قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أبى عثمان النهدي، أن ابن مسعود أبصر زطا في بعض الطريق، فقال:
ما هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء الزط، قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن، وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا [ (1) ] .
ومن طريق أبى الجوزاء، عن عبد اللَّه [بن مسعود] قال: انطلقت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن حتى إذا أتى الحجون، فخط لي خطا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له: وردان: إني أنا أرحلهم عنك، فقال:
إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ [ (2) ] .
ومن طريق المسعودي، عن قتادة، عن أبى المليح الهذلي، أنه كتب إلى أبى عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود: أين قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الجن؟
فكتب إليه أنه قرأ عليهم بشعب يقال له: الحجون [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث يحيى بن سعيد، قال: أخبرنى جدي عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: أنه كان يحمل مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 229- 230 مختصرا.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 231، 232، باب إسلام الجن وما ظهر في ذلك من آيات المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، والآية رقم: 22، من سورة الجن.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 232- 233.(9/79)
إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني حجارا استنفض بها، ولا تأتنى بعظم ولا بروثة.
فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت معه فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتانى وفد جن نصبين- ونعم الجن- فسألوني الزاد، فدعوت اللَّه لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلى وجدوا عليها طعما. [حديث رقم:
(3860) ، باب ذكر الجن من كتاب مناقب الأنصار] .
وخرج الترمذي من حديث زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [على] أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: قرأتها على الجن ليلة الجن، وكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا بشيء من [نعمك] ربنا نكذب، فلك الحمد، قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد.
قال ابن حنبل: كان زهير بن محمد هو الّذي وقع بالشام ليس هو الّذي يروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعنى لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة [ (1) ] .
قلت: وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة، ففي بعضها لما قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الرحمن على الناس سكتوا، فلم يقولوا شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: للجن كانوا أحسن جوابا منكم، لما قرأت عليهم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب [ (2) ] .
وفي بعضها قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتا، للجن كانوا أحسن منكم ردا، لما قرأت عليهم هذه
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 372، 373، كتاب تفسير القرآن، باب (55) ، حديث رقم (3291) .
[ (2) ] (تفسير ابن كثير) : 4/ 289، مقدمة تفسير سورة الرحمن.(9/80)
الآية من مرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا أن قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب [فلك الحمد] .
[وخرج الحاكم من حديث مسلم [ (1) ] بن قتيبة، قال: حدثني [عمرو بن سنان، حدثني] [ (2) ] سلام أبو عيسى، حدثنا صفوان بن المعطل السلمي قال:
خرجنا حجاجا فلما كنا بالعرج، إذ نحن بحية تضطرب، فلم تلبث أن ماتت، فأخرج رجل منا خرقة من عيبة [ (3) ] له، فلفها فيها وغيبها في الأرض فدفنها، ثم قدمنا مكة فأتينا إلى المسجد الحرام، إذ وقف علينا شخص فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟ فقلنا: ما نعرف عمرو بن جابر، قال: أيكم صاحب الجان؟ قالوا: هذا، قال: [جزاك اللَّه خيرا] أما أنه [قد كان آخر التسعة موتا، الذين أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستمعون القرآن] .
وأما الصحابة رضوان اللَّه عليهم
قال ابن سيده: صحبه صحبة، وصاحبه عاشره، والصاحب المعاشر، قال: والجمع أصحاب، وأصاحيب، وصحبان، وصحاب، وصحابة، وأكثر الناس على الكسر دون الهاء، وعلى الفتح معها، قال: فأما الصحبة والصحب، فاسمان للجمع، قالوا: وقال في النساء: هن صواحب يوسف، وصواحبات يوسف [ (4) ] . انتهى. وفي (النهاية) لابن الأثير: الصحابة بالفتح، جمع صاحب ولم يجمع فاعلة على فعال إلا هنا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (المستدرك) : «سالم بن قتيبة» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] في (المستدرك) : «عيبته له»
[ (4) ] (لسان العرب) : 1/ 520.
[ (5) ] قال الإمام العلامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري: صحبه يصحبه صحبة بالضم وصحابة، بالفتح، وصاحبه: عاشره، والصحب: جمع الصاحب مثل راكب وركب. والأصحاب: جماعة الصحب، مثل فرخ وأفراخ، والصاحب المعاشر، لا يتعدى تعدى الفعل، أعنى أنك لا تقول: زيد صاحب عمرا، لأنهم إنما استعملوه استعمال الأسماء. -(9/81)
واعلم ان الصاحب اسم شريف، والصحبة خطة رفيعة، سمى اللَّه تعالى بها نفسه على لسان نبيه فقال: اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر [ (1) ] .
وسمى اللَّه سبحانه بها رسوله، فقال تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [ (2) ] [ (3) ] يعنى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل الأصحاب، وخير من صحب، وأصحابه خير أمة أخرجت للناس: وأصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الجملة على قسمين: قسم يقال لهم المهاجرون، وقسم يقال لهم: الأنصار، وقسمان: السابقون الأولون، والتابعون لهم بإحسان.
فالمهاجرون أقسام: الذين أسلموا قبل دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دار الأرقم وفي دار الأرقم، والذين أسلموا بعد ذلك، والذين عذبوا في اللَّه، والذين هاجروا إلى الحبشة.
ومن جهة أخرى، الصحابة قسمان: من أسلم قبل الفتح، ومن أسلم بعد الفتح، ومن شهد بدرا، وبيعة الرضوان، ومن لم يشهدهما، ثم الذين أسلموا بعد الفتح، منهم الطلقاء، ومنهم المؤلفة [قلوبهم] ، ومنهم الوفود.
وقد قال الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعيّ- رحمه اللَّه-:
توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون ستون ألفا، ثلاثون ألف بالمدينة، وثلاثون ألفا في غيرها.
وقال الحافظ أبو زرعة، عبيد اللَّه بن عبد الكريم الرازيّ- رحمه اللَّه-: توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد رآه وسمع منه زيادة عن مائة ألف.
وقال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه الحاكم النيسابورىّ، روى عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعة آلاف صحابى.
__________
[ () ] وقال الجوهري: الصحابة بالفتح الأصحاب، وهو في الأصل مصدر، وجمع الأصحاب الأصاحيب، ويقال صاحب وأصحاب، كما يقال: شاهد وأشهاد، وناصر وأنصار (لسان العرب) :
1/ 519، 520 مختصرا.
[ (1) ] (النهاية) : 3/ 12.
[ (2) ] سبق تخريجه في أذكار السفر.
[ (3) ] النجم: 2.(9/82)
قال كاتبه [عفى اللَّه عنه] : قد أفرد النقلة أسماء الصحابة رضى اللَّه عنهم، في مصنفات على حدة، كأبى عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري، في أول (تاريخه الكبير) ، وأبى بكر أحمد بن أبى خيثمة زهير بن حرب، والحافظ أبى عبد اللَّه محمد ابن إسحاق بن يسار، والحافظ أبى نعيم أحمد الأصفهاني، والحافظ أبى عمر يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر، والعلامة عز الدين أبى الحسن على بن محمد بن الأثير، وغيرهم، وقد أفرد الفقيه الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم أسماءهم في جزء، جمعه من كتاب الإمام بقي بن مخلد، وذكر ما روى كل واحد منهم من الأحاديث [هو كتاب (أسماء الصحابة الرواة ومروياتهم) ، وقابله مع كتاب (تلقيح فهوم أهل الأثر) لابن الجوزي] [ (1) ] .
[قال ابن سعد [ (2) ] : قال محمد بن عمر الأسلمي وغيره: إنما قلّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، لأنهما [أفتيا] وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانوا أئمة يقتدى بهم، ويحفظ عنهم، ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها] .
[وكان الأكابر من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أقل حديثا من غيرهم، مثل أبى بكر، وعثمان، وطلحة، والزبير وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبى بن كعب، وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، وأسيد بن حضير، ومعاذ بن جبل، ونظرائهم، [لم] يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مثل جابر بن عبد اللَّه، وأبى سعيد الخدريّ وأبى هريرة، وعبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 2/ 334 وما بعدها، ذكر من كان يفتى بالمدينة ويقتدى به من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبعد ذلك وإلى من انتهى علمهم 2/ 350 وما بعدها، باب أهل العلم والفتوى من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما بين الحاصرتين سقط في (ج) ، واستدركناه من (خ) .(9/83)
ابن عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن عباس، ورافع بن خديج وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، ونظرائهم كل [واحد] من هؤلاء، كان يعد من فقهاء أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانوا يلزمون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم، مثل: عقبة بن عامر الجهنيّ، وزيد بن خالد الجهنيّ، وعمران بن الحصين، والنعمان بن بشير، ومعاوية بن أبى سفيان، وسهل بن سعيد الساعدي، وعبد اللَّه بن يزيد الخطميّ، ومسلمة بن مخلد الزرقيّ، وربيعة بن كعب الأسدي، وهند وأسماء ابني حارثة الأسلميين، وكانا يخدمان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويلزمانه] [ (1) ] .
[فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم، من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنهم بقوا وطالت أعمارهم، فاحتاج الناس إليهم، ورضى كثير من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبله وبعده بعلمهم، لم يؤثر عنه شيء، ولم يحتج إليه، لكثرة أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] .
[وقد شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تبوكا- وهي آخر غزوة غزاها- من المسلمين ثلاثون ألف رجل، وذلك سوى من قد أسلم وأقام من بلاده وموضعه لم يغزو، فكانوا عندنا أكثر مما غزا معه تبوكا، قال: فمنهم من حفظ عنه ما حدث به عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن أفتى برأيه، ومنهم من لم يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا، ولعله أكثر له صحبة ومجالسة وسماعا، من الّذي حدث عنه] .
[ولكنا حملنا الأمر في ذلكم منهم على التوقي في الحديث، أو على أنه لم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعلى الاشتغال بالعبادة، والأسفار في الجهاد في سبيل اللَّه حتى مضوا، ولم يحفظ عنهم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا، وليس كلهم كان يلزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمنهم من أقام وقومه، وشهد معه المشاهد كلها، وإن منهم من قدم عليه فرآه، ثم انصرف إلى بلاد قومه، ومنهم كان يقدم عليه الفينة بعد الفينة من منزله بالحجاز وغير ذلك] .
[وخرج ابن عساكر من طريق ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، [عن الزهري] عن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
__________
[ (1) ] انظر التعليق السابق.(9/84)
احفظوني في أصحابى، فمن حفظنى في أصحابى رافقني على حوضي، ومن لم يحفظني فيهم لم يرد على حوضي، ولم يرنى إلا من بعيد] .
[وعن سفيان الثوري في قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [ (1) ] قال: هم أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] .
أما المهاجرون
قال ابن سيده: الهجرة، الخروج من أرض الى أرض. وهاجر، خرج من أرض إلى أخرى. وهاجر أرضه وقومه، باعدهم. أما المهاجرون الذين ذهبوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مشتق منه. وقد أثنى اللَّه [تعالى] في القرآن على المهاجرين:
فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (3) ] .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ (4) ] .
وقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ* يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 11/ 539، حديث رقم (32526) ، وعزاه إلى ابن عساكر وقال وورد عن ابن عمر وسنده حسن.
[ (2) ] (تفسير ابن كثير) : 3/ 381.
[ (3) ] البقرة: 218.
[ (4) ] الأنفال: 74.
[ (5) ] التوبة: 20- 22.(9/85)
وقال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ (1) ] .
وذكر سنيد قال: حدثنا حجاج عن شعبة، عن عمر بن مرثد، عن أبى البختري، عن أبى سعيد الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (2) ] قرأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ختمها، وقال الناس خير، وقال: وأنا وأصحابى خير، وقال: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية،
فقال له مروان بن الحكم: كذبت، وعنده زيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وهما قاعدان معه على السرير- فقال أبو سعيد: لو [شاء هذان] لحدثاك ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا:
صدق [ (3) ]
وخرج قاسم بن أصبغ، من حديث عبد الوارث قال: حدثنا بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ألا إنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه [ (4) ] .
ولأحمد بن حنبل من حديث سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] ، في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: [هم الذين هاجروا مع محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة قال أبو نعيم: مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] .
__________
[ (1) ] الحشر: 8.
[ (2) ] النصر: 1.
[ (3) ]
(تفسير ابن كثير) : 4/ 601 وعزاه للمسند وقال ابن كثير: تفرد به أحمد، الّذي أنكره مروان على أبى سعيد ليس بمنكر فتقدم من رواية ابن عباس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال يوم الفتح: لا هجرة ولكن جهاد ونية ولكن إذا استنفرتم فانفروا. أخرجه البخاري ومسلم.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 5/ 623، حديث رقم (19525) ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 1/ 450، حديث رقم (2459) وما بين الحاصرتين زيادة من (المسند) .(9/86)
ذكر هجرة الذين هاجروا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة
قال ابن عبد البر: وأكثر الرواة عن سماك يقولون: أنهم الذين هاجروا من مكة الى المدينة، والمعنى واحد، لأنهم هاجروا بأمره، وإن لم يكونوا هاجروا معه في سفر واحد، وإنما أشار عليهم ابن عباس بالذكر، لأنهم الذين قاتلوا من خالفهم على الدين حتى وصلوا إليه، ولذلك قال أبو هريرة، ومجاهد والحسن، وعكرمة، خير الناس الذين يقاتلونهم حتى يدخلوهم في الدين طوعا وكرها، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن المهاجرين الأولين والأنصار في ذلك سواء.
وذكر محمد بن إسحاق السراج في (تاريخه) قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن عبيد، وأبو أسامة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن عامر الشعبي قال: المهاجرون الأولون، هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
قال: وحدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا أبى، عن أبى هلال عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب لم سموا المهاجرين الأولين؟ قال: من صلّى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلتين جميعا، فهو من المهاجرين الأولين [ (1) ] .
قال [أبو] عمر: قول الشعبي وسعيد بن المسيب يعطى أن معنى قولهم: المهاجرين الأولين كمعنى قول اللَّه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [ (2) ] لأنهم صلوا القبلتين جميعا، وبايعوا بيعة الرضوان.
وخرج قاسم بن أصبغ، من حديث أبى حازم: عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: خير الناس الذين يجيئون بهم في السلاسل يدخلون في الإسلام.
وعن مجاهد أنه قال: كانوا خير الناس على الشرط الّذي ذكره اللَّه تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ (3) ] .
وجاء عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه قال:
من سره أن يكون من تلك الأمم، فليؤد شرط اللَّه فيها.
__________
[ (1) ] (تفسير ابن كثير) : 2/ 398.
[ (2) ] التوبة: 100.
[ (3) ] آل عمران: 109.(9/87)
وقال هيثم: حدثنا منصور عن الحسن، قال فرق بين المهاجرين الأولين وسائر المهاجرين، فتح مكة.
وأما السابقون الأولون
فقد أثنى اللَّه [تعالى] عليهم بقوله [تعالى] : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ (1) ] .
__________
[ (1) ] التوبة: 100، قال الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) : السابقون الأولون هم: خديجة بنت خويلد، على بن أبى طالب، أبو بكر الصديق، زيد بن حارثة النبوي، ثم عثمان، والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد اللَّه، وعبد الرحمن بن عوف، ثم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبى الأرقم بن أسد بن عبد اللَّه بن عمر، المخزوميان، وعثمان بن مظعون الجمحيّ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب المطلبي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأسماء بنت الصديق، وخباب بن الأرت الخزاعي، حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقاص، أخو سعد، وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي، من حلفاء بنى زهرة، ومسعود بن ربيعة القارئ من البدريين، وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامرىّ، وعياش بن أبى ربيعة بن المغيرة المخزوميّ، وامرأته أسماء بنت سلامة التميمة، وخنيس بن حذافة السهمىّ، وعامر بن ربيعة العنزىّ، حليف آل الخطاب، وعبد اللَّه بن جحش ابن رئاب الأسديّ، حليف بنى أمية، وجعفر بن أبى طالب الهاشميّ، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث الجمحيّ، وامرأته فاطمة بنت المجلل العامرية، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهة بنت يسار، وأخوهما معمر ابن الحارث، والسائب ولد عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهرىّ، وامرأته رملة بنت أبى عوف السهمية، والنحام نعيم بن عبد اللَّه العدوىّ، وعامر بن فهيرة، مولى الصديق، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وامرأته أميمة بنت خلف الخزاعية، وحاطب بن عمرو العامرىّ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة العبشمىّ، وواقد بن عبد اللَّه بن عبد مناف التميميّ اليربوعىّ، حليف بنى عدىّ، وخالد، وعامر، وعاقل، وإياس، بنو البكير بن عبد يا ليل الليثىّ، حلفاء بنى عدىّ، وعمار بن ياسر بن عامر العنسيّ بنون، حليف بنى مخزوم، وصهيب بن سنان بن مالك النمرىّ، الرومىّ(9/88)
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه: حدثنا هيثم، [قال] : حدثنا أشعب [قال] : أخبرنا إسرائيل عن ابن سيرين، في قوله عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ قال: هم الذين صلوا القبلتين، وهو قول محمد بن الحنفية، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وحدثنا هيثم عن إسماعيل ومطرف، عن الشعبي، قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
وقال أبو الزبير: عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: جاء عبد لحاطب بن أبى بلتعه، يشتكي سيده، فقال: [يا] رسول اللَّه- ليدخلن حاطب النار! فقال له: كذبت، لا يدخلها أحد شهد بدرا والحديبيّة [ (1) ] ، وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ (2) ] ، ومن رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه لم يسخط عليه أبدا.
وعن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: كنا بالحديبية أربعة عشر مائة، فبايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة [فبايعناه] ، غير الجد ابن قيس اختبأ تحت بطن [بعيره] [ (3) ] .
وخرج الحارث بن أبى أسامة، من حديث الليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة.
__________
[ () ] المنشأ وولاؤه لعبد اللَّه بن جدعان، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاريّ، وأبو نجيح عمرو بن عبسة السلمىّ البجليّ، لكنهما رجعا إلى بلادهما.
فهؤلاء الخمسون من السابقين الأولين. وبعدهم أسلم: أسد اللَّه حمزة بن عبد المطلب، والفاروق عمر بن الخطاب، عز الدين، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
[ (1) ] المستدرك: 3/ 340، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (5308) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
[ (2) ] الفتح: 18.
[ (3) ] (تفسير التحرير والتنوير) : 26/ 174.(9/89)
وخرج الإمام أحمد من حديث سفيان، عن عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما يقول: كنا يوم الحديبيّة ألف و [أربعمائة] ، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنتم اليوم خير أهل الأرض [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث شعبة، عن الأعمش، قال سمعت ذكوان يحدث عن أبى سعيد الخدريّ، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا تسبوا أصحابى، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه [ (2) ] . وخرجه أبو داود أيضا [ (3) ] .
وقال محمد بن كعب القرظي، وعطاء بن يسار، في قوله [تعالى] : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، قالا: أهل بدر.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 323، حديث رقم (14409) بسياقة أتم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 562، كتاب المغازي، باب (36) من باب غزوة الحديبيّة، حديث رقم (4145) ، (مسند أحمد) : 4/ 245، حديث رقم (13901) ، (دلائل البيهقي) : 5/ 235 وفي رواية مسلم: لا تسبوا أحدا من أصحابى، وأخرجه البخاري أيضا في فضائل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب تحريم سب الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
[ (3) ] أخرجه أبو داود في (السنن) ، باب النهى عن سب أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4658) ، وأخرجه الترمذي في المناقب، باب فيمن سب أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3860) .
والمد: ربع الصاع، والنصيف: نصف المد، والتقدير، ما بلغ هذا القدر اليسير من فضلهم ولا نصفه. (جامع الأصول) : 8/ 553.(9/90)
وأما الذين أسلموا إلى أن خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من دار الأرقم بن أبى الأرقم بن عبد مناف بن أسد بن عبد اللَّه ابن عمر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ [ (1) ]
فذكر سعيد بن أبى مريم قال: [حدثني] عطاء بن خالد قال:
حدثني عبد اللَّه بن عثمان بن الأرقم، عن جده الأرقم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكان بدريا، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في داره عند الصفا، حتى تكاملوا أربعين رجلا مسلمين، وكان آخرهم إسلاما عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فلما كانوا أربعين رجلا خرجوا.
وقال سيف بن سهل بن يوسف عن أبيه قال: قال عثمان بن مظعون [ (2) ] : أول وصية أوصانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مقتل الحارث بن أبى هالة، ونحن أربعون ليس بمكة أحد على مثل ما نحن عليه، فقال: أوصيكم بتقوى اللَّه، فإن تقوى اللَّه خير ما عمل به الناس، وخير عاقبة، وبتقوى اللَّه أصيب خير منازل الدنيا والآخرة، والتقوى رأس كل حكم، وجماع كل أمر، وباب كل خير، وفي تقوى اللَّه عصمة من كل سوء، ونجاة من كل شبهة، لا ترضون إلا بعمل، ولا تسخطوا إلا [بعلم، فإن الرضا والسخط يدعوان]
__________
[ (1) ] قال ابن السكن: أمه تماضر بنت حذيم السهمية، ويقال: بنت عبد الحارث الخزاعية، كان من السابقين الأوليين، قيل: أسلم بعد عشرة، وقال البخاري: له صحبة، وذكره ابن إسحاق وموسى ابن عقبة فيمن شهد بدرا.
وكانت داره على الصفا، وهي الدار التي كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجلس فيها قبل الإسلام، وكان قد حبسها، لكن أجناده بعد ذلك باعوها لأبى جعفر المنصور. (الإصابة) : 1/ 43- 44 مختصرا.
[ (2) ] هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحيّ، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا وهاجر إلى الحبشة هو وابنه السائب، الهجرة الأولى في جماعة، فلما بلغهم أن قريشا أسلمت رجعوا.
وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة. (الإصابة) : 4/ 461- 462- ترجمة رقم (5457) مختصرا.(9/91)
إلى العمل، وإن العمل [بالعلم] ليس كالعمل بالجهل، وقولوا آمنا باللَّه ثم استقيموا، فإن اللَّه [تعالى] إذا أراد أمرا أصابه، وإذا كره أمرا [أخره] ، ولا تستعجلوا الأقدار فيصرعكم البلاء، واصبروا يتوكل اللَّه تعالى بحفظكم، ويخلفني فيكم.
وقال الزبير بن بكار: ودار الخيزران، هي دار الأرقم بن عبد مناف [بن أسد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ] .
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: وكانت خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أول من آمن باللَّه ورسوله، وصدق بما جاء به.
قال: ثم إن جبريل عليه السّلام، أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين افترضت عليه الصلاة، فهمز له بعقبه من ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء، فتوضأ جبريل، ومحمد، عليهما السّلام، ثم صلّى ركعتين، وسجد أربع، سجدات.
ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد أقر اللَّه عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من اللَّه، فأخذ بيد خديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، حتى أتى بها العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين، وأربع سجدات، هو وخديجة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا.
قال: ثم إن على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما [يصليان] فقال: ما هذا؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دين اللَّه الّذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى اللَّه وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وكفر باللات والعزى، فقال على: هذا أمر لم أسمعه قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب، وكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره، قال له: يا على، [إذا] لم تسلم فأكتم، فمكث على تلك الليلة، ثم إن اللَّه تعالى أودع في قلبه الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاءه فقال له: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له،(9/92)
وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد ففعل عليّ،
وأسلم على خوف من أبى طالب وكتم إسلامه [ (1) ] .
وأسلم زيد بن حارثة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (2) ] فمكثا قريبا من شهر يختلف عليّ إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان مما أنعم اللَّه على عليّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه كان في حجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الإسلام.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن أبى الأشعث الكندي، حدثني إسماعيل بن إياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف، أنه قال: كنت امرأ تاجرا، فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس [بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه] امرأ تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه، فبينما نحن [كذلك] إذ خرج رجل من خباء يصلى، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلى، وخرج غلام فقام يصلى معه، [فقلت: يا عباس]-! ما هذا الدين؟
إن هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال: محمد بن عبد اللَّه يزعم أن اللَّه أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به وهذا الغلام ابن عمه، عليّ بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه آمن به، قال: عفيف: فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت أكون معه ثانيا.
وخرج الإمام أحمد في (المسند) ، من حديث حجاج بن دينار، عن محمد بن ذكوان، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللَّه، من معك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد
الحديث [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 83- 85 مختصرا.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 2/ 87.
[ (3) ] (مسند أحمد) 5/ 521، 522، حديث رقم (18940) ، وفيه: «حر وعبد: أبو بكر وبلال» وحديث رقم (18941) وفيه: أن تكون حر وعبد يعنى أبا بكر وبلالا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما.(9/93)
و [في] لفظ الحاكم [ (1) ] ، من حديث ابن وهب، أخبرنى معاوية بن صالح، [قال:] حدثنا أبو يحيى [وضمرة] بن حبيب، وأبو طلحة، عن أبى أمامه الباهلي قال: حدثني عمرو بن عبسة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو نازل بعكاظ فقلت: يا رسول اللَّه! من اتبعك على هذا الأمر؟ [قال] اتبعنى عليه رجلان: حر وعبد، أبو بكر وبلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما،
قال: فأسلمت عند ذلك [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد، من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا؟ فقال: بلى، إني رسول اللَّه ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى اللَّه بالحق، فو اللَّه [إني] للحق أدعوك يا أبا بكر، إلى اللَّه وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته،
فقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وآمن بحق الإسلام، ورجع وهو مؤمن مصدق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن الحصين التميمي، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت [فيه] عنده كبوة [ (3) ] ، ونظرة [وتردد] ، إلا ما كان من أبى بكر، ما عكم عنه حين ذكرته [له] ، وما تردد فيه [ (4) ] .
__________
[ (1) ]
(المستدرك) : 1/ 453، كتاب صلاة التطوع، حديث رقم (1162) ، وفيه: «فقلت يا رسول اللَّه هل من دعوة أقرب من أخرى، أو ساعة تبقى أو ينبغي ذكرها؟ قال: «نعم»
إن أقرب ما يكون الرب من العبد جوف الليل الآخر فان استطعت ممن يذكر اللَّه في هذه الليلة فكن، وقال في آخره:
هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 714، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر عمرو بن عبسة السلمي- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه- حديث رقم (6582) ، حيث ذكر له ترجمة وافية، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
[ (3) ] الكبوة: التأخر وعدم الإجابة.
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 91، ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، عكم: أي تردد.(9/94)
وقال إسرائيل عن أبى إسحاق، عن أبى ميسرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا برز، سمع من يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوت فانطلق هاربا، فأسر ذلك إلى أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكان نديما له في الجاهلية.
قال يونس بن بكير، عن إسحاق: كان أول من تبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خديجة بنت خويلد زوجته، ثم كان أول ذكر آمن به على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو يومئذ ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فلما أسلم أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أظهر إسلامه، و [دعا] إلى اللَّه ورسوله، وكان أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه رجلا مانعا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش [لقريش] ، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا، ذا خلق ومعروف، وكان قومه يأتونه ويألفونه، لغير واحد من الأمر، لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل [يدعو] إلى الإسلام، ممن يثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني:
الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف.
فانطلقوا حتى أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومعهم أبو بكر، فعرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق الإسلام، وبما [وعدهم] اللَّه من الكرامة، فآمنوا، وأصبحوا مقرين بحق الإسلام، وكانوا هؤلاء الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، [دخلوا] وصدقوا رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، وآمنوا بما جاء من عند اللَّه تبارك و [تعالى] .
وخرج البخاري من حديث وبرة [بن عبد الرحمن] ، عن همام قال:
سمعت عمارا يقول: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما معه إلا خمسة أعبد،(9/95)
وامرأتان، وأبو بكر [ (1) ] . [وذكر ابن أبى شيبة أن عمار بن ياسر أول من بنى مسجدا صلّى فيه] [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث شداد بن عمار، ويحيى بن أبى كثير، عن أبى أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخفى، فقلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قلت: وما رسول اللَّه؟ قال: رسول اللَّه، قلت: آللَّه أرسلك؟ قال: نعم، قلت: بم أرسلك؟ قال بأن تعبد اللَّه، وتكسر الأوثان، وتوصل الأرحام، قال: قلت:
نعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا؟ قال: حر وعبد، - يعنى أبا بكر وبلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: وكان عمرو يقول: لقد رأيتني أنا وربع أو رابع، قال: فأسلمت، قلت، فأتبعك يا رسول اللَّه؟ قال: لا، ولكن ألحق بقومك، فإذا أخبرت أنى قد خرجت فاتبعنى [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث أبى أسامه [قال] : حدثنا هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت، سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الّذي أسلمت فيه، ولكن مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) 7/ 21، كتاب فضائل صحابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (5) ، في قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لو كنت متخذا خليلا حديث رقم (3757) ، (3758) . وأخرجه أيضا في كتاب مناقب الأنصار، باب (30) إسلام أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3857) .
[ (2) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 7/ 251، حديث رقم (35772) ولفظه: كان أول من أفشى القرآن من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن مسعود، وأول من بنى مسجدا صلّى فيه عمار بن ياسر، وأول من أذن بلال، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه سعد بن مالك، وأول من قتل بين المسلمين مهجع، وأول من عدا به فرسه في سبيل اللَّه المقداد، وأول من أدوا الصدقة من قبل أنفسهم بنو عذرة، وأول حي التقوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جهينة.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 362- 366 كتاب صلاة المسافرين، باب (52) ، إسلام عمرو بن عبسة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (832) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 104، كتاب فضائل أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب رقم (15) ، في مناقب سعد بن أبى وقاص، حديث رقم (3727) ، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب (31) ، إسلام سعد ابن أبى وقاص رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3858) .(9/96)
وقال يحيى بن أبى بكير: حدثنا زائدة عن عاصم، عن زر، عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم [ (1) ] .
[وللبخاريّ] من حديث سفيان، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس:
سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، في مسجد الكوفة، يقول: واللَّه لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام، قبل أن يسلم عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (2) ] .
وخرج أبو داود من حديث عاصم عن زر، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه [قال] : كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبى معيط بمكة، فأتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وأبو بكر] وقد فرا من المشركين، فقالا: يا غلام! عندك لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا:
هل عندك من جذعه لم ينز عليها الفحل [بعد] ؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضرع، فدعا [بعد] فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقاني، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص فلما كان بعد، أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت، علمني من هذا القول الطيب- يعنى القرآن
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 677، حديث رقم (3822) من مسند عبد اللَّه بن مسعود، ولفظه: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب وبلال، والمقداد، فأما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمنعه اللَّه بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر فمنعه اللَّه بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في اللَّه، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 223، كتاب مناقب الأنصار، باب (34) إسلام سعيد بن زيد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3862) ، باب (35) إسلام عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3867) وكتاب الإكراه، باب (1) من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، حديث رقم (6942) .(9/97)
- فقال إنك غلام معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة، ما ينازعني فيها أحد [ (1) ] .
[وفي مصنف [ابن] أبى شيبة، عن القاسم بن عبد الرحمن قال:
كان أول من أفشى القرآن بمكة من فىّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ابن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (2) ] .
وقال الواقدي: حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير، عن محمد ابن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان قال: كان أول إسلام خالد بن سعيد بن العاصي قديما، وكان أول إخوته أسلم، وكان [بدؤ] إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف به على شفير النار، كأن أباه يدفعه منها ويرى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم آخذ بحقويه لا يقع، ففزع من نومه.
فقال: أحلف باللَّه أن هذه لرؤيا حق فلقى أبا بكر بن أبى قحافة، فذكر له ذلك، فقال أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: أريد بك خيرا، هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاتبعه، فإنك ستتبعه، وتدخل معه في الإسلام والإسلام يحجزك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها.
فلقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأجياد، فقال: يا محمد! إلى ما تدعو؟ فقال:
أدعو إلى اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما كنت عليه من عبادة حجر لا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عبده، ممن لم يعبده.
قال خالد: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنك رسول اللَّه، فسر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بإسلامه، وأرسل إلى من بقي من ولده ممن لم يسلم ورافعا مولاه فوجده فأتوا به أباه أبا أحيحة فأنبه وبكته وضربه بصريمة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدا وأنت ترى خلاف قومه وما جاء به من عيب آلهتم وعيبه من مضى آبائهم.
فقال خالد: قد صدق واللَّه واتبعته فغضب أبوه أبو أحيحة ونال منه وشتمه، ثم قال: اذهب يا لكع حيث شئت واللَّه لأمنعك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن اللَّه عز وجل يرزقني ما أعيش به فأخرجه وقال لبنيه: لا يكلمه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 2/ 50، حديث رقم (4398) .
[ (2) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 7/ 251، كتاب الأوائل، حديث رقم (35772) .(9/98)
أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت به فانصرف خالد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان يكرمه ويكون معه [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: ثم انطلق أبو عبيدة بن الحارث [ (2) ] ، وأبو سلمة بن عبد الأسد- واسمه عبد اللَّه- والأرقم بن أبى الأرقم المخزوميّ، وأبو عبيدة ابن الجراح، وعثمان بن مظعون الجمحيّ، حتى أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلموا [ (3) ] .
قال: ثم أسلم أناس من قبائل العرب، منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أخو بنى عدي [ (4) ] ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب [ (5) ] ، أخت عمر بن الخطاب [ (6) ] ، وأسماء بنت أبى بكر [ (7) ] ، وعائشة بنت أبى بكر [ (8) ] ، وهي صغيرة، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 277- 278، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر مناقب خالد بن سعيد بن العاص، حديث رقم (5082) ، وقد حذفه الحافظ الذهبي من (التلخيص) لضعفه، (الاستيعاب) : 2/ 423- 424، ترجمة رقم (599) وما بين الحاصرتين تصويب منه.
[ (2) ] هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 91، 92.
[ (4) ] هو سعيد بن عمرو بن نفيل العدوىّ أبو الأعور، أحد العشرة، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) :
4/ 30، ترجمة رقم (53) .
[ (5) ] هي فاطمة بنت الخطاب بنت نفيل القرشية العدوية أخت عمر بن الخطاب، أسلمت قديما هي وزوجها سعيد بن المسيب بن عمرو بن نفيل، لها ترجمة في (الإصابة) : 8/ 62، رقم (11590) .
[ (6) ] هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بتحتانيتين، ابن عبد اللَّه بن قرط بن رزاح، بمهملة ومعجمة وآخره مهملة، ابن عدي بن كعب بن لؤيّ بن غالب القرشيّ العدوىّ أبو حفص أمير المؤمنين، له ترجمة في (الإصابة) : 4/ 588، رقم (5740) .
[ (7) ] هي أسماء بنت عبد اللَّه بن عثمان التيمية، والدة عبد اللَّه بن الزبير بن العوام التيمية، وهي بنت أبى بكر الصديق، لها ترجمة في (الإصابة) : 7/ 468، ترجمة رقم (10798) .
[ (8) ] سبقت لها ترجمة مفصلة في أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(9/99)
وقدامة بن مظعون [ (1) ] ، وعبد اللَّه بن مظعون [ (2) ] الجمحيان، وخباب بن الأرت [ (3) ] حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقاص [ (4) ] ، وعبد اللَّه بن [مسعود] [ (5) ] حليف بنى زهرة [ (6) ] ، ومسعود بن القاري [ (7) ] ، وسليط بن عمرو [ (8) ] ، أخو بنى عامر بن لؤيّ، وعياش بن أبى ربيعة المخزوميّ [ (9) ] ، وامرأته أسماء بنت سلامة [ (10) ] ، وحنيش بن حذافة السهمىّ [ (11) ] ، وعامر بن ربيعة [ (12) ] ، حليف بنى عدىّ بن كعب، وعبد اللَّه بن جحش [ (13) ] الأسدي، وأبو أحمد بن جحش [ (14) ] ، وجعفر بن أبى طالب [ (15) ] ، وامرأته أسماء بنت عميس [ (16) ] ، وحاطب ابن الحارث الجمحيّ [ (17) ] ، وامرأته أسماء بنت المجلل [ (18) ] ، الخطاب بن [ (19) ]
__________
[ (1) ] هو قدامة بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي أخو عثمان بن مظعون يكنى أبا عمرو، أحد السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرا، له ترجمة في (الإصابة) : 5/ 423، ترجمة رقم (7093) .
[ (2) ] ترجمته في (الإصابة) : 4/ 239، وهو شقيق الّذي قبله، ترجمة رقم (4967) .
[ (3) ] ترجمته في (الإصابة) : 2/ 258، ترجمة رقم (2212) .
[ (4) ] لم أجد له ترجمة.
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] ترجمته في (الإصابة) : 4/ 233، ترجمة رقم (4957) .
[ (7) ] ترجمة في (الإصابة) : 6/ 101، ترجمة رقم (9760) وهو مسعود بن عمرو القاري، بالتشديد بغير همز من القارة.
[ (8) ] ترجمته في (الإصابة) : 3/ 162، ترجمة رقم (3424) .
[ (9) ] ويلقب ذا الراحمين ترجمته في (الإصابة) : 4/ 750، ترجمة رقم (10795) .
[ (10) ] ترجمتها في (الإصابة) : 7/ 484- 485 ترجمة رقم (10795) .
[ (11) ] ترجمته في (الإصابة) : 2/ 345، 2346، ترجمة رقم (2296) .
[ (12) ] ترجمته في (الإصابة) : 3/ 2579، ترجمة رقم (3384) .
[ (13) ] ترجمته في (الإصابة) : 4/ 35- 37، ترجمة رقم (4586) .
[ (14) ] اسمه بغير إضافة، وقبل عبد اللَّه ترجمته في (الإصابة) : 7/ 706، ترجمة رقم (9492) .
[ (15) ] ترجمته في (الإصابة) : 1/ 458، 488، ترجمة رقم (1168) .
[ (16) ] ترجمتها في (الإصابة) : 7/ 489، 491، ترجمة رقم (10803) .
[ (17) ] ترجمته في (الإصابة) : 2/ 6، ترجمة رقم (1541) .
[ (18) ] لم أجد لها ترجمة.
[ (19) ] ترجمته في (الإصابة) : 2/ 280، ترجمة رقم (2380) .(9/100)
الحارث [ (1) ] ، وامرأته فكيهة بنت يسار [ (2) ] ، ومعمر بن الحارث بن معمر الجحمي [ (3) ] ، والسائب بن عثمان مظعون [ (4) ] ، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري [ (5) ] ، وامرأته رملة بنت أبى عوف بن صبيرة [ (6) ] ، [والنحام] واسمه نعيم ابن عبد اللَّه، أخو بنى عدىّ بن كعب [ (7) ] ، وعامر بن فهيرة، مولى أبى بكر [ (8) ] ، وخالد بن سعيد العاصي [ (9) ] ، وامرأته أميمة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة [بن سبيع بن حليفة بن سعد بن مليح بن عمرو] من خزاعة [ (10) ] ، وحاطب بن عبد شمس [ (11) ] أخو بنى عامر بن لؤيّ، وأبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة [ (12) ] وواقد بن عبد اللَّه التميميّ، حليف بن عدىّ بن كعب، خالد بن البكير، وإياس بن البكير، وعمار بن ياسر حليف بنى مخزوم
__________
[ (1) ] ترجمتها في (الإصابة) : 8/ 267، ترجمة رقم (61631) .
[ (2) ] ترجمته في (الإصابة) : 6/ 186، ترجمة رقم (8151) .
[ (3) ] ترجمته في (الإصابة) : 3/ 224، ترجمة رقم (3070) .
[ (4) ] ترجمته في (الإصابة) : 6/ 131، ترجمة رقم (8030) .
[ (5) ] ترجمته في (الإصابة) : 6/ 131، ترجمة رقم (11188) .
[ (6) ] ترجمته في (الإصابة) : 7/ 655، ترجمة رقم (8782) .
[ (7) ] ترجمته في (الاستيعاب) : 2/ 796، 797، ترجمة رقم (1338) .
[ (8) ] (ترجمته في (الإصابة) : 2/ 236، ترجمة رقم (2169) .
[ (9) ] ترجمتها في (الإصابة) : 7/ 527، ترجمة رقم (10906) ، قال الحافظ (الإصابة) : ذكرها أبو عمر فيمن اسمها أميمة فصحف، وكذا ذكرها ابن مندة، لكن قال: أميمة بنت خالد فصحف اسم أبيها أيضا. والصواب أمينة بنون بدل الميم الثانية، وقيل فيها: همينة بهاء بدل الهمزة، وقد مضت على الصواب: أميمة بنت خالد الخزاعية، كذا سمى ابن مندة أباها. قال ابن الأثير: وهم فيه، والصواب خلف كما تقدم. انظر أيضا (الاستيعاب) : 4/ 1790- 1791، ترجمة رقم (3240) .
[ (10) ] ترجمته في (الإصابة) : 2/ 26- 27، ترجمة رقم (1543) .
[ (11) ] اسمه مهشم وقيل هشيم ترجمته في (الإصابة) 7/ 87، ترجمة رقم (9748) .
[ (12) ] ترجمته في (الإصابة) : 6/ 549، ترجمة رقم (9103) .(9/101)
وصهيب بن سنان، وزاد غيره: وعامر بن البكير، وغافل بن البكير [ (1) ] ، وإياس بن البكير [ (2) ] وعمار بن ياسر [ (3) ] حليف بنى مخزوم وصهيب بن سنان [ (4) ] وزاد غيره: وقال ابن إسحاق [ (5) ] : ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به، فلما أسلم هؤلاء وفشا أمرهم، أعظمت ذلك قريش، وغضبت له، وأظهروا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم البغي والحسد، وشخص له منهم رجال، فبدءوه وأصحابه بالعداوة، منهم أبو جهل بن هشام، وأبو لهب، وذكر أسماءهم.
قال: حدثني رجل من أسلم- وكان واعية- أن أبا جهل بن هشام، اعترض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه، فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه به ضربة، فشجه شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بنى [المخزوم] إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت، فقال: وما يمنعني وقد استبان لي منه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه، وأن الّذي يقوله حق، فو اللَّه [لا أنزع] ، فامنعوني إن كنتم صادقين.
فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنّي واللَّه قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا فلما أسلم حمزة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه عرفت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عز وامتنع، فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون به، وذكر الخبر ثم قال:
وكان حمزة ممن أعز اللَّه الدين به [ (6) ] .
وقال: أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده، قال: قال لنا عمر ابن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: أتحبون أن أعلمكم كيف كان إسلامي؟
قلنا: نعم، قال: كنت من أشد الناس على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبينا أنا في يوم حار
__________
[ (1) ] ترجمته في (الإصابة) : 2/ 227، ترجمة رقم (2150) .
[ (2) ] ترجمته في (الاستيعاب) : 1/ 124، ترجمة رقم (122) .
[ (3) ] ترجمته في (الاستيعاب) : 3/ 1135، ترجمة رقم (1863) .
[ (4) ] ترجمته في (الإصابة) : 3/ 449، 452، ترجمة رقم (4108) .
[ (5) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 97، وما بعدها، مباداة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قومه وما كان منهم.
[ (6) ] (المرجع السابق) : 128- 129، إسلام حمزة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.(9/102)
شديد الحر بالهاجرة، في بعض طرق مكة، إذا لقيني رجل من قريش فقال:
أين تريد يا ابن الخطاب؟ فقلت: أري [كذا وكذا] ، قال عجبا لك يا ابن الخطاب؟ أنت تزعم أنك كذلك، وقد أدخل عليك الأمر في بيتك قال: قلت:
وما ذاك؟ قال: أختك قد أسلمت، قال: فرجعت مغضبا حتى قرعت الباب وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أسلم الرجل والرجلان، ممن لا شيء له، ضمهما إلى الرجل الّذي في يديه السعة، لأنه من فضل طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختى رجلين، فلما قرعت البيت، قيل: من هذا؟ قلت: عمر بن الخطاب، فبادروا فاختفوا منى، وقد كانوا يقرءون في صحيفة بين أيديهم، تركوها أو دسوها، فقامت أختى تفتح الباب فقلت: يا عدوة نفسها أصبوت؟ وضربتها بشيء في يدي على رأسها، فسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت يا ابن الخطاب، ما كنت فاعلا فافعل، فقد صبوت.
قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصحيفة وسط البيت، فقلت: ما هذا؟ فتناولتها، فإذا فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فلما مررت باسم من أسماء اللَّه [ذعرت] منه، فألقيت الصحيفة، ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها، فإذا فيها: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ* يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فقرأتها حتى بلغت: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [ (1) ] ، فقلت أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فخرجوا متبادرين وكبروا
وقالوا:
أبشر يا ابن الخطاب فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا يوم الاثنين فقال: اللَّهمّ أعز دينك
__________
[ (1) ] الحديد: 1- 7.(9/103)
بأحب الرجلين إليك: إما أبو جهل بن هشام وإما عمر بن الخطاب [ (1) ] ، وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فلما عرفوا الصدق منى قالوا: في بيت بأسفل الصفا، فخرجت حتى قرعت البيت عليهم، فقالوا: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وقد علموا من شدتي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما يعلمون بإسلامي- فما اجترأ أحد بفتح الباب حتى قال: افتح له إن يرد اللَّه به خيرا بهذه، فقال: خلوا عنه، ثم أخذ بمجامع قميصي، ثم جذبني إليه، ثم قال: أسلم يا ابن الخطاب، اللَّهمّ اهده.
فقلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وان محمدا عبده ورسوله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وكانوا مستخفين، فلم أشأ أن أرى رجلا يضرب، فيضرب إلا رأيته، ولا يصيبني من ذلك شيء فخرجت حتى جئت خالي- وكان شريفا- فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: ابن الخطاب، فخرج إليّ فقلت: قد علمت أنى صبوت؟ قال: أوقد فعلت؟ قلت نعم، قال: لا تفعل، فقلت: قد فعلت، فدخل وأجاف الباب دوني.
فقلت: ما هذا شيء فذهبت إلى رجل من عظماء قريش، فناديته، فخرج إلي فقلت: مثل مقالتي لخالي، وقال مثل ما قال، ودخل وأجاف الباب دوني.
فقلت في نفسي ما هذا شيء إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال رجل: أتحب ان يعلم بإسلامك؟ قلت نعم، قال: فإذا جلس الناس في الحجر، فأت فلان- لرجل لا يكتم السر- فقل له فيما بينك وبينه: إني صبوت فإنه قل ما يكتم السر.
قال: فجئت، وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت فيما بيني وبينه إني قد صبوت، قال: أو فعلت؟ [قلت] نعم، قال: فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ، فبادروا إليّ أولئك الناس، فما زلت أضربهم ويضربونني، واجتمع على الناس، قال خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل: عمر بن الخطاب قد صبأ.
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) 2/ 226، حديث رقم (5663) ، (سنن الترمذي) : 5/ 576، كتاب المناقب، باب (18) في مناقب عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3681) .(9/104)
فقام على الحجر، وأشار بكمه هكذا، ألا إني قد أجرت ابن أختى، فتكشّفوا عنى، فكنت لا أشاء أن أرى رجلا من المسلمين يضرب ويضرب إلا رأيته، فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني، فأتيت خالي فقلت: جوارك عليك ردّ، فقل ما شئت، فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز اللَّه الإسلام.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان إسلام عمر بن الخطاب بعد خروج من خرج من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أرض الحبشة، قال.
حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن أمه ليلى قالت: كان عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، من أشد الناس علينا في إسلامنا.
فلما تهيأنا للخروج من أرض الحبشة، جاءني عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأنا على بعير نريد أن نتوجه- فقال: أين تريدين يا أم عبد اللَّه؟ فقلت: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض اللَّه، حيث لا نؤذى في عبادة اللَّه، فقال صحبكم اللَّه، ثم ذهب فجاء زوجي عامر بن ربيعة، وأخبرته بما رأيت من رقة عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال [ترحبين] يسلم؟ فقلت نعم، قال: واللَّه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وهذا من شدته على المسلمين، ثم رزقه اللَّه الإسلام.
قال ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلا وإحدى عشر امرأة [ (1) ] .
وأما المستضعفون الذين عذبوا في اللَّه
فإنّهم كانوا قوما لا عشائر لهم ولا منعة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء أنصاف النهار ليرجعوا إلى دينهم، وفيهم نزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ
__________
[ (1) ] ذكر البزار في إسلام عمر أنه قال: فلما أخذت الصحيفة فإذا فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فجعلت أفكر: من أي شيء اشتق؟ ثم قرأت فيها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وجعلت أفكر وأفكر حتى بلغت: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فقلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله وذلك إن كانت وردت رواية أن ما في الصحيفة من سورة الحديد. (سيرة ابن هشام) :
2/ 190.(9/105)
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ [حِسابِكَ] عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [ (1) ] وهم: عمار بن ياسر [ (2) ] بن عامر بن مالك [بن كنانة بن قيس بن الحصين بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر بن مالك بن عبس بن زيد] أحد بنى عبس، أخى مر بن مالك بن أدد بن زيد أبو اليقظان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأبوه ياسر، وأمه سمية، [بنت سليم من لخم] ، وأخوه عبد اللَّه ابن ياسر.
قال الواقدي: عن عبد اللَّه بن أبى عبيدة، عن أبيه قال: قال عمار بن ياسر: لقيت صهيب بن سنان، على باب الأرقم بن أبى الأرقم، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها، فقلت له: ما تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ قلت: أريد [أن] أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، قال: فدخلنا، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا ذاك، حتى أمسينا، ثم خرجنا مستخفين، فكان إسلام عمار وصهيب بعد إسلام بضع وثلاثين رجلا.
حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن أبى شيبة أبو بكر، حدثنا جرير بن عبد الحميد الضبيّ، عن منصور عن مجاهد، فقال: أول من أظهر الإسلام سبعة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وسمية أم عمار.
قال: فأما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمنعه عمه، وأما أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فمنعه قومه، وأما الآخرون فلبسوا الدروع الحديد ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ، فأعطوهم كل ما سألوا، فجاء إلى كل رجل منهم قومه بأنطاع الأدم فيها الماء فألقوهم فيه ثم حملوا بجوانبه إلا بلال، فجعلوا في عنقه، ثم أمروا صبيانهم يشتدون به بين أخشبى مكة وجعل يقول: أحد أحد، وجاء أبو جهل إلى سمية، فطعنها في قبلها، فكانت أول شهيدة في في الإسلام لأنها أغلظت له في القول فأغضبته، وقيل: أو قتيل الحارث بن أبى هالة ابن خديجة.
__________
[ (1) ] الأنعام: 52.
[ (2) ] زيادة للنسب.(9/106)
قال الواقدي: عن عثمان بن محمد، عن الحارث بن الفضل، عن محمد بن كعب القرظي قال: أخبرنى من رأى عمار بن ياسر متجردا في سراويل، قال ونظرت إلى ظهره، فإذا فيه خط، قلت: ما هذا قال: هذا مما كانت قريش تعذبني به في رمضاء مكة.
وحدثني عثمان بن محمد في إسناده قال: كان عمار رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يعذب حتى لا يدرى ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدرى ما يقول، وبلال، وعمار، وابن فهيرة، وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. [ (1) ]
ويقال نزلت في أبى سلمة بن عبد الأسد وبلال [أول] من أذن في الإسلام، وعثمان بن مظعون وكانا أول من قدم المدينة.
قال: وحدثنا محمد بن حاتم المروزي، حدثنا هيثم عن حصين، عن أبى مالك في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [ (2) ] قال هو عمار.
وحدثنا أبو صالح الفراء الأنطاكي، حدثنا أبو إسحاق الفرازي، عن عبد اللَّه بن المبارك، عن معمر عن عبد الكريم، عن أبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: لما أخذ المشركون عمارا فعذبوه، لم يتركوه حتى سب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما وراءك يا عمار؟ [قال] : شر واللَّه، ما تركني المشركون حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال وكيف تجدك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد، ونزلت فيه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.
وحدثني عباس بن هشام عن أبيه عن جده عن أبى صالح عن أم هانئ أن عمار بن ياسر، وأباه ياسر، وأخاه عبد اللَّه بن ياسر، وسمية أم عمار كانوا يعذبون في اللَّه، فمر بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أصبروا آل ياسر،
__________
[ (1) ] النحل: 41- 42.
[ (2) ] النحل: 106.(9/107)
فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر في العذاب، وأغلظت سمية لأبى جهل، فطعنها في قبلها فماتت، وزمن عبد اللَّه فسقط.
وخباب بن الأرت [ (1) ] بن جندلة بن سعد بن خزيمة من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم [حليف بنى زهرة ويقال: إنه من البحرين فأنبط، وأنه أسود ويقال هو خباب بن الأرت بن حدار بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد] ، وقع عليه رسا فصار إلى أم أنمار فأعتقته، وكان به رنة إذا تكلم فسمى الأرت، وكان قينا بمكة، فأسلم سادس ستة من بنى مظعون، وأبى سلمة، وجماعة قبل دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دار الأرقم، فعذب في اللَّه، وجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف، حتى ذهب ماء متنه.
وقال مجاهد عن الشعبي، دخل خباب بن الأرت على عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فأجلسه على متكأة، وقال: [ما على الأرض] أحد أحق بهذا المجلس منك، إلا رجل واحد، فقال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال بلال، قال: ما هو بحق منى، إن بلالا كان له من المشركين من يمنعه اللَّه به، ولم يكن لي أحد، لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض إلا بظهرى، ثم كشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص.
وقال هشام بن الكلبي، عن أبى صالح: كان خبابا قينا، وكان قد أسلم، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يألفه ويأتيه، فأخبرت بذلك مولاته، فكانت تأخذ الحديدة قد أحمتها، فتضعها على رأسه، فشكى ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
اللَّهمّ انصر خبابا،
فشتت مولاته- وهي أم أنمار- فكانت تعوى مع الكلاب، فقيل لها: اكتوى، فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها، فيكوى بها رأسها.
__________
[ (1) ] هو خباب بن الأرت من بنى سعد بن زيد مناة حليف لبني زهرة كنيته: أبو يحيى وقد قيل: أبو عبد اللَّه مولى ثابت بن الأرت بن أم أنمار الخزاعية مات بالكوفة منصرف على من صفين سنة سبع وثلاثين وهو ابن خمسين سنة، وصلّى عليه على بن أبى طالب، وقيل: إنه مات سنة تسع عشرة بالمدينة وصلى عليه عمر بن الخطاب، والأول أصح.
(تاريخ الصحابة) : 88 ترجمة (363) ، (الثقات) : 3/ 106، (الإصابة) : 1/ 416.(9/108)
وذكر الواقدي أن الّذي كان يعذب خبابا حين أسلم، عتبة بن أبى وقاص، ويقال: الأسود بن عبد يغوث، قال: وهو الثبت، [توفى بالكوفة سنة سبع وثلاثين، منصرف على من صفين إلى الكوفة، وهو أول من توفى] من الصحابة.
وصهيب بن سنان بن مالك [ (1) ] بن عمرو بن نفيل بن عقيل بن عامر بن جندلة بن خزيمة بن كعب بن أسلم بن أوس مناة بن النمر بن قاسط، [ويقال:
إن [أمه امرأة] من تميم، يقال لها: سلمى بنت الحارث] ، أسلم مع عمار في دار الأرقم.
قال: يزيد بن رومان، عن عروة: كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين يهزءون، فقال صهيب: نحن جلساء نبي اللَّه، آمنا وكفرتم، وصدقناه وكذبتموه، ولا خسيسة مع الإسلام، ولا عز مع الشرك، فعذبوه وضربوه، وجعلوا يقولون: أنتم الذين منّ اللَّه عليهم من بيننا [توفى سنة ثمان وثلاثين] .
وبلال بن رباح [ (2) ] [مولى أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان أسود مولدا من مواليد بنى جمح] كان أبوه رباح حبشيا [سبيا] وكان ابنه
__________
[ (1) ] هو صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن خزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن مناة بن النمر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن عدنان، كنيته أبو يحيى، مولى عبد اللَّه بن جدعان التميمي، وقد قيل حليف ابن جدعان من سبى الموصل أصله من الجزيرة، أمه سلمى بنت قعيد. مات في شوال ستة ثمان وثلاثين في خلافة على بن أبى طالب، عليه السّلام ودفن بالبقيع وكان له يوم مات سبعون سنة.
ومن أولاده عمرة وعمارة. (تاريخ الصحابة) : 136، 137، ترجمة رقم (671) ، (الإصابة) :
2/ 195.
[ (2) ] هو بلال بن رباح مؤذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أعتقه أبو بكر وكان تربه، وكان له ولاؤه، كنيته أبو عمرو. ويقال أبو عبد اللَّه. وقد قيل أبو عبد الكريم.
أمه حمامة. قيل لأبى بكر بعد موت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن كنت أعتقتني للَّه فدعني أذهب حيث شئت، وإن كنت أعتقتنى لنفسك فأمسكنى، قال أبو بكر: اذهب حيث شئت، فذهب إلى الشام فسكنها مؤثرا الجهاد على الأذان، إلى أن مات سنة عشرين، ويقال: إن قبره بدمشق، وسمعت أهل فلسطين يقولون: إن قبره بعمواس، وقد قيل: قبره بداريا، وامرأة بلال هند الخولانية. وكان-(9/109)
بلال من مولدي السراة، وكانت أمه حمامة سبية، تلقب بسكينة، وأسلم قديما في أول ما دعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويقال: إنه كان الثالث في الإسلام، وكان لأمية ابن خلف، وكان أمية بن خلف يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيلقيه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ويقول:
واللَّه لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد، فيقول: أحد أحد، ويضع أمية بن خلف في عنقه حبلا، ويأمر الصبيان فيجرونه، فمر به أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو يعذبه، فقال له: يا أمية! أما تتقى اللَّه في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته، فأنقذه.
وكان بلالا تربا لأبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأحد من دعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال أبو بكر: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، فأعطيك إياه ثمنا لبلال، قال: قد قبلت، فأعطاه ذلك الغلام، وأخذ بلالا فأعتقه.
وقال معمر عن قتادة: إن عمرو بن العاص قال: مررت ببلال وهو يعذب، ولو أنه بضعة لحم وضعت لنضجت، وهو [يقول] : أنا كافر باللات والعزى، وأمية يغاظ عليه، فيزيده عذابا فيقبل عليه، فيدعث حلقه، فيغشى عليه، ثم يفيق.
وذكر الواقدي أن حسان بن ثابت رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال:
حججت، أو قال: اعتمرت، فرأيت بلالا في حبل طويل، يمده الصبيان، معه عامر بن فهيرة وهو يقول: أحد أحد، أنا كافر باللات، والعزى، وهبل، وإساف، ونائلة، فأضجعه أمية في الرمضاء. وقتل بلال أمية بن خلف يوم بدر، فقال أبو بكر:
هنيئا زادك الرحمن عزا ... لقد أدركت ثأرك يا بلال
[توفى سنة عشرين، وقيل غير ذلك، وكانت وفاته بدمشق] .
__________
[ () ] لبلال يوم مات بضع وستون سنة، (طبقات ابن سعد) : 3/ 232، 7/ 385، (حلية الأولياء) :
1/ 147، (تاريخ الصحابة) : 42، 43 ترجمة (106) ، (الإصابة) : 1/ 165.(9/110)
وعامر بن فهيرة، [يقال: إنه من عنز بن وائل، وأنه عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن سعد بن عبد اللَّه بن الحارث بن رفيدة بن عنز بن وائل العنزي وقيل في نسبه غير ذلك [ (1) ] .
أسلم عامر قبل دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دار الأرقم، وكان من المستضعفين، فكان يعذب ليرجع عن دينه، حتى اشتراه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأعتقه، وكان حسن الإسلام، وكان يرعى الغنم، واستشهد ببئر معونة.
قال ابن إسحاق: عن هشام بن عروة عن أبيه، أن عامر بن الطفيل قال يومئذ: من رجل لما طعنته رفع حتى رأيت السماء دونه، رواه البكاري عن ابن إسحاق،
وفي رواية يونس بن بكير عنه بهذا الإسناد، أن عامر بن الطفيل قدم المدينة بعد ذلك، وقال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: من رجل يا محمد لما طعنته رفع إلى السماء؟ فقال: هو عامر بن فهيرة.
وروى عبد الرزاق وابن المبارك، أن عامر بن فهيرة التمس في القتلى يومئذ ففقد، فيرون الملائكة قد رفعته أو دفنته.
__________
[ (1) ] وعنز بسكون النون أخو بكر بن وائل حليف بنى عدىّ، ثم الخطاب والد عمر، منهم من ينسبه إلى مذحج.
وكان أحد السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته ليلى بنت أبى خيثمة، ثم هاجر إلى المدينة أيضا، وشهد بدرا وما بعدها، وله رواية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من طريق أبيه عبد اللَّه، ومن طريق عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، وأبى أسامة بن سهل، وغيرهم.
وذلك في الصحيحين وغيرهما، وكان صاحب عمر لما قدم الجابية، واستخلفه عثمان على المدينة لما حج.
وقال ابن سعد: كان الخطاب قد تبنى عامرا، فكان يقال: عامر بن الخطاب حتى نزلت:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، [الأحزاب: 5] .
وقال يحي بن سعد الأنصاري، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة: قام عمر بن ربيعة يصلى من الليل، وذلك حين نشب الناس في الطعن على عثمان، فنام فأتاه آت فقال له: قم فاسأل اللَّه أن يعيذك من الفتنة. فقام فصلى ثم اشتكى فما خرج بعد إلا بجنازته. أخرجه في الموطأ.
قال مصعب الزبيري: مات سنة اثنين وثلاثين، كذا قال أبو عبيدة، ثم ذكره في سنة سبع وثلاثين، وقال: أظن هذا أثبت. وقال الواقدي: كان مؤتة بعد قتل عثمان بأيام. وقيل: في وفاته غير ذلك. (الإصابة) : 3/ 579- 580، ترجمة رقم (4384) .(9/111)
وأبو فكيهة أفلح، وقيل: يسار كان عبدا لصفوان بن أمية الجمحيّ، فأسلم حين أسلم بلال [ (1) ] ، فمر به أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلا، وأمر به فجر، ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل، فقال له أمية: أليس هذا ربك؟ قال: اللَّه ربى خالقي، وخالقك، وخالق هذا الجعل، فغلظ عليه وجعل يخنقه، ومعه أخوه أبى ابن خلف يقول: زده عذابا، حتى يأتيه محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق فمر به أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فاشتراه فأعتقه.
وقال ابن عبد البر: كانوا يعذبونه، وإنه إنما كان لهم، فأخرجوه يوما مقيدا، نصف النهار إلى الرمضاء، ووضعوا على صدره صخرة حتى [دلع] لسانه، وقيل: قد مات، ثم أفاق، وقتل يوم بدر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وجارية بنى المؤمل بن حبيب بن تميم بن عبد اللَّه بن قرظ بن رازح ابن عدىّ، ويقال لها لبيبة، أسلمت [ (2) ] قبل إسلام عمر بن الخطاب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان عمر يعذبها حتى تفتر، فيدعها ثم يقول: أما أنى أعتذر إليك، ما أدعوك الا مسلمة، فتقول: كذلك يعذبك اللَّه إن لم تسلم.
وذكر الواقدي: أن حسان بن ثابت قال: قدمت مكة معتمرا، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو الناس، وأصحابه يؤذون ويعذبون، فوقعت على عمر وهو مؤتزر، يخنق جارية بنى عمرو بن المؤمل حتى تسترخي في يده، فأقول: قد ماتت ثم
__________
[ (1) ] أبو فكيهة أفلح أو يسار، هو أبو فكيهة الجهمى، مولى صفوان بن أمية، وقيل مولى ابن عبد الدار أسلم قديما فربط أمية بن خلف في رجله حبلا فجره حتى ألقاه في الرمضاء وجعل يخنقه، فجاء أخوه أبىّ بن خلف فقال: زده، فلم يزل على ذلك حتى ظن أنه مات، فمر أبو بكر الصديق فاشتراه فأعتقه، واسمه يسار، وقد تقدم في التحتانية، وقيل اسمه أفلح بن يسار، وقال عمر بن شبة كان ينسب للأشعريين (الإصابة) : 232- 323، ترجمة (10391) .
[ (2) ] هي زنيرة الروميّة، كانت من السابقات في الإسلام فعذبها المشركون على إسلامها فاحتملت عذابهم بصبر ورباطة جأش ولم تصبأ عن دينها ثم اشتراها أبو بكر الصديق فأعتقها.
(أعلام النساء) : 2/ 39.(9/112)
يخلى عنها، ثم يثب على زنيرة، فيفعل بها مثل ذلك، [قال: وكان أبو جهل يقول:] لا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا، فلو كان أمر محمد خيرا وحقا، ما سبقونا إليه، أفتسبقنا زنيرة إلى رشد وهي كما ترون؟ وكانت زنيرة قد عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى، بك ما ترين، فقالت هي، ولا تبصره: وما يدرى اللات والعزى من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء، وربى قادر على أن يرد على بصرى، فأصبحت من تلك الليلة، وقد ردّ اللَّه عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشترى أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه جارية بنى المؤمل، وزنيرة وأعتقهما، ويقال: أن زنيرة لبني مخزوم، وكان أبو جهل يعذبها.
وكانت النهدية مولدة لبني نهد بن زيد فصارت لامرأة من بنى عبد الدار وأسلمت، فكانت تعذبها وتقول: واللَّه لا أقلعت عنك أو يعتقك بعض صباتك، فأتاها أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه فأعتقها، وكان معها طحين، ويقال: نوى لمولاتها يوم أعتقها، فردته عليها.
وكانت أم عبيس [ (1) ] بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أمة لبني زهرة، وكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، فابتاعها أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأعتقها.
__________
[ (1) ] أم عبيس: هي أحد من كان يعذبه المشركون ممن سبق إلى الإسلام. قال أبو بشر الدولابي عن الشعبي: أسلمت وهي زوج كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، ولدت له عبيسا فكنيت به.
وروى يونس بن بكير في (زيادات المغازي) لابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه- أن أبا بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أعتق ممن يعذب في اللَّه سبعة، وهم:
بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، وجارية ابنة المؤمل، والنهدية، وابنتها، وأم عبيس.
وأخرج محمد بن عثمان بن أبى شيبة في تاريخه، عن منجاب بن الحارث، عن إبراهيم بن يوسف بن زياد البكائي، عن ابن إسحاق، عن حميد، عن أنس: قال: قالت أم هانئ بنت أبى طالب: أعتق أبو بكر بلالا، وأعتق معه ستة، منهم أم عبيس.
وأخرجه أبو نعيم، وأبو موسى، من طريقه. وقال الزبير بن بكار: كانت فتاة لبني تيم ابن مرة، فأسلمت أول الإسلام، وكانت ممن استضعفه المشركون يعذبونها، فاشتراها أبو بكر فأعتقها، وكنيت بابنها عبيس بن كريز.(9/113)
قال الواقدي عن ابن أبى حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبى غطفان، عن ابن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] أنه قال له: هل كان المشركون يبلغون من المسلمين من العذاب ما يعذرون به من ترك دينهم؟
قال: نعم، إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه ويعطشونه، ويضربونه حتى ما يقدر أن يقعد، فيعطهم ما سألوه من الفتنة، ويقولون له: اللات والعزى إلهك من دون اللَّه؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر، فيقولون:
إن هذا الجعل إلا إلهك من دون اللَّه؟ فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبذلون من جهده، فإذا أفاق رجع إلى التوحيد.
وقال الكلبي: عذب قوم لا عشائر لهم ولا مانع منهم، فبعضهم ارتد، وبعضهم أقام على الإسلام، وبعضهم أعطى ما أريد منهم من غير اعتقاد منه للكفر، وكان قوم من الأشراف قد أسلموا، ثم فتنوا، منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص السهمي.
قالوا: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس في المسجد، جلس إليه المستضعفون من أصحابه: عمار، وخباب، وصهيب، وبلال، وأبو فكيهة، وعامر بن فهيرة، وأشباههم من المسلمين، فيقول بعض قريش لبعض [ما هو] ولا جلساؤه كما ترون قد من اللَّه عليهم من بيننا، فأنزل اللَّه [عز وجل] : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [ (1) ] ونزل فيهم: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [ (2) ] ونزل فيهم:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [ (3) ] ونزل
__________
[ (1) ] الأنعام: 53.
[ (2) ] الأنعام: 52.
[ (3) ] النحل: 42.(9/114)
فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ (1) ] وكان مجاهد يقول: يعنى الذين تكلموا بما تكلموا به وهم مكرهون.
قال [الواقدي] : عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: كان أبو جهل يأتى الرجل الشريف إذا أسلم، فيقول له: أتترك دين أبيك وتقيل رأيه، وتضع شرفه؟ وإن كان تاجرا قال له: ستكسد تجارتك، ويهلك مالك، وإن كان ضعيفا أغرى به حتى يعذب، فأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه فهاجروا إلى الحبشة.
وأما المهاجرون إلى الحبشة
[ (2) ] فإنه خرجت طائفة أولى، ثم خرجت طائفة بعدها، فكانت الأولى اثنى عشر رجلا وأربع نسوة، وقيل: أحد عشر وامرأتان، وقيل: كانوا عشر رجال وأربع نسوة، وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر الزهري ذلك وقال: لم يكن لهم أمير.
قال قتادة: أول من هاجر إلى اللَّه بأهله عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] النحل: 110.
[ (2) ] قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من اللَّه ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل اللَّه لكم فرجا مما أنتم، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى اللَّه بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.
أوائل المهاجرين إلى الحبشة: وكان أول من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر: عثمان بن عفان ابن أبى العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. -
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(9/115)
قال: سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة- يعنى أنسا رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، يقول: خرج عثمان بن عفان، ومعه رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهم، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد! قد رأيت ختنك ومعه امرأته، قال:
على أي حال رأيتينهما؟ قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صحبهم اللَّه، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط.
وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية إلى الحبشة كانت سنة خمس من المبعث.
وخرج أبو داود الطيالسي، عن خديج بن معاوية، عن أبى إسحاق أن عن عبد اللَّه بن عتبة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى النجاشي [ (1) ] ونحن ثمانون رجلا، معنا جعفر بن أبى طالب، وعثمان بن عفان، فذكره.
__________
[ (1) ] اسم لكل ملك يلي الحبشة، كما أن كسرى اسم لمن ملك الفرس، وخاقان اسم لملك الترك كائنا من كان، وبطليموس اسم لمن ملك اليونان. واسم هذا النجاشي أصحمة بن أبحر، وتفسيره: عطية.(9/116)
وأما من أسلم قبل الفتح
فقد قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الحديد: 10، قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدا فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورا عظيما ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا، ولهذا قال تعالى: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة، وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا صلح الحديبيّة، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا زهير حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «دعوا لي أصحابى فو الّذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبيّة وفتح مكة وكانت هذه أعمالهم» وكانت هذه المشاجرة بينهما في بنى جذيمة الذين بعث إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد بعد الفتح فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم فخالفه عبد الرحمن بن عوف، وعبد اللَّه بن عمر وغيرهما فاختصمهم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك.
والّذي في الصحيح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال «لا تسبوا أصحابى فو الّذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
وروى بن جرير وابن أبى حاتم من حديث ابن وهب أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدريّ خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبيّة حتى إذا كنا بعسفان قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
يوشك أن يأتى قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم فقلنا: من هم يا رسول اللَّه أقريش؟ قال: لا، ولكن أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا، فقلنا أهم خير منا يا رسول اللَّه؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، إلا أن هذه الآية فضلت ما بيننا وبين-(9/117)
وخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] ، من حديث شعبة عن الأعمش، سمعت ذكوان يحدث عن أبى سعيد الخدريّ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسبوا أصحابى فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. ذكره البخاري في مناقب أبى بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وذكره مسلم [ (3) ] في آخر المناقب من طريق الأعمش، عن أبى صالح عن أبى سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف
__________
[ () ] الناس: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
وهذا الحديث غريب بهذا السياق والّذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء ابن يسار عن أبى سعيد وقد ذكر الخوارج: تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يرمقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة، والحديث الّذي في الصحيح: المؤمن القوى خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير، وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب آخر لمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه، لهذا قال: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. (تفسير ابن كثير) 4/ 328- 329 مختصرا.
[ (1) ] رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو كنت متخذا خليلا.
ومسلم في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم حديث رقم (2541) وأبو داود في السنة، باب النهى عن سبب أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4658) والترمذي في المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3860) ، والمدّ: ربع الصاع، والنصيف نصف المد، والتقدير: ما بلغ هذا القدر اليسير من فضلهم ولا نصفهم. (جامع الأصول) 8/ 552- 553 باب في فضائل الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم ومناقبهم، حديث رقم (6361) ، و (6362) .
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.(9/118)
شيء، فسبه خالد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسبوا أحدا من أصحابى فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه.
وخرج مسلم [ (1) ] من حديث أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسبوا أصحابى، فو الّذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه.
كذا وقع في كتاب مسلم في هذا الحديث، عن أبى معاوية عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، ولعله وهم من مسلم، أو ممن كتب عنه وإنما الحديث عن أبى سعيد الخدريّ، وهكذا هو في مسند ابن أبى شيبة، وفي كتاب الترمذي وغيرهما، ويدل على الوهم في ذلك قول مسلم بعد ما أورده من رواية وكيع، ومعاذ، وشعبه عن الأعمش، بإسناد جرير وأبى معاوية، [و] إنما تدل هذه الإحالة على أمر متفق، لا مختلف.
وخرجه أبو داود [ (2) ] الترمذي [ (3) ] ، من حديث أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى سعيد قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تسبوا أصحابى، فو الّذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه،
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قوله: نصيفه، يعنى نصف المد.
وقال أبو بكر محمد بن أبى نصر الحميدي في كتابه، بعد ذكره حديث الأعمش: رواه أبو بكر البرقاني في كتابه (المخرج على الصحيح) ، من حديث أبى بكر بن عياش عن الأعمش، وفيه: لا تسبوا أصحابى، دعوا لي أصحابى، فإن أحدكم لو أنفق كل يوم مثل أحد ذهبا لم يبلغ مدّ أحدهم،
قال أبو بكر البرقاني: قوله: كل يوم، حسن مليح.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.
[ (3) ] سبق تخريجه.(9/119)
وقال سعيد بن منصور المكيّ في كتابه (الزهد) : حدثني سفيان عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يأتى قوم من ها هنا- وأشار بيده نحو اليمين- تحتقرون أعمالكم عند أعمالهم، قالوا: فنحن خير أم هم؟ قال:
بل أنتم، لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، فضلت هذه الآية بيننا وبين الناس: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] .
حديث مرسل.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ: فضّل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جماعة من أصحابه بفضائل، وسمهم بها، وذكرهم فيها، ولم يأت عنه أنه فضّل منهم واحد على صاحبه بعينه من وجه يصح، ولكنه ذكر من فضائلهم، ما يستدل به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل، والدين، [و] العلم.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم أحلم وأكرم معاشرة، وأعلم بمحاسن الأخلاق، من أن يواجه فاضلا منهم، بأن غيره أفضل منه، فيجد من ذلك في نفسه، بل فضل السابقين منهم، وأهل الاختصاص به، على من لم ينل منازلهم، فقال لهم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، وهذا معنى قول اللَّه تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا
ومحال أن يستوي من قاتله صلّى اللَّه عليه وسلّم، مع من قاتل عنه.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لبعض من لم يشهد بدرا وقد رآه يمشى بين يدي أبى بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: تمشى بين يدي من هو خير منك؟!
لأنه كان أعلمهما، ذلك في الجملة، لمن شهد بدرا والحديبيّة، ولكل طبقة منهم منزلة معروفة، وحال موصوفة، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم.(9/120)
وأما الذين شهدوا بدرا وبيعة الرضوان [ (1) ] تحت الشجرة بالحديبية
فخرج الإمام أحمد من حديث هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو أربعة عشر، أحد العددين.
ومن حديث سفيان قال: حدثنا أبو إسحاق، حدثنا البراء بن عازب قال: كنا- يعنى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، كعدد أصحاب طالوت الذين جازوا، وما جاز معه النهر إلا مؤمن.
__________
[ (1) ] سبب البيعة ونصها: قال ابن إسحاق: فحدثني عبد اللَّه بن أبى بكر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس يقولون: بايعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الموت، وكان جابر بن عبد اللَّه يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر.
فبايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها، إلا الجد ابن قيس، أخو بنى سلمة، فكان جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: واللَّه لكأنّي انظر إليه لاصقا بإبط ناقته. قد خبأ إليها، يستتر بها من الناس ثم أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن الّذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيعة الرضوان: أبو سنان الأسدي.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبى مليكة عن ابن أبى عمر: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الآخرى.
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بنى عامر بن لؤيّ، إلى رسول اللَّه وقالوا له: ائت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو اللَّه لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقبلا، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم تم بينهم الصلح.(9/121)
وقال ابن إسحاق [ (1) ] : جميع من شهد بدرا من المسلمين، من المهاجرين والأنصار، ثلاثمائة رجل، وأربعة عشر رجلا: من المهاجرين ثلاثة وثمانون، ومن الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون.
وقال ابن جريج: أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: كنا بالحديبية أربعة عشر مائة.... الحديث.
وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كانوا الذين شهدوا بيعة الرضوان، قال: أربع عشر مائة، قال: رحم اللَّه جابرا، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.
ولأحمد بن حنبل [ (2) ] من حديث سفيان، عن عمرو قال: سمعت جابر ابن عبد اللَّه يقول: كنا يوم الحديبيّة أنا وأربع عشر مائة، فقال [لنا] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنتم اليوم خير أهل الأرض.
وقال معقل بن يسار، وعبد اللَّه بن أبى أوفى- وكانا ممن شهد البيعة تحت الشجرة- كانوا ألفا [وأربعمائة] .
وخرج
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 261، عدد من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار.
وقال القسطلاني: وكان عدة من خرج معه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثمائة وخمسة، وثمانية لم يحضروها، وإنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم، فكانوا كمن حضرها، وهم: عثمان ابن عفان، تخلف بسبب مرض زوجته رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعيد ابن زيد، كانا في مهمة استطلاعية تتعلق بالعير، وأبو لبابة استخلفه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة، وعاصم بن عدي على أهل العالية، والحارث بن حاطب على بنى عمرو ابن عوف، والحارث بن الصمة وقع أثناء الطريق فرد، وخوات بن جبير أصابه حجر في ساقه فرد من الصفراء. (المواهب اللدنية) : 1/ 349.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 244، حديث رقم (13901) ، (14409) ، كلاهما من مسند جابر بن عبد اللَّه، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.(9/122)
البخاري [ (1) ] في آخر الجهاد من حديث هيثم، أنبأنا حصين، عن سعد بن عبيدة، عن أبى عبد الرحمن- وكان عثمانيا فقال لابن عطية- وكان علويا-: إني لا أعلم ما الّذي جرأ صاحبك على الدماء، سمعته يقول: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والزبير فقال: ائتوا روضة كذا، وتجدون بها امرأة أعطاها حاطب كتابا، فأتينا الروضة فقلنا: الكتاب؟ فقالت: لم يعطني، قلنا لتخرجنه أو لأجردنك، فأخرجت من حجزتها، فأرسل الى حاطب فقال: لا تعجل، واللَّه ما كفرت، ولا ازددت للإسلام إلا حبا، ولم يكن أحد من أصحابك إلا وله بمكة من يدفع اللَّه به عن أهله وماله، ولم يكن لي أحد، فأحببت أن أتخذ عندهم يدا. فصدقه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: دعني أضرب عنقه، فإنه قد نافق، فقال: وما يدريك لعل اللَّه أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم، فهذا الّذي جرّأه.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 234، كتاب الجهاد والسير، باب (195) إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين اللَّه، وتجريدهن، حديث رقم (3081) .
قوله: «باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين اللَّه، وتجريدهن» أورد فيه حديث في قصة المرأة التي كتب معها حاطب إلى أهل مكة، ومناسبته للترجمة ظاهرة في رؤية الشعر، من قوله في الرواية الأخرى «فأخرجته من عقاصها» وهي ذوائبها المضفورة، وفي التجريد من قول علي «لأجردنك» وقد تقدم في «باب الجاسوس» من وجه آخر عن على، ويأتى شرحه في تفسير سورة الممتحنة. وقوله في الإسناد «عن أبي عبد الرحمن» هو السلمي.
وقوله «وكان عثمانيا» أي يقدم عثمان على عليّ في الفضل، وقوله «فقال لابن عطية» هو حبان بكسر المهملة وبالموحدة.
وقوله «وكان علويا» أي يقدم عليا في الفضل على عثمان وهو مذهب مشهور لجماعة من أهل السنة بالكوفة. قال ابن الأثير: ليس في الحديث بيان هل كانت المرأة مسلمة أو ذمية، لكن لما استوى حكمها في تحريم النظر لغير حاجة شملهما الدليل. وقال ابن التين: إن كانت مشركة لم توافق الترجمة، وأجيب بأنها كانت ذات عهد فحكمها حكم أهل الذمة.(9/123)
وخرجه [ (1) ] في كتاب استتابه المرتدين بأبسط من هذا، لفظه: فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت ما الّذي جرأ صاحبك على الدماء- يعني
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 12/ 375، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب (9) ما جاء في المتأولين، حديث رقم (6939) .
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة لا يعصم من الوقوع في الذنب لأن حاطبا دخل فيمن أوجب اللَّه لهم الجنة ووقع منه ما وقع.
وفيه تعقب على من تأول أن المراد بقوله: «اعملوا ما شئتم أنهم حفظوا من الوقوع في شيء من الذنوب.
وفيه الرد على من كفر مسلما بارتكاب الذنب، وعلى من جزم بتخليده في النار، وعلى من قطع بأنه لا بد وأن يعذب.
وفيه من وقع منه الخطأ لا ينبغي له أن يجحده بل يعترف ويعتذر لئلا يجمع بين ذنبين.
وفيه جواز التشديد في استخلاص الحق والتهديد بما لا يفعله المهدد تخويفا لمن يستخرج منه الحق.
وفيه هتك ستر الجاسوس، وقد استدل به من يرى قتله من المالكية لاستئذان عمر في قتله ولم يردّه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك إلا لكونه من أهل بدر، ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه، والمعروف عن مالك يجتهد فيه الإمام، وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه وقال الشافعية والأكثر: يعزر، وإن كان من أهل الهيئات يعفى عنه.
وفيه العفو عن زلة ذوى الهيئة. وأجاب الطبري عن قصة حاطب واحتجاج من احتج بأنه إنما صفح عنه لما أطلعه اللَّه عليه من صدقه في اعتذاره فلا يكون غيره كذلك.
قال القرطبي وهو ظن خطأ لأن أحكام اللَّه في عباده إنما تجرى على ما ظهر منهم، وقد أخبر اللَّه تعالى نبيه عن المنافقين الذين كانوا بحضرته ولم يبح له قتلهم مع ذلك لإظهارهم الإسلام، وكذلك الحكم في كل من أظهر الإسلام تجرى عليه أحكام الإسلام.
وفيه من أعلام النبوة اطلاع اللَّه نبيه على قصة حاطب مع المرأة كما تقدم بيانه من الروايات في ذلك.
وفيه إشارة الكبير على الإمام بما يظهر له من الرأى العائد نفعه على المسلمين ويتخير الإمام في ذلك. وفيه جواز العفو عن العاصي. -(9/124)
عليا- قال: ما هو لا أبا لك؟ قال: شيء سمعته يقول، قال: ما هو؟ قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والزبير وأبا مرثد- وكلنا فارس- قال:
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ- قال أبو سلمة: هكذا قال أبو عوانة خاخ- فإن امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين فأتوني بها. فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تسير على بعير لها، وكان إلى أهل مكة بمسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم. فقلنا: أين الكتاب الّذي معك؟ قالت: ما معى كتاب. فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئا. فقال صاحباي ما نرى معها كتابا، قال فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم حلف على: والّذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك. فأهوت إلى حجزتها- وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال عمر: يا رسول اللَّه، قد خان اللَّه ورسوله والمؤمنين، دعني فأضرب عنقه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول اللَّه، وما لي أن لا أكون مؤمنا باللَّه ورسوله، ولكنى أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها أهلي ومالي، وليس
__________
[ () ] وفيه أن العاصي لا حرمة له وقد أجمعوا على أن الأجنبية يحرم النظر إليها مؤمنة كانت أو كافرة ولولا أنها لعصيانها سقطت حرمتها ما هددها عليّ بتجريدها. قاله ابن بطال.
وفيه جواز غفران جميع الذنوب الجائزة الوقوع عمن شاء اللَّه خلافا لمن أبى ذلك من أهل البدع، وقد استشكلت إقامة الحد على مسطح بقذف عائشة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها كما تقدم مع أنه من أهل بدر فلم يسامح بما ارتكبه من الكبيرة وسومح حاطب، وعلل بكونه من أهل بدر، والجواب ما تقدم في «باب فضل من شهد بدرا» أن محل العفو عن البدري في الأمور التي لا حد فيها.
وفيه جواز غفران ما تأخر من الذنوب ويدل على ذلك الدعاء به في عدة أخبار.
وفيه تأدب عمر، وأنه لا ينبغي إقامة الحد والتأديب بحضرة الإمام إلا بعد استئذانه وفيه منقبة لعمر ولأهل بدر كلهم.
وفيه البكاء عند السرور ويحتمل أن يكون عمر بكى حينئذ لما لحقه من الخشوع والندم على ما قاله في حق حاطب.(9/125)
من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع اللَّه به عن أهله وماله. قال: صدق، لا تقولوا له إلا خيرا. قال فعاد عمر فقال: يا رسول اللَّه، قد خان اللَّه ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضرب عنقه قال: أو ليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل اللَّه اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكن الجنة،
فاغرورقت عيناه فقال: ورسوله أعلم، وهو مما أتفقا على إخراجه.
ولمسلم [ (1) ] من حديث الليث عن أبى الزبير، عن جابر، أن عبدا لحاطب جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يشكو] حاطبا، فقال: يا رسول اللَّه! ليدخلن حاطب النار، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدرا والحديبيّة.
وخرجه النسائي أيضا، ولمسلم [ (2) ] من حديث ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما يقول:
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 290، كتاب فضائل الصحابة، باب (36) من فضائل أهل بدر، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وقصة حاطب بن أبى بلتعة، حديث رقم (162) . وفيه فضيلة أهل بدر، والحديبيّة، وفضيلة حاطب لكونه منهم.
وفيه أن لفظة الكذب هي الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، كان الإخبار عن ماض، أو مستقبل، وخصته المعتزلة بالعمد، وهذا يرد عليهم، وسبقت المسألة في كتاب الإيمان، وقال بعض أهل اللغة: لا يستعمل الكذب إلا في الإخبار عن الماضي، بخلاف ما هو مستقبل، وهذا الحديث يرد عليهم، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (شرح النووي) .
[ (2) ]
(مسلم بشرح النووي) : 16/ 290، كتاب فضائل الصحابة، باب (37) من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، حديث رقم (163) .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يدخل النار إن شاء اللَّه من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها» ،
وقال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعا، كما صرح به في الحديث الّذي قبله- حديث حاطب- وإنما
قال: إن شاء اللَّه
للتبرك، لا للشك، وأما قول حفصة: بلى، وانتهار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لها فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وقد قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي-(9/126)
أخبرتنى أم مبشر، أنها سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول عن حفصة: لا يدخل النار إن شاء اللَّه من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول اللَّه! فانتهرها، فقالت حفصة: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [ (1) ] ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد قال اللَّه عز وجل: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [ (2) ] ، وخرجه [ (3) ] أبو بكر بن أبى شيبة والترمذي [ (4) ] بمعناه.
[وقال أبو بكر بن أبى شيبة [ (5) ] : حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيعة الرضوان، أبو سنان الأسدي] .
__________
[ () ] الَّذِينَ اتَّقَوْا، فيه دليل للمناظرة والاعتراض، والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة، لا أنها أرادت رد مقالته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
والصحيح أن المراد بالورود في الآية: المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم، فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون. (شرح النووي) .
[ (1) ] مريم: 71.
[ (2) ] مريم: 72.
[ (3) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 6/ 400- 401، كتاب الفضائل، باب (51) ما جاء في أهل بدر من الفضل، حديث رقم (32335) ، (32336) ، (32337) ، (32338) .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 5/ 652، كتاب المناقب، باب (58) في فضل من بايع تحت الشجرة، حديث رقم (3860) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[ (5) ] (مصنف ابن أبى شيبة) : 7/ 250، كتاب الأوائل، حديث رقم (35758) .(9/127)
وأما رفقاؤه النجباء
[فعلى [ (1) ] ، وأبناؤه [ (2) ] ، جعفر، أبو بكر [ (3) ] ، عثمان [ (4) ] ، عمر [ (5) ] ، أبو ذر [ (6) ] ، المقداد [ (7) ] ، وعمار بن ياسر، وبلال رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
__________
[ (1) ] هو: على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو الحسن القرشي، الهاشمي ابن عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أمه فاطمة بنت أسد بن هشام، مولده قبل البعثة بعشر سنين، على الصحيح.
وفاته: قتل في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة (40) ، رابع الخلفاء الراشدين وزوج فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ووالد الحسن والحسين، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم (أسماء الصحابة الرواة) : 44، ترجمة رقم (10) ، (الإصابة) : 4/ 269، (تهذيب التهذيب) : 7/ 334، (الأعلام) : 4/ 295.
[ (2) ] هما الحسن والحسين وقد سبقت لهما ترجمة وافية في أبناء بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] سبقت له ترجمة في أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] سبقت له ترجمة في أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (5) ] سبقت له ترجمة في أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (6) ] هو أبو ذر جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن سفار بن مليل بن ضمرة بن بكر ابن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة الغفاريّ هاجر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو أول من حيّا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم تحية الإسلام. (تاريخ الصحابة) : 60، ترجمة رقم (194) ، (الإصابة) : 4/ 62، (الثقات) : 3/ 55، (الطبقات ابن سعد) : 4/ 219.
[ (7) ] هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن سعد بن بهراء ابن لؤيّ بن ثعلبة بن مالك بن الشريد بن أبى أهون بن فائش بن دريم بن القين بن أهود بن بهراء ابن الحاف، مات آخر سنة ثلاثة وثلاثين، وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة، وصلّى عليه عثمان بن عفان وكان له يوم مات نحو سبعين سنة، وكان فارس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر.
(الاستيعاب) : 4/ 1480- 1483، ترجمة رقم (2561) .(9/128)
وسلمان [ (1) ] ، وحذيفة [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن مسعود [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] هو سلمان بن الإسلام وسلمان الخير وسلمان الفارسي، أبو عبد اللَّه، مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم توفى سنة (35) ، وكان قد سمع بأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سيبعث فخرج في طلب ذلك، فأسر وبيع بالمدينة فاشتغل بالرق، حتى كان أول مشاهده الخندق، وشهد فتوح العراق، وولى المدائن، وقال ابن عبد البر: يقال: إنه شهد بدرا، وكان عالما زاهدا، وروى عنه أنس، وكعب بن عجرة وغيرهم، (الإصابة) : 3/ 141، (أسماء الصحابة الرواة) : 74 ترجمة (54) .
[ (2) ] حذيفة بن اليمان، يكنى أبا عبد اللَّه، واسم اليمان حسيل بن جابر، واليمان لقب، وهو حذيفة بن حسل بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة ابن عبس العبسيّ القطيعي، من بنى عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، حليف لبني عبد الأشهل من الأنصار.
وأمه امرأة من الأنصار من الأوس من بنى عبد الأشهل، واسمها الرباب بنت كعب بن عدي بن عبد الأشهل، وإنما قيل لأبيه: حسيل اليمان، لأنه من ولد اليمان جروة ابن الحارث ابن قطيعة بن عبس، وكان جروة بن الحارث أيضا يقال له: اليمان، لأنه أصاب في قومه دما فهرب إلى المدينة، فخالف بنى عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان، لأنه حالف اليمانية.
شهد حذيفة وأبوه حسيل وأخوه صفوان أحدا، وقتل أباه يومئذ بعض المسلمين وهو يحسبه من المشركين.
كان حذيفة من كبار أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو الّذي بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الخندق ينظر إلى قريش، فجاءه بخبر رحيلهم، وكان عمر بن الخطب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر، وكان حذيفة يقول: خيرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الهجرة والنصرة. فاخترت النصرة، وهو حليف للأنصار لبني عبد الأشهل. وشهد حذيفة نهاوند فلما، قتل النعمان بن مقرن أخذ الراية، وكان فتح همذان والري والدينور على يد حذيفة، وكانت فتوحه كلها سنة اثنتين وعشرين.
ومات حذيفة سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان في أول خلافة على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وقيل: توفى سنة خمس وثلاثين، والأول أصح، وكان موته بعد أن أتى نعى عثمان إلى الكوفة ولم يدرك الجمل.
وقتل صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصفين، وكانا قد بايعا عليا بوصية أبيهما إياهما بذلك. سئل حذيفة أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تركت.
وقال حذيفة: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها.
[ (3) ] هو عبد اللَّه بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمع بن فار بن مخزوم بن(9/129)
وأما أهل الفتيا من أصحابه رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم
[قال ابن سيده: أفتاه في الأمر، أبانه له والفتيا، والفتوى: ما أفتى به الفقيه] .
روى: عكرمة بن خالد، عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى [عنهما] ، أنه سئل عن من كان يفتى زمن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال:
أبو بكر وعمر، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، لا أعلم غيرهما.
وقال القاسم بن محمد: كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، يفتون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وروى موسى بن ميسرة، عن محمد بن سهيل بن أبى خيثمة، عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثلاثة من المهاجرين، عمر، عثمان، وعلى، رضى اللَّه تبارك وتعالى تعالى عنهم، وثلاثة من الأنصار: أبى بن كعب [ (1) ] ،
__________
[ () ] بن تيم بن سعد بن هذيل أبو عبد الرحمن الهذلي، حليف بنى زهرة، توفى سنة (32) ، وقيل:
(33) ،
قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أول الإسلام: إنك غلام معلم،
وقال هو: لقد رأيتني سادس ستة وما على الأرض مسلم غيرنا، وكان يقول أخذت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبعين سورة.
وهو أول من جهر بالقرآن بمكة، (أسماء الصحابة الرواة) : 42، ترجمة (8) ، (تاريخ الصحابة) : 148، ترجمة (716) .
[ (1) ] هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك النجار أبو المنذر أبو الطفيل، سيد القراء، سيد المسلمين، الأنصاري، النجاري، الخزرجي، المعاوي، مات سنة-(9/130)
ومعاذ بن جبل [ (1) ] ، وزيد بن ثابت [ (2) ] ، رضي اللَّه تعالى عنهم، ذكره ابن [سعد في (الطبقات) ] .
صاهلة بن الحارث [وذكر أبو محمد بن حزم أن كل من روى عنه ولو مسألة واحدة فأكثر من الصحابة رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم، لم يبلغوا مائة وأربعين، منهم سبعة مكثرون، وثلاثة عشر متوسطون، وسائرهم مقلون جدا، لا يجتمع من جميع فتياهم كلهم، إلا جزء صغير، لا يبلغ عشرة أوراق، إلى عمر، وعلى، وعبد اللَّه، ومعاذ، وأبى الدرداء، وزيد بن ثابت، فشاممت هؤلاء الستة، فوجدت علمهم انتهى إلى عليّ، وعبد اللَّه] .
[وعن زهير بن معاوية، أخبرنا جابر، عن عامر قال: كان هؤلاء الأمة بعد نبيها صلّى اللَّه عليه وسلّم ستة: عمر، وعبد اللَّه، وزيد بن ثابت، فإذا قال عمر قولا وقال هذان قولا، كان قولهما لقوله تبعا- وعليّ، وأبى بن كعب، وأبو
__________
[ () ] [22] في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عثمان، كان من أصحاب العقبة الثانية وشهد بدرا والمشاهد، قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن اللَّه قد أمرنى أن أقرأ عليك" وكان عمر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه يسميه سيد المسلمين وهو أول من كتب للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، (أسماء الصحابة الرواة) : 45، ترجمة (25) .
[ (1) ] هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن على بن أسد بن ساردة، أبو عبد الرحمن، الخزرجي، الأنصاري، ثم الجشمي، توفى في طاعون عمواس سنة (18) ، وله (38) سنة، وقيل غير ذلك وهو صاحبي مشهور بالعلم من صحابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وروى عنه من الصحابة عمر وابنه عبد اللَّه وأنس بن مالك وغيرهم، (أسماء الصحابة الرواة) 55، ترجمة (27) ، (الإصابة) : 6/ 136، (الاستيعاب) : 3/ 1402، (الثقات) : 3/ 368.
[ (2) ] هو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد، استصغر يوم بدر، ويقال: أنه شهد أحدا، وكانت معه راية بنى النجار يوم تبوك، وكتب الوحي للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان من علماء الصحابة وكان هو الّذي قسم غنائم اليرموك، وهو الّذي جمع القرآن في عهد أبى بكر،
ثبت ذلك في الصحيح، عن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليّ أو ينقصوا،
فتعلم السريانية فتعلمتها في (17) يوم، مات سنة (142) ، وقيل غير ذلك، (الإصابة) : 2/ 594.(9/131)
موسى الأشعري [ (1) ] ، فإذا قال عليّ قولا، وقال هذان قولا، كان قولهما لقوله تبعا] .
[وعن مطرف [ (2) ] قال: حدثني عامر عن مسروق، قال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: عمر، وعلى، وابن مسعود، وزيد، وأبيّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري.]
[وعن عامر الشعبي [ (3) ] قال: قضاة هذه الأمة أربعة: عمر، وعلى، وزيد، وأبو موسى الأشعري، ووصاة هذه الأمة أربعة: عمرو بن
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن قيس بن سليم بن حصار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عزب ابن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، توفى سنة (42 أو 44) وله (63) ، هو صحابى مشهور كان حسن الصوت بالقرآن وله رواية صلّى اللَّه عليه وسلّم كثيرة (أسماء الصحابة الرواة) : 46، ترجمة (13) ، (الإصابة) : 4/ 119، (الاستيعاب) : 4/ 1762. (تجريد أسماء الصحابة) :
2/ 206، (الأنساب) 1/ 266، (تهذيب التهذيب) : 12/ 251.
[ (2) ] (مجمع الزوائد) : 9/ 312.
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 527، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر مناقب أبى موسى عبد اللَّه بن قيس الأشعري، رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (5959) ، ولفظه: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الأحمسي، أخبرنا الحسين بن عبيد اللَّه، أخبرنا أبو غسان، حدثنا عباد، عن الشيباني، سمعت الشعبي يقول: القضاء في ستة نفر من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثلاثة بالمدينة، وثلاثة بالكوفة: فبالمدينة: عمر، وأبىّ، وزيد بن ثابت، وبالكوفة:
على، وعبد اللَّه، وأبو موسى.
قال الشيباني: فقلت للشعبى: أبو موسى يضاف إليهم؟ قال: كان أحد الفقهاء. فحدثنيه أبو عبد اللَّه محمد بن العباس بن أحمد. حذفه الذهبي من (التلخيص) .
وحديث رقم (5960) ولفظه: حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق قال:
انتهى علم أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى هؤلاء النفر: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبىّ بن كعب ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبى الدرداء، وأبى موسى الأشعري. -(9/132)
العاص [ (1) ] ، ومعاوية بن أبى سفيان [ (2) ] ، والمغيرة بن شعبة [ (3) ] ، وزياد [ (4) ]] .
[وعن زياد بن مينا، كان ابن عباس [ (5) ] ، ابن عمر [ (6) ] ، أبو سعيد
__________
[ () ] قال مسروق: القضاة أربعة: عمر، وعلى، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم. هذا الحديث سكت عنه الذهبي في التلخيص.
[ (1) ] ذكرناه باستفاضة سابقا.
[ (2) ] هو معاوية بن أبى سفيان صخر بن أمية بن عبد شمس، روى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن أبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ولاه عمر بن الخطاب الشام فأقره عثمان مدة ولايته ثم ولى الخلافة، قال ابن أسد: كان أميرا عشرين سنة وخليفة عشرين سنة وقال يحيي ابن بكير عن الليث: توفى في رجب سنة (60) ، وقيل مات وله (86) سنة على خلاف بين المؤرخين، (تهذيب التهذيب) : 10/ 186، (الإصابة) : 6/ 151.
[ (3) ] هو المغيرة بن شعبة بن أبى عامر بن مسعود بن معتب، أبو عبد اللَّه وقيل: أبو عيسى الثقفي، توفى بالكوفة سنة (50) ، قال ابن الأثير: أسلم عام الخندق وشهد الحديبيّة وله في صلحها كلام مع عروة بن مسعود، وكان موصوفا بالدهاء، (أسماء الصحابة الرواة) : 58 ترجمة (31) ، (الإصابة) : 6/ 131، (الثقات) : 3/ 382 (الاستيعاب) : 4/ 1445 (تهذيب التهذيب) : 10/ 262.
[ (4) ] لعله زياد بن حنظلة التيمي، حليف بنى عدي، قال أبو عمر: بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الزبرقان ابن بدر، وقيس بن عاصم ليتعاونا على قتل مسيلمة، ثم عاش زياد إلى أن شهد مع عليّ مشاهده، وذكر سيف في (الفتوح) ، عن أبى الزهراء القشيري، عن رجال من بنى قشير قالوا: لما خرج هرقل من الرها كان أول من أنبح كلابها زياد بن حنظلة، وكان من الصحابة، (الإصابة) : 2/ 583.
[ (5) ] سبقت له ترجمة وافية.
[ (6) ] هو عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن غالب العدوي كنيته أبو عبد الرحمن عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد وهو ابن (14) سنة فلم يجزه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يره بلغ، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن (15) سنة فأجازه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومات سنة (72) بمكة وهو ابن (87) ، ودفن بفخ وكان ابن عمر يصفر لحيته، (الإصابة) : 4/ 181، (الثقات) : 3/ 209، (تهذيب التهذيب) : 5/ 278. -(9/133)
الخدريّ [ (1) ] ، أبو هريرة [ (2) ] ، عبد اللَّه بن عمرو بن العاص [ (3) ] ، جابر بن عبد اللَّه [ (4) ] ، رافع بن خديج [ (5) ] ، وسلمة بن
__________
[ (1) ] هو سعد بن مالك بن سنان بن الحارث بن الخزرج الخدريّ الأنصاري، توفى سنة (74) كان من الحفاظ لحديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المكثرين، ومن العلماء الفضلاء العقلاء، روى عن أبى سعيد قال: «عرضت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الخندق وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبى يأخذ بيدي ويقول يا رسول اللَّه إنه عبل العظام [أي ضخم العظام] ، فردني. (أسماء الصحابة الرواة) : 42، ترجمة (7) ، (الإصابة) : 7/ 84.
[ (2) ] سبقت له ترجمة.
[ (3) ] هو عبد اللَّه بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب بن لؤيّ أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن القرشي توفى سنة (63) تقريبا أسلم قبل أبيه وكان من فضلاء الصحابة عالما بالقرآن والكتب المتقدمة، وكان من أشهر حفاظهم.
(الإصابة) : 4/ 111، (أسماء الصحابة الرواة) : 42، ترجمة (9) ، (تهذيب التهذيب) :
5/ 337 (الثقات) : 3/ 211.
[ (4) ] هو جابر بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عبد اللَّه. وقيل:
أبو عبد الرحمن الأنصاري السلمي، أمه نسيبة بنت عقبة بن عدي بن سنان، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صبي، توفى سنة (74) تقريبا وعمره (93) سنة، ومن فضائله قال: استغفر لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة البعير خمسا وعشرين مرة، يعنى بقوله: ليلة البعير، أنه باع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعيرا واشترط ظهره إلى المدينة وكان في غزوة لهم. (أسماء الصحابة الرواة) : 41، ترجمة (6) ، (الإصابة) : 1/ 222، (تهذيب التهذيب) : 2/ 42.
[ (5) ] هو رافع بن خديج بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، أبو عبد اللَّه، أبو خديج، الأنصاري، الأوسي، الحارثي، أمه حليمة بنت مسعود بن سنان، عرض نفسه يوم بدر على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرضه لصغره، ثم أجازه يوم أحد فشهد أحدا وأصيب بها، ثم الخندق وأكثر المشاهد، وشهد صفين مع عليّ، واستوطن بالمدينة، وكان عريف قومه إلى أن مات بها وصلّى عليه ابن عمر. توفى سنة (74) ، وله (68) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 67، ترجمة (43) ، (الإصابة) : 2/ 186. -(9/134)
الأكوع [ (1) ] ، وأبو واقد الليثي [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن بحينة [ (3) ] ، مع أشباه لهم، من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يفتون بالمدينة، ويحدثون عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من لدن توفى عثمان إلى أن توفوا، والذين صارت إليهم الفتوى منهم: ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وجابر بن عبد اللَّه] .
[وقال أبو محمد [بن] حزم: وقد غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هوازن بحنين، في اثنى عشر ألفا، كلهم يقع عليه اسم الصحبة، ثم غزا تبوك في أكثر من ذلك، ووفد عليه وفود جميع قبائل العرب، وكلهم صاحب، وعددهم بلا شك يبلغ أزيد من ثلاثين ألف إنسان، ووفد عليه أيضا وفود الجن فأسلموا، وصح لهم اسم الصحبة، وأخذوا عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، القرآن وشرائع الإسلام، وكل من ذكرنا ممن لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذ عنه، فكل امرئ منهم إنسهم وجنهم، فبلا شك أنه أفتى أهله وجيرانه وقومه، هذا أمر يعلم ضرورة] .
__________
[ (1) ] هو سلمة بن الأكوع، أول مشاهده الحديبيّة، وكان من الشجعان، ويسبق الفرس عدوا بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند الشجرة على الموت، روى عنه ابنه إياس وغيره، مات سنة (74) وله (80) سنة، وذلك في آخر خلافة معاوية كما قال ابن سعد، (الإصابة) : 3/ 151، (تهذيب التهذيب) : 4/ 133.
[ (2) ] هو الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث بن أسيد بن جابر بن عبد مناة بن أشجع ابن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن على بن كنانة، أبو واقد الليثي الكناني، توفى سنة (68) ، وله (75) أو (85) سنة، وقيل: إنه شهد بدرا وقيل: لم يشهدها، وكان معه لواء بنى ضمرة وبنى ليث وبنى سعيد بن بكر بن عبد مناة يوم الفتح وقيل: إنه من مسلمة الفتح، والصحيح أنه شهد الفتح مسلما، يعد في أهل المدينة، وشهد اليرموك، وجاور بمكة سنة، ومات بها، ودفن في مقبرة المهاجرين بفخ سنة ثمان وستين. (أسماء الصحابة الرواة) : 113 ترجمة (109) ، (الإصابة) 7/ 455.
[ (3) ] هو عبد اللَّه ابن بحينة وهي أمه بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، ويكنى أبا محمد، وأبوه مالك بن القشب الأزدي، ممن أزد شنوءة، كان حليفا لبني المطلب بن عبد مناف وكان ابن بحينة ناسكا فاضلا صائم الدهر ومات في عهد معاوية، (الاستيعاب) :
3/ 871.(9/135)
[ثم لم ترو الفتيا في العبادات والأحكام، إلا عن مائة ونيف وثلاثين [أو] أربعين منهم فقط، من رجل وامرأة، بعد [التدقيق] الشديد، قال المكثرون فيما روى عنهم من الفتيا: عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد اللَّه، على بن أبى طالب، عبد اللَّه بن العباس، عبد اللَّه بن مسعود زيد بن ثابت رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فهم سبعة فقط، يمكن أن يجمع من في كل واحد منهم سفر ضخم] .
[وقد جمع أبو محمد بن موسى بن أمير المؤمنين المأمورية، في عبد اللَّه بن العباس رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما، في عشرين كتابا، وأبو بكر المذكور، أحد الأئمة في العلم والحديث] .
[والمتوسطون منهم في ما روى عنهم من الفتيا: أم سلمة [ (1) ] أم المؤمنين، أنس بن مالك [ (2) ] ، أبو سعيد الخدريّ، أبو هريرة، عثمان بن عفان، عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، عبد اللَّه بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبى وقاص [ (3) ] ،
و
__________
[ (1) ] سبقت لها ترجمته في أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] سبقت لها ترجمة وافية.
[ (3) ] سعد بن أبى وقاص، واسم أبى وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤيّ. الأمير أبو إسحاق القرشيّ الزهرىّ المكىّ. أحد العشرة، وأحد السابقين الأولين، وأحد من شهد بدرا والحديبيّة، وأحد الستة أهل الشورى.
روى جملة صالحة من الحديث، وله في «الصحيحين» خمسة عشر حديثا، وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث، ومسلم بثمانية عشر حديثا.
عن سعيد بن المسيب، سمعت سعدا يقول: ما أسلم أحد في اليوم الّذي أسلمت، ولقد مكثت سبع ليالي وإني لثلث الإسلام.
عن قيس قال: قال سعد بن مالك: ما جمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبويه لأحد قبلي، ولقد رأيته ليقول لي: يا سعد، ارم، فداك أبى وأمى! وإني لأول المسلمين رمى المشركين بسهم. ولقد رأيتني مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ثم أصبحت بنو أسد تعزرنى على الإسلام، لقد خبت إذن وضل سعيي. -(9/136)
سلمان الفارسي [ (1) ] ، وجابر بن عبد اللَّه، ومعاذ بن جبل، وأبو بكر الصديق، فهم ثلاثة عشر فقط، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، يمكن أن يجمع من في كل امرئ منهم جزء صغير، ويضاف إليهم أيضا: طلحة [ (2) ] ، الزبير [ (3) ] ، عبد الرحمن بن
__________
[ () ] قال ابن المسيب: كان جيد الرمي، سمعته يقول: جمع لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبويه يوم أحد.
عن أبى عثمان أن سعدا قال: نزلت هذه الآية فىّ: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما. [العنكبوت: 8] .
قال: كنت برا بأمي، فلما أسلمت، قالت: يا سعد! ما هذا الدين الّذي قد أحدثت؟
لتدعن دينك هذا، أو لا آكل، ولا أشرب حتى أموت، فتعيّر بى، فيقال: يا قاتل أمه، قلت:
لا تفعلي يا أمه، إني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوما لا تأكل ولا تشرب وليلة، وأصبحت وقد جهدت، فلما رأيت ذلك، قلت: يا أمه! تعلمين واللَّه لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، إن شئت فكلي أو لا تأكلى، فلما رأت ذلك، أكلت.
ومن مناقب سعد أن فتح العراق كان على يديه، وهو كان مقدم الجيوش يوم وقعة القادسية، ونصر اللَّه دينه، ونزل سعد بالمدائن، ثم كان أمير الناس يوم جلولاء، فكان النصر على يده، واستأصل اللَّه الأكاسرة.
قال خليفة بن خياط: وفي سنة خمس عشرة وقعة القادسية، وعلى المسلمين سعد، وفي سنة إحدى وعشرين شكا أهل الكوفة سعدا أميرهم إلى عمر، فعزله.
قال الزهرىّ: لما استخلف عثمان، عزل عن الكوفة المغيرة، وأمّر عليها سعدا. النعمان ابن راشد عن الزهري، عن عامر بن سعد قال: كان سعد آخر المهاجرين وفاة.
قال المدائنيّ، وأبو عبيدة، وجماعة: توفى سنة خمس وخمسين.
وقع له في (مسند بقي بن مخلد) مائتان وسبعون حديثا، فمن ذاك في الصحيح ثمانية وثلاثون حديثا. (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 15- 16، ترجمة رقم (5) .
[ (1) ] سبقت ترجمته.
[ (2) ] هو طلحة بن عبد اللَّه بن عثمان بن عمرو بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ من الستة الأوائل في الإسلام توفى سنة خمس وخمسين، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة (سير أعلام النبلاء) : 1/ 24.
[ (3) ] هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي، قتل بعد منصرفه يوم(9/137)
عوف [ (1) ] ، عمران بن الحصين [ (2) ] ، أبو بكرة [ (3) ] ، عبادة بن الصامت [ (4) ] ، معاوية ابن أبى سفيان] .
__________
[ () ] الجمل في جمادى الأول سنة (36) ، وله (66 أو 67) ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى، (أسماء الصحابة الرواة) : 95 ترجمة (82) ، (الإصابة) :
3/ 5، (تهذيب التهذيب) : 3/ 318، (المصباح المضيء) : 1/ 114.
[ (1) ] هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشيّ الزهرىّ توفى سنة (31) ، بالمدينة من مشاهير الصحابة وأحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى الذين أوصى إليهم عمر بعده وأحد الثمانية الذين أسلموا على يدي أبى بكر الصديق وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى خلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(أسماء الصحابة الرواة) : 72، ترجمة (51) .
[ (2) ] هو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم بن حذيفة بن جهمة بن غاضرة بن حبشة ابن كعب الخزاعىّ الكعبيّ، توفى سنة (52 أو 53) ، روى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عدة أحاديث، وكان إسلامه عام خيبر، وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وكان مجاب الدعوة، ولم يشهد الفتنة. (أسماء الصحابة الرواة) : 52 ترجمة (21) ، (الإصابة) :
5/ 26، (تهذيب التهذيب) : 8/ 125، (الاستيعاب) : 3/ 1208.
[ (3) ] هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن عوف بن ثقيف الثقفيّ، توفى سنة (51 أو 52) ، هو ممن نزل يوم الطائف إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من حصن الطائف في بكرة [الفتى من الإبل] وكنى أبا بكرة وأعتقه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو معدود من مواليه، أبو بكرة يقول: أنى من إخوانكم في الدين، وأنا مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإن أبى الناس إلا أن ينسبونى، فأنا نفيع بن مسروح.
(أسماء الصحابة الرواة) : 59 ترجمة (32) ، (الإصابة) : 7/ 22، (تهذيب التهذيب) :
12/ 46.
[ (4) ] عبادة بن الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمر بن عوف بن الخزرج أبو الوليد الأنصاري، الخزرجي. أمه: قرة العين بنت عبادة بن نضلة بن العجلان، توفى سنة 34 بالرملة، ومن مناقبه: نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] لما تبرأ من حلفه مع بنى-(9/138)
[والباقون منهم رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم مقلون في الفتيا جدا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك فقط، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث: أبو الدرداء [ (1) ] ، أبو اليسر [ (2) ] ، أبو سلمة المخزومي [ (3) ] ، أبو عبيدة ابن الجراح [ (4) ] ، سعيد
__________
[ () ] قينقاع لما خانوا المسلمين في غزوة الخندق. (أسماء الصحابة الرواة) : 51، ترجمة (20) ، (الإصابة) : 4/ 27، (تهذيب التهذيب) : 5/ 111، (الاستيعاب) : 2/ 807.
[ (1) ] هو عويمر بن عامر بن مالك بن زيد بن قيس بن عامر بن على بن عدىّ بن كعب بن الخزرج ولقبه أبو الدرداء، توفى قبل مقتل عثمان بسنتين، تأخر إسلامه قليلا كان آخر أهل داره إسلاما، وحسن إسلامه وكان فقيها عاقلا حكيما، آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين سلمان الفارسي
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «عويمر حكيم أمتى» ،
شهد ما بعد أحد من المشاهد، (أسماء الصحابة الرواة) : 52، ترجمة (22) (الإصابة) : 7/ 58.
[ (2) ] هو كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي، أمه نسيبة بنت الأزهر من بنى سلمة أيضا، توفى بالمدينة سنة (55) ، شهد العقبة وبدرا، وكان عظيم الغناء يوم بدر وغيره، وهو الّذي أسر العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو الّذي انتزع راية المشركين يوم بدر وكانت بيد أبى عزيز بن عمير، ثم شهد المشاهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم شهد صفين مع على بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه. (أسماء الصحابة الرواة) : 153 ترجمة رقم: (174) ، (الإصابة) :
7/ 218.
[ (3) ] هو أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أخو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، وزوج أم المؤمنين أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، بعد وفاة أبى سلمة، مات سنة أربع وقيل سنة ثلاث، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 150.
[ (4) ] هو عامر بن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك ابن النضر القرشي الفهري، وقيل: اسمه عبد اللَّه بن عامر والأول أصح أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، توفى في طاعون عمواس سنة (18) ، وقيل: سنة (25) أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وشهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهاجر إلى الحبشة-(9/139)
بن زيد [ (1) ] ، الحسن، الحسين ابنا عليّ، والنعمان بن بشير [ (2) ] ، وأبو مسعود [ (3) ] ، وأبىّ بن كعب [ (4) ] ، وأبو أيوب [ (5) ] ، وأبو طلحة [ (6) ] ، وأبو ذر [ (7) ] ، وأم عطية [ (8) ] ، وصفية أم المؤمنين، وحفصة أم المؤمنين،
__________
[ () ] الهجرة الثانية، (أسماء الصحابة الرواة) : 139 ترجمة (148) ، (الإصابة) : 7/ 128، (تهذيب التهذيب) : 12/ 159.
[ (1) ] هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ابن لؤيّ بن غالب، أبو الأعور القرشيّ العدوىّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن السابقين الأولين البدريين، ومن الذين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم ورضوا عنه.
شهد المشاهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وشهد حصار دمشق وفتحها، فؤلاه عليها أبو عبيدة بن الجراح، فهو أول من عمل نيابة دمشق من هذه الأمة.
توفى سنة (50) وقيل غير ذلك بالعقيق، وقيل بالكوفة، وصلّى عليه المغيرة بن شعبة وعاش (73) وكان إسلامه قبل دخول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دار الأرقم.
روى عنه بعض الصحابة مثل: ابن عمر، وعمر بن حريث، وأبو الطفيل، ومن كبار التابعين: أبو عثمان النهدي، وابن المسيب، وقيس بن أبى حازم. وغيرهم.
قال ابن حجر في (الإصابة) : وذكر عروة وابن إسحاق وغيرهم في (المغازي) أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرب له بسهمه يوم بدر لأنه كان غائبا بالشام. (أسماء الصحابة الرواة) :
82، ترجمة رقم (64) ، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 124- 143، ترجمة رقم (6) .
[ (2) ] هو النعمان بن بشير بن سعيد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب، أبو عبد اللَّه الأنصاريّ، الخزرجي ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهرا، وكان أول مولود في الإسلام من الأنصار وهو صحابىّ مشهور، ولا يصحح بعض أهل الحديث سماعة، وكان شاعرا كريما جوادا، أمه عمرة بنت روحة، أخت عبد اللَّه بن رواحة، توفى سنة (65) .
(أسماء الصحابة الرواة) : 62، ترجمة (36) ، (الثقات) : 3/ 409.
[ (3) ] هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة (يسيرة) أبو مسعود الأنصاري البدري، توفى سنة (41 أو 42) ، وهو المعروف بالبدريّ لأنه سكن أو نزل ماء بدر وشهد العقبة ولم يشهد بدرا عند أكثر أهل السير وقيل: شهدها ثم أورد له حديثا في الأحق بالإمامة. (أسماء الصحابة الرواة) : 63 ترجمة (37) (الإصابة) : 7/ 276، (تهذيب التهذيب) : 12/ 159. -(9/140)
__________
[ () ] (3) هو أبىّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أبو المنذر، أبو الطفيل، سيد القراء، سيد المسلمين، الأنصاريّ، النجارىّ، الخزرجىّ، المعاويّ، من فضائله: كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد، روى عنه من الصحابة عمر وكان يسأله عن النوازل، ويتحاكم إليه في المعضلات، وأبو أيوب، وعباده بن الصامت، وسهل بن سعد، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وسليمان بن صرد، وغيرهم، أمه صهيلة بنت الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد، مات سنة (22) ، في خلفة عمرو، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان. (أسماء الصحابة الرواة) : 54، ترجمة رقم (25) .
(الثقات) : 3/ 5.
[ (4) ] هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن الخزرج أبو أيوب الأنصاري، معروف باسمه وكنيته، أمه هند بنت سعيد بن عمرو، من بنى الحارث ابن الخزرج من السابقين، نزل عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم المدينة ومات في زمن معاوية سنة (52) ، وقال لهم إذا أنا مت فقدموني في بلاد العدو ما استطعتم ثم ادفنوني فمات وكان المسلمون على حصار القسطنطينية فقدموه حتى دفن إلى جانب حائط القسطنطينية، (تاريخ الصحابة) : 86 ترجمة (350) ، (الإصابة) : 2/ 234- 235، ترجمة رقم (2165) .
[ (5) ] هو زيد بن سهيل بن الأسود بن حرام أبو طلحة الأنصاريّ النجارىّ، توفى سنة (34) وله (70) سنة، وهو عقبىّ بدريّ نقيب آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين أبى عبيدة بن الجراح وشهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان من الرماة المذكورين وكان له يوم أحد مقام مشهود وكان يقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفسه وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «صوت أبى طلحة في الجيش خير من مائة رجل» ، أمه عبادة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، قتل يوم حنين عشرين رجلا وأخذ أسلابهم. وكان لا يخض. كانت تحته أم سلمة بنت ملحان، وعقبة منها، اختلف في وفاته فقيل: توفى سنة (31) ، وقيل: (34) ، وهو بن (70) سنة، وصلّى عليه عثمان بن عفان، وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني، وعلى بن زيد، عن أنس أن أبا طلحة سرد الصوم بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم (40) سنة، وأنه ركب البحر فمات فدفن في جزيرة. وقال المدائني: مات أبو طلحة سنة (51) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 110، ترجمة (104) ، (الإصابة) : 7/ 231، (الاستيعاب) : 4/ 1697- 1699.
[ (6) ] سبقت له ترجمة.(9/141)
وأم حبيبة أم المؤمنين، وأسامة بن زيد [ (1) ] ، وجعفر بن أبى طالب [ (2) ] ، والبراء بن عازب [ (3) ] ، وقرظة بن كعب [ (4) ] ، وأبو عبد اللَّه البصري [ (5) ] ، ونافع [ (6) ] أخوه لأمه، والمقداد بن الأسود [ (7) ] ، وأبو السائل بن بعكك [ (8) ] ،
__________
[ () ] (7) هي نسيبة بنت الحارث وقيل بنت كعب الأنصارية، وأنكره عمر لأن نسيبة بنت كعب أم عمارة، روت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن عمر، وروى عنه أنس وغيره، وحديثها في غسل آنية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مشهور في الصحيح، وكان جماعة من علماء التابعين يأخذون ذلك الحكم، (أسماء الصحابة الرواة) : 93 ترجمة (79) ، (الإصابة) : 8/ 259.
[ (8) ] سبقت لهن ترجمة في أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] هو أسامة بن زيد بن شرحبيل بن امرئ القيس بن عوف بن كنانة بن بكر أمه أم أيمن حاضنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم توفى في آخر خلافة معاوية،
روى ابن عمر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أسامة بن زيد لأحب إليّ أو من أحب الناس إليّ وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خبرا» ، (أسماء الصحابة الرواة) : 60 ترجمة (33) ، (الإصابة) : 1/ 29، (تهذيب التهذيب) : 10/ 208.
[ (2) ] هو جعفر بن أبى طالب بن هاشم ابن عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام،
وقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أشبهت خلقي وخلقي» ،
وقالت عائشة «لما أتت وفاة جعفر عرفنا في وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحزن، توفى سنة (89) وله (40) سنة، (الإصابة) : 1/ 485.
[ (3) ] هو البراء بن عازب بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري توفى سنة (72) ، رده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن بدر، استصغره. وأول مشاهده أحد وقيل: الخندق وغزا مع رسول اللَّه (14) غزوة وهو الّذي افتتح الري سنة (24) صلحا أو عنوة، نزل الكوفة وابتنى له دارا، (أسماء الصحابة الرواة) : 46 ترجمة (14) ، (الإصابة) : 1/ 147.
[ (4) ] قرظة بن كعب بن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث الأنصاري الخزرجي له صحبة سكن الكوفة كنيته أبو عمرو، حديثه عند الشعبي، مات في خلافة على بن أبى طالب.
[ (5) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (6) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.(9/142)
والجارود العبديّ [ (1) ] ، وليلى بنت قائف [ (2) ] ، وأبو محذورة [ (3) ] ، وأبو شريح الكعبي [ (4) ] ، وأبو برزة الأسلمي [ (5) ] ، وأسماء بنت أبى بكر [ (6) ] ، وأم شريك [ (7) ] ،
__________
[ () ] (7) هو المقداد بن عمرو الأسود الكندي بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود شهرته:
المقداد بن الأسود الكندي، توفى سنة (33) ، في خلافة عثمان وله (70) سنة، أسلم قديما وتزوج ابنة عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم (أسماء الصحابة الرواة) : 89، ترجمة (749) ، (الثقات) : 3/ 371، (الإصابة) :
6/ 133، (تهذيب التهذيب) : 10/ 285
[ (8) ] هو أبو السنابل بن بعكك بموحدة ثم مهملة ثم كافين بوزن بوزن جعفر بن الحارث بن عميلة بفتح أوله ابن السباق بن عبد الدار القرشيّ البدريّ اسمه صبّة، قال البغوي: سكن الكوفة، قال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. (الإصابة) : 7/ 190.
[ (1) ] الجارود بن عمرو بن المعلّى العبديّ، وقيل عنه أسماء كثيرة، وفد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سنة (10) من وفد عبد القيس فأسلم وكان نصرانيا ففرح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بإسلامه فأكرمه وقرّبه، روى عنه من الصحابة: عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. (أسماء الصحابة الرواة) : 247 ترجمة (347) ، (الإصابة) : 1/ 226، (تهذيب التهذيب) : 2/ 53.
[ (2) ] هي ليلى بنت قائف الثقفية، ذكر أنها قالت: كنت ممن شهد غسل أم كلثوم بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأول ما أعطانى من كفنها الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الإذخر إدراجا. (أسماء الصحابة الرواة) : 539 ترجمة (985) ، (الإصابة) : 8/ 182، (تهذيب التهذيب) : 2/ 53.
[ (3) ] هو أبو محذورة المؤذن الجمحيّ كان مؤذن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان رسول اللَّه قد سمعه يحكى الأذان فأعجبه صوته فأمر أن يؤتى به فأسلم يومئذ وأمره بالأذان بمكة منصرفه من حنين، وقال الكلبي: لم يهاجر أبو محذورة، بل أقام بمكة إلا أن مات بعد موت سمرة بن جندب، وقال غيره مات سنة (59) ، وقيل سنة (79) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 161 ترجمة (188) ، (الإصابة) : 7/ 172.
[ (4) ] هو أبو شريح الخزاعىّ الكعبيّ توفى سنة (68) ، أسلم قبل فتح مكة وكان يحمل أحد ألوية بنى كعب بن خزاعة يوم الفتح من عقلاء الرجال وكان يقول إذا رأيتموني أبلغ من أنكحته أو(9/143)
والحولاء [ (1) ] بنت تويت، وأسيد بن الحضير [ (2) ] ، والضحاك بن قيس [ (3) ] ، وحبيب ابن مسلمة [ (4) ] ، و [حبيب بن أوس] [ (5) ] ، وحذيفة بن اليمان [ (6) ] ، وثمامة بن أثال [ (7) ]
__________
[ () ] أنكحت إليه إلى السلطان فاعلموا أنى مجنون، ومن وجد لأبى شريح سمنا أو لبنا أو جداية فهو له حل فليأكله وليشربه، (أسماء الصحابة الرواة) : (122) .
[ (5) ] هو أبو برزة الأسلمي قال الواقدي: زعم ولده أن اسمه عبد اللَّه وهو نضلة بن عبيد اللَّه بن الحارث بن حبال بن أنس بن خزيمة بن مالك نزل البصرة وله بها دار وسار إلى خراسان فنزل مرو وعاد إلى البصرة (أسماء الصحابة الرواة) : 121 ترجمة (121) ، (الإصابة) :
6/ 237، (تهذيب التهذيب) : 2/ 20.
[ (6) ] هي بنت أبى بكر الصديق أسلمت قديما بمكة وتزوجها الزبير بن العوام وهاجرت وهي حامل بولده عبد اللَّه وعاشت إلى أن ولى ابنها الخلافة ثم إلى أن قتل وماتت بعده بقليل، وكانت تلقب بذات النطاقين، وسماها بذلك رسول اللَّه. (أسماء الصحابة الرواة) : 78 ترجمة 58، (أعلام النساء) : 1/ 36
[ (7) ] هي أم شريك الأنصارية: من ربات البر والإحسان والثراء وكان ينزل عليها الضيفان فتنفق عليهم ابتغاء وجه اللَّه تعالى ومرضاته وتزوجها رسول اللَّه وقال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار ثم قال: إني أكره غيرتهن فلم يدخل بها، لها ترجمة في أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(أعلام النساء/ 296) .
[ (1) ] هي الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية، ذكرها ابن سعد وقال أسلمت وبايعت، وقالت عائشة: إن الحولاء بنت تويت مرت بها وعندها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: هذه الحولاء بنت تويت يزعمون أنها لا تنام الليل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذوا من العمل ما تطيقون، (الإصابة) : 7/ 592.
[ (2) ] هو أسيد بن الحضير بن سماك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي توفى سنة (20) ، وقيل: في إمارة عمر، شهد العقبة الثانية وكان نقيبا لبني عبد الأشهل، وشهد أحدا، وكان ممن ثبت يومها، وجرح حينئذ سبع جراحات، وقال أبو هريرة: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نعم الرجل أسيد بن الحضير» ، (أسماء الصحابة الرواة) : 130 ترجمة (133) ، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 299.(9/144)
__________
[ () ] (3) هو الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب القرشيّ الفهرىّ، ولد قبل وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسبع سنين كان على شرطة معاوية وله في الحروب معه بلاء عظيم، وسيّره معاوية على جيش فعبر جسر منبج وصار إلى الرقة ومضى منها فأغار على سواد العراق وأقام بهيت ثم عاد ثم استعمله معاوية على الكوفة بعد زياد سنة (53) ، ثم عزله سنة (57) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 471 ترجمة (831) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 394 ترجمة (791) .
[ (4) ] هو حبيب بن مسلمة بن مالك بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر أبو عبد الرحمن الفهرىّ الحجازىّ، وقيل أبو سلمة القرشي الفهري، ويقال له: حبيب الرمي وحبيب الروم لكثرة جهاده فيهم، وقال بن سعد عن الواقدي: كان له يوم توفى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم اثنتا عشر سنة وقال ابن معين: أهل الشام يثبتون صحبته، وأهل المدينة ينكرونها، وقال سعيد بن عبد العزيز كان مجاب الدعوة، وقال ابن حبيب: هو حبيب بن مسلمة، هو الّذي فتح أرمينية فمات بها سنة (42) ، ولم يبلغ (50) سنة. (أسماء الصحابة الرواة) : 182 ترجمة (227) ، (الإصابة) : 2/ 24، (الثقات) : 3/ 81، (تهذيب التهذيب) : 2/ 167.
[ (5) ] هو حبيب بن أوس ويقال ابن أبى أوس الثقفي المصري، روى عن أبى أيوب وعمرو بن العاص الثقفي، ذكره ابن يونس، فيمن شهد فتح مصر فدل على أن له إدراكا، ولم يبق من ثقيف في حجة الوداع أحد إلا وقد أسلم وشهدها، فيكون هذا صحابيا. (تهذيب التهذيب) :
2/ 155، (الثقات) : 4/ 139، (الإصابة) : 2/ 15.
[ (6) ] سبقت ترجمته.
[ (7) ] هو ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة بن عتبة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة الحنفىّ، أبو أمامة اليمامىّ، حديثه في البخاريّ من طريق سعيد المقبري، عن أبى هريرة، قال: بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له: ثمامة ابن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه.
وذكر أيضا ابن إسحاق أن ثمامة ثبت على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقوا بالعلاء الحضرميّ، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما(9/145)
وعمار بن ياسر [ (1) ] ، وعمر بن الغادية السلمي [ (2) ] ، وأم الدرداء الكبرى [ (3) ] ، والضحاك بن حذيفة المازني [ (4) ] ، والحكم بن عمرو الغفاريّ [ (5) ] ، ووابصة بن معبد الأسدي [ (6) ] ، وعبد اللَّه بن جعفر [ (7) ] ، وعوف بن مالك [ (8) ] ، وعبيد اللَّه بن
__________
[ () ] ظفروا اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم، فرآها عليه ناس من بنى قيس بن ثعلبة. فظنوا أنه هو الّذي قتله وسلبه فقتلوه. (الإصابة) : 1/ 411.
[ (1) ] هو عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم ... المذحجي أبو اليقظان: العنسيّ. حليف بنى مخزوم، قتل مع على بصفين سنة (37) وله (93 سنة) .
وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام ... وأمه سمية وهي أول من استشهد في سبيل اللَّه عز وجل وأبوه وأمه من السابقين، وكان إسلام عمار بعد بضعة وثلاثين وهو ممن عذب في اللَّه، وقال عمار: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها فقلت ما تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ قلت أريد أن أدخل على محمد وأسمع منه كلامه. فقال: وأنا أريد ذلك فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا. وهو من مشاهير الصحابة.
(الإصابة) : 4/ 373، (الاستيعاب) : 3/ 1135، (أسماء الصحابة الرواة) : 73، ترجمة رقم 52.
[ (2) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (3) ] هي خيرة بنت أبى حدرة الأسلمي هي زوج أبى الدرداء، توفيت في خلافة عثمان بالشام قبل وفاة أبى الدرداء بسنتين، كانت من فضلى النساء وعقلائهن وذوات الرأى فيهن مع العبادة والنسك، (أسماء الصحابة الرواة) : (223) ترجمة (302) ، (الإصابة) : 8/ 73.
[ (4) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (5) ] هو الحكم بن عمرو بن مجدع بن حزيم بن الحارث بن ثعلبة الغفاريّ، توفى في القيد سنة (45) ، صحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى توفى ثم سكن البصرة واستعمله زياد بن أبيه على خرسان على غير قصد منه لولايته إنما أرسل زياد يستدعى الحكم فمضى الرسول غلطا منه وأحضر الحكم ابن عمرو فلما رآه زياد قال: هذا من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستعمله عليه، (أسماء الصحابة الرواة) : 445 ترجمة (775) .
[ (6) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.(9/146)
__________
[ () ] (7) هو عبد اللَّه بن جعفر بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو محمد، وأبو جعفر وهي أشهر. وحكى المرزباني أنه كان يكنى أبا هاشم.
أمه أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث لأمها، ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها، وهو أول من ولد بها من المسلمين، وحفظ عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ابن حبان: كان يقال له: قطب السخاء، وكان له عند موت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين، وقال يعقوب بن سفيان: كان أحد أمراء عليّ يوم صفين، وأخباره في الكرم كثيرة شهيرة. مات سنة ثمانين عام الجحاف، وهو سيل كان ببطن جحف الحاج، وذهب بالإبل، وعليها الحمولة، وصلّى عليه أبان بن عثمان وهو أمير المدينة حينئذ لعبد الملك بن مروان، هذا هو المشهور.
وقال الواقدي: مات سنة تسعين، وكان له يوم مات تسعون سنة، وكذا رأيته في (ذيل الذيل) لأبى جعفر الطبري، وقال المدائني: مات عبد اللَّه بن جعفر سنة أربع أو خمس وثمانين وهو ابن ثمانين قلت: وهو غلط أيضا. وقال خليفة: مات سنة اثنتين. وقيل سنة أربع وثمانين.
وقال ابن البرقي ومصعب: في سنة سبع وثمانين، فهذا يمكن أن يصح معه قول الواقدي: إنه مات وله تسعون سنة، فيكون مولده قبل الهجرة بثلاث.
وأخرج ابن أبى الدنيا والخرائطى بسند حسن إلى محمد بن سيرين، أن دهقانا من أهل السواد كلم ابن جعفر في أن يكلم عليا في حاجة، فكلمه فيها، فقضاها، فبعث إليه الدهقان أربعين ألفا، فقالوا: أرسل بها الدهقان فردها، وقال إنا لا نبيع معروفا.
وأخرج الدار قطنى في الأفراد، من طريق هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، قال:
جلب رجل من التجار سكرا إلى المدينة فكسد عليه، فبلغ عبد اللَّه بن جعفر، فأمر قهرمانه أن يشتريه وينهبه الناس. (الإصابة) : 4/ 40- 44، (أسماء الصحابة الرواة) : 109، ترجمة (103) .
[ (8) ] هو عوف بن مالك بن أبى عوف الأشجعي، مختلف في كنيته. قيل: أبو عبد الرحمن.
وقيل: أبو محمد. وقيل: غير ذلك.
قال الواقدي أسلم عام خيبر، ونزل حمص، وقال غيره: شهد الفتح وكانت معه راية أشجع، وسكن دمشق. وقال ابن سعد: آخى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين أبى الدرداء. -(9/147)
سلام [ (1) ] ، وعمر بن عبسة [ (2) ] ، وعتاب بن أسيد [ (3) ] ، وعثمان بن أبى العاص [ (4) ] ، وعبد اللَّه بن سرجس [ (5) ] ، وعبد اللَّه بن رواحة [ (6) ] ، وعقيل بن
__________
[ () ] روى أبو عبيد في كتاب (الأموال) ، من طريق مجالد عن الشعبي، عن سويد بن غفلة، قال: لما قدم عمر الشام قام إليه رجل من أهل الكتاب، فقال: إن رجلا من المسلمين صنع بى ما ترى، وهو مشجوع مضروب. فغضب عمر غضبا شديدا وقال لصهيب: انطلق فانظر من صاحبه فائتنى به، فانطلق فإذا هو عوف بن مالك. فقال: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضبا شديدا فأت معاذ بن جبل فكلمه، فإنّي أخاف أن يعجل عليك. فلما قضى عمر الصلاة قال: أجئت بالرجل؟ قال: نعم، فقام معاذ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك، فاسمع منه ولا تجعل عليه. فقال له عمر: مالك ولهذا؟ قال: رأيته يسوق بامرأة مسلمة على حمار فنخس بها لتصرع فلم تصرع، فدفعها فصرعت فغشيها أو أكب عليها. قال: فلتأتني المرأة فلتصدق ما قلت، فأتاها عوف، فقال له أبوها وزوجها: ما أردت إلى هذا، فضحتنا فقالت المرأة: واللَّه لأذهبنّ معه. فقالا: فنحن نذهب عنك، فأتيا عمر فأخبراه بمثل قول عوف، فأمر عمر باليهودي فصلب، وقال: ما على هذا صالحناكم. قال سويد: فذلك اليهودي أول مصلوب رأيته في الإسلام.
قال الواقدي والعسكري وغيرهما: مات سنة ثلاث وسبعين في خلافة عبد الملك. (الإصابة) :
4/ 472- 473. (أسماء الصحابة الرواة) : 70 ترجمة (48) . (الثقات) : 3/ 319.
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، من ذرية يوسف عليه السّلام، توفى سنة (43) ، كان إسلامه لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة مهاجرا وروى عنه ابناه يوسف ومحمد، وأنس بن مالك، زرارة بن أوفى، كان اسمه في الجهالية الحصين فسماه رسول اللَّه حين أسلم عبد اللَّه وله موقفا حميد في نصح الناس يوم مقتل عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما. (أسماء الصحابة الرواة) : 110، ترجمة (105) ، (الإصابة) : 4/ 118- 120.
[ (2) ] هو عمرو بن عبسة بن خالد بن عامر بن غاضرة بن امرئ القيس السلمىّ البجليّ القيسيّ أسلم قديما أول الإسلام كان يقال هو رابع الإسلام، وكان قدومه المدينة بعد مضى بدر وأحد والخندق، (أسماء الصحابة الرواة) : 96 ترجمة (84) ، (تهذيب التهذيب) : 8/ 699.
[ (3) ] هو عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد الرحمن بن عبد مناف القرشي ولاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وهو ابن (18) سنة حين خرج إلى حنين وتوفى في يوم توفى أبو بكر الصديق(9/148)
أبى طالب [ (1) ] ، وعائذ بن عمرو [ (2) ] ، وأبو قتادة [ (3) ] ، وعبد اللَّه بن معمر العدوي [ (4) ] ، وعمير بن سعد [ (5) ] ، وعبد اللَّه ابن أبى بكر [ (6) ] الصديق، وعبد
__________
[ () ] ولم يعلم أحدهما بموت الآخر لأن هذا مات بمكة وذاك مات بالمدينة، (تاريخ الصحابة الرواة) :
96 ترجمة (84) ، (الثقات) : 3/ 269.
[ (4) ] هو عثمان بن أبى العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد اللَّه بن همام بن أبان بن سيار بن مالك بن حطيط، أبو عبد اللَّه الثقفي، وفد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في وفد ثقيف فأسلم واستعمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الطائف ولم يزل على الطائف حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وخلافة أبى بكر، وسنتين من خلافة عمر واستعمله عمر سنة (15) ، على البحرين وعمان فسار إلى عمان ووجه أخاه الحكم إلى البحرين وسار هو إلى توج فافتتحها ومصرها وقتل ملكها «شهرك» سنة (21) . (أسماء الصحابة الرواة) : 104 ترجمة (95) .
[ (5) ] هو عبد اللَّه بن سرجس المزني، حليف بنى مخزوم، له صحبة سكن البصرة، وقال:
رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأكلت معه خبزا ولحما أو قال: ثريدا فقلت له: غفر اللَّه لك يا رسول اللَّه قال: ولك، قال: قلت لعبد اللَّه بن سرجس أستغفر لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نعم وتلى هذه الآية وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، (تاريخ الصحابة الرواة) : 131 ترجمة (136) ، (الثقات) : 3/ 230، (تلقيح الفهوم) : 368.
[ (6) ] هو عبد اللَّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأنصاري الخزرجي، استشهد في مؤتة في جمادى سنة (8) ، كان ممن شهد العقبة وكان نقيب بنى الحارث بن الخزرج وشهد بدرا، وأحدا، والخندق، والحديبيّة، وعمرة القضاء، والمشاهد كلها، مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا الفتح وما بعده، فإنه كان قد قتل قبله وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، (أسماء الصحابة الرواة) : 498 ترجمة (886) .
[ (1) ] هو عقيل بن أبى طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب، أبو يزيد القرشيّ، الهاشميّ، أخو عليّ ابن أبى طالب وجعفر، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، كان سريع الجواب المسكت، وله فيه أشياء حسنة، وكان أعلم قريش بالنسب، وأعلمهم بيأمها، ولكنه كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم، تأخر إسلامه عام الفتح، وقيل: أسلم بعد الحديبيّة، وهاجر في أول سنة ثمان، وكان أسر يوم بدر ففداه عمه العباس. ووقع ذكره في الصحيح في مواضع. توفى في(9/149)
__________
[ () ] خلافة معاوية، وقيل: أول خلافة يزيد. (أسماء الصحابة الرواة) : 207، ترجمة (273) .
(الثقات) : 3/ 259.
[ (2) ] هو عائذ بن عمرو بن هلال بن عبيد بن يزيد أبو هبيرة المزنيّ. كان ممن بيعة الرضوان، تحت الشجرة وكان من صالحي الصحابة، سكن البصرة وابتنى بها دارا، وتوفى في إمارة عبيد اللَّه ابن زياد أيام يزيد بن معاوية وأوصى عليه أبو برزة الأسلمي لئلا يصلى عليه ابن زياد روى عنه: الحسن. ومعاوية بن قرة. وعاصم الأحول. وغيرهم. وزاد ابن حجر فيمن روى عنه: ابنه حشرج، وأبو جمرة الضبيّ، وغيرهم. وقال ابن حجر في (الإصابة) : كان ممن بايع تحت الشجرة ثبت ذلك في البخاري، وله عند مسلم في الصحيح حديثان غير هذا.
روى البغوي من طريق أسماء بن عبيد: كان بن عمرو لا يخرج من داره ولا غيره فسئل فقال: لأن أصب طستى في حجرتي أحب إليّ من أن أصبّه في طريق المسلمين. (أسماء الصحابة الرواة) : 176، ترجمة (217) ، (الإصابة) : 3/ 609.
[ (3) ] هو الحارث بن ربعي بن بلدمة بن خناس بن عبيد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد وقيل:
اسمه النعمان وقيل: عمرو أبو قتادة الأنصاري. الخزرجي. السلمي. أمه: كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد بن غنم. وفاته: قيل توفى سنة (54) بالمدينة. وقيل بالكوفة في خلافة على وقيل توفى سنة (40) . اختلف في شهوده بدرا، قال ابن سعد: شهد أحدا وما بعدها. وقال أبو أحمد الحاكم: يقال: كان بدريا
وقال إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خير فرساننا أبو قتادة.
وقال أبو نضرة، عن أبى سعيد: أخبرنى من هو خير منى أبو قتادة. (أسماء الصحابة الرواة) : 53، ترجمة (23) ، (الإصابة) :
7/ 327- 329.
[ (4) ] لم أجد له ترجمة في بين يدي من مراجع.
[ (5) ] هو عمير بن سعد بن فهد ويقال عمير بن جودان، روى عنه محمد بن سيرين وابنه أشعث، ولكن ليست له صحبة وحديثه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسل عند أكثرهم ومنهم من يصحح صحبته قال الحافظ في (الإصابة) : عمير بن سعد عامل عمر على حمص. استدركه يحيى بن عبد الوهاب بن مندة على جده، ووهم فيه، فإن جده ذكره فقال: عمير بن سعد وهو الصحيح.
(الإصابة) : 5/ 308، (أسماء الصحابة الرواة) : 405 ترجمة (687) . (التاريخ الكبير) :
6/ 536، (الجرح والتعديل) 6/ 675.(9/150)
الرحمن بن أبى بكر الصديق [ (1) ] ، وعاتكة بنت زيد بن عمر [ (2) ] ، وعبد الرحمن ابن عوف الزهري [ (3) ] ، وسعد بن معاذ [ (4) ] ، وأبو منيب [ (5) ] ، وسعد بن
__________
[ () ] (6) هو عبد اللَّه بن أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما بن عمرو بن كعب بن لؤيّ القرشي التيمي، توفى سنة (11) ، أول خلافة أبيه، كان قديم الإسلام لم يسمع له بمشهد إلا شهوده الفتح، وحنينا، والطائف، وهو الّذي كان يأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأباه بأخبار الناس والطعام في غار ثور في الهجرة، (أسماء الصحابة الرواة) : 446 ترجمة (777) .
[ (1) ] هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه [أبو بكر الصديق] بن عثمان القرشي التيمي، توفى ودفن بمكة سنة (53) ، صحابى مشهور له أخبار كثيرة في المغازي والسير.
[ (2) ] هي عاتكة بنت زيد بن نفيل القرشية، تزوجها أكثر من صحابى، واستشهد ولها منزلة بين قومها. (أعلام النساء) : 3/ 201.
[ (3) ] هو عبد الرحمن بن عبد عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة أبو محمد.
القرشيّ الزهرىّ. أمه: الشفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث.
من مشاهير الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين أوصى إليهم عمر بعده، وأحد الثمانية الذين أسلموا على يد أبى بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وشهد بدرا، وأحدا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وصلى خلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومناقبه كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، توفى سنة (31) بالمدينة. (أسماء الصحابة الرواة) : 72، ترجمة (51) ، (التاريخ الكبير) : 5/ 239، (التاريخ الصغير) : 1/ 50، (شذرات الذهب) : 1/ 25، 38، 62.
[ (4) ] هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن مالك بن أوس الأنصاريّ الأشهليّ، شهد بدرا، ورمى بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرا، حتى حكم في بنى قريظة، ومات، وقال المنافقون لما خرجت جنازته: ما أخفها
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن الملائكة حملته،
وقيل: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، (الإصابة) : 3/ 84- 86.
[ (5) ] هو أبو منيب الكلبي ذكره البخاري في الكنى، وأخرج له من طريق بقية بن الوليد عن مسلمة ابن زياد، قال: رأيت أربعة نفر من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم روح بن يسار وأبو منيب الكلبي، يلبسون العمائم ويرخون من خلفهم [وثيابهم] إلى الكعبين. وأخرجه ابن مندة من طريق بقية، قال: حدثني مسلمة بن زياد. (الإصابة) : 7/ 390.(9/151)
عبادة [ (1) ] ، وقيس بن سعد [ (2) ] ، وعبد الرحمن ابن سهل [ (3) ] ، وسمرة بن جندب [ (4) ] ، وسهل بن سعد الساعدي [ (5) ] ، ومعاوية بن مقرن [ (6) ] ، والسويد بن المقرن [ (7) ] ، ومعاوية بن الأرقم [ (8) ] ، وجرير بن عبد اللَّه.
__________
[ (1) ] هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبى خزيمة بن أبى الخزرج بن ساعدة بن كعب السعدىّ الأنصاريّ توفى سنة (11) ، وقيل غير ذلك بالشام، قتلته الجن شهد بدرا، كان صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وكان غيورا شديد الغيرة وإياه
أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله: «إن سعد غيورا وإني لأغير من سعدا واللَّه أغير منا وغيرة اللَّه أن تأتى محارمه» . (أسماء الصحابة الرواة) : 119 ترجمة (119) . (الثقات) : 3/ 148، (التاريخ الكبير) :
1/ 25، (الجرح والتعديل) : 4/ 382، (الإصابة) : 3/ 65.
[ (2) ] هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبى خزيمة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب الساعدىّ الأنصاريّ، توفى سنة (59) كان من فضلاء الصحابة وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوى الرأى الصائب والمكيدة في الحرب مع النجدة والشجاعة وكان شريف قومه غير مدافع ومن بيت سيادتهم، (أسماء الصحابة الرواة) : 133 ترجمة 139، (الإصابة) :
5/ 473، (تهذيب التهذيب) : 8/ 395.
[ (3) ] هو عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، شهد أحد، والخندق، والمشاهد، وهو الّذي نهش فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عمارة بن حزم، فرقاه رقية عند آل عروة بن حزم، (الإصابة) : 4/ 312.
[ (4) ] هو سمرة بن جندب بن هلال بن جريج بن مرة بن فزارة أبو سليمان توفى سنة (58) سكن البصرة قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه فتزوجها رجل من الأنصار وكان في حجره إلى أن صار غلاما وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعرض غلمان الأنصار كل سنة فمر به غلام فأجازه في البعث وعرض عليه سمرة بعده فرده، فقال سمرة: لقد أجزت هذا ورددتني ولو صار عنه لصرعته قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه من البعث، قيل: أجازه يوم أحد، (أسماء الصحابة الرواة) : 61 ترجمة (35) .
[ (5) ] هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن الخزرج الأنصاري الساعدي، توفى سنة (88) ، شهد قضاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المتلاعنين وأنه فرق بينهما وكان اسمه حزنا فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سهلا، (أسماء الصحابة الرواة) : 50 ترجمة (19) ، (الإصابة) : 3/ 200، (تهذيب التهذيب) : 4/ 252.(9/152)
البجلي [ (1) ] ، وجابر بن سمرة [ (2) ] ، و [جويرية] أم المؤمنين [ (3) ] ، وحسان بن ثابت [ (4) ] ، وحبيب بن عدىّ [ (5) ] ، وقدامة بن مظعون [ (6) ] ، وعثمان بن مظعون [ (7) ] ،
__________
[ () ] (6) هو معاوية بن سويد بن مقرن المزني، أبو أسيد الكوفي، وهو مشهور من التابعين وحديثه عن أبيه، وعن البراء بن عازب في صحيح مسلم وغيره، (الإصابة) : 6/ 155.
[ (7) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (8) ] هو معاوية بن الحكم السلمىّ كان يسكن في بنى سليم وينزل المدينة، له صحبة، ويعد من أهل الحجاز سكن المدينة، وروى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديثا، قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) :
ثبت ذكره وحديثه في صحيح مسلم من طريق عطاء بن يسار عنه قال: صليت خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعطس رجل من القوم في صلاته فقلت: يرحمك اللَّه. الحديث. ثم ذكر له عدة أحاديث أخرى يمكنك مراجعتها من موضعها بالإصابة. (أسماء الصحابة الرواة) : 143 ترجمة (155) ، (الإصابة) : 6/ 148.
[ (1) ] هو جرير بن عبد اللَّه بن جابر بن السليل بن مالك بن خزيمة البجلي وقيل اليمنى، توفى سنة (51) ، أسلم قبل وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان حسن الصورة، قال عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: جرير يوسف هذه الأمة وهو سيد قومه،
وقابل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأكرمه وقال: «إذا أتاكم كريم قومه فأكرموه» ،
وكان له في الحروب بالعراق القادسية وغيرها أثر عظيم.
وقال ابن حجر في (التهذيب) : روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن عمر، ومعاوية. وعنه أولاده المنذر وعبيد اللَّه وأيوب وغبراهيم وابن ابنه أبو زرعة بن عمر وأنس وأبو وائل.. وغيرهم، (أسماء الصحابة الرواة) : 63، ترجمة (38) ، (الإصابة) : 1/ 475، (تهذيب التهذيب) :
2/ 63.
[ (2) ] هو جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير بن صعصعة العامرىّ السوائىّ، حليف بنى زهرة، توفى أيام المختار سنة (66) ، له صحبة، وروى شريك عن سماك بن جابر بن سمرة ابن جندب قال: جالست رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر من مائة مرة، وفي الصحيح عنه قال: صليت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر من ألفى مرة، (أسماء الصحابة الرواة) : 57 ترجمة (29) ، (الإصابة) :
1/ 178.
[ (3) ] هي جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار بن حبيب بن جذيمة بن المصطلق بن حارثة، توفيت سنة (50) ، سباها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم المريسيع وهي غزوة بنى المصطلق ولما تزوجها رسول(9/153)
وميمونة أم المؤمنين [ (1) ] ، ومالك بن الحويرث [ (2) ] ، وأبو أمامة الباهلي [ (3) ] ، ومحمد بن مسلمة [ (4) ] ، وخباب بن الأرت [ (5) ] ، وخالد بن الوليد [ (6) ] ، وضمرة بن
__________
[ () ] اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حجبها وقسم لها، وكان اسمها برد فسماها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جويرية وروت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (أسماء الصحابة) : 195 ترجمة (259) (الإصابة) : 7/ 565.
[ (4) ] هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد بن عدىّ الأنصاريّ الخزرجىّ النجارىّ توفى قبل الأربعين وهو صحابى مشهور،
وقد جاء في الصحيحين عن البراء أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لحسان: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك. (أسماء الصحابة الرواة) : 465 ترجمة (819) ، (الإصابة) : 2/ 62.
[ (5) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (6) ] هو قدامة بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشيّ الجمحيّ كان أحد السابقين الأولين هاجر الهجرتين، وشهد بدرا، له صحبة، ويكنى أبا عمرو، أسلم قديما، وكانت تحته صفية بنت الخطاب، أخت عمر بن الخطاب، مات سنة (36) ، في خلافة على، وله (68) سنة، (الإصابة) : 5/ 423.
[ (7) ] هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن كعب بن لؤيّ القرشيّ الحجمىّ، توفى في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو أول رجل مات من المهاجرين بالمدينة بعد شهوده بدرا سنة (2) وهو أول من دفن بالبقيع هو صحابى مشهور أسلم قديما وهاجر الهجرتين وأوذى في اللَّه أذى شديدا بعد أن كان في جوار الوليد بن المغيرة. (أسماء الصحابة الرواة) : 233 ترجمة (233) (الإصابة) :
4/ 461.
[ (1) ] هي ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية أم المؤمنين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، وكان اسمها برة فغيره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأسماها ميمونة توفيت بسرف سنة (51) تقريبا، روت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث كثيرة منها في الصحيحين والمتفق عليه، (أسماء الصحابة الرواة) : 68 ترجمة (44) ، (الإصابة) : 8/ 126، (أعلام النساء) : 5/ 138.
[ (2) ] هو مالك بن الحويرث بن أشيم بن زياد الليثي أبو سليمان، توفى سنة (64) ، هو من أهل البصرة قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في شبيبة من قومه فعلمهم الصلاة وأمرهم بتعليم قومه إذا رجعوا إليهم، (أسماء الصحابة الرواة) : 203 ترجمة (267) ، (الإصابة) : 5/ 719.
[ (3) ] هو صدى بن عجلان بن الحارث وقيل: عجلان بن وهب أبى أمامة الباهلىّ السهمىّ توفى سنة (81) ، سكن مصر ثم انتقل منها، فسكن حمص من الشام، ومات بها وكان من المكثرين في الرواية وأكثر حديثه عند الشاميين، (أسماء الصحابة الرواة) : 48 ترجمة (17) ، (الإصابة) :
7/ 19.(9/154)
بن مسلمة [ (1) ] ، وخباب بن الأرت [ (2) ] ، وخالد بن الوليد [ (3) ] ، وضمرة بن الفيض [ (4) ] ، وطارق بن شهاب [ (5) ] ، وضهير بن رافع [ (6) ] ، ورافع بن خديج [ (7) ] ، وفاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (8) ] .
__________
[ () ] (4) هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدىّ الأنصاريّ الأوسيّ الحارثىّ، توفى سنة (46) وله (77) سنة، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا تبوك ومات بالمدينة ولم يستوطن غيرها، واستخلفه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض غزواته واستعمله عمر على صدقات جهينة (أسماء الصحابة الرواة) : 134 ترجمة (140) ، (الإصابة) : 6/ 33.
[ (5) ] سبقت ترجمته.
[ (6) ] هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، توفى سنة (21) ، في خلافه عمر، وكان إليه الأعنة: وهي أن يكون على مقدم الخيول في الحرب، ولا يصح له غزو مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل فتح مكة وروى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (أسماء الصحابة الرواة) :
127 ترجمة (130) ، (الإصابة) : 02/ 98.
[ (1) ] ذكره بن قانع في الصحابة وهو ضمرة بن فياض الجهنيّ حليف بنى سواد من الأنصار، (الإصابة) : 3/ 492.
[ (2) ] هو طارق بن شهاب بن عبد شمس بن سلمة بن هلال بن عوف بن جسم بن عمرو بن لؤيّ ابن رحم البجلي الأحمسي، توفى سنة (82) أو (83) أو (84) ، رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو رجل لم يسمع منه شيئا. (أسماء الصحابة الرواة) : 415 ترجمة رقم (709) .
[ (3) ] هو ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك الأنصاري الأوسي الحارثي، وقيل: شهد العقبة الأولى وشهد بدرا، وقيل: لم يشهدها وشهد أحد وما بعدها وهو عم رافع بن خديج ووالد أسيد بن ظهير، (أسماء الصحابة الرواة) : 332 ترجمة (5173) ، (الإصابة) : 3/ 304.
[ (4) ] هو رافع بن خديج بن عدي بن يزيد بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوشي الأنصاري، توفى سنة (74) ، عرض نفسه يوم بدر على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرده لصغره ثم(9/155)
[فاطمة بنت قيس [ (1) ] ، هشام بن الحكيم بن حزام [ (2) ] ، أبو حكيم بن حزام [ (3) ] ، شرحبيل بن السمط [ (4) ] ، أم سليم [ (5) ] ، دحية بن خليفة الكلبي [ (6) ] ، ثابت
__________
[ () ] أجازه يوم أحد فشهد أحدا وأصيب بها، ثم الخندق وأكثر المشاهد، وشهد صفين مع على واستوطن المدينة وكان عريف قومه إلى أن مات بها وصلى عليه ابن عمر، (أسماء الصحابة الرواة) : 67 ترجمة (43) ، (الإصابة) : 2/ 436.
[ (5) ] هي الزهراء بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وزوج على كرم اللَّه وجه وأم الحسنين (الإصابة) : 8/ 53.
[ (1) ] فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية. أخت الضحاك بن قيس. تقدم نسبها في ترجمته، وكانت أسن منه. قال أبو عمر: كانت من المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وعقل، وكانت عند أبى بكر بن حفص المخزوميّ فطلقها فتزوجت بعده بعده أسامة بن زيد.
قلت: وخبرها بذلك في الصحيح لما طلبت النفقة من وكيل زوجها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم: اعتدّى عند أم شريك، ثم قال: عند ابن أم مكتوم، فلما خطبت أشار عليها بأسامة ابن زيد، وهي قصة مشهورة، وهي التي روت قصة الجساسة بطولها فانفردت بها مطولة.
رواها عنها الشعبي لما قدمت الكوفة على أخيها، وهو أميرها، وقد وقفت على بعضها من حديث جابر وغيره. وقيل: إنها أكبر من الضحاك بعشر سنين، قاله أبو عمر. قال: وفي بيتها اجتمع أهل الشورى لما قتل عمر. قال ابن سعد: أمها أميمة بنت ربيعة، من بنى كنانة.
(الإصابة) : 8/ 69، (طبقات ابن سعد) : 8/ 200.
[ (2) ] هو هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصىّ القرشيّ الأسديّ، ثبت ذكره في الصحيح من رواية الزهري عن عروة عن المسور، وعبد الرحمن بن عبد القاري، عن عمر، سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وفيه أنه أحضره لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستقرأهما فصوبهما، وقال: نزل القرآن على سبعة أحرف.... الحديث بطوله.
قال ابن سعد: كان مهيبا. وقال الزهري: كان يأمر بالمعروف في رجال معه. وقال مصعب الزبيري: كان له فضل. وقال ابن وهب، عن مالك: لم يكن يتخذ أخلاء ولا له ولد.
وقد روى عنه أيضا جبير بن نفير، وقتادة السلمي وغيرهما ومات قبل أبيه بمدة طويلة، قال أبو نعيم: استشهد بأجنادين، أسلم يوم الفتح (أسماء الصحابة الرواة) : 205 ترجمة (270) ، (الإصابة) : 6/ 538- 539.(9/156)
__________
[ () ] (3) هو حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، أخو خديجة أم المؤمنين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها وولد حكيم بن حزام. ذكره ابن الأثير في الصحابة. (الإصابة) : 2/ 210، ترجمة رقم (2090) .
[ (4) ] هو شرحبيل بن السمط بن الأسود، أو الأعور، أو شرحبيل بن جبلة بن عدي بن ربيعة ابن معاوية الكندي، أبو يزيد.
قال البخاري: له صحبة، وتبعه أبو أحمد الحاكم. وأما ابن السكن فقال: زعم البخاري أن له صحبة، ثم قال: يقال: إنه وفد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم شهد القادسية، ثم نزل حمص فقسمها منازل.
وذكره البغوي وابن حبان في الصحابة ثم أعاده في التابعين، زاد البغوي: سكن الشام، وجدته في كتاب محمد بن إسماعيل، ولم أر له حديثا.
وقال ابن سعد: جاهلى إسلامي، وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلم، وشهد القادسية، وافتتح حمص.
وقال ابن السكن: ليس في شيء من الروايات ما يدل على صحبته إلا حديثه من رواية يحيى بن حمزة عن نصر بن علقمة، عن كثير بن مرة، عن أبى هريرة وابن السمط، قالا:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يزال من أمتى عصابة قوامة على الحق ... الحديث. وقال البغوي:
ذكر في الصحابة، ولم يذكر له حديث أسنده عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكر له سيف بسنده أن سعد بن أبى وقاص استعمل شرحبيل بن السمط بن شرحبيل وكان شابا، وكان قاتل في الردة، وغلب الأشعث على الشرق، وكان أبوه قدم الشام مع أبى عبيدة، وشهد اليرموك، وكان شرحبيل من فرسان أهل القادسية.
وله رواية عن عمر، وكعب بن مرة وعبادة وغيرهم وقال ابن سعد: شهد القادسية وافتتح حمص، وله ذكر في البخاري في صلاة الخوف.
وذكر خليفة أنه كان عاملا على حمص نحوا من عشرين سنة، وقال أبو عامر الهوزني:
حضرت مع حبيب بن مسلمة جنازة شرحبيل. وقال أبو داود: مات بصفين: وقال يزيد بن عبد ربه: مات سنة أربعين. وقال غيره: سنة اثنتين وأربعين وقال صاحب (تاريخ حمص) :
سنة ست وثلاثين.(9/157)
__________
[ () ] قلت: وهو غلط، فإنه ثبت أنه شهد صفين، وكانت سنة سبع وثلاثين، وذكره ابن حبان في الصحابة، وقال: كان عاملا على حمص، ومات بها، (الإصابة) : 3/ 329- 331، (الاستيعاب) : 699، (طبقات ابن سعد) : 7/ 155، (تهذيب التهذيب) : 4/ 283.
[ (5) ] هي أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية، وهي أم أنس خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، اشتهرت بكنيتها. واختلف في اسمها، فقيل سهلة، وقيل رميلة، وقيل رميثة، وقيل مليكة، وقيل الغميصاء أو الرميصاء تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات بها، فتزوجت بعده أبا طلحة، فروينا في مسند أحمد بعلو في (الغيلانيات) ، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، وإسماعيل بن عبد اللَّه بن أبى طلحة، عن أنس بن مالك- أن أبا طلحة أم سليم- يعنى قبل أن يسلم، فقالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الّذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى. قلت: أفلا تستحي تعبد شجرة! أن أسلمت فإنّي لا أريد منك صداقا غيره.
قال: حتى انظر في أمرى، فذهب ثم جاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فقالت: يا أنس، زوج أبا طلحة، فزوجها وبه: خطب ابو طلحة أم سليم- وكانت أم سليم تقول: لا أتزوج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس، فيقول: جزى اللَّه أمى عنى خيرا، لقد أحسنت ولايتي. فقال لها أبو طلحة: فقد جلس انس وتكلم، فتزوجها.
قلت: والجواب عن دخوله بنت أم حرام وأختها أنهما كانتا في دار واحدة وأنت تغزو مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولها قصص مشهورة، منها ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول اللَّه، هذه أم سليم معها خنجر، فقالت:
اتخذته إن دنا منى أحد من المشركين بقرت بطنه.
ومنها قصتها المخرجة في الصحيح لما مات ولدها ابن أبى طلحة، فقالت لما دخل: لا يذكر أحد ذلك لأبى طلحة قبلي، فلما جاء وسأل عن ولده قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه عوفي، وقام فأكل ثم تزينت له وتطيبت فنام معها، وأصاب منها، فلما أصبح قالت له:
احتسب ولدك،
فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: بارك اللَّه لكما في ليلتكما،
فجاءت بولد وهو عبد اللَّه بن ابى طلحة، فأنجب وزرق أولادا، قرأ القرآن منهم عشرة كملا.(9/158)
__________
[ () ] وفي الصحيح أيضا عن أنس- أن أن سليم لما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: يا رسول اللَّه، هذا أنس يخدمك، وكان حينئذا بن عشر سنين، فخدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر بخادم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وروت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عدة أحاديث، روى ابنها أنس، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وآخرون. (أسماء الصحابة الرواة) : 142 ترجمة (153) ، (الإصابة) : 8/ 227/ 230 ترجمة رقم (12073) .
[ (6) ] هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج، بفتح المعجمة وسكون الزاى ثم جيم، ابن عامر بن بكر بن عامر الأكبر ابن عوف الكلبي.
صحابى مشهور، أول مشاهدة الخندق وقيل أحد، ولم يشهد بدرا، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل في صورته، جاء ذلك من حديث أم سلمة، ومن حديث عائشة. وروى النسائي بإسناد صحيح، عن يحيى بن معمر، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما: كان جبرائيل يأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي.
وروى الطبراني من حديث عقير بن معدان، عن قتادة، عن أنس- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبي
مكان دحية رجلا جميلا.
وروى العجليّ في تاريخه عن عوانة بن الحكم، قال: أجمل الناس من كان جبرائيل ينزل على صورته. قال ابن قتيبة في غريب الحديث: فأما حديث ابن عباس: كان دحية إذا قدم المدينة لم تبق معصر غلا خرجت تنظر غليه، فالمعنى بالمعصر العاتق.
وقد روى الترمذي من حديث المغيرة ان دحية أهدى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خفين فلبسهما،
وروى أحمد من طريق الشعبي عن دحية، قال: قلت: يا رسول اللَّه، ألا أحمل لك حمارا على فرس فينتج لك بغلا فتركبها؟ قال: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون.
وقال ابن سعد أخبرنا وكيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال:
بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دحية سرية وحده، وقد شهد دحية اليرموك، وكان على كردوس، وقد نزل دمشق وسكن المرة، وعاش إلى خلافة معاوية. (الإصابة) : 2/ 284/ 286 ترجمة رقم (2392) ، (طبقات ابن سعد) : 4/ 184.(9/159)
ابن قيس ابن الشماسى [ (1) ] ، ثوبان [ (2) ] مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، سرف بن المغيرة ابن شعبة [ (3) ] ، يزيد بن الحصيب الأسلمي [ (4) ] ، رويفع بن ثابت [ (5) ] أبو حميد [ (6) ] ،
__________
[ (1) ] هو ثابت بن قيس بن زهير بن مالك أبو عبد الرحمن أبو محمد الأنصاري الخزرجي، قتل شهيدا يوم اليمامة في خلافة أبى بكر، كان خطيب الأنصار، وخطيب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، شهد أحدا وما بعدها. (أسماء الصحابة الرواة) : 374 ترجمة (613) ، (الإصابة) : 1/ 203.
[ (2) ] صحابى مشهور يقال: أنه من العرب حكمي من حكم بنى سعد بن حمير وقيل من السراة اشتراه، ثم أعتقه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخدمه إلى أن مات، (الإصابة) : 1/ 413.
[ (3) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (4) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (5) ] هو رويفع بن ثابت بن السكن بن عدي بن حارثة من بنى مالك بن النجار، نزل مصر، وولاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين، فغزا إفريقية.
وروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وعنه بشر بن عبيد اللَّه الحضرميّ، وحنش الصنعاني، وأبو الخير، وآخرون.
وقال ابن البرقي: توفى ببرقة وهو أمير عليها، وقال ابن يونس: مات سنة ست وخمسين، وهو أمير عليها من قبل مسلمة بن مخلد، (الإصابة) : 2/ 501، ترجمة رقم:
(2701) ، (الاستيعاب) : 2/ 504، ترجمة رقم: (788) .
[ (6) ] هو أبو حميد الساعدي الصحابي المشهور، اسمه عبد الرحمن بن سعد، ويقال عبد الرحمن بن عمرو بن سعد، وقيل المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: اسم جده مالك، وقيل: هو عمرو ابن سعد بن المنذر بن سعد بن خالد بن ثعلبة بن عمرو، ويقال: إنه عم سهل بن سعد، أو عم العباس بن سهل بن سعد.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عدة أحاديث، وله ذكر معه في الصحيحين. روى عنه ولد ولده سعيد بن المنذر بن أبى حميد، وجابر الصحابي، وعباس بن سهل بن سعد، وعبد الملك بن سعيد بن سويد، وعمرو بن سليم، وعروة، ومحمد بن عمرو بن عطاء وغيرهم.
قال خليفة وابن سعد وغيرهما: شهد أحدا وما بعده. وقال الواقدي: توفى في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد بن معاوية، (الإصابة) : 7/ 94- 95، ترجمة رقم: (9787) .(9/160)
وفضالة بن عبيد [ (1) ] ، رجل يعرف بأبي محمد- روينا عنه- وحرب بن الوثن [ (2) ] ، وزينب بنت أم سلمة [ (3) ] ، وعقبة بن مسعود [ (4) ] ، وبلال المؤذن [ (5) ] ،
__________
[ (1) ] هو فضالة بن عبيد بن ناقذ بن قيس بن صهيب بن الأصرم بن جحجبى ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ، أبو محمد قال ابن السكن: أمه عقبة بنت محمد بن عقبة بن الجلاح الأنصارية، أسلم قديما، ولم يشهد بدرا، وشهد أحدا فما بعدها، وشهد فتح مصر والشام قبلها، ثم سكن الشام، وولى الغزو، وولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبى الدرداء، قاله خالد بن يزيد بن أبى مالك، عن أبيه، قال: وكان ذلك بمشورة من أبى الدرداء، روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن عمر، وأبى الدرداء.
روى عنه ثمامة بن شفى، وحيش بن عبد اللَّه الصنعاني، وعليّ بن رباح، وأبو على الجنبي، ومحمد بن كعب القرضي وغيرهم.
قال مكحول، عن ابن محيريز: كان ممن بايع تحت الشجرة، وقال ابن حبان: مات في خلافة معاوية، وكان معاوية ممن حمل سريره، وكان معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها، وأرخ المدائني وفاته سنة ثلاث وخمسين، وكذا قال ابن السكن، وقال: مات بدمشق لأن معاوية كان جعله قاضيا عليها، وبنى له بها دارا، وقيل مات بعد ذلك، وقال هارون الحمال، وابن أبى حاتم: مات وسط إمرة معاوية، وقال أبو عمر: قيل مات سنة تسع وستين، والأول أصح، وذكر ابن الكلبي أن أباه كان شاعرا، وله ذكر في حرب الأوس والخزرج وكان يسبق الخيل، ويضرب الحجر بالحجر بالرحلة فيورى النار. (الاستيعاب) : 1263.
(تهذيب التهذيب) : 8/ 241، (أسماء الصحابة الرواة) : 80 ترجمة (62) .
[ (2) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (3) ] هي زينب بنت أبى سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية ربيبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أمها أم سلمة بنت أبى أمية. يقال: ولدت بأرض الحبشة، وتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمها، وهي ترضعها.
وفي مسند البزار ما يدل على أن أم سلمة وضعتها بعد قتل أبى سلمة، فخطبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتزوجها، وكانت ترضع زينب. وقصتها في ذلك مطولة، وكان اسمها برة، فغيره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. أسنده ابن أبى خيثمة، من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عنها، وذكر مثله في زينب بنت جحش، أصله في مسلم في حق زينب هذه وفي حق جويرية بنت الحارث.(9/161)
ومكرز [ (1) ] ، وعرفه بن الحارث [ (2) ] ، وسيار بن روح [ (3) ] ، وروح بن سيار، وسعيد بن المعلى [ (4) ] ، والعباس بن عبد المطلب [ (5) ] ، ولبيد بن أرطاة [ (6) ] ، وصهيب بن سنان [ (7) ] ، وأم أيمن [ (8) ] ، وأم يوسف [ (9) ] ، وماعز الغامدي [ (10) ]] .
__________
[ () ] وقد حفظت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وروت عنه، وعن أزواجه: أمها، وعائشة وأم حبيبة، وغيرهن.
روى عنها ابنها أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة، ومحمد بن عطاء، وعراك بن مالك، وحميد بن نافع، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وزين العابدين على بن الحسين، وآخرون.
قال ابن سعد: كانت أسماء بنت أبى بكر أرضعتها، فكانت أخت أولاد الزبير، وقال بكر ابن عبد اللَّه المزني: أخبرنى أبو رافع، يعنى الصائغ، قال: كنت إذا ذكرت امرأة فقيهة بالمدينة ذكرت زينب بنت أبى سلمة.
وقال سليمان التيمي، عن أبى رافع: غضبت على امرأتي، فقالت زينب بنت أبى سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة.... فذكر قصة، وذكرها العجليّ في ثقات التابعين كأنه كان يشترط للصحبة البلوغ، وأظن أنها لم تحفظ، وروينا في (القطعيات) ، من طريق عطاف بن خالد، عن أمه، عن زينب بنت أبى سلمة، قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل يغتسل تقول أمى: ادخلى عليه، فإذا دخلت نضح في وجهي من الماء، ويقول: ارجعي. قالت: فرأيت زينب وهي عجوز كبيرة ما نقص من وجهها شيء. وفي رواية ذكرها أبو عمر: فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعمرت، وذكرها ابن سعد فيمن لم يرو عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا وروى عن أزواجه، (الطبقات) : 8/ 338، (أسماء الصحابة الرواة) : 194 ترجمة (250) ، (الإصابة) : 7/ 675- 676، ترجمة رقم (11235) .
[ (4) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (5) ] سبقت له ترجمة.
[ (1) ] هو مكرز بن حفص بن الأخيف، بالخاء المعجمة والياء المثناة، ابن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن بغيض بن عامر بن لؤيّ القرشيّ العامرىّ، ذكره ابن حبان في الصحابة، وقال: يقال له صحبة، ولم أراه لغيره، وله ذكر في المغازي عند ابن إسحاق والواقدي: أنه هو الّذي أقبل لافتداء سهيل بن عمرو يوم بدر.(9/162)
__________
[ () ] وذكره المرزباني في معجم الشعراء، ووصفه بأنه جاهلى، ومعناه أنه لم يسلم وإلا فقد ذكر هو أنه أدرك الإسلام، وقدم المدينة بعد الهجرة لما أسر سهيل بن عمرو يوم بدر فافتداه، وذكر له الزبير بن بكار قصة افتدائه سهيل بن عمرو، وأنه قدم المدينة، فقال: اجعلوا القيد في رجلي مكان رجليه حتى يبعث إليكم بالفداء، وله ذكر في صلح الحديبيّة في البخاري، (الإصابة) : 6/ 206- 207، ترجمة رقم: (8199) .
[ (2) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (3) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (4) ] هو رافع بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن، ثعلبة الأنصاريّ الخزرجىّ ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق وغيرهما فيمن استشهد ببدر، وقتله عكرمة بن أبى جهل.
ووهم ابن شهاب في نسبه، فقال: إنه من الأوس، ثم من بنى زريق: وبنو زريق من الخزرج لا من الأوس والمقتول ببدر من الخزرج. (الإصابة) : 2/ 445 ترجمة رقم (2547) .
[ (5) ] هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشيّ الهاشميّ. عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أبو الفضل. أمه نتيلة بنت جناب بن كلب.
ولد قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسنتين، وضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك، وكان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها، فأسر فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبى طالب، ورجع إلى مكة، فيقال:
إنه أسلم، وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وثبت يوم حنين،
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أذى العباس فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه، أخرجه الترمذي في قصة.
وقد حدث عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأحاديث، روى عنه أولاده وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد اللَّه بن الحارث، وغيرهم.
وقال ابن المسيب، عن سعد: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأقبل العباس، فقال: هذا العباس أجود قريش كفأ وأوصلها. أخرجه النسائي.(9/163)
__________
[ () ] وأخرج البغوي في ترجمة أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بسند له إلى الشعبي، عن أبى هياج، عن أبى سفيان بن الحارث، عن أبيه، قال: كان العباس أعظم الناس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والصحابة يعترفون للعباس بفضله ويشاورونه، ويأخذون رأيه، ومات بالمدينة في رجب أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وكان طويلا جميلا أبيض. (الإصابة) : 3/ 631- 632، ترجمة رقم: 4510 (أسماء الصحابة الرواة) : 97 ترجمة (85) ، (الثقات) 3/ 288، (المصباح المضيء) : 2/ 55، (الجرح والتعديل) : 6/ 210، (التاريخ الصغير) :
1/ 15، 99، 70، (التاريخ الكبير) : 7/ 2 (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) : 1/ 38.
[ (6) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (7) ] هو صهيب بن سنان بن مالك. ويقال خالد بن عبد عمرو بن عقيل. ويقال: طفيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن زيد مناة بن النمر ابن قاسط النمري، أبو يحيى.
وأمه من بنى مالك بن عمرو بن تميم، وهو الرومي. قيل له ذلك لأن الروم سبوه صغيرا.
قال ابن سعد: وكان أبوه وعمه على الأبلة من جهة كسرى، وكانت منازلهم على دجلة من جهة الموصل، فنشأ صهيب بالروم، فصار ألكن، ثم اشتراه رجل من كلب فباعه بمكة فاشتراه عبد اللَّه بن جدعان التميمي فأعتقه. ويقال: بل هرب من الروم فقدم مكة، فحالف ابن جدعان.
وروى ابن سعد أنه أسلم هو وعمار، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار الأرقم. ونقل الوزير أبو القاسم المغربي أنه كان اسمه عميرة فسماه الروم صهيبا، وقال: وكانت أخته أميمة تنشده في المواسم، وكذلك عماه: لبيد، وزحر، ابنا مالك.
وزعم عمارة بن وثيمة أن اسمه عبد الملك. ونقل البغوي أنه كان أحمر شديد الصهوبة تشوبها حمرة، وكان كثير شعر الرأس يخضب بالحناء، وكان من المستضعفين ممن يعذب في اللَّه، وهاجر إلى المدينة مع على بن أبى طالب في آخر من هاجر في تلك السنة فقدما في نصف ربيع الأول وشهد بدرا والمشاهد بعدها.
وروى ابن عدي من طريق يوسف بن محمد بن يزيد بن صيفي بن صهيب عن آبائه عن صهيب، قال: صحبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يبعث، ويقال: إنه لما هاجر تبعه نفر من(9/164)
__________
[ () ] المشركين، فسئل، فقال: يا معشر قريش، إني من أرماكم ولا تصلون إلى حتى أرميكم بكل سهم معى، ثم أضربكم بسيفي، فإن كنتم تريدون ما لي دللتكم عليه، فرضوا فعاهدهم ودلهم فرجعوا فأخذوا ماله، فلما جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: ربح البيع، فأنزل اللَّه عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: 207] .
ورواه ابن سعد أيضا من وجه آخر عن أبى عثمان النهدي، ورواه الكلبي في تفسيره، عن أبى صالح، عن ابن عباس. وله طريق أخرى.
وروى ابن عدي من حديث أنس، والطبراني من حديث أم هانئ، ومن حديث أبى أمامة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: السباق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق الفرس.
وروى ابن عيينة في تفسيره، وابن سعد من طريق منصور عن مجاهد: أول من أظهر إسلامه سبعة، فذكره فيهم.
وروى ابن سعد من طريق عمر بن الحكم، قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول، وكذا صهيب وأبو فائد، وعامر بن فهيرة وقوم، وفيهم نزلت هذه الآية: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا
. [النحل: 110] .
وروى البغوي من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه: خرجت مع عمر حتى دخلت على صهيب بالعالية، فلما رآه صهيب، قال: يا ناس، يا ناس. فقال عمر: ما له يدعو الناس! قلت: إنما يدعو غلامه يحنس. فقال له: يا صهيب، ما فيك شيء أعيبه إلا ثلاث خصال:
أراك تنسب عربيا ولسانك أعجمى، وتكنى باسم نبي، وتبذر مالك، قال: أما تبذيرى مالي فما أنفقه إلى في حق، وأما كنيتي فكنانيها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأما انتمائى إلى العرب فإن الروم سبتني صغيرا، فأخذت لسانهم.
ولما مات عمر أوصى أن يصلى عليه صهيب، وأن يصلى بالناس إلى أن يجتمع المسلمون على إمام. رواه البخاري في تاريخه.
وروى الحميدي والطبرانىّ من حديث صهيب من طريق الستة عنه، قال: لم يشد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا(9/165)
__________
[ () ] كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيني وبين العدو قط، حتى توفى.
ومات صهيب سنة ثمان وثلاثين. وقيل سنة تسع، وروى عنه أولاده: حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد، وحفيده زياد بن صيفي.
وروى عنه أيضا جابر الصحابي، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وآخرون.
قال الواقدي: حدثني أبو حذيفة- رجل من ولد صهيب عن أبيه عن جده قال: مات صهيب في شوال سنة ثمان وثلاثين وهو ابن سبعين. (أسماء الصحابة الرواة) : 103 ترجمة (93) ، (الإصابة) : 3/ 449- 452، ترجمة رقم: 4108، (الثقات) : 3/ 194، (حلية الأولياء) : 1/ 372.
[ (8) ] هي أم أيمن، مولاة النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وحاضنته. قال أبو عمر: اسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، وكنا يقال لها أم الظباء.
وقال ابن أبى خيثمة: حدثنا سليمان بن أبى شيخ، قال: أم أيمن اسمها بركة وكانت أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أم أيمن أمى بعد أمى.
وقال أبو نعيم: قيل: كانت لأخت خديجة، فوهبتها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال ابن سعد: قالوا: كان ورثها عن أمه، فأعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم أيمن حين تزوج خديجة، وتزوج عبيد بن زيد، من بنى الحارث بن الخزرج، أم أيمن، فولدت له أيمن فصحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستشهد يوم خيبر، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم، فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة، فولدت له أسامة.
ثم أسند عن الواقديّ، عن طريق شيخ من بنى سعد بن بكر، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم يقول لأم أيمن: يا أمه. وكان إذا نظر إليها بقول هذه بقية أهل بيتي.
وقال ابن سعد: أخبرنا أبو أمامة عن جرير بن حازم: سمعت عثمان بن القاسم يقول: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف ودون الروحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلى عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته حتى رويت، فكانت تقول: ما أصابنى بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت.(9/166)
__________
[ () ] وأخرجه ابن السكن، من طريق هشام بن حسان، عن عثمان بنحوه، وقال في روايته:
خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد، وقال فيه: فلما غابت الشمس إذا أنا بإناء معلق عند رأسي، وقالت فيه: ولقد كنت بعد ذلك أصوم في اليوم الحار، ثم أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعد.
أخبرنا عبد اللَّه بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن سفيان بن عيينة، قال: كانت أم أيمن تلطف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتقدم عليه، فقال: من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة.
وأخرج البغوي، وابن السكن، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن أم أيمن- وكانت حاضنة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لبعض أهله: إياك والخمر ... الحديث. قال ابن السكن: هذا مرسل.
وأخرج البخاري في تاريخه، ومسلم، وابن السكن، من طريق الزهري، قال: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد اللَّه بن عبد المطلب والد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما توفى أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، ثم أنكحها زيد بن حارثة- لفظ ابن السكن.
وأخرج أحمد، والبخاري أيضا، وابن سعد، من طريق سليمان التيمي عن أنس- أن الرجل كان يجعل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم النخلات حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل يرد بعد ذلك، فكلمني أهلي أن أسأله الّذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان أعطاه لأم أيمن، فسألته فأعطانيه، فجاءت أم أيمن فجعلت تلوح بالثوب وتقول: كلا واللَّه لا يعطيكهن، وقد أعطانيهن، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لك كذا وكذا. وتقول: كلا حتى أعطاها، حسبته قال: عشرة أمثاله أو قريبا من عشرة أمثاله.
وأخرج ابن السكن، من طريق عبد الملك بن حصين، عن نافع بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن أم أيمن، قالت: كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فخارة يبول فيها بالليل، فكنت إذا أصبحت صببتها، فنمت ليلة وأنا عطشانة، فغلطت فشربتها، فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إنك لا تشتكين بطنك بعد هذا. (الإصابة) : 7/ 531- 532، ترجمة رقم: (10916) ، 8/ 169- 171، ترجمة رقم: 11898، (الاستيعاب) :
4/ 1925.(9/167)
[وذكر ابن سعد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أن أبا بكر الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشورة أهل الرأى وأهل الفقه، [دعا] رجلا من المهاجرين والأنصار، [و] دعا عمر، وعثمان وعليا، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وكل هؤلاء كان يفتى في خلافة أبى بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء، فمضى أبو بكر ذلك، ثم ولى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وكان [يدعو] هؤلاء النفر، وكانت الفتوى تصير إليهم وهو خليفة، إلى عثمان، وأبىّ وزيد] .
__________
[ () ] (9) قال الحافظ ابن حجر: أم يوسف التي شربت بول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، تقدم ذكرها في بركة في الباء الموحدة من أسماء النساء، ثم قال: أن كل منهما كانت تكنى أم أيمن، وتسمى بركة ويتأيد ذلك بأن قصة البول وردت من طريق أخرى مروية لأم أيمن، [فاللَّه تعالى أعلم أي ذلك كان] . (الإصابة) : 7/ 531، ترجمة بركة الحبشة رقم: (10914) ، 8/ 325، ترجمة أم يوسف رقم: (12303) .
[ (10) ] هو ماعز بن مالك الأسلمي، قال ابن حبان: له صحبة، وهو الّذي رجم في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثبت ذكره في الصحيحين وغيرهما من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد وغيرهما، وجاء ذكره في حديث أبى بكر الصديق وأبى ذر، وجابر بن سمرة، وبريدة بن الحصيب، وابن عباس، ونعيم بن هزال، وأبى سعيد الخدريّ، ونصر الأسلمي وأبى برزة:
سماه بعضهم، وأبهمه بعضهم، وفي بعض طرقه
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتى لأجزأت عنهم.
وفي صحيح أبى عوانة وابن حبان وغيرهما من طريق أبى زبير، عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم لما رجم ماعز بن مالك قال: لقد رأيته يتحضحض في أنهار الجنة.
ويقال:
إن اسمه عريب، وماعز لقب،
وفي حديث بريدة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: استغفروا لماعز، (الإصابة) : 5/ 705، ترجمة رقم (7593) ، (الاستيعاب) :
4/ 1345.(9/168)
[وعن عبد اللَّه بن دينار الأسلمي عن أبيه، قال: كان عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يستشير في خلافته إذا حزبه الأمر أهل الشورى [من] الأنصار: معاذ بن جبل، وأبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت.]
[وعن مسروق قال: شاممت أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة] .
فصل في ذكر أنصار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الأنصار رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم قبيل عظيم من الأزد وليست هذه التسمية لأب، ولأم، بل لنصرتهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد سماهم اللَّه تعالى بذلك في كتابه العزيز، وأثنى عليهم، قال تعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ (1) ] وقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (2) ] .
وقال قتادة في قوله: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [ (3) ] ، قال: كان ذلك بحمد اللَّه، جاءه سبعون رجلا فبايعوه عند العقبة فنصروه، وآووه حتى أظهر اللَّه دينه. قال: ولم يسم حي من الناس باسم لم يكن لهم إلا هم.
وعن غيلان بن حرب، قلت لأنس بن مالك: أرأيت اسم الأنصار اسم سماكم به اللَّه، أم كنتم تسمون به؟ قال: بل اسم سمانا اللَّه [تعالى] به.
__________
[ (1) ] التوبة: 100.
[ (2) ] التوبة: 117.
[ (3) ] الصف: 14.(9/169)
وقال النعمان بن بشير الأنصاري:
يا سعد لا تعد الدعاء فما لنا ... نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإله لقومنا ... أثقل به نسبا على الكفار
إن الذين ثووا ببدر منكمو ... يوم القليبة هم وقود النار
والأنصار: جمع نصير، مثل شريف وأشراف، وقد جاء النسب إليهم بلفظ الجمع، خلافا للقياس، كما جاء في أمثاله من النوادر. والأنصار كانوا يسمون أولاد قيلة، والأوس، والخزرج، لأنهم ولد الأوس، والخزرج أبناء حارث بن ثعلبة، وهو العنقاء بن عمرو، وهو مزيقياء بن عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغطريف ثم امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد. هكذا يقول الأنصار.
وكان الكلبي [ (1) ] وغيره يقولون: عمرو، مزيقاء بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد. والأزد اسمه أدد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ- واسمه عامر- وسمى سبأ لأنه أول من سبا السبي. وكان يدعى أيضا عبد شمس بن حسنة بن يشجب بن يعرف، وهو المرعف بن يقطن، وهو قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح عليه السّلام، على اختلاف في بعض ذلك.
وأم الأوس والخزرج: قيلة ابنة كاهل بن عذرة بن سعيد بن زيد بن ليت بن سؤدد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. قال هشام بن الكلبي: هكذا [نسبها] أبى والنساب كلهم، وقالت الأنصار: هي قيلة بنت الأرقم بن عمرو ابن جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء. واللَّه [تبارك وتعالى] أعلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] عن الكلبي من نسخة محمد بن حبيب، حدثنا محمد بن حبيب، قال: أخبرنا هشام بن الكلبي:
ولد مالك بن زيد بن كهلان نبتا، والخيار، فولد نبت بن مالك: الغوث، فولد الغوث أدد وهو الأزد، وعمرو، فمن ولد عمرو: خثعم، وبجيلة. (جمهرة أنساب العرب) : 330.
[ (2) ] (جمهرة أنساب العرب) : 332.(9/170)
فصل في ذكر نزول الأوس والخزرج يثرب
اعلم أن مواطن العرب في الدهر الأول، والزمن الغابر، كانت باليمن، ومدينة ملكهم مأرب، فلما قام في الملك بمأرب عمر بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، سمى مزيقياء، لأنه كان له حلة يمانية من ذهب، منظومة بالجوهر، تعمل في حول كامل، فإذا خرج وقد لبسها يوم عيده وعاد إلى قصره وقف لرجاله ومزقها قطعا، كي لا يلبسها أحد بعده [ (1) ] .
وأخذ هذه السنة عن ذي القرنين، الصعب بن ذي مراثد، وفي أيامه خرب سد مأرب، ومزّق اللَّه العرب كل ممزق، كما قال اللَّه تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي [مَسْكَنِهِمْ] آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ* وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ* فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [ (2) ] .
وكان عمرو بن عامر عنده أثارة من علم بخراب سد مأرب [ (3) ] ، [وتمزقهم] في البلاد، فعمل حيلة حتى باع عقاره بمأر، وخرج بأهله وولده
__________
[ (1) ] كذا في (الأصل) وفي (الاشتقاق) : 435: كان يمزق عنه كل يوم حلة لئلا يلبسها أحد بعده، وفي (جمهرة أنساب العرب) : 616: كانت تمزق عليه في كل يوم حلتان، ويقال:
سمى بذلك لتمزق ملكهم.
[ (2) ] سبأ: 15- 19.
[ (3) ] وأما خبر خراب سد مأرب، وقصة سيل العرم، فإنه في ملك حبشان فأخرب الأمكنة المعمورة في أرض اليمن، وكان أكثر ما أخرب بلاد كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب، وعامة بلاد حمير بن سبإ، وكان ولد حمير وولد كهلان هم سادة اليمن في ذلك الزمان، وكان عمرو بن(9/171)
فتبعه الأزد كلها، فساروا حتى نزلوا على عك [ (1) ] ، وأقاموا بأرضهم مدة، فمات عمرو بن عامر، وقام من بعده ابنه [ثعلبة العنقاء] بن عمرو بن عامر بعهده إليه، فكانت بين قومه وبين عك [ (1) ] حروب، آلت إلى مسير ثعلبة [بمن] معه، ونزولهم في أرض همدان، وإخراجهم [منها] بعد حروب [كبيرة] ، ثم رحل عنها، وعادت همدان إليها.
فمضى ثعلبة بقومه إلى نجران، وبها مدحج، فنزلوا معهم ثم احتربوا شهرا كاملا، حتى فرق بينهم سيل العرم، [وقد] خرب سد مأرب، فأتى السيل أرض مدحج، وهم في محاربة ثعلبة وقومه، فولوا هاربين، ونزل ثعلبة بقومه في أرض السراة، بعد ما تخلت عنه طوائف، وأقاموا بعدة مواضع.
__________
[ () ] عامر كبيرهم وسيدهم، وهو جد الأنصار، فمات عمرو ابن عامر قبل سيل العرم، وصارت الرئاسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن وكان عاقرا لا يولد له ولد، كان جوادا عاقلا، كان له ولد ولولد أخيه من الحدائق والجنان ما لم يكن لأحد من ولد قحطان، وكان فيهم امرأة كاهنة تسمى طريفة، فأقبلت يوما حتى وقفت على عمران بن عامر، وهو في نادى قومه [فقالت له كلاما ينبئ بخراب سد مأرب] .
[ (1) ] عك: بطن اختلف في نسبه، فقال بعضهم: بنو عك بن عدثان بن عبد اللَّه بن الأزد، من كهلان، من القحطانية، وذهب آخرون إلى أنهم من العدنانية، وعك أصغر من معد بن عدنان أبو العدنانية. وقال آخرون: إنه عك بن الدّيث بن عدنان بن أدد، أخو معد بن عدنان كانت مواطنهم في نواحي زبيد، وقطنوا مدينة الكدراء وغيرها من مدن اليمن النتهامية، ومن أراضيهم: الأعلاب، تقع بين كة، والساحل، وينسب إلى هذا البطن مخلاف عك، ومن بلادهم: رمع باليمن.
وكان من تاريخهم: أن أغارت خثعم ومسلية على بنى عك في راكة، فهزمتهم عك، وقد ارتدوا بعد وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأعلاب، فخرج إليهم بأمر أبى بكر الصديق، الطاهر بن أبى هالة، فواقعهم بالأعلاب، فقتلهم شر قتلة، وحاربوا سنة 37 هـ، مع معاوية بن أبى سفيان. (
معجم قبائل العرب) : 2/ 802.(9/172)
وسار حارثة بن ثعلبة بابني الأوس والخزرج إلى يثرب، فأدركه أبوه ثعلبة قريب مكة، فلما مروا بمكة وبها جرهم، قاتلهم جرهم، فمضوا إلى الجحفة، وسار ثعلبة إلى الشام فمات، وقام من بعده ابنه حارثة بن ثعلبة، فنزل الشام وبها سليخ من قبل الروم، فنزلوا معهم حتى أتاهم جابى قيصر ملك الروم لأخذ الإتاوة، فأنف حارثة وقومه من ذلك، وجرت لهم [مع الروم] خطوب، آخرها أن سار حارثة وولده الأوس والخزرج و [بنو] أبيه إلى يثرب، وأقام بنو ضعيف بن عمرو بن عامر وأخوهم بالشام مع سليخ.
وكان بيثرب يومئذ اليهود، وملكهم شريف بن كعب، فكتب بينه وبين حارثة بن ثعلبة كتاب عهد، أقاموا زمانا في هدوء، ثم وقع الشر بينهم واقتتلوا فقتل من اليهود عددا كبير، وملكت العرب المدينة بما فيها، فاجتمع يهود تيماء، وخبير، وفدك، والعوالي على حربهم، فآل أمرهم إلى الصلح.
ونزل الأوس والخزرج بيثرب، وعمروها بجموعهم، فمات الملك حارثة ثم ثعلبة العنقاء، وقام من بعده ابنه العجلاء بن حارثة، وثارت يهود والأوس والخزرج، فقتلوا، وسلبوا، ونهبوا، فبعثوا إلى جبلة بن عمرو بن جبلة، ملك غسان يستصرخه، فأقبل من الشام لنصرتهم على اليهود، وحاربهم فقتل ملكهم شريف بن كعب في جمع كبير منهم، حتى ذلوا له، ثم عاد إلى الشام، فمات في طريقه.
وقام من بعده ابنه الحارث بن الجبلة، فسار إليه مالك بن العجلان ليهنئه بالملك، ففقد ليلا في بنى قريظة، وقد عرش بمنازلهم، فأوقع بهم العجلان، وقتل منهم بضعا وثمانون رجلا بحيل دبرها، وكان قد قام بأمر اليهود بعد ملكهم شريف بن كعب، ابنه القيطون بن شريف- واسمه جونى، والقيطون لقب- فجمع يهود الحجاز، وتيماء، وفدك، والعوالي، وزحف إلى يثرب، فكان بينه وبين الأوس والخزرج قتال شديد، قتل فيه كثير من الفريقين فبعث العجلان يستنصر بطيئ وهم بأطراف نجد، فأتوه، وهزموا اليهود، وقتل القيطون في عدد كبير من قومه.(9/173)
وأقامت الأوس والخزرج بعد ذلك دهرا طويلا من الزمن بغير منازع حتى كثروا، وضاقت وبمن معهم من قبائل غسان أرض يثرب، فسارت قبائل غسان إلى الشام حتى لم يبق [بيثرب] إلا الأوس والخزرج، وبنو الحشحاش ابن جدع بن سنان.
فلما رأت ذلك اليهود، جمعهم ملكهم لحرب العرب، واستصرخ بعملوق الطسمى، من أرض اليمامة، وبدليل بن شريك الجديسى، وبكامل بن علقمة الراسبي، فأتوه في جيوش عظيمة، وحصروا يثرب وقتلوا عدة من رجال الأوس والخزج، وسبوا النساء والذرية، فنزل بهم بلاء كبير من اليهود، وانقطع منهم الملك والتيجان من حينئذ، حتى جاء اللَّه بالإسلام.(9/174)
فصل في ذكر بطون الأوس والخزرج
أما الأوس فإنّها ترجع إلى أوس بن حارثة، ولم يكن له ولد إلا مالك، وكان لأخيه الخزرج خمسة: عمرو، وعوف، وجشم، والحارث، وكعب، فقال للأوس قومه: أمرناك بالنزوح فلم تفعل، فقال: لم يهلك هالك ترك مثل مالك، وإن كان الخزرج ذا عدد وليس لمالك ولد، فلعل الّذي استخرج العرق من الجريمة، والنار من الوثيمة، أن يجعل لمالك نسلا ورجالا، بكلام في كلام بليغ.
واعلم أن بطون الأوس والخزرج كثيرة، وأشهر بطون الأوس: عبد الأشهل بن [جشم] بن الحارث بن الخزرج بن عمرو النبيت بن مالك بن الأوس، وأمه صخرة ابنة ظفر بن الخزرج بن عمرو النبيت. وحارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. وظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. وخطمة، واسمه عبد اللَّه بن جشم بن مالك بن الأوس. وواقف، واسمه مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس. والسلم ابن امرئ القيس بن مالك بن الأوس. ووائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.
وأمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس. وعمرو ابن عوف بن مالك بن الأوس. وفيهم بطون منها: أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف. وضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف وعبيد [بن] زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف. ويقال لآل حنش: أهل عوف.
وحنش بن عوف ومعاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف وحنش بن عوف بن عمرو بن عوف، ويقال لأهل حنش: أهل المسجد وحجاج ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف. وثعلبة بن عمرو بن عوف ابن مالك بن الأوس.
وبنو السميعة، وهم بنو لوذان بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وكان يقال لهم: الصماء، فسألهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أنتم؟ فقالوا: نحن بنو(9/175)
الصماء، فقال أنتم بنو السميعة، وهي من بلقين.
وحبيب بن عمرو بن عوف ابن مالك بن الأوس.
فهذه بطون الأوس، وكلها ترجع إلى مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة، ويقال لهم: أوس اللَّه، وهم الجعاذره، وسموا بذلك لقصر فيهم، أو لأنهم [كانوا] إذا أجاروا جارا قالوا له: جعذر حيث شئت.
ومن بطون الخزرج: النجار، واسمه تيم اللَّه [بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج] وقال الكلبي: اسمه العثر بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج وأمه الصدوف ابنة مالك من حمير، وسمى النجار لأنه ضرب وجه رجل فنجره، وقيل: بأنه اختتن بقدوم، وكان يقال له أيضا العثر.
وفي النجار بطون منها: مالك بن النجار، وفيهم بطون منها غنم بن مالك بن النجار، وهو مغالة، وهم من بنى عمرو بن مالك بن النجار، ومغالة، أم عدي بن عمرو وبها يعرفون، ومبذول واسمه عامر بن مالك بن النجار، وعدي بن النجار، ومازن بن النجار، ودينار بن النجار.
والحارث بن الخزرج، وفيهم بطون: هي جشم وزيد مناة ابنا الحارث بن الحارث بن الخزرج، وهم التوأمان، الأبخر بن عوف بن الحارث بن الخزرج، وجدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، وكعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة.
وفيهم بطون: هي طريف بن الخزرج بن ساعدة وثعلبة بن الخزرج ابن ساعدة، وعمرو بن الخزرج بن ساعدة، وسالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج بن حارثة. والقواقلة وهم: قوقل واسمه غانم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، كانوا من أعز أهل يثرب، وكانوا يقولون للغريب إذا دخل المدينة: قوقل حيث شئت، أي انزل حيث شئت، فأنت آمن، فسموا: القواقلة، [وليس] أحد يقول هذا غيرهم.
[والحبلى] ، وهو سالم بن غنم بن الخزرج بن حارثة، وإنما سمى الحبلى لعظم بطنه، والنسبة إليه الحبلىّ بفتح الباء، وهو شاذ النسب، وكان(9/176)
القياس: حبلىّ بإسكان الباء، وحبلاوىّ. وسلمة بكسر اللام، بن سعد بن على ابن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة.
وفي سلمة بطون، وهم: [بنو] حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبيد بن عدي بن غنم [بن] كعب بن سلمة، وسواد بن غنم بن كعب بن سلمة، وأدى بن سعد بن على بن أسد، أخو سلمة، وهم مع بنى سلمة، وزريق- بتقديم الزاى على الراء- ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب- بعين معجمة مفتوحة- ابن جشم بن الخزرج بن حارثة، وبياضة بن عامر، وزريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة، وحبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة، فهذه قبائل الأنصار وبطونها من الأوس والخزرج ابني حارثة.(9/177)
فصل في ذكر ما أكرم اللَّه تعالى به الأوس والخزرج من لقاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومبادرتهم إلى إجابته ودخولهم في طاعته، وتصديقهم برسالته ومسارعتهم إلى مبايعته [وحرصهم] على إيوائه ونصرته، بعد ما عرض نفسه على قبائل العرب فردوه ولم يقبلوه.
[اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان [ (1) ]] يقف بالموسم على [القبائل] [ (2) ] فيقول: يا بنى فلان، إني رسول اللَّه إليكم، يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وكان يمشى خلفه أبو لهب ويقول: لا تطيعوه.
وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كندة في منازلهم، فدعاهم إلى اللَّه فأبوا، وأتى كلبا في منازلهم، فلم يقبلوا منه، وأتى بنى حنيفة في منازلهم، فردوا عليه أقبح ردّ، وأتى عامر بن صعصعة، وكان لا يدع من العرب من [له [ (1) ]] اسم وشرف إلا دعاه، وعرض عليه ما عنده.
خرج الترمذي من حديث إسرائيل، حدثنا عثمان [بن [ (2) ]] المغيرة عن سالم بن أبى الجعد، عن جابر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعرض نفسه بالموقف فقال: [إلا [ (2) ]] رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى.
قال أبو عيسى: هذا حديث [غريب [ (3) ]] صحيح [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان من (سنن الترمذي) .
[ (3) ] في (الأصل) :: «حسن» .
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 5/ 168- 169، كتاب فضائل القرآن، باب (24) ، حديث رقم (2925) .(9/178)
وخرج أبو داود من حديث إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم ابن أبى الجعد، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام [ (1) ] ربى.
زاد ابن إسحاق في روايته قال: فأتاه رجل من همدان فقال: أنا، فقال: وهل في قومك منعة؟ وسأله: من أين هو؟ فقال: من همدان، ثم إن الهمدانيّ خشي أن يخفره قومه، أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: آتيهم فأخبرهم، ثم ألقاك من عام قابل؟ قال: نعم، فانطلق، وجاء وفد الأنصار في رجب.
وخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين [ (2) ] . [ولم يخرجاه [ (3) ]] .
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب من كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك أن لا يؤذوه ويمنعوه، يقول: لا أكره أحدا منكم على [شيء] ، من رضى منكم بالذي أدعو إليه [قبله] ، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بى من القتل، حتى أبلغ رسالات ربى، وحتى يقضى اللَّه عز وجل لي و [لمن] صحبني بما شاء، فلم يقبله أحد منهم،
ولم يأت أحد من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 5/ 103، كتاب السنة، باب (22) في القرآن، حديث رقم (4734)
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 669، كتاب تواريخ الأنبياء والمتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4220) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) ، (سيرة ابن هشام) : 2/ 270- 275، عرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نفسه على القبائل، (مسند أحمد) : 4/ 382، حديث رقم (14770) من مسند جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، (سنن ابن ماجة) : 1/ 73، المقدمة، باب (13) فيما أنكرته الجهمية، حديث رقم (201) . (سنن الدارميّ) : 2/ 440، باب القرآن كلام اللَّه، (المجموعة الصحيحة) : 4/ 591، حديث رقم (1947) .(9/179)
وقد أفسد قومه ولفظوه؟ فكان ذلك مما ادّخر اللَّه عز وجل للأنصار وأكرمهم به، [من البركة [ (1) ]] .
فلما توفى أبو طالب ارتد البلاء على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد ما كان، فعهد إلى ثقيف بالطائف، رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر، هم سادة ثقيف يومئذ، وهم إخوة: عبد ياليل بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء، وما انتهك منه قومه، فقال أحدهم:
أنا أسرق أستار الكعبة إن كان اللَّه قد بعثك بشيء! وقال الآخر: أعجز اللَّه أن يرسل غيرك؟ وقال الآخر: واللَّه لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدا، واللَّه لئن كنت رسول اللَّه، لأنت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على اللَّه، لأنت أشر من أن أكلمك، وهزءوا به، وأفشوا في قومهم الّذي راجعوه به، وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين صفيهم، جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعها، إلا رضخوها بالحجارة، حتى دموا رجليه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء.
فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظل في ظل حبله [ (2) ] منه، [وهو] مكروب موجع، تسيل رجلاه دما، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما، لما يعلم من عداوتهما للَّه ورسوله،
فلما رأياه أرسلا إليه غلاما [لهما] يدعى عدّاس- هو نصرانىّ من أهل نينوى معه عنب- فلما جاءه عداس، قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أي أرض أنت يا عداس؟ قال: أنا من أهل نينوى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عدّاس: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه-: أنا رسول اللَّه، واللَّه عز وجل أخبرنى خبر يونس [بن] متى،
فلما أخبره بما أوحى اللَّه إليه من شأن يونس بن متى، خرّ عداس ساجدا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فلما أبصر عتبة وشيبة ما صنع غلامهما، سكتا،
__________
[ (1) ] (دلائل أبى نعيم) : 1/ 295 حديث رقم (221) .
[ (2) ] الحبلة: شجرة العنب.(9/180)
فلما أتاهما قالا: ما شأنك؟ سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ ولم نرك فعلته بأحد منا! قال: هذا رجل صالح، أخبرنى بشيء عرفته، من شأن رسول بعثه اللَّه إلينا، يدعى يونس بن متى، فضحكا به وقالا: لا يفتنك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع، فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة [ (1) ] .
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر- يعنى الواقدي- قال:
حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبى الحويرث، عن محمد بن جبير ابن مطعم قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد موت أبى طالب إلى الطائف، ومعه زيد بن حارثة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وذلك في الثالث من شوال سنة عشر. قال الواقدي: فأقام بالطائف عشرة أيام- قال غيره: شهرا- لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه فكلمه فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم فقالوا: يا محمد! اخرج من بلدنا وألحق بمحالك من الأرض، وأغروا به سفهاءهم، فجعلوا يرجمونه بالحجارة، حتى إن رجليه لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجا، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة وهو محزون.
فلما نزل نخلة، قام يصلى من الليل، فصرف إليه نفر من الجن، سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا القرآن، وأقام بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟ فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم ابن عدي، أدخل في جوارك؟ قال: نعم.
ويروى أنه أن ذهب إلى الأخنس بن شريق فقال: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربى؟ فقال: إن الحليف لا يجير على الصريح، فقال الرسول: ائت سهيل بن عمرو، فقل له: إن محمدا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربى؟ فأتاه، فقال له ذلك، فقال: إن بنى عامر بن لؤيّ لا تجير على بنى كعب، فرجع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فأخبره فقال: ائت
__________
[ (1) ] نينوى: بكسر أوله وسكون ثانيه، وفتح النون والواو، وهي قرية نبي اللَّه يونس عليه السّلام بالموصل. (معجم البلدان) : 5/ 391.(9/181)
المطعم ابن عدي فقل له: إن محمدا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربى؟ قال: نعم،
فليدخل، فرجع إليه فأخبره.
وأصبح المطعم بن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه، وبنو أخيه، ودخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل قال: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير، قال: أجرنا من أجرت، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فانتهى إلى الركن فاستلمه، وصلّى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم وأولاده مطيفون به [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث حماد بن سلمة قال: حدثنا ثابت، عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد أخفت في اللَّه، وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في اللَّه، وما يؤذى أحد، ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي [ولبلال] طعام يأكله ذو كبد، إلا شيء يواريه إبط بلال [ (2) ] ، قال أبو عيسى: هذا حديث [حسن غريب] [ (3) ] .
قال بعضهم: ومعناه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج فارا من مكة ومعه بلال، إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه [ (4) ] .
وخرج البخاري [ (5) ] من حديث ابن شهاب قال: أخبرنى عمرو بن الزبير أن عائشة [رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها زوجة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 210- 212، ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الطائف.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 4/ 556، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (34) ، حديث رقم (2472) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) ، وفي (الأصل) : «حديث صحيح» ، وقال: ومعنى هذا الحديث: حين خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فارا من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه.
[ (4) ] (المرجع السابق) : تعقيبا على الحديث رقم (2472) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 6/ 384- 385، كتاب بدء الخلق، باب (7) إذا قال أحدكم: «آمين» والملائكة في السماء، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، حديث رقم (3231) ، 13، 460، كتاب التوحيد باب (9) وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً حديث رقم(9/182)
حدثته أنها قالت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك [ما لقيت و] كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل [بن] عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السّلام، فناداني فقال: إن اللَّه قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث اللَّه إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن اللَّه عز وجل قد سمع قومك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرنى بما شئت، إن شئت نطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج اللَّه من أشرارهم [أو قال من أصلابهم] [ (1) ] من يعبد اللَّه لا يشرك به شيئا.
قال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري قال: أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ناسا من كندة [في] مياه لهم، وفيهم سيد لهم يقال له:
مليح، فدعاهم إلى اللَّه عز وجل، فعرض عليهم نفسه، فأبوا أن يقبلوا منه نفاسة، ثم أتى حيا من كلب، يقال لهم، بنو عبد اللَّه، فقال لهم: يا بنى عبد اللَّه! قد أحسن اللَّه اسم أبيكم، فلم يقبلوا ما عرض عليهم.
قال أبو نعيم: وحمله عرض نفسه صلّى اللَّه عليه وسلّم على القبائل على تأكيد الحجة على منى لم يقبله، ولزوال اللائمة عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الإساءة بهم إذا أعلاه اللَّه [لكي] لا ينسب إليه- إذا لم يعدم العذر، ويلزمهم الحجة- الغلظة والإساءة بقومه.
وقيل: بل عرض نفسه على القبائل رياضة من اللَّه له، وتنبيها على التوكل عليه في كل أموره، فيبقى له العلو والتمكين، من حيث لا يحتسب،
__________
[ () ] (7389) ، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب (39) ما لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أذى المشركين والمنافقين، حديث رقم (1795) .
[ (1) ] ما بين الحاصرتين ليس في البخاري.(9/183)
فقيض له الأنصار مع بعد نسبهم، فصاروا له وزراء وأنصارا، دون أقاربه وقومه وعشيرته، الذين هم أولى بنصرته.
أول من لقيه من الأوس سويد بن الصامت
قال يونس بن بكير [عن] ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بنى عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد [إنما] يسميه قومه فيهم: الكامل، لسنه، وجلده، وشعره [وشرفه، ونسبه] ، قال: فتصدى له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، [حين سمع به] ودعاه إلى اللَّه عز وجل، وإلى الإسلام، فقال سويد:
فلعل الّذي معك مثل الّذي معى، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما الّذي معك؟
فقال: مجلة لقمان، يعنى حكمته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اعرضها عليّ، فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسن، والّذي معى أفضل منه، قرآن أنزله اللَّه عزّ وجل عليّ، هو هدى ونور، فتلا عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف [عنه] .
فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، وكان الّذي قتله المجذر بن [زياد] البلوى، حليف بنى عوف بن الخزرج، وكان رجال قومه يقولون: إنا لنرى أنه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث [ (1) ] .
وذكر ابن عبد البر: أن سويد بن الصامت هذا لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسوق ذي المجاز من مكة، في حجة حجها سويد [على ما كانوا يحجون عليه في [الجاهلية] ، وذلك في أول مبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعائه إلى اللَّه
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 273- 275، عرضه صلّى اللَّه عليه وسلّم نفسه على سويد بن الصامت، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) ، ومجلة لقمان: صحيفة، ويوم بعاث: يوم من أيام العرب في الجاهلية وقعت فيه الحرب بين الأوس والخزرج، هلك فيها كثير من صناديدهم وأشرافهم، وبعاث: اسم أرض بها عرفت. هامش (المرجع السابق) ، (أيام العرب في الجاهلية) : 73 وما بعدها.(9/184)
تعالى، فدعاه عليه السّلام إلى الإسلام، فلم يرد عليه سويد شيئا، ولم يظهر له قبول ما دعاه إليه وقال له: لا أبعد ما جئت به، ثم انصرف إلى قومه بالمدينة. قال أبو عمر: أنا شاك في إسلام سويد بن الصامت، كما شك فيه غيري [ (1) ] .
ثم لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد لقاء سويد بن الصامت فتية من بنى عبد الأشهل
قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، أخى بنى عبد الأشهل قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بنى عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، [يلتمسون] [ (2) ] الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم [في] [ (3) ] خير مما جئتم له؟ فقالوا [له] [ (4) ] : وما ذاك؟ قال: أنا رسول اللَّه، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليّ الكتاب،
ثم ذكر لهم الإسلام، [وتلى] عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ- وكان غلاما حدثا-: [أي] [ (5) ] قوم! هذا واللَّه خير مما جئتم له، [قال] [ (6) ] فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع، حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس [
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 2/ 677- 678، ترجمة رقم (1116) .
[ (2) ] في (الأصل) : «يلتمس» .
[ (3) ] في (الأصل) : «إلى» .
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] في (الأصل) : «يا» .
[ (6) ] زيادة للسياق.(9/185)
ابن معاذ] [ (1) ] وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا [قال: فصمت إياس] [ (2) ] .
وقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، [وكانت] وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود ابن لبيد: فأخبرني من حضره [من] قومه [عند موته] أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل اللَّه تعالى، ويكبره، ويحمده، ويسبحه، حتى مات، وكانوا لا يشكون أن قد مات مسلما، [فقد] كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما سمع [ (3) ] .
وخرج البخاري وأحمد من حديث أبى أسامة قال: أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه اللَّه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وقد افترق ملأهم، وقتلت سرواتهم [ (4) ] . وزاد أحمد: ورقوا للَّه ولرسوله في دخولهم في الإسلام [ (5) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب.
[ (2) ] زيادة للسياق، وفي (الأصل) : «فسكت» .
[ (3) ] (سيرة ابن هاشم) : 2/ 275- 276، إسلام إياس بن معاذ وقصة أبى الحيسر.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 138، كتاب مناقب الأنصار، باب (1) مناقب الأنصار، باب (46) مقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه المدينة، حديث رقم (3930) .
[ (5) ] أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 90، حديث رقم (23799) ، من مسند السيدة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها. وسرواتهم: سادتهم وكبرائهم.(9/186)
وكان من خبر يوم بعاث [ (1) ]
[اعلم] أن الأوس والخزرج لما استقروا بيثرب كما تقدم، وقع بينهم عدة حروب [في مدة] مائة وعشرين سنة، آخرها أن قريظة والنضير [حيان] من اليهود، جددوا مع الأوس العهود على المؤازرة والتناصر. وأدخلوا معهم قبائل أخر من اليهود، وجدّوا في أمرهم، فجمعت الخزرج، واستنفروا حلفاءهم من أشجع، وجهينة، فراسل الأوس أيضا حلفاءهم من مزينة، وأقام الفريقان مدة أربعين يوما يتجهزون للحرب، ثم التقوا ببعاث- وهي من أموال بنى قريظة- وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس [بن] زيد بن الأشهل بن جشم بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس [ (2) ] وعلى الخزرج رحيلة بن ثعلبة بن خالد بن عامر بن بياضة بن زريق ابن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة البياضيّ [ (3) ] ، وتخلف عبد اللَّه بن أبىّ ابن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة ابن الحارث عن الأوس، [فاقتتلوا] قتالا شديدا صبروا فيه جميعا، ثم انهزمت الأوس، فثبت حضير الكتائب، ونزل عن فرسه، وضرب بحربته ظهر قدمه، وصرخ وا عقراه، وصاح: واللَّه لا أبرح حتى أقتل، فعطفوا عليه، وقاتلوا، فقتل عمرو بن النعمان رئيس الخزرج، فانهزم الخزرج،
__________
[ (1) ] بعاث: بالضم، وآخره ثاء مثلثة: موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية- وحكاه صاحب (كتاب العين) بالغين المعجمة، ولم يسمع في غيره، وقال أبو أحمد العسكري: هو تصحيف.
[ (2) ] ترجمته في (جمهرة أنساب العرب) : 339، 346، (جمهرة النسب) : 634، 635.
[ (3) ] ترجمته في (جمهرة أنساب العرب) : 357، (الإصابة) : 2/ 481، ترجمة رقم (2647) ، وقال الحافظ: رخيلة بالخاء المعجمة مصغرا، ابن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة ابن عامر بن بياضة الأنصاري الزرقيّ. ذكره ابن إسحاق، وموسى بن عقبة فيمن شهد بدرا.
قال ابن هشام: قاله ابن إسحاق بالجيم، والصواب بالخاء، كذا أطلق، وقيده الدار قطنى وغيره بالخاء المعجمة.(9/187)
ووضع الأوس فيهم السلاح، ثم كفوا عنهم. وأما حضير الكتائب فمات من جراحته، وأحرق الأوس دور الخزرج ونخيلهم.
وخرج الترمذي من حديث الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبد اللَّه، عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد اللَّه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن اللَّه أوحى إليّ أي هؤلاء الثلاثة نزلت، فهي دار هجرتك: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين [ (1) ]
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل بن موسى [ (2) ] .
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال، فلما اشتدوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمين، أمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [بالخروج] إلى المدينة، فخرجوا
__________
[ (1) ] قنسرين: بكسر أوله وفتح ثانيه وتشديده- وقد كسره قوم- ثم سين مهملة. وسبب تسميتها بذلك أن ميسرة بن مسروق العبسيّ مرّ عليها فلما نظر إليها قال: ما هذه؟ فسميت له بالرومية، فقال: واللَّه لكأنها قين نسر، فسميت قنسرين، وقيل غير ذلك.
وكان فتح قنسرين على يد أبى عبيدة بن الجراح رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في سنة (17) ، وكانت حمص وقنسرين شيئا واحدا، قال أحمد بن يحيى: سار أبو عبيدة بن الجراح بعد فراغه من اليرموك إلى حمص، فاستقر بها، ثم أتى قنسرين وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فقاتله أهل مدينة قنسرين، ثم لجئوا إلى حصنهم، وطلبوا الصلح، فصالحهم، وغلب المسلمون على أرضها وقراها.
وكانت قنسرين مدينة بينها وبين حلب مرحلة من جهة حمص، بقرب العواصم، وبعضهم يدخل قنسرين في العواصم، وكانت عامرة آهلة إلى أن كانت سنة (351) وغلبت الروم على مدينة حلب فليس بها اليوم إلا خان ينزله القوافل وعشار السلطان، وفريضة صغيرة.
وكان خراب قنسرين في سنة (355) قبل موت سيف الدولة بأشهر. كان قد خرج إليها ملك الروم، وعجز سيف الدولة عن لقائه فأمال عنه، فجاء إلى قنسرين وخربها، وأحرق مساجدها، ولم تعمر بعد ذلك، وحاضرة قنسرين بلدة باقية إلى الآن.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 678، كتاب المناقب، باب (68) في فضل المدينة، حديث رقم (3923) .(9/188)
أرسالا أرسالا [ (1) ] فخرج منهم قبل خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة: أبو سلمة ابن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية، وعامر بن ربيعة، وامرأته أم عبد اللَّه بنت أبى حثمة- ويقال: أول ظعينة قدمت المدينة أم سلمة، ويقول بعض الناس: أم عبد اللَّه، واللَّه أعلم- ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبد اللَّه بن جحش، وعثمان بن الشريد، وعمار بن ياسر. فنزل أبو سلمة، وعبد اللَّه بن جحش في بنى عمرو بن عوف، ثم خرج عمر بن الخطاب، وعباس بن أبى ربيعة في أصحاب لهم، فنزلوا في بنى عمرو بن عوف، وعدا أبو سفيان بن حرب على دار بنى جحش، وهي دار إياب بن عثمان عند الروم فيملكها، إذ بقيت [خرابا] لا أحد بها، لأنهم هاجروا بنسائهم، وطلب أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام، والعاص بن هشام، عباس بن أبى ربيعة- وهو أخوهم لأمهم- فقدموا المدينة، فذكروا له حزن أمه وقالا له: إنها حلفت أنها لا يظلها سقف بيت، ولا يمس رأسها دهن حتى تراك، [ولولا] ذاك لم نطلبك، فنذكرك اللَّه في أمك- وكان بها رحيما، وكان يعلم من حبها إياه، ورأفتها به- فصدق قولهم، [ورق] لها، لما ذكروا [له] منها، وأبى أن يتبعهما، حتى عقد له الحارث بن هشام عقدا، فلما خرجا به أوثقاه، فلم يزل به، قال: حتى خرج من خرج قبل فتح مكة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو له بالخلاص.
قال: وخرج عبد الرحمن بن عوف، على سعد بن الربيع، في بنى الحارث بن الخزرج، وخرج عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد اللَّه، والزبير ابن العوام، وطائفة أخرى، فأما طلحة فخرج إلى الشام، ثم تتابع أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [كذلك] إلى المدينة أرسالا.
ومكث من أصحابه بمكة، حتى بعد مقدمه المدينة، منهم: سعد بن أبى وقاص- وقيل: بل قدم قبل قدوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] أرسالا: على دفعات متفرقة.(9/189)
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني نافع عن عبد اللَّه ابن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: لما اجتمعنا للحرة، اتعدت أنا وعباس بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وقلنا: الميعاد بيننا القاصب [ (1) ] من أضاة بنى غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس، فليمض صاحباه، فأصبحت أنا وعباس بن أبى ربيعة، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن.
وقدمنا المدينة، و [كنا] نقول: ما اللَّه يقبل من هؤلاء توبة، قوم عرفوا اللَّه وآمنوا به، وصدقوا رسوله، ثم رجعوا عن ذلك، لبلاء أصابهم من الدنيا، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فأنزل اللَّه عز وجل فيهم: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] [ (2) ] .
قال عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص، فقال هشام: فلما قدمت على، خرجت بها إلى ذي طوى، فجعلت أصعدها، وأصوب لأفهمها، فقلت: اللَّهمّ فهمنيها، فعرفت أنها أنزلت فينا، لما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا. فرجعت، فجلست على بعيري، فلحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقتل هشام شهيدا بأجنادين [ (3) ] ، في ولاية أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.
__________
[ (1) ] كذا في الأصل، ولم أجد لها توجيها.
[ (2) ] الزمر: 53.
[ (3) ] هو هشام بن العاص السهمي، الرجل الصالح المجاهد، ابن أخت أبى جهل، وهي أم حرملة المخزومية، وقد مضى
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ابنا العاص مؤمنان.
قال ابن سعد: كان هشام قديم الإسلام بمكة، وهاجر إلى الحبشة، ثم رد إلى مكة إذ بلغه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد هاجر ليلحق به فحبسه قومه بمكة. ثم قدم بعد الخندق مهاجرا وشهد ما بعدها.
قال ابن عيينة: قالوا العمرو بن العاص: أنت خير أم أخوك هشام؟ قال: أخبركم عنى وعنه، عرضنا أنفسنا على اللَّه فكلنا نسأل اللَّه الشهادة يوم اليرموك، فلما أصبحنا حرمتها(9/190)
وقال عبد العزيز بن محمد، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر [قال ابن إسحاق: ونزل عمر بن الخطاب حين قدم المدينة ومن لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو، وعبد اللَّه ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي وكان صهره على ابنته حفصة بنت عمر مخلف عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعده وسعيد بن زيد عمرو بن نفيل، وواقد ابن عبد اللَّه التميمي حليف لهم، وخولى بن أبى خولى، ومالك بن أبى خولى، حليفان لهم] [ (1) ] .
وقال إسرائيل عن أبى إسحاق عن البراء، فذكر حديث الهجرة والقبلة، قال البراء: وكان أول من قدم علينا من المهاجرين، مصعب بن عمير، أخو بنى عبد الدار بن قصي، فقلنا له ما فعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال:
هو مكانه، وأصحابه على إثري، ثم أتى بعده عمر، و [ابن] أم مكتوم الأعمى، أخو بنى فهر، فقلنا له: ما فعل من ورائك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه؟ قال: هم على الإثر، ثم أتى بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبى وقاص، وعبد اللَّه بن مسعود، وبلال، ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم أتانا بعدهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه معه. أخرجه مسلم.
__________
[ () ] ورزقها. قتل يوم اليرموك أو أجنادين شهيدا، لما راى بعض النكوص من المسلمين، فألقى المغفر عن وجهه، وجعل يتقدم في نحر العدو، ويصيح: يا معشر المسلمين، إلى إليّ، أنا هشام بن العاص، أمن الجنة تفرون؟ حتى قتل. له ترجمة في (الإصابة) : 6/ 540- 541، ترجمة رقم (8971) ، (المستدرك) : 3/ 267- 268، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب هشام بن العاص بن وائل السهمي رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 137، (الاستيعاب) : 4/ 1539- 1540، ترجمة رقم (2683) ، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (148) ، 2821) ، (الجرح والتعديل) 9/ 63، (جهرة أنساب العرب) : 163، (طبقات ابن سعد) : 4/ 191- 194.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (الأصل) ، واستدركناه من (سيرة ابن هشام) :
2/ 325، منازل المهاجرين بالمدينة.(9/191)
وذكر محمد بن إسحاق أسماء من هاجر إلى المدينة، أتم من ذكر موسى بن عقبة، ثم قال: وكان آخر من قدم المدينة من الناس ممن لم يفتن في دينه أو يحبس، على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخره بمكة، وأمره أن ينام على فراشه، وأجله ثلاثا، وأمره أن يؤدى كل ذي حق حقه، ففعل، ثم لحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(9/192)
فصل في ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة إذ مكر به المشركون، وهجرته إلى المدينة دار هجرته ونزوله على الأنصار رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم وتلاحق المهاجرين به [صلّى اللَّه عليه وسلّم]
قال ابن قتيبة: الهجرة، من هجرت الرجل هجرانا وهجرا، إذا قطعته، وكان الرجل إذا أسلم هجر قومه، فيفر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسمى مسيره إليه هجرة. وقيل: هاجر، خرج من أرض، والمدينة [فعيلة تجمع [ (1) ] على مدائن بالهمز] ولذلك همزت في الجمع، لأنه لا أصل للياء في الحركة، وقيل: هي من دان، تدين دينا، إذا أطاع، والدين، الطاعة، والمدينة، موضع الطاعة.
وقال أبو عبيد: دنته، ملكته، وقال ابن كيسان: مدينة، فعلة من مدنت، وتكون مفعله من دان يدين.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب [عن] الزهري: ومكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد الحج، بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أن يقتلوه، أو يخرجوه، حين ظنوا أنه خارج، وعلموا أن اللَّه قد جعل له مأوى ومنعة، ولأصحابه، وبلغهم إسلام من أسلم، ورأوا من يخرج إليهم من المهاجرين، فأجمعوا أن يقتلوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو يثبتوه، فقال اللَّه عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [ (2) ] .
وبلغه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذلك اليوم الّذي آتى فيه أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنهم مبيتوه إذا أمسى على فراشه، فخرج وأبو بكر من جوف
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان من (لسان العرب) : 13/ 402.
[ (2) ] الأنفال: 30.(9/193)
الليل قبل الغار- غار ثور- وهو الّذي ذكر اللَّه عز وجل في الكتاب، وعمد على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فرقد على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بن أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وباتت قريش يختلفون ويأتمرون، أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه، فكان ذلك أمرهم حتى أصبحوا، فإذا هم بعلي بن أبى طالب، فسألوه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرهم أنه لا علم له به، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم، فركبوا في كل وجه يطلبونه.
وقال يونس بن بكير، إن ابن إسحاق قال: فلما أيقنت قريش أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم قد بويع، وأمر من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة [تآمروا] فيما بينهم فقالوا: الآن فأجمعوا في أمر محمد، فو اللَّه لكأنه قد كر عليكم بالرجال، فأثبتوه، أو اقتلوه، أو أخرجوه، فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه، فزعم ابن دريد في (الوشاح) ، أنهم كانوا خمسة عشر رجلا. وذكر ابن دحية في كتاب (المولد) ، أنهم كانوا مائة رجل.
قال ابن [إسحاق] : فلما دخلوا الدار، اعترضهم الشيطان في صورة رجل [جميل] في بت له، قال: أدخل؟ قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له، وأراد أن يحضره معكم، فعسى أن لا يعدمكم رأى ونصح، فقالوا: أجل، فادخل، فلما دخل قال بعضهم لبعض:
قد كان من الأمر ما قد علمتم، [أجمعوا] في هذا الرجل رأيا واحدا، وكان ممن اجتمع له في دار الندوة: شيبة، وعتبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والنضر بن الحارث، فقال قائل منهم: أرى أن تحبسوه، وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير بن أبى سلمى، والنابغة، وغيرهما، فقال النجدي: واللَّه ما هذا لكم برأي، واللَّه لئن فعلتم لخرج رأيه وحديثه حيث حبستموه، إلى من وراءه من أصحابه، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم، ثم يغلبوكم على ما في أيديكم من أمركم.
فقال قائل منهم: بل نخرجه فننفيه من بلادنا، فإذا غيب عنا وجهه وحديثه، فو اللَّه ما نبالى أين وقع من البلاد، ولئن كان أجمعنا بعد ذلك أمرنا،(9/194)
وأصلحنا ذات بيننا، قال [الشيخ] النجدي: لا، واللَّه ما هذا لكم برأي، أما رأيتم حلاوة منطقه، وحسن حديثه، وغلبته على ما يلقاه، دون من خالفه، واللَّه لكأنّي به إن فعلتم ذلك، قد دخل على قبيلة من قبائل العرب، فأصفقت معه على رأيه، ثم سار بهم إليكم، حتى بطأكم بهم، فلا واللَّه ما هذا لكم برأي.
فقال أبو جهل بن هشام: واللَّه إن لي فيه لرأيا، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: وما هو؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما، فتيا، جلدا، نسيبا، وسيطا، ثم تعطوهم شفارا صارمة، ثم يجتمعوا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه، تفرق دمه في القبائل، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، يقعوا على حرب قومهم، فإنما قصرهم عند ذلك أن يأخذوا العقل، [فتؤدونه] لهم، قال الشيخ النجدي: للَّه در الفتى، هذا هو الرأى، وإلا فلا شيء، فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له، وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر، وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة، فلم يبت حيث كان يبيت، وبيت عليا رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في مضجعه.
وقال ابن إسحاق، عن عبد اللَّه بن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان، مولى أم هانئ، عن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن نفرا من قريش، من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا، فذكر معنى هذه القصة، إلى أن قال: فأتى جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الّذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في بيته تلك الليلة.
وأذن اللَّه عز وجل عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة في [سورة] الأنفال يذكر نعمته عليه، وبلاءه عنده: صلّى اللَّه عليه وسلّم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ(9/195)
الْماكِرِينَ [ (1) ] ، وأنزل في قولهم: تربصوا [به] حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [ (2) ] .
وقال يونس عن ابن إسحاق: وأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينتظر أمر اللَّه، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت، وأرادوا به [ما] أرادوه، أتاه جبريل عليه السّلام، فأمره أن لا يبيت في مكانه الّذي كان يبيت به، ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بن أبى طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتشح ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على القوم وهم على بابه، وخرج [و] معه [حفنة] من تراب، فجعل ينثرها على رءوسهم، وأخذ اللَّه عز وجل بأبصارهم عن نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وهو] يقرأ: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ* لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (3) ] وذكر الواقدي: أن الذين كانوا ينتظرونه: أبو جهل، والحكم بن أبى العاصي، وعقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وابن القيطلة، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي، وأبو لهب، وأبى بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
وذكر أن قريشا بعثت قائفين يقصان آثار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أحدهما كرز ابن علقمة بن هلال الخزاعي، فاتبعاه حتى انتهيا إلى غار ثور، فرأى كرز عليه نسج العنكبوت، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فانصرفوا، وقال بعضهم:
ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أريكم إلى الغار، وعليه من نسج العنكبوت ما عليه، واللَّه إني لأرى هذا النسج قبل أن يولد محمد، وبال حتى جرى بوله بين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر.
__________
[ (1) ] الأنفال: 30.
[ (2) ] الطور: 30.
[ (3) ] يس: 1- 9.(9/196)
وقال محمد بن عبد الملك بن هشام، عن زياد بن عبد اللَّه البكائي، عن ابن إسحاق: واذن اللَّه لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك في الهجرة وكان أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه رجلا ذا مال، فكان حين استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الهجرة قال له: لا تعجل، لعل اللَّه يجعل لك صاحبا،
فيطمع [أبو بكر] بأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما يعنى نفسه حين قال ذلك، [فابتاع] راحلتين، فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك.
فحدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يأتى بيت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الّذي أذن اللَّه فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة، من بين ظهري قومه، أتانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتى فيها،
قالت: فلما رآه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ما جاء رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليس عند أبى بكر إلا أنا، وأختى أسماء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أخرج عنى من عندك، فقال يا رسول اللَّه: إنما هما ابنتاى، وما ذاك؟ فداك أبى وأمى، قال: إن اللَّه عز وجل أذن لي في الخروج والهجرة.
قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول اللَّه، قال: الصحبة،
قالت فو اللَّه ما شعرت قط قبل ذلك اليوم، أن أحدا يبكى من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ، ثم قال: يا نبي اللَّه، إن هاتين راحلتان، كنت أعددتهما لهذا.
وفي (طبقات ابن سعد) : أن ثمنها ثمان مائة درهم، اشتراهما من نعم بنى قشير، فأخذ صلّى اللَّه عليه وسلّم القصواء بثمنها.
قال ابن هشام: فاستأجرا عبد اللَّه بن أريقط- رجلا من بنى الديل من بكر، وكانت أمه امرأة من بنى سهم بن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، وكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.(9/197)
قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحد حين خرج، إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبى بكر، أما على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما بلغني أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بمكة، حتى يؤدى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته، فلما أجمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخروج، أتى أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فخرجا من خوخة لأبى بكر في ظهر بيته، ثم إلى غار بثور- جبل بأسفل مكة- فدخلاه وأمر أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ابنه عبد اللَّه بن أبى بكر، أن يسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيها إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه، أن يرعى غنمة نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما تأتيهما من الطعام إذا أمست، بما يصلحهما.
فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الغار ثلاثا، ومعه أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم، وكان عبد اللَّه بن أبى بكر يكون في قريش [نهاره] معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد اللَّه بن أبى بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، حتى يعفى عليه.
حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الّذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها [عصام] [ (1) ] ،
__________
[ (1) ] العصام: الحبل يشد على فهم المزادة.(9/198)
فتحل نطاقها، فتجعله عصاما [ (1) ] ، ثم علقتها به، وكان يقال لأسماء: ذات [النطاقين] لذلك.
فلما قرب أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه الراحلتين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قدم أفضلهما، ثم قال: اركب، فداك أبى وأمى، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لا أركب بعيرا ليس لي، قال: فهي لك يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمى، قال لا، ولكن بالثمن الّذي ابتعتها به [ (1) ] ؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها به،
قال هي لك يا رسول اللَّه، فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق، وحمل أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مع نفسه جميع ماله، وهو نحو ستة آلاف درهم.
قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد اللَّه بن أريقط، سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل، أسفل من عسفان [ (2) ] . وذكر المبارك، حتى قال: ثم قدم بهما قبائل بنى عمرو بن عوف، لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل.
قال ابن هاشم: ويقال بل نزل على سعد بن خيثمة، ونزل أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه على حبيب بن إساف. ويقال: بل كان منزله على خارجة بن زيد.
وأقام على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى رد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزل معه على كلثوم بن هدم، فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقباء في بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم أخرجه اللَّه بين أظهرهم، يوم الجمعة،
__________
[ (1) ] إنما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك، لتكون هجرته إلى اللَّه بنفسه وماله، رغبة منه صلّى اللَّه عليه وسلّم في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتم أحوالها، وهو قول حسن، عن كثير من أهل العلم.
[ (2) ] سمى عسفان لتعسف السيول فيه.(9/199)
حتى أسس مسجده- كما تقدم- ونزل بدار أبى أيوب الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ثم تحول إلى مساكنه.
قال محمد بن زبالة: ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفل بيت أبى أيوب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، [فكره] أبو أيوب أن [يكون] منزله فوق رأس رسول اللَّه، فلم يزل ساهرا حتى أصبح. فقال يا رسول اللَّه، إني أخشى أن أكون قد ظلمت نفسي، أنى فوق رأس رسول اللَّه، فينزل التراب من وطئ أقدامنا، وإنه أطيب لنفسي أن أكون تحتك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
السفل أرفق بنا وبمن يغشانا،
فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في العلو، فابتاع المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ذلك البيت من أبى أفلح، مولى أبى أيوب بألف دينار، فتصدق به، وقد بنى ولم يغير سقفه.
وقال ابن إسحاق: وتلاحق المهاجرون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يبق منهم أحد إلا مفتون أو محبوس، قال: فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة، إذ قدمها شهر ربيع الأول، إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه، فاستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور إلا أسلم أهلها، إلا من كان من خطمة، وواقف، ووائل، وأمية، وكذلك أوس اللَّه، وهم حي من الأوس، فإنّهم أقاموا على شركهم.
وكتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم، وقد تقدم ذكره [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم ذكرهم.
وقد خرج البخاري حديث الهجرة من طريق يحى بن بكير، قال:
حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فذكره في آخر كتاب الكفالة، وترجم عليه باب: جوار
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 17- 31.(9/200)
أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] وذكره في كتاب الهجرة مطولا [ (2) ] . وفرقه في عدة مواضع من طرق أخر [ (3) ] . وخرجه مسلم من طرق [ (4) ] .
وأخرج الإمام أحمد من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن ثابت عن أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، لعبت الحبشة بحرابها فرحا بذلك [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 599، كتاب الكفالة، باب (4) جوار أبى بكر في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعقده، حديث رقم (2297)
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 291، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3905) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 4/ 442، كتاب البيوع، باب (57) إذا اشترى متاعا أو دابة، فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض، حديث رقم (2138) ، 4/ 577 كتاب الإجارة، باب (3) استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام وعامل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يهود خيبر، حديث رقم (2263) ، 4/ 558، كتاب الإجارة باب (4) إذا استأجر أجيرا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، أو بعد شهر أو بعد سنة جاز وهي على شرطها الّذي اشترطاه إذا جاء الأجل، حديث رقم (2264) ، 7/ 291، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3905) ، 7/ 494، كتاب المغازي، باب (29) غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة، وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه. قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم ابن عمر أنها بعد أحد، حديث رقم (4093) ، 10/ 336، كتاب اللباس باب (16) التقنع، حديث رقم (5807) ، 10/ 610، كتاب الأدب باب (64) هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا، حديث رقم (6079) . وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 283، حديث رقم (25098) ، من حديث السيدة عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 190- 191، كتاب الأشربة، باب (10) جواز شرب اللبن، حديث رقم (90) ، (91) ، (92) من طرق وسياقات مختلفة مختصرا.
[ (5) ] (مسند أحمد) : 3/ 638، حديث رقم (12238) ، من مسند أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.(9/201)
وقال عبد الأعلى: عن عوف، عن ثمامة، عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مر بجوارى من الأنصار وهن يغنين يقلن:
نحن جوار بنى النجار وحبذا محمد من جار فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّه يعلم أنى أحبكن [ (1) ] .
وقال أبى خليفة، الفضل بن الحباب: سمعت ابن عائشة يقول:
لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل النساء والصبيان [الولائد] يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا للَّه داع
[أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع [ (2) ]]
وخرج الحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال:
شهدت يوم دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فلم أر يوما أحسن أو أضوأ منه. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم [ (3) ] . [ولم يخرجاه] [ (4) ] .
ومن حديث إسرائيل، عن ابن إسحاق، عن البراء، عن أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: ومضى رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] حتى قدم المدينة، وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق، وصاح النساء، والخدام، والغلمان، جاء محمد، جاء رسول اللَّه، اللَّه أكبر، جاء رسول اللَّه، فلما أصبح انطلق، فنزل حيث أمر. قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (5) ] . [ولم يخرجاه] [ (6) ] وله ولابن حبان، من حديث الحسين بن واقد، عن يزيد النحويّ، أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، كانوا من
__________
[ (1) ] (تاريخ الخميس) : 1/ 341- 342
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 14، كتاب (29) الهجرة، حديث رقم (4281) .
[ (3) ] زيادة في السياق من (المستدرك) .
[ (4) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4282) .
[ (5) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2482) .
[ (6) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .(9/202)
أخبث الناس كيلا، فأنزل اللَّه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. [ (1) ] فأحسنوا الكيل بعد ذلك [ (2) ] . قال هذا حديث صحيح.
وفي كتاب (شرف المصطفى) : لما بركت الناقة على باب أبى أيوب، خرج جوار من بنى النجار يضربن بالدفوف ويقلن:
نحن جوار بنى النجار ... يا حبذا محمد من جار
فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] : أتحبينني؟ قلن: نعم يا رسول اللَّه، فقال: أنا واللَّه أحبكن، قالها صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثا. [ (3) ]
__________
[ (1) ] المطففين: 1- 3.
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 11/ 286، كتاب (24) البيوع، ذكر السبب الّذي من أجله أنزل اللَّه جل وعلا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، حديث رقم (4919) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 38، كتاب البيوع، حديث رقم (2240) ، وقال في آخره: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وله شاهد عن أبى هريرة مفسر وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح، وأخرجه الواقدي في (أسباب النزول) : 298.
[ (3) ] (تاريخ الخميس) : 1/ 341- 342.(9/203)
فصل في ذكر مواساة الأنصار المهاجرين بأموالهم لما قدموا عليهم المدينة
قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ (1) ] قال أبو عبد اللَّه القرطبي: لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين. قال: والتبوؤ، التمكن والاستقرار، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به [من] الفيء وغيره.
وخرج البخاري ومسلم، من حديث يونس عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: لما قدم المهاجرون من مكة [إلى] المدينة، قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤنة، وكانت أم أنس [بن مالك وهي تدعى أم سليم، وكانت أم عبد اللَّه بن أبى طلحة، كان أخا لأنس] [ (2) ] لأمه، كانت أعطت [أم أنس] [ (2) ] رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم عذاقا لها، فأعطاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم أيمن، مولاته، أم أسامة بن زيد، فلما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: فرد اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أمى عذاقها، وأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم أيمن مكانهم من حائطه. وفي رواية: من خالصة [ (3) ] زاد مسلم: قال ابن شهاب: وكان من
__________
[ (1) ] الحشر: 9.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (3) ] رواه البخاري في الهبة، باب فضل المنيحة، ومسلم في الجهاد، باب (24) رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح، حديث رقم (1771) ، والعذاق:(9/204)
شأن أم أيمن- أم أسامة بن زيد- أنها كانت وصيفة لعبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما توفى أبوه، كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت بعد ما توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخمسة أشهر وفي رواية قال: «كان الرجل يجعل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم النخلات من أرضه حتى افتتح قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليهم، وأن أهلي أمرونى أن آتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسأله ما كان أهله أعطوه أو بعضه؟
وكان نبي اللَّه قد أعطاه أم أيمن فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي، وقالت واللَّه لا يعطيكهن وقد أعطانيهن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أم أيمن، اتركيه، ولك كذا،
وتقول:
كلا، واللَّه الّذي لا إله إلا هو، فجعل يقول كذا حتى أعطاها عشرة أمثاله، أو قريبا من عشرة أمثاله.
__________
[ () ] جمع عذق- بفتح العين، وهو النخلة بما عليها من الحمل، منائحهم: المنائح جمع منحية، وهو العطية، والأصل فيه الناقة أو الشاة تعيرها غيرك لينتفع بلبنها ثم يردها. (جامع الأصول) :
5/ 11- 13، حديث رقم (2989) .(9/205)
فصل في ذكر من بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلم الأنصار وغيرهم القرآن ويفقههم في الدين
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث عدة من أصحابه يعلمون الناس القرآن، ويفقهونهم في الدين، وكان أول من بعثه لذلك مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، القرشي، العبديّ، أبو عبد اللَّه، أحد الجلة من الصحابة، الذين أسلموا قديما، وهاجر إلى الحبشة، ثم بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة قبل الهجرة، بعد العقبة الثانية. يقرئهم القرآن [ويفقههم في الدين] وكان يدعى: القارئ والمقرئ وهو أول من سمى المقرئ، ويقال:
إنه أول من جمّع- أي صلاة الجمعة- بالمدينة قبل الهجرة، وشهد بدرا، واستشهد يوم أحد [ (1) ] .
قال الواقدي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، وبكر بن الهيثم، قالا: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق عن البراء بن عازب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة، مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (تاريخ خليفة) : 69، (حلية الأولياء) : 1/ 106- 108، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 96- 97، (الإصابة) : 6/ 123- 124، ترجمة رقم (808) .
[ (2) ] أخرجه أبو عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 683، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، من كتاب الهجرة الأولى إلى الحبشة، حديث رقم (4254) ولفظه: «حدثنا أبو الطيب محمد بن محمد الشعيري، حدثنا محمد بن عصام، حدثنا حفص بن عبد اللَّه، حدثني إبراهيم ابن طهمان، عن شعبة بن الحجاج، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب أنه قال: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فكانوا يقرءوننا، فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد قرأت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وسورا من المفصّل، ثم قدم سعد بن مالك، وعمار ابن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين، ثم قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فما فرحنا بشيء فرحنا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جعل النساء والصبيان يسعون يقولون: هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(9/206)
قال الواقدي: وقد روى أن مصعبا سار من المدينة إلى مكة، هاجر إليها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه. وقال نصر بن على: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبى عن ابن إسحاق قال: ثم انصرفوا، وبعث معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمران، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إنما بعثه بعدهم، وإنما كتبوا إليه: أن الإسلام قد فشا فينا، فابعث إلينا رجلا من أصحابك، يقرئنا القرآن، ويفقهنا في الإسلام، ويقيمنا بسننه وشرائعه، ويؤمنا في صلاتنا، فبعث مصعب بن عمير، وكان منزل مصعب على أبى أمامة أسعد بن زرارة، وكان مصعب يسمى بالمدينة: المقرئ، وكان أبو أمامه يذهب به إلى دور الأنصار، يدعوهم إلى الإسلام، ويفقه من أسلم منهم.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: يزيد بن أبى حبيب قال: لما انصرف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القوم، وبعث معهم مصعب بن عمير، فحدثني عاصم بن عمر، عن ابن قتادة، أن مصعب بن عمير، كان يصلى بهم،
__________
[ () ] قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
وأما عبد اللَّه بن أم مكتوم فإنه مختلف في اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد اللَّه بن قيس بن زائدة الأصم بن رواحة القرشيّ العامرىّ.
وأما أهل العراق فسموه عمرا وأمه أم مكتوم هي عاتكة بنت عبد اللَّه بن عنكثة بن عامر ابن مخزوم بن يقظة المخزومية. كانت من السابقين المهاجرين، وكان ضريرا مؤذنا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع بلال وسعد القرظ، وأبى محذورة مؤذن مكة. هاجر بعد وقعة بدر بيسير، وقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحترمه ويستخلفه على المدينة، فيصلي بيقايا الناس.
عن أبى إسحاق، سمع البراء يقول: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن.
قال عروة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع رجال من قريش فيهم عتبة بن ربيعة فجاء ابن أم مكتوم يسأل عن شيء، فأعرض عنه، فأنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس: 12] .
عن أنس: أن عبد اللَّه بن أم مكتوم يوم القادسية، كانت معه راية سوداء، عليه درع له.(9/207)
وذلك أن الأوس كره بعضهم أن يؤمه بعض، وحدثني عبد اللَّه بن أبى بكر بن حزم، وعبد اللَّه بن المغيرة بن معيقب قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير. مع النفر الاثني عشر، الذين بايعوه في العقبة الأول إلى المدينة، [يفقه] أهلها، ويقرئهم القرآن. وذكر الخبر، ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن مصعب بن عمير، كان أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين، قبل أن يقدمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر غير الواقدي: أن الأنصار صلت قبل الهجرة سنتين إلى بيت المقدس وابن أم مكتوم كان ممن قدم المدينة معه مصعب بن عمير، قال الواقدي: قدمها بعد بدر بيسير [ (1) ] . ومعاذ بن جبل، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاضيا الى الجند باليمن يعلم الناس القرآن. وشرائع الإسلام ويقضى بينهم، وقد تقدم التعريف به.
وعمرو [بن] [حزم بن] زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم ابن مالك بن النجار، الأنصاريّ، الخزرجىّ، النجارىّ، ومنهم من ينسبه في مالك بن جشم بن الخزرج، ومنهم من ينسبه في ثعلبة بن زيد بن مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك [يكنى] أبا الضحاك، أول مشاهده الخندق، واستعمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة، ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم، وذلك في سنة عشر، وكتب له كتابا، فيه الفرائض، والسنن والديات، ومات [بالمدينة] سنة إحدى وخمسين وقيل: غير ذلك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] وقيل سنة (51) ، وقيل: سنة (54) ، وقيل: سنه (53) ، والصحيح أنه توفى بالمدينة بعد الخمسين، في خلافة عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارميّ، وغير واحد، روى عنه ابنه محمد، وجماعة. له ترجمة في:
(الإصابة) : 4/ 621، ترجمة رقم (5814) ، (الاستيعاب) : 3/ 1172- 1173، ترجمة رقم (1907) ، (الثقات) : 3/ 267، (أسماء الصحابة الرواة) : 217، ترجمة رقم (292) ،(9/208)
عقوبة من سب أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
[حدثنا] [ (1) ] محمد بن الحسن بن زبالة، عن أبيه، أنبانا عبد اللَّه بن موسى بن جعفر، عن على بن موسى، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن على بن الحسين، عن أبيه، عن الحسين بن على، عن أبيه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من سب نبيا فاقتلوه، ومن سب أصحابى فاضربوه [ (2) ] .
ومن حديث أبى برزة: كنت يوما عند أبى بكر، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فغضب على رجل، حكى القاضي إسماعيل وغيره في هذا الحديث، أنه سب أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وفي رواية النسائي
__________
[ () ] (تلقيح فهوم أهل الأثر) : 372، (الجرح والتعديل) : 6/ 24، (التاريخ الكبير) : 6/ 305، (تهذيب التهذيب) : 8/ 18- 19، ترجمة رقم (31) (الأعلام) : 5/ 76.
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] قال العلامة نور الدين على بن محمد بن سلطان المشهور بالملا على القاري: حديث: «سب أصحابى ذنب لا يغفر» ، قال ابن تيمية: هذا كذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد قال اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] .
قال: وقد يوجه معناه إن صحّ مبناه بأنه ذنب عظيم تعلق به حق الأصحاب، بل وحق سيد الأحباب صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أن الغالب في الساب، أن يستحله ويرجو به الثواب، به يكفر ويستحق به العقاب، وللصادق أن يخبر عن بعض الذنوب بأنه سبحانه لا يغفره، حيث عظّم شأنه. وهو لا ينافي قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وقد كتبت في المسألة رسالة مستقلة، ولا يبعد أن يكون المعنى: سب أصحابى ذنب لا يغفر، أي لا يسامح، لحديث: «من سب أصحابى فاضربوه، ومن سبني فاقتلوه» . (الأسرار المرفوعة) : 213- 214، حديث رقم (223) .
وقال في هامشه: ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) بلفظ: «من سب الأنبياء قتل، ومن سب أصحابى جلد» ، أخرجه الطبراني في (الأوسط) و (الصغير) عن العمرى، شيخ الطبراني، قال في (الميزان) : رماه النسائي بالكذبة وقال في (اللسان) : ومن مناكيره هذا الخبر، وساقه، ثم قال: رواته كلهم ثقات إلا العمرى.(9/209)
قال: [أغلظ رجل لأبى بكر الصديق فقلت: أقتله] ؟ فانتهزنى، وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 7/ 25، كتاب التحريم، باب (16) الحكم فيمن سب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (4082) ، وسياقه مضطرب في (الأصل) ، وما بين الحاصرتين تصويب للسياق من (سنن النسائي) .
وأخرج النسائي في باب (17) ذكر الاختلاف على الأعمش في هذا الحديث: الحديث رقم (4083) ، (4084) ، (4085) بسياقات مختلفة من طرق كلها عن أبى برزة.
وعن أبى برزة أيضا أخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 530- 531، كتاب الحدود، باب (2) الحكم فيمن سب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4363) . وقال الخطابي في (معالم السن) : أخبرنى الحسن بن يحى عن ابن المنذر قال: قال أحمد بن حنبل في معنى هذا الحديث: أي لم يكن لأبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يقتل رجلا إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس» ، وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقتل.
قال: وفيه دليل على أن التعزير ليس بواجب، وللإمام أم يعزر فيما يستحق به التأديب، وله أن يعفو فلا يفعل ذلك. (معالم السنن) .
وقال الإمام ابن تيمية في (الصارم المسلول) : من سبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، هذا مذهب عليه عامة أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن حدّ من سبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القتل. وممن قاله: مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعيّ. قال:
وحكى عن النعمان: لا يقتل، يعنى الّذي هم عليه من الشرك أعظم، وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعيّ إجماع المسلمين على أن حدّ من سب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القتل، كما أن حدّ من سبّ غيره الجلد.
وإن الإجماع الّذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن سابّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجب قتله إذا كان مسلما، وكذلك قيد القاضي عياض، فقال: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابّه، وكذلك حكى عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره. -(9/210)
__________
[ () ] وقال الإمام إسحاق بن راهويه- أحد الأئمة الأعلام- أجمع المسلمون على أن من سبّ اللَّه، أو سب رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو دفع شيئا مما أنزل اللَّه عزّ وجل، أو قتل نبيا من أنبياء اللَّه عزّ وجل: أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل اللَّه.
قال الخطّابى: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب اللَّه له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.
وتحرير القول فيه: أن السابّ إن كان مسلما فإنه يكفّر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم من حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة، وسيأتي حكاية ألفاظهم، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. وقد نصّ أحمد على ذلك في مواضع متعددة.
قال حنبل: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: كل من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب. قال: وسمعت أبا عبد اللَّه يقول: كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل، وليس على هذا أعطوا العهد والذمة.
وكذلك قال أبو الصفراء: سالت أبا عبد اللَّه عن رجل من أهل الذمة شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مسلما كان أو كافرا، رواهما الخلّال.
وفي رواية عبد اللَّه وأبى طالب وقد سئل عن شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: يقتل، قيل له:
فيه أحاديث؟ قال: نعم، أحاديث منها: حديث الأعمى الّذي قتل المراة، قال: سمعتها تشتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحديث حصين أن ابن عمر قال: من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتل.
وكان عمر بن العزيز يقول: يقتل، وذلك أنه من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فهو مرتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. زاد عبد اللَّه: سألت أبى عمن شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يستتاب؟ قال: قد وجب عليه القتل، ولا يستتاب، لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يستتبه، رواهما أبو بكر في (الشافي) .
وفي رواية أبى طالب: سئل أحمد عمن شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: يقتل، قد نقض العهد وقال جرير: سالت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: يقتل إذا شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، رواهما الخلال، وقد نصّ على هذا في غير هذه الجوابات، فأقواله كلها نصّ في وجوب(9/211)
وفي صحيح مسلم، من طريق عبد اللَّه بن نمير، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما [ (1) ] .
وأخرجه البخاري [ (2) ] من حديث على بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما.
وقال عكرمة بن عمار، عن يحيى، بن عبد اللَّه بن يزيد: سمع أبا سلمة، سمع أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكره البخاري في كتاب الأدب.
وخرج مسلم [ (3) ] من حديث إسماعيل بن جعفر، عن عبد اللَّه بن دينار، أنه سمع ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه.
وخرجه البخاري [ (4) ] من حديث عبد الوارث، حدثنا حسين [المعلم] ، عن [عبد اللَّه بن بريدة] ، عن يحيى بن يعمر، أن أبا الأسود [الدؤلي] حدثه، عن أبى ذر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ () ] قتله، وفي أنه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف. (الصارم المسلول على شاتم الرسول) : 3- 5.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 408- 409، كتاب الإيمان، باب (26) بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، حديث رقم (111) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 630 كتاب الأدب باب (73) من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، حديث رقم (6103) ، (6104) .
[ (3) ] مسلم بشرح النووي) : 2/ 408 كتاب الإيمان باب (26) بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم:
يا كافر الحديث. الّذي يلي رقم (111) [بدون رقم] .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 669 كتاب المناقب باب (5) [بدون ترجمة] ، حديث رقم (3508) .(9/212)
يقول: ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، [ومن ادعى ما ليس له فيهم نسب فليتبوَّأ مقعده من النار] .
وخرجه البخاري [ (1) ] أيضا من حديث عبد الوارث، عن الحسين، عن عبد اللَّه بن بريدة، قال: حدثني يحيى بن يعمر، أن أبا الأسود [الدؤلي] ، حدثه عن أبى ذر، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يرمى رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك.
قال الشيخ أبو زكريا النووي: هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات، من حيث أن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل، والزنا، وكذا قوله لأخيه: كافر من غير اعتقاد بطلان [دين] الإسلام، فإذا عرف ما ذكرناه [فقيل] في تأويل الحديث أوجه:
أحدهما: أنه محمول على المستحل لذلك، وهذا يكفر، فعلى هذا معنى [باء] بها، أي بكلمة الكفر، وكذا، حار عليه، وهو بمعنى رجعت عليه، أي رجع عليه الكفر، فباء، وحار، ورجع بمعنى واحد.
والوجه الثاني: معناه، رجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره.
والوجه الثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله القاضي عياض، عن الإمام مالك بن أنس، وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار، الّذي قاله الأكثرون، والمحققون، أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.
والوجه الرابع: معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن [المعاصي]- كما قالوا- بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها، المصير إلى [الكفر] ، ويؤيد هذا الوجه، ما جاء في رواية أبى عوانة الأسفراييني، في كتابه (المخرج على صحيح مسلم) : فإن كان
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 569، كتاب الأدب، باب (44) ما ينهى عن السباب واللعن، حديث رقم (6045) .(9/213)
كما قال، وإلا فقد باء بالكفر،
وفي رواية: إذا قال لأخيه: يا كافر، وجب الكفر على أحدهما.
والوجه الخامس: معناه، فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع عليه حقيقة الكفر، بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإسلام واللَّه أعلم [ (1) ] .
قال الشيخ الإمام أبو الفتح السبكى: كون الخوارج لا يكفرون، لست موافقا عليه، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، صح عنه
في صحيح مسلم [ (2) ] ، من حديث على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: سيخرج في آخر الزمان قوم، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند اللَّه لمن قتلهم يوم القيامة.
وقد رويت آثارا تدل على أنهم هم الذين قاتلهم عليّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهم الخوارج، وهم ومن كان مثلهم بهذه المنزلة، يجوز قتلهم بهذا الحديث، وإن ادعى الإسلام، ولا نترك ما عندنا إلا اعتقاده، ولا يلتفت إليه بنص هذا الحديث، فإن هذا نص في القتل، وأما مجرد سب أبى بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وغيرهما من الصحابة، فلم يجئ قط ما يقتضي قتل قاتله ولا كفره، والحديث الّذي يروى: من سب صحابيا فاجلدوه، إن صح فمعناه صحيح، لان واجبه التعزير، وهو يقتضي أنه لا يقتضي كفرا ولا قتلا، وحديث أبى برزة يدل على أن إغضاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 409، كتاب الإيمان، باب (26) بيان حال من قال لأخيه المسلم:
يا كافر، شرح الحديث رقم (111) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 8/ 175، كتاب الزكاة، باب (48) التحريض على قتل الخوارج، حديث رقم (1066) .(9/214)
يوجب القتل دون غيره من الناس.
قال: وفي الصحيحين [ (1) ] عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولعن المؤمن كقتله.
قال الشيخ تقى الدين ابن دقيق العيد [سؤال] . لا يمكن أن يزاد في أحكام الدنيا، لأن اللعن لا يوجب القصاص [في الدنيا] ولا في الآخرة، لأن الإثم يتفاوت. قال المازرنى: يشبهه في الإثم، لأن اللعن قطع الرحمة، والموت قطع التصرف. وقيل: لعنة، تقتضي قصد إخراجه من المسلمين، وقطع منافعه الأخروية عنه، وقيل: استواؤهما في التحريم، فاقتضى كلام ابن دقيق العيد، أن اللعنة تعريض بالدعاء، الّذي قد يقع في ساعة إجابة، إلى البعد من رحمة اللَّه تعالى، وهو أعظم من القتل الّذي هو تفويت الحياة.
قال السبكى الشيخ محيي الدين: أخذ بظاهر المنقول من عدم التكفير، وذلك محمول على ما إذا لم يصدر منهم سبب يكفر، كما إذا لم يحصل إلا مجرد الخروج [والقتال] ، ونحوه، أما مع التكفير لمن تحقق إيمانه، فمن أين ذلك؟.
فإن قلت: قد قال الأصوليون في أصول الدين- ومنهم سيف الدين المزي- جوابا عن قول المكفرين: كيف لا نكفر الشيعة والخوارج بتكفيرهم أعلام الصحابة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم؟ وبتكذيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قطعه لهم بالجنة؟ وأجاب: أن ذلك إنما هو إذا كان المكفر يعلم بتزكية من كفره، قطعا على الإطلاق إلى مماته، وليس كذلك، وهذا الجواب يمنع ما قلتم، قلت: هذا الجواب، إنما ننظر فيه إلى أن المكفر لا يلزمه بذلك تكذيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم ينظر إلى ما قلناه من الحكم عليه بالكفر [بالحديث] الّذي ذكرناه، إن لم يكن في باطنه تكذيب، كما قاله إمام الحرمين وغيره في الحكم بالكفر على السجود للصنم والملقى للمصحف في القاذورات، وإن لم يكن في باطنه تكذيب.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 570، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن، حديث رقم (604) ، (مسلم بشرح النووي) : 2/ 478 كتاب الإيمان، باب (47) غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به، حديث رقم (110) .(9/215)
فإن قلت: يلزم على هذا أن كل من قال لمسلم أنه كافر يحكم بكفره، قلت: إن كان ذلك المسلم مقطوعا بإيمانه، كالعشرة المشهود لهم بالجنة، فنعم، وكذا عبد اللَّه بن سلام [ونحوه] ، ممن ثبت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الشهادة لهم بالجنة، وكذا كل من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر، وكذا أهل بدر، وأما إذا لم يكن ذلك المسلم مقطوعا بإيمانه، بل هو من عرض المسلمين، فلا قول فيه، ذلك، وإن كان إيمانه ثابتا من حيث الحكم الظاهر،
لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أشار إلى اعتبار الباطن بقوله: إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه، وبقوله: فقد باء بها أحدهما.
بقي قسم آخر، وهو أن لا يكون من الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، المشهود لهم بالجنة، ولكن ممن [أجمعت] الأمة على جلالته وإمامته، كسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وأقرانهم من التابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين، المجمع عليهم، فهذا عندي أيضا ملتحق بمن ورد النص فيه، فيكفّر من كفّره.
وحاصله أنّا نكفّر من يكفّر من نحن نقطع بإيمانه، إما بنص أو إجماع، فإن قلت: هذا طريق لم يذكره أحد من المتكلمين، ولا من الفقهاء، قلت الشريعة كالبحر، كل وقت يعطى جواهر، وإذا صح دليل، لم يضره خفاؤه على كثير من الناس في مدة طويله، على أننا قد ذكرنا من كلام مالك- رحمه اللَّه- ما يشهد له، فإن قلت: الكفر هو جحد الربوبية [أو الوحدانية] ، أو الرسالة، وهذا رجل موحد- يعنى الرافضيّ- مؤمن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكثير من صحابته، فكيف يكفّر.
قلت: التكفير، حكم شرعي، سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية، أو الرسالة، أو قول، أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحدا، وهذا منه، فهذا دليل لم يرد في هذه المسألة [أحسن] منه، لسلامته عن اعتراض صحيح قادح فيه، وينضاف إليه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم [فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى] : من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، ولكن لا يقال بظاهره، بل هو(9/216)
كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (1) ] ، على أنه يمكن التزامه، وأن المراد إذا لم يترك [الربا] ، ولا أقر به، كفر.
ولا شك أن أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولى اللَّه، [فإن] مبارزته مبارزة للَّه تعالى ومحاربته محاربة للَّه تعالى،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ولعن المؤمن كقتله»
وأبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مؤمن، وفي الحديث الأول كفاية، وهو في (صحيح مسلم) [ (2) ] .
الدليل الثاني: استحلاله لذلك، ومن استحل ما حرمه اللَّه تعالى، فقد كفر، ولا شك أن لعنه الصديق، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وسبه محرم.
قال ابن حزم: واللعن، أشد من السب،
وقد صح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق،
فسب أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فسق، واستحلال الفسق كفر، فإن قلت: إنما يكون استحلال الحرام كفر، إذا كان تحريمه معلوما من الدين بالضرورة، بالنقل المتواتر، من حسن إسلامه، وأفعاله أدلة على إيمانه، وأنه دام على ذلك، إلى أن قبضه اللَّه تعالى، هذا مما لا يشك فيه معلوم من الدين بالضرورة، فيكون مستحله كافرا.
ولا يرد على هذا إلا شيء واحد، وهو أن يكفر مستحل ما علم تحريمه بالضرورة، فذلك كفرت الجهميّ والرافضيّ، لم يكن ذلك العلم الضروريّ بالتحريم، حاصلا عنده، فلم يلزم منه تكذيبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا ينفصل من هذا إلا بأن يقال: إن تواتر ذلك عند عموم الخلق يكفى فلا يعذر الرافضيّ بالشبهة الفاسدة، التي غطت على قلبه، حتى لم يعلم ذلك، وهذا محل نظر وجدل، وان كان القلب يميل إلى بطلان هذا العذر [وهذا هو الدليل الثالث] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 279.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 480، كتاب الإيمان، باب (47) غلط تحريم قتل إنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار الحديث الّذي يلي رقم (176) بدون رقم.
[ (3) ] زيادة للبيان.(9/217)
[الدليل] الرابع: مذهب أبى حنيفة- رحمه اللَّه- أن من أنكر خلافة الصديق، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فهو كافر، وكذلك من أنكر خلافة عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومنهم من لم يحك في ذلك خلافا، ومنهم من ذكر في ذلك خلافا، وقال: الصحيح أنه كافر، [والمسألة] مذكورة في (الغاية) للسروجى، وفي (الفتاوى الطهيرية) ، وفي (الأصل) لمحمد بن الحسن، رحمه اللَّه، والظاهر أنهم أخذوا ذلك عن إمامهم أبى حنيفة، وهو أعلم بالروافض، لأنه كوفى، والكوفة منبع الروافض، والروافض طوائف منهم من يجب تكفيره ومنهم من لا يجب تكفيره فإذا قال أبو حنيفة [رحمه اللَّه] بتكفير من ينكر إمامة الصديق فتكفير لا عنه أولى.
والظاهر أن المستند، أن منكر امامة الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مخالف للإجماع، بناه على أن جاحد [الحكم] المجمع عليه كافر، وهو المشهور عند الأصوليين، وإمامة الصديق مجمع عليها، من حين بايعه عمر ابن الخطاب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ولا يمنع من ذلك تأخر بيعة بعض الصحابة، فإن الذين تأخرت بيعتهم، لم يكونوا مخالفين في صحة إمامته، ولهذا كانوا يأخذون [عطاءه] ويتحاكمون إليه، فالبيعة شيء، والإجماع شيء، لا يلزم من أحدهما الآخر، ولا من عدم أحدهما عدم الآخر، فافهم ذلك، فإنه قد يغلط فيه. وهذا قد يعترض عليه شيء من شيئين:
أحدهما: قول: بعض الأصوليين: أن جاحد الحكم المجمع عليه، إنما يكفر إذا كان معلوما من الدين بالضرورة، وأما المجمع عليه الّذي ليس معلوما من الدين بالضرورة، فلا يكفر بإنكاره، مثل كون بنت الابن لها السدس مثل البنت، مجمع عليه، وليس معلوما بالضرورة، فلا يكفر منكره، ويجاب على هذا [بأن] خلافة الصديق، وبيعة الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم له، ثبتت بالتواتر المنتهى إلى حد الضرورة، فصارت كالمجمع عليه: المعلوم بالضرورة، وهذا لا شك فيه، ولم يكن أحد من الروافض في أيام الصديق، ولا في أيام عمر، ولا في أيام عثمان، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وإنما حدثوا بعده، وحدثت مقالتهم بعد حدوثهم.(9/218)
الشيء الثاني: أن خلافة الصديق، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وإن علمت بالضرورة، فالخلافة من الوقائع الحادثة، ليست حكما شرعيا، والّذي يكفر جاحده إذا كان معلوما بالضرورة، إنما هو الحكم الشرعي، لأنه من الدين، كالصلاة، والزكاة، والحج، لأنه لا يلزم من جحده، تكذيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهذا محل يجب التمهل [فيه] والنظر، نعم، وجوب الطاعة وما أشبهه حكم شرعي يتعلق بالخلافة.
قال: فإن قلت: قد جزم- يعنى القاضي حسين- في كتاب (الشهادات) بفسق سابّ الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، ولم يحك فيه خلافا، وكذلك ابن الصباغ في (الشامل) ، وغيره.
وحكوه عن الشافعيّ، رحمه اللَّه، فيكون ذلك ترجيحا لعدم الكفر، قلت: لا، وهما مسألتان المسألة المذكورة في (الشهادات) في السب المجرد دون التكفير وهو موجب لفسق، ولا فرق في الحكم بالفسق بين ساب أبى بكر، [وغيره من] أعلام الصحابة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
والمسألة المذكورة في كلام القاضي حسين، في كتاب (الصلاة) - في الابتداء في ساب الشيخين [ (1) ] ، أو الحسنين [ (2) ] ، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وهي محل الوجهين في الكفر، أو الفسق، ولا مانع من أن يكون سب مطلق [الصحابة] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم موجبا للفسق، وسب بهذا الصحابي مختلف في كونه موجبا للفسق أو الكفر.
وأما المسألة الثالثة. وهي تكفير أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ونظرائه من الصحابة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فهذه لم يتكلم فيها أصحابنا في كتاب (الشهادات) ولا في كتاب (الصلاة) ، وهي مسألتنا، والّذي أراه، أنه موجب للكفر قطعا، عملا بمقتضى الحديث المذكور.
__________
[ (1) ] الشيخان: في السيرة: أبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وفي الحديث: البخاري ومسلم، وفي الشعر الحديث: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم.
[ (2) ] الحسنان: الحسن والحسين سبطي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(9/219)
قال: فتلخص أن سب أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، على مذهب أبى حنيفة، وأحمد [رحمهما اللَّه] ، وأحد الوجهين عند الشافعيّ، كفر، أما مالك، فالمشهور أنه أوجب به الجلد فيقتضى أنه ليس كفر ولم أر عنه خلاف ذلك إلا ما قدمته في الخوارج فيخرج عنه أنه كفر فتكون [المسألة] عنده على حالين: إن اقتصر على سبّ من غير تكفير، يكفروا، إن كفر فالرافضي قد زاد إلى تكفير فهو كافر عند مالك وأبى حنيفة، وأحد وجهي الشافعيّ، وزنديق عند أحمد، بتعرضه إلى عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه المتضمن تخطئة المهاجرين والأنصار، وكفره كفر ردة، لأن حكمه قبل ذلك حكم المسلمين والمرتد يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل وهذا استتيب، فلم يتب، يعنى في رافضي قتل في زمانه.
قال: فكان قتله على مذهب جمهور العلماء، أو جمعيهم، لأن القائل بأن الساب لا يكفر، لم يتحقق منه أنه يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فأحد الوجهين عندنا، إنما اقتصر على الفسق، في مجرد السب دون التكفير، وكذلك الإمام أحمد، إنما عن قتل من لم يصدر منه إلى السب والّذي صدر من هذا أعظم من السب.
ومن جملة المنقول: قول الطحاوي- أحد أئمة الحنفية- في (عقيدته) [ (1) ] في الصحابة: وبعضهم كفّر، وهذا يحتمل أن يحمل على مجموع الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، ويحتمل أن يحمل على كل واحد منهم إذا أبغضه [لا] لأمر خاص به، لا بل مجرد صحبته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا شك أن ذلك كفر، لأنه لا يبغضه لصحبته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا وهو يبغض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبغض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كفر.
ويحتمل أن يحمل على ما إذا أبغض صحابيا، لا لأمر من الأمور، والقول بأن هذا وحده كفر يحتاج إلى دليل، وأما إذا أبغضه لشحناء بينهما دنيوية، ونحوها، فلا يظهر كفره، والرافضيّ ومن أشبهه، بغضهم لأبى بكر، وعمر، وعثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، لا شك أنه ليس لأجل
__________
[ (1) ] العقيدة الطحاوية.(9/220)
الصحبة، لأنهم يحبون عليا، والحسن، والحسين، رضى اللَّه تبارك وتعالى تعالى عنهم، ويحبون [غيرهم] ولكنه لهوى في أنفسهم، واعتقادهم بجهلهم، ظلمهم لأهل بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فالظاهر أنهم إذا اقتصروا على السب من غير تكفير، ولا جحد لمجمع عليه، لا يكفرون.
واعلم أن من كان كفره للطعن في الدين، فإن توبته مقبولة، لقوله تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [ (1) ] دليل لقبول توبتهم، وهذا الرافضيّ، لم ينته، ولم يتب، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
فصل في التنبيه على شرف مقام أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم هم الحواريون، الذين وعوا سنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأدوها ناصحين محتسبين، حتى كمل بما نقلوه الدين، وثبتت لهم حجة اللَّه على المسلمين، وهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء اللَّه وثناء رسوله، ولا أعدل ممن ارتضاه اللَّه لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه، ونحن وإن بلغنا من الفضل ما عسانا نبلغه، فإن فهم مقامهم على مقدارهم، مستحيل أن يصل منا أحد إليه، لبلوغنا الغاية في الانحطاط عن مرتبتهم.
لكنا إنما نفهم مقامهم على قدرنا، وذلك أن أكثر ما نبحث عنه من العلوم، وندأب فيه، فإنه حاصل عند الصحابة بأصل الخلقة، لا يحتاجون فيه إلى تكلف طلب، ولا مشقة درس، كاللغة، والنحو، والصرف، وعلم المعاني والبيان، وأصول الفقه، وأصول الدين، وكذلك ما فطروا عليه من العقول الرصينة، ما من اللَّه تعالى به عليهم، من إفاضة نور النبوة العاصم
__________
[ (1) ] التوبة: 12.(9/221)
من الخطأ في الفكر، يغنيهم عن علم المنطق، والجدل وسائر العلوم العقلية، وبما [ألف] سبحانه بين قلوبهم، حين صاروا بنعمته إخوانا، على سرر متقابلين، أغناهم عن الاستعداد للمناظرة، والمجادلة.
فلم يكونوا يحتاجون في علومهم إلى ما يسمعونه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما أوحى إليه ربه من كتابه العزيز، وسنته التي هي الحكمة، فإذا سمعوا ذلك فهموه أحسن فهم، وحملوه على أجمل حمل، ونزلوه منزلته.
وأما وصاياه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرج مسلم [ (1) ] من حديث سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان ابن بريدة، عن أبيه، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذا أمر أميرا، على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى اللَّه، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا بسم اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال- فأيتهن ما أجابوا فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم اللَّه الّذي يجرى على المؤمنين، ولا يكون لهم في القسمة والغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبو فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم [وإن هم] أبوا فاستعن باللَّه [وقاتلهم] ، وإذا حاصرت
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 281- 283، كتاب الجهاد والسير، باب (2) تأمير الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، حديث رقم (3) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 492، حديث رقم (22521) ، من حديث بريدة الأسلمي رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه.(9/222)
أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة اللَّه ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم، أهون من أن [تخفروا] ذمة اللَّه وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن، [فأرادوك] أن تنزلهم على حكم اللَّه، فلا تنزلهم على حكم اللَّه، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم اللَّه [أم لا] .
فصل في ذكر [أمراء] سرايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
[السرية [ (1) ] ، ما بين خمسة [أنفس] ، إلى ثمانية، وقيل: هي من الخيل نحو أربعمائة] ، وعدة سرايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. التي بعثها لجهاد أعداء اللَّه، ثمان وخمسون سرية، استعمل عليها سبعة وثلاثين رجلا وكان يعتذر عن تخلفه عنها، ويوصى [أمراءه] بتقوى اللَّه، ويعلمهم [ما] يحتاجون إلى فعله في غزوهم، وينكر ما لا يصلح من فعل [الأمراء] .
فأما اعتذاره صلّى اللَّه عليه وسلّم عن التخلف
فخرج البخاري [ (2) ] من حديث الزهري، قال: أخبرنى سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: والّذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عنى، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغدو في سبيل اللَّه، والّذي نفسي بيده، لوددت أنى أقتل في سبيل اللَّه، ثم أحيا، [ثم أقتل] ثم أحيا، ثم أقتل، ترجم عليه باب: تمنى الشهادة.
__________
[ (1) ] السرية قطعة من الجيش ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو هي من الخيل نحو أربعمائة وجمعها سرايا- (المعجم الوسيط) : 1/ 429. قال إبراهيم الحربي: هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، قالوا: سميت سرية لأنها تسرى في الليل ويخفى ذهابها- وهي فعيلة بمعنى فاعلة- يقال سرى وأسرى إذا ذهب ليلا (مسلم بشرح النووي) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 190، كتاب الجهاد والسير باب (7) تمنى الشهادة حديث رقم (2797) .(9/223)