عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، فقال: ما حال بيننا وبين خبر السماء إلا من [شيء] [ (1) ] حدث، فاضربوا مشارق الأرض، ومغاربها، فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السماء، قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الّذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو بنخلة، عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا واللَّه الّذي حال بينكم وبين خبر السماء، قال: فهنا لك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، فأنزل اللَّه على نبيه:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [ (2) ] ، [وإنما أوحي إليه قول الجن] [ (3) ] . هذه سياقة الترمذي، وقال: حسن صحيح. قال البيهقي: فقد ذكرنا أن ذلك في أول ما علموا به.
وأما قولهم حيل بيننا وبين خبر السماء، فإنما أرادوا بما زيد في الحرّاس والشهب، واستدل لذلك بحديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو عن أبيه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء فيستمعون الكلمة من الوحي فيهبطون بها إلى الأرض، فيزيدون معها تسعا، فيجد أهل الأرض تلك الكلمة حقا والتسع باطلا، فلم يزالوا بذلك حتى بعث اللَّه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (جامع الأصول) .
[ (2) ] الجن: 1- 2.
[ (3) ] قال الحافظ: هذه الزيادة من كلام ابن عباس، كأنه يقرر فيه ما ذهب إليه أولا: أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يجتمع بهم، وإنما أوحى اللَّه إليه بأنهم استمعوا، ومثله قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف: 49] ، ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمعوا، أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة الجن، وفي صفة الصلاة، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر، ومسلم في الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة الجن، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 225- 226، 239، والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 417، حديث رقم (2271) ، من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تعالى عنه.(5/10)
محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، فمنعوا تلك المقاعد، فذكروا ذلك لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث، فبعثهم فوجدوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يتلو القرآن بين جبلي نخل، قالوا:
هذا واللَّه الحدث، وإنهم ليرمون، فإذا توارى النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكنه لا يقتله، يحرق وجهه، جنبه، يده [ (1) ] .
وخرجه الترمذي من حديث إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بمعناه ثم قال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
واستدل البيهقي أيضا بحديث آدم بن أبي إياس قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [ (3) ] ، قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة عل الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير، ثم يقول: يكون العام كذا، ويكون [كذا] [ (4) ] ، فتسمعه الجن فيخبرون الكهنة به، والكهنة [يقولون للناس] [ (5) ] :
يكون كذا [و] [ (4) ] كذا فيجدونه كذلك، فلما بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم دحروا، فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم شاة، حتى أسرعوا في أمواله، فقالت ثقيف- وكانت أعقل العرب-: أيها الناس، أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، وإن هذا ليس بانتثار ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي؟ والشمس والقمر والليل والنهار، قال:
فقال إبليس: لقد حدث اليوم في الأرض حدث، فأتوني من تربة كل أرض،
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 239- 240، وقال في هامشه: أخرجه أحمد في (المسند) ، ونقله ابن كثير في (البداية والنهاية) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 398، كتاب تفسير القرآن، حديث رقم (3324) ، وأخرجه أيضا النسائي في (الكبرى) ، في التفسير.
[ (3) ] سبأ: 33.
[ (4) ] زيادة للسياق من (البيهقي) .
[ (5) ] زيادة للبيان.(5/11)
فأتوه بها، فجعل يشمها، فلما شم تربة مكة قال: من هاهنا جاء الحدث، فنصتوا فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد بعث [ (1) ] .
وقال محمد بن إسحاق: وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا تلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه اللَّه، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر اللَّه في العباد، يقول اللَّه تعالى لنبيه- حين بعثه وهو يقص عليه خبر الجن إذ حجبوا عن السمع فعرفوا ما عرفوا وما أنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ... فذكر الآيات، فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك، لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللَّه فيه لوقوع الحجة وقطع التهمة، فآمنوا وصدقوا، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا: يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [ (2) ] الآية.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدّث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية- أحد بني علاج- قال: وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا، فقالوا له: يا عمرو! ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي [يهتدى] [ (3) ] بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو واللَّه طيّ الدنيا وهلاكها، وهلاك هذا الخلق الّذي فيها،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 240- 241.
[ (2) ] الأحقاف: 30.
[ (3) ] زيادة للسياق.(5/12)
وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد اللَّه به الخلق [ (1) ] .
وخرج البيهقي من طريق سعيد بن منصور قال: حدثنا خالد عن حصين عن عامر الشعبي قال: كانت النجوم لا ترمى حتى بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، فرمي بها فسيبوا أنعامهم، وأعتقوا رقيقهم، فقال عبد يا ليل: انظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من أمر حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف، قال: فأمسكوا ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [ (2) ] .
وخرّج من حديث عطية بن سعد العوفيّ، عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، وكانوا يقعدون منها مقاعد للسمع، فلما بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم حرست السماء حرسا شديدا، ورجمت الشياطين فأنكروا ذلك وقالوا: لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [ (3) ] .
فقال إبليس لقد حدث في الأرض حدث [ (4) ] ، واجتمعت إليه الجن فقال:
تفرقوا في الأرض فأخبروني ما هذا الخبر الّذي حدث في السماء؟.
وكان أول بعث بعث ركب أهل نصيبين، وهم أشراف الجن وسادتهم، فبعثهم إلى تهامة، واندفعوا حتى بلغوا الوادي- وادي نخلة- فوجدوا نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة، فاستمعوا، فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا- ولم يكن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن- فلما قضى، يقول:
فلما فرغ من الصلاة ولّوا إلى قومهم منذرين، يقول: مؤمنين [ (4) ] .
وقال عكرمة رحمه اللَّه: والسورة التي كان يقرأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... ، قال البيهقي: فهذا يوافق الحديث الثابت عن أبي اليسر عن
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 241.
[ (3) ] الجن: 10.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 241- 242.(5/13)
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إلا أن فيه زيادة ينفرد بها عطية العوفيّ، وهي قوله: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد.
وروى ذلك عن غير ابن عباس، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنها لم تكن تحرس الحراسة الشديدة حتى بعث نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم، فملئت حرسا شديدا وشهبا [ (1) ] .
وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث صلّى اللَّه عليه وسلم منعت من ذلك أصلا، وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قاله بشر بن أبي حازم- وهو جاهلي-:
والعير يرهقها الغبار وحجبها ... ينقضّ خلفهما كانقضاض الكوكب
وقال أويس بن حجر- وهو جاهلي-:
فانقض كالدرى يتبعه ... نقع بنور يخالطه طيبا
وقال عوف بن الجزع- وهو جاهلي-:
يرد علينا العير من دون الغدا ... والنور كالدري يتبعه الدم
وفي أيدي الناس كتب من كتب الأعاجم وسيرهم تنبئ عن انقضاض النجوم في كل عصر وكل زمان.
وقال السهيليّ: وإن وجد اليوم كاهن ولا يدفع ذلك بما أخبره اللَّه تعالى من طرد الشياطين عن استراق السمع، فإن التغليظ والتشديد كان في زمن النبوة، ثم بقيت منه- أعني استراق السمع- بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد.
وقد سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الكهان فقال: ليسوا بشيء، فقيل: إنهم يتكلمون بالكلمة فيكون كما قالوا: فقال: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة- بالدال- والزجاجة بالزاي أولى لما ثبت في الصحيح: فيقرها في أذن وليه
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 242.(5/14)
كما تقر القارورة،
ومعنى يقرها، يصيبها ويفرغها. قال الراجز:
لا تقرعن في أذني بعدها ... ما يستقر فأريك فقدها
وفي تفسير ابن سلام عن ابن عباس قال: إذا رأى الشهاب الجنّيّ لم يخطئه ويحرق ما أصاب ولا يقتله. وعن الحسن: يقتله في أسرع من طرفة العين.
قال: والّذي انقطع اليوم وإلى يوم القيامة: أن تدرك الشياطين ما كانت تدركه في الجاهلية الجهلاء، وعند تمكنها من سماع أخبار السماء، وما يوجد اليوم من كلام الجن على ألسنة المجانين، إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما لا نراه نحن، كسرقة سارق أو خبيئة في مكان خفي أو نحو ذلك، وإن أخبر أنما سيكون، كان [تخرصا] [ (1) ] وتظنينا، فيصيبون قليلا ويخطئون كثيرا.
وذلك القليل الّذي يصيبون فيه هو مما تتكلم به الملائكة في العنان، كما في حديث البخاري، فيطردون بالنجوم، فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من مائة كذبة، - كما قال صلّى اللَّه عليه وسلم في الحديث-.
فإن قيل: قد كان صاف بن صياد، وكان يتكهن ويدعي النبوة، وخبأ له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خبيئا فعلمه، وهو الدخان، فقال: الدّخ، فأين انقطاع الكهانة في ذلك الزمان؟ قلنا: عن هذا جوابان.
أحدهما: ذكره الخطابي في أعلام الحديث، قال: الدخ نبات يكون بين النخل، وخبّأ له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [ (2) ] ، فعلى هذا لم يصب ما خبّأ له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
الثاني: أن شيطانه كان يأتيه بخبر السماء لمكان القذف والرجم، فإن كان أراد بالدخ الدخان، فليس هذا من أخبار السماء، إذ يمكن أن يكون قرب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين ذكر الآية سرا، فسمع منها ذكر الدخان بقوة جعلت في أسماعهم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الدخان: 10.(5/15)
ليست لنا، فألقى الكلمة على لسان صاف وحدها، إذ لم يمكن للجني سماع سائر الآية، ولذلك قال له صلّى اللَّه عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك، أي لن تعدو منزلتك من العجز عن علم الغيب، وإنما الّذي يمكن في حقه هذا القدر دون مزيد عليه. على هذا فسره الخطابي.(5/16)
ثانيا: انشقاق القمر]
وأما انشقاق القمر، فإنه أول آيات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو غيظ لأهل الإلحاد، قال اللَّه تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ (1) ] .
خرج عبد الرزاق من حديث ابن عيينة ومحمد بن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، شقة على أبي قيس وشقة على السويداء، فقالوا سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، يقول: كما رأيتم القمر منشقا فإن الّذي أخبركم عن اقتراب الساعة حق.
وقال وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش، عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما في قوله عزّ وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال:
قد كان ذلك على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، انشق فلقتين: فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد.
وقال هشيم: أخبرنا حصين عن جبير بن محمود بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وحديث انشقاق القمر رواه جماعة من الصحابة [منهم] : عبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عمر، وحذيفة رضي اللَّه عنهم، وعلى هذا جميع أئمة التفسير إلا ما روى عثمان بن عطية عن أبيه أنه قال: معناه:
سينشق القمر، وهو قول الحسن، وأهل العلم بالحديث والتفسير جميعهم على
__________
[ (1) ] القمر: 1- 2.(5/17)
خلافه.
وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: انشقاقه: كسوفه على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهذا خلاف لما في التنزيل، ولما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ولو كان كسوفا لما قالت قريش: هذا سحر.
والأحاديث الصحيحة الثابتة بنقل الثقات ناطقة بأن هذه الآية قد مضت، ويؤيد ذلك قوله تعالى. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، فأتى بلفظ ماض، وحمل الماضي على المستقبل يحتاج إلى قرينة ودليل، فإنه لا يعدل عن ظاهر النص إلا بدليل.
وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ (1) ] دليل على أن انشقاق القمر وقع في هذه الدار، لأن انشقاقه في الآخرة لا يكون آية ومعجزة للعباد، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولو كان قوله: انْشَقَّ، بمعنى سينشق، لكان معنى اقتربت: ستقترب، وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، ونبوته وزمانه من علامات اقتراب الساعة، ولا مدفع بعد ظاهر القرآن وثبوت الأحاديث بكونه وحصوله.
فإن قيل: لو انشق القمر لتواتر الخبر به، قلنا: هذه آية لتسليه، ولم تكن في مجلس غاص بأهله، بل جرى مع طائفة في جنح ليل ومعظم الناس نيام، والّذي شاهده من مشركي قريش عدد يمكن تواطؤهم مع كتمانه، أو أنهم اعتقدوا أنه تخييل، ومعظم الخلق في ذلك الوقت كانوا نياما، والقمر قد يعارضه غيم في بعض البلدان ولا يرى وهو في تلك الحالة، يرى في موضع آخر، كما يكون السحاب المطبق والمطر الوابل في بلد في يوم واحد، وفي ساعة واحدة، ولا يكون في بلد آخر.
قيل: هذا مما لا يلزم فيه نقل التواتر، ولا تقضي العادة والعرف فيه بوجوب التواتر، فهو كغيره من المعجزات ما عدا القرآن، ثم رب شيء ينتقل تواتره مدة ثم يندرس، ومع ذلك فقد روى هذه الآية من الصحابة الأعلام جماعة تقدم ذكرهم، ورواه عن كل واحد منهم عدد كثير.
__________
[ (1) ] القمر: 3.(5/18)
وقد جاء القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، والنصارى تنكر ذلك، فإذا قيل لنا: لو كان هذا حقا لتواتر الخبر به، قلنا: عدم التواتر في انشقاق القمر مثل ذلك، ومعنى اقتربت: دنت، والساعة: القيامة. قال الفراء:
فيه تقديم وتأخير تقديره: انشق القمر واقتربت الساعة. وقرأ بعضهم: اقتربت الساعة وقد انشق القمر، وهذا يؤيد قول الجمهور.
خرج البخاري في التفسير من حديث سعيد وسفيان عن الأعمش، عن إبراهيم عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول اللَّه: اشهدوا [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث شعبة عن الأعمش بهذا السند ولفظه: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة، [وكانت] [ (2) ] [فلقة] [ (3) ] فوق الجبل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد [ (4) ] .
وخرجه من طرق، وفي بعضها فقال: [اشهد] [ (3) ] واشهدوا، وفي بعضها
عن عبد اللَّه بن مسعود قال: بينما نحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اشهدوا [ (5) ] .
وخرجه البخاري ولفظه: عن عبد اللَّه قال انشق القمر ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اشهدوا.
وخرج البخاري ومسلم من حديث سفيان ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه قال: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشقتين، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اشهدوا. ذكره
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 794، كتاب التفسير باب (1) وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، حديث رقم (4864) .
[ (2) ] في (خ) : «وصارت» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 150، كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (45) .
[ (5) ] المرجع السابق، حديث رقم (44) .(5/19)
البخاري في المناقب [ (1) ] ، وذكره في التفسير أيضا، ولفظه: عن عبد اللَّه، انشق القمر ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصار فرقتين فقال لنا اشهدوا [ (2) ] .
وخرج الحاكم هذا الحديث من طريق عبد الرزاق قال: حدثنا ابن عيينة، ومحمد ابن مسلم، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: رأيت القمر منشقا بشقين مرتين في مكة قبل مخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء فقالوا: سحر القمر فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، يقول: كما رأيتم القمر منشقا فإن الّذي أخبرتكم عن اقتراب الساعة حق. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا على حديث أبي معمر عن عبد اللَّه مختصرا [ (3) ] .
وخرج أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق، عن عبد اللَّه قال:
انشق القمر على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال:
انتظروا ما يأتيكم به السّفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال:
فجاء السّفار فقالوا كذلك.
ورواه هشيم عن مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد اللَّه قال: انشق القمر ونحن بمكة فقالت كفار قريش: سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السّفار يأتوكم، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبروهم أنهم رأوا مثل ما رأوا.
ورواه عمرو بن أبي قبيس عن مغيرة مثله، وخرجه الحسن بن علي بن الوليد.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 5783، كتاب المناقب، باب (27) سؤال المشركين أن يريهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، حديث رقم (3636) ، (3637) ، (3638) .
[ (2) ] المرجع السابق: 8/ 794، كتاب التفسير، حديث رقم (4865) .
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 512، كتاب التفسير، باب (54) تفسير سورة القمر، حديث رقم (3756/ 893) ، وزاد في آخره: وهذا حديث لا نستغني فيه عن متابعة الصحابة بعض لبعض، لمغايظة أهل الإلحاد، فإنه أول آيات الشريعة، فنظرت فإذا في الباب مما لم يخرجاه: عن عبد اللَّه ابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وجبير بن مطعم، رضي اللَّه تعالى عنهم، ولم يخرجاه منها إلا من حديث أنس.(5/20)
الفسوي فقال: حدثنا سعيد بن سليم، [حدثنا] هشيم عن مغيرة، عن الشعبي عن مسروق، عن عبد اللَّه قال: انشق القمر فرقتين ونحن بمكة، فقال كفار قريش:
هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، انظروا إلى السفّار، فإن كانوا قد رأوا ما رأيتم وإلا فإنه سحر سحركم، قال: فسئل السفار- وقدموا من غير وجه- فقالوا:
قد رأينا ما رأيتم.
وقال محمد بن إسحاق الثقفي: حدثنا قتيبة، أخبرنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: خمس قد مضين: الدخان، واللزام [ (1) ] ، والروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر.
وعن مسلم بن صبيح قال: سمعت مسروقا يقول: سمعت عبد اللَّه يقول:
خمس قد مضين: القمر، والبطشة، والروم، والدخان واللزام [ (2) ] .
وقال أسباط بن نصر عن سماك، عن إبراهيم عن الأسود، عن عبد اللَّه قال:
رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق القمر.
وقال محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب، عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد اللَّه قال: انشق القمر فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر [ (3) ] .
وخرجه الحاكم بهذا السند، ولفظه: عبد اللَّه في قوله عزّ وجلّ: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال: رأيت القمر وقد انشق، فأبصرت الجبل من بين فرجتي القمر [ (3) ] ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [بهذه السياقة و] [ (4) ] بهذا اللفظ.
__________
[ (1) ] اللزام: العذاب اللازم. (لسان العرب) : 12/ 541، قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وقال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [طه: 129، الفرقان: 77] .
[ (2) ] (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) 3/ 148، حديث رقم (384) ، (الكشاف للزمخشري) : 3/ 430، عند تفسير سورة الدخان. وسياق بداية الفقرة مضطرب وقد صوبناه.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 512، تفسير سورة القمر، حديث رقم (3756/ 893) .
[ (4) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.(5/21)
وقال المنصور بن المعتمر، عن يزيد بن وهب، عن عبد اللَّه بن مسعود قال:
رأيت القمر واللَّه منشقا فلقتين بينهما حراء.
وقال الليث بن سعد: حدثنا هشام بن سعيد، عن عتبة بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الّذي [بمنى] ونحن بمكة [ (1) ] .
وخرج البخاري في التفسير من حديث يونس بن محمد قال: حدثنا شيبان عن قتادة، عن أنس رضي اللَّه عنه: سأل أهل مكة أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر [ (2) ] .
وخرجه مسلم بهذا السند، ولفظه: عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر [ (3) ] .
وخرجه في البعث، وخرجه في التفسير من حديث شعبة عن قتادة، عن أنس ابن مالك قال: انشق القمر فرقتين [ (4) ] .
وخرجه مسلم عن شعبة بمثله، وفي حديث أبي داود: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (5) ] .
وخرج البخاري في المناقب [ (6) ] وفي التفسير [ (7) ] ، من حديث بكر بن مضر
__________
[ (1) ] قال الحاكم في (المستدرك) : 2/ 513: هذه الشواهد لحديث عبد اللَّه بن مسعود كلها صحيحة على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 794، حديث رقم (4867) في تفسير سورة القمر.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 151، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (2802) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 8/ 794، حديث رقم (4868) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 151، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (47) من أحاديث الباب.
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 783، كتاب المناقب، باب (27) سؤال المشركين أن يريهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر، حديث رقم (3638) .
[ (7) ] (فتح الباري) : 8/ 794، كتاب التفسير، حديث رقم (4866) تفسير سورة القمر.(5/22)
قال: حدثنا جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: إن القمر انشق في زمان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وخرجه مسلم بهذا السند وقال: على زمان رسول اللَّه [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاصي بن وائل، والعاصي بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير،
فقالوا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: إن كنت صادقا فشقّ القمر فرقتين: نصفا على أبي قبيس [ (2) ] ، ونصفا على قعيقعان [ (3) ] ، فقال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اللَّه عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس، ونصفا على قعيقعان، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ينادي: يا أبا سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، اشهدوا [ (4) ] !!.
وله من حديث إسماعيل بن أبي زياد، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول اللَّه؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة، فسيروا آية إن انتفعوا بها، فأخبرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام، فخرجوا ليلة أربعة عشر، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا ونصفا على المروة، فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر، ثم مسحوا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 151، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (2803) .
[ (2) ] أبو قبيس: جبل بمكة.
[ (3) ] قعيقعان: جبل بالأهواز.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 279- 280، فصل فأما انشقاق القمر فكان بمكة لما افتتح المشركون أن يريهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (209) . ولم أجده عند غير أبي نعيم، وقال الحافظ في الفتح:
إسناده ضعيف.(5/23)
أعينهم، ثم نظروا، فقالوا: يا محمد! ما هذا إلا سحر ذاهب، فأنزل اللَّه تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وله من حديث الزبير بن عدي، عن الضحاك عن ابن عباس قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن، فسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ربه عز وجل أن يريهم آية، فأراهم القمر قد انشق فصار قمرين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليهما، ثم غاب القمر فقالوا:
هذا سحر مستمر [ (1) ] .
وعن داود بن أبي هند عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال: قد مضى كان قبل الهجرة انشق حتى رآه الناس شقين [ (2) ] .
وخرج الترمذي من حديث شعبة عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: انفلق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اشهدوا. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وذكره في كتاب الفتن، وذكره أيضا في التفسير بهذا اللفظ وهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (3) ] .
وذكر بعده من حديث سليمان بن كثير عن حصين، عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقال بعضهم: لئن كان سحرنا ما كان يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال أبو عيسى: وقد روى بعضهم
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 280، حديث رقم (210) ، ولم أجده عند غير أبي نعيم، وفيه بشر ابن الحسين، وهو متروك.
[ (2) ] في المرجع السابق عن عبد اللَّه بن مسعود: انشق القمر فرأيته فرقتين حديث رقم (207) ، قال الحافظ في الفتح: أخرجه الطبراني.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 414، كتاب الفتن، باب (20) ما جاء في انشقاق القمر، حديث رقم (2182) ، وفي آخره: قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن مسعود، وأنس، وجبير بن مطعم، وهذا حديث حسن صحيح.(5/24)
هذا الحديث عن جبير بن مطعم نحوه [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وعبد الحميد ابن الحسن الهلالي، وخالد بن عبد اللَّه، وهمام بن يحيى، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي قالوا- كلهم عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال-:
خطبنا حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه بالمدائن، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد أدنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، فلما كانت الجمعة الثانية، انطلقت مع أبي إلى الجمعة، فحمد اللَّه وقال مثله وزاد:
إلا وإن السابق من سبق إلى الجنة. ورواه حماد بن زيد عن عطاء مثله.
وله من حديث وهب عن جرير قال: حدثنا شعبة، أخبرنا الأعمش عن مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمرو في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال:
كان ذلك على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلقتين، فلقة دون الجبل، وفلقة وراء الجبل، وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اشهدوا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 370، كتاب التفسير، باب (54) ومن سورة القمر، حديث ابن مسعود رقم (3285) ، (3287) ، حديث أنس رقم (3286) ، وحديث ابن عمر رقم (3288) ، وحديث جبير بن مطعم رقم (3289) ، وقال أبو عيسى في آخره: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن حصين، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده جبير بن مطعم نحوه.
[ (2) ] (الصحيح المسند من دلائل النبوة) : 182، فصل (15) ومن دلائل النبوة انشقاق القمر.(5/25)
[ثالثا: رد الشمس بعد غروبها]
وأما رد الشمس بعد غروبها بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقد روى من حديث أبي هريرة، وأسماء بنت عميس، وجابر بن عبد اللَّه، وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 185، (مشكل الآثار) : 4/ 388- 389.
* وفيه ما يدل على التغليظ في فوت العصر، فوقى اللَّه عليا ذلك بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لطاعته وكرامته لديه.
* وفيه لعلى المقدار الجليل والرتبة الرفيعة.
* وفيه إباحة النوم بعد العصر، وإن كان مكروها عن بعضهم بما
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه» ،
لأن هذا منقطع، وحديث أسماء متصل، ويمكن التوفيق بأن نفس النوم بعد العصر مذموم، وأما نوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان لأجل وحي يوحى إليه، وليس غيره كمثله فيه.
والّذي يؤيد الكراهة قول عمرو بن العاص: النوم منه خرق، ومنه خلق، ومنه حمق، يعني الضحى، والقائلة، وعند حضور الصلوات، ولأن بعد العصر يكون انتشار الجن، وفي الرقدة يكون الغفلة.
وعن عثمان: الصبحة تمنع الرزق. وعن ابن الزبير أن الأرض تعجّ إلى ربها من نومة العلماء بالضحى، مخافة الغفلة عليهم، فندب اجتناب ما فيه الخوف، واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
قال بعض المحققين: هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج القاضي عياض له في (الشفاء) عن الطحاوي في (مشكل الآثار) من طريقين، فقد ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) :
1/ 355- 357، وقال إنه موضوع بلا شك، وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب، كما قال الدار الدّارقطنيّ. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
قال ابن الجوزي: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين، فذكره ثم قال: وهذا حديث باطل، قال:
ومن تغفل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء.
وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا مفردا في الرد على الروافض، ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله، وأنه موضوع، والعجب من القاضي عياض مع جلالة قدرة، وعلو خطره في علوم الحديث، كيف سكت عنه موهما صحته، ناقلا ثبوته، موثقا رجاله. وقال أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن(5/26)
فأما حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه:
فمن طريق يحيى بن يزيد بن عبد الملك، عن أبيه عن داود بن فراهيج عن أبي هريرة، وعن عمارة بن فيروز، عن أبي هريرة، أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنزل عليه حين انصرف من العصر- وعلي بن أبي طالب قريب منه، ولم يكن علي أدرك الصلاة- فاقترب عليّ إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلم يسرّ عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى غابت الشمس، فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: من هذا؟ فقال:
عليّ يا رسول اللَّه، أنا لم أصل العصر وقد غابت الشمس! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ اردد الشمس على عليّ، فرجعت الشمس لموضعها الّذي كانت فيه حتى صلى علي رضي اللَّه عنه، وبعض أصحابه يمينا وشمالا يقولون: صل يا عليّ، فإنّ رحمك وقرابتك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لن تغني عنك من اللَّه شيئا، فأخبر عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بذلك، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بين ظهرانيّ الناس فقال: من آذى ذوي رحم الرجل وقرابته فقد آذاه- مرارا يقولها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- ومن آذاني فقد آذى اللَّه عز وجل.
وأما حديث أسماء بنت عميس رضي اللَّه عنها فله طرق:
أحدها:
من طريق أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي، حدثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك قال: حدثني محمد بن موسى عن عون بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن جدتها أسماء ابنة عميس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أنفذ عليا في حاجة، فرجع وقد صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العصر، فوضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إن عبدك عليا احتسب بنفسه على نبيه، فردّ عليه شرقها، قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، فقام على فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس، وذلك في الصهباء في غزوة خيبر.
__________
[ () ] الجوزي فأورده في الموضوعات.
ولكن قد صححه الطحاوي والقاضي عياض، وأخرجه ابن مندة وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه.
ورواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن، كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب، عن أسماء بنت عميس (المواهب اللدنية) 2/ 528- 530 مختصرا.(5/27)
[وثانيها] :
من طريق أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن أبي فديك قال: أخبرني محمد بن موسى، عن عون بن محمد، عن أمه أمّ جعفر، عن أسماء ابنة عميس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء، ثم أرسل عليا في حاجة، فرجع وقد صلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم العصر، فوضع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إن عبدك عليا احتسب بنفسه على نبيه، فردّ عليه شرقها، قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض فقام علي وتوضأ، فصلى العصر ثم غابت،
وذلك بالصهباء في غزوة خيبر، قال أحمد بن صالح: هذه دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلا تستكثر، وهي فضيلة لعلي رضي اللَّه عنه.
[و] ثالثها:
من طريق عبد الرحمن بن شريك، حدثنا أبي حدثنا عروة بن عبد اللَّه بن قشيرة قال: دخلت على فاطمة ابنة علي الأكبر- وهي عجوز كبيرة- فرأيت في عنقها خرزات، وفي يدها مسكين غليظين، فقلت: ما هذا؟ فقالت:
إنا معشر النساء نكره أن نتشبه بالرجال، وقالت: حدثتني أسماء ابنة عميس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أوحي إليه فستره عليّ بثوبه حتى غابت الشمس، فلما سرّي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يا علي! صليت العصر؟ قال: لا، قال: اللَّهمّ رد الشمس على عليّ، قالت: فرجعت الشمس حتى رأيتها في نصف الحجرة. أو قالت: نصف حجرتي.
[و] رابعها:
من طريق فضيل بن مرزوي عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، عن فاطمة ابنة الحسن، عن أسماء ابنة عميس قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم [يصل] العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعليّ: صليت؟ قال: لا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إنه في طاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.
وقال فضيل، عن إبراهيم ابن الحسن عن فاطمة عن أسماء: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد [يغشى] عليه، فأنزل عليه يوما ورأسه في حجر علي حتى غابت الشمس، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه وهو في حجر علي فقال(5/28)
له: صليت العصر يا عليّ؟ قال: لا يا رسول اللَّه، فدعى اللَّه فردّ عليه الشمس حتى صلى العصر، قالت: فرأيت الشمس بعد ما غربت حين ردّت حتى صلى العصر.
[و] خامسها:
من طريق صبّاح [ (1) ] المري، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن الحسن عن أمه فاطمة ابنة حسين، عن أسماء ابنة عميس قالت: اشتغل عليّ مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا عليّ! هل صليت العصر؟ قال: لا يا رسول اللَّه، قال: فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجلس في المسجد، فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر، فقام عليّ فتوضأ وصلى العصر، ثم تكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت إلى مغربها، فسمعت لها صريرا كالمنشار في الخشبة، وطلعت الكواكب.
وقال صبّاح أيضا: عن عبد اللَّه بن الحسن بن جعفر، عن حسين المبتول عن فاطمة بنت على، عن أم الحسن بنت علي، عن أسماء بنت عميس قالت: لما كان يوم خيبر شغل عليّ بما كان من قسمة الغنائم حتى غابت الشمس أو كادت، فسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عليا: هل صليت العصر؟ قال: لا، فدعا اللَّه عزّ وجل فارتفعت حتى توسطت المسجد فصلى عليّ، فلما صلى غابت. قالت: فسمعت لها صريرا كصرير المنشار في الخشب.
وقال صبّاح [ (1) ] : عن أبي سلمة مولى آل عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، عن محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ، عن أمه أم جعفر بنت محمد، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: كانوا أقبلوا من ضيعة لهم حتى نزلوا إلى جبل، فقامت أسماء تصلي، فلما فرغت من صلاتها قالت: يا باي يا باي، قلت: يا جدة! لم تقولي يا باي وليس عندك أحد؟ قالت يا بنية ذكرت عليا، قلت: يا جدة، ما ذكرت من عليّ؟ مرتين أهلك فوجدت في نفسي إن ذكرت عليا وتركت أبي، قالت: شيء
__________
[ (1) ] لم أقف له على ذكر في كتب الرجال.(5/29)
كان من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في هذا المكان ومعه علي، إذ أغمي عليه فوضع رأسه في حجر عليّ، فلم يزل كذلك حتى غابت الشمس، ثم إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أفاق، فقعد فقال: يا علي! هل صليت؟ قال: لا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إن عليا كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت: فخرجت من تحت هذا الجبل كأنما خرجت من تحت سحابة، فقام علي فصلى، فلما فرغ آبت مكانها.
قال: فخرجت فلقيت أبا جعفر فذكرت ذلك له فقال: أنت سمعت هذا من أم جعفر؟ قلت نعم، فأخذ بيدي حتى استأذن عليها فقال: حدثيني الحديث الّذي حدثت هذا، فحدثته فخرج وهو مستبشر.
وأما حديث جابر: فمن طريق الوليد بن عبد الواحد، حدثنا معقل بن عبيد اللَّه عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللَّه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أمر الشمس أن تتأخر ساعة من النهار فتأخرت ساعة من النهار.
وأما حديث علي:
فمن طريق يحيى بن عبد اللَّه بن حسين بن حسن بن عليّ ابن أبي طالب قال: لما كنا بخيبر شهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قتال المشركين، فلما كان من الغد وكان مع صلاة العصر حمية، ولم أصل صلاة العصر، فوضع رأسه في حجري فنام فاستثقل، قال: فلم ينتبه حتى غربت الشمس، فلما استيقظ مع غروب الشمس قلت: يا رسول اللَّه! ما صليت صلاة العصر كراهية أن أوقظك من نومك، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده إلى اللَّه عزّ وجل ثم قال: اللَّهمّ إن عبدك تصدق بنفسه على نبيك، فاردد عليه شروقها، قال: فرأيتها على الحال في وقت العصر بيضاء نقية، حتى قمت ثم توضأت ثم صليت ثم غابت.
وقال إسحاق بن إبراهيم التيمي: حدثنا محل الضّبي عن إبراهيم النخعي، عن علقمة عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال عليّ رضي اللَّه عنه يوم الشورى: أنشدتكم اللَّه هل فيكم من رفعت الشمس عندي حين نام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجعل رأسه في حجري حتى غابت الشمس، فانتبه فقال: يا عليّ! صليت العصر؟
قلت: اللَّهمّ لا، فقال: اللَّهمّ ارددها عليه، فإنه كان في طاعتك وطاعة رسولك.
وأما ردها حين تبين لمكذبيه صدقه، فخرج البيهقي من طريق يونس بن بكير،(5/30)
عن أسباط بن نصر الهمدانيّ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال: لما أسري برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة في العير قالوا: فمتى تجيء؟ قال:
يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس.
فلم تردّ على أحد إلا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [يومئذ] [ (1) ] وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم، ويدخل السبت، ولا يحل له قتالهم فيه، فدعا اللَّه فردّ عليه الشمس حتى فرغ من قتالهم [ (2) ] .
قال الحاكم أبو عبد اللَّه الحافظ النيسابورىّ في كتاب (الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار) : قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، حدثنا عبد اللَّه بن الحسين بن موسى، حدثنا عبد اللَّه بن علي المديني
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن البيهقي) .
[ (2) ] قال الحافظ ابن كثير: فيه أن هذا كان من خصائص يوشع، فيدل على ضعف الحديث الّذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى عليّ بن أبي طالب، وقد صححه أحمد بن صالح المصري، ولكنه منكر، ليس في شيء من الصحاح والحسان، وهو مما تتوافر الدواعي على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت، مجهولة لا يعرف حالها. (المواهب اللدنية) : 2/ 530. وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 404، (السيرة الشامية) : 3/ 133.
ويحتمل الجمع: بأن المعنى لم تحبس الشمس على أحد من الأنبياء غيري إلا ليوشع. وكذا روى حبس الشمس لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أيضا يوم الخندق، حين شغل عن صلاة العصر، فيكون حبس الشمس مخصوصا بنبينا وبيوشع، كما ذكره القاضي عياض في (الإكمال) ، وعزاه (لمشكل الآثار) ، ونقله النووي في (شرح مسلم) في باب حل الغنائم عن القاضي عياض، وكذا الحافظ ابن حجر في باب الأذان، في (تخريج أحاديث الرافعي) ، ومغلطاي في (الزهر الباسم) ، وأقروه.
وذكر البغوي في تفسيره: أنها حبست لسليمان عليه السلام أيضا لقوله: رُدُّوها عَلَيَّ [ص: 33] ، ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس في الآية، فالمراد: الصافنات الجياد. واللَّه تعالى أعلم.
قال القاضي عياض: واختلف في حبس الشمس المذكور هنا:
* فقيل: ردت على أدراجها.
* وقيل: وقفت ولم ترد.
* وقيل: بطء حركتها، قال: وكل ذلك من معجزات النبوة. (المواهب اللدنية) :
2/ 530- 531.(5/31)
قال: سمعت أبي يقول: خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث: لو صدق السائل ما أفلح من ردّه [ (1) ] ، وحديث: لا وجع إلا وجع العين ولا غم إلا غم الدّين [ (2) ] ، وحديث: إن الشمس طلعت على عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه [ (3) ] ، وحديث:
أنه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنا أكرم على اللَّه من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام [ (4) ] ،
وحديث: أفطر الحاجم والمحجوم [ (5) ] ...
__________
[ (1) ] روى كما قال ابن عبد البر في (الاستذكار) : من جهة جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده مرفوعا، ومن جهة يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رفعه أيضا: «لولا أن السؤال يكذبون ما أفلح من ردهم» . وحديث عائشة عند القضاعي بلفظ: «ما قدس» ، قال ابن عبد البر: وأسانيدها ليست بالقوية، وسبقه ابن المديني فأدرجه في خمسة أحاديث. قال إنه لا أصل لها، وكذا رواه العقيلي في (الضعفاء) من حديث عائشة وابن عمر، وقال: إنه لا يصح في هذا الباب شيء. وعند الطبراني بسند ضعيف أيضا، من حديث أبي أمامة مرفوعا: «لولا أن السائلين يكذبون ما أفلح من ردهم» ، (المقاصد الحسنة) : 547، (الفوائد المجموعة) : 64، حديث رقم (13) ، (الأسرار المرفوعة) : 289، حديث رقم (378) ، (الموضوعات لابن الجوزي) : 355، باب فضائل عليّ عليه السلام.
[ (2) ] البيهقي في (شعب الإيمان) ، والطبراني في (الصغير) ، من حديث سهل بن قرين عن أبيه، حدثنا ابن أبي ذئب، عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رفعه به.
وقال البيهقي: أنه منكر، وقرين- وهو بفتح القاف أو ضمها- منكر الحديث كذبه الأزدي، وأبوه لا شيء، (المقاصد الحسنة) : 728، حديث رقم (1316) ، (كشف الخفا) : 2/ 240، ترجمه سهل بن قرين رقم (3591) ، (الموضوعات لابن الجوزي) : 2/ 244، باب تعظيم أمر الدين، (الأسرار المرفوعة) : 386، حديث رقم (597) .
[ (3) ] قال الإمام أحمد: لا أصل له، وقال ابن الجوزي: موضوع، لكن خطّئوه، ومن ثم قال السيوطي:
أخرجه ابن مندة وابن شاهين، عن أسماء بنت عميس، وابن مندة وابن مردويه عن أبي هريرة، وإسنادهما حسن، وصححه الطحاوي والقاضي عياض. قال القاري: ولعل المنفي ردها بأمر على والمثبت بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، (كشف الخفا) : 1/ 220، حديث رقم (670) ، (الموضوعات لابن الجوزي) : 1/ 355- 356، (الأسرار المرفوعة) : 121، حديث رقم (77) ، (الفوائد المجموعة) : 350، حديث رقم (53) .
[ (4) ] (كشف الخفا) : 1/ 200، حديث رقم (608) ، قال الصّغاني: موضوع، ولفظه: «أنا أكرم على اللَّه من أن يتركني في التراب ألف عام» .
[ (5) ]
يروى كما علقه البخاري بصيغة التمريض عن الحسن: عن غير واحد مرفوعا، ثم قال: وقال لي عياش:
حدثنا عبد الأعلى، حدثنا يونس، عن الحسن مثله، فقيل له: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: نعم ثم قال:
اللَّه أعلم.
وهذا بعينه قد رواه في تاريخه، ومن جهته البيهقي في سننه فقال: حدثني عياش ... وذكره،(5/32)
[إنهما كانا يغتابان] [ (1) ] .
__________
[ () ] وبه يستدل على أن البخاري إذا قال: قال لي، يكون محمولا على السماع.
وللبيهقي أيضا، وكذا النسائي، من حديث علي بن المديني، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن غير واحد من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال- وذكره.
قال على بن المديني: رواه يونس عن الحسن، عن أبي هريرة، ورواه قتادة، عن الحسن، عن ثوبان، ورواه عطاء بن السائب، عن الحسن، عن معقل بن يسار، ورواه مطر، عن الحسن، عن علي.
قال البيهقي: ورواه أشعث عن الحسن عن أسامة.
وقال الحافظ ابن حجر: ورواه قتادة أيضا، عن الحسن، عن علي، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، ورواه أبو حرّة، عن الحسن، عن غير واحد من الصحابة، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وآخرون، كالحارث من حديث ثوبان وشداد مرفوعا في حديث.
وقال أحمد والبخاري: إنه عن ثوبان أصح. وصححه عن شداد إسحاق بن راهويه، وصححهما معا البخاري متبعا لابن المديني، ورواه الترمذي عن رافع بن خديج، ورواه غيرهم عن آخرين.
وتأوله بعض العلماء المرخصين في الحجامة على أن معناه: إن تعرضا للإفطار أما المحجوم فللضعف، وأما الحاجم فلأنه لا يأمن من أن يصل إلى جوفه شيء بالمص: ولكن جزم الشافعيّ في (الأم) بأنه منسوخ. (المقاصد الحسنة) : 131، حديث رقم (139) ، (فتح الباري) :
4/ 217- 218، كتاب الصوم، باب (32) الحجامة والقيء للصائم، (سنن الدارميّ) :
2/ 14، باب الحجامة تفطر الصائم، (تلخيص الحبير) : 2/ 205، باب ذكر الإشارة إلى طرق حديث أفطر الحاجم والمحجوم، (كشف الخفا) : 1/ 156، حديث رقم (461) ، (الأم للشافعي) : 2/ 93، (سنن أبي داود) : 2/ 770، كتاب الصوم، باب (28) في الصائم يحتجم، (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 281، باب (18) ، حديث رقم (1361) ، (1362) ، (1363) ، (صحيح سنن الترمذي) : 1/ 234، باب (59) كراهية الحجامة للصائم، حديث رقم (621) ، (سنن البيهقي) : 4/ 264، كتاب الصوم باب الحديث الّذي روى في الحجامة. (المستدرك) : 1/ 428- 429، حديث رقم (1561/ 30) ، (1562/ 31) (1563/ 32) ، (1564/ 33) ، (1565/ 34) ، (1566/ 35) ، (1567/ 36) .
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) وليست في باقي المراجع.(5/33)
[رابعا: انقياد الشجر]
وأما انقياد الشجر،
فخرج مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب ابن مجاهد أبي حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فذكر الحديث [ (1) ] إلى أن قال: عن جابر بن عبد اللَّه، وسرنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقضي حاجته، فاتبعته بأداوة من ماء، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان [ (2) ] بشاطئ الوادي، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى إحداهما [ (3) ] ، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليّ بإذن اللَّه، فانقادت معه [كالبعير المخشوش الّذي يصانع قائدة، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليّ بإذن اللَّه فانقادت معه كذلك] [ (4) ] حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما، لأم بينهما- يعني جمعهما- فقال: التئما عليّ بإذن اللَّه فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحسّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بقربي فيبتعد، فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفته، فإذا أنا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقبلا
__________
[ (1) ] قال ابن الأثير الجزريّ: هذا حديث عبادة بن الوليد عن أبي اليسر وجابر: قد مرّ أوله في كتاب «الدّين والقرض» من حرف الدال، وبعضه في كتاب «فضيلة المسجد» ، وبعضه في كتاب «السّب واللعن» ، وبعضه في كتاب «الصلاة» ، لأن كل واحد من أحاديثه حديث منفرد مستقل بنفسه، وقد جاءت في بعض الصحاح متفرقة، قد ذكرناها كذلك، وسردها مسلم حديثا واحدا، وأوردها الحميدي في مسند أبي اليسر، وكان معظم معاني الحديث يتضمن ذكر المعجزات، فأوردناه بطوله في هذا الباب لئلا يخلو الكتاب من ذكر الحديث مسرودا على حالته وإن كان قد جاء مفرقا في أبوابه.
(جامع الأصول) : 11/ 384.
[ (2) ] في (خ) : «وإذا بشجرتين» ، وما أثبتناه من رواية مسلم.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي رواية مسلم: «إلى إحداهما» ، وكلاهما صحيح.
[ (4) ] ما بين الحاضرتين سقط في (خ) ، وأثبتناه من رواية مسلم.(5/34)
وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقف وقفة فقال برأسه هكذا- وأشار أبو إسماعيل برأسه يمينا وشمالا- ثم أقبل، فلما انتهى إليّ قال: يا جابر، هل رأيت مقامي؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه، قال فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما، حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك، قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقت فقلت: قد فعلت يا رسول اللَّه نعم ذاك، قال: إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفّه عنهما ما دام الغصنان رطبين [ (1) ] .
وذكر الحديث.
وخرج البيهقي وغيره من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان بالحجون وهو كئيب [حزين] [ (2) ] لما آذاه المشركون، فقال: اللَّهمّ أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها، قال: فأمر فنادى شجرة من قبل عقبه أهل المدينة، فأقبلت تخد الأرض حتى انتهت إليه [فسلمت عليه] [ (3) ] ، قال: ثم أمرها فرجعت إلى موضعها، فقال: ما أبالي من كذبني بعد هذا من قومي [ (4) ] .
وفي رواية: فنادى شجرة من جانب الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 351- 352، كتاب الزهد والرقاق، باب (18) حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 196- 197، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 392، حديث رقم (296) .
[ (2) ] في (خ) : «كان على الحجون كثيبا، وما أثبتناه من رواية أبي نعيم في (دلائل النبوة) .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 389- 390، حديث رقم (290) ، (الخصائص الكبرى) :
1/ 302، والحجون: موضع بأعلى مكة، (دلائل البيهقي) : 6/ 13.
[ (5) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 198.(5/35)
ومن حديث أبي معاوية عن الأعمش، عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم- وهو خارج من مكة قد خضبه أهل مكة بالدماء- فقال: مالك؟ قال: خضبني هؤلاء بالدماء، وفعلوا وفعلوا، قال: تريد أن أريك آية؟ قال: نعم، قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه، قال: مرها فلترجع، قال: فارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حسبي [ (1) ] .
ومن حديث يونس بن بكير عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى شعاب مكة- وقد دخله من الغم ما شاء اللَّه من تكذيب قومه إياه- فقال: رب أرني ما أطمئن إليه ويذهب عني هذا الغم، فأوحى اللَّه إليه:
أدع أي أغصان هذه الشجرة شئت، فدعى غصنا فانتزع من مكانه، ثم خدّ في الأرض حتى جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ارجع إلى مكانك، فرجع الغصن فخدّ في الأرض حتى استوى كما كان، فحمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وطابت نفسه ورجع، وقد كان قال المشركون: أتضلل [ (2) ] آباءك وأجدادك يا محمد؟
فأنزل اللَّه عزّ وجل: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ، إلى قوله.
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [ (3) ] .
قال البيهقي: وهذا المرسل لما تقدم من الموصول شاهد، وقد سخر اللَّه تعالى الشجرة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جعلها آية لنبوته لمن طلب منه آية، وشهدت له الشجرة بالنّبوّة في بعض الرواية.
فذكر من طريق محمد بن فضيل عن أبي حبان عن عطاء، عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي فلما دنا منه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 154، باب مبتدإ البعث والتنزيل، وما ظهر عند ذلك من تسليم الحجر والشجر، وتصديق ورقة ابن نوفل إياه، (سنن الدارميّ) : 1/ 12- 13، باب كيف كان أول شأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، (المواهب اللدنية) : 2/ 539، (مسند أحمد) : 3/ 555- 556، حديث رقم (11702) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «أفضّلت» .
[ (3) ] الزمر: 164، والحديث أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 14.(5/36)
قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أين تريد؟ قال: إلى أهلي، قال: هل لك إلى خير؟ قال:
ما هو؟ قال: تشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: هذه الشجرة، فدعاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ الأرض خدّا، فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت له كما قال ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني آتيك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك [ (1) ] .
وخرجه أبو محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارميّ، عن محمد بن طريف قال:
حدثنا محمد بن فضيل بنحو ما أخرجه البيهقي.
وخرج البيهقي من حديث شريك عن سماك عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول اللَّه؟
قال أرأيت لو دعوت هذه العذق من هذه النخلة، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، ثم جعل ينقر حتى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قال له: ارجع، فرجع حتى عاد إلى مكانه، فقال: أشهد أنك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وآمن [ (2) ] .
[و] رواه البخاري في (التاريخ) عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني قال:
أخبرني شريك فذكره.
وخرج البيهقي من حديث أبي معاوية عن الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم رجل من بني عامر فقال: إني من أطب الناس، فإن كان بك جنون داويتك! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم، قال:
فادع ذاك العذق، فدعاه، فجاء ينقر على ذنبه حتى قام بين يديه، ثم قال: ارجع، فرجع، فقال: يا بني عامر! ما رأيت أسحر من هذا [ (3) ] .
وله من حديث الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: جاء رجل من
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 14- 15.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 15، (المستدرك) : 2/ 620 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، حديث رقم (4237/ 247) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 15- 16.(5/37)
بني عامر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن عندي طبا وعلما فما تشتكي؟ هل يريبك من نفسك شيء؟ إلى من تدعو؟ قال: أدعو إلى اللَّه عزّ وجل والإسلام، قال: إنك لتقول قولا، فهل لك من آية؟ قال: نعم إن شئت أريتك آية- وبين يديه شجرة- فقال لغصن منها: تعال يا غصن، فانقطع الغصن من الشجرة ثم أقبل ينقر حتى قام بين يديه، فقال: ارجع إلى مكانك فرجع، قال العامري: يا آل عامر بن صعصعة، لا [ألومك] [ (1) ] على شيء قلته أبدا [ (2) ] .
ومن طريق الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما هذا الّذي يقول أصحابك؟ قال: - وحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعذاق- قال: فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هل لك أن أريك آية؟ قال:
فدعا عذاقا منها فأقبل يخد الأرض ويسجد، ويرفع رأسه حتى وقف بين يديه، ثم أمره فرجع، قال: فخرج العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة! واللَّه لا أكذبه بشيء يقوله أبدا [ (3) ] .
قال البيهقي: كذا قال سالم بن أبي الجعد، وذكر في هذه الرواية تصديق الرجل إياه، كما هو في رواية سماك، ويحتمل أنه توهمه سحرا ثم علم أنه ليس بساحر، فآمن وصدّق، وروى في ذلك عن بريدة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [ (4) ] .
وخرج البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه [أحد] [ (1) ] فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر، فقال لي: يا جابر خذ الإداوة وانطلق بنا، فملأت الإداوة ماء فمشينا حتى لا نكاد نرى.
فإذا شجرتان بينهما أذرع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا جابر، انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 16.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 17.
[ (4) ] المرجع السابق.(5/38)
ففعلت، فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما حتى قضى حاجته.
ثم رجعنا [ (1) ] [فركبنا رواحلنا فسرنا كأنما علينا الطير يظلّنا، فإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ومعها صبي تحمله، فقالت يا رسول اللَّه! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات لا يدعه، فوقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فتناوله، فجعله بينه وبين مقدمة الرحل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اخسأ عدوّ اللَّه! أنا رسول اللَّه، قال: فأعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، ثم ناولها إياه، فلما رجعنا فكنا بذلك الماء، عرضت لنا المرأة معها كبشان تقودهما والصبي تحمله، فقالت:
يا رسول اللَّه، اقبل مني هديتي، فو الّذي بعثك بالحق إن عاد إليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذوا أحدهما وردوا الآخر] [ (2) ] وخرجه أبو محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارميّ [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث زمعة بن صالح [عن زياد] [ (4) ] ، عن أبي الزبير، أنه سمع يونس بن خبّاب الكوفي يحدث أنه سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه كان في سفر إلى مكة، فذهب إلى الغائط فكان يبعد حتى لا يراه أحد، قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين، فذكر قصة الشجرتين وقصة الجمل بنحو من حديث جابر، وحديث جابر أصح، قال البيهقي: وهذه الرواية ينفرد به زمعة بن صالح عن زياد، أظنه ابن سعد عن أبي الزبير [ (5) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، عن يعلي ابن مرة عن أبيه قال: سافرت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سفرا، فرأيت أشياء عجبا، نزلنا منزلا فقال: انطلق إلى هاتين الأشاءتين فقل: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول لكما
__________
[ (1) ] في (خ) : «ثم رجعنا» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين تكملة الحديث من المرجع السابق.
[ (3) ] (سنن الدارميّ) : 1/ 10- 11، وقال فيه: ثم رجعتا إلى مكانهما فركبنا رواحلنا فسرنا ... إلخ الحديث.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20.(5/39)
أن تجتمعا، فانطلقت فقلت لهما ذلك، وانتزعت كل واحدة منهما من أصلها، فنزلت كل واحدة إلى صاحبتها فالتقتا جميعا، فقضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حاجته من ورائها ثم قال: انطلق فقل لهما: فلتعد كل واحدة إلى مكانها، فأتيتهما فقلت لهما ذلك، فنزلت كل واحدة حتى عادت إلى مكانها.
وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه في كل يوم مرتين، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أدنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: اخرج عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، ثم قال لها: إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع، فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم استقبلته [ (1) ] ومعها كبشان وأقط وسمن فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذ هذا الكبش فأخذ منه ما أراد، فقالت: والّذي أكرمك، ما رأينا به شيئا منذ فارقتنا.
ثم أتاه بعير فقام بين يديه فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه فقال:
ما لبعيركم هذا يشكوكم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لننحره غدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فلا تنحروه واجعلوه في الإبل يكون فيها [ (2) ] .
وخرج من حديث وكيع عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن [يعلي] ابن مرة عن أبيه قال: رأيت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثة أشياء: فذكر الحديث بمعنى رواية يونس، إلا أنه زاد: خذ أحد الكبشين ورد الآخر، وخذ السمن والأقط.
مرة بن يعلي هو مرة بن أبي مرة الثقفي، وقيل: فيه عن يعلي نفسه أنه قال:
رأيت ...
فذكر من طريق وكيع عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، عن يعلي بن مرة قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عجبا: خرجت معه في سفر فنزلنا منزلا، فأتته امرأة بصبي لها به لمم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اخرج عدو اللَّه أنا رسول اللَّه، قال:
[فبرأ] [ (3) ] ، فلما رجعنا جاءت أم الغلام بكبشين وشيء من أقط وسمن، فقال
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «فاستقبله ومعه» ، وما أثبتناه من (خ) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20- 21.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.(5/40)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا يعلي، خذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر، وخذ السمن والأقط، قال: ففعلت [ (1) ] .
هذا أصح، والأول وهم. قاله البخاري، يعني روايته عن أبيه وهم، إنما هو عن يعلي نفسه، وهم في وكيع مرة، ورواه على الصحة مرة. قال البيهقي:
وقد وافقه فيما زعم البخاري أنه وهم يونس بن بكير، فيحتمل أن يكون الوهم من الأعمش واللَّه أعلم.
وخرج من حديث شريك عن عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة عن أبيه، عن جده قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة ... الحديث. قال: ورواه عطاء بن السائب عن عبد اللَّه بن حفص، عن يعلي بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينا نحن نسير معه ... ، فذكر قصة البعير وقال: ثم سرنا حتى نزلنا منزلا، فنام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول اللَّه فأذن لها [ (2) ] ، ثم ذكر قصة المرأة.
وخرج الإمام أحمد هذا الحديث من طريق عبد الرزّاق قال: أخبرنا معمر عن عطاء.. فذكره [ (1) ] . قال البيهقي: الرواية الأولى عن يعلي بن مرة في أمر الشجرتين أصح لموافقتها رواية جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، إلا أن يكون أمر الشجرة في هذه.
الرواية حكاية عن واقعة أخرى [ (3) ] .
وخرج من حديث معاوية بن يحيى الصدفي قال: أخبرني الزهري عن خارجة ابن زيد، قال: قال أسامة بن زيد: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الحجة التي حجها، حتى إذا كنا ببطن الروحاء ... ، فذكر قصة المرأة بزيادة ثم قال: يا أسيم،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 21- 22، (مسند أحمد) : 5/ 182 حديث رقم (17113) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 23- 24، (المواهب اللدنية) : 2/ 540- 541، (دلائل أبي نعيم) :
2/ 391، حديث رقم (293) ، (مسند أحمد) : 5/ 183، حديث رقم (17115) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 24.(5/41)
انظر هل ترى من خمر لمخرج رسول اللَّه؟ فقلت: يا رسول اللَّه، قد دحس الناس الوادي فما فيه موضع، فقال: انظر هل ترى من نخل أو حجارة؟ فقلت:
يا رسول اللَّه قد رأيت نخلات متفرقات ورجما من حجارة، قال: انطلق إلى النخلات فقل لهن: إن رسول اللَّه يأمر كن أن تدانين لمخرج رسول اللَّه، وقل للحجارة مثل ذلك، قال: فأتيتهن فقلت ذاك لهن، فو الّذي بعثه [ (1) ] بالحق نبيا، لقد جعلت انظر الى النخلات يخددن الأرض خدا حتى اجتمعن، وانظر إلى الحجارة يتقافزن حتى صرن رجما خلف النخلات، فأتيته فقلت ذاك له، قال:
خذ الإداوة وانطلق، فلما قضى حاجته وانصرف قال: يا أسيم، عد إلى النخلات والحجارة فقل لهن: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأمركن أن ترجعن إلى مواضعكن [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث حيان بن علي، عن صالح بن حيّان عن ابن بريدة عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! قد أسلمت فأرني شيئا أزدد به يقينا، قال: ما الّذي تريد؟ قال: ادع تلك الشجرة فلتأتك، قال:
اذهب فادعها، فأتاها الأعرابي فقال: أجيبي رسول اللَّه قال فمالت على جانب من جوانبها فقطعت عروقها، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها، ثم أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فقال الأعرابي: حسبي حسبي، فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ارجعي فرجعت فجلست على عروقها [وفروعها] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «بعثك» .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 25- 26، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 393- 394، حديث رقم (298) ، (المطالب العالية) : 4/ 8- 10، حديث رقم (3830) ، (الخصائص الكبرى) :
2/ 302.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 390، حديث رقم (291) ، وصالح بن حيان ضعيف، وما بين الحاصرتين زيادة من المرجع السابق، وزاد بعدها:
فقال الأعرابي: ائذن لي يا رسول اللَّه أن أقبل رأسك ورجليك، ففعل، ثم قال: ائذن لي أن أسجد لك، قال: لا يسجد أحد لأحد، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها،
(المستدرك) : 4/ 190، حديث رقم (7326/ 87) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : بل واه، وفي إسناده صالح بن حيان: متروك.(5/42)
وروى يحيى بن أبي عمرو [السيباني] [ (1) ] قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد اللَّه قال: قال لي مسروق:
أخبرني أبوك أن شجرة أنذرت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالجن [ (2) ] .
__________
[ (1) ] تصويب للنسب من (تهذيب التهذيب) : 11/ 228، ترجمة رقم (425) .
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 197.
لكن قال ابن أبي حاتم في (علل الحديث) : 2/ 392- 393 حديث رقم (2687) :
سمعت أبي رضي اللَّه عنه ذكر حديثا رواه ابن فضيل عن أبي حيان، عن عطاء عن ابن عمر قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هل لك إلى خير من الذهاب؟
قال: نعم، قال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأني رسول اللَّه، قال الأعرابي فمن يشهد لك؟ قال هذه الشجرة ...
الحديث، قال أبي: وقد حدثنا على الطنافسىّ وعبد المؤمن بن علي، عن ابن فضيل هكذا، وأنا أنكر هذا، لأن أبا حيان لم يسمع من عطاء، ولم يرو عنه، وليس هذا الحديث من حديث عطاء، قلت: من تراه؟ قال: لحديث أبي جناد أشبه.
* وللَّه درّ الإمام الأبوصيريّ حيث قال:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم
فكأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم
واللقم: بفتح اللام والقاف: أوسط الطريق. فشبّه أثار مشي الشجر لما جاءت إليه صلّى اللَّه عليه وسلم بكتابة كانت أوقعها على نسبة معلومة، في أسطر منظومة. وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره صلّى اللَّه عليه وسلم حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أولى بالمبادرة لامتثال ما دعا إليه، زاده اللَّه شرفا لديه. وتأمل قول الأعرابي: «ائذن لي أن أسجد لك» لما رأى من سجود الشجرة، فرأى أنه أحرى بذلك حتى أعلمه صلّى اللَّه عليه وسلم أن ذلك لا يكون إلا للَّه، فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود للرب المعبود، ويقوم على ساق العبوديّة، وإن لم يكن له قدم كما قامت الشجرة. (بردة المديح للإمام الأبوصيري) ، (حاشية الباجوري على متن البردة) ، المواهب اللدنية) : 2/ 541- 542.(5/43)
[خامسا: انقلاب العود والقضيب سيفا جيدا]
وأما انقلاب العود والقضيب سيفا جيدا: قال الواقدي: فحدثني عمر بن عثمان الحجني عن أبيه عن عمته قالت: [قال] عكّاشة بن محصن: انقطع سيفي في يوم بدر، فأعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عودا فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت به حتى هزم اللَّه المشركين، فلم يزل عنده حتى هلك [ (1) ] .
وقال يونس عن ابن إسحاق في تسمية من شهد بدرا، قال: وعكاشة بن محصن وهو الّذي قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأعطاه جذلا [ (2) ] من حطب فقال: قاتل بهذا يا عكّاشة، فلما أخذه من يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هزّه فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح اللَّه على رسوله، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى قتل- يعني في قتال أهل الردة- وهو عنده، فكان ذلك، السيف يسمى العون [ (3) ] .
قال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد، عن داود بن الحصين، عن رجال من بني الأشهل عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن سالم بن حربش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب [ (4) ] ، فقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 93.
[ (2) ] الجذل: أصل الشجرة.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 185، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 219.
[ (4) ] ابن طاب: ضرب من الرطب.
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 93- 94.(5/44)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي قال:
أخبرنا أشياخنا أن عبد اللَّه بن جحش [ (1) ] جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم أحد وقد ذهب سيفه، فأعطاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عسيبا من نخل، فرجع في يده سيفا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «جحيش» ، وصوبناه من (الشفا) .
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 219.(5/45)
[سادسا: حنين الجذع]
وأما حنين الجذع: فإنه من الآيات المشهورة، والأعلام الثابتة، التي نقلها خلف الأمة عن سلفها،
خرج البخاري من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنه، أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول اللَّه! ألا تجعل لك شيئا تقعد عليه؟ فإن لي غلاما نجارا، قال: إن شئت، قال:
فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على المنبر الّذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أخذها، فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الّذي يسكّت حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر. ذكره في كتاب البيوع في باب النجار [ (1) ] .
وخرج في باب علامات النبوة من حديث يحيى بن سعيد قال: أخبرني حفص ابن عبيد اللَّه بن أنس بن مالك أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه، سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع يده عليها فسكت. وذكره في الجمعة في باب الخطبة على المنبر [ (2) ] .
قال البيهقي: ولهذا الحديث طرق، عن جابر بن عبد اللَّه، فذكر من طريق الشافعيّ رحمه اللَّه، قال: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار، حديث رقم (2095) ، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 199.
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 504- 505، كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر، حديث رقم (918) ، (فتح الباري) : 6/ 746، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3584) ، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 199.(5/46)
أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واعتنقها فسكنت [ (1) ] .
وله من حديث آدم بن أبي إياس قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق الهمذاني عن سعد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب أسند ظهره إلى خشبة، فلما صنع له المنبر فقدته الخشبة فحنت حنين الناقة الخلوج إلى ولدها، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت [ (2) ] .
ومن طريق الأعمش عن أبي صالح، عن جابر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما جعل له المنبر خطب عليه حنت الخشبة حنين الناقة الخلوج [ (3) ] ، فاحتضنها فسكنت [ (4) ] .
ومن طريق أبي عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح عن جابر عن أبي إسحاق عن ابن أبي كرب عن جابر قال: كانت خشبة في المسجد فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب عليها فقلنا له: لو جعلنا لك مثل العريش فقمت عليه، ففعل، فحنت الخشبة كما تحن الناقة، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاحتضنها ووضع يده عليها [ (5) ] .
ومن حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن جابر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقوم إلى جذع نخلة فيخطب قبل أن يوضع المنبر، فلما وضع المنبر صعد
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 561، (سنن البيهقي) : 3/ 195 باب مقام الإمام في الخطبة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 560، (فتح الباري) : 2/ 504- 505، حديث رقم (918) من كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر.
[ (3) ] ناقة خلوج: جذب عنها ولدها بذبح أو موت، فحنت إليه، وقلّ لذلك لبنها، وقد يكون في غير الناقة، وفي ذلك ذهاب إلى قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج] ، لسان العرب) : 2/ 256.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 562.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 562، وقال في هامشه: هذا الخبر رواه الطبراني في (الكبير) .(5/47)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [عليه] فحنّ ذلك الجذع حتى سمعنا حنينه، قال: فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع يده عليه فسكن [ (1) ] .
ومن حديث يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن جابر مثله، غير أنه قال:
فحنّ حنين العشار [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث يحيى بن كثير أبي غسان، حدثنا أبو حفص عمر ابن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء، قال: سمعت نافعا عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه [ (2) ] .
وقال عبد الحميد: أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا معاذ بن العلاء عن نافع بهذا، ورواه أبو عاصم أيمن بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث حماد بن أبي سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع حتى أتاه فاحتضنه فسكن. قال:
لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث سليمان بن بلال، عن سعد بن سعيد بن قيس، عن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين، أراها من دوم كانت في مصلاه فكان يتكىء إليها، فقال له أصحابه: يا رسول اللَّه! إن الناس قد كثروا فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس، فقال: ما شئتم، قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 556.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 557، ورواه الإمام البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، عن محمد بن المثنى، عن أبي غسان يحيى بن كثير.، وبهذا الإسناد أخرجه الترمذي في صلاة الجمعة، باب ما جاء في الخطبة على المنبر، حديث رقم (918) ، (فتح الباري) :
2/ 504- 505.
[ (3) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 199.(5/48)
نجار واحد، قال: فذهبت أنا وذلك النجار إلى الغابة فقطعنا هذا المنبر من أثلة، قال: فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحنت الخشبة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا تعجبون من هذه الخشبة؟ فأقبل الناس عليها فرقّوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأتاها فوضع يده عليها فسكنت، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بها فدفنت تحت منبره أو جعلت في السقف [ (1) ] .
ومن حديث عكرمة بن عمار قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقوم مسندا ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يوم الجمعة، فخطب الناس فجاءه روميّ فقال:
يا رسول اللَّه! ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا درجتين ويقعد على الثالثة، فلما قعد على المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد بخوراه، فنزل إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فالتزمه فسكن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: والّذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لما زال كذا إلى يوم القيامة حزنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم أمر به فدفن [ (2) ] .
ومن حديث ابن المبارك قال: حدثنا مبارك بن فضالة قال: حدثني الحسن عن أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة ويسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا، فسوي له منبرا إنما كانت له عتبتين، فتحول من الخشبة إلى المنبر، قال: فحنت واللَّه الخشبة حنين الواله [ (2) ] ، قال أنيس: وأنا في المسجد أسمع ذلك، قال: فو اللَّه ما زالت تحن حتى نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكنت،
فبكى الحسن وقال: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شوقا إليه! أفليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه [ (3) ] ؟
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 559- 560.
[ (2) ] في (خ) «حنين الوالدة» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 559، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 200.(5/49)
ومن حديث إسحاق الأزرق، عن شريك بن عبد اللَّه، عن عمار الدهني، [ (1) ] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت:
كان لرسول صلّى اللَّه عليه وسلم خشبة يستند إليها إذا خطب، فصنع له كرسي أو منبر، فلما فقدته خارت كما يخور الثور حتى سمعها أهل المسجد، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاحتضنها فسكنت [ (2) ] .
وخرج أبو محمد الدارميّ قال: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد اللَّه بن عمرو عن عبد اللَّه بن محمد عن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يصلي [ (3) ] ، إلى جذع [ويخطب عليه إذا كان المسجد عريشا] [ (4) ] ، فقال [له] رجل [ (4) ] من أصحابه [ (5) ] : ألا نجعل لك عريشا [ (6) ] تقوم
__________
[ (1) ] في (خ) : «الذهبي» ولعله تصحيف وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) ، و (تهذيب التهذيب) :
7/ 355.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 563 ثم قال: هذه الأحاديث التي ذكرناها في أمر الحنانة كلها صحيحة، وأمر الحنانة من الأمور الظاهرة، والأعلام النيرة، التي أخذها الخلف عن السلف، ورواية الأحاديث فيه كالتكليف، والحمد للَّه على الإسلام والسنة، وبه العياذ والعصمة.
ثم قال محققه: أحاديث حنين الجذع: رويت عن أنس، وجابر، وسهل بن سعد في البخاري، وحديث أبي بن كعب أخرجه ابن ماجة، وعبد اللَّه بن أحمد في زياداته على المسند، وحديثا ابن عباس وأم سلمة: أخرجهما الطبراني في (الكبير) .
وقد روى أحاديث حنين الجذع أيضا البيهقي في (السنن الكبرى) ، وأبو نعيم في (الدلائل:
بأسانيده عن جابر، وعن أبيّ بن كعب، وعن سهل بن سعد، وعن أبي سعيد الخدريّ وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها.
وفي الباب أحاديث كثيرة، وصحح كثير من العلماء بالسنة أن حديث حنين الجذع من الأحاديث المتواترة، لوروده عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة، تفيد القطع بوقوع ذلك.
وقال الحافظ ابن حجر: حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كل منهما نقلا مستفيضا، يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم، ممن لا ممارسة له في ذلك. (دلائل البيهقي) : 2/ 563.
[ (3) ] في (خ) : «يخطب» وصوبناه من (سنن الدارميّ) .
[ (4) ] زيادة للسياق المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) : «من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (6) ] في (خ) : «هل لك أن نجعل لك منبرا» وما أثبتناه من المرجع السابق.(5/50)
عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمع من خطبتك؟ قال: نعم، قال: فصنع له ثلاث درجات [هن اللواتي على المنبر] [ (1) ] ،
فلما صنع المنبر ووضع في موضعه، وأراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يقوم على المنبر [مرّ عليه فلما جاوزه] [ (2) ] ، خار [ (3) ] حتى تصدع وانشق، فنزل [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فكان [ (5) ] عنده في داره حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا [ (6) ] .
ومن حديث صالح بن حيان قال: حدثني ابن بريدة عن أبيه قال: قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب قام فأطال القيام، فكان يشق عليه قيامه، فأتي بجذع نخلة فحفر له وأقيم إلى جنبه [قائما للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (7) ] ، فكان إذا خطب فطال القيام عليه استند إليه فاتكأ عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة [فرآه قائما إلى جنب ذلك الجذع] [ (7) ] فقال لمن يليه من الناس: لو أعلم أن محمدا يحمدني في شيء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام.
فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ائتوني به، فأتوه به فأمره أن يصنع له هذه المراقي [الثلاث أو الأربع هي الآن في منبر المدينة] [ (7) ] ، فوجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك راحة، فلما فارق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الجذع وعمد إلى هذه التي صنعت له [ (8) ] ، جزع الجذع فحن كما تحن الناقة حين فارقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فزعم ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين سمع حنين الجذع رجع إليه فوضع يده عليه وقال: اختر أن أغرسك في المكان الّذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت [أن] [ (7) ] أغرسك في
__________
[ (1) ] في (خ) : «وتسمعهم خطبتك» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الدارميّ) .
[ (3) ] خرج منه صوت كصوت الثور.
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «فرجع إليه» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «فلم يزل عنده» .
[ (6) ] (مسند الدارميّ) : 1/ 17- 18، باختلاف يسير.
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (8) ] في (خ) : «إلى الّذي صنع له» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.(5/51)
الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل كل أولياء اللَّه من ثمرك فعلت، فزعم أنه سمع من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يقول له: نعم قد فعلت مرتين، فسئل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اختار أن أغرسه في الجنة [ (1) ] .
وقال البغوي وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: حدثنا عيسى بن سالم أبو سعيد الشاشي، حدثنا عبيد اللَّه بن عمر- يعني الرقي عن وهب عن عبد اللَّه بن محمد ابن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي إلى جذع [وكان المسجد عريشا] [ (2) ] ، فقال رجال من أصحابه: ألا نجعل شيئا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمع خطبتك؟ فقال: نعم، فصنع له ثلاث درجات فقام عليها كما كان يقوم، فصغى [ (3) ] إليه الجذع فقال له: اسكن، ثم [ (4) ] قال لأصحابه: [هذا الجذع حنّ إليّ، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اسكن] [ (5) ] إن تشأ غرستك [ (6) ] في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك [ (7) ] رطبا كما كنت، فاختار الآخرة على الدنيا،
فلما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دفع إلى أبيّ فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة [ (8) ] .
قال البيهقي رحمه اللَّه: هذه الأحاديث التي ذكرناها في أمر الحنانة كلها صحيحة، وأمر الحنانة من الأمور الظاهرة، والأعلام النيرة التي أخذها الخلف عن السلف، ورواية الأحاديث فيه كالتكليف، والحمد للَّه على الإسلام والسنة، وبه العياذ والعصمة [ (9) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الدارميّ) : 1/ 16.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «فأصغى» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (4) ] في (خ) : «ثم التفت فقال» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (6) ] في (خ) : «أن أغرسك» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (7) ] في (خ) : «أن أعيدك» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (8) ] (مسند أحمد) : 6/ 167، حديث رقم (20751) ، ورقم (20741) ، (20745) ، من حديث الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه.
[ (9) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 563.(5/52)
وقال أبو [] [ (1) ] ابن عقيل: لا ينبغي أن يتعجب من حنين الجذع ومجيء الأشجار إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فإن من جعل في المغناطيس خاصية تجذب الحديد إليه، يجوز أن يجعل في الرسول خاصية تجذب ذلك إليه.
وقال عمرو بن سواد: قال لي الشافعيّ رحمه اللَّه: ما أعطى اللَّه عزّ وجلّ نبيا ما أعطى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال:
أعطى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم الجذع الّذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر، فلما هيئ له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذاك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولم أجدها في كني الرجال.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 68.(5/53)
[سابعا: تسليم الأحجار والأشجار عليه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما تسليم الأحجار والأشجار عليه:
فخرج مسلم من حديث سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إني لأعرف [حجرا بمكة] كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن [ (1) ] .
وفي لفظ: إن بمكة لحجرا كان يسلم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه [ (2) ]
وخرج الحاكم من حديث الوليد بن أبي ثور عن السّدي، عن عباد بن عبد اللَّه، عن علي رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (3) ] .
وقال يونس بن بكير: عن إسحاق حدثني عبد الملك بن عبد الملك بن عبد اللَّه بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفي- وكان واعية عن بعض أهل العلم-
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 43، كتاب الفضائل، باب (1) فضل نسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث رقم (2277) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] وقد اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وقيل: حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الّذي كان يسلم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم متى اجتاز به.
وقد ذكر الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن رشيد- بضم الراء- في رحلته مما ذكره في (شفاء الغرام) عن علم الدين أحمد بن إسماعيل بن خليل قال: أخبرني عمي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل ابن أبي الصيف قال: أخبرني أبو حفص الميانشي قال: أخبرني كل من لقيته بمكة أن هذا الحجر هو الّذي كلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو الحجر المبني في الجوار المقابل لدار أبي بكر المشهورة بسوق الليل.
(المواهب اللدنية) : 2/ 534.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 677، حديث رقم (4238/ 249) ، قال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.(5/54)
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين أراد اللَّه كرامته، وابتدأه بالنّبوّة، كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول اللَّه
وخرج الطبراني من حديث إبراهيم بن طهمان، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لما كانت ليالي بعثت، ما مررت بشجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثنا علي بن محمد بن عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن برة بنت أبي بحراة قالت:
لما ابتدأ اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بالنّبوّة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى شيئا، وأفضى إلى الشعاب والأودية، ولا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، فكان يلتفت عن يمينه وعن شماله، وخلفه فلا يرى أحدا [ (1) ] .
وتقدم عن قريب
حديث ابن بريدة عن أبيه قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول اللَّه، قد أسلمت فأرني شيئا أزدد به يقينا، قال: ما الّذي تريد؟ قال: ادع تلك الشجرة فلتأتك، قال: اذهب فادعها، فأتاها فقال: أجيبي رسول اللَّه، فمالت على جانب من جوانبها، فقطعت عروقها، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها، حتى أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول اللَّه.
وحديث يعلي ابن مرة أنه قال: سرنا حتى نزلنا منزلا، فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له، فقال، هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأذن لها [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أحاديث الباب تشهد على صحتهما.
[ (2) ] سبق تخريجه.(5/55)
[ثامنا: تحرك الجبل لأجله وسكونه بأمره]
وأما تحرك الجبل لأجله وسكونه بأمره،
فخرج البخاري في مناقب أبي بكر رضي اللَّه عنه من حديث سعيد عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه حدثهم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان [ (1) ] .
وذكر الترمذي هذا الحديث بهذا الإسناد، ونحو هذا اللفظ وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرجه البخاري في مناقب عمر رضي اللَّه عنه ولفظه: عن أنس قال: صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحدا [ (3) ] ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف [بهم فضربه برجله] ، وقال: اثبت فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد [ (4) ] .
وخرجه في مناقب عثمان رضي اللَّه عنه ولفظه: إن أنسا حدثهم قال: صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف، فقال: أسكن أحد- أظنه ضربه برجله- فليس عليك [إلا نبي] وصديق وشهيدان [ (5) ] .
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 7/ 25- 26، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب (5) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، حديث رقم (3675) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 583، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3697) .
[ (3) ] في (خ) : «حراء» ، وما أثبتناه من (فتح الباري) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 51، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشيّ العدوي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3686) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 66، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم باب (7) ، مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشيّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3697) .(5/56)
وخرج مسلم [ (1) ] والترمذي [ (2) ] من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان، وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اهدأ [ (3) ] ، إنما عليك وقال مسلم: فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [ (4) ] .
وخرج مسلم عن يحيى بن سعيد، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، وعليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنهم [ (5) ] .
قال أبو عبد اللَّه محمد بن نصر الحميدي: كذا عند مسلم في ما رأينا من نسخ كتابه.
وفي رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، لم يذكر عليا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 199، كتاب فضائل الصحابة، باب (6) من فضائل طلحة والزبير رضي اللَّه تعالى عنهما، حديث رقم (2417) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 582، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3696) . قال أبو عيسى: وفي الباب عن عثمان، وسعيد بن زيد، وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة، وهذا حديث صحيح.
[ (3) ] في (خ) : «اهدئي» .
[ (4) ] وفي هذا الحديث معجزات لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منها: إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم أن هؤلاء شهداء، وماتوا كلهم غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر شهداء، فإن عمر، وعثمان، وعليا، وطلحة، والزبير رضي اللَّه تعالى عنهم، قتلوا ظلما شهداء، فقتل الثلاثة مشهور، وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفا تاركا للقتال، وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركا القتال، فأصابه سهم فقتله، وقد ثبت أن من قتل ظلما فهو شهيد، والمراد شهداء في أحكام الآخرة، وعظيم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم.
وفيه بيان فضيلة هؤلاء، وفيه إثبات التمييز في الحجاز، وجواز التزكية والثناء على الإنسان في وجهه، إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه، وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء في الرواية الثانية، فقال القاضي: إنما سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة. (مسلم بشرح النووي) : 15/ 199- 200.
[ (5) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي السابق من أحاديث ذات الباب بدون رقم.(5/57)
رضي اللَّه عنه وزاد سعدا، وهكذا
أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه من حديث سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، كما أخرجه مسلم، وأخرجه البرقاني أيضا من رواية معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان على حراء، ومعه أبو بكر وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فتحرك الجبل فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اسكن حراء، فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، فسكن الجبل.
قال الحميدي: في هذا الحديث زيادة فوائد حسنة، وإسناده على شرط مسلم.
وخرج النسائي [ (1) ] من حديث جرير عن حصين عن هلال، عن عبد اللَّه بن ظالم قال: دخلت على سعيد بن زيد فقلت: ألا تعجب من هذا الظالم؟ أقام خطباء يشتمون عليا، فقال: أوقد فعلوها؟ أشهد على التسعة إنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لصدقت، كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على حراء فتحرك، فقال: اثبت فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد، قلت: ومن كان على حراء؟ قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، قلنا: فمن العاشر؟ قال: أخبرنا هلال بن يساف لم يسمعه من عبد اللَّه ابن ظالم.
وذكره النسائي [ (1) ] من حديث ابن إدريس عن حصين بهذا الإسناد مثله، وذكره [أيضا من حديث سفيان] عن منصور عن هلال بن يساف عن ابن حبان عن عبد اللَّه بن ظالم، عن سعيد بن زيد قال: تحرك حراء فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ... ، فذكر مثله.
وخرجه الترمذي من حديث هشيم قال: أخبرنا حصين عن هلال بن يساف [عن عبد اللَّه بن ظالم] [ (2) ] المازني، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال:
أشهد على التسعة أنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لم آثم، قيل: وكيف ذاك؟
__________
[ (1) ] (السنن الكبرى للنسائي) ، كتاب المناقب، باب طلحة بن عبيد اللَّه، رضي اللَّه تعالى عنهم.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .(5/58)
قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ... ، الحديث. وقال: هذا حديث حسن [صحيح] [ (1) ] .
قال القاضي عياض: وتحرك الجبل وكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم له، وقوله: اهدأ فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد، كله من آيات نبوته وإخباره بالغيوب، وانخراق العادات له، فكل من كان عليه بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والصديق ماتوا شهداء، وفيه كرامة عظيمة لهؤلاء الذين كانوا عليه وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وفيه أن من قتل ظلما في غير معترك شهيد، له اسم الشهيد وأجره، وإن لم يكن حكمه في الصلاة والغسل حكمه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 609، كتاب المناقب، باب (28) مناقب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3757) ، وأخرجه أيضا أبو داود في السنة، (سنن أبي داود) :
5/ 40، حديث رقم (4651) .
[ (2) ] وقد روى أنه صلّى اللَّه عليه وسلم حين طلبته قريش قال له ثبير: اهبط يا رسول اللَّه، فإنّي أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني اللَّه، فقال حراء: إليّ يا رسول اللَّه.
وروى ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قرأ على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ثم قال: يمجد الجبار نفسه يقول: أنا الجبار أنا الجبار، أنا الكبير المتعال، فرجف المنبر حتى قلنا: ليخرن عنه. (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 202،
وثبير وأحد: جبلان متقابلان والوادي بينهما، وهو على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلي ثبير مما يلي شمال الشمس. (المواهب اللدنية) : 2/ 538.(5/59)
[تاسعا: رقم اسمه صلّى اللَّه عليه وسلم على صفحات المخلوقات]
وأما رقم اسمه صلّى اللَّه عليه وسلم على صفحات المخلوقات: فقال الفقيه الأديب أبو عبد اللَّه محمد بن عمر بن محمد بن أسيد في رحلته: حدثنا شيخنا الفقيه أبو عبد اللَّه محمد المصري قال: ولد عندنا [بتوزر] [ (1) ] ليلة غرة رجب الفرد من عام أربعة وسبعين وستمائة، جدّي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب: محمد، بخط في غاية الحسن والبيان، فأفلت في ذلك تأليفا سميته: (الغرة اللائحة والمسكة الفائحة في الحظوظ الصمدية والمفاخر المحمدية) ، ونظمت في ذلك قصائد، منها قولي:
جدي غدا كالجدي أشرف جنسه ... فمحله فوق السماك الأعزل
رقمت به الأقدار صفحة وجهه ... رقما بديعا باسم لأكرم مرسل
فتلألأت أنواره الشريف موحد ... إلا وقبّل منه خير مقبّل
رويت به [الأنباء] كأنما ... وردت به الأفواه عذب منهل
عجب [أتى] رجب به فتأكدت ... بركاته في قلب كل مؤمّل
فكأن من قد قال: عش رجبا ترى ... عجبا عناه بالزمان المجمل
يا غرة كالصبح نمنم حسنها ... خط من الليل البهيم الأليل
أشهى وأحلى في النفوس من الكرى ... وألذ من عذب الدلال التعلل
طرز به ازدان الزمان بأسره ... في الحال والماضي وفي المستقبل
يا توزر الغراء فزت بغرّة ... غراء في زمن أغر محجّل
__________
[ (1) ] توزر- بالفتح، ثم السكون، وفتح الزاي، وراء- مدينة في أقصى إفريقية. (معجم البلدان) :
2/ 67، موضع رقم (2680) .(5/60)
جرى ذيول العز من مرح بها ... جرّ الفتاة ذيول برد مسبل
أعطيت ما لم يعط مثلك مثله ... شكرا لمولاك العلي المفضل
شرف خصصت به وفضل باهر ... يبقى على مر الزمان الأطول
هذا طراز الحسن لا ما قاله ... حسّان في حسن الطراز الأول
قال جامعه- رحمه اللَّه تعالى-: أخبرني القاضي الأديب يعقوب بن يوسف ابن علي المكناسي قال: شاهدت بمدينة بجابة من بلاد إفريقية رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل [مكتوب بعرق أحمر] كتابة مليحة: محمد رسول اللَّه، وهذه الكتابة لا تظهر حتى يجبذ جفن عينه الأسفل، وأما ما دامت عينه على حالها فلا تظهر الكتابة فإن الجفن يسترها.
وقال الحافظ أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن هارون، المعروف بابن الصواف وبابن الطحان الحضرميّ المصري في كتاب (أخبار علماء مصر) ، وتوفي سنة ست عشرة وأربعمائة: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد ابن علي قال: سمعت أبا عمران موسى بن إبراهيم الوراق بالرملة يقول: سمعت أحمد ابن أحمد الطبري بطرسوس يقول: ظهر عندنا بطبرستان قوم يقولون: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، فأما محمد فلا نقرّ بنبوّته، واتفقنا طائفة أهل العلم على خلافهم، وكثروا وكثر الغوغاء منهم، وعمل جماعة منا على الرحيل من طبرستان خوفا منا على أنفسنا، وكان الرجل يهجر أباه، وأخاه، وولده، فنحن كذلك في يوم شديد الحر، إذ أظلتنا سحابة بيضاء شديدة البياض، فلم يزل ينشأ حتى أخذت ما بين الخافقتين، وأحالت بين السماء وبين البلد، فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط [مونق] [ (1) ] : لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فلم يزل كذلك إلى وقت العصر، فتاب كل من كان افتتن، وأسلم أكثر من كان عندنا من اليهود والنصارى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] قام التليفزيون المصري بعرض صورة مشابهة قام بتسجيلها أحد المراصد، وكان ذلك يوم 12 أكتوبر 1993 حيث ظهرت عبارة لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، مكتوبة بقلم القدرة، مداده السحاب وذلك لمدة ثماني ساعات على مساحة قدرها (000، 700، 2) مليونان وسبعمائة ألف كيلومتر مربع، كما قدرتها أجهزة المرصد.(5/61)
وذكر أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد، انقلعت فيها الجبال وفرت الوحوش، فظن الناس أن القيامة قد قامت، وخافوا وهلعوا هلعا شديدا، وابتهلوا إلى اللَّه تعالى بالدعاء، ونظروا، فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال، ثم تأملوا الوحوش فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الّذي سقط فيه ذلك النور، فصاروا معها إليه، فوجدوا صخرة طولها ذراع في عرض ثلاث أصابع، وفيها ثلاثة أسطر: سطر فيه: لا إله إلا أنا فاعبدون، وسطر فيه: محمد رسول اللَّه القرشي، وسطر ثالث فيه: احذروا وقعة المغرب فإنّها تكون من سبعة أو تسعة، والقيامة قد أزفت. ذكر ذلك في كتاب (عجائب الحكايات وغرائب الماجريات) .
وذكر أيضا عن الحافظ السلفي قال: سمعت أبا الحسن الحمامي يقول: رأيت ببلاد سيلان شجرة لها أوراق خضر، وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، وكان مقدمهم من الأكابر، وكانوا عبدة أوثان فكانوا يقطعونها ويعقون [ (1) ] آثارها، فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت، فأذابوا الرصاص وأقلبوه في أصلها، فخرج من حول الرصاص أربع فروع، على كل فرع: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فصاروا يتبركون بها ويستشفون من المرض إذا اشتد، [ويخلّقونها] [ (2) ] بالزعفران وأجلّ الطيب.
__________
[ (1) ] يعفون: يمحون.
[ (2) ] يخلقونها: يطيبونها.(5/62)
[عاشرا: تظليل الغمام له]
وأما تظليل الغمام له، فقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر- يعني الواقدي- قال: حدثني معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقد بدت إليهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أماه، ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف، وإذا سار سارت معه حتى انتهى إلى هذا الموضع [ (1) ] .
أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن صالح بن عبد اللَّه بن جعفر قال: وحدثنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قالوا: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن ثنتي عشرة سنة، فلما نزل بصرى من الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا ببحيرا- وكانوا كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم- حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته، قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مرّوا، فصنع لهم طعاما ثم دعاهم، وإنما حمله [على دعائهم] أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بين القوم، حتى نزلوا تحت شجرة ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت على تلك الشجرة، ثم أظلت أغصان الشجرة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام، فأتى به، وأرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم، ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا، حرا ولا عبدا، فإن هذا شيء تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنا
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 152، باب ذكر علامات النبوة في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن يوحى إليه، (البداية والنهاية) : 2/ 335 عن الواقدي أيضا.(5/63)
يا بحيرا! ما كنت تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم؟ قال: إني أحببت أن أكرمكم ولكم حق، فاجتمعوا إليه وتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنّه- ليس في القوم أصغر منه- في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرف، ولا يجد لها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ويراها مختلفة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال بحيرى: يا معشر قريش! لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنّا في رحالهم، فقال: أدعوه فليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد، مع أني أراه من أنفسكم، فقال القوم: هو واللَّه أوسطنا نسبا، وهو ابن أخي هذا الرجل- يعنون أبا طالب- وهو من ولد عبد المطلب، فقال:
الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف: واللَّه إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامة تسير على رأسه، وجعل بحيرى يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء في جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا عن طعامهم،
قام إليه الراهب فقال:
يا غلام! أسألك باللات والعزى ألا أخبرتني عما أسألك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لا تسلني باللات والعزى، فو اللَّه ما أبغضت شيئا بغضهما، قال فباللَّه إلا أخبرتني عما أسألك عنه، قال: سلني عما [بدا لك، فجعل] [ (1) ] يسأله عن أشياء من حاله حتى نومه، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده، تم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده، قال: فقبّل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا.. وذكر الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (طبقات ابن سعد) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 1/ 319- 322، قصة بحير، (طبقات ابن سعد) : 1/ 153- 155، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 168 حديث رقم (108) باب ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشام في المرة الأولى، وما اشتمل عليه ذلك من الدلائل المتقدمة لنبوته وهو ابن عشر سنين، (تاريخ الإسلام للذهبي) : جزء السيرة النبويّة باب سفره مع عمه ص 58- 60، (دلائل البيهقي) :
2/ 24- 25، (سنن الترمذي) : كتاب المناقب باب (3) ما جاء في بدء نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حديث رقم (3620) وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.(5/64)
أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا موسى بن شيبة عن عميرة بنت عبد اللَّه بن كعب ابن مالك، عن أم سعد بنت سعد عن نفيسة بنت منية أخت يعلي بن منية قالت:
لما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمسا وعشرين سنة- فذكر الحديث في خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في تجارة لخديجة بنت خويلد، ومعه غلامها ميسرة، إلى أن قال-: وكان ميسرة يرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحرّ يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره، وكان اللَّه قد ألقى على رسوله المحبة في ميسرة، فكان كأنه عبدا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران قال: يا محمد! انطلق إلى خديجة فاسبقني فأخبرها بما صنع اللَّه لها على وجهك، فإنّها تعرف ذلك لك، فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها فخبرها بما ربحوا في وجههم، فسرت بذلك، فلما دخل ميسرة عليها أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام..، الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 2/ 280، باب ذكر تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة رضي اللَّه تعالى عنها، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 172- 174 باب ذكر خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشام ثانيا مع ميسرة غلام خديجة رضي اللَّه تعالى عنها وقصة نسطورا الراهب، (سيرة ابن هشام) : 2/ 5، باب حديث تزويج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة رضي اللَّه عنها، (طبقات ابن سعد) : 1/ 129- 130، باب ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشام في المرة الثانية، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 242.(5/65)
[حادي عشر: رميه صلّى اللَّه عليه وسلم وجوه المشركين كفا من تراب فملأ أعينهم]
وأما رميه صلّى اللَّه عليه وسلم وجوه المشركين كفا من تراب فملأ أعينهم،
قال موسى بن عقبة في غزوة حنين: ولما غشي رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلم] القتال قام في الركابين وهو على البغلة ويقولون: نزل فرفع يديه إلى اللَّه يدعوه يقول: اللَّهمّ إني أنشدك ما وعدتني، اللَّهمّ لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا، ونادى على أصحابه فذمّرهم [ (1) ] : يا أصحاب البيعة يوم الحديبيّة، يا أصحاب سورة البقرة، يا أنصار اللَّه وأنصار رسوله، يا بني الخزرج.
وقبض قبضة من الحصى فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كلها وقال:
شاهت الوجوه، فأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرونه، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: الآن حمي الوطيس، فهزم اللَّه أعداءه في كل ناحية حصبهم فيها رسول اللَّه، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنمهم اللَّه نساءهم [وذراريهم] [ (2) ] وشاءهم وإبلهم [ (3) ] .
وخرج مسلم والنسائي من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب. قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عباس رضي اللَّه
__________
[ (1) ] ذمّرهم: حثهم على القتال، قال عنترة.
لما رأيت القوم أقبل جميعهم* يتذامرون كررت غير مذمّم
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 131- 132 وقال: هذا لفظ حديث موسى بن عقبة، وليس في رواية عروة: قيامه في الركابين، ولا قوله: يا أنصار اللَّه، وقال في الحصباء: فرمى من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، لا يرمي ناحية إلا انهزموا، وانهزم المشركون، وعطف أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين هزمهم اللَّه، واتبعهم المسلمون ... فذكره. قال محققه: رواية موسى بن عقبة ذكرها ابن عبد البر باختصار شديد في (الدرر) : 226.(5/66)
عنه: شهدت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار.
وقال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول اللَّه أكفها إرادة أن لا يسرع، وأبو سفيان أخذ بركاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أي عباس! ناد أصحاب الشجرة، فقال عباس- وكان رجلا صيتا-: فقلت بأعلى صوتي:
أين أصحاب السمرة؟ قال: فو اللَّه لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا [هم] [ (1) ] والكفار، والداعين [ (2) ] في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار.. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج [فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج] [ (3) ] فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم وقال:
هذا حين حمي والوطيس.
قال: ثم أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمد،
قال: فذهبت انظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فو اللَّه ما هو إلا أن رماهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بحصياته [ (4) ] فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا [ (5) ] . زاد النسائي بعد هذا: حتى يعني هزمهم اللَّه. لفظهما فيه متقارب. ذكره النسائي في الجهاد وترجم عليه: رمي الحصا في وجوه الكفار [ (6) ] .
__________
[ (1) ] زيادة في (خ) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي رواية (مسلم) : «والدعوة» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] في (خ) : «بحصيات» .
[ (5) ] (مسلم بشرح النوي) : 12/ 355- 359، كتاب الجهاد والسير، باب (28) غزوة حنين، حديث رقم (1775) : وقوله: «على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجزامي» ، قال القاضي:
واختلفوا في إسلامه، فقال الطبري: أسلم وعمّر طويلا، وقال غيرهم لم يسلم وقد أطال النووي في (شرح مسلم) الكلام في قبول هدية الكافر، فليراجع هناك.
[ (6) ] لم أجده في (سنن النسائي) ولعله في (الكبرى) .(5/67)
وخرج مسلم من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال: فروة بن نعامة الجذامي، وقال: انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة، وزاد في الحديث: حتى هزمهم اللَّه، قال: وكأني انظر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته [ (1) ] .
وذكره أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري قال: أخبرني كثير بن العباس عن أبيه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين.. وساق الحديث، غير أن حديث يونس وحديث معمر أكبر منه وأتم [ (2) ] .
وله من حديث عكرمة بن عماد قال: حدثني إياس بن سلمة قال: حدثني أبي قال: غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو تقدّمت فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من العدو فأرميته بسهم، فتوارى عني فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا مع [ (3) ] أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فولى أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأرجع منهزما وعليّ بردتان متزرا بإحداهما، مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا، ومررت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لقد رأى ابن الأكوع فزعا، فلما غشوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه، فما خلق اللَّه منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من [ (4) ] تلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم اللَّه، وقسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين [ (5) ] .
وخرج البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن يعلي بن عطاء، عن عبد اللَّه ابن يسار- ويكنى أبا همام- عن أبي عبد الرحمن الفهري قال: كنا مع رسول
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 359، حديث رقم (17) .
[ (2) ] المرجع السابق، ص 360.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي رواية (مسلم) : «فالتقوا هم وصحابة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم» ، «فولى صحابة» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (مسلم) «بتلك» .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 364، حديث رقم (1777) .(5/68)
صلّى اللَّه عليه وسلم في حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، قد حان الرواح يا رسول اللَّه، قال: أجل، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا بلال، فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طير فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك، قال: أسرج لي فرسي فأتاه برفّتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.
قال: فركب فرسه ثم سرنا يومنا، فلقينا العدو وتشامّت الخيلان، فقاتلناهم فولى المسلمون مدبرين، كما قال اللَّه عزّ وجلّ، قال: فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
يا عباد اللَّه! أنا عبد اللَّه ورسوله، يا أيها الناس! إني أنا عبد اللَّه ورسوله، واقتحم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن فرسه.
وحدّث من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من تراب فحثى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، قال يعلي [ (1) ] بن عطاء: فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم [ (2) ] أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمرّ الحديد على الطست الحديد، فهزمهم اللَّه عزّ وجلّ [ (3) ] .
ولأحمد، من حديث عفان بن مسلم قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حصين، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال ابن مسعود: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فنكصنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل اللَّه عليهم السكينة، قال: ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على بغلته يمضي قدما، فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت: ارتفع رفعك اللَّه، فقال: ناولني كفا من تراب، فناولته، فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا، ثم قال: أين المهاجرون
__________
[ (1) ] في (خ) : «يحيى» .
[ (2) ] في (خ) : «عن نسائهم» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 141، باب رمي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وجوه الكفار والرعب الّذي ألقي في قلوبهم، ونزول الملائكة، وما ظهر في كل واحد من هذه الأنواع من آثار النبوة، (مسند أحمد) : 6/ 387، حديث رقم (21961) .(5/69)
والأنصار؟ قلت: هم هنا [ (1) ] ، قال: اهتف بهم، فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنهم الشهب، وولى المشركون أدبارهم [ (2) ] .
وله من حديث أبي قلابة قال: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي قال: أخبرني عبد اللَّه بن عياض بن الحارث الأنصاري عن أبيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أتى هوازن في اثنى عشر ألفا. فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، قال: فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كفّا من حصباء فرمى بها وجوهنا فانهزمنا. قال البيهقي: رواه البخاري في التاريخ عن أبي عاصم ولم ينسب عياضا [ (3) ] .
وله من حديث البصري عن رجل من قومه شهد ذاك يوم حنين، وعمرو ابن سفيان الثقفي قالا: انهزم المسلمون يوم حنين ولم يبق مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلا عباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث، قال: فقبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبضة من الحصباء فرمى بها في وجوههم، قال: فانهزمنا فما خيّل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا، قال الثقفي: فأعجرت على فرسي حتى دخلت الطائف [ (4) ] .
وله من حديث السائب بن يسار عن يزيد بن عامر الشوائي أنه قال: عند انكشافه انكشف المسلمون يوم حنين فتبعهم الكفار، أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبضة من الأرض ثم أقبل على المشركين فرمى بها وجوههم وقال: حم لا ينصرون، فانهزم القوم وما رميناهم بسهم ولا طعناهم برمح، وفي رواية: فما خلق اللَّه منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا.
وخرج الحاكم من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن عائشة بنت سعد عن أبيها سعد بن أبي وقاص قال: لما جال
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المسند) : «هم أولاء» .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 2/ 36، حديث رقم (4324) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 142.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 143.(5/70)
الناس عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تلك الجولة يوم أحد، تنحيت فقلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد وإما أن أنجو حتى ألقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فبينا أنا كذلك إذا برجل مخمر الوجه لا أدري [ (1) ] من هو، فأقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه، ملأ يده من الحصباء ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقرى حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا ولا أدري من هو، وبيني وبينه المقداد بن الأسود، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد: يا سعد! هذا رسول اللَّه يدعوك، فقلت:
وأين هو؟ [فأشار المقداد] [ (2) ] إليه، فقمت وكأني لم يصبني شيء من أذى، فقال: أين كنت اليوم يا سعد؟ فقلت: حيث رأيت يا رسول اللَّه، فأجلسني أمامه فجعلت أرمي وأقول: اللَّهمّ سهمك فارم به عدوك، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: اللَّهمّ استجب لسعد، اللَّهمّ سدد رميته، [إيها سعد] [ (2) ] فداك أبي وأمي، فما من سهم أرمي به إلا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ سدد رميته وأجب دعوته إيها سعد، حتى فرغت من كنانتي، نثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما في كنانته، فنبلني سهما نضيا، قال: وهو الّذي قد ريش، وكان أشد من غيره.
قال الزهري:
إن السهام التي رمى بها سعد يومئذ كانت ألف سهم [ (3) ] . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وللبزار من حديث يونس بن أرقم، حدثنا الأعمش عن سماك بن حرب، عن ابن عباس أن عليا ناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم التراب فرمى به في وجوه المشركين يوم حنين.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المستدرك) : «فحمر وجهه ما أدري» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 28- 29، حديث رقم (4314/ 18) من كتاب المغازي والسرايا.(5/71)
[ثاني عشر: إشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الأصنام وسقوطها]
وأما إشارته إلى الأصنام وسقوطها،
فخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر عن عبد اللَّه قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً] [ (1) ] جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ذكره البخاري في باب: أين ركز النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الراية يوم الفتح. وذكره في التفسير. وذكره مسلم من طرق في بعضها: بدل نصب صنما، وذكر بعضها مطولا، وفيه: ثم طاف بالبيت، قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قوس- وهو آخذ بسية القوس- فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [ (2) ] .
وقال ابن إسحاق: حدثنا عبد اللَّه بن أبي بكر، عن علي بن عبد اللَّه بن عباس، عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى الكعبة ثلاثمائة صنم، قال: فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى صنم صنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة لتكملة الآية الكريمة.
[ (2) ] رواه البخاري في المغازي، باب أين ركز النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر أو تخرق الزقاق، وفي تفسير سورة بني إسرائيل، باب: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. وأخرجه مسلم برقم (1781) في الجهاد، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، والترمذي في التفسير برقم (3137) ، باب ومن سورة بني إسرائيل.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) 5/ 80.(5/72)
وذكر أبو الربيع بن سالم عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الفتح على راحلته فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشددة بالرصاص، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يشير بقضيب في يده وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أوس الخزاعي:
وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا [ (1) ]
وخرج البيهقي من طريق سويد، قال القاسم بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنما، فأشار إلى كل صنم بعصا وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، فكان لا يشير إلى صنم إلا سقط من غير أن يمسه بعصا.
قال البيهقي: هذا الإسناد وإن كان ضعيفا فالذي قبله يؤكده [ (2) ] .
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن إسحاق المسيبي، حدثنا عبد اللَّه بن نافع، حدثنا عاصم بن عمر، عن ابن دينار عن ابن عمر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنما، فأشار بعصاه إلى كل صنم منها وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، فسقط الصنم ولا يمسه [ (2) ] .
وقال الواقدي- رحمة اللَّه عليه، وقد ذكر فتح مكة بأسانيده-: ثم طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبيت على راحلته آخذ بزمامها محمد بن مسلمة، وحول الكعبة ثلاثمائة صنم وستون صنما، مرصصة بالرصاص وكان هبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، ويساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 72.
[ (2) ] (الإحسان) : 14/ 452 حديث رقم (6522) ، وهذا الحديث إسناده ضعيف، عاصم بن عمر:
هو العمري، ضعّفه أحمد وابن معين، وغيرهم، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الواقدي:
متروك. (المرجع السابق) : هامش ص 453 تعليقا على الحديث السابق.(5/73)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كلما مر بصنم منها يشير بقضيب في يده [ويقول] [ (1) ] جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ (2) ] ، فيقع الصنم لوجهه [ (3) ] .
قال [الواقدي] [ (1) ] : حدثني ابن أبي سبرة عن حسين بن عبد اللَّه، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يزيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أن يشير بالقضيب إلى الصنم، فيقع لوجهه [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث عبد اللَّه بن عمر العمري، عن نافع عن ابن عمر قال: وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزقها الشياطين بالنحاس والرصاص، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسها ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، فتساقط على وجوهها [ (4) ] ، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسيل [ (5) ] .
وقال ابن عائذ: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن بشير عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قال: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مكة كان أول شيء صنعه أي البيت، وكان حوله أصنام اتخذ كل بطن من قريش صنما وكان إساف ونائلة لخزاعة، وكان بين الركن الأسود واليماني، فصرعهما وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [ (2) ] ، ثم طاف بالبيت.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الإسراء: 81.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 832.
[ (4) ] في (خ) «لوجوهها» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 519، باب ذكر ما كان في فتح مكة، حديث رقم (446) ، وأخرجه ابن حبان مختصرا (1702) من طريق عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر، وأخرجه الفاكهي، والطبراني، من حديث ابن عباس وفيه: فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه، مع أنها كانت ثابتة بالأرض، قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص.(5/74)
[ثالث عشر: إلانة الصّخر له صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما إلانة الصخر له،
فخرج البخاري في غزوة الخندق، عن عبد الواحد ابن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كيدة شديدة، فجاءوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: هذه كيدة عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المعلول، فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل أو أهيم [ (1) ] . الحديث.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: وكان في الخندق أحاديث في تصديق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وتحقيق نبوته، وعاين ذلك المسلمون منه، وكان مما بلغني: أن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما كان يحدث أنه اشتد عليهم في بعض الخندق كدية [ (2) ] فشكوها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية [ (2) ] ، فقال من حضرها:
فو الّذي بعثه بالحق نبيا لا نهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة [ (3) ] .
وللبيهقي من حديث يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال:
حدثني أيمن المخزومي قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدانة- وهي الجبل- فقلنا: يا رسول اللَّه! إن كدانة قد عرضت فيه، فقال: رشّوا عليها، ثم قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثا ثم ضرب، فعادت كثيبا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 502، حديث رقم (4101) ، باب (30) غزوة الخندق.
[ (2) ] الكدية: الأرض الصلبة، والجمع: كدي، وهذا الجمع سمّي به موضع بأسفل مكة، وفي (خ) :
«كداية» .
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 174 باب ظهور الكدية والتغلب عليها.(5/75)
أهيل.
الحديث [ (1) ] .
وله من حديث يونس عن ابن إسحاق قال: حدّثت عن سلمان قال: ضربت في ناحية من الخندق، فعطف عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو قريب مني، فلما رآني أضرب ورأي شدة المكان عليّ نزل وأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى، فقلت: يا رسول اللَّه! بأبي وأمي، ما هذا الّذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب به؟ فقال: هل رأيت ذلك يا سلمان؟ قلت: نعم، فقال:
أما الأولى فإنّ اللَّه عزّ وجلّ فتح عليّ [بها] [ (2) ] اليمن، وأما الثانية فإنّ اللَّه عزّ وجلّ فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن اللَّه فتح عليّ بها المشرق [ (3) ] .
قال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة أنه كان يقول: في زمن عمر وزمن عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الّذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا اللَّه عزّ وجل قد أعطى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مفاتحها. قال البيهقي: وهذا الّذي ذكره محمد بن إسحاق بن يسار من قصة سلمان قد ذكرنا معناه منقولا عن معاذ بن أبي الأسود، عن عروة، ومغازي موسى ابن عقبة [ (4) ] . قال جامعه رحمه اللَّه: وسيأتي لهذا الحديث طرق إن شاء اللَّه.
وقال أبو نعيم الأصفهاني رحمه اللَّه: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الغار مال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم، فلين اللَّه الجبل حتى أدخل فيه رأسه، واستروح إلى الجبل من حجر أطم فلان له حتى أثّر فيه بذراعيه وساعده، وذلك مشهور يقصده [الحجاج] يزورونه. وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط دابته، والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 418، ورواه ابن هشام في (السيرة) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 418، ورواه ابن هشام في (السيرة) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 417- 418، وابن هشام في (السيرة) .(5/76)
وقال محمد بن حزم- وقد ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الغار-: فلما فقدته قريش اتبعته بقائف معروف [فقفا] الأثر حتى وقف عند الغار، فقال:
هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا العنكبوت قد نسج على فم الغار من وقته، فأيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا، وفتح اللَّه تعالى في الوقت في جانب الغار بابا واسعا خرجا منه في صخرة صلبة صماء، لا تؤثر فيها المعاول، فأما لها اللَّه عزّ وجل إلى اليوم ظاهرة، لا يشك من رآها أنها لو ردّت لسدت المكان، ولا يختلف أحد أن ذلك الباب لو كان هنالك حينئذ لرأته قريش جهارا.(5/77)
[رابع عشر: تسبيح الحصا في كفه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما تسبيح الحصا في كفه صلّى اللَّه عليه وسلم فخرج البيهقي وغيره، من قريش بن أنس قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، عن رجل يقال له سويد بن يزيد قال: سمعت أبا ذر رضي اللَّه عنه يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير، تقدمني رأيته كنت أتتبع خلوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فرأيته يوما جالسا وحده فاغتنمت خلوته، فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر رضي اللَّه عنه فسلم ثم جلس عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم جاء عمر رضي اللَّه عنه فسلم ثم جلس عن يمين أبي بكر رضي اللَّه عنه، ثم جاء عثمان رضي اللَّه عنه فسلم وجلس عن يمين عمر رضي اللَّه عنه، وبين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبع حصيات- أو قال: تسع حصيات- فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن،
ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هذه خرفة نبوة.
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن بشار عن قريش بن أنس عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظا، والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كبير السن، كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة، ذكر له فذكر هذا الحديث عن أبي [ (1) ] ذر رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6- 64- 65، باب ما جاء في تسبيح الحصيات في كفّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم في كف بعض أصحابه، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 201، فصل ومثل هذا في سائر الجمادات، والخبر ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) عن البيهقي، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) ، والطبراني في (الأوسط) .(5/78)
وخرج أبو نعيم من حديث أبي اليمان قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، قال الوليد- وفي رواية: ذكر الوليد بن سويد- أن رجلا من سليم كبير السن ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر أنه بينما هو قاعد يوما في مجلس وأبو ذر في ذلك المجلس، إذ ذكر عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، قال السّلمي: وأنا أظن في نفسي أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة لإنزاله إياه بالربذة، فلما ذكر له عثمان عرض له بعض أهل المجلس بذلك، وهو يظن أن في نفسه عليه معتبة، فلما ذكر قال أبو ذر: لا تقل في عثمان إلا خيرا، فإنّي أحبه، لقد رأيت منه منظرا، وشهدت منه مشهدا لا أنساه حتى الموت: كنت رجلا ألتمس خلوات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لأسمع منه ولآخذ، فهجرت يوما من الأيام فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد خرج من بيته، فسألت عنه الخادم فأخبرني أنه في بيت، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكان حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام وقال لي: ما جاء بك، فقلت: جاء بي اللَّه ورسوله، فأمرني أن أجلس فجلست إلى جنبه لا أسأله عن شيء ولا يذكره لي، فمكثت غير كثير ثم جاء أبو بكر رضي اللَّه عنه مسرعا فسلم، فرد السلام ثم قال: ما جاء بك؟ قال: جاء بي اللَّه ورسوله، فأشار إليه بيده أن أجلس إلى ربوة مقابل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الطريق بينه وبينها، حتى إذا استوى أبو بكر جالسا أشار بيده فجلس إلى جنبي عن يميني، ثم جاء عمر رضي اللَّه عنه ففعل مثل ذلك، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر على تلك الربوة، ثم جاء عثمان رضي اللَّه عنه فسلم فرد عليه السلام، فقال: ما جاء بك؟ قال: جاء بي اللَّه ورسوله، فأشار إليه بيده فقعد إلى الربوة، ثم أشار إليه فجلس إلى جنب عمر رضي اللَّه عنه فتكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بكلمة لم أفقه غير أنه قال: قليل ما تبقين، ثم قبض على حصيات سبع أو تسع أو قريب من ذلك فسبحن في يده حتى سمع لهن حنين كحنين النحل في كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ناولهن أبا بكر رضي اللَّه عنه فسبحن في كفه. كما سبحن في كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم أخذهن منه، فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عمر رضي اللَّه عنه فسبحن في كفه كما سبحن في كف أبي بكر رضي اللَّه عنه، ثم أخذهن منه فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان رضي اللَّه عنه فسبحن في كفه(5/79)
كما سبحن في كف عمر رضي اللَّه عنه، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن.
وقد روى هذا الحديث من وجه آخر عن أبي ذر [ (1) ] .
وخرج الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر من حديث عمرو بن حماد الفراهيدي قال: حدثنا محرز الغيّاث عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أخذ سبع حصيات في يده فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد أبو بكر، فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عمر رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في أيدينا رجلا رجلا فما سبحت حصاه منهن.
وذكر من طريق يوسف بن الصباح قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد،
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 431- 432، تسبيح الحصى، حديث رقم (338) ، (339) باختصار شديد.
قال الحافظ في (الفتح) : وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر قال: «تناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن» أخرجه البزار والطبراني في (الأوسط) ، وفي رواية الطبراني: «فسمع تسبيحهن في الحلقة» وفيه «ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا» .
قال البيهقي في (الدلائل) : كذا رواه صالح بن أبي الأخضر- ولم يكن بالحافظ- عن الزهري، عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر، والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال:
«ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كان كبير السن ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر له عن أبي ذرّ بهذا» (فتح الباري) : 6/ 734، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام.
فائدة: ذكر ابن الحاجب عن بعض الشيعة: أن انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، مما نقل آحادا مع توافر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم يكذب رواتها، وأجاب بأنه استغنى عن نقلها تواترا بالقرآن.
وأجاب غيره بمنع نقلها آحادا، وعلى تسليمه فمجموعها يفيد القطع كما تقدم في أول هذا الفصل، والّذي أقول: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأما من حيث الرواية فليست على حد سواء، فإن حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كل منهما نقلا مستفيضا، يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك.
وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسنادا لا من وجه قوي ولا من وجه ضعيف، واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 734- 735.(5/80)
حدثنا سعيد عن الحسن عن أنس قال: تناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من الأرض سبع حصيات فسبحن في يده، ثم ناولهن أبا بكر رضي اللَّه عنه فسبحن في يده كما سبحن في يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ناولهن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عمر رضي اللَّه عنه فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر، ثم ناولهن عثمان رضي اللَّه عنه فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهم أجمعين.(5/81)
[خامس عشر: تأمين أسكفّة [ (1) ] الباب وحوائط البيت على دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما تأمين أسكفّة الباب وحوائط البيت على دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن يونس الكديمي [ (2) ] قال: حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن إسحاق بن سعيد بن أبي وقاص الوقاصيّ، حدثنا جدي أبو موسى مالك بن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبي أسيد الأنصاري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه: يا أبا الفضل، لا ترم منزلك غدا أنت وبنوك حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة، فانتظروا حتى جاء [بعد ما أضحى فدخل عليهم] [ (3) ] فقال: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته، قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: أصبحنا بخير نحمد اللَّه، فكيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: أصبحت بخير، أحمد اللَّه، فقال تقاربوا تقاربوا ليزحف بعضكم إلى بعض ثلاثا، حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته وقال: يا رب، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه، قال: فأمّنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين ... آمين ... آمين [ (4) ] .
قال البيهقي: تفرد به عبد اللَّه بن عثمان الوقاصي هذا، وهو ممن سأل عنه عثمان الدارميّ يحيى بن معين فقال: لا أعرفه.
__________
[ (1) ] أسكفة الباب: عتبته.
[ (2) ] الكديمي: وضّاع.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 71- 72، باب ما جاء في تأمين اسكفة الباب وحوائط البيت على دعاء نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لعمه العباس رضي اللَّه عنه ولبني عمه إن صحت الرواية، (ضعيف سنن ابن ماجة للألباني) : 299- 300، كتاب الأدب، باب (18) الرجل يقال له: كيف أصبحت، حديث رقم (812- 3711) ، قال الألباني: ضعيف- التعليق على ابن ماجة، (دلائل أبي نعيم) :
2/ 432- 433، باب تأمين اسكفة الباب، حديث رقم (340) .(5/82)
قال المؤلف رحمه اللَّه: هذا الحديث خرجه ابن ماجة، وعبد اللَّه هذا يروي عن جده لأمه مالك بن حمزة، وصباح الرومي، ويروي عنه إبراهيم بن عبد اللَّه الهروي، وأحمد بن أخي ابن وهب، والكديمي وجملة. قال أبو حاتم: شيخ يروي أحاديث مشتبهة. وقد خرجه ابن ماجة رحمه اللَّه تعالى في الأدب، عن إسحاق ابن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حاتم الهروي، عن عبد اللَّه الوقاصي.(5/83)
[سادس عشر: نبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما نبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دعا بماء- وقال البخاري: بإناء من ماء- فأتى بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه، قال أنس رضي اللَّه عنه فجعلت انظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس:
فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين، وقال مسلم: فأتى بقدح رحراح فجعل القوم يتوضءون فحزرتهم ما بين السبعين إلى الثمانين. ذكره البخاري في كتاب الطهارة في باب الوضوء من التور، وذكره مسلم في أول المناقب.
وللبخاريّ من حديث يزيد قال: أخبرنا حميد عن أنس قال: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله [ (3) ] ، وبقي قوم، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء، [فوضع كفه] [ (4) ] فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، [فضم أصابعه فوضعها في المخضب] [ (5) ] فتوضأ القوم كلهم [جميعا] [ (5) ] ، قلت: كم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 402، كتاب الوضوء، باب (46) الوضوء من التّور، حديث رقم (200) ، رحراح: متسع الفم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 43، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (2279) قوله في هذه الأحاديث في نبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم وتكثيره، وتكثير الطعام، هذه كلها معجزات ظاهرات، وجدت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مواطن مختلفة، وعلى أحوال متغايرة، وبلغ مجموعها التواتر. وأما تكثير الماء فقد صحّ من رواية أنس، وابن مسعود، وجابر، وعمران ابن الحصين. (المرجع السابق) : 43، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 413، حديث رقم (321) بسياقة أخرى وسند آخر.
[ (3) ] في (خ) : «قريب الدار من المسجد يتوضأ» وما أثبتناه من رواية (البخاري) .
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] زيادة من (خ) .(5/84)
كانوا [ (1) ] ؟ قال: ثمانون رجلا [ (1) ] . ذكره في باب علامات النبوة في الإسلام، وذكره [في كتاب] الطهارة في باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، من حديث عبد اللَّه بن بكر قال: حدثنا حميد عن أنس ... الحديث، وقال: فقام من كان قريب الدار من أهله، وقال في آخره: قلنا: كم كنتم؟ قال:
ثمانين وزيادة [ (2) ] .
وله من حديث عبد الرحمن بن المبارك قال: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن [يقول:] حدثنا أنس قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في بعض مخارجه ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون فحضرت الصلاة ولم يجدوا ماء يتوضءون، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: قوموا فتوضئوا، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء، وكانوا سبعين أو نحوه. ذكره في باب علامات النبوة في الإسلام [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وحانت [ (4) ] صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بوضوء فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده في ذلك الإناء [ (5) ] ، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، قال: فرأيت الماء
__________
[ (1) ] في (البخاري) : «قال: كم كنتم» ، «ثمانين وزيادة» ، والمخضب، بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة: هو الإناء الّذي يغسل فيه الثياب وقد يطلق على الإناء صغيرا أو كبيرا. (فتح الباري) : 1/ 398 كتاب الوضوء باب (45) الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، حديث رقم (195) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 721، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3575) ، والتصويبات، السابقة منه.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 720- 721، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3574) .
[ (4) ] في (خ) : «وجاءت» .
[ (5) ] في (خ) : «في ذلك الإناء يده» ، وما أثبتناه من (البخاري) .(5/85)
ينبع من تحت أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم، [فتوضأ الناس] [ (1) ] حتى توضئوا من عند آخرهم.
ذكره البخاري في المناقب [ (2) ] ، وفي الطهارة في باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة [ (3) ] . وخرجه الترمذي في المناقب وقال: حديث حسن صحيح [ (4) ] .
وخرج البخاري [ (5) ] ومسلم [ (6) ] من حديث ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة، عن أنس قال: أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة.
وخرج مسلم من حديث معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة قال:
حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه بالزوراء قال: والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيها، ثم دعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه فجعل ينبع بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة [ (6) ] .
وخرج من حديث [سعيد] عن قتادة عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان بالزوراء، فأتى بإناء ماء لا يغمر أصابعه أو قدر ما يواري أصابعه، ثم ذكر نحو حديث هشام [ (7) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) في رواية أخرى.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 720، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام. حديث رقم (3573) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 359- 360، كتاب الوضوء، باب (32) التماس الوضوء إذا حانت الصلاة، حديث رقم (169) .
[ (4) ] (تحفة الأحوذي) : 10/ 75- 76، أبواب المناقب، باب (31) ، حديث رقم (3874) ، وقال:
وفي الباب عن عمران بن حصين، وابن مسعود، وجابر. (قال أبو عيسى) : حديث حسن صحيح.
[ (5) ] (فتح الباري) : 6/ 720، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3572) .
[ (6) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 44، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (6) .
[ (7) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8) .(5/86)
وخرج البيهقي من حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثنا أخي عن سليمان- وهو ابن بلال- عن عبيد اللَّه بن عمر عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى قباء فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير، قال: فأدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربع ولم يستطع أن يدخل إبهامه ثم قال للقوم: [هلموا] إلى الشراب، قال أنس: بصر عينيّ نبع الماء من بين أصابعه، فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعا [ (1) ] .
قال البيهقي: هذه الروايات عن أنس تشبه أن يكون كلها خبرا عن واقعة [واحده، وذلك حين خرج إلى قباء، ورواية قتادة عن أنس تشبه أن تكون خبرا عن واقعة أخرى، واللَّه أعلم] [ (2) ] .
وخرج عن الرزاق من حديث معمر عن ثابت وقتادة، عن أنس قال: نظر بعض أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وضوءا فلم يجدوا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم هاهنا ماء، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وضع يده في الإناء الّذي فيه الماء، ثم قال: توضئوا باسم اللَّه، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه والقوم يتوضئون حتى توضئوا من آخرهم، قال ثابت: قلت لأنس: كم تراهم كانوا؟ قال: نحوا من سبعين [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث حصين عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: عطش الناس يوم الحديبيّة والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم بين يديه ركوة، فجهش الناس نحوه، قال: ما لكم؟ قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا،
قلت: كم كنتم قال: لو كنا مائة ألف لكفانا،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 123، باب ذكر البيان أن خروج الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان غير مرة، وزيادة ماء البئر ببركة دعائه، كانت له عادة، وكل واحد فيهما دليل واضح من دلائل النبوة.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين تصويب للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 124، وأخرجه البخاري بنحو منه في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام وقد سبق ذكره.(5/87)
كنا خمس عشرة مائة. ذكره في باب علامات النبوة [ (1) ] ، وذكره في عمرة الحديبيّة [ (2) ] أيضا، وقال: عن جابر عطش الناس ... الحديث إلى آخره بنحوه، وقال فيه: فجعل الماء يفور، وفيه: كم كنتم يومئذ ... الحديث مثله.
وخرج في كتاب الأشربة من حديث الأعمش قال: حدثني سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد اللَّه هذا الحديث قال: قد رأيتني مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقد حضرت العصر وليس معنا ماء غير فضلة، فجعل في إناء فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم به، فأدخل يده فيه وفرج أصابعه ثم قال: حي على أهل الوضوء والبركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء ينفجر من بين أصابعه، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه، فعلمت أنه بركة.
قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة. تابعه عمرو بن دينار عن جابر، وقال حصين عن جابر. ترجم عليه: باب شرب البركة والماء المبارك [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث أبي عوانة، عن الأسود عن قيس عن نبيح [ (4) ] العنزي قال: قال جابر بن عبد اللَّه: غزونا أو سافرنا [ونحن] [ (5) ] مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ونحن يومئذ بضع عشرة مائة، فحضرت الصلاة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هل في القوم من طهور؟ فجاء رجل يسعى باداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، وصب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: فركب الناس ذلك القدح وقال: تسمحوا تمسحوا، فقال
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 721، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3576) ، جهش: أسرعوا لأخذ الماء.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 560، كتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4152) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 125، كتاب الأشربة، باب (31) ، شرب البركة والماء المبارك، حديث رقم (5639) .
[ (4) ] في (خ) : «نباح» وصوبناه من (دلائل البيهقي) ، (تهذيب التهذيب) : 10/ 372، وهو نبيح ابن عبد العنزي أبو عمرو الكوفي.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(5/88)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: على رسلكم حين سمعهم يقولون ذلك، قال: فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كفه في الماء والقدح وقال: سبحان اللَّه! ثم قال: أسبغوا الوضوء.
فو الّذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون: عيون الماء تخرج من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولم يرفعها حتى توضئوا أجمعون [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد، عن عباد ابن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم [ (2) ] ، فذكر الحديث إلى أن قال: فأتينا العسكر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يا جابر ناد بوضوء، فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال: قلت: يا رسول اللَّه ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد، قال: فقال لي: انطلق إلى فلان بن فلان الأنصاري، فانظر هل في أشجابه من شيء؟ قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه.
فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسة، فقال: اذهب فأتني به، فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيده، ثم أعطانيه فقال: يا جابر، ناد بجفنة، فقلت: يا جفنة الركب، فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده الجفنة هكذا فبسطها وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة وقال: خذ يا جابر فصب عليّ وقل: باسم اللَّه، فصببت عليه وقلت: باسم اللَّه، فرأيت الماء يتفوّر من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم فأرت الجفنة ودارت حتى أمتلأت، ثم قال: يا جابر، ناد من كان له حاجة بماء، قال: فأتى الناس فاستقوا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 117- 118، باب ما ظهر في الحديبيّة بخروج الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين لم يكن لأصحابه ماء يشربونه ويتوضئون به من دلالات النبوة، والأشبه أن ذلك كان مرجعهم عام الحديبيّة حين دعا في أزوادهم بالبركة، (سنن الدارميّ) : 13- 14، باب ما أكرم اللَّه به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من تفجير الماء من بين أصابعه باختلاف يسير.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 343، كتاب الزهد والرقاق، باب (18) حديث جابر الطويل، حديث رقم (3006) .(5/89)
حتى رووا، قال: فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى [ (1) ] .
وذكر الحديث.
وخرج البيهقي- رحمه اللَّه- من حديث عبد اللَّه بن يزيد المقري قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن نعيم الحضرميّ قال: [ (2) ] سمعت زياد بن الحرث الصّدائي [صاحب رسول اللَّه] [ (3) ] ، يحدث قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فبايعته على الإسلام فذكر الحديث [إلى أن قال] [ (3) ] ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اعتشى من أول الليل- أي سار من أول الليل- فلزمته وكنت قويا، وكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون، حتى لم يبق معه أحد غيري، فلما كان أذان صلاة الصبح أمرني فأذّنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول اللَّه؟ فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر فيقول: لا، حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرّز ثم انصرف إليّ وقد تلاحق أصحابه فقال: هل من ماء يا أخا صداء؟ فقلت: لا، إلا شيء قليل لا يكفيك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اجعله في إناء ائتني به، ففعلت، فوضع كفه في الماء، قال الصدائي: فرأيت بين إصبعين من أصابعه عينا تفور!! فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لولا أني استحيي من ربي لسقينا واستقينا، ناد في أصحابي من كان له حاجة في الماء، فناديت فيهم، فأخذ من أراد منهم. فذكر الحديث [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 352- 353، كتاب الزهد والرقاق، باب (18) حديث جابر الطويل، حديث رقم (3013) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثنا زياد بن نعيم الحضرميّ، قال:» .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 125- 127، باب ذكر البيان أن خروج الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان غير مرة، وزيادة ماء البئر ببركة دعائه كانت له عادة، وكل واحد منها دليل واضح من دلائل النبوة.
والحديث أخرجه أيضا الترمذي في الصلاة، باب ما جاء أن من أذّن فهو يقيم، حديث رقم (199) مختصرا، وأبو داود في الصلاة، باب الرجل يؤذن ويقيم آخر، حديث رقم (514) مختصرا من طريق عبد اللَّه بن عمر بن غانم، ابن ماجة في كتاب الأذان، باب (3) السنة في الأذان، حديث رقم (717) ، ورواه البيهقي في (السنن) : 1/ 381، 1/ 399.(5/90)
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي كدينة عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء، فقال رجل: يا رسول اللَّه ليس في العسكر ماء، قال:
هل عندك شيء؟ قال: نعم، فأتى بإناء فيه شيء من ماء، قال: فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أصابعه في فم الإناء، وفتح أصابعه، قال: فلقد رأيت العيون تنبع من بين أصابعه، قال: فأمر بلالا ينادي في الناس: الوضوء المبارك [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فقلّ الماء فقال: اطلبوا فضله من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. ذكره في باب علامات النبوة [ (2) ] .
قال الحفاظ أبو عمر بن عبد اللَّه بن عبد البر: الّذي أوتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من هذه الآية المعجزة، أوضح في آيات الأنبياء وأعلامهم مما أعطي موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتي عشرة عينا، وذلك أن الحجارة مما يشاهد انفجار الماء منها، ولم يشاهد قط أحد من الآدميين يخرج من بين أصابعه الماء إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد برع بنحو ما قلت المزني وغيره.
قال الإمام الحافظ أبو نعيم: وهذه الآية من أعجب الآيات أعجوبة، وأجلها معجزة، وأبلغها دلالة، شاكلت دلالة موسى عليه السلام في تفجر الماء من الحجر حين ضرب بعصاه، لا بل هذا أبلغ من الأعجوبة، لأن نبع الماء من بين اللحم والعظم أعظم من خروجه من الحجر، لأن الحجر سنخ [ (3) ] من أسناخ الماء، مشهور في المعلوم، مذكور في المتعارف، وما رئي وما سمع بماء قط في ماضي
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 416، حديث رقم (2268) ، (دلائل البيهقي) : 4/ 127- 128.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 728، كتاب المناقب، باب (25) دلائل النبوة، حديث رقم (3579) .
[ (3) ] السنخ: الأصل.(5/91)
الدهور نبع وانفجر من أجساد بني آدم، حتى صدر عنه الجم الغفير من الناس والحيوان رواء، وانفجار الماء من الأحجار ليس بمنكر ولا بديع، وخروجه وتفجره من بين الأصابع معجز بديع [ (1) ] .
قال المؤلف رحمه اللَّه: وحديث تفجر الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يرتاب في صحته إلا فاسد العقيدة مدخول في دينه، فقد روي من طرق كثيرة عن عشرة من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنهم شاهدوا ذلك، هم: عبد اللَّه بن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو قتادة، وأنس بن مالك، وعبد اللَّه بن عباس، وأبو ليلى، والبراء بن عازب، وأبو رافع، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وسلمة بن الأكوع، رضي اللَّه عنهم.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه- ومثل هذا في هذه المواطن الحفلة، والجموع الكثيرة، لا تتطرق التهمة إلى المتحدث بها، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه لما جبلت عليه النفوس من ذلك، لأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل، فهؤلاء قد رأوا هذا وأشاعوه، ونسبوا حضور الجماعة الغفير له، ولم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوه، فصار كتصديق جميعهم له [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 405، الفصل الحادي والعشرون: في فوران الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم سفرا وحضرا.
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 188، فصل في نبع الماء بين أصابعه، وتكثيره ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم.(5/92)
[سابع عشر: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في تكثير الماء القليل]
وأما ظهور بركته في تكثير الماء القليل الّذي كان في الميضأة،
فخرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء اللَّه غدا، فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، قال أبو قتادة: فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسير حتى ابهارّ [ (1) ] الليل وأنا إلى جنبه.
قال: فنعس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى تهوّر [ (2) ] الليل مال عن راحلته، قال: فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الأوليين حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك اللَّه بما حفظت به نبيه، ثم قال: هل ترانا نخفي على الناس؟ ثم قال: هل ترى من أحد؟ قلت:
هذا راكب آخر [ثم قلت هذا راكب آخر] [ (3) ] حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب.
قال: فمال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الطريق [فوضع رأسه] [ (3) ] ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، فكان أول من استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والشمس في ظهره، قال:
فقمنا فزعين، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، قال: فتوضأ منها وضوءا دون وضوء، قال:
__________
[ (1) ] ابهارّ الليل: انتصف.
[ (2) ] تهوّر الليل: ذهب أكثره.
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .(5/93)
وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما يصنع كل يوم، قال: وركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وركبنا معه.
قال: وجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟
ثم قال: ما لكم فيّ أسوة؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟.
قال: ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما: يا رسول اللَّه، بعدكم لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمى كل شيء وهم يقولون: يا رسول اللَّه! هلكنا عطشا، فقال: لا هلك عليكم، ثم قال: أطلقوا إلي غمري.
قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة، تكابوا عليها، فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أحسنوا الملأ، كلكم سيروى، قال: ففعلوا، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: ثم صب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال لي:
اشرب، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول اللَّه، فقال: ساقي القوم آخرهم.
قال: فشربت وشرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وأتى الناس الماء جامين [ (1) ] .
رواء، قال: فقال عبد اللَّه بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإنّي أحد الركب تلك الليلة، قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث، فقال من أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: حدّث فأنت أعلم بحديثكم، قال: فحدثنا القوم، فقال عمران: لقد
__________
[ (1) ] جامين: نشاطا مستريحين.(5/94)
شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته [ (1) ] .
وخرجه البيهقي من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر فقال: أن لا تدركوا الماء تعطشوا؟ فانطلق سرعان الناس يريد الماء، ولزمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تلك الليلة، فمالت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم راحلته، فنعس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمال فدعمته فادّعم، ومال فدعمته فادّعم، ثم مال [فدعمته] فادّعم ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه فقال: من الرجل؟ فقلت: أبو قتادة، فقال: حفظك اللَّه بما حفظت به رسول اللَّه، ثم قال: لو عرسنا، فمال إلى شجرة فنزل فقال: انظر هل ترى أحدا؟ فقلت: هذا راكب، هذا راكبان، حتى بلغ سبعة، فقال: احفظوا علينا صلاتنا.
قال: فنمنا فما أيقظنا إلا حرّ الشمس، فانتبهنا فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وسار وسرنا هنيهة ثم نزل فقال: أمعكم ماء؟ فقلت: نعم ميضأة فيها شيء من ماء، قال: فأتني بها فأتيته بها فقال: صبوا منها، فتوضأ القوم وبقي في الميضأة جرعة فقال: ازدهر بها يا أبا قتادة، فإنه سيكون لها شأن.
ثم أذن بلال فصلى الركعتين قبل الفجر، ثم ركب وركبنا، فقال بعضنا لبعض: فرطنا في صلاتنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإليّ، قلنا: يا رسول اللَّه! فرطنا في صلاتنا، قال لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإذا كان ذلك فصلوها من الغد لوقتها، ثم قال: ظنوا بالقوم فقلنا: إنك قلت بالأمس: أن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا، فأتى الناس الماء، فقال: أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم.
فقال بعض القوم: إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا، فأتى الناس الماء وفي القوم أبو بكر وعمر قالا: أيها الناس، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يكن ليسبقكم إلى
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 5/ 1910- 193، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب (55) قضاء الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، حديث رقم (681) .(5/95)
الماء ويخلّفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا- قالها ثلاثا- فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه! هلكنا عطشا، انقطعت الأعناق، قال: لا هلاك عليكم اليوم، ثم قال: يا أبا قتادة، ائتني بالميضأة، فأتيته بها، فقال: حل لي عن غمري- يعني قدحه- فحللته فأتيته به، فجعل يصب فيه ويسقي الناس، فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أحسنوا الملأ فكلكم سيصدر عن ري، فشرب القوم حتى لم يبق غيري ورسول اللَّه، فصب لي فقال: اشرب يا أبا قتادة، قلت: اشرب أنت يا رسول اللَّه، فقال: إن ساقي القوم آخرهم، فشربت ثم شرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو مما كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمائة ...
الحديث.
قال حماد: وحدثنا حميد عن بكر بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مثله وزاد فيه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، فإذا عرس قرب الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى وأقام ساعده [ (1) ] .
وخرجه أيضا من طريق الحافظ أبي أحمد عبد اللَّه بن عدي قال: أخبرنا أبو يعلي، حدثنا شيبان بن سعيد بن سليمان- يعني الضّبعيّ- حدثنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جهز جيشا إلى المشركين فيهم أبو بكر رضي اللَّه عنه، فقال لهم: اغذوا السير، فإن بينكم وبين المشركين ماء، إن سبق المشركون إلى ذلك الماء شق على الناس وعطشتم عطشا شديدا أنتم ودوابكم، قال:
وذكر الحديث [ (2) ] .
قال البيهقي: وتمام الحديث فيما ذكر شيخنا أبو عبد اللَّه الحافظ، عن أبي محمد المزني، عن أبي يعلى بهذا الإسناد، وقال تخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في ثمانية أنا تاسعهم، قال لأصحابه: هل لكم أن نعرّس قليلا ثم نلحق بالناس؟ قالوا: نعم
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 132- 134، باب حديث الميضأة وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالات الصدق.
[ (2) ] المرجع السابق: 134- 135.(5/96)
يا رسول اللَّه، فعرسوا فما أيقظهم إلا حرّ الشمس، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، واستيقظ أصحابه فقال لهم: تقدموا واقضوا حاجتكم، ففعلوا ورجعوا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال لهم: هل مع أحد منكم ماء؟ قال رجل منهم: يا رسول اللَّه. معي ميضأة فيها شيء من ماء، قال: جيء بها، فأخذها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمسحها بكفه ودعا بالبركة فيها، فقال لأصحابه: تعالوا فتوضئوا، فجاءوا فجعل يصبّ عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى توضئوا، وأذن رجل منهم وأقام، فصلى بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال لصاحب الميضأة: ازدهر بميضأتك فسيكون لها نبأ.
وركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل الناس وقال لأصحابه: ما ترون الناس فعلوا؟
قال: اللَّه ورسوله أعلم، فقال لهم: فيهم أبو بكر وعمر وسيرشد الناس، وقد سبق المشركون إلى ذلك الماء فشق على الناس وعطشوا عطشا شديدا، ركائبهم ودوابهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أين صاحب الميضأة؟ قال: هو ذا يا رسول اللَّه، قال جئني بميضأتك، فجاء بها وفيها شيء من ماء، فقال لهم: تعالوا فاشربوا، فجعل يصب لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى شرب الناس كلهم، وسقوا دوابهم وركائبهم، وملئوا كل إداوة وقربة ومزادة، ثم نهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين، فبعث اللَّه ريحا، فهرب وجوه المشركين، وأنزل اللَّه نصره وأمكن من أدبارهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا أسارى واستاقوا غنائم كثيرة، فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والناس وافرين صالحين [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثني [عبد اللَّه بن عبد] [ (2) ] العزيز أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد بن سويد عن أبي قتادة قال: بينا نحن نسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الجيش ليلا وهو قافل من تبوك وأنا معه، إذ خفق خفقة وهو على راحلته، فمال على شقة فدنوت منه فدعمته، فانتبه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول اللَّه، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال:
حفظك اللَّه كما حفظت رسوله، ثم سار غير كثير ففعل مثلها فدعمته فانتبه فقال:
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 134- 135.
[ (2) ] زيادة للنسب من (مغازي الواقدي) .(5/97)
يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول اللَّه، فقال: انظر من خلفك، فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم، فقلت: أجيبوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجاءوا فعرّسنا ونحن خمسة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وبقي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها، فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلت: إنا للَّه! فاتنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما غاظنا، فتوضأ من الإداوة ففضل فضلة فقال:
يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأنا، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس، فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي اللَّه عنهما أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا عليهما، فنزلوا بفلاة من الأرض على غير ماء بفلاة من الأرض، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والدواب عطشا، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها، فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى رووا هم ورواحلهم [ (1) ] ، وكان في العسكر اثنى عشر ألف بعير، ويقال: خمسة عشر ألف بعير، والناس ثلاثون ألفا، والخيل عشرة آلاف.
وذلك قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (مغازي الواقدي) : «حتى تروّوا وأرووا خيلهم وركابهم» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1040- 1041.(5/98)
[ثامن عشر: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في مزادتي [ (1) ] المرأة]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في مزادتي المرأة،
فخرج البخاري ومسلم من حديث سلم بن زرير العطاردي قال: سمعت أبا رجاء العطاري عن عمران بن حصين قال: كنت مع نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مسيرته، فأدلجنا ليلتنا حتى إذا كان في وجه الصبح عرّسنا، فغلبتنا أعيننا حتى بزغت الشمس- وقال البخاري حتى ارتفعت الشمس- قال: فكان أول من استيقظ منا أبو بكر رضي اللَّه عنه، وكنا لا نوقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من منامه إذا نام حتى يستيقظ، ثم استيقظ عمر رضي اللَّه عنه فقام عند نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رفع رأسه ورأى الشمس قال: ارتحلوا، فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل من القوم ولم يصل معنا، فلما انصرف قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا فلان! ما منعك أن تصلي معنا؟ فقال: يا نبي اللَّه أصابتني جنابة، فأمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فتيمم بالصعيد فصلى، ثم عجلني في ركب بين يديه، نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا، فبينما نحن نسير، إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين [ (1) ] ، فقلنا لها: أين الماء؟ قلت: أيهاه أيهاه [ (2) ] ، لا ماء لكم، قلنا:
فكم بين أهلك وبين الماء؟ قالت مسيرة يوم وليلة، قلنا: انطلقي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قالت: وما رسول اللَّه؟ فلم نملكها من أمرها شيئا حتى انطلقنا بها، فاستقبلنا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فسألها فأخبرته مثل الّذي أخبرتنا به، وأخبرته أنها مؤتمة لها
__________
[ (1) ] المزادتان: حمل البعير، سميت مزادة لأنه يزاد فيها من جلد آخر من غيرها.
[ (2) ] أيهاه أيهاه: بمعنى هيهات هيهات، ومعناه: البعد من المطلوب واليأس منه، كما قالت بعده: لا ماء لكم، أي ليس لكم ماء حاضر ولا قريب، وفي هذه اللفظة بضع عشرة لغة ذكرها الإمام النووي كلها مفصّلة، واضحة متقنة، مع شرح معناها وتصريفها، وما يتعلق بها، في (تهذيب الأسماء واللغات) : 4/ 185- 188، فليراجع لك.(5/99)
صبيان أيتام، فأمر بروايتيها فأنيخت، فمجّ في العزلاوين العلياوين [ (1) ] ، ثم بعث براويتها فشربنا ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة، وغسّلنا صاحبنا [ (2) ] ، غير أنا لم نسق بعيرا وهي تكاد تنضرج [ (3) ] من الماء- يعني المزادتين- ثم قال: هاتوا ما كان عندكم، فجمعنا لها من كسر وتم، وصرّ لها صرّة فقال لها: اذهبي فأطعمي هذا عيالك، واعلمي أنا لم نرزأ من مائك، فلما أتت أهلها قالت: لقد لقيت أسحر البشر أو أنه نبي كما زعم، كان من أمره ذيت وذيت، فهدى اللَّه ذلك الصرم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا [ (4) ] .
اللفظ لمسلم، ذكره في كتاب الطهارة [ (5) ] ، وهو أتم من لفظ البخاري وأكثر.
وقال البخاري في حديثه: فاستيقظ عمر فقعد أبو بكر عند رأسه فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فنزل وصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل. وقال فيه: فقلنا لها: أين الماء؟ فقالت: إنه لا ماء، ولم يقل: أيهاه أيهاه، ولم يقل فيه: غسلنا صاحبنا، وقال فيه: وهي تكاد من الماء. ذكره في باب علامات النبوة [ (6) ] .
وأخرجاه من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن الحصين قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فسرنا ليلة حتى إذا كنا من آخر الليل قبيل الصبح، وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس.
وساق الحديث بنحو حديث سلم بن زرير،
__________
[ (1) ] العزلاء بالمد: هو المشعب الأسفل للمزادة الّذي يفرغ منه الماء، ويطلق أيضا على فمها الأعلى.
[ (2) ] يعني الجنب: وفيه دليل على أن المتيمم عن الجنابة إذا أمكنه استعمال الماء اغتسل.
[ (3) ] تنضرج: تتشقق.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 194- 196، كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها، باب (55) قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، حديث رقم (862) .
[ (5) ] كذا في (خ) ، والصواب ما أثبتنا في التعليق السابق.
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 719- 720، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3571) ، (فتح الباري) : 1/ 589- 590، كتاب التيمم، باب (6) الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، حديث رقم (344) .(5/100)
وزاد ونقص، وقال في الحديث: فلما استيقظ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه رأى ما أصاب الناس- وكان أجوف جليدا- فكبر ورفع صوته بالتكبير حتى استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لشدة صوته بالتكبير، فلما استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شكوا إليه الّذي أصابهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا ضير، ارتحلوا، واقتصّ الحديث.
لم يزد مسلم على هذا [ (1) ] .
وخرجه البخاري من حديث عوف قال، حدثنا أبو رجاء عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة، ولا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف ثم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الرابع، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو المستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس- وكان رجلا جليدا فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما استيقظ صلّى اللَّه عليه وسلم شكوا إليه الّذي أصابهم فقال:
لا ضير أو لا يضير، ارتحلوا فارتحل، فسار غير بعيد ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلّ مع القوم، فقال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم سار رسول اللَّه فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا، - كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوف- ودعا عليا رضي اللَّه عنه فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفا، قالا لها: انطلقي إذا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قالت إلى الّذي يقال له الصابيء؟ قالا: هو الّذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.. وحدثنا الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 197، كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها باب (55) ، قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، الحديث الّذي يلي الحديث رقم (862) من أحاديث الباب بدون رقم:(5/101)
بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكأ أفواههما، وأطلق العزالي ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء وأعطى، وكان آخر ذاك أن أعطى الّذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: اذهب فأفرغه عليك، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم اللَّه لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أجمعوا لها، فجمعوا لها ما بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا ولكن اللَّه هو الّذي أسقانا،
فأتت أهلها- وقد احتبست عنهم- قالوا: ما حبسك يا فلانة؟
قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الّذي يقال له الصابيء، ففعل كذا وكذا، واللَّه إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى، والسبابة، فرفعتهما إلى السماء تعنى السماء والأرض، أو إنه لرسول اللَّه حقا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصّرم الّذي هي منه، فقالت يوما لقومها: ما أدري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام [ (1) ] .
وخرج عبد الرزاق من حديث معمر، عن عوف عن أبي رجاء، عن عمران قال: سرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر هو وأصحابه، قال: فأصابهم عطش شديد، فأقبل رجلان من أصحابه- قال: أحسبه عليا والزبير رضي اللَّه عنهما أو غيرهما- قال: إنكما ستجدان امرأة بمكان كذا وكذا، معها بعير عليه مزادتان فأتيا بها، قال: فأتيا المرأة فوجداها قد ركبت بين مزادتين على البعير، فقالا لها: أجيبي رسول اللَّه، قالت: ومن رسول اللَّه؟ أهذا الصابيء؟ قالا: هو الّذي تعنين وهو رسول اللَّه حقا، فجاءا بها، فأم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجعل في إناء من مزادتيها ثم قال فيه ما شاء اللَّه أن يقول، ثم أعاد الماء في المزادتين ثم أمر بعزلاء المزادتين ففتحتا، ثم أمر الناس فملئوا آنيتهم وأسقيتهم، فلم يدعوا يومئذ إناء ولا سقاء إلا ملئوه، قال عمران:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 589- 590، كتاب التيمم، باب (6) الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، حديث رقم (344) .(5/102)
فكان يخيل إليّ أنها لم تزدد إلا امتلاء. قال: فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بثوبها فبسط، ثم أمر أصحابه فجاءوا من زادهم حتى ملئوا لها ثوبها، ثم قال لها: اذهبي فإنا لم نأخذ من مائك شيئا، ولكن اللَّه عزّ وجلّ سقانا، قال فجاءت أهلها فأخبرتهم فقالت:
جئت من عند أسحر الناس أو أنه لرسول اللَّه حقا، قال: فجاء أهل ذلك الصّرم [ (1) ] حتى أسلموا كلهم.
وخرج البيهقي رحمه اللَّه من حديث يونس بن بكير، عن عباد بن منصور الناجي قال: حدثني أبو رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج في سبعين راكبا فسار بأصحابه، وأنهم عرّسوا قبل الصبح، فنام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه حتى طلعت الشمس، فاستيقظ أبو بكر رضي اللَّه عنه فرأى الشمس قد طلعت فسبّح وكبّر، كأنه كره أن يوقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى استيقظ عمر رضي اللَّه عنه، فاستيقظ رجل جهير الصوت، فسبح وكبر ورفع صوته جدا، حتى استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللَّه! فاتتنا الصلاة، قال: لم تفتكم، ثم أمرهم فركبوا وساروا هنيهة، ثم نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ونزلوا معه، وكأنه كره أن يصلي في المكان الّذي نام فيه عن الصلاة، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ائتوني بماء، فأتوه بجريعة من ماء في مطهرة، فصبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في إناء ثم وضع يده في الماء ثم قال لأصحابه: توضئوا، فتوضأ قريب من سبعين رجلا، ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن ينادى بالصلاة، فنودي بها، ثم قام فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما انصرف إذا رجل من أصحابه قائم، فلما رآه قال له: ما منعك أن تصلي؟ قال: يا رسول اللَّه أصابتني جنابة، قال: فتيمم بالصعيد، فإذا فرغت فصل، وإذا أدركت الماء فاغتسل.
__________
[ (1) ] الصّرم: الأبيات المجتمعة من الناس، وقال الحافظ في (الفتح) : وفي هذه القصة مشروعية تيمم الجنب، وفيها جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن سياق القصة يدل على أن التيمم كان معلوما عندهم، ولكنه صريح في الآية عن الحدث الأصغر، بناء على أن المراد بالملامسة ما دون الجماع، وأما الحدث الأكبر فليست صريحة فيه. فكأنه كان يعتقد أن الجنب لا يتيمم، فعمل بذلك مع قدرته على أن يسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن هذا الحكم، ويحتمل أنه كان لا يعلم مشروعية التيمم أصلا، فكان حكمه حكم فاقد الطهورين، ويؤخذ من هذه القصة أن للعالم إذا رأى محتملا أن يسأل فاعله عن الحال فيه ليوضح له وجه الصواب، وفيه التحريض على الصلاة في الجماعة، وفيه حسن الملاطفة، والرّفق في الإنكار. مختصرا من (فتح البخاري) : 1/ 594.(5/103)
وأصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه لا يدرون أين الماء منهم، فبعث عليا رضي اللَّه عنه معه نفر من أصحابه يطلبون له الماء، فانطلق في نفر فسار يومه وليلته، ثم لقي امرأة على راحلة بين مزادتين، فقال لها علي رضي اللَّه عنه: من أين أقبلت؟
فقالت: [إني استقيت] [ (1) ] لأيتام، فلما قالت له وأخبرته أن بينه وبين الماء مسيرة ليلة وزيادة على ذلك، قال عليّ واللَّه لئن انطلقنا لا نبلغ حتى تهلك دوابّنا ويهلك من هلك منا، ثم قال: ننطلق بهاتين المزادتين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى ينظر في ذلك، فلما جاء عليّ وأصحابه، وجاءوا بالمرأة على بعيرها بين مزادتين، قال عليّ: يا رسول اللَّه، بأبي وأمي، إنا وجدنا هذه بمكان كذا وكذا، فسألتها عن الماء فزعمت أن بينها وبين الماء مسيرة ليلة وزيادة، فظننا أن لم نبلغه حتى يهلك منا من هلك.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنيخوا لها بعيرها، فأناخوا لها بعيرها، فأقبلت عليهم فقالت: استقيت لأيتام وقد احتبست عنهم جدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ائتوني بإناء، فقال: افتحوا عزلاء هذه المزادة فخذوا منها ماء يسيرا، ثم افتحوا عزلاء هذه فخذوا منها ماء يسيرا أيضا ففعلوا، ثم إن رسول اللَّه دعا فيه وغمس يده فيه وقال: افتحوا لي أفواه المزادتين ففتحوا، فحثا في هذه قليلا وفي هذه قليلا ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لأصحابه: اشربوا، فشربوا حتى رووا، ثم قال: اسقوا ظهرهم، فسقوا الظهر حتى روى، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هاتوا ما كان لكم من قربة أو مطهرة فاملئوها، فجاءوا بقربهم ومطاهرهم فملئوها، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شدوا عزلاء هذه وعزلاء هذه ثم قال: ابعثوا البعير فبعثوها، فنهضت وإن المزادتين لتكادان تقطران من ملئهما.
ثم أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كساء المرأة ثم قال لأصحابه: هاتوا ما كان عندكم من شيء، فجعلوا يجيئون بالكسرة، من الخبز والشيء من التمر حتى جمع لها، ثم أخذ كساءها ذلك فشده ثم دفعه إليها ثم قال: خذي هذه لأيتامك، وهذا ماؤك وافرا.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(5/104)
فجعلت تعجب مما رأت، ثم انطلقت حتى أتت أهلها فقالوا: [قد] [ (1) ] احتبست علينا! فما حبسك؟ قالت: حبسني أني رأيت عجبا من العجب، أرأيتم مزادتي هاتين؟ فو اللَّه لقد شرب منها قريب من سبعين نفرا، وأخذوا من القرب والمزاد والمطاهر ما لا أحصي، ثم لهما الآن أوفر منهما يومئذ، فلبثت شهرا أو نحوا من ذلك عند أهلها، ثم أقبلت في ثلاثين راكبا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأسلمت وأسلموا [ (2) ] .
قال المؤلف- عفى اللَّه عنه-: وقد اختلف في نوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره، فروى مالك في (الموطأ) عن زيد بن أسلم أنه قال: عرّس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ... ،
الحديث [ (3) ] .
قال ابن عبد البر: وأظنها قصة واحدة لم يعرض إلا مرة واحدة فيما تدل عليه الآثار، واللَّه أعلم أن بعضها فيه مرجعه من حنين، وبعضها فيه مرجعه من خيبر، لذلك قال ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب في حديثه هذا هو أقوى ما يروى في ذلك، وهو الصحيح إن شاء اللَّه.
وفي حديث ابن مسعود: من يوقظنا؟ فقلت: أنا أوقظكم، وليس في ذلك دليل على أنها غير قصة بلال، لأنه لم يقل له أيقظنا، ويحتمل أن لا يجيبه إلى ذلك ويأمر بلالا.
وقال ابن مسعود في هذا الحديث زمن الحديبيّة، وهو زمن واحد في عام واحد، لأنه منصرفه من الحديبيّة مضى إلى خيبر في عامه ذلك ففتحها اللَّه عليه، وفي الحديبيّة نزلت: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً [ (4) ] يعني خيبر، وكذلك فتحها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أهل الحديبيّة.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 279- 281، باب ذكر حديث عمران بن حصين وما ظهر في خبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن صاحبة المزادتين، ثم في ماء المزادتين حين أتي به وفي بقية الماء التي كانت معه من علامات النبوة ودلالات الصدق.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 273.
[ (4) ] الفتح: 20.(5/105)
وروى خالد بن شمير [ (1) ] عن عبد اللَّه بن رباح عن أبي قتادة في هذا الحديث أنه كان في جيش الأمراء، وهذا وهم عند الجميع، لأن جيش الأمراء كان في غزاة مؤتة، وكانت سرية لم يشهدها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كان الأمير عليها زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد اللَّه بن رواحة، وفيها قتلوا- رضي اللَّه عنهم- وقد روى هذا الحديث ثابت البناني وسليمان التيمي عن عبد اللَّه بن رباح على غير ما رواه خالد بن شمير [ (1) ] ، وما قالوه فهو عند العلماء الصواب دون ما قاله خالد ابن شمير، وقد قال عطاء بن يسار أنها كانت في غزوة تبوك وهذا لا يصح، والآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة وقوله مرسل.
ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني سعيد بن إبراهيم، عن عطاء ابن يسار أنها غزوة تبوك، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر بلالا فأذن في [العسكر] [ (2) ] ، ثم مشوا قليلا ثم أقام فصلوا الصبح.
وقال البيهقي: وقد روينا عن يونس بن بكير عن المسعودي هذه القصة، بعد ذكر نزول سورة الفتح مرجعهم من الحديبيّة، فيشبه أن يكون التاريخ لنزول السورة دون هذه القصة، فإن كان التاريخ لهما جميعا فيشبهه، واللَّه أعلم أن يكون نومهم عن الصلاة وقع مرجعهم من الحديبيّة ثم وقع مرجعهم من خيبر، وقد روى عمران ابن حصين وأبو قتادة الأنصاري نومهم عن الصلاة وذكرا في تلك القصة حديث الميضأة، فلا أدري أكان ذلك مرجعهم من الحديبيّة أو مرجعهم من خيبر أو وقتا آخر [ (3) ] .
قال: وقد زعم الواقدي في قصة أبي قتادة أنها كانت مرجعهم من غزوة تبوك، وروى زافر بن سليمان عن شعبة عن جامع بن شداد في قصة ابن مسعود أن
__________
[ (1) ] في (خ) «خالد بن سمير» ، وصوبناه من (تهذيب التهذيب) : 3/ 84، وهو خالد بن شمير السدوسي البصري.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.
[ (3) ] ثم قال الإمام البيهقي بعد ذلك: «واستخرت اللَّه تعالى في استخراج حديثهما هاهنا، فوقعت الخيرة على ذلك. وباللَّه التوفيق» .(5/106)
ذلك كان في غزوة تبوك. واللَّه تعالى أعلم [ (1) ] .
وقال الواقدي رحمة اللَّه عليه: وكان في تبوك أربعة أشياء، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسير منحدرا إلى المدينة وهو في قيظ شديد، عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشّفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأرسل أسيد بن الحضير في يوم صائف وهو متلثم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: عسي أن تجد لنا ماء، فخرج أسيد وهو بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء امرأة من بلى، فكلمها أسيد فخبرها خبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد وصفت لهم الماء، وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، بالبركة ثم قال: هلموا أسقيتكم، فلم يبق معهم شيئا إلا ملئوه، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت [ (2) ] .
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر بما جاء به أسيد فصبه في قعب عظيم من عساس [ (3) ] أهل البادية، فأدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه يديه، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى [ركعتين] [ (4) ] ، ثم رفع يديه مدا ثم انصرف، وإن القعب ليفور، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للناس: زوّدوا، فاتسع الماء وانبسط حتى يصف عليه المائة والمائتان فأرووا وإن القعب ليجيش بالرّواء، ثم راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [مبردا] [ (4) ] متروّيا من الماء.
قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي [سهل] [ (5) ] عن عكرمة قال: خرجت الخيل في كل وجه يطلبون الماء، فكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرس أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ بارك في الشّقر [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 275.
[ (2) ] في (خ) : «حتى فصلت» ، وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] العساس: جمع العس، وهو القدح الكبير. (النهاية) : 2/ 95.
[ (4) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (5) ] في (خ) : «إسماعيل» وصوبناه من المرجع السابق.
[ (6) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1041- 1042.(5/107)
[تاسع عشر: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الماء بالحديبية]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الماء بالحديبية، فخرج البخاري من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء رضي اللَّه عنه [ (1) ] قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة [ (2) ] ، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبيّة، كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أربع عشر مائة، والحديبيّة بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا [ (3) ] ، وفي رواية قال: نزلنا يوم الحديبيّة وهي بئر فوجدنا الناس قد نزحوها فلم يدعوا فيها قطرة، فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فدعا بدلو فنزع منها ثم أخذ منه بفيه فمجه، ودعا اللَّه فكثر ماؤها حتى صدرنا وركائبنا ونحن أربع عشرة مائة [ (4) ] .
وخرج مسلم من حديث عكرمة بن عمار العجليّ عن سلمة بن الأكوع قال:
أخبرني أبي قال: قدمنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الحديبيّة ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على جبا الركية، فإمّا دعا وإمّا بصق فيها فجاش، فسقينا واستقينا [ (5) ] .
وللبخاريّ من حديث معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة، وهارون يصدق كل منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم زمن الحديبيّة فذكر الحديث إلى أن قال: فعدل عنهم حتى نزل
__________
[ (1) ] في (خ) : «عن أنس» وما أثبتناه من البخاري.
[ (2) ] في (خ) : «بعد أن تم لنا الفتح فتح مكة» .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 559، كتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4147) .
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم (4148) باختلاف يسير.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 416، كتاب الجهاد والسير، باب (45) غزوة ذي قرد وغيرها، حديث رقم (1807) ، وهذا المقطع جزء صغير من حديث طويل جدا، وجبا الركية: يعني حول البئر، وجاشت: ارتفعت وفاضت.(5/108)
لهم فيه، قال: فو اللَّه ما زال يجيش بالري حتى صدروا عنه [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثنا الزهري عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، ولمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج يريد زيارة البيت لا يريد حربا، فذكر الحديث وقال فيه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أيها الناس انزلوا، فقالوا: يا رسول اللَّه ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فقال له: انزل في بعض هذه القلب [ (2) ] فاغرزه في حرفه، ففعل، فجاش بالماء والرواء حتى ضرب الناس [عنه] [ (3) ] بعطن [ (4) ] .
وخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود قال: قال عروة:
فذكر خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح وإلى الماء فنزلوا عليه، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قد سبق نزل على الحديبيّة وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ، والقوم كثير، فنزل فيها رجال يميجونها، ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو ومضمض فاه ثم مج فيها وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من كنانته فألقاه في البئر، ودعا اللَّه ففارت بالماء، حتى جعلوا يغترفون بأيديهم وهم جلوس على شفتيها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 412- 413، كتاب الشروط، باب (5) الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2731) ، (2732) ، (مسند أحمد) : 5/ 430- 431، حديث رقم (18449) من حديث المسور بن مخرمة، (عون المعبود) : 8/ 317، كتاب الجهاد، باب (167) في صلح العدو، حديث رقم (2762) ، رواه أبو داود مختصرا ولم يذكر فيه معجزة تكثير الماء، قال الخطابي: «ثمد» بفتح المثلثة والميم، أي حفيرة فيها ماء مثمود، أي قليل الماء، وقوله: «قليل الماء» : تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول: إن الثمد الماء الكثير.
[ (2) ] القلب: جمع قليب، وهو البئر.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 111- 112، باب ما ظهر في البئر التي دعا فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهي الحديبيّة من دلالات النبوة، والعطن برك الإبل.
[ (5) ] المرجع السابق: 112.(5/109)
وقال ابن إسحاق رحمه اللَّه: حدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم، أن الّذي نزل البئر بسهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الّذي نزلت بسهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وأنشدت أسلم أبيات شعر قالها ناجية، فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها- وناجية في القليب يميح [ (1) ] [علي] [ (2) ] الناس: فقالت:
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
[يثنون خيرا ويمجدونكا] [ (2) ]
فقال ناجية وهو في القليب يميح على الناس:
قد علمت جارية يمانية ... أنى أنا المائح واسمي ناجية
وطعنة [ (3) ] ذات رشاش واهيه ... طعنتها تحت صدور العادية
وذكر موسى بن عقبة أن الّذي نزل في البئر خلّاد بن عبّاد الغفّاري، ودلّاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعمامته [فماح في البئر] [ (2) ] فكثر الماء حتى روى الناس، ويقال:
بل المائح في البئر ناجية بن جندب الأسلمي [ (4) ] .
وقال الواقدي رحمه اللَّه: حدثني معمر وعبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري عن المسور بن مخرمة قال: وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما دنا من الحديبيّة، فذكر الحديث إلى أن قال: حتى نزل بالناس على ثمد من ثماد الحديبيّة، ظنون [ (5) ] قليل الماء، يتبرض ماؤه تبرضا [ (6) ] ، فاشتكى الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهما من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا
__________
[ (1) ] يميح على الناس: يملأهم الدلاء.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في (خ) : «وقصعة» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (4) ] المرجع السابق: 113- 114، (ابن هشام) : 4/ 277- 278.
[ (5) ] الظنون: البئر لا يدري أفيها ماء أم لا.
[ (6) ] برض الماء من العين إذا خرج وهو قليل.(5/110)
عنه بعطن، قال: وإنهم ليغترفون بآنيتهم جلوسا على شفير البئر.
ثم ذكر في الّذي نزل بالسهم مثل ما تقدم عن ابن إسحاق، ثم
قال: وحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أمه قال: حدثني أربعة عشر [ (1) ] رجلا من أسلم من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أن ناجية بن الأعجم، وكان ناجية بن الأعجم يحدث- يقول: دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين شكي إليه قلة الماء، فأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ، ودعا بدلو من ماء البئر، فجئته به فتوضأ، فقال:
مضمض فاه ثم مجّ في الدلو، والناس في حرّ شديد، وإنما هي بئر واحدة- وقد سبق المشركون على بلدح فغلبوا على مياهه- فقال: انزل بالماء فصبه وأثر [ (2) ] ماءها بالسهم. ففعلت، فو الّذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى كاد يغمرني، وفأرت كما يفور القدر حتى طمّت واستوت بشفيرها، يغترفون من جانبها حتى نهلوا من آخرهم.
قال: وعلى الماء يومئذ نفر من المنافقين: الجدّ بن قيس، وأوس، وعبد اللَّه ابن أبيّ، وهم جلوس ينظرون إلى الماء، والبئر تجيش بالرواء وهم جلوس على شفيرها، فقال أوس بن خولى: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه أبعد هذا شيء؟ وردنا بئرا يتبرض ماؤها تبرضا، يخرج في القعب جرعة ماء، فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الدلو ومضمض فاه في الدلو ثم أفرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء.
قال: يقول ابن أبي قد رأيت مثل هذا، [ (3) ] فقال أوس: قبّحك اللَّه وقبّح رأيك فيقبل ابن أبي يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أي أبا الحباب أرأيت مثل ما رأيت اليوم؟
فقال: ما رأيت مثله قط، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فلم قلت ما قلت؟ قال ابن أبي: استغفر اللَّه، قال ابنه: يا رسول اللَّه استغفر له، فاستغفر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) : وفي (مغازي الواقدي) : «حدثني رجل من أسلم» .
[ (2) ] أثر في الشيء: ترك فيه أثرا.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 587- 589.(5/111)
[عشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في العين التي بتبوك]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في العين التي بتبوك،
[فخرج مسلم] من حديث مالك، عن أبي الزبير المكيّ، أن أبا الطفيل عامر بن وائلة أخبره أن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه.
أخبره قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا حتى إذا كان يوما أخّر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعا. ثم قال: إنكم ستأتون غدا إن شاء اللَّه [عينا] بتبوك [ (1) ] ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها [شيئا] حتى آتي.
فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبضّ بشيء من ماء، قال: فسألها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم، فسبهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال لهما ما شاء اللَّه أن يقول، قال: فغرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر- أو قال: غزير- قال: فاستقى الناس ثم قال: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مليء جنانا [ (2) ] .
قال البيهقي: وروينا زيادة ماء تلك العين بمضمضته فيها، عن عروة بن الزبير، وقال: فهي كذلك حتى الساعة. وروى ابن عبد البر عن أبي وضاح أنه قال:
أنا رأيت ذلك الموضع كله [حول] تلك العين جنانا خضرة نضرة.
وخرج أبو نعيم من حديث ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «عين تبوك» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 46، كتاب الفضائل باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (706) ، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 522، حديث رقم (450) ، (دلائل البيهقي) : 5/ 236، باب إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن وقت إتيانهم عين تبوك، وما ظهر في ذلك، وفي وضوئه من تلك العين حتى كثر ماؤها، وفيما قال لمعاذ فكان كما قال من آثار النبوة، (مسند أحمد) : 6/ 315، حديث رقم (21565) من حديث معاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنه.(5/112)
في قصة تبوك قال: وخرج حين خرج وهو يريد الروم، فكان أقصى أثره منزله من تبوك، وكان ذلك في زمان قل ماؤه، فاغترف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غرفة بيده فمضمض بها فاه، وبصق فيها ففارت عينه حتى امتلأت، وهي كذلك حتى الساعة [ (1) ] .
وخرج من حديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروى الراكب والراكبين والثلاث، بواد يقال له: واد المشقّق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقينّ منه شيئا حتى نأتيه.
فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم ير فيه شيئا قال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ قيل: فلان وفلان [ (2) ] ، قال: أو لم ننهاهم أن يستقوا منه شيئا حتى نأتيه؟ ثم لعنهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعا اللَّه عليهم.
ثم نزل، فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء اللَّه أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا اللَّه بما شاء اللَّه أن [يدعو] به، فانخرق الماء كما يقول من سمعه: إن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لئن بقيتم- أو من بقي منكم- ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه [ (3) ] ، [وذلك الماء فوارة تبوك إلى اليوم] [ (4) ] .
وقال الواقدي في غزوة تبوك: وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له: وادي الناقة، وكان فيه وشل [ (5) ] يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين والثلاثة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئا حتى نأتي.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 237.
[ (2) ] قال السهلي: ذكر لي الواقدي قال: سبقه إليها أربعة من المنافقين هم: معتب بن قشير، والحارث ابن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 208- 209، وادي المشقق وماؤه، والتعليق السابق منه.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .
[ (5) ] الوشل: حجر أو جبل يقطر منه الماء قليلا قليلا، والوشل أيضا القليل من الماء.(5/113)
فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحرث بن يزيد الطائي حليف بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، ويزيد بن اللصيت، فاستقوا ما فيه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل ووضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه به، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو به، فانخرق [ (1) ] الماء.
قال معاذ بن جبل: والّذي نفسي بيده، لقد سمعت له من شدة انخراقه مثل الصواعق، فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لئن بقيتم- أو من يبقى منكم- ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه ومما خلفه، قال: واستقى الناس وشربوا،
قال سلامة [ (2) ] بن وقش: قلت لوديعة ابن ثابت: ويلك أبعد ما ترى شيء؟ أما تعتبر؟ فقال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا. [ (3) ] .
__________
[ (1) ] انخرق: اشتدّ واتّسع.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (مغازي الواقدي) : «سلمة بن سلامة بن وقش» .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1039.(5/114)
[حادي وعشرون: نزول المطر بطريق تبوك عند دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم، وإخباره بموضع ناقته لما ضلت، وبما قال أحد المنافقين]
وأما [نزول] المطر بطريق تبوك عند دعائه وقد اشتد عطش الناس، وإخباره بموضع ناقته لما ضلت، وبما قال المنافق، فخرج البيهقي من حديث ابن وهب قال:
أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه، قيل لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حدثنا من شأن ساعة العسرة.
فقال عمر رضي اللَّه عنه: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل يذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما يبقى على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه:
يا رسول اللَّه، إن اللَّه عزّ وجلّ قد عودك في الدعاء خيرا، فادع اللَّه لنا، قال:
أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت، ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها قد جاوزت العسكر [ (1) ] .
وخرجه ابن حبان [ (2) ]- رحمه اللَّه- من حديث سعيد بن أبي هلال، عن نافع ابن جبير، فسقط بين سعيد وبين نافع رجل، وهو عتبة بن أبي عتبة، كما رواه البزار في مسندة، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك [ (3) ] ، قال الطبراني:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 231، باب تسمية غزوة تبوك بالعسرة، وما ظهر بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في بقية الأزواد وفي الماء، وإخباره عن قول المنافقين في غيبته، ثم بموضع ناقته من آثار النبوة، ورواه أيضا الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 6/ 194- 195، وقال: رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات.
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 4/ 223، كتاب الطهارة، باب (19) النجاسة وتطهيرها، ذكر الخبر الدال على أن فرث ما يؤكل لحمه غير نجس، حديث رقم (1383) ، وقال في هامشه: إسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين خلا حرملة بن يحيى، فإنه من رجال مسلم فقط.
[ (3) ] (المستدرك) : 1/ 263، كتاب الطهارة، حديث رقم (566/ 121) ، وقال في آخره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد ضمّنه سنّة غريبة، وهو أن الماء إذا خالط-(5/115)
لم يروه عن نافع بن جبير إلا عتبة لعروبة بن سعيد، وسئل عند الدار الدّارقطنيّ في (العلل) فذكر الاختلاف في زيادة عتبة فيه وسقوطه وقال: القول قول من ذكر عتبة بن أبي عتبة، وهو عتبة بن مسلم. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وخرج البيهقي من حديث يونس عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: أصبح الناس [ولا ماء معهم] ، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدعا اللَّه تعالى فأرسل سحابة فأمطرت، حتى [ارتوى] الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.
قال عاصم: وأخبرني رجال من قومي أن رجلا من المنافقين كان معروفا نفاقه، كان يسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين دعا، فأرسل اللَّه تعالى سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، فأقبلنا عليه فقلنا: ويحك! هل بعد هذا من شيء؟ قال: سحابة مارة [ (1) ] .
وقال الواقدي- عفا اللَّه عنه ورحمه-: وارتحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما أصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على غير ماء، قال عبد اللَّه بن أبي حدره: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم استقبل القبلة فدعا، ولا واللَّه ما أرى في السماء سحابا، فما برح يدعو حتى لأني انظر إلى السماء تأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأني أسمع تكبير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في المطر، ثم كشفت السماء عنّا من ساعتها، وإن الأرض لغدر تناخس [ (2) ] ، فسقى الناس وارتووا من آخرهم، وأسمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
أشهد أني رسول اللَّه.
فقلت لرجل من المنافقين: ويحك! بعد هذا شيء؟ فقال سحابة مارة، وهو أوس بن قيظي، ويقال زيد بن اللّصيت.
قال: ثم ارتحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم موجّها لماء تبوك فأصبح في منزل، فضلت
__________
[ () ] فرث ما يؤكل لحمه لم ينجسه، فإنه لو كان ينجس الماء لما أجاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمسلم أن يجعله على كبده حتى ينجس يديه.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 231- 232، (سيرة ابن هشام) : 5/ 202.
[ (2) ] غدر: جمع غدير، تناخس: أي يصب بعضها في بعض، (النهاية) : 4/ 133.(5/116)
ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [القصواء] ، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عمارة ابن حزم [عقبى بدريّ قتل يوم اليمامة شهيدا] [ (1) ] ، وكان في رحله زيد بن أبي اللصيت أحد بني قينقاع، كان يهوديا فأسلم ونافق، وكان فيه خبث اليهود وغشّهم- وكان مظاهرا لأهل النفاق- فقال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء؟ وهو لا يدري أين ناقته!!.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن منافقا يقول: إن محمدا يزعم أنه نبي وهو يخبركم بأمر السماء؟ ولا يدري أين ناقته!! وإني واللَّه لا أعلم إلا ما علمني اللَّه، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا- أشار لهم إليه- حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها،
فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: العجب من شيء حدثناه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم آنفا عن مقاله قائل أخبره اللَّه عنه، قال: كذا وكذا للذي قال زيد، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائل هذه المقالة زيد قبل أن يطلع علينا، قال: فأقبل عمارة على زيد بن اللصيت يجأه [ (2) ] في عنقه ويقول: واللَّه إن في رحلي لداهية، وما أدري، أخرج يا عدو اللَّه من رحلي.
وكان الّذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عمرو بن حزم، وكان في الرحل مع رهط من أصحابه، والّذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحارث بن خزمة الأشهلي، وجدها وزمامها قد تعلق في شجرة، فقال زيد بن اللصيت: لكأنّي لم أسلم إلا اليوم، قد كنت شاكا في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرة، فأشهد أنه رسول اللَّه، فزعم الناس أنه تاب، وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فسلا [ (3) ] حتى مات [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] يجأه: أي يضربه.
[ (3) ] الفسل من الرجال: الرذل.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1008- 1010، (سيرة ابن هشام) : 5/ 202- 203، تقوّل ابن اللصيت، عن ابن إسحاق.(5/117)
[ثاني وعشرون: استقاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد قحط المطر، فسقاهم اللَّه تعالى ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما استسقاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد قحط المطر فسقاهم اللَّه ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج أبو داود من حديث يونس عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: شكا الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد اللَّه تعالى ثم قال: إنكم شكوت جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم اللَّه جل وعز أن تدعوه، وقد وعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد للَّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا اللَّه يفعل ما يريد، اللَّهمّ أنت اللَّه لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت إلينا قوة وبلاغا إلى حين.
ثم رفع يديه فلم ينزل الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلّب أو حوّل رداءه وهو رافع يده، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ اللَّه عزّ وجل سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن اللَّه فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكنّ ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن اللَّه على كل شيء قدير وأني عبد اللَّه ورسوله [ (1) ] .
وذكر ابن عساكر أنه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج من بقيع الغرقد متعمما بعمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين يديه، والآخر بين كتفيه، ممسكا قوسا عربية، فاستقبل القبلة فكبر، وصلى بأصحابه ركعتين جهر بالقراءة [فيهما] ، قرأ في الأولى إذا
__________
[ (1) ] (عون المعبود) : 4/ 25- 27، جمّاع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1170) ، قال أبو داود: هذا حديث غريب إسناده جيد.
أهل المدينة يقرءون ملك يوم الدين، وإن هذا الحديث حجّة لهم.(5/118)
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ (1) ] ، والثانية وَالضُّحى [ (2) ] ، ثم قلب رداءه، ثم حمد اللَّه وأثنى عليه، ثم رفع يديه فقال ... ، الحديث.
ذكره من حديث أحمد بن [] [ (3) ] ، حدثنا سعيد بن مسلم حدثني سلامة بن سليم- يقال: ابن سلمة- عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قحط الناس على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج من المدينة إلى بقيع الغرقد ...
وخرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء [ (4) ] ، وخرجه أبو داود أيضا ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان يستسقي هكذا- يعني ومد يديه وجعل بطونها مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه [ (5) ] .
[وللإمام أحمد من حديث هارون بن معروف قال: قال ابن وهب: أخبرنا حيوة، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التميمي، عن عمير مولى أبي اللحم، أنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت [ (6) ] قريبا من الزوراء قائما يدعو، يستسقي رافعا كفيه لا يجاوز بهما رأسه، مقبل بباطن كفّيه إلى وجهه] [ (7) ] .
وخرجه الترمذي من حديث قتيبة قال: حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن عبد اللَّه، عن عمير مولى آبى اللحم، عن آبى اللحم، أنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عند أحجار الزيت [ (6) ] يستسقي، وهو مقنع بكفيه [ (8) ] يدعو [ (9) ] .
__________
[ (1) ] التكوير: 1.
[ (2) ] الضحى: 1.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 442، كتاب الاستسقاء، باب (1) رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (896) .
[ (5) ] (عون المعبود) : 4/ 24، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1167) ، (1168) .
[ (6) ] أحجار الزيت: موضع بالمدينة من الحرة، سميت بذلك لسواد أحجارها، كأنها طليت بالزيت.
[ (7) ] (مسند أحمد) : 6/ 293، حديث رقم (21437) ، وفي (خ) سياقه مضطرب ونسبه الناسخ للإمام مسلم.
[ (8) ] في (خ) : «مقنعا بكفيه يدعو» ، وما أثبتناه من رواية الترمذي.
[ (9) ] (تحفة الأحوذي) : 3/ 107- 108، باب صلاة الاستسقاء، حديث رقم (554) .(5/119)
قال أبو عيسى: هكذا قال قتيبة في هذا الحديث عن آبي اللحم، ولا نعرف له عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد، وعمير مولى آبي اللحم قد روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحاديث وله صحبة [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنّ رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما يخطب، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول اللَّه! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللَّه يغيثنا، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه ثم قال: اللَّهمّ أغثنا ... اللَّهمّ أغثنا ... اللَّهمّ أغثنا....
قال أنس: ولا واللَّه ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا واللَّه ما رأينا الشمس ستّا، قال: دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما فقال:
يا رسول اللَّه! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللَّه يمسكها عنا.
قال: فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه ثم قال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمّ على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر،
قال:
فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ فقال: ما أدري [ (2) ] . ترجم عليه البخاري باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، وقال فيه مسلم: اللَّهمّ حولنا ولا علينا.
__________
[ (1) ] آبى اللحم بالمد: اسم رجل من قدماء الصحابة، سمى بذلك لامتناعه عن أكل اللحم أو لحم ما ذبح على النصب في الجاهلية، اسمه عبد اللَّه بن عبد الملك، استشهد يوم حنين.
وأخرجه أيضا النسائي في (السنن) : 3/ 177، حديث رقم (193) ، وأبو داود في (السنن) : 4/ 22، أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1165) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 645، كتاب الاستسقاء، باب (7) الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، حديث رقم (1014) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 443، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (897) ، (سنن النسائي) : 3/ 179- 180، كتاب الاستسقاء، باب (10) ذكر الدعاء، حديث رقم (1517) .(5/120)
وخرجه البخاري من حديث أنس بن عياض قال: حدثنا شريك بن عبد اللَّه ابن أبي نمرّ، سمع أنس بن مالك يذكر أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما فقال: يا رسول اللَّه ... ، الحديث إلى آخره بنحو حديث إبراهيم بن جعفر غير أنه قال: اللَّهمّ اسقنا.. اللَّهمّ اسقنا.. اللَّهمّ اسقنا، وقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمّ على الآكام والجبال، والظراب والأودية ومنابت الشجر، [فانقطعت] [ (1) ] ... ، الحديث.
وخرج البخاري [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث مالك، عن شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع اللَّه، فدعا فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! تهدمت البيوت وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
ترجم عليه البخاري باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم.
وخرج في باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء، وقال فيه: فقال:
تهدمت البيوت وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فقال: اللَّهمّ على الآكام والظراب والأودية [ (4) ] ... ، الحديث.
وخرجه في باب الدعاء إذا انقطعت السبل من كثرة المطر، وقال فيه: فدعا
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 636- 637، باب (6) الاستسقاء في المسجد الجامع حديث رقم (1013) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 647، كتاب الاستسقاء، باب (12) إذا استسقوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم، حديث رقم (1019) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 3/ 177، كتاب الاستسقاء، باب (9) كيف يرفع، حديث رقم (1514) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 2/ 646، كتاب الاستسقاء، باب (9) من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء حديث رقم (1016) .(5/121)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمطروا من جمعة إلى جمعة، فجاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا رسول اللَّه ... ، الحديث، غير أن فيه: ورءوس الجبال [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث الأوزاعي، قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: أصاب الناس سنة على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، قام أعرابي- وقال مسلم: فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة إذا قال [أعرابي يا رسول اللَّه] ! هلك المال وضاع العيال فادع اللَّه لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة ماء، فو الّذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال.
ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد ومن بعد الغد، والّذي يليه حتى الجمعة الأخرى،
فقام ذلك الأعرابي- أو قام غيره- فقال يا رسول اللَّه! تهدم البناء وغرق المال، فادع اللَّه لنا، فرفع يديه [وقال] : اللَّهمّ حوالينا لا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجونة، وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ترجم عليه البخاري باب: الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة. وقال فيه مسلم: فما يشير إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجونة، وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا أخبر بجود. وخرجه البخاري أيضا في الاستسقاء في باب من تمطّر في المطر حتى يتحادر على لحيته، [بنحوه] أو قريب منه [ (2) ] .
وخرج البخاري ومسلم والنسائي رضي اللَّه عنهم من حديث ثابت عن أنس
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 646، كتاب الاستسقاء، باب (10) الدعاء إذا انقطعت السبل من كثرة المطر، حديث رقم (1017) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 524- 525، كتاب الجمعة، باب (35) الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، حديث رقم (933) ، 2/ 660، كتاب الاستسقاء، باب (24) من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته، حديث رقم (1033) ، وقوله: «تمطّر» بتشديد الطاء، أي تعرض لوقوع المطر، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 445، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (9) من أحاديث الباب.(5/122)
ابن مالك قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا:
يا رسول اللَّه! قحط المطر واحمرّت الشجر وهلكت البهائم، فادع اللَّه لنا أن يسقينا، فقال: اللَّهمّ اسقنا مرتين، وأيم اللَّه ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت وانقطعت السبل، فادع اللَّه يحبسها عنا.
فتبسّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، فكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي شكل الإكليل.
ترجم عليه البخاري باب الدعاء إذا كثر المطر حوالينا ولا علينا [ (1) ] .
وخرجه مسلم بنحوه وزاد: وألف اللَّه بين السحاب ومكثنا، حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله [ (2) ] ، وخرجه من حديث أسامة أن حفص ابن عبد اللَّه بن أنس حدثه أنه سمع أنس بن مالك يقول: جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الجمعة وهو على المنبر ... ، واقتصّ الحديث وزاد: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ، وأبو داود [ (5) ] وقاسم بن أصبغ من حديث حماد عن عبد
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 651، كتاب الاستسقاء، باب (14) الدعاء إذا كثر المطر: «حوالينا ولا علينا» ، حديث رقم (1021) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 446، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (10) من أحاديث الباب، والإكليل بكسر الهمزة:
قال أهل اللغة: هي العصابة، وتطلق على كل محيط بالشيء، (سنن النسائي) : 3/ 178- 179، كتاب الاستسقاء، باب (10) وذكر الدعاء، حديث رقم (1516) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 447، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (12) من أحاديث الباب.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 447، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (12) من أحاديث الباب.
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 729، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3582) .
[ (5) ] (عون المعبود) : 4/ 27- 28، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1171) .(5/123)
العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فبينما هو يخطب بهم جمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول اللَّه، هلك الكراع وهلك الشاء، فادع اللَّه لنا أن يسقينا، فمد يديه فدعا، قال أنس: وإن السماء كمثل الزجاجة، فهاجت ريح أنشأت سحابا، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عز اليها.
فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم نزل نمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل فقال: يا رسول اللَّه! تهدمت البيوت فادع اللَّه أن يحبسه، فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قال: حوالينا ولا علينا، فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة كأنه إكليل.
ولفظهم فيه متقارب جدا، وانتهى قاسم إلى قوله: إلى الجمعة الأخرى، ثم أحاله على حديث مالك المتقدم.
وخرج البخاري من حديث أبي عوانة، عن قتادة عن أنس، ومن حديث سعيد عن قتادة عن أنس، أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يخطب بالمدينة فقال: قحط المطر فاستسق ربك، فنظر إلى السماء وما نرى من سحاب، فاستسقي فنشأ السحاب بعضه إلى بعض ثم مطروا حتى سالت مثاعب المدينة، فما زالت إلى الجمة المقبلة ما تقلع.
ثم قام ذلك الرجل أو غيره والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب، فقال: غرقنا، فادع ربك يحبسها عنا، فضحك ثم قال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا- مرتين أو ثلاثا- فجعل السحاب يتصدع عن المدينة يمينا وشمالا، يمطر ما حوالينا ولا يمطر منها على شيء، يريهم اللَّه كرامة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم وإجابة دعوته.
ذكره في كتاب الأدب في باب التبسم والضحك [ (1) ] ، وذكره في [كتاب] الدعاء في باب الدعاء غير مستقبل القبلة من حديث أبي عوانه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 618، كتاب الأدب، باب (68) التبسم والضحك، حديث رقم (6093) ، قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب، وما يليها وتسمى النواجذ.
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 172، كتاب الدعوات، باب (24) الدعاء غير مستقبل القبلة، حديث رقم (6342) .(5/124)
وخرج قاسم بن أصبغ من حديث سهل بن يوسف، عن حميد قال: سئل أنس:
هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء؟ فقال: نعم، شكى الناس إليه ذات جمعة فقالوا يا رسول اللَّه! قحط المطر وأجدبت الأرض وهلك المال، قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وما في السماء قزعة سحابة، فما صلينا حتى أن الشاب القوي القريب المنزل ليهمنه الرجوع إلى منزله، قال: فدامت علينا جمعة، قال:
فقالوا: يا رسول اللَّه؟ تهدمت الدور واحتبس الركبان، قال: فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من سرعة ملالة ابن آدم فقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، فأصحت السماء.
وذكر البخاري- غفر اللَّه ذنوبه- في باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، من حديث سليمان بن بلال قال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس ابن مالك [يقول:] أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الجمعة فقال: يا رسول اللَّه! هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه يدعو، ورفعوا أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، يشق المسافر ومنع الطريق [ (1) ] .
وذكر أبو عمر بن عبد البر- رحمة اللَّه عليه- عن موسى بن عقبة، أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقد أجدبت عليهم السنة، فقال: يا رسول اللَّه! إنه مرت بنا سنون كسنى يوسف، فادع اللَّه لنا، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المنبر يجر رداءه وحوّله عن كتفه ثم قال: اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا هزجا نجحا، فما استتم الدعاء حتى استقلت سحابة تمطر سحا، فلم يزل كذلك حتى قدم أهل الأسافل يصيحون: الغرق، فضحك عليه السلام حتى بدت نواجذه ثم قال: للَّه درّ أبو طالب! لو كان حاضرا لقرت عيناه، أما منكم أحد ينشدني شعره؟ فقام علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 656، كتاب الاستسقاء، باب (21) ، رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، حديث رقم (1029) ، وقد تضمنت هذه الترجمة الرد على من زعم أنه يكتفي بدعاء الإمام في الاستسقاء.(5/125)
فقال: لعلك تريد [يا] رسول اللَّه قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقال الأعرابي- وكان من مزينة-:
للَّه الحمد والحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر
دعا ربه المصطفى دعوة ... فأسلم معها إليه البصر
فلم يك إلا أن ألقى أفردا ... وأسرع حتى لقينا الدرر
ولم ترجع الكف عند الدعا ... إلى النحر حتى أفاض الغدر
سحاب وما في أديم السما ... سحاب يراه الحديد النظر
فكان كما قال عمه ... وأبيض يسقي به ذو غدر
به ينزل اللَّه غيث السما ... فهذا العيان لذاك الخبر
فمن يشكر اللَّه يلقى المزيد ... ومن يكفر اللَّه [يلق] الغبر
قال موس بن عقبة: فأمر له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم راحلتين وكساه صلّى اللَّه عليه وسلم ثوبا.
قال أبو عمر- رضي اللَّه عنه-: وقد روي هذا الخبر عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه بغير هذه الألفاظ، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! أتيناك وما لنا صبي يصطبح، ولا بعير يئط [ (1) ] ، وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه وخرّ استكانة ... من الجوع هرما ما يمر وما يحلى
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العافي والغلمة الفشل
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟
فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه ثم قال: اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا مريا مريعا طبقا واسعا، نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
__________
[ (1) ] يئط: بفتح أوله وكسر الهمزة، وفي رواية: يغط بالمعجمة، والأطيط: صوت البعير المثقل، والغطيط:
صوت النائم كذلك، وكنّى بذلك عن شدة الجوع، لأنهما إنما يقعان غالبا عن الشبع، (فتح الباري) : 2/ 629.(5/126)
قال: فما ردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه حتى التفت السماء بأزواجها، وجاء أهل البطاح يضجون: الغرق ... الغرق، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، فضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: للَّه در أبي طالب، لو كان حيا لقرت عيناه، من ينشدني قوله: فقال علي رضي اللَّه عنه: أنا يا رسول اللَّه، لعلك تريد قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلّال من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت اللَّه يبزي محمدا ... ولما نقاتل حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أجل، فقام رجل من كنانة فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكر ... [سقينا بوجه النبي المطر]
فذكر الأبيات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن بك شاعرا حسن، فقد أحسنت.
وخرج البخاري- رضي اللَّه عنه ورحمه- من حديث عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار، عن أبيه، سمعت أن عمر يتمثل بشعر أبي طالب يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل [ (1) ]
وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم عن أبيه، ربما ذكرت قول الشاعر وأنا انظر إلى وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 628، كتاب الاستسقاء، باب (3) سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث رقم (1008) .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (1009) ، قال الحافظ في (الفتح) : قال السهيليّ: فإن قيل: كيف قال أبو طالب: «يستسقى الغمام بوجهه» ، ولم يره قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟
وأجاب بما حاصله: إن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم معه غلام.
ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد-(5/127)
هكذا أورد البخاري- رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث تعليقا، وقد أسنده تقي ابن مخلد فقال: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو النصر، حدثنا أبو عقيل عبد اللَّه بن عقيل، حدثنا علي بن حمزة، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تعالى عنهما- حدثنا سالم عن أبيه- رحمة اللَّه تعالى عليه- قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا انظر إلى وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على المنبر يستسقى، فما ينزل- عليه الصلاة والسلام- حتى يجيش كل ميزاب، فأذكر قول الشاعر حيث يقول- وهو قول أبي طالب-:
وأبيض [ (1) ] يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال [ (2) ] اليتامى عصمة [ (3) ] للأرامل [ (4) ]
__________
[ () ] وقوعه. وذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره بحيرا أو غيره من شأنه.
ومعرفة أبي طالب بنبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جاءت في كثير من الأخبار، وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلما. ورأيت لعلي بن حمزة البصري جزءا جمع فيه شعر أبي طالب، وزعم في أوله أنه كان مسلما، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية تزعم أنه مات على الكفر، وأنهم لذلك يستجيزون لعنه، ثم بالغ في سبهم والردّ عليهم، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه.
وقد بين الحافظ ابن حجر فساد ذلك كله في:
- ترجمة أبي طالب من كتاب (الإصابة) .
- ترجمة أبي طالب من كتاب مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في شرح البخاري، (فتح الباري) : 2/ 631 مختصرا.
[ (1) ] قوله: «وأبيض» بفتح الضاد، وهو مجرور بربّ مقدّرة، أو منصوب بإضمار أعنى أو أخص، والراجح أنه بالنصب عطفا على قوله: «سيدا» في البيت الّذي قبله:
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... يحوط الذمار بين بكر ووائل
[ (2) ] قوله: «ثمال» بكسر المثلثة وتخفيف الميم: هو العماد، والملجأ، والمطعم، والمعين، والمغيث، والمكافئ، وقد أطلق على كل من ذلك.
[ (3) ] عصمة: أي يمنعهم مما يضرهم.
[ (4) ] الأرامل: جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضا مجازا.
وهذا البيت من أبيات قصيدة طويلة، ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، [وهي أكثر من تسعين بيتا] ، أولها:
ولما رأيت القوم لاودّ فيهم ... وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل
وآخرها
فإن تك كعب من لؤيّ صقيبة ... فلا بدّ يوما مرة من تزايل
قال ابن هشام بعد أن أوردها كاملة وشرح غريبها: هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. (سيرة ابن هشام) : 2/ 108- 116، شعر أبي طالب في معاداة خصومه.(5/128)
وخرج أبو محمد بن حبان من حديث مروان بن أبي معاوية قال: حدثنا محمد ابن أبي ذؤيب المدني، عن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن حاطب الجمحيّ، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي [ (1) ] قال: لما قفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من غزوة تبوك، أتاه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا، فيهم: خارجة بن حصن، والجدّ [ (2) ] ابن قيس- وهو أصغرهم، ابن أخي عيينة بن حصن- فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل ضعاف عجاف وهم مسنتون، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقرين بالإسلام فسألهم عن بلادهم فقالوا: يا رسول اللَّه أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وعريت عيالنا، وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا وتشفّع لنا إلى ربك ويشفع ربك إليك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبحان اللَّه!! ويلك، أنا شفعت إلى ربي، فمن ذا الّذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرّحل الجديد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو يزيد بن عبيد أبو وجزة- بفتح الواو وسكون الجيم بعدها زاي، كما في (التقريب) - السعديّ المدني الشاعر، ذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال الواقدي ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير وغيرهما: مات سنة ثلاثين ومائة، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة، وقال: كان ثقة قليل الحديث، شاعرا عالما، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وحكى المرزباني قولا: أن اسم أبيه مسلم. (تهذيب التهذيب) : 11/ 305، ترجمة رقم (569) .
ويزيد بن عبيد هذا له في (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) حديثان: رقم (5211، 5215) ، ليس من بينهما هذا الحديث. (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 18/ 272، فهرس الرواة.
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «الحرّ بن قيس» مضبوطة بضم الحاء والراء، وهو خطأ، وما أثبتناه من (خ) ، وابن هشام في (السيرة) ،
والجد بن قيس هذا هو الّذي قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا جدّ، هل لك العام في جلاد بني الأصفر- يعني الروم- فقال: يا رسول اللَّه، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو اللَّه لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدّ عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: قد أذنت لك.
ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة: 49] ، أي إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه.
(سيرة ابن هشام) : 5/ 195- 196. غزوة تبوك.
[ (3) ] إنما هو كلام تقريب، أريد به تقريب عظمة اللَّه عزّ وجلّ، وفي الحديث: العرش على منكب إسرافيل وإنه ليئطّ أطيط الرّحل الجديد، يعني كور الناقة أي أنه ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان-(5/129)
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن اللَّه ليضحك من شعثكم وأذاكم وقرب غياثكم، فقال الأعرابي: أو يضحك ربنا يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول اللَّه من رب يضحك خيرا، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من قوله، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصعد المنبر، وتكلم بكلمات ورفع يديه- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء- فرفع يديه صلّى اللَّه عليه وسلم رئي بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: اللَّهمّ اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا، مريا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللَّهمّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللَّهمّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء.
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول اللَّه! إن التمر في المرابد فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا فقال أبو لبابة: يا رسول اللَّه إن التمر في المرابد [ثلاث مرات] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اللَّهمّ اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره.
قال: فلا واللَّه ما في السماء من قزعة سحاب، وما بين المسجد وسلع [ (1) ] من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع [ (1) ] سحابة مثل التّرس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون ثم أمطرت، فو اللَّه ما رأوا الشمس ستّا، فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا [يخرج] [ (2) ] التمر منه.
فقال الرجل- يعني الّذي سأله أن يستسقى لهم-: [يا رسول اللَّه] [ (2) ] هلكت الأموال وانقطعت السبل، فصعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه مدا حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانجابت السحابة عن المدينة انجياب الثوب [ (3) ] .
__________
[ () ] معلوما أن أطيط الرّحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله، وفي حديث الاستسقاء:
لقد أتيناك وما لنا بعير يئطّ، أي يحنّ ويصيح، يريد ما لنا بعير أصلا، لأن البعير لا بدّ أن يئط. وفي المثل: لا آتيك ما أطّت الإبل. (لسان العرب) : 7/ 256.
[ (1) ] اسم جبل.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 143- 144، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 449، حديث رقم (371) .(5/130)
ولأبي عبد الرحمن بن أبي حاتم، من حديث عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي لبابة: عن عبد اللَّه بن المنذر الأنصاري [ (1) ] ، قال: استسقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يوم الجمعة فقال: اللَّهمّ اسقنا، [اللَّهمّ اسقنا] [ (2) ] ، فقام أبو لبابة فقال: يا رسول اللَّه، إن التمر في المرابد وما في السماء سحاب نراه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا، فقام أبو لبابة فقال: يا رسول اللَّه، إن التمر في المرابد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا حتى يقوم أبو لبابة يسد ثعلب مربده بإزاره، فأزبدت السماء وأمطرت، وصلى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
ثم طاف الأنصار بأبي لبابة يقولون له: يا أبا لبابة، إن السماء واللَّه لن تقلع حتى تقوم عريانا تسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده [ (3) ] بإزاره، فأقلعت السماء [ (4) ] .
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن أيوب قال: حدثنا ابن زحر، عن علي ابن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي قال: قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما ضحى في المسجد، فكبر ثلاث تكبيرات ثم قال: اللَّهمّ اسقنا- ثلاثا- اللَّهمّ ارزقنا سمنا، ولبنا، وشحما، وما نرى في السماء سحابا، فثارت ريح وغبرة، ثم اجتمع سحاب فغمت السماء، فصاح أهل الأسواق، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وانصرفت أمشي بمشيه وهو يقول: هذا أحدثكم عهدا بربه [ (5) ] .
وخرج من حديث شبابة قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة: عن سالم ابن أبي الجعد، بن السبط قال لكعب بن مرة- أو مرة بن كعب- البهري، حدّثنا بحديث سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للَّه أبوك، واحذر، قال: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: يا رسول اللَّه! إن قومك قد هلكوا فادع اللَّه لهم، قال شعبة: وزاد حبيب بن أبي ثابت فيه بهذا الإسناد، أن أبا سفيان قال
__________
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «عن أبي أمامة بن عبد المنذر الأنصاري» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] ثعلب المربد: مكان خروج الماء منه، والمربد: ما يجمع فيه التمر.
[ (4) ] المرجع السابق: 145.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 145.(5/131)
للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: إني أتيتك من عند قوم لم يخطم لهم فحل ولم يتزود له راع، ثم رجع إلى حديث عمرو، فقال [النبي] صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا غيثا، مغيثا، غدقا طبقا مريعا نافعا، غير ضار، عاجلا غير رائث، قال شعبة: وزاد حبيب بن أبي ثابت قال: فما لبثنا غير جمعة حتى مطرنا [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث جرير [بن حازم] قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في بعض أسفاره إذ احتاج الناس إلى وضوء، فالتمسوا في الركب ماء فلم يجدوا، فجاءني عمي معوذ بن عفراء فقال لي: يا بنية هل في إداوتك ماء يتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقلت: لا، والّذي بعثه بالحق ما فيها شيء، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: ما في الركب ماء، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأمطرت حتى استقى الناس وسقوا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 145- 146.(5/132)
[ثالث وعشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في ركي قليل الماء حتى صارت نهرا يجري]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في ركي قليل الماء حتى صارت نهرا يجري، فخرج الإمام أحمد من حديث حميد، عن يونس عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مسير، فأتينا على ركي ذمة- يعني قليلة الماء- فنزل فيها ستة أنا سادسهم ماحة، قال: فأدليت إلينا دلو، قال: ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على شفة الركى، فجعلنا فيها نصفها أو قراب ثلثيها، فرفعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [قال البراء: فكدت بإنائي هل أجد شيئا أجعله في حلقي؟ فما وجدت. فرفعت الدلو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] فمس يده فيها فقال ما شاء اللَّه أن يقول، فأعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق، قال: ثم ساحت، يعني جرت نهرا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (مسند أحمد) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 372- 373، حديث رقم (18111) .(5/133)
[رابع وعشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في البئر بقباء]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في البئر بقباء، فخرج البيهقي من حديث ابن هيثم بن طهمان، عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أتاهم بقباء فسألهم عن بئر هناك، قال: فدللته عليها فقال: لقد كانت هذه وإن الرجل لينضح على حماره فينزح [ (1) ] ، فيستخرجها له، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأمر بذنوب [ (2) ] فسقى، فإما أن يكون توضأ منه أو تفل فيه، ثم أمر به فأعيد في البئر، قال:
فما نزحت [ (3) ] بعد،
قال: فرأيته بال ثم جاء فتوضأ ومسح على خفيه ثم صلى [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «فيستريح» .
[ (2) ] الذنوب: هو الدلو.
[ (3) ] في (خ) : «فما برحت» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 136، باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلّى اللَّه عليه وسلم، (البداية والنهاية) : 6/ 101.(5/134)
[خامس وعشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في بئر قليلة الماء، بعث إليها بحصيات ألقيت فيها فغزر ماؤها]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في بئر قليلة الماء، بعث إليها بحصيات ألقيت [فيها] فغزر ماؤها،
فخرج أبو نعيم من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن [أنعم] عن زياد بن نعيم الحضرميّ، عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فبايعته على الإسلام، ثم أتى وفد من قومي بإسلامهم، ثم قالوا: يا رسول اللَّه! إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها فاجتمعنا إليه، فإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وإنا لا نستطيع أن نتفرق اليوم [ولنا عدو] ، فادع اللَّه لنا أن يسقينا ماؤها، فدعى بسبع حصيات فعركهن بيده ودعا، ثم قال: إذا أتيتموها فألقوها واحدة واحدة واذكروا اسم اللَّه عليها، قال: فما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعدها [ (1) ]
وسيأتي حديث ابن زياد هذا بطوله.
وقال الواقدي في غزوة تبوك: قالوا: وقدم نفر من بني سعد هذيم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنا قدمنا عليك وتركنا أهلنا على بئر لنا قليل ماؤها، وهذا القيظ ونحن نخاف إن تفرقنا أن تقطع، لأن الإسلام لم يفش حولنا بعد، فادع اللَّه لنا في ماء بئرنا، وإن روينا به فلا قوم أعزّ منا، لا يعير بنا أحد مخالف لديننا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أبلغوني حصيات! فتناولت ثلاث حصيات فدفعتهن إليه، فعركهن بيده ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم، فاطرحوها واحدة واحدة وسمّوا اللَّه.
قال: فانصرفوا من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ففعلوا ذلك، فجاشت بئرهم بالرواء، ونفوا من قاربهم من المشركين ووطئوهم، فما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطئوا من حولهم غلبة ودانوا بالإسلام [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 412- 413، حديث رقم (321) بسنده لكن بسياقة أخرى.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1034- 1035.(5/135)
قال المؤلف- عفى اللَّه عنه ورحمه: في حديث زياد بن الحرث الصدائي أنها بئر قومه، فإما أن يريد قبيلته من صداء، فهم بطن من مدحج، وصداء حلفاء بني الحرث بن كعب بن عمرو بن علة، وإما أن يريد بقومه اليمن، فإن صداء حي من اليمن، وأما الّذي خبّر الواقدي رحمه اللَّه: فإن البئر لسعد هذيم، وسعد هذيم من قضاعة، وقضاعة من اليمن، فإنّهم بنو سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وهذيم عبد حبشيّ حضن سعدا ورباه فغلب عليه فقيل: سعد هذيم، ومن بني سعد هذيم بنو عذرة، فاحتمل أن يكون ما في حديث زياد بن الحارث وما في خبر الواقدي قصة واحدة، واحتمل أن يكون ذلك كان مرتين في بئرين، واللَّه أعلم أيّ ذلك كان.(5/136)
[سادس وعشرون: إفاقة جابر بن عبد اللَّه]
وأما إفاقة جابر بن عبد اللَّه- وقد أغمي عليه- لما صب عليه من وضوئه صلّى اللَّه عليه وسلم فخرج البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: مرضت فأتاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي عليّ فتوضأ ثم صب عليّ من وضوئه فأفقت فقلت:
يا رسول اللَّه! كيف أقضي في مالي؟ فلم يردّ عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ (1) ] .
وفي لفظ البخاري: عن محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد اللَّه يقول:
مرضت فعادني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وهما ماشيان، فأتاني وقد أغمي عليّ، فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصبّ عليّ وضوءه فأفقت فقلت: يا رسول اللَّه! كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني [النبي] صلّى اللَّه عليه وسلم حتى نزلت آية الميراث. وذكره في أول كتاب الفرائض [ (2) ] ، وذكره في كتاب المرضى [ (3) ] في باب عيادة المغمى عليه بنحو منه.
__________
[ (1) ] هذا لفظ مسلم، ذكره في كتاب الفرائض، باب (2) ميراث الكلالة، حديث رقم (1616) وذكره أيضا من طرق كلها عن محمد بن المنكدر (مسلم بشرح النووي) : 11/ 60- 62، وفي هذا الحديث فضيلة عيادة المريض واستحباب المشي فيها* وفيه التبرك بآثار الصالحين وفضل طعامهم وشرابهم ونحوهما، وفضل مؤاكلتهم ومشاربتهم ونحو ذلك* وفيه ظهور آثار بركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم* وفيه الاستدلال على طهارة الماء المستعمل في الوضوء والغسل، ردا على أبي يوسف القائل بنجاسته، وهي رواية عن أبي حنيفة، وفي الاستدلال به نظر، لأنه يحتم أنه صب من الماء الباقي في الإناء، ولكن قد يقال البركة العظمى فيما لاقى أعضاءه صلّى اللَّه عليه وسلم في الوضوء* وفيه جواز وصية المريض وإن كان يذهب عقله في بعض أوقاته، بشرط أن تكون الوصية في حال إفاقته وحضور عقله* وفيه دليل على عدم جواز اجتهاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في الأحكام، حيث لم يردّ عليه شيئا رجاء أن ينزل الوحي. (المرجع السابق مختصرا) ، والآية: 176. النساء.
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 1، كتاب الفرائض، باب (1) قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، حديث رقم (6723) والآية: 11 من سورة النساء.
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 140- 141، باب (5) عيادة المغمى عليه، حديث رقم (5651) ، و «المغمى عليه» أي الّذي يصيبه غشي تتعطل معه قوته الحساسة. قال ابن المنير: فائدة(5/137)
وخرج البخاري ومسلم والنسائي، من حديث هشام بن أبي جريج، أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر عن جابر قال: عادني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت: يا رسول اللَّه! ما تأمرني أن أصنع في [مالي؟ فنزلت] :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الآية [ (1) ] .
وخرجه مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد قال: حدثنا محمد بن جريج، فذكراه بنحو أو قريب منه [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث شعبة قال: أخبرني محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ فصبوا عليّ من وضوئه [فعقلت، فقلت] : يا رسول اللَّه! إنما ترثني كلالة، فنزلت آية الميراث فقلت لمحمد بن المنكدر: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ قال: هكذا أنزلت.
ذكره البخاري في مواضع، من كتاب الفرائض وغيره [ (3) ] .
__________
[ () ] الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده، ولكن ليس في حديث جابر التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته، فلعله وافق حضورهما.
قال الحافظ ابن حجر: بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال مجيئهما وقبل دخولهما عليه، ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض، والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ، إلى غير ذلك. (المرجع السابق) : 141.
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 308، كتاب التفسير، باب (4) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ، حديث رقم (4577) ، (مسلم بشرح النووي) : 11/ 61، كتاب الفرائض، باب (2) ميراث الكلالة، حديث رقم (6) من أحاديث الباب، (سنن النسائي) : 1/ 93، كتاب الطهارة، باب (103) الانتفاع بفضل الوضوء، حديث رقم (136) .
[ (2) ] في (مسلم) : الحديث رقم (7) ، (8) من أحاديث الباب، وفي (النسائي) : الحديث رقم (138) من أحاديث الباب. ر: التعليق السابق.
[ (3) ] سبقت الإشارة إليه.(5/138)
[سابع وعشرون: نشاط البعير الّذي قد أعيا ببركة وضوئه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما نشاط البعير الّذي قد أعيا ببركة وضوئه صلّى اللَّه عليه وسلم لما رشّه عليه وسقاه من وضوئه، فقال الواقدي في (كتاب المغازي) : حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه قال: خرجت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بدر، وكان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا، فكنت أنا وأخي خلاد بن رافع على بكر لنا، ومعنا عبيد بن يزيد بن عامر، فكنا نتعاقب، فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء [ (1) ] أذم بنا بكرنا فبرك علينا وأعيا، فقال أخي: اللَّهمّ إن لك عليّ نذرا لئن رددتنا المدينة لأنحرنّه.
قال: فمر بنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ونحن على تلك الحال، فقلنا يا رسول اللَّه برك علينا بكرنا، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بماء، فمضمض وتوضأ في إناء، قال: افتحا فاه، ففعلنا ثم صبّه في فيه، ثم على رأسه، ثم على عنقه، ثم على حاركه [ (2) ] ، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال: اركبا، ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلحقناه أسفل المنصرف [ (3) ] ،
وإن بكرنا لينفر بنا حتى إذا كنا بالمصلى [ (4) ] راجعين من بدر برك علينا، فنحره أخي فقسم لحمه وتصدق به [ (5) ] .
__________
[ (1) ] الروحاء: موضع على ليلتين من مكة بينهما أحد وأربعون ميلا.
[ (2) ] الحارك: أعلى الكاهل، وهو عظم مشرف من جانبيه، ومنبت أدنى العرف إلى الظهر الّذي يأخذ به من يركبه.
[ (3) ] المنصرف: موضع بين مكة وبدر، وبينهما أربعة برد.
[ (4) ] المصلى: لغة: موضع الصلاة، وهو هنا موضع بعينه في عقيق المدينة كما ذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) : 5/ 168، موضع رقم (11309) .
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 25.(5/139)
[ثامن وعشرون: عذوبة الماء بريقه المبارك]
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عبد اللَّه الأنصاري قال: حدثني أبي عن ثمامة، عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي فيطيل القيام، وإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بزق في بئر داره، قال: فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، قال: وكانوا إذا حضروا استعذب لهم منها، وكانت تسمى في الجاهلية البرود [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 444، باب بوله وغائطه، حديث رقم (366) وقال فيه: «بال في بئر داره» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهذا الحديث انفرد به أبو نعيم، حيث لم أجده عند غيره.
والبرود: بالفتح ثم الضم وسكون الواو ودال مهملة، قال يعقوب: البرود فيما بين ملل وبين طرف جبل جهينة. قال: والبرود أيضا بطرف حرة النار أودية يقال لهن البوادر. والبرود: واد فيه بئر بطرف حرة ليلى، قال: والبرود قرب رابغ، ورابغ بين الجحفة وودّان، (معجم البلدان) :
1/ 481، موضع رقم (1823) ، والبرود، اسم ماء لبني بدر، من بني ضمرة، (معجم ما استعجم) : 1/ 246.(5/140)
[تاسع وعشرون: حبس الدمع بما نضحه صلّى اللَّه عليه وسلم في وجه امرأة]
وأما حبس الدمع بما نضحه صلّى اللَّه عليه وسلم في وجه امرأة، فخرج أبو نعيم من حديث بشار بن عبد الملك قال حدثتني جدتي أم حكيم قالت: سمعت أم إسحاق تقول:
هاجرت مع أخي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة، فلما كنت في بعض الطريق قال لي أخي: اقعدي يا أم إسحاق [ (1) ] ، فإنّي نسيت نفقتي بمكة، فقلت: إني أخشى عليك الفاسق زوجي، قال: كلا إن شاء اللَّه، قالت: فأقمت أياما فمرّ بي رجل قد عرفته ولا أسميه، فقال: يا أم إسحاق! ما يجلسك هاهنا؟ قلت: انتظر إسحاق، قال:
لا إسحاق لك، قد قتله زوجك، فتحملت حتى قدمت المدينة، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يتوضأ، فقمت بين يديه فقلت: يا رسول اللَّه! قتل إسحاق، وجعلت كلما انظر إليه نكّس [في الوضوء] [ (2) ] ثم أخذ كفا من ماء فنضحه في وجهي.
قال: قالت جدتي: فقد كانت تصيبها المصيبة فنرى الدموع في عينيها فلا تسيل على خديها [ (3) ] . [قال ابن عبد البر: أم إسحاق الغنوية هاجرت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يروي عنها أهل البصرة] [ (4) ] ، [حديثها فيمن أكل ناسيا غريب الإسناد] [ (5) ] .
__________
[ (1) ] اسمها فاطمة، وقيل: جويرية، وهي التي هاجرت الهجرتين: إلى أرض الحبشة وإلى المدينة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 467- 468، قصة أم إسحاق، حديث رقم (399) ، وذكره البخاري في (التاريخ الكبير) : 2/ 129، ترجمة رقم (1931) ، وبشار بن عبد الملك ذكره ابن حبان في (الثقات) : 6/ 113.
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] زيادة من (الاستيعاب) : 4/ 1925، ترجمة رقم (4120) .(5/141)
[ثلاثون: ذهاب الحزن وسرور النفس ببركة ما غمس فيه يده الكريمة صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما ذهاب الحزن وسرور النفس ببركة ما غمس فيه يده الكريمة صلّى اللَّه عليه وسلم، ومضمض فاه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال الواقدي- رحمه اللَّه- في غزوة بدر: بينا حارثة بن سراقة كارعا [ (1) ] في الحوض، إذ أتاه سهم غرب، فوقع في نحره، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه، فبلغ أمه وأخته- وهم بالمدينة- مقتله، فقالت أمه: واللَّه لا أبكي عليه حتى يقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأسأله، فإن كان ابني في الجنة لم أبك عليه، وإن كان ابني في النار بكيته [لعمر اللَّه] [ (2) ] فأعولته.
فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بدر، جاءت أمه فقالت: يا رسول اللَّه، قد عرفت موقع حارثة من قلبي [فأردت أن] [ (2) ] ، أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإن كان في الجنة لم أبك عليه وإن كان في النار بكيته فأعولته، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أهبلت!؟ جنة واحدة، إنها جنان كثيرة، والّذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى، قالت: فلا أبكي عليه أبدا، ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بإناء من ماء، فغمس يده فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت، ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما ففعلتا، فرجعتا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسرّ. هكذا أورد محمد بن عمر الواقدي هذا الحديث في (كتاب المغازي) بغير إسناد [ (3) ] .
وقد خرج الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري في (كتاب الجامع الصحيح) ، في كتاب الرقاق، في باب صفة الجنة والنار، من حديث إسحاق عن
__________
[ (1) ] كل خائض ماء شرب أو لم يشرب. (اللسان) : 8/ 308.
[ (2) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 94، وقد ذكره الواقدي معطوفا على الخبر الّذي قبله ولعلّ الخبرين بإسناد واحد وهو: «حدثني أسامة بن زيد عن داود بن الحصين: عن رجال عن بني عبد الأشهل عدة ... » .
وقد ذكره الإمام البخاري في الفقرة التالية مما يؤكد على صحته.(5/142)
حميد قال: سمعت أنسا يقول: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك بالجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: ويحك! أهبلت؟ أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس [ (1) ]
ومن حديث إسماعيل بن جعفر، عن حميد عن أنس، أن أم حارثة أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد هلك حارثة يوم بدر- أصابه سهم غرب- فقالت: يا رسول اللَّه! قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإلا سوف ترى ما أصنع، فقال لها: أجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى [ (2) ] .
وحارثة هذا هو حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأمه أم حارثة عمه أنس بن مالك. قتله حبان ابن العرقة يوم بدر بسهم وهو يشرب من الحوض- وكان خرج نظّارا- رماه فأصاب حنجرته فقتله.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 506، كتاب الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار، حديث رقم (6550) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 509- 510، حديث رقم (6567) .(5/143)
[حادي وثلاثون: عذوبة الماء ببركته عليه السلام]
وأما عذوبة الماء ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم،
فقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن قسطاس، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي قال: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة ذي قرد على ماء يقال له بيسان [ (1) ] ، فسأل عنه فقيل: اسمه يا رسول اللَّه بيسان [ (1) ] ، وهو مالح، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا بل هو نعمان وهو طيب، فغيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اسمه، وغيّر اللَّه تبارك وتعالى الماء ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم، فاشتراه طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه [ثم تصدق به] [ (2) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم! ما أنت يا طلحة إلا فيّاض،
فبذلك سمى رضي اللَّه عنه: طلحة الفياض.
وضبطه البكري- رحمة اللَّه تعالى عليه- بفتح أوله وبالسين المهملة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] موضعان: أحدهما بالشام، والثاني بالحجاز.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع التالي.
[ (3) ] ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) : 1/ 625، موضع رقم (2354) ، وأبو عبيدة البكري في (معجم ما استعجم) : 1/ 292، كلاهما عن الزبير بن بكار.(5/144)
[ثاني وثلاثون: زيادة بقية أزواد القوم ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما زيادة بقية أزواد القوم ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم عند مرجعه من الحديبيّة ومرجعه من تبوك،
فخرج البخاري ومسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال: خفّت أزواد الناس وأملقوا، فأتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي اللَّه عنه، فأخبروه فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
[ناد] الناس فيأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك [نطعا] فجعلوه فوق النطع، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فدعا وبرّك، ثم دعاهم بأوعيتهم، فاجتنى الناس حتى فرغوا، ثم قال:
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه [ (1) ] .
وخرج مسلم والنسائي من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم قال: حدثنا عبيد اللَّه الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في مسير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى هموا بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت اللَّه عليها؟ قال:
ففعل، قال: فجاءه ذو البر ببرّه، وذو التمر بتمره، قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه، قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: يمصونه ويشربون عليه الماء، قال:
فدعا عليها، قال: حتى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد غير شاك إلا دخل الجنة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 161- 162، كتاب الشركة، باب (1) الشركة في الطعام والنهد والعروض، حديث رقم (2484) ، (فتح الباري) : 6/ 159- 160، كتاب الجهاد والسير باب (123) حمل الزاد في الغزو، وقول اللَّه عز وجل: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] ، حديث رقم (2982) ، وقول عمر رضي اللَّه عنه: «ما بقاؤكم بعد إبلكم» أي لأن توالي المشي ربما أفضى إلى الهلاك. قال ابن بطال: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام من عنده ما يفضل عن قوته أن يخرجه للبيع، لما في ذلك من صلاح الناس، وفيه جواز المشورة على الإمام بالمصلحة، وإن لم يتقدم منه الاستشارة. مختصرا من (فتح الباري) : 6/ 161.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 332- 336، كتاب الإيمان، باب (10) الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث رقم (27) .(5/145)
وخرجه النسائي من حديث أبي أسامة عن مالك- وهو ابن مغول- عن طارق أبي صالح قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مسير إذ نفذت أزواد القوم ... ، وساق الحديث مرسلا. ذكره في الجهاد [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة- أو عن أبي سعيد، شك الأعمش- قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول اللَّه! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلناها وادّهنّا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: افعلوا، قال: فجاء عمر فقال: يا رسول اللَّه! إن فعلت قال الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع اللَّه عليها بالبركة، لعل اللَّه أن يجعل في ذلك.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: نعم، قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعي بفضل أزوادهم، قال: جعل الرجل يجيء بكف ذره، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال:
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبركة وقال: خذوا في أوعيتكم، قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة [ (2) ] .
وخرج أيضا في آخر كتاب اللقطة [ (3) ] من حديث النّضر بن محمد اليمامي قال:
حدثني عكرمة- وهو ابن عمار- قال: حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجمعنا أزوادنا، فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النطع، فتطاولت لأحرزه كم هو؟ فحزرته كربضة العنز، ونحن أربع عشرة مائة
__________
[ (1) ] لعله في (السنن الكبرى) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 337- 339، حديث رقم (45) من أحاديث الباب، وفي هذا الحديث جواز خلط المسافرين أزوادهم وأكلهم مجتمعين، وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض، وقد نصّ أصحابنا على أن ذلك سنة. واللَّه تعالى أعلم (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (خ) : «الأقضية» ، وهو خطأ من الناسخ.(5/146)
قال: فأكلنا حتى شبعنا، ثم حشونا جربنا، فقال نبيّ اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فهل من وضوء؟
قال: فجاء رجل بإداوة فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشر مائة، قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فرغ الوضوء [ (1) ] .
وقال البيهقي- رحمة اللَّه عليه-: ورواه عاصم بن عبيد اللَّه، عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، وقال في غزوة تبوك، وروى عن عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاري عن أبيه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، وروى عن أبي حبيش الغفاريّ قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تهامة حتى كنا بعسفان، فذكر القصة وزاد: ثم أذن بالرحيل فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا، فنزل ونزلوا، وشربوا من ماء السماء. والأحاديث كلها متفقة في دعائه في بقية الأزواد، وإجابة اللَّه تعالى دعاءه بظهور البركة فيها حتى ملئوا أوعيتهم وفضلت فضلة [ (2) ] .
وخرج مسلم من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: لما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الحديبيّة، كلمه بعض أصحابه فقالوا:
جهدنا وفي الناس ظهر فانحره لنا فنأكل من لحومه، ولندهن من شحومه، ولنحتذي من جلوده، فقال عمر بن الخطاب: لا تفعل يا رسول اللَّه، فإن الناس إن يكن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 276- 278، كتاب اللقطة، باب (5) استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمؤاساة فيها، حديث رقم (1729) ، وربضة العنز: أي كمبركها، أو كقدرها وهي رابضة، قوله: ندغفقه دغفقة: أي نصبّه صبّا شديدا، وفي هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هما تكثير الطعام، وتكثير الماء هذه الكثرة الظاهرة، قال المازري في تحقيق المعجزة: في هذا أنه كلما أكل منه جزء أو شرب جزء، خلق اللَّه تعالى جزءا آخر، وفي هذا الحديث استحباب المواساة في الزاد، وجمعه عند قلته، وجواز أكل بعضهم مع بعض في هذه الحالة، وليس هذا من الربا في شيء، وإنما هو من نحو الإباحة، وكل واحد مبيح لرفقته الأكل من طعامه، وسواء تحقق الإنسان أنه أكل أكثر من حصته أو دونها أو مثلها، فلا بأس بهذا، لكن يستحب له الإيثار والتعلل، ولا سيما إن كان في الطعام قلة، واللَّه تعالى أعلم، مختصرا من (المرجع السابق) : 287- 288، (دلائل البيهقي) : 4/ 118- 119.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) 5/ 230- 231.(5/147)
معهم بقية ظهر أمثل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أبسطوا أنطاعكم وعباءكم، ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينتره، ودعا لهم ثم قال: قربوا أوعيتكم فأخذوا ما شاء اللَّه [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن أبي الطفيل، عن عبد اللَّه بن عباس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما نزل مرّ في صلح قريش، قال أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، لو انتحرنا من ظهورنا فأكلنا من لحومها وشحومها وحسونا من المرق وأصبحنا غدا إذا غدونا عليهم وبنا جمام، قال: لا، [ولكن ائتوني] [ (2) ] بما فضل من أزوادكم، فبسطوا أنطاعا ثم صبوا عليها فضول ما فضل من أزوادهم، فدعا عليهم [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبركة، فأكلوا حتى تضلعوا، [شبعا] [ (2) ] ثم لفّفوا ما فضل من أزوادهم في جربهم [ (4) ] .
وقال الواقدي في مغازيه: قام [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالحديبية بضعة عشرة يوما- ويقال: عشرين ليلة- فلما انصرف من الحديبيّة نزل بمر الظهران، ثم نزل عسفان فأرملوا [ (6) ] من الزاد، فشكى الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنهم قد بلغوا [ (7) ] الجهد من الجوع، [وفي الناس ظهر وقالوا:] [ (8) ] ، ننحر يا رسول اللَّه وندّهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاء، فأذن لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأخبر بذلك عمر ابن الخطاب، فجاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يكن في الناس بقية ظهر يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم، ثم ادع اللَّه فيها، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقية من زاد
__________
[ (1) ] لم أجده بهذه السياقة في (صحيح مسلم) ، ولكن أحاديث الباب تؤيده وتشهد على صحته، وقد رواه البيهقي في (دلائل النبوة) : 4/ 119.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «عليها» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 120.
[ (5) ] في (خ) : «وأقام» .
[ (6) ] أرمل القوم: إذا نفد زادهم.
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (مغازي الواقدي) : «قد بلغوا من الجوع» .
[ (8) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.(5/148)
فلينثره على الأنطاع، قال أبو شريح الكعبيّ: فلقد رأيت من يأتي بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتي بشيء، ويؤتي بالكف من الدقيق والكف من السويق، وذلك كله قليل، فلما اجتمعت أزوادهم، وانقطعت موادّهم،
مشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليها، فدعا فيها بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم فجاءوا بأوعيتهم.
قال أبو شريح: فأنا حاضر، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد، حتى أن الرجل ليأخذ ما لا يجد له محملا، ثم أذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ونزلوا معه، فشربوا من ماء السماء [ (1) ] ، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فخطبهم، فجاء ثلاثة نفر، فجلس اثنان مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وذهب واحد معرضا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا أخبركم خبر الثلاثة؟
قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: أما الأول فاستحيا، فاستحيا اللَّه منه، وأما الآخر فتاب فتاب اللَّه عليه، أما الثالث فأعرض فأعرض اللَّه عنه [ (2) ] .
وخرج الإمام أحمد- رحمه اللَّه- من حديث الأوزاعي قال: حدثني أبي قال:
كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، فأصاب الناس مخمصة فاستأذن الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في نحر بعض ظهرهم وقالوا: يبلغنا اللَّه به، فلما رأى عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد همّ أن يأذن لهم في نحر ظهرهم.
قال: يا رسول اللَّه! كيف بنا إذا لقينا العدو غدا جياعا رجالا، ولكن إن رأيت يا رسول اللَّه، أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم، فتجمعها ثم تدعو اللَّه فيها بالبركة، فإن اللَّه تبارك وتعالى سيبلغنا بدعوتك- أو قال: سيبارك لنا في دعوتك- فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الناس ببقايا أزوادهم.
فجعل الناس يجيئون بالحفنة- وقال بعضهم: بالحثية- من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قام فدعا ما شاء اللَّه أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، وأمرهم أن يجيشوا [ (3) ] ، فما
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «من الماء» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 616- 617.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (مسند أحمد) : «يحتثوا» .(5/149)
بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه وبقي مثله، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد مؤمن بهما إلا حجبته عن النار [ (1) ] .
وخرج البيهقي- رحمه اللَّه تعالى- من حديث سعيد بن سلمة قال: حدثني أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن [عبد اللَّه بن] [ (2) ] أبي ربيعة، أنه سمع أبا خنيس الغفاريّ يقول: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تهامة، حتى إذا كنا بعسفان جاء أصحابه فقالوا: يا رسول اللَّه! جهدنا الجوع فأذن لنا في الظّهر أن نأكله، قال: نعم، فأخبر بذلك عمر رضي اللَّه عنه فقال: يا نبي اللَّه! ما صنعت؟ أمرت الناس أن يأكلوا الظهر، فعلام يركبون؟ قال: فما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: أن تأمرهم- وأنت أفضل رأيا- فيجمعوا فضل [ (3) ] أزوادهم في ثوب، ثم تدعو اللَّه لهم، فإنّ اللَّه يستجيب لك.
فأمرهم فجمعوا فضل أزوادهم في ثوب، ثم دعا اللَّه لهم ثم قال: ائتوا بأوعيتكم، فملأ كل إنسان وعاءه، ثم أذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا، ونزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ونزلوا معه، وشربوا من ماء السماء وهم بالكراع، ثم خطبهم به، فجاء ثلاثة، فجلس اثنان مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وذهب آخر معرضا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما واحد فاستحيا من اللَّه فاستحيا اللَّه منه، وأما الآخر فأقبل تائبا إلى اللَّه فتاب اللَّه عليه، وأما الآخر فأعرض فأعرض اللَّه عنه [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 429، حديث رقم (15023) ، ونحوه أو قريب منه في (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 14/ 464- 465، حديث رقم (6530) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في المرجع السابق: «أفضل» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 122، والجزء الأخير من هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العلم (فتح الباري) : 1/ 207، باب (8) من فعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجه في الحلقة فجلس فيها، حديث رقم (66) ، وفي كتاب الصلاة، باب (84) الحلق والجلوس في المسجد، حديث رقم (474) .(5/150)
وقال الواقدي في مغازيه: فلما أجمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المسير من تبوك أرمل الناس إرمالا شديدا فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فيأكلوها، فأذن لهم، فلقيهم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها، ثم دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في خيمة له فقال: أذنت للناس في نحر [حمولتهم يأكلونها] [ (1) ] ؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: شكوا إلى ما بلغ منهم من الجوع، فأذنت لهم ينحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهرهم وهم قافلون إلى أهليهم،
قال: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يك في الناس فضل من ظهر يكون خيرا، فالظهر اليوم رقاق [ (2) ] ، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها، فادع فيها بالبركة، كما فعلت في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا، فإن اللَّه سبحانه وتعالى مستجيب لك.
فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من كان عنده فضل زاد فليأت به، وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق أو التمر، أو القبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر، فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق [ (3) ] حرزا [ (4) ] ، ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا اللَّه تعالى أن يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يحدثون جميعا حديثا واحدا، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميدي الساعدي، وأبو زرعة الجهنيّ معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فنادى مناديه [هلموا] [ (1) ] إلى الطعام خذوا منه حاجتكم.
فأقبل الناس فجعل كل من جاء بوعاء ملأه، فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرة من خبز، وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت أحدهما سويقا والآخر خبزا، وأخذت في ثوبي دقيقا ما كفاني إلى المدينة،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] رقاق: جمع رقيق أي ضعيف.
[ (3) ] الأفراق: جمع فرق، وهو مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، أو يسع ستة عشر رطلا أو أربعة أرباع.
[ (4) ] الحرز: التقدير والخرص.(5/151)
فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخرهم ذلك أن أخذت الأنطاع ونثرنا [ (1) ] ما عليها، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول- وهو واقف-:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وقاه اللَّه حر النار [ (2) ] .
وقد رويت هذه القصة من طرق: فرواها [أبو نعيم] من طريق عاصم بن عبيد اللَّه ابن عاصم بن عمر عن أبيه، عن جده عمر قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى إذا كنا بعين الروم- التي يقال لها غزوة تبوك- يقول: أصحابنا جوع شديد فقلت:
يا رسول اللَّه! نلقى العدو غدا وهم شباع ونحن جياع، فخطب الناس ثم قال:
من كان عنده فضل طعام فليأتنا به، وبسط نطعا فأتى بتسع وعشرين صاعا فجلس ودعا بالبركة، ثم دعا الناس وقال: خذوا، فأخذوا حتى جعل الرجل يربط كم قميصه ثم يأخذ فيه، ففضل فضلة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، لا يقولها رجل فيدخل النار [ (3) ] .
وفي رواية ابن إسحاق رضي اللَّه عنه، عن يزيد مولى نوفل بن الحارث، عن عاصم بن عبيد اللَّه، عن عاصم بن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فقلت: يا رسول اللَّه! يخرج إلينا الروم وهم شباع ونحن جياع، وأرادت الأنصار أن ينحروا نواضحهم.
فإذا منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ينادي في الناس: من كان عنده فضل من زاد فليأتنا به، فحرزنا جميع ما جاءوا به فوجدناه سبعا وعشرين صاعا، فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى جنبه فدعا فيه ثم قال: أيها الناس، خذوا ولا تنتبهوا، قال: فأخذوا في الجرب والغرائر، حتى جعل الرجل يعقد قميصه فيأخذ فيه حتى صدروا، وإنه نحو مما كانوا أخذوه.
__________
[ (1) ] في (مغازي الواقدي) : «ونثر» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1037- 1039، وهذه القصة جزء من حديث طويل سنده: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الحضر والسفر ... ، وساق القصة من أولها. (المرجع السابق) 1036.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 418- 419، حديث رقم (325) ، (326) من الفصل الثاني والعشرين، في ربو الطعام بحضرته وفي سفره، لكن بسياقات مختلفة، وأسانيد مختلفة.(5/152)
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه- وقد أجمع على معنى حديث هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة، رواه عنهم أضعافهم من التابعين، ثم من لا يعد من بعدهم، وأكثرها في قصص مشهورة، ومجامع مشهودة، لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق، ولا يسكت المحاضر لها على ما أنكر و [منها] [ (1) ] ، واللَّه تعالى أعلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الشفا) .
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 195، فصل ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه صلّى اللَّه عليه وسلم.(5/153)
[ثالث وثلاثون: تكثير طعام صنعه جابر بن عبد اللَّه بالخندق]
وأما تكثير طعام صنعه جابر بن عبد اللَّه بالخندق،
فخرج البخاري في غزوة الخندق، من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كيدة شديدة، فجاءوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا، هذه كيدة عرضت الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولنا ثلاثة أيام لا نذوق ذوقا، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل- أو أهيم- فقلت:
يا رسول اللَّه؟ ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول اللَّه ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، قال:
قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، قال: قوموا، فقام المهاجرون.
فلما دخل على امرأته قال لها: ويحك! جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، قال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمّر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، فقال:
كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة [ (1) ] .
وخرج البخاري في غزوة الخندق، ومسلم في الأشربة [ (2) ] من حديث أبي قاصم، أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، أخبرنا سعيد بن مينا، سمعت جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: لما حفر الخندق رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خميصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت رسول
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 502- 503، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، حديث رقم (4101) ، والكيدة: القطعة الشديد الصلبة من الأرض.
[ (2) ] في (خ) : الأطعمة، والصواب ما أثبتناه.(5/154)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمصا شديدا فأخرجت إلى جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتها وطحنت الشعير، وفرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول [ (1) ] اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وبمن معه.
قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول اللَّه! ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت [ونفر] [ (2) ] معك، فصاح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع سورا [فحي هلا] [ (2) ] بكم، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء.
قال: فجئت وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت:
بك وبك، فقلت: قد فعلت الّذي قلت لي، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال: ادع خابزة فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم باللَّه لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينا ليخبز [كما هو] [ (1) ]
لفظهما فيه متقارب [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «مع رسول» ، وما أثبتناه من رواية البخاري.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 503، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، حديث رقم (4102) ، قوله: «فعاد كثيبا» أي رملا، قوله: «أهيل أو أهيم» شك من الراويّ، في رواية الإسماعيلي «أهيل» بغير شك، وكذا عند يونس، وفي رواية أحمد «كثيبا يهال» ، والمعنى أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك. قال تعالى: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا، [المزمل: 4] ، وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الجهاد والسير باب (188) من تكلم بالفارسية والرطانة، وقول اللَّه عزّ وجلّ: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22] ، وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] ، حديث رقم (3070) ، وذكره الإمام مسلم في (الصحيح) ، كتاب الأشربة، باب (20) جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه ذلك، ويتحقق تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، حديث رقم (2039) . وشرح الغريب:
(الخمص والخميص) : الضامر البطن.
(البهيمة) : تصغير البهمة، وهي ولد الضأن، ويقع على المذكر منها والمؤنث، والسخال: أولاد المعزي، فإذا اجتمعت البهائم والسّخال، قلت لها جميعا: بهام وبهم.
(الداجن) : الشاة التي تألف البيت وتتربى فيه.(5/155)
وقال الواقدي رحمه اللَّه: فحدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، عن جابر بن عبد اللَّه قال: أصاب الناس كدية يوم الخندق فضربوا فيها جميعا بمعاولهم حتى انكسرت، فدعوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لها فدعا بماء فصبه عليها فعادت كثيبا.
قال جابر: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يحفر ورأيته خميصا، ورأيت بين كعنه الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها بما رأيت من خمص بطن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت:
واللَّه ما عندنا شيء إلا هذه الشاة، ومدّ من شعير، قال جابر: فاطحني وأصلحي، فطبخنا، وشوينا بعضها وخبزنا الشعير ثم أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمكثت حتى رأيت أن الطعام قد بلغ، فقلت يا رسول اللَّه! قد صنعت لك طعاما فأت أنت ومن أحببت من أصحابك، فشبك أصابعه في أصابعي ثم قال: أجيبوا جابرا يدعوكم.
قال: فأقبلوا معه فقلت: واللَّه إنها الفضيحة! فأتيت المرأة فأخبرتها فقالت:
أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟ فقلت: بل هو دعاهم، قالت: دعهم فهو أعلم.
قال: فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأمر أصحابه فكانوا فرقا عشرة عشرة، ثم قال لنا، اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه، ففعلنا، فجعلنا نغرف ونغطي البرمة، ثم نفتحها فما نراها نقصت شيئا، ونخرج الخبز من التنور ثم نغطيه فما نراه ينقص شيئا، فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا،
__________
[ () ] (السور) : لفظة فارسية معناها: الوليمة، والطعام الّذي يدعى إليه، قال الأزهري: في هذا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قد تكلم بالفارسية.
(حيهلا) : كلمتان جعلتا في كلمة واحدة، ومعناها: تعالوا وعجلوا، وفي حديث الأذان: «أن يحوقل بين الحيعلتين» .
(اقدحي) : قدحت القدر: إذا ما غرفت ما فيها، والقديح: المرق، فعيل بمعنى مفعول، والمقدحة:
المغرفة.
(لتغط) : غطّت القدر تغط: غلت، وغطيطها: صوتها.
(الكدية) : حجر صلب يعرض لحافر البئر فيتعبه حفره.
(الكثيب) : المجتمع من الرمل.
(أهيل) : انهل وانهال الرمل: إذا سال وجرى، وهلته أنا فانهال، وأهلته: لغة فيه، وأما «أهيم» فهو من الهيام، وهو الرمل الّذي يكون ترابا دقاقا يابسا (جامع الأصول) : 11/ 353- 356، حديث رقم (8909) .(5/156)
فعمل الناس يومئذ كلهم، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم معهم، وجعلت الأنصار ترجز وتقول:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة [ (1) ]
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، من حديث عبد الرحمن بن محمد البخاري، عن عبد الرحمن بن أيمن عن أبيه، عن جابر بمعناه، ثم قال: أخبرني جابر أنهم كانوا ثمانمائة أو ثلاثمائة- شك أيمن.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 452- 453.(5/157)
[رابع وثلاثون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الأكل من القصعة]
وأما ظهور بركته في الأكل من القصعة، فخرج الترمذي من حديث يزيد ابن هارون، قال: حدثنا سليمان التيمي عن أبي العلاء، عن سمرة بن جندب قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نتداول في قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم [ (1) ] عشرة ويقعد [ (1) ] عشرة، [قلنا فما كانت] [ (2) ] تمد؟ قال: من أي شيء تعجب ما كانت تمد إلا من هاهنا- وأشار بيده إلى السماء- قال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو العلاء اسمه يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخّير [ (3) ] .
وخرجه النسائي [ (4) ] بهذا الإسناد في الأطعمة، وخرجه البيهقي [ (5) ] والحاكم [ (6) ] وصححه من حديث عبد الأعلى بن حماد النّرسيّ قال: حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي العلاء عن سمرة بن جندب، أن قصعة كانت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فجعل الناس يأكلون منها.
قال: فكلما شبع قوم قاموا وجلس مكانهم أناس آخرون، كذلك إلى صلاة الأولى، فقال رجل: أما كانت تمد بشيء؟ فقال سمرة فمم تعجب؟ لو كانت تمد بشيء لم تتعجب، ما كانت تمد إلا من هاهنا- فأومأ إلى السماء- أو كما قال.
__________
[ (1) ] في (خ) : «نقوم» ، و «نقعد» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 553، كتاب المناقب، باب (5) في آيات إثبات نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما قد خصه اللَّه عزّ وجلّ به، حديث رقم (3625) .
[ (4) ] لم أجده في (سنن النسائي) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 93، وفي (خ) : «فأوحى إلى السماء» .
[ (6) ] المستدرك) : 2/ 675، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، باب ذكر أخبار سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب المصطفى، صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، حديث رقم (4233/ 243) ، قال الحاكم، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 648، حديث رقم (19684) ، وحديث رقم (19622) .(5/158)
وخرج أبو بكر بن شيبة من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا سليمان التيمي عن أبي العلاء، عن سمرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أتى بقصعة من ثريد فوضعت بين يدي القوم، فتعاقبوها إلى الظهر من غدوة، يقوم قوم ويجلس آخرون، فقال رجل لسمرة: أكانت تمد؟ فقال سمرة: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من هاهنا- وأشار بيده إلى السماء.(5/159)
[خامس وثلاثون: أكل مائة وثمانون رجلا من صاع طعام]
وأما أكل مائة وثمانين رجلا من صاع طعام وأخذ كل منهم حزّة من سواد بطن شاه،
فخرج البخاري ومسلم من حديث المعتمر بن سليمان قال: حدثنا أبي عن أبي عثمان، حدث أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: [ (1) ] كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي: هل مع أحد منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
أبيع أم عطية- أو قال: أم هبة- قال: لا بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بسواد البطن أن يشوي.
قال: وأيم اللَّه ما في الثلاثين ومائة إلا حزّ له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حزّة من سواد بطنها، إن كان شاهدا أعطاه إياه، وإن كان غائبا خبأه له، قال: وجعل منها قصعتين فأكلنا منها أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين فحملته على البعير، أو كما قال. ذكره البخاري في كتاب الأطعمة في باب من أكل حتى شبع، وذكره في كتاب الهبة في باب قبول الهدية من المشركين، قال بعقبه في رواية المستملي:
مشقان طويل جدا فوق الطول.
واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 516، كتاب البيوع، باب (99) الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب، حديث رقم (2216) ، 5/ 287- 288، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (28) قبول الهدية من المشركين، حديث رقم (2618) ، 9/ 658 كتاب الأطعمة، باب (6) من أكل حتى شبع، حديث رقم (5382) ، مشقان: إذا كان منتفش الشعر ثائر الرأس، سواد البطن:
الكبد، (جامع الأصول) : 11/ 363. حديث رقم (8912) ، (مسلم بشرح النووي) :
14/ 260- 261، كتاب الأشربة، باب (32) إكرام الضيف وفضل إيثاره، حديث رقم (2056) .(5/160)
[سادس وثلاثون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في طعام أبي بكر]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الطعام الّذي كان في دار أبي بكر رضي اللَّه عنه،
فخرج البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام، وخرج مسلم في كتاب الأشربة [ (1) ] ، من حديث المعتمر بن سليمان قال أبي: حدثنا أبو عثمان أنه حدثه عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس، أو كما قال، وأن أبا بكر رضي اللَّه عنه جاء بثلاثة، وانطلق نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، فلا أدري هل قال وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر. قال: وإن أبا بكر رضي اللَّه عنه تعشى عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء اللَّه.
قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ - أو قالت: ضيفك- قال: وما عشيّتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، قال: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر، فجدّع وسبّ وقال له: كلوا لا هنيئا، فقال: واللَّه لا أطعمه أبدا، قال وأيم اللَّه ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال:
[يعني حتى شبعوا] [ (2) ] ، فصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر رضي اللَّه عنه فإذا هي كما هي أو أكثر، قال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟
قالت: لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر رضي اللَّه عنه وقال: إنما كان ذلك من الشيطان- يعني يمينه- ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأصبحت عنده، قال: وكان بيننا وبينهم عهد فمضى الأجل ففرقنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس اللَّه أعلم كم مع كل
__________
[ (1) ] في (خ) : «الأطعمة» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .(5/161)
رجل، غير أنه بعث معهم، قال فأكلوا منها أجمعون أو كما قال [ (1) ] .
وخرجه البخاري في كتاب الصلاة في باب السمر مع الأهل والضيف، وقال فيه: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس أو سادس، وأن أبا بكر رضي اللَّه عنه جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، فلا أدري هل قال: وامرأتي وخادم. الحديث، وقال فيه [ثم حملها] إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عقد] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 728- 729، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (87) ، ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف، حديث رقم (6140) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 95- 96، كتاب مواقيت الصلاة، باب (41) السمر مع الضيف والأهل، حديث رقم (602) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق مه، (مسلم بشرح النووي) : 13/ 261، كتاب الأشربة، باب (32) ، إكرام الضيف وفضل إيثاره حديث رقم (2057) قوله:
«غنثر» : هو ذباب أزرق، شبهه به لتحقيره. قوله: «فجدع وسب» : أي دعا عليه بالجدع، وهو قطع الأذن، أو الأنف، أو الشفة. قوله: «يا أخت بني فراس» خاطب أبو بكر بذلك امرأته أم رومان، وبنو فراس- بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره مهملة- ابن غنم بن مالك بن كنانة، وقال النووي: يا من هي من بني فراس، أو المعنى: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
* التجاء الفقراء إلى المساجد عند الاحتياج إلى المواساة، إذا لم يكن في ذلك إلحاح، ولا إلحاف، ولا تشويش على المصلين.
* وفيه استحباب مواساتهم عند اجتماع هذه الشروط.
* وفيه جواز الغيبة عن الأهل، والولد، والضيف، إذا أعدت لهم الكفاية.
* وفيه تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام بغير إذن خاص من الرجل.
* وفيه جواز سب الوالد للولد على وجه التأديب، والتمرين على أعمال الخير وتعاطيه.
* وفيه جواز الحلف على ترك المباح.
* وفيه توكيد الرجل الصادق لخبره بالقسم، وجواز الحنث بعد عقد اليمين.
* وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء.
* وفيه عرض الطعام الّذي تظهر فيه البركة على الكبار وقبولهم ذلك.(5/162)
[سابع وثلاثون: رزق اللَّه تعالى أهل بيت من الأنصار ذوي حاجة ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما رزق اللَّه تعالى أهل بيت من الأنصار ذوي حاجة من حيث لا يحتسبوا ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البيهقي من حديث أبي بكر بن عياش، عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: أتى رجل أهله فرأى ما بهم من الحاجة، فخرج إلى البرية فقالت امرأته: اللَّهمّ ارزقنا ما نعجن ونختبز، قال: فإذا الجفنة ملأى خميرا، والرحى تطحن، والتنور ملأى خبزا وشواء، فجاء زوجها فقال:
هل عندكم [ (1) ] شيء؟ قالت: نعم، رزق اللَّه [ (2) ] ، فرفع الرحى فكنس ما حوله، فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لو تركها لدارت إلى يوم القيامة [ (3) ] .
ومن حديث أبي صالح عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني الليث بن سعد رضي اللَّه عنه ورحمه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رجلا من الأنصار كان ذا [ (4) ] حاجة، فخرج يوما وليس عنده أهله شيء،
__________
[ () ] * وفيه العمل بالظن الغالب، لأن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرّط في أمر الأضياف، فبادر إلى سبه، وقوى القرينة عنده اختباؤه منه.
* وفيه ما يقع من لطف اللَّه تعالى بأوليائه. وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذلك ولده وأهله، وأضيافه، بسبب امتناعهم من الأكل وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم ذكره من الحرج بالحلف، وبالحنث، وبغير ذلك.
فتدارك اللَّه ذلك، ورفعه عنه، بالكرامة التي أبداها له، فانقلب ذلك الكدر صفاء، والنكد سرورا، وللَّه الحمد والمنة. (فتح الباري) : 6/ 745، مختصرا.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 103- 104، باب ما جاء في البركة التي ظهرت في الطعام الّذي قدّم في دار أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه إلى أضيافه في زمان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «عندكم شيء» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «رزق فرفع» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 105، باب ما جاء في دعاء المرأة بالرزق في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعاء الآخر برد إبله وابنه عليه، وقول اللَّه عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3] ، والحديث نقله ابن كثير في (التاريخ) عن البيهقي.
[ (4) ] في (خ) : «في حاجة» .(5/163)
فقالت امرأته: لو أني حركت رحاي وجعلت في تنوري سعفات، فسمع جيراني صوت الرحى ورأوا الدخان فظنوا أن عندنا طعاما وليس بنا [ (1) ] خصاصة، فقامت إلى تنورها فأوقدته وقعدت [ (2) ] تحرك الرحى، فأقبل زوجها وسمع الرحى، فقامت إليه لتفتح له الباب، فقال: ما كنت تطحنين؟ فأخبرته فدخل، وإن رحاهما لتدور وتصب دقيقا، فلم يبق في البيت وعاء إلا مليء،
ثم خرجت إلى تنورها فوجدته مملوءا خبزا، فأقبل زوجها فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فما فعلت الرحى؟
قال: رفعتها ونفضتها، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: لو تركتموها ما زالت كما هي لكم حياتكم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «وما بنا» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «وقد تحرك الرحى» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 105- 106، والحديث نقله ابن كثير في التاريخ عن البيهقي أيضا، وقال:
«هذا الحديث غريب سندا ومتنا» .(5/164)
[ثامن وثلاثون: أكل سبعين رجلا من قليل أقراص خبز شعير]
وأما أكل سبعين أو ثمانين رجلا في بيت أبي طلحة الأنصاري من قليل أقراص خبز شعير قد فتّ وأدم بيسير من أدام حتى شبعوا، وبقيت كما هي ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البخاري ومسلم من حديث مالك، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يقول: قال أبو طلحة لأم سليم رضي اللَّه عنها، لقد سمعت صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخذت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه ثم دسّته تحت ثوبي، وردّتني [ (1) ] ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالسا في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: بطعام؟.
وقال البخاري: قالت: بطعام؟ - فقلت: نعم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن معه:
قوموا، قال: فانطلق وانطلقت بين يديه حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت:
اللَّه ورسوله أعلم، قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم معه، حتى دخلا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هلمّي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ففتّ وعصرت عليه أم سليم عكّة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما شاء اللَّه أن يقول، ثم قال:
ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم أذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلا أو ثمانون. وقال البخاري: والقوم ثمانون رجلا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ردّتني: أي جعلت بعضه رداء على رأسي.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 727، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3578) ، 9/ 658، كتاب الأطعمة، باب (6) من أكل حتى شبع، حديث رقم (5381) ، باب (48) من أدخل الضيفان عشرة عشرة، والجلوس على الطعام عشرة عشرة، 11/ 698- 699، كتاب الأيمان والنذور، باب (22) إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز، وما يكون منه الأدم، حديث رقم (6688) ، (مسلم بشرح النووي) : 13/ 266، كتاب(5/165)
وخرجه البخاري أيضا في المناقب، في باب علامات النبوة في الإسلام، بهذا الإسناد وقال فيه: ثم دسّته تحت يدي ولاثتنى ببعضه، وقال: قال بطعام؟ قلت:
نعم، وفي آخره: والقوم سبعون أو ثمانون رجلا [ (1) ] .
وخرجه في كتاب الأيمان والنذور، في باب إذا حلف أن لا يأدم فأكل تمرا بخبز، وما يكون منه الأدم بنحو ذلك وقال: والقوم سبعون أو ثمانون رجلا [ (1) ] .
وخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث معن قال: عرضت على مالك بن أنس عن إسحاق إلى آخره، وقال: والقوم سبعون رجلا. وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] . وخرجه البخاري في الصلاة، في باب من دعي لطعام في المسجد، من حديث مالك، وقال فيه: وجدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في المسجد ومعه ناس فقمت،
__________
[ () ] الأشربة، باب (20) جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه ذلك، ويتحقق تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، حديث (2040) ، (تحفة الأحوذي) : 10/ 73، أبواب المناقب، باب (30) بدون ترجمة، حديث رقم (3873) ، (شرح الزرقاني على الموطأ) :
4/ 375، كتاب الجامع، باب (646) جامع ما جاء في الطعام والشراب، حديث رقم (1789) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 88، باب ما جاء في دعوة أبي طلحة الأنصاري- رضي اللَّه عنه- رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما ظهر في طعامه ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة.
قوله: «سمعت صوت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع» ، كأنه لم يسمع في صوته لما تكلم إذ ذاك الفخامة المألوفة منه، فحمل ذلك على الجوع بقرينة الحال التي كانوا فيها.
وفيه ردّ على دعوى ابن حبان أنه لم يكن يجوع، واحتج بحديث: «أبيت يطعمني ربي ويسقيني» ، وتعقب بالحمل على تعدد الحال: فكان يجوع أحيانا ليتأسى به أصحابه، ولا سيما من لا يجد مددا وأدركه ألم الجوع صبر فضوعف له.
قال الطبراني: غير أن الشبع وإن كان مباحا فإن له حدا ينتهي إليه، وما زاد على ذلك فهو سرف، والمطلق منه ما أعان الآكل على طاعة ربه، ولم يشغله ثقله عن أداء ما وجب عليه.
وفيه دليل على جواز الشبع، وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الّذي يثقل المعدة، ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر، والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة.
وذكر الكرماني تبعا لابن المنير أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو أن الثلث للطعام، والثلث للشراب، والثلث للنفس، ويحتاج في دعوى أن تلك عبادتهم إلى نقل خاص.
(فتح الباري) : 9/ 659- 660 مختصرا.
[ (1) ] انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
[ (2) ] انظر التعليق السابق، وأخرجه أيضا أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 415، الفصل الثاني والعشرون في ربوّ الطعام بحضرته وفي سفره لإمساسه بيده صلّى اللَّه عليه وسلم ووضعها عليه، حديث رقم (322) .(5/166)
فقال لي: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: لطعام؟ قلت: نعم، قال لمن معه: قوموا، فانطلق وانطلقت بين أيديهم [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن نمير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سعد بن سعيد قال: حدثني أنس بن مالك قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [لأدعوه] [ (2) ] ، وقد جعل طعاما، قال: فأقبلت ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مع الناس، فنظر إليّ فاستحييت، فقلت: أجب أبا طلحة، فقال للناس: قوموا، فقال أبو طلحة: يا رسول اللَّه! إنما صنعت لك شيئا.
فمسّها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعا فيها بالبركة ثم قال: أدخل [نفرا] [ (2) ] من أصحابي عشرة وقال: كلوا، وأخرج لهم شيئا من بين أصابعه، فأكلوا حتى شبعوا فخرجوا، فقال: أدخل عشرة، فأكلوا حتى شبعوا [ (3) ] ، فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع، ثم هيأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها [ (4) ] .
وخرجه أيضا من حديث سعيد بن يحيى الأموي قال: حدثنا أبي قال: حدثني سعيد بن سعيد قال: سمعت أنس بن مالك قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وساق الحديث بنحو حديث ابن نمير، غير أنه قال في آخره: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، قال: فعاد كما كان، ثم قال: دونكم هذا [ (5) ] .
وأخرجه أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى ويحيى بن عمارة، وعبد اللَّه بن أبي عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، وفي حديث بعضهم: ثم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 681، كتاب الصلاة، باب (43) من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب منه، حديث رقم (422) .
[ (2) ] زيادة للسياقة من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] في (خ) : «خرجوا» وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 229- 230، كتاب الأشربة، باب (20) جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، حديث رقم (143) من أحاديث الباب.
[ (5) ] (المرجع السابق) : 231 الحديث الّذي بعده من أحاديث الباب.(5/167)
أكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأكل أهل البيت، وأفضلوا ما بلّغ [ (1) ] جيرانهم [ (2) ] .
وخرج من حديث حجاج بن الشاعر، عن موسى بن محمد المؤدب قال:
حدثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس قال: قالت أم سليم: اذهب إلى نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل، فقال: ومن عندي؟
فقلت: نعم، قال: فجئت فدخلت على أم سليم وأنا مدهش لمن أقبل مع نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت أم سليم: ما صنعت يا أنس؟ فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أثر ذلك، فذكرت له الّذي أرسلتني إليك، وهذا غداؤك، قال: هل عندك سمن؟ قالت:
نعم، قد كان عندي منه عكة، وفيها شيء من سمن.
قال: فأتها، قال: فجئته بها، ففتح رباطها فقال: بسم اللَّه، اللَّهمّ أعظم فيه البركة، فقال: أقلبيها، فأقلبتها، فعصرها نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يسمي، فأخذت [منها] [ (3) ] ، قدر، فأكل منها بضع وثمانون رجلا وفضل منها، فدفعها إلى أم سليم فقال: كلي وأطعمي جيرانك [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «ما أبلغوا جيرانهم» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 233.
[ (3) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، ولعل الصواب يناسب السياق.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 234- 235 مختصرا جدا عن (خ) ،
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أرسلك أبو طلحة فقلت:
نعم» ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «الطعام فقلت: نعم» ،
هذان علمان من أعلام النبوة، وذهابه صلّى اللَّه عليه وسلم بهم علم ثالث، وتكثير الطعام علم رابع.
* وفيه ما تقدم من حديث أبي هريرة وحديث جابر من ابتلاء الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، والاختبار بالجوع وغيره من المشاق ليصيروا، فيعظم أجرهم ومنازلهم، * وفيه ما كانوا عليه من كتمان ما بهم. * وفيه ما كانت الصحابة- رضي اللَّه تعالى عنهم- عليه من الاعتناء بأحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. * وفيه استحباب بعث الهدية وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه، لأنها وإن قلت فهي خير من العدم. * وفيه جلوس العالم لأصحابه يفيدهم ويؤدبهم، واستحباب ذلك في المساجد.
* وفيه انطلاق صاحب الطعام بين يدي الضيفان، وخروجه ليتلقاهم. * وفيه منقبة لأم سليم رضي اللَّه تعالى عنها، ودلالة على عظيم فقهها، ورجحان عقلها، لقولها: اللَّه ورسوله أعلم، ومعناه أنه قد عرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها فلا تحزن من ذلك. * وفيه استحباب فتّ الطعام واختيار الثريد على الغمس باللقم.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «فإنّ اللَّه سيجعل فيه البركة»
* فيه علم ظاهر من أعلام النبوة،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «ثم أكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأكل أهل البيت»
* فيه أنه يستحب لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 13/ 232- 234 مختصرا.(5/168)
قال المؤلف- رحمه اللَّه- هذا الحديث من الأحاديث التي اشتهرت عند أهل العلم، فرواه عن أنس بن مالك سوى من ذكرنا: يعقوب بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، ومحمد بن كعب، وعمرو بن يحيى بن عمارة المازني عن أبيه، وبكر بن عبد اللَّه، وثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن سيرين، والجعد أبو عثمان، وسنان أبو ربيعة، كلهم عن أنس، يزيد بعضهم وينقص.(5/169)
[تاسع وثلاثون: أكل أصحاب الصفة من كسر يسيرة حتى شبعوا]
وأما أكل أهل الصفة من كسر يسيرة حتى شبعوا، فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث هشام بن علي قال: حدثنا أبو حفص عمر بن الدرفس قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي قسيمة عن واثلة بن الأسقع الليثي رضي اللَّه عنه، أنه حدثه قال: كنا في محرس يقال له الصفة- وهم عشرون رجلا- فأصابنا جوع، وكنت من أحدث أصحابي سنا، فبعثوا بي إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أشكو جوعهم.
فالتفت في بيته فقال: هل من شيء؟ فقالوا: نعم، هاهنا كسرة أو كسر، أو شيء من لبن، فأتى به ففت فتا رقيقا، ثم صب عليه اللبن، ثم جبنه بيده حتى جعله [كالثريد] [ (1) ] ، ثم قال: يا واثلة، أدع لي عشرة من أصحابك وخلّف عشرة، [ففعلت] [ (1) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اجلسوا [بسم اللَّه] [ (1) ] ، فجلسوا، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم برأس الثريد فقال: كلوا بسم اللَّه من حواليها وأعفوا رأسها. فإن البركة تأتيها من فوقها وإنها تمدّ، قال: فرأيتهم يأكلون ويتخللون أصابعهم [ (2) ] حتى تملئوا شبعا.
فلما انتهوا قال لهم: انصرفوا إلى مكانكم وابعثوا أصحابكم، فانصرفوا، فقمت متعجبا لما رأيت، فأقبل علي العشرة، فأمرهم بمثل الّذي أمر به أصحابهم وقال لهم مثل الّذي قال لهم، فأكلوا منها حتى [ (3) ] تملئوا شبعا وحتى انتهوا، وإن فيها فضلة [ (4) ] .
وخرج من حديث إسماعيل بن عياش قال: حدثنا سليمان بن حبان العذري قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: كنت من أصحاب الصفة، فشكى أصحابي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (خ) : «أصابعه» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «حتى انتهوا» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 241- 422، حديث رقم (328) ، وقال في هامشه: أخرجه الطبراني وابن عساكر، وقال في مجمع الزوائد 8/ 315، رواه الطبراني بإسنادين، وإسناده حسن.(5/170)
الجوع فقالوا: يا واثلة، اذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاستطعم لنا، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، إن أصحابي يشكون الجوع، فقال: يا عائشة، هل عندك من شيء؟ فقالت: يا رسول اللَّه، ما عندي إلا فتات خبز، قال: هاته.
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بصحفة فأفرغ الخبز في [الصحفة] [ (1) ] ، ثم جعل يصلح الثريد بيده وهو يربو، حتى امتلأت [الصحفة] [ (1) ] ، فقال: يا واثلة، أذهب فجيء بعشرة من أصحابك وأنت عاشرهم، فذهبت فجئت بعشرة من أصحابي أنا عاشرهم، فقال: اجلسوا، خذوا بسم اللَّه، خذوا من حواليها ولا تأخذوا [من أعلاها] ، فإن البركة تنحدر من أعلاها.
فأكلو حتى شبعوا، ثم قاموا وفي الصحفة مثل ما كان فيها، ثم جعل يصلحها بيده وهي تربو حتى امتلأت، فقال: يا [واثلة] [ (1) ] ، اذهب فجئ بعشرة من أصحابك، فذهبت فجئت بعشرة فقال: اجلسوا، فجلسوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، فقال: اذهب فجئ بعشرة من أصحابك، فذهبت فجئت بعشرة، ففعلوا مثل ذلك، فقال: هل بقي أحد؟ قلت: نعم، عشرة، قال: اذهب فجيء بهم، فذهبت فجئت بهم، فقال: اجلسوا، فجلسوا فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، وبقي في [الصحفة] [ (1) ] مثل ما كان، ثم قال: يا واثلة، اذهب بها إلى عائشة رضي اللَّه عنها.
وخرج الحاكم من طريق واثلة هذا، من طريق محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا عبد اللَّه بن يوسف التنيسي، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع، فذكره بمعناه وسياقة غير هذه السياقة، ثم قال: هذا حديث صحيح [الإسناد ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وخرج من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى، عن إسحاق بن سالم، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: خرج
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 130، كتاب الأطعمة، حديث رقم (7119/ 48) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الذهبي في (التلخيص) : خالد وثقه بعضهم، وقال النسائي: ليس بثقة.(5/171)
على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما فقال لي: ادع أصحابك من أصحاب الصفة، فجعلت أتتبعهم رجلا رجلا حتى جمعتهم، فجئنا باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاستأذنا، فأذن لنا.
قال أبو هريرة: ووضعت بين أيدينا صحفة إن فيها قدر مدّ من شعير، قال:
فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده فقال: خذوا باسم اللَّه، فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيدينا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين وضعت [الصحفة] : والّذي نفس رسول اللَّه بيده، ما أمسى في آل محمد طعام ليس ترونه، قيل لأبي هريرة: قدركم كانت حين فرغتم؟
قال: مثلها حين وضعت، إلا أن فيها أثر الأصابع.(5/172)
[أربعون: أكل بضع وسبعين رجلا من حيس فيه قدر مدّ تمر]
وأما أكل بضع وسبعين رجلا من حيس فيه قدر مد تمر وفضل عنهم [كما كان] قبل أكلهم، فخرج الطبراني من حديث شيبان بن فروخ، حدثنا محمد بن عيسى العندلي، حدثنا ثابت البناني قال: قلت لأنس بن مالك رضي اللَّه عنه أخبرني بأعجب شيء رأيته، قال: نعم يا ثابت. خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عشر سنين فلم يعيّر عليّ في شيء أسأت فيه، قال: فأعجب شيء رأيته منه ما هو؟.
قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها قالت لي أمي:
يا أنس، إن نبي اللَّه أصبح عروسا ولا أرى أصبح له غذاء، فهلمّ تلك العكة وتمرا قدر مدّ، فجعلت له حيسا [ (1) ] فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وامرأته،
فلما أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بتور من حجارة فيه ذلك الحيس، قال: ضعفه في ناحية البيت، واذهب فادع أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، ونفرا من أصحابه، ثم ادع لي أهل المسجد ومن رأيت في الطريق، فجعلت أتعجب من قلة الطعام وكثرة من يأمرني أن يدعو من الناس، وكرهت أن أعصيه، فدعوتهم حتى امتلأ البيت والحجرة، فقال:
يا أنيس، هل ترى من أحد؟ فقلت: لا يا نبي اللَّه، فقال: هلمّ ذلك، فجئت بذلك التّور إليه، فجعلته قدامه، فغمس ثلاثة أصابعه في التّور، فجعل التّور يربو ويرتفع، فجعلوا يتغدون ويخرجون حتى إذا فرغوا أجمعون بقي في ذلك التّور نحو ما جئت به. [ (2) ]
قال: ضعه قدام زينب، فخرجت، فأصفقت الباب عليها بابا من جريد، قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة! كم ترى كانوا الذين يأكلون من ذلك التّور؟
قال: أحسبه قال: واحد وسبعين أو اثنان وسبعون.
__________
[ (1) ] الحيس: طعام يصنع من تمر ينزع نواه، ويدق مع أقط ويعجنان بالسمن، وربما جعل معه سويق.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 424، الفصل الثاني والعشرون في ربوّ الطعام بحضرته وفي سفره لإمساسه بيده.
ووضعها عليه، حديث رقم (330) ، (فتح الباري) : 8/ 676- 677، كتاب التفسير، باب (8) تفسير سورة الأحزاب، حديث رقم (4793) ، 9/ 282- 283، كتاب النكاح، باب (65) الهدية للعروس، حديث رقم (5163) ، (تحفة الأحوذي) : 9/ 59- 60، أبواب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، حديث رقم (3436) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 574- 575.(5/173)
[حادي وأربعون: أكل أربعين رجلا من صاع طعام ورجل شاة حتى شبعوا ولم ينتقص منه شيء]
وأما أكل أربعين رجلا من صاع طعام ورجل شاة حتى شبعوا ولم ينتقص منه شيء، وإن منهم لمن يأكل الجذعة [ (1) ] ويشرب الفرق [ (2) ] :
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث المنهال بن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، عن عبد اللَّه بن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (3) ] ، دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا علي، إن اللَّه تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال: فضقت لذلك ذراعا، وعلمت أني متى أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فضقت عليها حتى جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا علي، فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واجمع لنا عسّا [ (4) ] من لبن، واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له- وهم يومئذ أربعون رجلا أو ينقصون- منهم أعمامه: أبو طالب وحمزة وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [حذية] [ (5) ] من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة وقال: خذوا [باسم اللَّه] ، فأكل القوم حتى ما [بقي] [ (5) ] لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلا مواضع
__________
[ (1) ] الجذعة: هي التي أوجبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في صدقة الإبل إذا جاوزت ستين، وأما الجذع من الضّأن- وهو المراد في هذا الحديث- فإنه يجزئ في الضحية، وقد اختلفوا في وقت إجذاعه، فقال أبو زيد:
في أسنان الغنم المعزى خاصة إذا أتى عليها الحول، وقال ابن الأعرابي: الجذع من الغنم لسنة. (لسان العرب) : 48/ 44.
[ (2) ] الفرق والفرق: مكيال ضخم لأهل المدينة معروف، وقيل: هو أربعة أرباع، وقيل: هو ستة عشر رطلا، والجمع فرقان. (المرجع السابق) : 10/ 305- 306.
[ (3) ] الشعراء: 214.
[ (4) ] العسّ: القدح الكبير.
[ (5) ] زيادة للسياقة من (دلائل أبي نعيم) ، وهي القطعة.(5/174)
أيديهم، ثم قال: اسقهم، فجئت بذلك العسّ فشربوا حتى رووا منه جميعا، وأيم اللَّه الّذي نفسي بيده، إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: يا قوم! لقد سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال الغد: يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت [من القول] [ (1) ] ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام مثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي، قال:
ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعا بالطعام فقربته لهم كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما [بقي] [ (1) ] لهم منه حاجة، ثم قال: اسقهم، فجئت بذلك العسّ فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (2) ] .
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللَّه الأسدي، وعبد اللَّه بن عباد الأسدي عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (3) ] ، قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 425- 426، الفصل الثاني والعشرون في ربوّ الطعام بحضرته وفي سفره، لإمساسه بيده ووضعها عليه، حديث رقم (331) ، قال محققه، وفيه عبد الغفار بن قاسم، رافضي، ليس بثقة، قال عنه ابن المديني: كان يضع الحديث، وقال الهيثمي بعد أن أخرج نحو حديث الباب: رواه البزار واللفظ له، وأحمد في (المسند) باختصار شديد: 1/ 178، حديث رقم (885) ، مسند علي بن أبي طالب، 2/ 637، حديث رقم (8197) ، مسند أبي هريرة، 3/ 325، حديث رقم (10347) ، مسند أبي هريرة أيضا، 6/ 51، حديث رقم (20082) من، حديث قبيصة بن مخارق، البيهقي في (السنن الكبرى) : 6/ 280، باب الوصية للقرابة، من كتاب الوصايا، 371، كتاب قسم الفيء والغنيمة باب إعطاء الفيء على الديوان ومن يقع به البداية.
وأما
ما تكلم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقد ذكره كل من الإمام أحمد في (المسند) على النحو السابق، والإمام البيهقي في (السنن الكبرى) ولفظه: يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغنى عنكم من اللَّه شيئا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من اللَّه شيئا، يا صفية عمة رسول اللَّه، لا أغني عنك من اللَّه شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت، لا أغني عنك من اللَّه شيئا.
رواه البخاري في (الصحيح) عن أبي اليمان، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن الزهري. وهذا الحديث حجة في دخول بني الأعمام في الأقربين.
والعسّ: القدح الكبير.
[ (3) ] الشعراء: 214.(5/175)
يا علي، اصنع رجل شاه بصاع من طعام، وأعد قعبا من لبن، ففعلت، قال:
اجمع بني عبد المطلب، فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا- يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا-.
قال: فوضعت بينهم الطعام فأكلوا حتى شبعوا وإن منهم لمن يأكل الجذعة ويشرب العس- ثم جئت بالقعب فشربوا حتى رووا عنه، فقال بعضهم: ما رأينا كالسحر اليوم- ترون أنه أبو لهب- ثم قال: يا علي، اصنع لنا غداء مثل ما صنعت، فأكلوا مثل ما أكلوا في المرة الأولى، وشربوا [مثل] ما شربوا، ثم عرض عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما عرض.
وخرجه من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (1) ] جمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون، منهم العشرة يأكلون المسنّة [ (2) ] ويشربون العس، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عليا برجل شاة فصنعها لهم، ثم قربها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخذ منها بضعة، فأكل منها ثم تتبع بها جوانب القصعة ثم قال: ادنوا، فدنا القوم عشرة عشرة.
فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعا فناولهم فقال:
اشربوا باسم اللَّه، فشربوا حتى رووا عن آخرهم، فقطع أبو لهب كلامهم فقال لهم: ما سحركم مثل هذا الرجل، فأسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ فلم يتكلم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب، ثم بدرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالكلام [ (3) ] .
وخرجه من حديث أبي عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق عن ربيعة ابن ناجذ، عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما نزلت:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، جمع بني عبد المطلب، وأمرني فصنعت مدا من طعام- ومنهم نفر يأكل كل واحد منهم الجذعة ويشرب الفرق- فأكلوا وكأن
__________
[ (1) ] الشعراء: 214.
[ (2) ] سنّت البدنة: إذا نبتت أسنانها.
[ (3) ] الحديث السابق يشهد على صحته، وقد سبق ذكر كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعشيرته الأقربين في التعليق السابق.(5/176)
لم ينقص منه شيء، وأتوا بالغمر- وهو زي الراكب- فشربوا وكأن لم ينقص منه شيء، ثم قال: يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي؟ قال علي رضي اللَّه عنه: فقلت: أنا، فقال:
اجلس، فلما كان آخر ذلك ضرب يده على يدي [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الحديث السابق يشهد على صحته، وقد سبق ذكر كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعشيرته الأقربين في التعليق السابق.(5/177)
[ثاني وأربعون: أخذ أربعمائة رجل ما أحبوا من تمر قليل ولم ينقض]
وأما أخذ أربعمائة رجل ما أحبوا من تمر قليل ولم ينقص،
فخرج أبو نعيم من حديث الحميدي ويحيى بن عبد الحميد قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا إسماعيل قال: سمعت قيسا يقول: حدثني دكين بن سعيد قال: أتينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أربعمائة راكب نسأله الطعام فقال: يا عمر، اذهب فأطعمهم، فقال:
يا رسول اللَّه! ما عندي إلا آصع [ (1) ] تمر مما يقتات عيالي، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: اسمع وأطع، فقال عمر رضي اللَّه عنه: سمعا وطاعة.
فانطلق حتى أتى عليّة، فأخرج مفتاحا من حزّته [ (2) ] فقال للقوم: ادخلوا، فدخلوا- وكنت آخر القوم دخولا- فقال: خذوا، فأخذ كل رجل منهم ما أحب، ثم التفتّ إليه وإني لمن آخر القوم، وكأنا لم نرزأ تمرة قال أبو نعيم: رواه عيسى بن يونس، وعبد اللَّه بن نمير، ووكيع، ويعلي، ومحمد أبناء عبيد، والمعتمر في آخرين عن إسماعيل مثله [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «صاع» .
[ (2) ] حزّته: عنقه.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 427، حديث رقم (333) ، (مسند أحمد) : 5/ 185- 186، من حديث دكين بن سعيد الخثعميّ، حديث رقم (17126) ، وقال فيه: ونحن أربعون وأربعمائة، وحديث رقم (17127) ، وحديث رقم (17128) ، وحديث رقم (17129) ، وحديث رقم (17130) .(5/178)
[ثالث وأربعون: أكل مائة وثمانين رجلا من الأنصار حتى صدروا من طعام صنعه أبو أيوب الأنصاري]
أما أكل مائة وثمانون رجلا من الأنصار حتى صدروا من طعام صنعه أبو أيوب الأنصاري لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولأبي بكر رضي اللَّه عنه قدر ما يكفيهما،
فخرج الحافظان أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأصبهاني، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد الجريريّ، عن أبي الورد، عن أبي محمد الحضرميّ، عن أبي أيوب الأنصاري قال: صنعت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اذهب فادع لي بثلاثين من أشراف الأنصار، فشق ذلك عليّ وقلت: ما عندي شيء أزيده، فكأني تثاقلت، فقال: اذهب فادع لي بثلاثين من أشراف الأنصار، فدعوتهم فجاءوا، فقال: أطعموا، فأكلوا [حتى صدروا] [ (1) ] ثم شهدوا أنه رسول اللَّه، ثم بايعوه قبل أن يخرجوا.
ثم قال: اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار، فدعوتهم، فو اللَّه لأنا بالستين أخوف مني بالثلاثين، قال: فدعوتهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ترفعوا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول اللَّه، فبايعوه قبل أن يخرجوا.
ثم قال: اذهب فادع لي تسعين من الأنصار، فلأنا أخوف بالتسعين والستين من الثلاثين، قال: فدعوتهم، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول اللَّه، وبايعوه قبل أن يخرجوا، قال: فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الدلائل) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 428، حديث رقم (334) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 94، باب ما جاء في دعوة أبي أيوب الأنصاري وما ظهر في طعامه ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.(5/179)
[رابع وأربعون: أكل نفر حتى شبعوا من طعام يسير صنعه صهيب]
وأما أكل نفر حتى شبعوا من طعام يسير صنعه صهيب،
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن المثنى قال: حدثنا سالم بن نوح عن الجريريّ، عن أبي السليل، عن صهيب رضي اللَّه عنه قال: صنعت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طعاما فأتيته به وهو في نفر من أصحابه جالس، فقمت حياء له، فلما نظر إليّ أو مات إليه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
وهؤلاء؟ فقلت: لا، فسكت وقمت مكاني، فلما نظر إليّ أومأت إليه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: وهؤلاء- مرتين أو ثلاثا- قال: فقلت: نعم، وإنما كان شيئا يسيرا صنعته لك- صلى اللَّه وسلم عليك- فأكلوا، قال: فأحسبه وفضل منهم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] لم أجده في النسخة المحققة من (دلائل أبي نعيم) ، لكن أحاديث الباب تشهد على صحته.(5/180)
[خامس وأربعون: أكل طائفة في بيت عائشة من حيس يسير وشربهم لبنا حتى شبعوا ورووا]
وأما أكل طائفة في بيت عائشة رضي اللَّه عنها من حيس يسير وشربهم لبنا حتى شبعوا ورووا،
فخرج أبو نعيم من حديث يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن الحرث بن عبد الرحمن قال: بينما أنا مع [أبي] [ (1) ] سلمة بن عبد الرحمن، إذ طلع رجل من بني غفار ابن لعبد اللَّه بن طهفة، فقال أبو سلمة: حدثنا حديثك عن أبيك.
فقال: حدثني عبد اللَّه بن طهفة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا اجتمع الضيفان قال: لينقلب كل رجل بضيفه حتى إذا كان في ليلة اجتمع في المسجد ضيفان كثيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لينقلب كل رجل مع جليسه، قال: فكنت أنا ممن انقلب مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما دخل قال: يا عائشة، هل من شيء؟ قالت نعم، حويسة [ (2) ] كنت أعددتها لإفطارك، قال: فأتيني بها، فأتت بها في قعيبة لهم.
فأكل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم منها شيئا ثم قدمها إلينا ثم قال: باسم اللَّه كلوا، فأكلنا منها حتى واللَّه ما ننظر إليها، ثم قال: هل عندك من شراب؟ قالت: لبينة أعددتها لإفطارك، قال: هاتيها [ (3) ] ، فجاءت بها، فشرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم منها شيئا ثم قال:
باسم اللَّه اشربوا، فشربنا حتى واللَّه ما ننظر إليها، ثم خرجنا إلى الصلاة- وكان صلّى اللَّه عليه وسلم يوقظنا [ (4) ] إذا خرج- فقال: الصلاة الصلاة، فرأى رجلا متكئا على وجهه فقال: من هذا؟ قلت: أنا عبد اللَّه، قال: إنها ضجعة يكرهها اللَّه عزّ وجلّ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] الحويسة: تصغير حيس، وهو طعام يتخذ من التمر والسمن والأقط. والأقط: هو اللبن المجفف، وطهفة: هو طخفة بن قيس الغفاريّ، وفي بعض المراجع طهفة وفي بعضها الآخر طخفة.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «هلميها» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «يوقظ أهله» .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 429- 430، حديث رقم (336) ،.(5/181)
وخرج من حديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي سلمة، عن يعيش بن طخفة [بن قيس الغفاريّ] [ (1) ] قال: كان أبي من أهل الصفة، قال: فأمرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجعل الرجل يذهب برجل، والرجل يذهب بالرجلين، حتى بقيت خامس خمسة، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: انطلقوا.
فانطلقنا معه إلى منزل عائشة رضي اللَّه عنها، فقال: يا عائشة أطعمينا، فجاءت بحشيشة فأكلنا، ثم جاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال: يا عائشة: اسقينا، فجاءت بعسّ فشربنا، ثم قال: يا عائشة اسقينا، فجاءت بقدح صغير من لبن فشربنا، ثم قال:
إن شئتم بتمّ وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد، فقلنا: لا، بل ننطلق إلى المسجد [ (2) ] ، قال أبو نعيم: رواه ابن علية، وعبد الوهاب، وعبد الصمد، عن هشام مثله ورواه الأوزاعي وشيبان ومعمر ومحمد بن جابر عن يحيى بن أبي كثير على اختلاف بينهم فيه.
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (مسند أحمد) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 448، حديث رقم (15115) ، من حديث طخفة بن قيس الغفاريّ، رضي اللَّه تعالى عنه، وزاد فيه بعد قوله: بل ننطلق إلى المسجد: فبينا أنا من السحر مضطجع على بطني، إذا رجل يحركني برجله فقال: إن هذه ضجعة يبغضها اللَّه تبارك وتعالى، فنظرت فإذا هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وذكره ابن حبان في (الإحسان) : 12/ 358- 359، حديث رقم (5550) ، كتاب التطيّب والزينة، باب (1) آداب النوم، ذكر بغض اللَّه جل وعلا النائمين على بطونهم، وقال محققه:
إسناده ضعيف لجهالة ابن قيبس بن طهفة ويقال: ابن طخفة، لكنه يتقوى بما قبله، وقد سماه ابن حبان في (الثقات) : 5/ 59: عبد اللَّه، وهو في عداد المجهولين، وأخرجه النسائي في الوليمة من (الكبرى) . وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 301- 302، كتاب الأدب، حديث رقم (7708/ 30) ، وقال في آخره: هذا حديث مختلف في إسناده على يحيى بن أبي كثير، وآخره أن الصواب قيس بن طخفة الغفاريّ، وشاهده حديث أبي هريرة، رضي اللَّه عنه، والبخاري في (التاريخ الكبير) : 4/ 365- 366، ترجمة طخفة الغفاريّ رقم (3167) ، (الإصابة) :
3/ 544، ترجمة رقم (4300) ، (الاستيعاب) : 2/ 774، ترجمة رقم (1294) ، حيث قال ابن عبد البر: طهفة الغفاريّ اختلف فيه اختلافا كثيرا، واضطرب فيه اضطرابا شديدا، فقيل:
طهفة بن قيس بالهاء، وقيل: طخفة بن قيس بالخاء، وقيل: طغفة بالغين، وقيل: طقفة بالقاف والفاء، وقيل: قيس بن طخيفة، وقيل: يعيش بن طخفة عن أبيه، وقيل: عبد اللَّه بن طخفة عن أبيه، ... ثم قال: وإنه صاحب القصة، حديثه عند يحيى بن أبي كثير، وعليه اختلفوا فيه.(5/182)
[سادس وأربعون: غرسه لسلمان الفارسيّ نخلا أطعم من سنته]
وأما غرسه صلّى اللَّه عليه وسلم لسلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه نخلا أطعم من سنته،
فخرج البيهقي من حديث عبد اللَّه بن أبي شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن الحسين ابن واقد قال: حدثني عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه، أن سلمان رضي اللَّه عنه لما قدموا إلى المدينة أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بهدية على طبق، فوضعها بين يديه فقال:
ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة عليك وعلى أصحابك، قال: إني لا آكل الصدقة.
فرفعها ثم جاءه من الغد بمثلها فوضعها بين يديه فقال: ما هذا؟ قال: هدية لك، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: كلوا، قالوا: لمن أنت؟ قال:
لقوم، قال: فاطلب إليهم أن يكاتبوك، قال: فكاتبوني على كذا وكذا نخلة أغرسها لهم، ويقوم عليها سلمان حتى تطعم، فجاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فغرس النخل كله إلا نخلة واحدة غرسها عمر رضي اللَّه عنه، فأطعم نخله [ (1) ] من سنته إلا تلك النخلة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: من غرسها؟ قالوا: عمر، فغرسها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده فحملت من عامها.
قال البيهقي: وروينا عن أبي عثمان عن سلمان أنه قال: فجعل يغرس إلا واحدة غرستها بيدي، فعلقن جميعا إلا واحدة [ (2) ] .
قال المؤلف رحمه اللَّه: قد خرج الحاكم [ (3) ] من حديث أبي عثمان أن هذا من طريق عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن سليمان وعلي بن يزيد
__________
[ (1) ] في (خ) : «النخل» .
[ (2) ] أخرج البيهقي طرفا من هذا الحديث مختصرا في (دلائل النبوة) : 2/ 90، باب ذكر إسلام سلمان الفارسيّ رضي اللَّه تعالى عنه، ثم ذكره بتمامه في (دلائل النبوة) : 6/ 97- 98، باب ما ظهر في النخل التي غرسها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لسلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه، وأطعمت من سنته من آثار النبوة، واستبرائه عند قدومه عليه، وما وصف له من حاله.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 237، كتاب المكاتب، حديث رقم (2862/ 4) .(5/183)
عن أبي عثمان النّهدي، عن سلمان قال: كاتبت أهلي على أن أغرس لهم خمسمائة فسيلة، فإذا علقت فأنا حرّ، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اغرس واشترط لهم، فإذا أردت الغرس فأذني، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجعل يغرس إلا واحدة غرستها بيدي، فعلقت جميعا إلا الواحدة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح من [حديث عاصم] [ (1) ] بن سليمان الأحول، على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد خرجه الإمام أحمد [ (2) ] من حديث عفان به نحوه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 614 من حديث سلمان الفارسيّ، حديث رقم (23218) .(5/184)
[سابع وأربعون: ظهور البركة في تمرات يسيرة بمزود [ (1) ] أبي هريرة]
وأما ظهور البركة في تمرات يسيرة بمزود أبي هريرة حتى حمل منها عدة أوساق
فخرج البيهقي من حديث علي بن المديني قال: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا المهاجر- مولى آل أبي بكرة- عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن بالبركة.
قال فقبضهن ثم دعا فيهن بالبركة ثم قال: خذهن فاجعلهن في مزود، أو قال في مودك، فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثرهن نثرا،
قال:
فحملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا، في سبيل اللَّه، وكنا نأكل ونطعم، وكان المزود معلقا بحقوي [ (2) ] ، لا يفارق حقويّ، فلما قتل عثمان رضي اللَّه عنه انقطع [ (3) ] .
وخرج من حديث أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، فأصابهم عوز من الطعام، فقال: يا أبا هريرة، عندك شيء؟ قال: قلت: شيء من تمر في مزود لي، قال: جيء به، قال: فجئت بالمزودة، قال: هات نطعا، فجئت بالنطع فبسطته، فأدخل يده الشريفة فقبض على التمر، فإذا هو إحدى [ (4) ] وعشرين تمرة.
ثم قال: باسم اللَّه، فجعل يضع كل تمرة ويسمي، حتى أتى على التمر فقال:
به هكذا فجمعه، وقال: ادع فلانا وأصحابه، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، ثم
__________
[ (1) ] المزود: هو وعاء من جلد وغيره، يجعل فيه الزاد.
[ (2) ] الحقو: الوسط، والمراد: موضع شد الإزار.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 109، باب ما جاء في مزود أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وما ظهر فيه ببركة دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة، وأخرجه الترمذي في مناقب أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد روى من غير هذا الوجه عن أبي هريرة، (سنن الترمذي) : 5/ 643، 644، كتاب المناقب باب (47) مناقب أبي هريرة، حديث رقم (3839) .
[ (4) ] في (خ) : «واحد» .(5/185)
قال: به هكذا فجمعه، وقال: ادع فلانا وأصحابه، فأكلوا وشبعوا وخرجوا، وفضل تمر فقال لي: اقعد، فقعدت، فأكل وأكلت، قال: وفضل تمر فأخذه فأدخله في المزودة فقال لي: يا أبا هريرة إذا أردت شيئا فأدخل يدك فخذ، ولا تكفأ فيكفأ عليك،
قال: فما كنت أريد تمرا إلا أدخلت يدي فأخذت منه خمسين وسقا في سبيل اللَّه، وكان معلقا خلف رجلي، فوقع في زمن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه [فذهب] [ (1) ] .
وخرجه من حديث سهل بن أسلم العذريّ، عن زيد بن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أصبت بثلاث مصائب في الإسلام لم أصب بمثلهن: بموت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكنت صويحبه، وقتل عثمان، والمزود، قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟ قال:
كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فقال: يا أبا هريرة أمعك شيء؟ قال:
قلت: تمر في مزود، قال: جيء به، فأخرجت منه تمرا فأتيته به، قال: فمسّه فدعا فيه ثم قال: ادع عشرة، فدعوت عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل الجيش كله وبقي تمر المزود، قال: يا أبا هريرة، إذا أردت أن تأخذ منه شيئا فأدخل يدك فيه ولا تكبّه [ (2) ] .
قال: فأكلت منه حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأكلت منه حياة أبي بكر رضي اللَّه عنه كلها، وأكلت منه حياة عمر رضي اللَّه عنه كلها، وأكلت منه حياة عثمان رضي اللَّه عنه كلها، فلما قتل عثمان انتهب ما في بيتي وانتهب المزود، ألا أخبركم كم أكلت منه؟ أكلت منه أكثر من مائتي وسق [ (3) ] [لفظ حديث المقرئ] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 110، باب ما جاء في مزود أبي هريرة رضي اللَّه عنه وما ظهر فيه ببركة دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] في (خ) : «تكفئه» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 110- 111، ذات الباب.
[ (4) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.(5/186)
[ثامن وأربعون: امتلاء النّحي [ (1) ] الّذي أهريق ما فيه]
[وأما امتلاء النحى الّذي أهريق ما فيه]
فخرج البيهقي من حديث سفيان ابن حمزة، عن كثير بن يزيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال: كان طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدور على أصحابه، على هذا ليلة، وعلى هذا ليلة، فدار عليّ فعلمت طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ذهبت به فتحرك النحي فأهريق ما فيه، فقلت: على يدي أهريق طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اجلس، فقلت: لا أستطيع يا رسول اللَّه، فرجعت فإذا النحي يقول: قب قب، فقلت: فضلة فضلت فيه، فاجتبذته فإذا هو قد مليء إلى يديه فأوكيته، ثم جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أما إنك لو تركته لملئ إلى فيه فأوكه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] النّحى: زقّ السمن.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 112، باب ما جاء في امتلاء النحي الّذي أهريق ما فيه.(5/187)
[تاسع وأربعون: البركة التي ظهرت في الشعير الّذي خلّفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته في بيت عائشة رضي اللَّه عنها]
وأما البركة التي ظهرت في الشعير الّذي خلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته في بيت عائشة رضي اللَّه عنها، فخرج البخاري في باب فضل الفقر من كتاب الرقاق، وخرج مسلم من حديث أبي أمامة، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: لقد توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- وقال مسلم-: توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما في رفّي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ فكلته ففني. لفظهما فيه سواء [ (1) ] .
وذكره البخاري أيضا بهذا الإسناد في كتاب فرض الخمس في باب نفقة نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته [ (2) ] ، وقال: توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: وما في بيتي من شيء ... ،
والحكمة من ذلك أن كثيره مضاد للتوكل، فعوقب فاعله بزواله.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 329، كتاب الرقاق، باب (16) فضل الفقر، حديث رقم (6451) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 257، كتاب فرض الخمس، باب (3) نفقة نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته، حديث رقم (3097) ، (مسلم بشرح النووي) : 18/ 316- 317، كتاب الزهد والرقاق، حديث رقم (2793) ، (سنن الترمذي) : 4/ 554، كتاب صفة القيامة والرقاق والورع باب (31) ، حديث رقم (2467) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قولها:
شطر: تعني شيئا، (دلائل البيهقي) : 6/ 113، باب ما ظهر فيما خلّف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على عائشة رضي اللَّه عنها من الشعير ... ، وزاد في آخر روايته المسندة: وليتني لم آكله.(5/188)
[خمسون: البركة التي حلت في شطر وسق شعير دفعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لرجل استطعمه]
وأما البركة التي حلت في شطر وسق شعير دفعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لرجل استطعمه،
فخرج مسلم من حديث سلمة بن شبيب قال: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا معقل عن أبي الزبير عن جابر رضي اللَّه عنه، أن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم [ (1) ] . ذكره في المناقب.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 45- 46، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (2281) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 114.(5/189)
[حادي وخمسون: أكل نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعياله من شعير دفعه له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نصف سنة لم ينقص لما كاله]
وأما أكل نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعياله من شعير دفعه له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نصف سنة ولم ينقص لما كاله،
فخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة قال: حدثنا يونس بن يزيد، حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن الحرث بن عكرمة عن جده نوفل ابن الحرث بن عبد المطلب، أنه استعان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في التزويج، فأنكحه امرأة فالتمس شيئا فلم يجده، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبا رافع وأبا أيوب رضي اللَّه عنهما بدرعه فرهناه عند رجل من اليهود بثلاثين صاعا من شعير، فدفعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليه، قال: فطعمنا منه نصف سنة ثم كلناه، فوجدناه كما أدخلناه، قال نوفل:
فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلت منه ما عشت [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 114.(5/190)
[ثاني وخمسون: شبع أعرابي بشيء من كسرة قد يبست]
وأما شبع أعرابي بشيء من كسرة قد يبست،
فخرج البيهقي من حديث حفص ابن غياث، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: ضاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [أعرابي] [ (1) ] ، قال: فطلب له شيئا فلم يجد إلا كسرة في كوة، قال: فجزّأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أجزاء ودعا عليها وقال: كل، فأكل وأفضل، قال: فقال: يا محمد، إنك لرجل صالح، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أسلم، قال:
إنك لرجل صالح [ (2) ] .
وفي رواية، قال: أتى أعرابي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فسأله، فدخل فلم يجد إلا كسرة قد يبست في جحر، فأخرجها ففتها أجزاء، ثم وضع يده عليها، ثم دعا، ثم قال:
كل يا أعرابي، فجعل الأعرابي يأكل حتى شبع وفضل منه فضلة، فجعل الأعرابي يرفع رأسه ينظر إليه ويقول: إنك لرجل صالح، وجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، ويقول: إنك لرجل صالح [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] كلا الروايتين بسندهما في (دلائل البيهقي) : 6/ 117- 118.(5/191)
[ثالث وخمسون: أمره قوما كانوا لا يشبعون بأن اجتمعوا]
وأما أمره قوما كانوا لا يشبعون بأن اجتمعوا إذا أكلوا، ففعلوا فشبعوا بامتثالهم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج أبو داود من حديث الوليد بن مسلم، حدثنا وحشي ابن حرب، عن ابنه عن جده، أن أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قالوا: يا رسول اللَّه! إنا نأكل ولا نشبع، قال: فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعم، قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم اللَّه عليه، يبارك لكم فيه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (عون المعبود) : 10/ 170، كتاب الأطعمة، باب (15) في الاجتماع على الطعام، حديث رقم (3758) ،
(سنن ابن ماجة) : 2/ 1093، كتاب الأطعمة، باب (17) الاجتماع على الطعام، حديث رقم (3286) ، وأخرج ابن ماجة أيضا حديث رقم (3287) بسنده، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «كلوا جميعا ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة» .
وخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 560، من حديث وحشي الحبشي، حديث رقم (15648) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 119، باب ما جاء في القوم الذين كانوا لا يشبعون، فأمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالاجتماع على الطعام وتسمية اللَّه تعالى عليه ففعلوا فشبعوا.(5/192)
[رابع وخمسون: ظهور البركة في شعير أم شريك]
وأما ظهور البركة في شعير أم شريك وعكتها، وريها من عند اللَّه ببركة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن عبد الأعلى، عن أبي المساور القرشي، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كانت امرأة من دوس يقال لها: أم شريك، أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلقيت رجلا من اليهود فقال: ما لك يا أم شريك؟
قالت: أطلب رجلا يصحبني إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فتعالي فأنا أصحبك، قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماء، قال: معي ماء، لا تريدين ماء.
قال: فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشّى وقال: يا أم شريك، تعالي إلى العشاء، فقالت: اسقني من الماء فإنّي [عطشى] [ (1) ] ، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال: لا أسقيك حتى تهودي، فقالت: لا جزاك اللَّه عني خيرا، غررتني [ (2) ] ومنعتني أن أحمل ماء، فقال: لا واللَّه لا أسقيك منه قطرة حتى تهودين، فقالت: لا واللَّه لا أتهود أبدا بعد أن هداني اللَّه إلى الإسلام، وأقبلت إلى بعيرها فعقلته، ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت: فما أيقظني إلا [برد] [ (3) ] دلو قد وقع على جبيني.
فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل، ثم ملأته، ثم رفع بين يدي وأنا انظر حتى توارى مني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك، قلت: واللَّه قد سقاني اللَّه، فقال: من أين؟ أنزل عليك من السماء؟ قلت: نعم، واللَّه لقد أنزل اللَّه عزّ وجلّ عليّ من السماء، ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء.
ثم أقبلت حتى دخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقصت عليه القصة، فخطب إليها نفسها، فقالت: يا رسول اللَّه، لست أرضى نفسي لك، ولكن بضعي لك،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «غربتني» .
[ (3) ] في (خ) : «تردد» .(5/193)
فزوجني من شئت، فزوجها زيدا، وأمر لها بثلاثين صاعا وقال: كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت لجارية لها: بلغي هذه العكة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قولي: أم شريك تقرئك السلام، وقولي: هذه عكة سمن هديتها لك، فانطلقت بها فأخذوها ففرغوها، وقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علقوها ولا توكوها [ (1) ] ، فعلقوها في مكانها.
فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمنا، فقالت: يا فلانة! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقالت: قد واللَّه انطلقت بها كما قلت، ثم أقبلت بها أصوبها ما يقطر منها شيء، ولكنه قال: علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة، فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير، فوجدوه ثلاثين صاعا لم ينقص منه شيء [ (2) ] . [قلت: وقد روى ذلك من وجه آخر، ولحديثه في العكة شاهد صحيح عن جابر بن عبد اللَّه في أم مالك.] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «ولا يأكلوها» ، ورواية (خ) أقرب وأنسب للسياق.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 123، باب فيما ظهر من الكرامات على أم شريك في هجرتها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وما ظهر من دلالات النبوة في العكة التي أهدتها له.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.(5/194)
[خامس وخمسون: إشباع أبي أمامة تكرمة له صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما إشباع اللَّه تعالى أبي أمامة رضي اللَّه عنه تكرمة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج البيهقي من حديث علي بن الحسن بن شقيق بن دينار- أبي عبد اللَّه المزوي- قال: أنبأنا الحسين ابن واقد قال: حدثني أبو غالب عن أبي أمامة قال: أرسلني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- أظنه قال: إلى أهله- وهم على طعام- يعني الدم في خوان- فقالوا لي: كل، قال: قلت:
إني لأنهاكم عن هذا الطعام، وأنا رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليكم، وكذبوني وزبروني، قال: فانطلقت [عن ذا] [ (1) ] وأنا جائع ظمآن، وقد نزل بي جهد فنمت، فأتيت في منامي بشربة من لبن فشبعت ورويت وعظم بطني، فقال القوم: أتاكم رجل من خياركم وأشرافكم فرددتموه؟ اذهبوا إليه فأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي، فأتوني بطعام، قال: قلت: لا حاجة لي في طعامكم، فإن اللَّه عزّ وجلّ قد أطعمني وسقاني، فانظروا إلى حالتي التي أنا عليها، فآمنوا بي وبما جئتهم من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرجه من حديث صدقة بن هرمز، عن أبي غالب، عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى قومي، فانتهيت إليهم وأنا طاو، وهم يأكلون الدم، فقالوا: هلم، فقلت: إنما جئتكم لأنهاكم عن هذا، قال: فاستهزءوا بي، وكنت [مجهدا] [ (2) ] ، فسمعتهم يقول بعضهم لبعض: أتاكم رجل من سراة قومكم فما لكم بد من أن تسقوه [ (3) ] ولو مذقة، قال: فوضعت رأسي فنمت، فأتاني آت في منامي فناولني إناء فأخذته فشربته فاستقيت وقد كظّني بطني، فناولوني إناء قالوا: خذ، قلت: لا حاجة لي فيه، قالوا: قد رأيناك بجهد، قلت:
إن اللَّه عزّ وجلّ أطعمني وسقاني، فأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «وكنت بجهد» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «تطعموه» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) 6/ 126- 127، باب ما جاء فيما ظهر على أبي أمامه حين بعث رسولا إلى قومه من الكرامات. وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) : 3/ 744، كتاب معرفة الصحابة، ذكر أبي أمامة الباهلي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (6705/ 2303) ، قال الذهبي في (التلخيص) : صدقة بن هرمز ضعفه ابن معين. وأبو غالب قد وثقه.(5/195)
[سادس وخمسون: إغاثة اللَّه له صلّى اللَّه عليه وسلم عند ما نزل به ضيف]
وأما إغاثة اللَّه عز وجل نبيه الكريم صلّى اللَّه عليه وسلم عند ما نزل به ضيفه وليس عنده ما يقربه،
فخرج البيهقي من حديث عبيد اللَّه بن موسى، عن مسعر عن زبيد عن مرة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: أضاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضيفا، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما، فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فقال: اللَّهمّ إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت، قال: فأهديت إليه شاة مصلية [ (1) ] فقال: هذه من فضل اللَّه عزّ وجل، ونحن ننتظر الرحمة. قال البيهقي:
والصحيح عن زبيد قال: أضاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. مرسلا من قول زبيد [ (2) ] .
وخرج من حديث الوليد بن سليمان بن أبي السائب، حدثنا واثلة بن الخطاب عن أبيه عن جده واثلة بن الأسقع رضي اللَّه عنه قال: حضر رمضان، ونحن في أهل الصفة، فصمنا فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل الصفة فأخذه فانطلق به فعشّاه، فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد [ (3) ] ، فانطلقنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها: هل عندك شيء؟ فما بقيت منهن امرأة إلا أرسلت تقسم: ما أمسى في [بيتها] [ (4) ] ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: [اجتمعوا،] فاجتمعوا، فدعا وقال: اللَّهمّ إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنّهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك، فلم يكن إلا ومستأذن يستأذن، وإذا بشاة مصلّية ورغف، فأمر بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شبعنا، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إنا سألنا اللَّه من فضله ورحمته فهذا فضله، وقد ذخر لنا عنده رحمته [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وفي رواية المقرئ: فأهوت إليه شاة مصلية. (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 128- 129، باب ما جاء في إجابة اللَّه تعالى دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين ضافه ضيف ولم يكن عنده شيء.
[ (3) ] [فأصبحنا صياما، ثم أتت علينا القائلة فلم يأتنا أحد] . (المرجع السابق) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(5/196)
[سابع وخمسون: ظهور البركة في التمر الّذي خلفه عبد اللَّه بن عمرو بن حرام]
وأما ظهور البركة في التمر الّذي خلفه عبد اللَّه بن عمرو بن حرام رضي اللَّه عنه، حتى قضى دينه ولم يكد ينقص،
فخرج البخاري من حديث أبي عوانه، عن مغيرة عن عامر، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: أصيب عبد اللَّه وترك عيالا ودينا، فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضا من دينه، فأبوا، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فاستشفعت به عليهم فأبوا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: صنف تمرك كل شيء منه على حدته، عذق ابن زيد على حدة، واللين على حدة، والعجوة على حدة، ثم أحضرهم حتى آتيك، ففعلت، ثم جاء صلّى اللَّه عليه وسلم فقعد عليه وكال لكل رجل حتى [استوفى] [ (1) ] وبقي التمر كما هو كأنه لم يمس [ (2) ] .
وغزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على ناضح لنا فأزحف الجمل فتخلف عليّ، فوكزه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من خلفه، قال: بعنيه ولك ظهره إلى المدينة، فلما دنونا استأذنت قلت: يا رسول اللَّه! إني حديث عهد بعرس، قال: فما تزوجت؟ بكرا أم ثيبا؟
قلت: ثيبا، قلت: أصيب عبد اللَّه وترك جواري صغار، فتزوجت ثيبا تعلّمهنّ وتؤدبهن، ثم قال: ائت أهلك،
فقدمت فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني، فأخبرته بإعياء الجمل وبالذي كان من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ووكزه إياه، فلما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم غدوت إليه بالجمل فأعطاني ثمن الجمل، والجمل، وسهمي مع القوم. ترجم عليه باب: الشفاعة في وضع الدين [ (3) ] .
وخرج البخاري في كتاب البيوع، في باب الكيل على البائع والمعطى، وفخرج النسائي في كتاب الوصايا، كلاهما من حديث جرير عن مغيرة عن الشعبي، عن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية (البخاري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 5/ 85- 86، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب (18) الشفاعة في وضع الدين، حديث رقم (2405) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2406) .(5/197)
جابر رضي اللَّه عنه قال: توفى عبد اللَّه بن حرام وعليه دين، فاستعنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إليهم فلم يقبلوا، فقال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اذهب فصنف تمرك أصنافا: العجوة على حدة، وعذق ابن زيد [ (1) ] على حدة، ثم أرسل إليّ، ففعلت، ثم أرسلت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجاء فجلس إلى أعلاه- أو في وسطه- ثم قال: كل للقوم، فكلتهم حتى أوفيتهم الّذي لهم وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء [ (2) ] .
وقال النسائي: فاستشفعت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على غرمائي أن يضعوا من دينه شيئا، فطلب إليهم وأبوا [ (3) ] .
وخرجه البخاري في غزوة أحد من حديث عبيد اللَّه بن موسى، حدثنا شيبان أبو معاوية [ (4) ] عن فراس عن الشعبي فذكره [ (5) ] . وخرجه في آخر كتاب الوصايا، من حديث شيبان عن فراس قال: قال الشعبي: حدثني جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنه أن أباه استشهد يوم أحد وترك ستّ بنات وترك عليه دينا، فلما حضره جذاذ النخل أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه! قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد وترك عليه دينا كثيرا، وإني أحب أن يراك الغرماء، قال:
اذهب فبيدر كل تمر على ناحية ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات ثم جلس عليه، ثم قال: ادع أصحابك، فما زال يكيل لهم حتى أدى اللَّه أمانة والدي،
وأنا واللَّه راض أن يؤدي اللَّه أمانة والدي ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم واللَّه البيادر كلها حتى انظر إلى البيدر الّذي كان عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
__________
[ (1) ] ابن زيد: شخص نسب إليه النوع المذكور من التمر، وتمر المدينة أصنافه كثيرة جدا تزيد على الستين، والتمر الأحمر أكثر من الأسود عندهم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 432- 433، باب (51) الكيل على البائع والمعطي، حديث رقم (2127) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 6/ 556، كتاب الوصايا، باب (4) قضاء الدين قبل الميراث، وذكر اختلاف الناقلين لخبر جابر فيه، حديث رقم (3640) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 453- 454، كتاب المغازي، باب (18) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، حديث رقم (4053) .(5/198)
كأنه لم ينقص تمرة واحدة [ (1) ] . قال أبو عبد اللَّه: أغروا بي: يعني هيجوا بي.
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ترجم عليه في الوصايا باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة وذكره في غزوة أحد [ (2) ] : حتى أدى اللَّه عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي اللَّه أمانة والدي، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم اللَّه البيادر كلها.. حتى [آخر] الحديث.
وقال في باب علامات النبوة في الإسلام: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا قال: حدثني عامر، قال: حدثني جابر أن أباه توفي وعليه دين، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: إن أبي ترك عليه دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكي لا يفحش عليّ الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا، ثم أخّر ثم جلس عليه فقال: انزعوه، فأوفاهم الّذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم [ (3) ] .
وخرج في كتاب الأطعمة، من حديث أبي حازم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أبي ربيعة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في [تمري] إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة، فجلست فخلا عاما، فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا، فجعلت استنظره إلى قابل فيأبى، فأخبر بذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يكلم اليهودي، فيقول يا أبا القاسم لا أنظره، فلما رأى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم قام فطاف في النخل، ثم جاءه فكلمه فأبى، فقمت فجئت بقليل من رطب، فوضعته بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر؟
فأخبرته فقال: افرش لي فيه، ففرشته فدخل فرقد ثم استيقظ، فجئته بقبضة أخرى، فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرّطاب في النخل
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 518- 519، كتاب الوصايا، باب (36) ، حديث رقم (2781) قضاء الوصي دين الميت بغير محضر الورثة.
[ (2) ] سبق الإشارة إليه تعليق رقم (5) من الصفحة السابقة
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 728، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3580) ، ونحوه في (دلائل أبي نعيم) : 2/ 435- 436، باب قصة غرماء جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه، حديث رقم (435) .(5/199)
الثانية ثم قال: يا جابر، خذ واقض، فوقف في الجذاذ، فجذذت منها ما قضيته وفضل منه، فخرجت حتى جئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فبشرته فقال: أشهد أني رسول اللَّه [ (1) ] .
قال أبو عبد اللَّه: عرش وعريش: بناء، وقال ابن عباس: معروشات ما يعرش من الكروم وغير ذلك، ويقال: عروشها: أبنيتها، وقال أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف: [قد وقع] [ (2) ] في هذا الحديث إشكال في لفظه ومعناه، أما المعنى:
فلأن جابر لم يداين أولئك اليهود، وإنما كان أبوه مات وترك الدين عليه، وهي قضية مشهورة.
وخرج البيهقي من حديث محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكيم قال: أخبرنا عروة عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد اللَّه أنه أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ليشفع إليه، فجاءه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمشى فيها ثم قال: يا جابر، جذّ له فأوفه الّذي له، فجذّ بعد ما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت له سبعة عشرة وسقا.
فجاء جابر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليخبره بالذي فعل، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي العصر، فلما انصرف [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] جاءه فأخبره أنه قد وفّاه، وأخبره بالفضل الّذي فضل له، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أخبر ذلك ابن الخطاب، فذهب جابر إلى عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فأخبره، فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليباركن اللَّه عزّ وجلّ فيها [ (3) ] .
قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 706- 707، كتاب الأطعمة، باب (41) الرطب والتمر، وقول اللَّه تعالى:
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، حديث رقم (5443) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 150، باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في التمر الموروث عن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام رضي اللَّه عنه حتى قضى منه دينه وكأنه لم ينقص منه شيء، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.(5/200)
عياض،
وهذا لا يخالف الأول، فإن الأول في سائر الغرماء الذين حضروا وحضر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أوفاهم ديونهم، وهذا في اليهودي الّذي أتاه بعدهم، وطالب بدينه، فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم جابراً بجذ ما بقي على النخلات وإيفائه حقه، واللَّه أعلم [ (1) ] .
وقال الواقدي- وقد ذكر غزوة ذات الرقاع-: وحدثني إسماعيل بن عطية ابن عبد اللَّه بن أنيس [عن أبيه] عن جابر بن عبد اللَّه قال: لما انصرفنا راجعين فكنا بالشّقرة، قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا جابر، ما فعل دين أبيك؟ فقلت:
عليه انتظرت يا رسول اللَّه أن يجذّ له نخله، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا جذذت فأحضرني، قال: قلت: نعم، ثم قال: من صاحب دين أبيك؟ فقلت: أبو الشحم اليهودي، له على أبي سقة [ (2) ] من تمر، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فمتى تجذّها؟ قال: قلت: غدا، قال: يا جابر، إذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها، وألوان التمر على حدتها.
قال: ففعلت، فجعلت الصّيحانيّ على حدة، وأمهات الجرادين على حدة، والعجوة على حدة، ثم عمدت إلى جمّاع من التمر مثل نخبة وقرن وشقحة وغيرها من الأنواع- وهو أقل التمر- فجعلته حبلا [ (3) ] واحدا، ثم جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته فانطلق ومعه عليه أصحابه، فدخلوا الحائط، وحضر أبو الشحم.
قال: فلما نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى التمر مصنفا قال: اللَّهمّ بارك له، ثم انتهى إلى العجوة فمسها بيده، وأصناف التمر، ثم جلس وسطها، ثم قال: ادع غريمك.
فجاء أبو الشحم، فقال: اكتل، فاكتال حقه كله من حبل واحد وهو العجوة، وبقية التمر كما هو، فقال: يا جابر، هل بقي على أبيك شيء؟ قال: قلت:
__________
[ (1) ] المرجع السابق.
[ (2) ] سقة من تمر: قال ابن الأثير: السقة جمع وسق، وهو الحمل، وقدّره الشرع بستين صاعا، وقد صحّفه بعضهم بالشين المعجمة وليس بشيء، مختصرا من (النهاية) : 2/ 169.
[ (3) ] الحبل: قطعة من الرمل ضخمة ممتدة، (المرجع السابق) : 1/ 197.(5/201)
لا، قال: وبقي سائر التمر فأكلنا منه دهرا وبعنا منه حتى أدركت الثمرة من قابل، ولقد كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت ما على أبي من دين، فقضى اللَّه ما كان على أبي من الدين، فلقد رأيتني والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليقول لي: ما فعل دين أبيك؟ فقلت:
قد قضاه اللَّه، قال: اللَّهمّ اغفر لجابر، فاستغفر لي في ليلة خمسا وعشرين مرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 401- 402.(5/202)
[ثامن وخمسون: سماع الصحابة تسبيح الطعام وهم يأكلونه]
وأما سماع الصحابة رضي اللَّه عنهم تسبيح الطعام وهم يأكلونه مع المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام، من حديث إسرائيل عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: كنا نعد الآيات بركة وكنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيع الطعام وهو يؤكل [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 728، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3579) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 62- 63، باب ما جاء في تسبيح الطعام الّذي كانوا يأكلون مع نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وما في ذلك من آثار النبوة، (سنن الترمذي) : 5/ 557، كتاب المناقب، باب (5) في إثبات نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما قد خصّه اللَّه عز وجل، حديث رقم (3633) ، وقال في آخره: هذا حديث حسن صحيح.(5/203)
[تاسع وخمسون: مسحه ضرع شاة أم معبد فدرّت باللبن]
وأما مسحه صلّى اللَّه عليه وسلم ضرع شاة أم معبد فدرت باللبن، بعد ما كانت في جهد لا تبض بقطرة، فخرجه الأئمة الحفاظ: خرجه الحرث بن أبي أسامة، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، من حديث أبي أحمد بشر بن محمد السكري المزوي قال:
حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، حدثنا الحرّ بن الصباح، عن أبي معبد الخزاعي [ (1) ] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي اللَّه عنه وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد اللَّه بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية [ (1) ]- وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة، تحتبي [ (2) ] وتجلس بفناء الخيمة، فتطعم وتسقى- فسألوها: هل معها لحم أو لبن يشتروا منها؟
فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، فقالت: لو كان عندنا شيئا ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإذا شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: فهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذاك، قال: تأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، قال: فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالشاة فمسحها، وذكر اسم اللَّه ومسح ضرعها، وذكر اسم اللَّه ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت [ (3) ] ودرّت واجترت، فحلب فيه
__________
[ (1) ] أم معبد الخزاعية، هي عاتكة، بنت خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، وقيل: عاتكة بنت خالد ابن خليف، بن منقذ بن ربيعة، وهي أخت حبيش بن خالد الأشعر الخزاعي القديدي، وله صحبة ورواية، وهو راوي حديثها. وزوجها أبو معبد الخزاعي مختلف في اسمه، وتوفى في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان يسكن قديدا، وهي موضع قرب مكة، وفي (معجم ما استعجم) : 3/ 1054، أن هذه القرية سميت قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
[ (2) ] تحتبي: تجلس على أليتها، وتضم فخذيها إلى بطنها بذراعيها لتستند.
[ (3) ] تفاجّت: فرّجت ما بين رجليها للحلب.(5/204)
ثجا حتى علاه البهاء، فسقاها وسقى أصحابه فشربوا جميعا حتى أراضوا، وشرب صلّى اللَّه عليه وسلم آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا،
قال: فقل ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حيلا عجافا يتساوكن هزلا [ (1) ] ، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟ فقالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت وكيت.
قال: صفيه لي يا أم معبد، فو اللَّه إني أراه صاحب قريش الّذي يطلب، فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق، مبلج الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، أحور أكحل، أزجّ أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سماه وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هزر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدّرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة، لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أجمل الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفنّد.
قال: هذا واللَّه صاحب قريش الّذي تطلب، ولو صادفني لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قال: وأصبح صوت بمكة عاليا بين السماء والأرض، يسمعونه ولا يدرون من يقوله وهو ينشد ويقول:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبرّ وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما روى اللَّه عنكم ... به من فعال لا تجاري وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
__________
[ (1) ] ضعافا.(5/205)
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردّدها في مصدر ثم مورد
قال: فأصبح الناس وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وأجابه حسان بن ثابت يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى إليهم ويغتدى
ترحّل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا ... عمى، وهداة يقتدون بمهتدى
لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في صحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمسلمين بمرصد [ (1) ]
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 337- 340، حديث رقم (238) ، وقال في آخره: قال أبو أحمد بن بشر بن محمد، حدثنا عبد الملك بن وهب: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت، ولحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله.
حدثنا سليمان بن أحمد، إملاء وقراءة، قال حدثنا على بن عبد العزيز قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام:
البرزة من النساء: الجلدة، التي تظهر للناس، ويجلس إليها القوم.
مرملين مسنتين: المرمل الّذي قد نفد زاده، والمسنت الّذي أصابته السّنة، وهي الأزمة والمجاعة.
قال أبو عبيد: إذا قال: يال فلان: فذلك في الاستغاثة بالفتح، ويال المسلمين. وإذا أراد التعجب والنداء قال: بال فلان بالكسرة.
كسر الخيمة: وهو مؤخرها، وفيه لغتان: كسر، وكسر.
وقال بعضهم: الكسر هو في مقدم الخيمة.
فتفاجّت عليه: يعني فرجت رجليها كما تفعل التي تحلب.
بإناء يربض الرهط: أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه.
فحلب فيها ثجا: يعني سيلا، وكذلك كل سيل، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم وقد سئل عن الحجّ فقال: العجّ والثّجّ،(5/206)
وخرج قاسم بن أصبغ من حديث أبي هاشم محمد بن سليمان بن الحكم، عن جده أيوب بن الحكم عن حرام بن هشام عن أبيه هشام، عند جده حبيش ابن خالد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فذكره بمعناه.
__________
[ () ] فالعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثّجّ: سيل دماء الهدي، وقال تعالى: ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] .
أراضوا: أصل هذا في صبّ اللبن على اللبن، ومعنى قولها: أراضوا: هو شرب لبن صبّ على لبن.
فغادره عندها: تركه عندها.
تساوكن هزلا: التساوك: المشي الضعيف.
الشاة عازب: يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى.
الحيّل: التي ليست بحوامل.
وقولها في صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ظاهر الوضاءة: يعني الجمال، والوضيء: الجميل.
المتبلّج الوجه: الّذي فيه إضاءة ونور. رجل مبلّج وأبلج، قال الأعشى:
حكّمتوه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لم تعبه ثجلة: ومعناه عظم البطن، تقول: فليس هو كذلك.
لم تزر به صعلة: تريد صغر الرأس، يقال: رجل صعل.
وسيم قسيم: كلاهما هو الجمال.
في عينيه دعج: وهو سواد الحدقة، يقال: رجل أدعج، امرأة دعجاء.
في أشفاره عطف: كان بعض الناس يظنها معطوفة، وأنا أظنها وطفا، وكذلك كل مستطيل مسترسل، وأيضا السحابة الدانية من الأرض وطف.
في صوته صهل: إنه صحل، وهو شبيه بالبحح، وليس بالشديد منه، ولكنه حسن، وبذلك توصف الظباء.
في عنقه سطع: هو الطول، يقال منه رجل أسطع، وامرأة سطعاء، وهذا مما يمدح به الناس.
الأزجّ: هو المقوس الحاجبين، والأقرن: هو الّذي التقى حاجباه بين عينيه.
منطقه لا نزر ولا هزر: فالنزر: القليل: والهزر: الكثير، تقول: قصد بين ذلك.
لا تقتحمه عين من قصر: تقول: لا تزدريه فتنبذه ولكن تقبله وتهابه.
محفود محشود: فالمحفود: المخدوم، قال اللَّه عزّ وجل: بَنِينَ وَحَفَدَةً، ومحشود: هو الّذي قد حشده أصحابه وحفّوا حوله، (المرجع السابق) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 491- 496، باب اجتياز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمرأة وابنها، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، 6/ 84- 86، باب ما جاء في ظهور بركته في الشاة التي لم يكن فيها لبن حتى نزل لها لبن، وقد مضى ذلك في ذكر نزوله بمخيمتي أم معبد، ونزوله قبل ذلك بالأغنام التي كان يرعاها ابن أم معبد، (المستدرك) : 3/ 10- 12، كتاب الهجرة، حديث رقم (4274/ 18) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويستدل على صحته وصدق رواته بدلائل: منها: نزول المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم بالخيمتين متواترا في أخبار صحيحة ذوات عدد. ومنها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يهتمون بوضع الحديث، والزيادة والنقصان، وقد(5/207)
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مكة، لم يعلم أهل مكة أين وجّه، حتى سمعوا مغردا بين أخشبي [ (1) ] مكة يقول:
جزى اللَّه خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهنئ بني كعب مكان فنائهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد [ (2) ]
قال ابن إسحاق: فعرف أهل مكة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم توجه قبل المدينة.
وقال الواقدي: حدثني حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد- واسمها عاتكة بنت خالد بن حبيب- قالت: لما طلعوا الأربعة على راحلتين، نزلوا بنا، فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشاة أريد أن أذبحها، فإذا هي ذات در، فأدنيتها منه فلمس ضرعها فقال: لا نذبحها،
فأرسلتها وجئت بأخرى فذبحتها فطبخت لهم، فأكل هو وأصحابه، قلت: ومن معه؟ قالت: ابن أبي قحافة ومولى ابن أبي قحافة وابن أريقط- وهو على شركه بعد- قالت: فتغدى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، منها وأصحابه، وسفرتهم منها، ما وسعته سفرتهم، وأبقى عندنا لحمها أو أكثره.
فبقيت الشاة التي لمس ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن
__________
[ () ] أخذوه لفظا بعد لفظ، عن أبي معبد وأم معبد، ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه، والأب عن جده، لا إرسال ولا وهن في الرواة. ومنها: أن الحرّ بن الصباح النخعي، أخذه عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الّذي رويناه بسياقة الحديث عن الكعبيين، فإنه إسناد صحيح عال للعرب الأعاربة، وقد علونا في حديث الحرّ بن الصباح، (عيون الأثر) : 1/ 190، (سيرة ابن هشام) : 3/ 14، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 337- 343، حديث رقم (238) .
[ (1) ] الأخشبان: جبلان بمكة.
[ (2) ] هذه الأبيات في (عيون الأثر) : 1/ 188- 189، هكذا:
جزى اللَّه خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما رحلا بالحق وانتزلا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسي لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى برأس السابح المتجرد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
وفي بعض المراجع: «السانح» بدلا من «السابح» .(5/208)
الخطاب رضي اللَّه عنه، وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة، كنا نحلبها صبوحا وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير. قال حزام: وكانت أم معبد يومئذ مسلمة.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: هكذا أورد أبو نعيم هذا الخبر من حديث أم معبد- رضي اللَّه عنها- عن الواقدي، وفيه ما يخالف ما تقدم، على أن فيه علما من أعلام النبوة.
وخرج أبو نعيم من حديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: حدّثت عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنه أنها قالت: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر رضي اللَّه عنه فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري واللَّه أين أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة خرم قرطي.
قالت: ثم انصرفوا، فمضى ثلاث ليال ما ندري أين توجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات شعر غنى بها العرب، وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج بأعلى مكة:
جزى اللَّه رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمة من محمد
وأكسي لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأغطى برأس السانح المتجرد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وعامر ابن فهيرة، وعبد اللَّه بن أريقط دليلهما [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: سمعت عبد الرحمن بن
__________
[ (1) ] (عيون الأثر) : 1/ 189، حيث رواه بعد حديث أم معبد ثم قال في آخره: وبه قال أبو بكر الشافعيّ: حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثت عن أسماء ... ، وساق الحديث، وزاد بيتين.(5/209)
أبي ليلى يحدث عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مكة فأتينا إلى حيّ من أحياء العرب، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدي اللَّه، إنما أنا امرأة وليس عندي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها- وذلك عند المساء- فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها فقالت له: انطلق يا بني بهذه العنز والشاة إلى هذين الرجلين فقل لهما: تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.
فلما جاء، قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: انطلق بالشفرة وجئني بالقدح، قال: إنها عزبت وليس لها لبن، قال: انطلق، فانطلق فجاء بقدح، فمسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال: انطلق به إلى أمك، فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى، ففعل بها كذلك، ثم جاء بأخرى فسقا أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال:
فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا، فكانت تسمية المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أماه، إن هذا الرجل الّذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد اللَّه، من الرجل الّذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو؟
قالت: لا، قال: هو النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قالت فأدخلني عليه، قال: فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها [ (1) ] .
وفي رواية: قالت: دلني عليه، فانطلقت معي وأهدت له شيئا من أقط ومتاع الأعراب، قال: فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلم إلا قال: أسلمت [ (2) ] .
قال البيهقي- رحمة اللَّه عليه-: هذه القصة وإن كانت تنقص عما روينا في قصة أم معبد وتزيد في بعضها فهي قريب منها، وتشبه أن تكونا واحدة، وقد ذكر
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 491- 492 باب اجتياز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمرأة وابنها- وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] هي رواية ابن عبدان كما صرح بذلك البيهقي في المرجع السابق.(5/210)
محمد بن إسحاق بن يسار من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه القصة قصة واحدة سواء بها [ (1) ] .
وذكر من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: لما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بخيمتي أم معبد- وهي التي غرد بها الجن بأعلى مكة- واسمها عاتكة بنت حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، فأرادوا القرى،
قالت: واللَّه ما عندنا طعام ولا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ببعض غنمها، فمسح ضرعها بيده، ودعا اللَّه، وحلب في العس حتى رغى وقال: اشربي يا أم معبد، فقالت: اشرب فأنت أحق به، فردّه عليها فشربت. ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشرب، ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم يروح.
وطلبت قريش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوها عنه، فقالوا:
رأيت محمدا وحليته كذا؟ فوصفوه لها فقالت: ما أدري ما تقولون، قد ضافني حالب الحائل، قالت قريش: فذاك الّذي نريد] .
[قال البيهقي: فيحتمل أن يكون أولا، أي التي في كسر الخيمة، كما روينا في حديث أم معبد، ثم رجع ابنها بأعنز، كما روينا في حديث ابن أبي ليلى، ثم لما أتى زوجها وصفته له، واللَّه تعالى أعلم] [ (2) ] .
وخرج الحاكم قصة أم معبد من طريق [أبي سعيد، أحمد بن محمد بن عمرو الأخمسيّ بالكوفة، حدثنا الحسين بن حميد بن الربيع الخزار، حدثنا سليمان بن الحكم
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، وقد رجح هذا أيضا الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 238.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 493- 494، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) وقد أثبتناه منه.
وقد سجّل شاعر العروبة والإسلام [أحمد محرم] في (ديوان مجد الإسلام) هذا الحدث الجليل من خيمة أم معبد فقال:
ما حديث لأمّ معبد تستقيه ... ظمأى النفوس عذبا نميرا
سائل الشاة كيف درّت وكانت ... كزّة الضرع لا ترجّى الدرورا
بركات السّمح المؤمّل يقرى ... أمم الأرض زائرا أو مزورا
مظهر الحق للنّبوّة سبحانك ... ربّا فرد الجلال قديرا
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.(5/211)
ابن أيوب بن سليمان بن ثابت بن بشار الخزاعي، حدثنا أخي أيوب بن الحكم، وسالم بن محمد الخزاعي، جميعا، عن حزام بن هشام، عن أبيه حزام بن حبيش ابن خويلد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، وأبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه، ومولى أبي بكر: عامر بن فهيرة، ودليلهما: الليثي عبد اللَّه بن أريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية- وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم- فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين.
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى اللَّه تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه ودرّت فاجترّت.
فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا، ثم حلب فيه الثانية على هدة حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلّ ما لبث حتى جاء زوجها أبو معبد ليسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا، مخّهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب حائل، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا واللَّه إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: - رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق،] [ (1) ]
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.(5/212)
فصلا لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة، لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال أبو معبد: هذا واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى اللَّه عنكم ... به من فعال لا تجازي وسؤدد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
وليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر بعد مورد]
[فلما سمع حسان الهاتف بذلك شبب يجاوب الهاتف فقال رضي اللَّه تعالى عنه:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدّس من يسري إليهم ويغتدى
ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... فأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمى، وهداة يهتدون بمهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد(5/213)
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد [ (1) ]
قال ابن هشام: وأم معبد هي: أم معبد بنت كعب، امرأة من بني كعب، من خزاعة] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 10- 11، حديث رقم 4274/ 18، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التخليص) : صحيح، ونزول المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بالخيمتين متواترا في أخبار صحيحة، ولذلك دلائل منها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون، وقد أخذوه عن أبي معبد وأم معبد. ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه، لا إرسال ولا وهن في الرواة، ومنها: أن الحرّ بن الصباح النخعي أخذه عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه. وقد سبق شرح غريب هذا الحديث.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 14، وأم معبد اسمها: عاتكة بنت خالد، إحدى بنى كعب من خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد، وله صحبة ورواية، ويقال له الأشقر، وأخوها حبيش بن خالد وخالد الأشعر أبو هما، هو ابن حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب ابن عمرو، وهو أخو خزاعة. (هامش المرجع السابق) .
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.(5/214)
[ستون: حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم عناقا [ (1) ] لا لبن فيها مع عبد يرعى غنما]
وأما حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم عناقا لا لبن فيها مع عبد يرعى غنما،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن غالب، حدثنا أبو الوليد: حدثنا عبيد اللَّه بن إياد بن لقيط، عن قيس ابن النعمان قال: لما انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر رضي اللَّه عنه مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء وقد أخدجت [ (2) ] وما بقي لها لبن، فقال: ادع بها، فاعتقلها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسح ضرعها، ودعا اللَّه حتى أنزلت.
قال: وجاء أبو بكر رضي اللَّه عنه بمجن فحلب صلّى اللَّه عليه وسلّم فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: باللَّه من أنت؟ فو اللَّه ما رأيت مثلك قط! قال: أو تراك تكتم عليّ حتى أخبرك؟ قال: نعم، قال: فإنّي محمد رسول اللَّه.
قال: أنت الّذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك، قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك.
قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا [ (3) ] .
وخرجه أبو داود الطيالسي من حديث عبد اللَّه بن إياد بن لقيط، فذكره وقال في آخره:
فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما ظهر بالمدينة. وخرجه الحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد [ (4) ] .
__________
[ (1) ] العناق: هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة.
[ (2) ] أخدجت: ولدت قبل أوانها.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 497، باب اجتيازه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع صاحبه بعبد يرعى غنما، وما ظهر عند ذلك من آثار النبوة.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 9- 10، حديث رقم 4273/ 17، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (البداية والنهاية) : 3/ 238 نقلا عن البيهقي، (عيون الأثر) : 1/ 190- 191.(5/215)
[حادي وستون: حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم اللبن من شاة لم ينز عليها الفحل]
وأما حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم اللبن من شاة لم ينز عليها الفحل،
فخرج أبو نعيم من حديث أبي داود قال: حدثنا حماد [بن سلمة] [ (1) ] عن عاصم، عن زرّ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبي معيط بمكة، فأتى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه- وقد فرا من المشركين- فقال: يا غلام، عندك لبن تسقينا؟ فقال: إني مؤتمن، [ولست بساقيكما، قالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضرع فمسحه، ودعا، فحفل الضرع، وأتى أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص، فلما كان الغد، أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: علّمني هذا القول الطيب- يعني القرآن- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
إنك غلام معلّم، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعمي) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 329، حديث رقم 233، (البداية والنهاية) : 3/ 238- 239 عن البيهقي، (مسند أحمد) : 1/ 626، حديث رقم (3587) ، حديث رقم (3588) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 150- 151، باب: ومن حلفاء بني زهرة بن كلاب من قبائل العرب: عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، وقد أثبتناه من كتب السيرة.(5/216)
[ثاني وستون: ظهور الآية في اللبن للمقداد رضي اللَّه عنه]
وأما ظهور الآية في اللبن للمقداد- رضي اللَّه عنه-
فخرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فليس أحد منهم يصلنا، فأتينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم نصيبه.
قال فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، [ويسمع اليقظان، قال:
ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل.
قال: ندّمني الشيطان، فقال: ويحك ما صنعت! أشربت شراب محمد، فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك؟ وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم كما كان يسلّم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال:
اللَّهمّ أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني.
قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا هي حافلة، وإذا هنّ حفّل كلهن، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما كانوا يطعمون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟.(5/217)
قال: قلت: يا رسول اللَّه اشرب، فشرب، ثم ناولني، فقلت: يا رسول اللَّه اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد روى، وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إحدى سوءاتك يا مقداد، فقلت: يا رسول اللَّه! كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذه إلا رحمة من اللَّه، أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها، قال: فقلت: والّذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 257- 260، كتاب الأشربة، باب (32) إكرام الضيف وفضل إيثاره، حديث رقم (174) ، وفي هذا الحديث: آداب السلام على الأيقاظ في موضع فيه نيام أو من في معناهم، وأنه يكون سلاما متوسطا بين الرفع والمخافتة، بحيث يسمع الأيقاظ ولا يهوش به على غيرهم، وفيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيرا، وفيه: ما كان عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحلم، والأخلاق والمحاسن المرضية، وكرم النفس، والصبر، والإغضاء عن حقوقه، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يسأل عن نصيبه من اللبن. والشاة الحافل: الممتلئ ضرعها باللبن، (دلائل البيهقي) : 6/ 84- 86، باب ما جاء في ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشاة التي لم يكن فيها لبن، حتى نزل لها لبن، (طبقات ابن سعد) : 1/ 184، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.(5/218)
[ثالث وستون: سرعة سير الإبل بعد جهدها بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما سرعة سير الإبل بعد جهدها بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج أبو نعيم من حديث المعتمر قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو نضرة عن جابر، وحدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال:
حدثنا أبو كامل [الجحدريّ] ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال:
حدثنا الجريريّ عن أبي نضرة، عن جابر رضي اللَّه عنه، وحدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النرسي، قال: حدثنا جميل بن الحسن قال:
حدثنا غسان بن مضر، عن سعيد بن يزيد أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن جابر رضي اللَّه عنه قال:] [كنا في مسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وأنا على ناضح لي، إنما هو في أخريات الناس، قال: فضربه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو نخسة، أراه قال: بشيء كان معه، قال: فجعل بعد ذلك يتقدم الناس ينازعني حتى أني لأكفّه [ (1) ] .] .
[وخرّج من حديث أحمد بن محمد بن الحسن الماسرجسي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا جرير عن مغيرة، عن الشعبي، عن جابر رضي اللَّه عنه، قال:] [غزوت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلاحق بي وتحتي ناضح لي قد أعيا، ولا يكاد يسير، قال: فقال لي: ما لبعيرك؟ قلت: عليل، قال: فتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير، قال: فكيف ترى بعيرك؟
قال: قلت: بخير قد أصابته بركتك [ (2) ] .] .
وخرّج من حديث سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن داود المكيّ قال:
حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا الصعق بن حزن، وأبو هلال الراسبي، قالا: حدثنا سيار أبو الحكم عن الشعبي، عن جابر قال:]
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 437- 438، باب قصة البعير المتخلف لجابر بن عبد اللَّه وأبي طلحة رضي اللَّه عنهما، حديث رقم (348) ، وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 438، حديث رقم (349) .(5/219)
[كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة، وأنا على بعير لي قطوف [ (1) ] ، فمر بي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فغمز بعيري بعصا في يده، فإذا هو في أول الركاب [ (2) ] .
وخرج من حديث يوسف القاضي قال: حدثنا أبو الربيع، حدثنا حماد، حدثنا أيوب عن أبي الزبير، عن جابر قال:] .
[أتى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أعيى بعيري، قال: فنخسه فوثب، قال:
فكنت أحبس بعد ذلك خطامه فما أقدر عليه [ (3) ] .] .
[ومن حديث جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه قال: فزع الناس، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة بطيئا، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فقال: لن تراعوا وإنه لبحر، قال: فو اللَّه ما سبق بعد ذلك اليوم [ (4) ]] .
[وخرج البيهقي من حديث أبي نعيم، حدثنا زكريا، قال: سمعت عامرا يقول:
حدثني جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه: أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيّبه فقال: فلحقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فضربه ودعا له، فسار سيرا لم يسر مثله.
ثم قال: بعنيه بأوقية، قلت: لا، قال: بعنيه بأوقيتين، فبعته واشترطت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل على أثري وقال: أترى أني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك، ودراهمك، فهو لك [ (5) ]] .
[وخرج من حديث حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر
__________
[ (1) ] قطوف: بطيء.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 438، حديث رقم (350) ولم أجده عند غير أبي نعيم.
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (351) ، وأخرجه مسلم.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 439، حديث رقم (352) ، وأخرجه البخاري بسند حديث الباب، كما أخرجه من حديث أنس من طرق أخرى بألفاظ متقاربة.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 151، باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعير جابر بن عبد اللَّه وقد أعيا، حتى صار ببركة دعائه في أول الركب ... ، وقد أخرجه البخاري في (54) كتاب الشروط، (4) باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة، ومسلم في (22) كتاب المساقاة، (21) باب بيع البعير واستثناء ركوبه، (الإحسان) : 14/ 450، باب ذكر البيان بأن جابر بن عبد اللَّه استثنى حملان راحلته التي وصفناها إلى المدينة بعد البيع، حديث رقم (6519) .(5/220)
رضي اللَّه عنه قال: أتى عليّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أعيا بعيري، فنخسه فوثب، فكنت بعد ذلك أحبس خطامه فما أقدر عليه، فلحقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: بعنيه، فبعته منه بخمس أواق، قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولك ظهره إلى المدينة، فلما قدمت المدينة، أتيت فزادني أوقية، ثم وهبه لي. [ (1) ]] .
[وله من حديث عبد اللَّه بن أبي الجعد الأشجعي، عن جعيل الأشجعي، قال: غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض غزواته وأنا على فرس لي جعفاء ضعيفة، قال: فكنت في أخريات الناس، فلحقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: سر يا صاحب الفرس، فقلت: يا رسول اللَّه! جعفاء ضعيفة، قال: فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مخفقة معه، فضربها بها، وقال اللَّهمّ بارك له فيها، قال: فلقد رأيتني ما أمسك رأسه إن تقدم الناس، قال فلقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا] [ (2) ] .
وله من حديث أبي سهل بن زياد القطان، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن علي، حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال:] .
جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أو قال: فتى- فقال: إني تزوجت امرأة فقال:
هل نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا، قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ فذكر شيئا، قال: فكأنكم تنحتون الذهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه، ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس، وبعث الرجل فيهم فأتاه فقال: يا رسول اللَّه، أعيتني ناقتي أن تنبعث، قال: فناوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كالمعتمد عليه للقيام، فأتاها، فضربها برجله،
قال أبو هريرة: والّذي نفسي بيده، لقد رأيتها تسبق القائد [ (3) ]] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 152، وأخرجه مسلم أيضا.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 153، (التاريخ الكبير) : 2/ 249، ترجمة رقم (2356) ، جعيل، قال رافع بن زياد بن أبي الجعد، أخى سالم بن أبي الجعد، قال: حدثني جعيل، قال: غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا في أخريات الناس....
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 154، (صحيح مسلم) : (16) كتاب النكاح، (12) باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد النكاح، حديث رقم (75) .(5/221)
[وله من حديث جعفر بن عوف، قال: أنبأنا الأعمش، عن مجاهد، أنّ رجلا اشترى بعيرا، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يبارك لي فيه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ بارك له فيه، فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر، فأتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه! إني اشتريت بعيرين، فدعوت اللَّه أن يبارك لي فيهما، فادع اللَّه أن يحملني عليه، قال: فقال: اللَّهمّ احمله عليه، قال فمكث عنده عشرين سنة] [ (1) ] .
[قال البيهقي: هذا مرسل، ودعاؤه صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين، ثم سأله صاحب البعير الدعاء بأن يحمله عليه، وقعت الإجابة إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل زكاة، وأطيبها، وأنماها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 154- 155. وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) واستدركناه من كتب السيرة.(5/222)
[رابع وستون: شرب أهل الصفة من قدح لبن حتى رووا]
[وأما شرب أهل الصفة من قدح لبن حتى رووا، فخرج البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد اللَّه إسحاق بن محمد بن يوسف السوسيّ قراءة عليه من أصله، حدثنا أبو جعفر: محمد بن محمد بن عبد اللَّه البغدادي، أنبأنا عل بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن ذر، حدثنا مجاهد أن أبا هريرة كان يقول:] [ (1) ] .
[واللَّه الّذي لا إله إلا هو، إن كنت لاعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون فيه، فمرّ بي أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب اللَّه، ما سألته إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب اللَّه، ما سألته إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي.
ثم قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: ألحق، ومضى فاتبعته، فدخل واستأذنت، فأذن لي، فدخلت، فوجد لبنا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة.
قال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: ألحق بأهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، إذا أتته صدقة يبعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتتهم هدية أرسل إليهم، فأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك. قلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وإني لرسول، فإذا جاءوا أمرني أن أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة اللَّه وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا حتى استأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.(5/223)
من البيت، فقال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يردّ عليّ القدح، فأعطيه للآخر فيشرب حتى يروى، ثم يردّ عليّ القدح، حتى انتهيت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم.
فأخذ القدح فوضعه على يده، ونظر إليّ وتبسّم وقال: يا أبا هر! قلت:
لبيك يا رسول اللَّه، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول اللَّه! قال:
اقعد فاشرب، فقعدت وشربت فقال: اشرب، فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول اشرب، فأشرب، حتى قلت: لا والّذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: فأرني فأعطيته القدح فحمد اللَّه وسمّى، وشرب الفضلة] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 101- 102، باب ما جاء في دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أهل الصفة على لبن يسير، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وأخرجه البخاري في صحيحه عن أبي نعيم، في (81) كتاب الرقاق، (17) باب كيف كان عيش النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، حديث رقم (6452) .(5/224)
[خامس وستون: وجود عنز في مكان لم تعهد فيه]
[وأما وجود عنز في مكان لم تعهد فيه،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن الفرج الأزرق، حدثنا عصمة بن سليمان الخزاز، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن نافع، وكانت له صحبة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال:] .
[كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر لنا كنا أربعمائة رجل، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء، فشقّ ذلك على أصحابه فقالوا: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعلم، قال: فجاءت شويهة [ (1) ] لها قرنان، فقامت بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحلبها، فشرب حتى روى، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم قال: يا نافع! أملكها الليلة، وما أراك تملكها، قال: فأخذتها فوتدت لها وتدا، ثم قمت في بعض الليل فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا، فجئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته من قبل أن يسألني، فقال يا نافع! ذهب بها الّذي جاء بها] [ (2) ] .
وفي كتاب محمد بن سعد: أنبأنا خلف بن الوليد أبو الوليد الأزدي، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبان بن بشير، عن شيخ من أهل البصرة، عن نافع فذكره] . [ (3) ]
[وخرّج البيهقي أيضا من حديث العباس بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد ابن سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو حفص الرماحيّ، حدثنا عامر بن أبي عامر الخزار، عن أبيه، عن الحسن بن سعد- يعني مولى أبي بكر- قال:
__________
[ (1) ] شويهة: تصغير شاة.
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 137، باب ما جاء في الشاة التي ظهرت، فحلبت، فأروت، ثم ذهبت، فلم توجد، (البداية والنهاية) : 6/ 112- 113، نقلا عن البيهقي من المرجع السابق، وقال في آخره: حديث غريب جدا، إسنادا، ومتنا، (طبقات ابن سعد) : 1/ 179- 180.
[ (3) ] (طبقات ابن سعد) : 7/ 70- 71، عند ترجمة نافع بن الحارث بن كلدة بن عمرو.(5/225)
[قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: احلب لي العنز، قال: وعهدي بذلك الموضع لا عنز فيه، قال فأتيت بعنز حافل، قال: فاحتلبتها وأوصيت بها، قال: فاشتغلت بالرحلة ففقدت العنز، فقلت: يا رسول اللَّه! فقدت العنز، قال: فقال إن لها ربا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 138، (البداية والنهاية) : 6/ 113، نقلا عن البيهقي من المرجع السابق، وقال في آخره: حديث غريب جدا، إسنادا ومتنا، وفي إسناده من لا يعرف حاله.(5/226)
[سادس وستون: ظهور البركة في السمن الّذي كان لأم سليم [ (1) ]]
[قال أبو نعيم: حدثنا محمد بن سليمان إملاء، حدثنا يحيى بن محمد الحنائي قال:
حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا محمد بن زياد البرجمي، قال: حدثنا أبو ظلال، عن أنس بن مالك، عن أمه أم سليم قالت: كانت لي شاة فجمعت سمنها في عكّة، فبعثت بها مع زينب، فقلت: يا زينب، أبلغي هذه العكّة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتدم بها، فجاءت زينب بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه، هذه عكّة سمن قد بعثت بها إليك أمّ سليم.
قال: فرغوا لها عكتها، ففرّغت العكة، ودفعت إليها، فجاءت- وأم سليم ليست في البيت- فعلقت في وتد، فجاءت أم سليم، فرأت العكة ممتلئة تقطر سمنا، وقالت:
__________
[ (1) ] هي أم سليم بنت ملحان، واسمها: سهله، ويقال: رميلة، ويقال رميثة، ويقال: أنيثة، ويقال:
مليكة. وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، يقال: أنها هي الغميصاء، أو الرميصاء، ثبت ذلك في البخاري،
في حديث ابن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة.
وفي صحيح مسلم، من حديث ثابت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت:
من هذا؟ فقالوا: هذه الرميصاء. وفي رواية: الرميصاء بنت ملحان، أم أنس بن مالك.
روت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعنها ابنها أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن عباس، وعمرو بن عاصم الأنصاري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
قال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت له أنسا، فلما جاء اللَّه تعالى بالإسلام أسلمت، وعرضت على زوجها الإسلام فغضب عليها، وخرج إلى الشام فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشرك، فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم، فولدت له غلاما كان أعجب به، فمات صغيرا وأسف عليه، وقيل: إنه أبو عمير صاحب التغير، ثم ولدت له عبد اللَّه بن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن أبي طلحة الفقيه، وإخوته كانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وروى عن أم سليم قالت: لقد دعا لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ما أريد زيادة. ومناقبها كثيرة وشهيرة. (تهذيب التهذيب) : 12/ 497، ترجمة رقم 2953، (الإصابة) : 8/ 227، ترجمة رقم (12073) ، (الاستيعاب) : 4/ 1940- 1941، ترجمة رقم (4163) .
والعكّة: من السمن والعسل، قال ابن الأثير في (النهاية) : وهي وعاء من جلود مستدير يختصّ بهما، وهو بالسمن أخصّ. (لسان العرب) : 10/ 469. وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.(5/227)
يا زينب! أليس أمرتك أن تبلّغي هذه العكّة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتدم بها؟ قالت: قد فعلت، فإن لم تصدقيني فتعالي معى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فذهبت أمّ سليم وزينب معها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه! إني قد بعثت إليك بعكة فيها سمن.
فقال: قد جاءت بها، فقالت: والّذي بعثك بالهدى ودين الحق، إنها ممتلئة سمنا تقطر، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتعجبين يا أم سليم؟ إن اللَّه أطعمك كما أطعمت نبيّه] .
قال أبو نعيم: زاد البغوي عن شيبان: كلي وأطعمي، قالت: فجئت إلى بيتي، فقسمتها في قعب [ (1) ] لنا كذا وكذا، وتركت فيها ما ائتدمنا به شهرا أو شهرين] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] القعب: القدح الضخم الغليظ.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 558- 559، باب قصة أم سليم، حديث رقم (499) ، (البداية والنهاية) : 6/ 113، باب تكثيره صلّى اللَّه عليه وسلّم السمن لأم سليم، (الخصائص الكبرى) : 2/ 247، وفي بعض النسخ «ربيبة بدلا من «زينب» ، ومحمد بن زياد البرجمي غير محمد بن زياد اليشكري الكذاب، واللَّه تعالى أعلم.(5/228)
[سابع وستون: امتلاء عكّة أم مالك الأنصارية سمنا]
[قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن إسحاق: وعبد اللَّه بن محمد، قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن يحيى بن جعدة، عن جدته قالت:] .
[جاءت أم مالك الأنصارية [ (1) ] بعكّة سمن إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا فعصرها، ثم دفعها إليها، فرجعت، فإذا هي مملوءة، فأتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: نزلت فيّ شيء يا رسول اللَّه؟ قال: وما ذاك يا أم مالك؟ قالت:
رددت عليّ هديتي، قال: فدعا بلالا فسأله عن ذلك، فقال: والّذي بعثك بالحق لقد عصرتها حتى استحييت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هنيئا لك يا أمّ مالك، هذه بركة عجّل اللَّه لك ثوابها [ (2) ] ، [ثم علمها تقول في دبر كل صلاة: سبحان اللَّه عشرا، والحمد للَّه عشرا، واللَّه أكبر عشرا] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لها ذكر في صحيح مسلم، في حديث جابر بن عبد اللَّه أنها كانت تهدي للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في عكة لها سمنا، وروى عبد الرحمن بن سابط الجمحيّ عن أم مالك الأنصارية (تهذيب التهذيب) : 12/ 505، ترجمة رقم (2984) ، (الاستيعاب) : 4/ 1956، ترجمة رقم (4206) ، (الإصابة) : 8/ 298، ترجمة رقم (12238) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 559، حديث رقم (500) ، (الخصائص الكبرى) : 2/ 247 وقال السيوطي: أخرجه ابن أبي شيبة برقم (11809) ، والطبراني، وأبو نعيم، عن يحيى بن جعدة، عن رجل حدثه عن أم مالك الأنصارية.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (الإصابة) : 8/ 298، ترجمة أم مالك الأنصارية رقم (12238) .(5/229)
[ثامن وستون: امتلاء عكّة أم أوس البهزية]
[قال البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا علي بن نجيح القطان، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن يوسف بن خالد، عن أوس بن خالد، عن أم أوس البهزية [ (1) ] ، قالت:] .
[سليت سمنا لي، فجعلته في عكّة، وأهديته للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقبله وترك في العكة قليلا، ونفخ فيه ودعا بالبركة ثم قال: ردّوا عليها عكتها، فردوها عليها وهي مملوءة سمنا، فظننت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يقبلها، فجاءت ولها صراخ، قالت: يا رسول اللَّه! إنما سليته لك لتأكله، فعلم صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قد استجيب له.
فقال: اذهبوا فقولوا لها: فتأكل سمنها، وتدعو بالبركة،
فأكلت بقية عمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وولاية أبي بكر- رضي اللَّه تعالى عنه- وولاية عمر- رضي اللَّه تعالى عنه- وولاية عثمان- رضي اللَّه تعالى عنه، حتى كان من أمر علي- رضي اللَّه تعالى عنه- ومعاوية ما كان] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هي أم أوس البهزية، روى أوس بن خالد حديثها من أعلام النبوة، وأخرج الطبراني وابن مندة من طريق عصمة بن سليمان، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرّمّاني، عن أوس بن خالد البهزي، عن أم أوس بن خالد البهزية، أنها أسلت سمنا لها، فجعلته في عكة، ثم أهدته إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ...
(الإصابة) : 8/ 168- 169، ترجمة رقم (11895) ، (الاستيعاب) : 4/ 1925، ترجمة رقم (4122) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 115، (الخصائص الكبرى) : 2/ 54، وعزاه للطبراني والبيهقي، (البداية والنهاية) : 6/ 113- 114، نقلا عن البيهقي.(5/230)
[تاسع وستون: أكل أهل الخندق من حفنة تمر]
[قال الواقدي: حدثني عمر بن عبد اللَّه بن رياح الأنصاري، عن القاسم ابن عبد الرحمن بن رافع- من بني عديّ بن النجار- قال: كان المسلمون قد أصابتهم مجاعة شديدة، فكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدورا عليه، فأرسلت عمرة بنت رواحة ابنتها بجفنة تمر عجوة في ثوبها، فقالت: يا بنية اذهبي إلى أبيك بشير ابن سعد، وخالك عبد اللَّه بن رواحة بغدائهما.
فانطلقت الجارية حتى تأتي الخندق، فتجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا في أصحابه وهي تلتمسهما، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: بعثتني أمي إلى أبي وخالي بغدائهما. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هاتيه! قالت: فأعطيته، فأخذه في كفيه، ثم أمر بثوب فبسط له، وجاء بالتمر فنشره عليه فوق الثوب، فقال لجعال ابن سراقة: ناد بأهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه يأكلون منه، حتى صدر أهل الخندق، وإنه ليفيض من أطراف الثوب] [ (1) ] .
[وحدثني شعيب، عن عبد اللَّه بن معتب، قال: أرسلت أمّ عامر الأشهلية بقعبة فيها حيس [ (2) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو في قبته وهو عند أم سلمة، فأكلت أمّ سلمة حاجتها، ثم خرج بالبقية، فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا، وهي كما هي] [ (3) ] .
[قال أبو نعيم: حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أحمد ابن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، أنه حدّث أن ابنة لبشير بن سعد، أخت النعمان بن بشير قالت:]
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 276.
[ (2) ] الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه، وربما جعل فيه سويق. (القاموس المحيط) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 476- 477.(5/231)
[دعتني عمرة بنت رواحة [زوج بشير بن سعد] ، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: يا بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد اللَّه بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها، فمررت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ فقلت: يا رسول اللَّه، هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد اللَّه بن رواحة يتغديان به.
قال: هاتيه، فصببته في كفّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسط، ثم دحا التمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق هلمّ إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب [ (1) ] .
[قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، قال: حدثنا سعيد بن مينا، عن ابنة بشير بن سعد، قالت: بعثتني أمي بتمر في طرف ثوبي إلى أبي وخالي وهم يحفرون الخندق، فمررت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فناداني فأتيته، فأخذ التمر مني في كفيه، وبسط ثوبا فنثره عليه، فتساقط في جوانبه، ثم أمر بأهل الخندق، فاجتمعوا، وأكلوا منه حتى صدروا عنه] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 499- 500، حديث رقم (431) ، (سيرة ابن هشام) : 4/ 174، فصل ما تحقق من البركة في تمر ابنة بشير، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 427، (البداية والنهاية) : 4/ 113- 114، نقلا عن البيهقي، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .(5/232)
[سبعون: شهادة الذئب له صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة]
[قال أبو نعيم: حدثنا فاروق الخطابي، قال: حدثنا عباس، قال: حدثنا هشام بن علي السيرافي، قال: حدثنا هريم بن عثمان، وأبو عمر الحوضيّ، وهدب ابن خالد، وحدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا عباس الأسفاطي، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قالوا: حدثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال] :
بينما راع يرعى بالحرّة، إذ انتهز الذئب شاة فتبعه الراعي، فحال بينه وبينها، فأقبل الذئب على الراعي فقال: يا راعي، ألا تتقي اللَّه؟ تحول بيني وبين رزق ساقه اللَّه إليّ؟ فقال الراعي: العجب من ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بما هو أعجب من هذا؟
هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الحرّتين يدعو الناس إلى أنباء ما قد سبق، فساق الراعي شاءه حتى أتى إلى المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها،
ثم دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره بما قال الذئب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صدق الراعي، ألا إنه من أشراط الساعة كلام السباع الإنس، والّذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل شراك نعله، ويحدثه سوطه، ويخبره بما أحدث أهله بعده] [ (1) ] .
[وقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الأشعث بن عبد اللَّه، عن شهر بن حوشب، عن
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 373- 374، الفصل الثامن عشر في ذكر الأخبار من شكوى البهائم والسباع، وسجودها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما حفظ من عهده من كلامها حديث رقم (270) ، (مسند أحمد) : 3/ 504، حديث رقم (11383) ، (المستدرك) : 4/ 514، حديث رقم (8442/ 150) ، (8444/ 152) وقال الذهبي في (التخليص) : «كلاهما» على شرط مسلم.(5/233)
أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال:] [جاء ذئب إلى غنم فأخذ منها شاة، فطلبها الراعي حتى انتزعها من فيه، فصعد الذئب على تلّ فأقعى، ثم قال: عمدت إلى رزق رزقنيه اللَّه فأخذته مني، فقال الرجل: واللَّه ما رأيت مثل اليوم قط، ذئب يتكلم! فقال [الذئب] : أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبر بما مضى، وبما هو كائن بعدكم، فأتى الرجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره وأسلم، فصدقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إنها أمارة من أمارات ما بين يدي الساعة، قد يوشك أن يخرج الرجل فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 374، حديث رقم (271) ، (الخصائص الكبرى) : 2/ 267، (الإحسان) : 14/ 418- 419، حديث رقم (6494) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 42- 43، من طرق كلها عن أبي سعيد الخدريّ، (تحفة الأحوذي) : 6/ 340- 341، أبواب الفتن، باب (17) ما جاء في كلام السباع، حديث رقم (2272) ، ولم يذكر فيه قصة الذئب، وقال في آخره: وهذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، والقاسم بن الفضل ثقة مأمون عند أهل الحديث، وثّقه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، (دلائل البيهقي) : 6/ 41- 43، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) واستدركناه من كتب السيرة.(5/234)
[حادي وسبعون: مجيء الذئب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما مجيء الذئب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج أبو نعيم والبيهقي من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري، عن محمد بن خالد الأنصاري، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار إلى البقيع، فإذا الذئب مفترش ذراعيه على الطريق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا أويس يستفرض فأفرضوا له، قالوا: رأيك يا رسول اللَّه، قال: من كل سائمة شاة في كل عام، قالوا: كثير، فأشار إليه أن خالسهم، فانطلق الذئب [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان، أخبرنا الأعمش عن شمر بن عطية، عن رجل من مزينة أو جهينة قال: أتت وفود الذئاب قريبا من مائة ذئب حين صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الفجر فأقعين فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه وفود الذئاب جئنكم يسألنكم لتفرضوا لهن من قوت طعامكم وتأمنوا على ما سوى ذلك، فشكوا إليه الحاجة، قال: فأدبروهم، قال: فخرجن ولهن عواء [ (2) ] .
وله من طريق الواقدي، عن رجل سماه، عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس بالمدينة في أصحابه، إذ أقبل ذئب فوقف بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوي بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه [واحترزتم] منه، فما أخذ فهو رزقه، فقالوا: يا رسول اللَّه، ما تطيب أنفسنا له بشيء، [فأومأ] إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصابعه الثلاث، أن خالسهم، فولّى وله عسلان [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 40، باب ما جاء في مجيء الذئب مجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطلب شيئا، (البداية والنهاية) : 6/ 161، باب حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب، ونقله ابن كثير عن البيهقي.
[ (2) ] (البداية والنهاية) : 6/ 161- 162، عن الواقدي.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 161- 162، وقال فيه: «وله عواء» . بدلا من «عسلان» ، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 374- 375، حديث رقم (272) ، (سنن الدارميّ) : 1/ 12 باب ما أكرم اللَّه به نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم من إيمان الشجر به والبهائم والجن، (طبقات ابن سعد) : 1/ 359، باب وفد السباع، من حديث محمد بن عمر الواقدي. والعسلان: الاضطراب.(5/235)
قال الواقدي: وحدثني داود بن خالد، عن يعقوب بن عنبة، عن سليمان ابن يسار قال: أشرف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الحرة، فإذا الذئب واقف بين يديه، فقال:
هذا أويس يسأل من كل سائمة شاة، قالوا: يا رسول اللَّه! ما تطيب له أنفسنا بشيء، [فأومأ] إليه بأصابعه فولى [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة عن عبد الملك ابن عمير عن الحارثي، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: إني لست أنا أصلى في نعلي، ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى في نعليه، إني لست أنا الّذي أنهي [عن صيام] يوم الجمعة ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى، قال: وجاء ذئب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا غير بعيد، ثم جعل كأنه يطلب شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا ليريد شيئا، فقال رجل: لا نجعل له يا رسول اللَّه نصيبا في أموالنا، فأخذ حجرا فرماه به، فانطلق الذئب يسعى وهو يعوى، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الذئب وما الذئب [ (2) ] .
قال البيهقي: الحارثي هذا هو أبو الأدبر، اسمه زياد. وخرجه أيضا من حديث عبد الملك بن عمير، عن أبي الأدبر الحارثي، عن أبي هريرة قال: أتاه رجل فقال:
يا أبا هريرة! أنت الّذي نهيت الناس ... فذكر الحديث.
قال: وجاء الذئب ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس، فأقعى بين يديه، ثم جعل يبصبص بذنبه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا، قالوا: لا واللَّه لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرا فرماه به، فأدبر الذئب وله عواء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الذئب وما الذئب [ (3) ] .
قال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل من بني الحرث بن كعب يقال له: أبو الأدبر، قال: كنت قاعدا عند أبي هريرة ... ، فذكر قصة ثم أنشأ يحدث قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما جالسا،
__________
[ (1) ] نحوه مختصرا في (دلائل البيهقي) : 6/ 40.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 39، باب ما جاء في مجيء الذئب مجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطلب شيئا.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 49- 40.(5/236)
وجاء ونحن عنده إذا جاءه الذئب حتى أقعى بين يديه، ثم بصبص بذنبه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا الذئب وهذا وافد الذئاب، فما ترون؟ أتجعلون له في أموالكم شيئا؟ فقال الراعي: لا واللَّه يا رسول اللَّه، لا نجعل له من أموالنا شيئا، فقام إليه رجل من الناس فرماه بحجر، فأدبر وله عواء، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الذئب وما الذئب ثلاث مرات [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 40، (البداية والنهاية) : 6/ 161، باب حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب، نقلا عن المرجع السابق.
قال القسطلاني في (المواهب اللدنية) في باب معجزات كلام الحيوانات: ومنها قصة كلام الذئب، وشهادته له بالرسالة، ثم قال: اعلم أنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب في عدة طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنهم.
فأما حديث أبي سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وأما حديث ابن عمر، فأخرجه أبو سعيد الماليني والبيهقي، وأما حديث أنس، فأخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ، وأما حديث أبي هريرة، فرواه سعيد بن منصور في سننه، ورواه البغوي في (شرح السنة) ، وأحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبي هريرة أيضا، قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منه شاة ... الحديث، (المواهب اللدنية) :
2/ 552.
وقال القاضي عياض: وفي بعض الطرق عن أبي هريرة: فقال الذئب: أنت أعجب مني، واقفا على غنمك، وتركت نبيا لم يبعث اللَّه قط أعظم منه عنده قدرا، وقد فتحت له أبواب الجنة، وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير من جنود اللَّه. قال الراعي:
من لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقاتل،
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عد إلى غنمك تجدها بوفرها، فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها.
وقد روى ابن وهب مثل هذا، أنه جرى لأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، مع ذئب وجداه أخذ ظبيا، فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجب من ذلك: محمد بن عبد اللَّه بالمدينة! يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللات والعزى، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفا. (المواهب اللدنية) : 2/ 552- 553، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 204- 205، فصل في الآيات في ضروب الحيوانات، خلوفا- بضم الخاء المعجمة- أي فاسدة متغيرة، بمعنى الفساد والتغير في أهلها.(5/237)
[ثاني وسبعون: كلام الظبية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما كلام الظبية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج أبو نعيم من حديث زكريا بن خلاد قال: أخبرنا حبان بن أغلب بن تميم السعدي قال: حدثني أبي عن هشام بن حبان، عن الحسين عن ضبة بن المحصن، عن أم سلمة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صحراء، إذا هاتف يهتف به: يا رسول اللَّه! فاتبعت الصوت فهجمت عليّ ظبية مشدودة في وثاق، وإذا أعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس، فقالت الظبية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا الأعرابي صادني قبيل، ولي خشفان في هذا الجبل، فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ثم أعود إلى وثاقي! قال: وتفعلين؟ قالت:
عذبني اللَّه عذاب العشّار إن لم أفعل.
فأطلقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمضت وأرضعت الحشفين، قال: فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوثقها إذ انتبه الأعرابي فقال: يأبى أنت وأمي، إني أصبتها قبيلا فلك فيها حاجة؟ قلت: نعم، قال: هي لك، وأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحا وهي تضرب برجلها الأرض وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه. قال أبو نعيم: رواه آدم بن أبي إياس، عن نوح بن الهيثم- ختنه- قال:
حدثني ختني الصدوق نوح بن الهيثم، عن حبان بن أغلب، عن أبيه، ولم يجاوز به هشاما [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم والبيهقي من حديث أبي حفص عمرو بن على الفلاس قال:
أخبرنا [ (2) ] يعلى بن إبراهيم الغزال، أخبرنا [ (2) ] الهيثم بن حماد، عن أبي كثير، عن زيد ابن أرقم رضي اللَّه عنه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض سكك المدينة،
__________
[ (1) ] (البداية والنهاية) : 6/ 163، باب حديث الغزالة. والعشّار: هو صاحب المكس، الّذي يقف في مداخل المدن، فلا يدع أحدا من التجار ونحوهم يدخلها، إلا أخذ منه شيئا ليس له به حق.
[ (2) ] (في دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .(5/238)
فمررنا بخباء أعرابي فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء فقالت: يا رسول اللَّه! إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان [ (1) ] في البرية، وقد انعقد هذا اللبن في أخلافي [ (2) ] ، فلا هو يذبحني فأستريح ولا يدعني فأرجع إلى خشفيّ [ (1) ] في البرية، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني اللَّه بعذاب العشّار.
فأطلقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يلبث أن جاءت تلمّظ [ (3) ] ، فشدها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الخباء، فأقبل الأعرابي ومعه قربة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتبيعنيها؟
قال: هي لك يا رسول اللَّه، فأطلقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال زيد بن أرقم: فأنا واللَّه رأيتها تسبح في الأرض وهي تقول: [أشهد أن] [ (4) ] لا إله إلا اللَّه [وأن] [ (4) ] محمدا رسول اللَّه [ (5) ] .
ولأبي نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا إبراهيم بن محمد [محمود] [ (1) ] بن ميمون، أخبرنا [ (6) ] عبد الكريم بن هلال الجعفي، عن صالح المري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: مر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الخشف: ولد الظبي أول ما يولد.
[ (2) ] أخلاف: مفردها خلف بكسر الخاء، وهو حلمة الثدي.
[ (3) ] لمّظ: أخرج لسانه بعد الأكل أو الشرب فمسح به شفتيه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) ، وفي (البيهقي) بدون هذه الزيادة.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 273، فصل في ذكر الظبي والضب، حديث رقم 273، (دلائل البيهقي) : 6/ 34- 35، باب ما جاء في كلام الظبية التي فجعت بخشفها، وشهادتها لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة، (البداية والنهاية) : 6/ 163- 165، باب حديث الغزالة، وقد نقله عن أبي نعيم والبيهقي، وذكر له طرق أخرى، والسيوطي في (الخصائص) عن أنس بن مالك، وعن أم سلمة، وغيرهما. وقال الذهبي: يعلى بن إبراهيم الغزال: لا أعرفه، له خبر باطل، عن شيخ واه، أخبرنا تسعة عشر، أخبرنا ابن عبد الدائم، أخبرنا يحيى حضورا، أخبرنا الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو على الصواف من أصله، أخبر بسر بن موسى، حدثنا عمر بن على الفلاس، حدثنا يعلى بن إبراهيم، حدثنا الهيثم بن حماد عن أبي كثير، عن زيد بن أرقم، قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمرّ بخباء، فإذا ظبية مشدودة ... الحديث. (ميزان الاعتدال) : 4/ 456، ترجمة يعلى بن إبراهيم الغزال رقم (9844) وقد أخرجه أيضا القاضي عياض في (الشفا) من حديث أم سلمة، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 207.
قال ابن كثير: وفي بعضه نكارة واللَّه أعلم. (البداية والنهاية) : 6/ 164.
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .(5/239)
على قوم قد اصطادوا ظبية، فشدوها على عمود فسطاط، فقالت: يا رسول اللَّه! إني أخذت ولي خشفان، فاستأذن لي أرضعهما وأعود، فقال: أين صاحب هذه؟
قال القوم: نحن يا رسول اللَّه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: خلوا عنها حتى [تأتي] [ (1) ] خشفيها ترضعهما وترجع إليكم، قالوا: ومن لنا بذلك [يا رسول اللَّه] [ (1) ] ؟ قال: أنا، فأطلقوها، فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
أين صاحب هذه؟ قالوا: هو ذا يا رسول اللَّه، قال تبيعونها؟ قالوا: يا رسول اللَّه هي لك، قال خلوا عنها، فأطلقوها فذهبت [ (2) ] .
وللبيهقي من حديث أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاريّ قال: حدثنا على ابن قادم، حدثنا أبو العلاء خالد بن طهمان، عن عطية، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت يا رسول اللَّه! حلّني حتى أذهب فأرضع خشفيّ، ثم أرجع فتربطني، فقال رسول
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 376، فصل في ذكر الضب والظبي، حديث رقم 274.
وصالح المري هو: صالح بن بشير بن وادع بن أبي الأقعس، أبو بشر البصري القاصّ، المعروف بالمري- بضم الميم وتشديد الراء- قال عباس عن ابن معين: ليس به بأس. وقال المفضل الغلابي وغيره عن ابن معين: ضعيف. وقال محمد بن إسحاق الصغاني وغيره عن ابن معين: ليس بشيء.
وقال جعفر الطيالسي، عن يحيى: كان قاصّا، وكان كل حديث يحدث به عن ثابت باطلا.
وقال عبد اللَّه بن علي المديني: ضعفه أبي جدا. وقال محمد بن عثمان بن أبي ثابت، عن علي: ليس بشيء، ضعيف، ضعيف. وقال عمرو بن علي: ضعيف الحديث، يحدث بأحاديث مناكير عن قوم ثقات، وكان رجلا صالحا، وكان يتهم في الحديث. وقال الجوزجاني: كان قاصا واهي الحديث.
وقال البخاري منكر الحديث.
وقال أبو إسحاق الحربي: إذا أرسل فبالحرىّ أن يصيب، وإذا أسند فاحذروه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال عفان: كنا عند ابن علية، فذكر المريّ فقال: رجل ليس بثقة، فقال له آخر: مه! اغتبت الرجل، فقال ابن علية: اسكتوا، فإنما هذا دين.
وقال الدار الدّارقطنيّ: ضعيف. له ترجمة في: (الضعفاء والمتروكين) : 2/ 46، ترجمة رقم (1653) ، (المغني في الضعفاء) : 1/ 302، ترجمة رقم (2817) ، (الضعفاء الكبير) : 2/ 199، ترجمة رقم (723) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 4/ 60، ترجمة رقم (5/ 912) ، (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين) : 1/ 371- 372، (التاريخ الكبير للبخاريّ) :
4/ 273 ترجمة (2782) ، (الجرح والتعديل) : 4/ 395- 396، ترجمة رقم (1730) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 334- 335، ترجمة رقم (651) .(5/240)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صيد قوم وربيطة قوم، قال: فأخذ عليها فحلفت له، فحلها.
فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له، فحلها، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا [ (1) ] .
[وروى من وجه آخر ضعيف] [ (2) ] .
وروى ابن شاهين من حديث يحيى بن حبيب بن عديّ قال: حدثنا حماد بن زيد عن منصور بن طاووس عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم في بعض شأنه، فإذا هو بظبية في رحال قوم، فنادته: يا رسول اللَّه! فوقف وقال: ما شأنك؟ قالت: يا رسول اللَّه إن لي خشفين وهما جياع فأطلقني لأنطلق فأرويهما وأرجع فتشدني، فقال: رحال قوم وربيطة قوم، وأراد أن يولى فنادته ثانيا: يا رسول اللَّه! لي خشفان وهما جياع فحلني أنطلق فأرويهما وارجع إليك فتشدني ثانيا، فقال: أتفعلين؟ قالت: نعم وإلا يعذبني اللَّه عذاب العشار.
فحلها وجلس مكانه، فما لبثت أن رجعت وضرعها فارغ من اللبن، فرق لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستوهبها من الرجل فوهبها له، فأطلقها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «ما أكلتم سمينها أبدا» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (المرجع السابق) ، والحديث أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 34، ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 164، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 61 عن البيهقي أيضا.
[ (3) ] لم أجده فيما بين يدي من كتب السيرة بهذه الألفاظ أو السياقة.
قال على القاري في (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) : حديث تسليم الغزالة: اشتهر على الألسنة، وفي المدائح النبويّة. قال ابن كثير: وليس له أصل، ومن نسبه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقد كذب، وقال في هامشه: وقال ابن حجر في (فتح الباري) : وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسنادا، لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف.
وقال السخاوي في (المقاصد الحسنة) بعد نقله كلام الحافظ ابن كثير، وإقراره له: ولكن قد ورد الكلام- يعني: ورد تكليم الغزالة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تسليمها- في الجملة في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض أوردها شيخنا- الحافظ بن حجر- في المجلس الحادي والستين من (تخريج أحاديث المختصر) ، ويعني (مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه) .(5/241)
وقد روى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لقي في سفره قانصا قد صاد ظبية، فقال: ما اسمك؟
قال: عبد هبل، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الأعرابي: أنت الّذي جئت بالسّحر؟
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أرأيت إن آمنت جيداؤك هذه أتؤمن؟ قال: نعم، وإلا فلا.
فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده المباركة عليها وقال: أيتها الجيداء الغيداء! من أنا؟
قالت: أنت رسول اللَّه وأنا ظبية ذات غيداء، أفزعني هذا الأعرابي فقصدت عسكرك عائذة بك، فأدركني فمره يطلقني أحدث بخشفيّ عهدا، وله عليّ أن أرجع إليه، فقال الأعرابي: أتكلمك ظبية وأعاندك؟ فأسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
هبّ يستحكم إيمانك فيما شيئا، ومضت الظبية فلاذ بها خشفان، وأخبرتهما بما كان، فبكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [وقال] : لولا أن أحرم ما أحل اللَّه لحرمت قنص ظباء هذا الموضع [ (1) ] .
__________
[ () ] قال محقق (الموضوعات الصغرى) : هي أحاديث ضعيفة واهية، لا يصح الاعتماد عليها في إثبات ما هو خرق للعادة، وإذا كانت لتعدد طرقها لا يحكم الحديثيّ عليها بالوضع، فإن إثبات مضمونها لا يقبل ولا يثبت إلا بالحديث الصحيح الرجيح، ولدى النظر في أسانيدها، يتبين أنها لا تخلو من مطاعن شديدة مردية، فلا تغفل. وبالنظر في متونها يتبدى تعارض شديد فيما بينها، وفي الجمع بينها تعسّف ظاهر، كما أشار إليه العلامة الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية) .
ويبعد أن يكون الحافظ ابن كثير أراد بكلامه المذكور أن هذا المعنى- تسليم الغزالة أو تكليمها- لا أصل له. كما فهمه المؤلف عليّ القاري رحمه اللَّه تعالى في شرحه على (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض: 1/ 639، واللَّه تعالى أعلم. (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) :
80، حديث تسليم الغزالة رقم (91) .
[ (1) ] انظر الهامش السابق ص (241) .(5/242)
[ثالث وسبعون: شهادة الضّبّ برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما شهادة الضّبّ برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر بن أبي عاصم قال: أخبرنا يحيى بن خلف، أخبرنا معمر قال: سمعت كهمس يحدث عن داود بن أبي هند، عن عامر قال: صحبت ابن عمر سنتين فما سمعته يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا حديث الضّبّ، وكان إذا حدثنا يحدثنا عن عمر، ولم يكن يحدث إلا عن فقه، قال أبو نعيم: كذا رواه يحيى بن خلف عن معتمر مختصرا، وطوله محمد بن عبد الأعلى.
وخرج من حديث محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا كهمس بن الحسن، أخبرنا داود بن أبي هند، قال: حدثنا عامر الشعبي قال: حدثنا عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بحديث الضب، قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان في محفل من أصحابه، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد أصاب ضبا وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيأكله، فقال على من هذه الجماعة؟ قالوا: على هذا الّذي يزعم أنه نبيّ، فشقّ الناس ثم أقبل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك ولا أبغض إليّ منك، ولولا أن تسميني عجولا لعجلت عليك فقتلتك فسررت بقتلك الناس جميعا! فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه، دعني أقتله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عمر لو علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا.
ثم أقبل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: واللات والعزى لا آمنت بك، قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولم يا أعرابي؟ ما حملك على الّذي قلت ما قلت؟ وقلت غير الحق ولم تكرم مجلسي؟ فقال: وتكلمني أيضا- استخفافا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-، واللات والعزى لا آمنت بك إلا أن يؤمن بك هذا الضّبّ- فأخرج الضب من كمه فطرحه بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إن آمن بك هذا الضّبّ آمنت.(5/243)
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ضب، فتكلم الضب بلسان عربي مبين يفهمه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين! فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ومن تعبد يا ضبّ؟ قال: اللَّه الّذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه.
قال: فمن أنا يا ضبّ؟ قال: أنت رسول رب العالمين، وخاتم المرسلين، قد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه حقا، واللَّه لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إليّ منك، [و] واللَّه لأنت الساعة أحب إليّ من نفسي ومن ولدي، وقد آمنت بشعري وبشري، وداخلي وخارجي، وسرّي وعلانيتي.
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الحمد للَّه الّذي هداك إلى هذا الدين، الّذي يعلو ولا يعلى، لا يقبله اللَّه إلا بالصلاة، ولا تقبل الصلاة إلا بالقرآن، فعلمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحمد، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فقال: يا رسول اللَّه! ما سمعت في البسيط ولا في الرّجز أحسن من هذا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، فإذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فكأنما قرأت ثلث القرآن، وإذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرتين، فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مرات فكأنما قرأت القرآن كله.
فقال الأعرابي: نعم الإله إلهنا، يقبل اليسير ويعطي الجزيل، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعطوا الأعرابي، فأعطوه حتى أبطروه.
فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أعطيه ناقة أتقرب بها إلى اللَّه عز وجل، دون البختي [ (1) ] وفوق العربيّ، وهي عشراء تلحق ولا تلحق أهديت لي.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد وصفت ما تعطي، أفأصف لك ما يعطيك اللَّه عزّ وجل جزاء؟ قال: نعم، فقال: لك ناقة من درة جوفاء، قوائمها من الزبرجد
__________
[ (1) ] البختيّ: جمعها بخاتي: وهي الإبل الخراسانية، وفي رواية البيهقي: وفوق الأعرى.(5/244)
الأخضر، عليها الهودج من السندس والإستبرق، وتمرّ بك على الصراط كالبرق الخاطف.
فخرج الأعرابي من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلقيه ألف أعرابي على ألف دابة، بألف رمح وألف سيف، فقال لهم: أين تريدون، فقالوا: نقاتل هذا الّذي يكذب ويزعم أنه نبيّ، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فقالوا: صبوت؟ قال: ما صبوت، وحدثهم الحديث، فقالوا بأجمعهم: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه.
فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلقاهم، فنزلوا عن ركبهم يقبلون ما ولوا منه [ (1) ] وهم يقولون: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، قالوا: مرنا بأمر تحب يا رسول اللَّه، قال: تكونون تحت راية خالد بن الوليد، قال: فليس أحد من العرب آمن منهم ألف رجل إلا من بني سليم [ (2) ] .
قال كاتبه: إن الوضع بين على هذا الحديث. قال البيهقي: وروى ذلك في حديث عائشة وأبي هريرة، وما ذكرناه هو أمثل الإسناد فيه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «منهم» وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 376- 379، حديث رقم (275) (دلائل البيهقي) : 6/ 36- 38، باب ما جاء في شهادة الضب لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة، وما ظهر في ذلك من دلالات النبوة، وقال البيهقي: قد أخرجه شيخنا أبو عبد اللَّه الحافظ في (المعجزات) ، بالإجازة عن أبي أحمد بن عدي الحافظ، فقال: كتب إليّ أبو عبد اللَّه بن عدي الحافظ يذكر أن محمد بن علي بن الوليد السّلمى حدثهم، فذكره وزاد في آخره: قال أبو أحمد: أنبأنا محمد بن علي السلمي، كان ابن عبد الأعلى يحدث بهذا مقطوعا، وحدثنا بطوله من أصل كتابه مع رعيف الوراق. (دلائل البيهقي) : 6/ 38.
[ (3) ] المرجع السابق، وقال الذهبي: محمد بن علي بن الوليد السلميّ البصري، عن العدني محمد بن أبي عمر، عن محمد بن عبد الأعلى، وعنه الطبراني، وابن عبدي، روى أبو بكر البيهقي حديث الضب من طريقه بإسناد ضعيف، ثم قال البيهقي: الحمل فيه على السّلميّ هذا، قلت: صدق واللَّه البيهقي، فإنه خبر باطل. (ميزان الاعتدال) : 3/ 651، ترجمة محمد بن عليّ بن الوليد السلميّ، رقم (7964) .
وقال عليّ القاري: حديث الضبّ وشهادته له عليه الصلاة والسلام، قيل: إنه موضوع، وقال المزيّ: لا يصح إسنادا ولا متنا، لكن رواه البيهقي بسند ضعيف، وذكره القاضي عياض في (الشفا) ، فغايته الضعف لا الوضع، (الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) : 238،(5/245)
وروى عثمان بن أبي شيبة، من حديث ابن نمير عن مجالد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: خرج أعرابي من بني سليم يبتدأ في البرية، فإذا هو بضب فاصطاده، ثم جعله في كمه، وجاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فناداه: يا محمد! أنت الساحر؟ لولا أني أخاف أن قومي يسموني العجول لضربتك بسيفي هذا، فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ليبطش به، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلس يا أبا حفص، فقد كاد الحليم أن يكون نبيا، ثم التفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الأعرابي وقال له: أسلّم تسلّم من النار، فقال: واللات والعزى لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، ثم رمى الضب عن كمه، فولى الضب هاربا، فناداه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيها الضب! أقبل، فأقبل، فقال له: من أنا؟ قال: أنت محمد بن عبد اللَّه، ثم أنشأ الضب يقول:
ألا يا رسول اللَّه إنك صادق ... فبوركت مهديا وبوركت هاديا
شرعت لنا دين الحنيفة بعد ما ... عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا
فيا خير مدعو ويا خير مرسل ... إلى الجن ثم الإنس لبيك داعيا
أتيت ببرهان من اللَّه واضح ... فأصبحت فينا صادق القول واعيا
فبوركت في الأحوال حيا وميتا ... وبوركت مولودا وبوركت ناشيا
ثم سكت الضب، فقال الأعرابي: وا عجبا! ضبا اصطدته من البرّ، ثم أتيت [به في] كمي، يكلم محمدا هذا الكلام، ويشهد له بهذه الشهادة، أنا لا أطلب أثرا بعد عين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلّم وحسن إسلامه، ثم التفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أصحابه فقال: ألا علّموا الأعرابي سورا من القرآن [ (1) ] .
__________
[ () ] حديث رقم (272) ، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 204، فصل في الآيات في ضروب الحيوانات.
وذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 165- 166، وترجم عليه: حديث الضب على ما فيه من النكارة والغرابة!!، نقلا عن البيهقي.
[ (1) ] لم أجد هذا الخبر بهذه السياقة فيما بين يدي من كتب السيرة.(5/246)
[رابع وسبعون: سجود الغنم له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما سجود الغنم له،
فخرج أبو نعيم من حديث جعفر بن محمد [الفريابي] [ (1) ] قال: أخبرنا [ (2) ] إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا عباد بن يوسف الكندي، أخبرنا [ (2) ] أبو جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حائطا للأنصار، ومعه أبو بكر وعمر- رضي اللَّه عنهما- في رجال من الأنصار، وفي الحائط غنم فسجدن له، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه [يا رسول اللَّه كنا] [ (1) ] نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم، فقال: إنه لا ينبغي من أمتي أن يسجد أحد لأحد، لو كان ينبغي أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «حدثنا» .
[ (3) ] انفرد به أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 379، حديث رقم (276) ، وعنه نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 158، وقال: غريب، وفي إسناده من لا يعرف. وذكره بمعناه من حديث أنس بن مالك، القاضي عياض في (الشفا) : 1/ 206، وعنه نقله القسطلاني في (المواهب اللدنية) : 2/ 551.(5/247)
[خامس وسبعون: سكون الوحش إجلالا له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما الوحش الّذي أحسّ بالمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج أبو نعيم من حديث الحسن ابن سفيان، أخبرنا [ (1) ] هشام بن عمارة، حدثنا عيسى بن يونس عن أبيه، أنه حدثه عن مجاهد عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان لآل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحش، فإذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قفز ولعب، فإذا أحسّ برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض [ (2) ] .
وخرجه البيهقي من حديث أبي نعيم قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان لأهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحش، فإذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقبل وأدبر، وإذا أحس برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض فلم يترمرم [ (3) ] .
ومن حديث محمد بن فضيل عن يونس، عن مجاهد عن عائشة قالت: كان لآل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحش، فإذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعب وذهب وجاء، فإذا جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض فلم يترمرم ما دام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في البيت [ (3) ] .
قال أبو نعيم: رواه ابن فضيل وعمر بن الهيثم في آخرين، عن يونس عن مجاهد، وذكره أيضا من حديث المعافي بن عمران، وأبي أحمد الزبير عن يونس عن مجاهد.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 380، حديث رقم (277) ، ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 162، وترجم عليه: قصة الوحش الّذي كان في بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان يحترمه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويوقره ويجله، وقال في آخره: وهذا الإسناد على شرط الصحيح ولم يخرجوه، وهو حديث مشهور واللَّه أعلم، وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 163، حديث رقم (24297) ، 7/ 215، حديث رقم (24643) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 31، باب ذكر الوحش الّذي كان يقبل ويدبر فإذا أحس برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض فلم يترمرم. أي سكن ولم يتحرك، وقال في حاشيته: أخرجه الإمام أحمد في (مسندة) ورواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) وعزاه لأحمد، وأبي يعلي والبزار، والطبراني في (الأوسط) ، وذكره السيوطي في (الخصائص) عن البيهقي، وأبي نعيم، وأحمد- وأبي يعلي، والبزار، والدار الدّارقطنيّ، وابن عساكر.(5/248)
[سادس وسبعون: سجود البعير وشكواه للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما سجود البعير وشكواه ما به للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج أحمد من حديث عفان، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول اللَّه! تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنتقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أبيض كان ينبغي لها أن تفعله [ (1) ] .
وعن ابن ماجة بعضه بغير هذا السياق [ (2) ] . وخرج مسلم في المناقب من حديث مهدي بن ميمون قال: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، عن الحسن ابن سعد- مولى الحسن بن علي- عن عبد اللَّه بن جعفر رضي اللَّه عنهما قال:
أردفني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم خلفه، فاسرّ إليّ حديثا لا أحدّث به أحدا من الناس، هكذا ذكره مسلم في المناقب، وذكره في الطهارة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 111- 112، حديث رقم (23950) ، وسنده في (المسند) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا عبد الصمد وعفان، قالا: حدثنا حماد قال عفان: أنبأنا المعنى عن علي بن زيد، عن سعيد. عن عائشة.
[ (2) ] لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد ... قال في (الزوائد) : في إسناده علي بن زيد وهو ضعيف، لكن للحديث طرق أخر. وله شاهدان من حديث طلق بن علي، رواه الترمذي والنسائي، ومن حديث أم سلمة، رواه الترمذي وابن ماجة وفي ابن ماجة: «لكان نولها أن تفعل» أي حقها والّذي ينبغي لها.
والحديث في (صحيح ابن ماجة) : 1/ 311، كتاب النكاح، باب (4) حق الزوج على المرأة، حديث رقم (1502- 1852) ، قال الألباني: ضعيف، لكن الشطر الأول منه صحيح. (ضعيف سنن ابن ماجة) : 143، كتاب النكاح، باب (4) حق الزوج على المرأة، حديث رقم (406- 1852) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 274- 275، كتاب (3) الحيض، باب (20) ما يستتر به لقضاء الحاجة، حديث رقم (79) ، 15/ 206- 207، كتاب (44) فضائل الصحابة باب (11) فضائل عبد اللَّه بن جعفر رضي اللَّه عنهما، حديث رقم (68) ، وتمامه: وكان أحبّ ما استتر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجته هدف أو حائش نخل، قال ابن أسماء في حديثه: يعني حائط نخل.(5/249)
وخرجه أبو داود وزاد فيه: وكان أحب ما استتر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجته هدف أو حايش نخل، بعد هذا قال: فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حنّ وذرفت عيناه، قال: فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال: من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول اللَّه، قال: أفلا تتقي اللَّه في هذه البهيمة التي ملكك اللَّه إياها؟ فإنه قد شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه.
ذكره أبو داود في باب: ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم [ (1) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة، من حديث أبي نمير قال: حدثنا الأجلح عن [الدربال] بن حرمة، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: أقبلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سفر، حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان بني النجار، إذا جمل قطم- يعني هائجا- لا يدخل الحائط أحد عليه.
قال: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتى الحائط فدعى البعير فجاء واضعا مشفره في الأرض حتى برك بين يديه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هاتوا خطاما فخطمه، ودفعه إلى أصحابه، ثم التفت إلى الناس، وقال: إنه ليس بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول اللَّه غير عاصي الجن والإنس.
وخرجه الإمام أحمد من حديث مصعب بن سلام قال: حدثنا الأجلح.. فذكره.
وخرجه أحمد بن عمرو بن أحمد بن عبد الخالق البزار قال: حدثنا محمد بن المستنير الكندي، أخبرنا الوليد بن القثم، أخبرنا الأجلح عن أبي الزبير، عن جابر [ (2) ] .
قال أبو نعيم: ورواه شريك [بن عبد اللَّه] [ (3) ] بن أبي نمر عن جابر قال: خرجنا في غزوة ذات الرقاع ثم أقبلنا حتى إذا كنا بمهبط من الحرة أقبل جمل يرقل [ (4) ] حتى برك بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومد جرانه [ (5) ] .. فذكره [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 50، كتاب (9) الجهاد، باب (47) ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، حديث رقم (2549) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 335، حديث رقم (1748) .
[ (3) ] زيادة للنسب من أبي نعيم.
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «يرقد، وارقدّ بتشديد الدال: أسرع، وأما رواية (خ) ، كما في مجمع الزوائد: «يرقل» أي يعدو.
[ (5) ] الجران من البعير: مقدم العنق.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 381، حديث رقم (280) ، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط، مطولا والبزار مختصرا.(5/250)
وخرجه أبو نعيم من حديث أبي بكر بن عياش عن الأجلح عن الذّيال بن حرملة. عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: جاء قوم إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: إن بعيرا لنا قطن في حائط لنا قد غلبنا، فجاء إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: تعالى، فجاء مطأطئا رأسه حتى خطمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأعطاه أصحابه، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! كأنه علم أنك نبي، فقال ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي، إلا كفرة الجن والإنس [ (1) ] . قال: كذا في كتاب (الذيال) عن ابن عباس، والحديث مشهور بالذيال عن جابر [ (2) ] .
وخرج من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد اللَّه بن موسى، أخبرنا [ (3) ] إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، ثم سرنا ورسول اللَّه بيننا كأنما على رءوسنا الطير تظلنا، فإذا جمل نادّ [ (4) ] ، حتى إذا كان بين السماطين [ (5) ] خرّ ساجدا فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه ثم قال [على الناس] [ (6) ] : من صاحب هذا الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار فقالوا: هو لنا يا رسول اللَّه، قال: فما شأنه؟ قالوا: أسنينا [ (7) ] عليه منذ عشرين سنة فكانت به شحيمة [ (8) ] ، فأردنا أن ننحره فيقسم [ (9) ] بين غلماننا فانفلت عنا، قال: تبيعونيه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، قال: أما لا، فأحسنوا
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 380- 381، حديث رقم (279) ، (مسند أحمد) : 4/ 248، حديث رقم (13923) ، لكن بسياقة أخرى قريبة، وهي رواية جابر بن عبد اللَّه، (البداية والنهاية) : 6/ 150، برواية ابن عباس وقال: هذا من هذا الوجه عن ابن عباس غريب جدا، والأشبه رواية الإمام أحمد عن جابر، إلا أن يكون الأجلح قد رواه عن الذيال عن جابر، (دلائل البيهقي) : 6/ 30، باب ذكر البعير الّذي سجد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأطاع أهله بعد ما امتنع عليهم ببركته، وذكر رواية ابن عباس.
[ (2) ] انظر تعليق رقم (1) . وقطن: أقام.
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .
[ (4) ] ندّ البعير: نفر وذهب شاردا.
[ (5) ] السماط: الصف.
[ (6) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (7) ] (في أبي نعيم) : «أسنيناه» ، أي هو عندنا نستقي عليه منذ عشرين سنة.
[ (8) ] الشحيمة: السمنة.
[ (9) ] في (أبي نعيم) : «فنقسمه» .(5/251)
إليه حتى يأتيه أجله [ (1) ] .
ومن حديث الحسن بن بشر، حدثنا أبي عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سرية، ورسول اللَّه فينا وكأنما على رءوسنا الطير، فأقبلنا حتى إذا ساوينا المدينة فإذا بعير مقبل فجاء يضرب بنفسه الأرض بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [أيكم صاحب] هذا البعير؟ فقام فتية من الأنصار فقالوا: نحن يا رسول اللَّه، قال: إن بعيركم هذا يشكوكم، يزعم أنكم استعملتموه شابا حتى إذا كبر أردتم نحره.
فقالوا: يا رسول اللَّه! إن فيه شحيمة فأردنا أن نقسمها [بين رعائنا] ، قال:
فتبيعونيه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، فقلنا: هذا البعير يا رسول اللَّه سجد لك، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو أمرت بذلك لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [ (2) ] .
وخرج من حديث يحيى بن بكير قال: حدثني الليث بن سعد، عن [ابن] [ (3) ] الهاد عن ثعلبة بن أبي مالك [ (4) ] قال: اشترى إنسان من بني سلمة جملا
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 2/ 381- 382، حديث رقم (281) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 18، باب ذكر المعجزات الثلاث التي شهدهن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري وغيره في الشجرتين، والصبي، والجمل، وما كان في كل واحدة منهن من آثار النبوة، وزاد فيه: قالوا: يا رسول اللَّه نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن،
ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 155- 156، وقال في آخره: وهذا إسناد جيد، ورجاله ثقات، (سنن أبي داود) : 1/ 14، كتاب الطهارة باب (1) التخلي عند قضاء الحاجة، حديث رقم (2) ، ذكره مختصرا جدا، ولم يذكر فيه قصة سجود الجمل، (سنن ابن ماجة) : 1/ 121، كتاب الطهارة وسننها، باب (22) التباعد للبزار في الفضاء، حديث رقم (335) ، ذكره مختصرا جدا، ولم ينكر فيه قصة سجود الجمل، أما مطولا، فقد ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 9/ 7- 8، لكن باختلاف يسير، عن جابر، وقال: في الصحيح بعضه، ورواه الطبراني والبزار مختصرا.
[ (2) ] لم أجده بهذه السياقة، ولكن أحاديث الباب تشهد له.
[ (3) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (4) ] ثعلبة بن مالك: تابعيّ ثقة، حديثه مرسل، ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمته في (تهذيب التهذيب) : 2/ 22- 23، ترجمة رقم (39) ، (الإصابة) : 1/ 407، ترجمة رقم (953) .(5/252)
ينضح عليه، فأدخله في مربد [ (1) ] فجرد كيما يحمل عليه، فلم يقدر أحد أن يدخل عليه إلا يخبطه، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال: افتحوا عنه، فقالوا:
إنا نخشى عليك يا رسول اللَّه [منه] [ (2) ] ، فقال: افتحوا عنه، ففتحوا، فلما رآه الجمل خرّ ساجدا فسبح [ (3) ] القوم وقالوا: يا رسول اللَّه! نحن كنا أحق بالسجود من هذه البهيمة، قال: لو ينبغي لشيء من الخلق أن يسجد لشيء دون اللَّه، لا نبغى [ (4) ] للمرأة أن تسجد لزوجها [ (5) ] .
وخرج من طريق [ابن] أبي شيبة، وأحمد بن حنبل قالا: حدثنا عبد اللَّه ابن نمير، حدثنا عثمان بن حكيم قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلي ابن مرة قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثا ما رآهن أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي، قال: كنت معه ذات يوم حتى جاء جمل فضرب بجرانه بين يديه ثم ذرفت عيناه فقال: انظر [] لمن هذا الجمل إن له لشأنا، قال: فخرجت فالتمست صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه فقال: ما شأن جملك هذا؟ قال: وما شأنه؟ قال: لا أدري ما شأنه؟ قال: عملنا عليه ونضحنا حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: فلا تفعل، هبه لي أو بعنيه، قال:
بل هو لك يا رسول اللَّه، فوسمه سمة الصدقة، ثم بعث به [ (6) ] .
ومن حديث أحمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عطاء بن السائب، عن عبد اللَّه بن حفص، عن يعلي بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسن [ (7) ] عليه، فلما رآه البعير جرجر [ (8) ] ووضع جرانه، فوقف عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فجاء، فقال: بعنيه، فقال: لا بل أهبه، فقال: لا، بل بعنيه، قال: لا بل أهبه لك،
__________
[ (1) ] المربد: مكان جلوس الإبل.
[ (2) ] زيادة في (خ) .
[ (3) ] في (خ) : «فضج» .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «ينبغي» وما أثبتناه من (خ) .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 382، حديث رقم (282) ، ونقله عنه السيوطي في (الخصائص) : 2/ 257.
[ (6) ] (مسند أحمد) : 5/ 170- 171، حديث رقم (17097) ، وابن كثير في (البداية والنهاية) :
6/ 153- 154، وما بين الحاصرتين بياض بالأصل (خ) .
[ (7) ] يسنى: يستقى عليه.
[ (8) ] جرجر: ردّد صوته في حنجرته.(5/253)
وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، قال: أما [إذ] [ (1) ] ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل وقلّة العلف، فأحسنوا إليه [ (2) ] .
وخرجه من حديث حجاج بن منهال وهدبة بن خالد قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء عن يعلي قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا لم يره أحد إلا من كان معي: كنا في سفر حتى إذا كنا بمكان كذا وكذا، جاء بعير فجرجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل تدرون ما يقول؟ قلنا: وما قال؟ قال: شكا أهله، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهله فقال: أتبيعونيه؟ قالوا: نهبه لك، ثم قال: أتبيعونيه؟ قالوا:
بل نهبه لك- مرتين أو ثلاثا- قلنا: ما لنا غيره، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فافعلوا به معروفا- أو قال: خيرا.
وخرجه من حديث شريك، عن عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة، عن أبيه عن جده قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة: فمر عليه بعير ماد جرانه، فقال: عليّ بصاحب هذا، فجيء به فقال: هذا يقول: نتجت عندهم فاستعملوني، حتى إذا كبرت عندهم أرادوا أن ينحروني، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من شيء إلا يعلم أني رسول اللَّه، إلا كفرة أو فسقة الجن والإنس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من أبي نعيم.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 382- 383، حديث رقم (283) ، وأخرجه الإمام أحمد والبيهقي وابن كثير بالرواية التامة، وذكروا فيها الأشياء الثلاثة (مسند أحمد) : 5/ 183، حديث رقم (17115) ، ورجاله رجال الصحيح، (دلائل البيهقي) : 6/ 22- 24 باب ذكر المعجزات الثلاث التي شهدهن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري وغيره في الشجرتين، والصبي، والجمل، وما كان في كل واحدة منهن من آثار النبوة، وذلك بروايتين ثم قال: الرواية الأولى عن يعلي بن مرة في أمر الشجرتين أصح، لموافقتها رواية جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، إلا أن يكون أمر الشجرة في هذه الرواية حكاية عن واقعة أخرى، (البداية والنهاية) : 6/ 152، رواية يعلي بن مرة الثقفي من طريق أخرى عنه.
[ (3) ] ذكره البيهقي مطولا في (دلائل النبوة) : 6/ 22- 23، ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) :
6/ 154، (سنن الدارميّ) : 1/ 11، (المستدرك) : 2/ 674- 675، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الصياغة، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 380- 381، حديث رقم (279) لكن بسياقة أخرى.(5/254)
وخرجه من حديث الأعمش، عن المنهال بن عمرو قال: حدثني ابن يعلي عن مرة عن أبيه. ومن حديث وكيع قال: حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلي بن مرة. وقال وكيع: مرة عن أبيه. ومن حديث يحيى بن سليم عن عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن يونس بن حراب، عن يعلي بن مرة، فذكره وقال:
رواه الثوري والعرزميّ [عن أبي الزبير] نحوه [ (1) ] .
وحدث مطلب بن زيادة قال: حدثنا عمر بن عبيد اللَّه بن يعلي بن مرة حكاية، كذا عن يعلي بن [مرة قال] : خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما فجاء بعير يرغو حتى سجد له، فقال المسلمون: نحن أحق أن نسجد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير اللَّه لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، أتدرون ما يقول هذا؟ زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة، حتى إذا كبر أنقصوا من علفه وزادوا في عمله، حتى إذا كان لهم عرس أخذوا الشّفار لينحروه، فأرسل إلى مواليه فقصّ عليهم، فقالوا:
صدق يا رسول اللَّه، قال إني أحب أن تدعوه لي فتركوه [ (2) ] .
وخرجه من حديث علياء بن أحمر، عن علي عن عبد اللَّه بن بريدة، أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا رسول اللَّه، إن لنا جملا [شارد] في الدار وليس أحد منا يستطيع أن يقربه أو يدير أنفه، فقام معه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقمنا معه، فأتى ذلك الباب ففتحه، فلما رآه الجمل جاء إليه فسجد له، ووضع جرانه فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برأسه فمسحه، ثم دعا بالخطام فخطمه، ثم دفعه إلى أصحابه، فقال له أبو بكر رضي اللَّه عنه: قد عرفك يا رسول اللَّه أنك نبي، واللَّه إنك رسول اللَّه، فقال:
إنه ليس من شيء إلا يعرف أني رسول اللَّه غير كفرة الجن والإنس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 383، حديث رقم (284) ، والسيوطي في (الخصائص) : 2/ 258، وفيه عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة، ضعّفه أحمد، ويحيى، والنسائي، وقال الدّارقطنيّ: متروك.
[ (2) ] انظر هامش رقم (3) في الصفحة السابقة.
[ (3) ] نحوه باختلاف ألفاظ في (سنن الدارميّ) : 1/ 11، في روايته عن الأجلح عن الذيال بن حرملة:
«إلا عاصي الجن والإنس» . وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من كتب السيرة، ونحوه باختلاف يسير في (دلائل أبي نعيم) : 2/ 380- 381 حديث رقم (279) وقد سبق الإشارة إليه.(5/255)
ومن حديث معلّى [ (1) ] بن منصور قال: حدثني شبيب بن شبيبة قال: حدثني بشر بن عاصم، عن غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره فرأينا عجبا، من ذلك: أنا مضينا فنزلنا منزلا فجاء رجل فقال:
يا نبي اللَّه! إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فاغتلما عليّ [ (2) ] ، فمنعاني أنفسهما وحائطي وما فيه، فلا يقدر أحد أن يدنو منهما، فنهض نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: افتح، فقال: يا نبي اللَّه! أمرهما أعظم من ذلك، قال افتح، فلما حرك الباب أقبلا لهما جلبة كحفيف الريح، فلما انفرج الباب، ونظرا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بركا ثم سجدا.
فأخذ نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برءوسهما، ثم دفعهما إلى صاحبهما، فقال:
[استعملهما] [ (3) ] وأحسن علفهما، فقال القوم: يا نبي اللَّه! تسجد لك البهائم؟
فبلاء اللَّه عندنا بك أحسن حين هدانا من الضلالة، واستنقذنا بك من الهلكة [ (4) ] ، أفلا تأذن [لنا] [ (3) ] في السجود لك؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن السجود ليس إلا للحي الّذي لا يموت، ولو كنت آمرا أحدا من هذه الأمة بالسجود لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [ (5) ] .
ومن حديث النضر بن شميل، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل حائطا من حوائط الأنصار، فإذا
__________
[ (1) ] في (خ) : «يعلي» ، وصوبناه من هامش أبي نعيم و (الإصابة) وغيرهما.
[ (2) ] اغتلما عليّ: تمردا عليّ.
[ (3) ] زيادة للسياق من أبي نعيم.
[ (4) ] كذا في (خ) وفي أبي نعيم: «من المهالك» .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 383- 384، حديث رقم (285) ، وأخرجه الطبراني، وفيه شبيب ابن شيبة بن عبد اللَّه بن عمرو بن الأهتم، واسمه سنان بن شمر بن سنان بن خالد بن منقر التميمي المنقري الأهتمي، أبو معمر البصري الخطيب. قال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة، وقال أبو زرعة أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي والدار الدّارقطنيّ والبرقاني: ضعيف.
وقال صالح بن محمد البغدادي: صالح الحديث، وقال الساجي: صدوق يتّهم، وقال ابن المبارك:
خذوا عنه فإنه أشرف من أن يكذب ... ، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 4/ 270، ترجمة رقم (535) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 4/ 31- 32، ترجمة رقم (12/ 892) ، (تاريخ بغداد) : 9/ 274، ترجمة رقم (4836) .(5/256)
فيه جملان يصرمان ويواعدان، فاقترب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهما فوضعا جرانيهما بالأرض، فقال من معه: نسجد له؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما ينبغي لأحد [أن] يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لما عظّم اللَّه تعالى عليها من حقه [ (1) ] .
ومن حديث خلف بن خليفة، عن حفص بن أخي أنس- وهو حفص بن عمر بن عبد اللَّه بن أبي طلحة- عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، قال: كان أهل بيت من الأنصار، وإنه كان لهم جمل يسنون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم ومنعهم ظهره، فجاءت الأنصار إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنه كان لنا جمل نسنى عليه، وإنه قد استصعب علينا، ومنعنا ظهره، وقد يبس النخل والزرع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: قوموا.
فقاموا معه، فجاء إلى الحائط، والجمل قائم في ناحية، فجاء يمشي نحوه، فقالوا: يا رسول اللَّه! إنه صار مثل الكلب [الكلب] [ (2) ] ، وإنا نخاف عليك صولته، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس عليّ منه بأس، فجاء الجمل يمشي حتى خرّ ساجدا بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أصحابه: هذه بهيمة لا تعقل، ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقّه عليها [ (3) ] ، [والّذي نفسي بيده، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته، ما أدت حقّه] [ (4) ] .
وخرجه من حديث سلام بن أبي الصهباء، عن أبي الضلال قال: حدثني أنس ابن مالك أن رجلا من الأنصار كان له بعير قد شرد عليه، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
__________
[ (1) ] ذكره ابن كثير بسياقة أخرى وسند آخر عن ابن عباس في (البداية والنهاية) : 6/ 150، وقال في آخره: هذا إسناد غريب ومتن غريب.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المسند) ، (البداية والنهاية) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 385، حديث رقم (287) ، (مسند أحمد) : 3/ 633، حديث رقم (12203) ، (البداية والنهاية) : 6/ 149، باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوّة: قصة البعير النادّ وسجوده له صلّى اللَّه عليه وسلّم، وشكواه إليه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (المسند) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 29 بسياقة أخرى وسند آخر.(5/257)
يا رسول اللَّه، إن لي بعيرا قد شرد عليّ وهو في أقصى أرضي، وأنا لا أستطيع أن أدنو منه خشية أن يتناولني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: انطلقوا بنا إليه.
فلما مشى الأنصاريّ هنيهة، استرجع ثم قال: ما صنعت يا رسول اللَّه؟ أخاف عليك البعير. قال: فبينما هم يمشون إذ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا يا فلان، إن لو قد رآني رأيت منه، فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأرض ودخلوا، مشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ نظر البعير إليه، فأقبل يحمحم، فألقى بجرانه حتى برك عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجعلت عيناه تسيلان، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم، يا فلان! بعيرك يشكوك فأحسن إليه، فجاء بحبل فألقاه في رايته ثم قال: ها دونك أحسن إليه [ (1) ] .
وخرجه من حديث مكي، حدثنا فائد أبو الورقاء عن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: بينما نحن قعود مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ أتاه آت فقال: يا رسول اللَّه! ناضح [آل فلان] [ (2) ] قد أتى عليهم، فنهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونهضنا معه فقلنا: يا رسول اللَّه! لا تقربه فإنا نخافه عليك، فدنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من البعير، فلما رآه البعير سجد له، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده على رأس البعير فقال: هات الشفار، فجيء بالشفار فوضعه في رأسه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعوا [إليّ صاحب البعير] [ (2) ] فدعي، فقال له أصحابه: يا رسول اللَّه! بهيمة من البهائم تسجد لتعظيم حقك؟ فنحن أحق أن نسجد لك، قال: لا، لو كنت آمرا أحدا من أمتي أن يسجد بعضهم لبعض، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن [ (3) ] .
ومن حديث العرمري وسفيان الثوري- كلاهما عن أبي الزبير عن جابر- قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نسير، إذا أقبل بعير فسجد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم
__________
[ (1) ] لم أجده بهذه السياقة، وله شواهد من أحاديث الباب.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 384، حديث رقم (286) ، وعنه نقله السيوطي في (الخصائص) 2/ 255، (دلائل البيهقي) : 6/ 29، وفيه فائد أبو الورقاء: قال البخاري: منكر الحديث، وتركه أحمد، وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه.(5/258)
ذلك جرانه بالأرض وأرخى عينيه وبكى وجرجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال يزعم أنه كان لبني سلمة بكرا صغيرا يحتطبون عليه وينتضحون عليه، فلما كبرت سنه ورقّ عظمه، أرادوا أن ينحروه على عروس لهم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابغوني بعض بني سلمة، فإذا رجل منهم قد أقبل، فقال: لمن هذا البعير؟ فقال الرجل: لي يا رسول اللَّه، قال: ومتى كان لك؟
قال: كان لي بكرا صغيرا، قال: فما كنت تعمل عليه؟ قال: كنا نحتطب وننتضح عليه، قال: فما أردتم به؟ قال: أردنا أن ننحره على عروس لنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بعنيه، فقال: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، فردّد عليه: بعنيه، فقال:
هو لك يا رسول اللَّه، قال: فإنّي قد قبلته على أن تعمل عليه ما كنت تعمل عليه أولا فيما خلا، قال: نعم.
فأخذ برأسه وولى، فقلنا: يا رسول اللَّه! هذه بهيمة تسجد لك، فنحن أحق بالسجود، فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون اللَّه لسجدت المرأة لزوجها لما له عليها من الفضل [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة قال: سمعت شيخا من قيس يحدث عن أبيه أنه قال: جاءنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعندنا بكرة صعبة لا يقدر عليها، قال: فدنا منها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ضرعها، فحفل فاحتلب فشرب [ (2) ] .
ومن حديث يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي [الزبير] [ (3) ] عن جابر قال: خرجت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، وكان رسول اللَّه
__________
[ (1) ] ذكره أبو نعيم مختصرا عن يعلي بن مرة، وفيه عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة: ضعفه أحمد ويحيى والنسائي، وقال الدار الدّارقطنيّ: متروك، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 383، حديث رقم (284) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 29، باب ذكر البعير الّذي سجد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وأطاع أهله بعد ما امتنع عليهم ببركته، ونقله السيوطي عنه في (الخصائص) : 2/ 57.
[ (3) ] زيادة يقتضيها السياق من البيهقي.(5/259)
صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه أحد، فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر، فقال لي: يا جابر، خذ الإداوة وانطلق بنا، فملأت الإداوة ماء [فانطلقنا] [ (1) ] فمشينا حتى لا نكاد نرى، فإذا شجرتان بينهما أذرع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يا جابر، انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول اللَّه: ألحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما، [ففعلت فرجعت] [ (1) ] حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما حتى قضى حاجته.
ثم رجعنا فركبنا رواحلنا، فسرنا كأنما علينا الطير تظلنا، فإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، معها صبي تحمله فقالت: يا رسول اللَّه! إنّ ابني هذا يأخذه الشيطان ثلاث مرات كل يوم لا يدعه، فوقف [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] فتناوله فجعله بينه وبين مقدمة الرّحل، فقال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] : اخسأ عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم ناولها إياه.
فلما رجعنا فكنا بذلك الماء، عرضت لنا المرأة معها كبشان تقودهما، والصبي تحمله، فقالت: يا رسول اللَّه! [اقبل من هديتي] [ (1) ] ، فو الّذي بعثك بالحق إن عاد إليه بعد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذوا أحدهما منها وردّوا الآخر.
ثم سرنا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، بيننا، فجاء جمل نادّ، فلما كان بين السماطين خرّ ساجدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيها الناس، من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول اللَّه، قال: فما شأنه؟ قالوا: سنونا عليه منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنّه وكانت عليه شحيمة [و] [ (2) ] أردنا نحره لنقسمه بين غلمتنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تبيعونيه؟ فقالوا: يا رسول اللَّه، هو لك، قال: فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله- قالوا: يا رسول اللَّه: نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال: لا ينبغي لأحد [ (3) ] أن يسجد لأحد [ (3) ] ، ولو كان ذلك لكان النساء لأزواجهن [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق من البيهقي.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في المرجع السابق: «لبشر» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 18- 19، باب ذكر المعجزات الثلاث التي شهدن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري وغيره، في الشجرتين، والصبي، والجمل، وما كان في كل واحد منهن من آثار النبوة، وأخرجه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 155- 156، وقال في آخره: وهذا إسناد جيد(5/260)
وخرج من حديث زمعة بن صالح، عن زياد عن أبي الزبير، أنه سمع يونس ابن خبّاب الكوفي يحدث: أنه سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنه كان في سفر إلى مكة، فذهب إلى الغائط- وكان يبعد حتى لا يراه أحد- قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين ... ،
فذكر قصة الشجرتين وقصة الجمل بنحو من حديث جابر.
قال البيهقي: وحديث جابر أصحّ، وهذه الرواية ينفرد بها زمعة بن صالح عن زياد، أظنه ابن سعد عن أبي الزبير [ (1) ] .
__________
[ () ] رجاله ثقات. وبهذا الإسناد أخرجه أبو داود في أول كتاب الطهارة مختصرا، وابن ماجة في كتاب الطهارة باب (22) التباعد للبراز في الفضاء، حديث رقم (335) مختصرا أيضا.
أما مطولا، فقد ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 9/ 7- 8، باختلاف يسير عن جابر، وقال: في الصحيح بعضه، ورواه الطبراني والبزّار باختصار كثير.
والخبر يبدو أن به نقصا في آخره في قصة سجود الجمل له صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ذكرها الهيثمي عن أنس بن مالك قال: وعن ابن عباس قال: جاء قوم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه، إن لنا بعيرا فطم في حائط، فجاء إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: تعال، فجاء مطأطأ رأسه حتى خطمه وأعطاه أصحابه، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! كأنه علم أنك نبي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي، إلا كفرة الجن والإنس. رواه الطبراني، وو رجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف، (دلائل البيهقي) : 6/ 19 «هامش» .
وعن ابن عباس، أن رجلا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما، فأدخلهما حائطا، فسدّ عليهما الباب، ثم جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأراد أن يدعو له والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قاعد مع نفر من الأنصار، فقال: يا نبي اللَّه، إني جئت في حاجة، وإن فحلين لي اغتلما، وإني أدخلتهما، حائطا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما اللَّه لي، فقال لأصحابه: قوموا معنا، فذهب حتى أتى الباب فقال:
افتح، فأشفق الرجل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: افتح، ففتح الباب، فإذا أحد الفحلين قريب من الباب، فلما رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سجد له، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائتني بشيء أشدّ برأسه وأمكنك منه، فجاء بخطام فشدّ رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر، فلما رآه وقع له ساجدا، فقال للرجل: ائتني بشيء أشدّ رأسه، فشدّ رأسه وأمكنه منه، ثم قال: اذهب فإنّهما لا يعصيانك، فلما رأى أصحاب النبي ذلك قالوا: هذان فحلان لا يعقلان سجدا لك! أفلا نسجد لك؟ قال: لا آمر أحدا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدا يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. رواه الطبراني، وفيه أبو عزّة الدباغ، وثّقه ابن حبان، واسمه الحكم بن طهمان، وبقية رجاله ثقات.
(المرجع السابق) : 6/ 20.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20، وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار بنحوه، إلا أنه قال: في غزوة حنين وزاد فيه: ثم أصاب الناس عطش شديد(5/261)
وخرج من حديث يونس بن بكير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، عن يعلي بن مرة عن أبيه قال: سافرت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفرا فرأينا منه أشياء عجبا:
نزلنا منزلا فقال: انطلق إلى هاتين الأشاءتين فقل: إن رسول اللَّه يقول لكما:
أن تجتمعا، فانطلقت فقلت لهما ذلك، فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها، فنزلت كل واحدة إلى صاحبتها فالتفتا جميعا، فقضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاجته من ورائهما ثم قال: انطلق فقل لهما: [فلتعد] كل واحدة إلى مكانها، فأتيتهما فقلت لهما ذلك، فنزلت كل واحدة حتى عادت إلى مكانها.
وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين، يأخذه في كل يوم مرتين، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أدنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: أخرج عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، ثم قال لها صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع.
فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استقبلته ومعه كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذ هذا الكبش، فأخذ منه ما أراد، فقالت: والّذي أكرمك ما رأيناه به شيئا منذ فارقتنا. ثم أتاه بعير فقام بين يديه فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه فقال: ما لبعيركم، هذا يشكوكم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لننحره غدا، فقال: لا تنحروه واجعلوه في الإبل يكون فيها [ (1) ] .
وخرجه من حديث وكيع عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن يعلي بن مرة عن أبيه قال: رأيت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشياء ... ، فذكر الحديث،
__________
[ () ] فقال لي: يا عبد اللَّه، التمس لي ماء، فأتيته بفضل ماء وجدته في إداوة، فأخذه فصبه في ركوة، ثم وضع يده فيها وسمّى، فجعل الماء يتحادر من بين أصابعه، فشرب الناس وتوضّئوا ما شاءوا. ورواه البزار بنحوه، وفي إسناد الأوسط زمعة بن صالح، وقد وثّق على ضعفه، وبقية رجاله حديثهم حسن وأسانيد الطريقين ضعيفة.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20- 21، ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 9/ 6، وقال: رواه أحمد بإسنادين، والطبراني بنحوه، وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، (مسند أحمد) : 6/ 182- 183، حديث رقم (17113) ، (17114) ، (17115) ، (17117) ، بسياقات مختلفة، كلها من حديث يعلي بن مرة الثقفي.(5/262)
يعنى رواية يونس، إلا أنه زاد: خذ أحد الكبشين ورد الآخر، وخذ السمن والأقط [ (1) ] .
قال البيهقي: مرة أبو يعلى هو مرة بن أبى مرة الثقفي، وقيل فيه عن يعلى نفسه أنه قال: رأيت ... ، فذكر من طريق وكيع عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عجبا: خرجت معه في سفر، فنزلنا منزلا فأتته امرأة بصبي لها به لمم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أخرج عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، قال: فبرأ، فلما رجعنا جاءت أم الغلام بكبشين وشيء من أقط وسمن، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا يعلى، خذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر، وخذ السمن والأقط، قال: ففعلت [ (2) ] .
قال البيهقي: هذا الأصح، والأول وهم. قاله البخاري: يعنى روايته عن أبيه وهمّ، إنما هو عن يعلى نفسه، وهم فيه وكيع مرّة، ورواه على الصحة مرّة.
قال البيهقي: وقد وافقه فيما زعم البخاري أنه وهم يونس بن بكير، فيحتمل أن يكون الوهم عن الأعمش. واللَّه أعلم [ (2) ] .
وذكر البيهقي من طرق ثم قال: ولما روينا من حديث يعلى بن مرة في أمر البعير الّذي شكى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حاله بإسناد صحيح، وكأنه غير البعير الّذي أرادوا نحره، واللَّه أعلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 22، (مجمع الزوائد) : 9/ 5- 6، والحاكم في (المستدرك) : 2/ 674- 675، حديث رقم (4232/ 242) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 22.
[ (3) ] (المرجع السابق) 6/ 26.
قال الحافظ ابن كثير: وقد اعتنى الحافظ أبو نعيم بحديث البعير في كتابه (دلائل النبوة) ، وطرقه من وجوه كثيرة. (البداية والنهاية) : 6/ 155.
وقال الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) : فيما تضمنت هذه الأخبار من الآيات والدلائل الواضحة، من سجودهن، وشكايتهن، وما في معناه، ليس يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطى علما بنغم هذه البهائم وشكايتهن، كما أعطى سليمان عليه السلام علما بمنطق الطير، فذلك له آية كما كان نظيرها لسليمان عليه السلام، أو أنه علم ذلك بالوحي، وأي ذلك كان فيه أعجوبة، وآية ومعجزة.
فإن اعترض بعض الطاعنين فزعم أن فيه قسما ثالثا، وهو أنه استدلّ بالحال على سوء إمساكهم، قيل:
هذا محتمل، لكن الاستدلال لا يعلم به أن صاحب البهيمة رجل من بنى فلان، وأنه استعملها كذا سنة، وأنه يريد لينحرها للعرس، فإن ذلك لا يصل إليه بالاستدلال بالحال، فهذا قسم باطل. (دلائل أبي نعيم) :
2/ 386.(5/263)
[سابع وسبعون: مخاطبة الناقة له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما مخاطبة الناقة له صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج الحاكم من حديث يحى بن عبد اللَّه المصري، حدثنا عبد الرزاق عن معمر [عن] [ (1) ] الزهري، عن سالم عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: كنا جلوسا حول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ دخل عليه أعرابى جهوريّ [الصوت] [ (2) ] بدويّ يمانيّ على ناقة حمراء، فأناخ بباب المسجد، فدخل فسلّم [على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] ثم قعد ثم قضى نحبه، قالوا: يا رسول اللَّه إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقه، قال: أثمّ بيّنة؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: يا على، خذ حق اللَّه من الأعرابي إن قامت عليه البينة، وإن لم تقم فردّه إليّ.
قال فأطرق الأعرابي ساعة، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: قم يا أعرابي لأمر اللَّه وإلا فأدل بحجتك، فقالت الناقة من خلف الباب: والّذي بعثك بالكرامة يا رسول اللَّه! إنّ هذا ما سرقني وما يملكني أحد سواه، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أعرابى! بالذي أنطقها بعذرك ما الّذي قلت؟ قال: قلت: اللَّهمّ إنك لست برب استحدثناك، ولا معك إله أعانك على خلقنا، ولا معك رب فنشكّ في ربوبيتك، أنت ربنا كما تقول، وفوق ما يقول القائلون، أسألك أن تصلى على محمد وأن تريني براءتي [ (3) ] ، فقال له النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم والّذي بعثني بالكرامة يا أعرابى، لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك، فأكثر الصلاة عليّ [ (4) ] .
قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، ويحى بين عبد اللَّه المصري هذا، لست أعرفه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] ليست في المرجع السابق.
[ (3) ] كذا في (خ) . وفي المرجع السابق: «أن تبرئنى ببراءتي» .
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 676، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، فصل: ومن كتاب آيات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التي هي دلائل النبوة، حديث رقم (4236/ 246) . وقال الذهبي في (التلخيص) بعد أن ساق جزءا من الخبر: وذكر باقي الخبر وهو كذب، قال الحاكم: رواة هذا الحديث ثقات، ويحى لست أعرفه بعدالة ولا جرح، قلت: هو الّذي اختلقه.
قال محققه: يحى بن عبد اللَّه بن بكير القرش المخزومي، مولاهم أبو زكريا، المصري الحافظ(5/264)
أعرفه بعدالة ولا جرح.
__________
[ () ] وقد ينسب إلى جده. روى عن مالك والليث وبكر بن مضر، وحماد بن زيد، وعبد اللَّه بن سويد المصري، وعبد اللَّه بن لهيعة ومغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، ويعقوب بن عبد الرحمن القارئ وعبد العزيز الدراوَرْديّ وعون بن سليمان القاضي، ومفضل بن فضالة، وضمرة بن ربيعة، وجماعة.
روى عنه البخاري، وروى مسلم وابن ماجة له بواسطة محمد بن عبد اللَّه هو الذهلي، ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وسهل بن زنجلة، وحرملة بن يحيى، وأبو زرعة الرازيّ، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومات قبله ابنه عبد الملك بن يحى بن بكير، ويحى بن معين، ودحيم ويونس ابن عبد الأعلى الصدفي، وبقي بن مخلد، وإسماعيل سمويه، ويحى بن أيوب بن بادى العلاف، ومحمد ابن إبراهيم البوشنجي، وأبو على الحسن بن الفرج الغزى وآخرون.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان يفهم في هذا الشأن، وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) :
وقال أبو داود: سمعت يحى بن معين يقول: أبو صالح أكثر كتبا، ويحى بن بكير أحفظ منه. وقال الساجي: قال ابن معين: سمع يحى بن بكير الموطّأ بعرض حبيب كاتب الليث، وكان شرّ عرض، كان يقرأ على مالك خطوط الناس، ويصفح ورقتين ثلاثة، وقال يحى: سألني عنه أهل مصر فقلت:
ليس بشيء.
وقال الساجي: هو صدوق، روى عن الليث فأكثر، وقال ابن عدي: كان جار الليث بن سعد، وهو أثبت الناس فيه، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد. وقال مسلمة بن قاسم: تكلم فيه، لأن سماعه من مالك إنما كان بعرض حبيب. وقال الخليلي: كان ثقة، وتفرد عن مالك بأحاديث. وقال البخاري في تاريخه الصغير: ما روى ابن بكير عن أهل الحجاز، في التاريخ فإنّي أنفيه. وقال ابن قانع:
مصرى ثقة. له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 11/ 208، ترجمة رقم (388) ، (الجرح والتعديل) : 9/ 165، ترجمة رقم (682) ، (المغنى في الضعفاء) : 2/ 739، ترجمة رقم (7005) ، (لسان الميزان) : 6/ 2325 ترجمة رقم (92/ 9166) ، وقال: شيخ مصرى عن عبد الرزاق، فذكر حديثا باطلا بيقين فلعله افتراه، والحديث المذكور أورده الحاكم في (المستدرك) في علامات النبوة ... وهذا موضوع على الإسناد المذكور، (ميزان الاعتدال) : 4/ 391، ترجمة رقم (9564) .(5/265)
[ثامن وسبعون: ازدلاف البدن إلى المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ليبدأ بنحرهنّ]
وأما ازدلاف البدن إلى المصطفى ليبدأ بنحرهن،
فخرج أبو نعيم من حديث أبي عاصم النبيل، ويحى بن سعيد القطان، عن نور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن عبد اللَّه بن يحى، عن عبد اللَّه بن قرط قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفضل الأيام عند اللَّه يوم النحر، ثم يوم القر [يستقر فيه الناس- وهو الّذي يلي يوم النحر] وقدم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ بها فلما وجبت جنوبها قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمة خفيفة لم أفهمها، فقلت للذي إلى جنبي، ما قال؟ قال: من شاء اقتطع [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث مسدد، حدثنا يحى عن ثور به نحوه، ثم قال:
هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
قال أبو نعيم: فما تضمنت هذه الأخبار من الآيات والدلائل الواضحة من سجود الإبل وشكايتهن وازدلافهن وما في معناه، لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطى علما [بمنطق] هذه البهائم وشكايتهن كما أعطى سليمان عليه السلام علما بمنطق الطير، فذلك له آية كما كان يظهرها لسليمان آية، أو علم ذلك بالوحي، وأي ذلك كان، ففيه أعجوبة [وآية] ومعجزة.
فإن اعترض بعض الطاعنين فزعم أن فيه قسما ثالثا وهو أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم استدل بالحال على سوء إمساكهم، قيل: هذا يحتمل، ولكن الاستدلال لا يعلم به أن صاحب البهيمة رجل من بنى فلان، وأنه استعملها [كذا] سنة، وأنه مريد لنحرها، فإن ذلك لا يتوصل إليه بالاستدلال، فهذا القسم باطل، وأحد الأولين ثابت صحيح، واللَّه أعلم، حسبنا اللَّه تعالى ونعم الوكيل، والحمد للَّه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لم أجده في (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 246، كتاب الأضاحي، حديث رقم (3522/ 6) ، وما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وقال الحاكم: «أعظم الأيام» ، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 386، عقب الحديث رقم (287) .(5/266)
[تاسع وسبعون: مخاطبة الحمار له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما مخاطبة الحمار له،
فخرج أبو نعيم من حديث إبراهيم بن سويد الجدوعى قال: حدثني عبد اللَّه بن أذينة الطائي، عن تور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه قال: أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه فقال: من أنت؟ قال:
أنا عمرو بن فلان، كنا سبعة إخوة. كلّنا ركبنا الأنبياء عليهم السلام، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكنى رجل من اليهود، فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعنى ضربا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأنت يعفور [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 2/ 386- 387، حديث رقم (288) ، وقد انفرد به أبو نعيم، قال الحافظ ابن كثير: وقد أنكره غير واحد من الحفاظ الكبار، فقال أبو محمد بن عبد اللَّه بن حامد: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن حمدان السحركى، حدثنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا أبو جعفر محمد بن يزيد- إملاء- أنبأنا أبو عبد اللَّه محمد بن عقبة بن أبى الصهباء، حدثنا أبو حذيفة عن عبد اللَّه بن حبيب الهذليّ، عن أبى عبد الرحمن السلمي، عن أبى منظور قال: لما فتح اللَّه على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال، وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواق ذهب وفضة، وحمار أسود، ومكتل، قال:
فكلم النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الحمار فكلمه الحمار، فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج اللَّه من نسل جدي ستين حمارا، كلهم لم يركبهم إلا نبي، لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت قبلك لرجل يهودىّ، وكنت أعثر به عمدا، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سميتك يعفور يا يعفور، قال لبيك، قال تشتهي الإناث؟ قال: لا، فكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يركبه لحاجته،
فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتى الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار، أومأ إليه أن أجب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، جاء إلى بئر كانت لأبى الهيثم بن التيهان فتردى فيها، فصارت قبره، جزعا منه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. (البداية والنهاية) : 6/ 166- 167 باب حديث الحمار. ويعفور: على وزن عصفور: اسم ولد الظبي، وسمى به لسرعته.
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع. فلعن اللَّه واضعه، فإنه لم يقصد إلا القدح في الإسلام، والاستهزاء به. قال أبو حاتم بن حبان: لا أصل لهذا الحديث، واسناده ليس بشيء، ولا يجوز الاحتجاج بمحمد بن يزيد. (الموضوعات) : 1/ 293، باب تكليم حماره يعفور له.
قال القسطلاني: ومن ذلك حديث الحمار: أخرج ابن عساكر عن أبى منظور قال، لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، أصاب حمارا أسود ... ثم ذكر الحديث، وقال: لكن الحديث مطعون فيه(5/267)
[ثمانون: نسج العنكبوت على الغار]
وأما نسج العنكبوت على الغار، فخرج أبو نعيم من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرنى عثمان الجزرىّ، أن مقسما مولى ابن الحارث [ (1) ] أخبره عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... [ (2) ] الآية.
قال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه.
فأطلع اللَّه نبيه على ذلك، فبات عليّ رضي اللَّه عنه على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك الليلة، وخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا- يحسبون أنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] (المواهب اللدنية) : 2/ 554.
قال الزرقاني في شرحه على (المواهب) : لا أصل له. (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية) : 8/ 297.
وقال كمال الدين الدميري بعد قصة الحمار هذه: قال الإمام الحافظ أبو موسى: هذا حديث منكر جدا، إسنادا، ومتنا، لا يحل لأحد أن يرويه إلا مع كلامي عليه. (حياة الحيوان الكبرى) : 1/ 319.
وقال الذهبي: عبد اللَّه بن أذينه، عن ثور بن يزيد، قال ابن حبان: حدثنا حمزة بن داود، حدثنا إسماعيل بن عيسى بن زاذان الأيلي، حدثنا عبد اللَّه بن أذينة بنسخة لا يحلّ ذكرها إلا على سبيل القدح ...
(ميزان الاعتدال) : 2/ 391 ترجمة رقم (4204) ترجمة عبد اللَّه بن أذينة.
وقال ابن عدي: هو عبد اللَّه بن عطارد بن أذينة الطائي، بصريّ منكر الحديث، وقال الأزدي:
قال أبو زكريا في (تاريخ أهل الموصل) : قال خضر بن حسّان: أتيت عليّ بن حرب أسأله عن ابن أذينة فضعّفه. وقال الحاكم: والنقاش: روى أحاديث موضوعة، وقال الدار قطنى: متروك الحديث.
(لسان الميزان) : 3/ 321، ترجمة رقم (131/ 4482) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 4/ 214، ترجمة رقم (54/ 1021) .
[ (1) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، وأثبتناها من (تهذيب التهذيب) : 10/ 256 ترجمة (509) ، مقسم بن بجرة، ويقال: ابن نجدة، أبو القاسم، ويقال: أبو العباس للزومه له.
[ (2) ] سورة الأنفال الآية: 30.(5/268)
فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليا ردّ اللَّه مكرهم فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدرى،
فاقتفوا [ (1) ] أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه [ (1) ] ثلاثا [ (2) ] .
وخرج من طريق الواقدي قال: فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: لما فقدت قريش النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، طلبوه بمكة في أعلاها وأسفلها، وبعثوا إلى قائفين [ (3) ] يتبعان أثره: أحدهما كرز بن علقمة، والآخر رجل من خزاعة، فذهب الخزاعي قبل حراء أو ثور.، وذهب كرز بن علقمة فأصاب أثره قبل ثور، فلم يزل عليه يتبعه، فلما انتهوا إلى ثور انقطع أثره ومعه جماعة.
قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين دخل الغار، ضرب العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض، فلما انتهوا إلى الغار قال قائل منهم: أدخل الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار؟ إن عليه لعنكبوت كان قبل ميلاد [محمد] ، ثم قام فبال في صدع الغار حتى سال بوله بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر رضي اللَّه عنه،
فنهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عن قتل العنكبوت وقال: إنها جند من جنود اللَّه.
وقال أبو جهل: أما واللَّه إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا، فانصرفوا، ورجع اليهم الخزاعي بين ثور وحراء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي ابن كثير: «فاقتصوا» ، «ثلاث ليال» .
[ (2) ] (تفسير ابن كثير) : 2/ 314- 316، تفسير سورة الأنفال.
[ (3) ] هم قصّاص الأثر.
وقال ابن كثير بعد أن ذكره: وهذا إسناد حسن، وهو من أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية اللَّه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، (البداية والنهاية) : 3/ 221.
[ (4) ] لم أجده بهذه السياقة، لكن أحاديث الباب تشهد له.(5/269)
[حادي وثمانون: وقوف الحمام بفم الغار، وقيام شجرة على باب الغار]
وأما وقوف الحمام بفم الغار، وقيام شجرة على باب الغار، فخرج الأئمة:
أبو نعيم والبيهقي وغيرهما من حديث مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا عون بن عمر القيسي قال: سمعت أبا مصعب المكيّ يقول: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنهم، فسمعتهم يحدثون أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الغار، أمر اللَّه سبحانه وتعالى شجرة فنبتت في وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسترته، وأمر اللَّه سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسترته، وأمر اللَّه حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار.
وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيّهم وهراواتهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قدر أربعين ذراعا، فعجل بعضهم لينظر في الغار، فرأى حمامتين بفم الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قال، فعلم أن اللَّه عزّ وجلّ درأهم عنه بهما، فدعا لهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وسمّت عليهنّ وفرض جزاءهن، وانحدرن إلى الحرم، وأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم [ (1) ] .
يشعر قوله: وأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم، أن حمام الحرم كله من هذا الزوج، وفيه نظر، فإنه روى في قصة نوح عليه السلام: أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض، فوقعت بوادي الحرة، فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فأخضبت رجليها ثم جاءته، فمسح عنقها [وطوقها]
__________
[ (1) ] (عيون الأثر) : 1/ 182، حديث الغار، (طبقات ابن سعد) : 1/ 228- 229، ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر رضي اللَّه عنه إلى المدينة، عن مسلم بن إبراهيم بسنده وفيه زيادة قصة العنكبوت، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 325، باب ومما ظهر من الآيات في مخرجه إلى المدينة، وفي طريقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (229) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 481- 482، وقال ابن كثير في (السيرة) : 1/ 240: رواه ابن عساكر عن طريق يحى بن محمد بن صاعد، عن عمرو بن على، عن عمرو بن عون، فذكره ثم قال: هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.(5/270)
ووهب لها الحمرة في رجليها وأسكنها الحرم، ودعا لها بالبركة. وفي شعر الحارث ابن فنحاص الّذي أوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ويبكى لبيت ليس يؤذى حمامه ... تظل به أمنا وفيه العصافر
ففي هذا أن الحمام كانت في الحرم من عهد جرهم.
وقال ابن عائذ: أخبرنى الوليد قال: أخبرنى طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبى رباح قال: خرجت عليهم من البحر فوجا فوجا، قال: فسألت طلحة:
أي طير هو؟ قال: سمعت أشياخنا يقولون: حمام الحرم بقية منه، يعنى بقية من الطير الأبابيل التي أرسلها اللَّه على أصحاب الفيل.
وخرج أبو نعيم من حديث الحكم بن عيينة، عن مقسم عن [ابن عباس] رضي اللَّه عنه قال: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليل فلحق بغار ثور، قال:
وتبعه أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلما سمع رسول اللَّه حسّه خلفه، خاف أن يكون الطلب، فلما رأى أبو بكر رضي اللَّه عنه تنحنح، فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عرفه، فقام له حتى تبعه، فأتيا الغار فأصبحت قريش في طلبه، فبعثوا إلى رجل قافة من بني مدلج فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة، فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الّذي تطلبون هذا المكان.
قال: فعند ذلك حزن أبو بكر رضي اللَّه عنه، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا،
قال: فمكث هو وأبو بكر في الغار يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة، وعليّ رضي اللَّه عنه يجهزهم [ (1) ] .
ومن طريق الواقدي قال: فحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغار، دعا شجرة كانت أمام الغار، فقال: ائتيني، فأقبلت حتى وقفت على باب الغار، فقامت على باب الغار وهم يطوفون بالجبل، فأقبل بعضهم فبال [مستقبل باب] الغار، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ما نراه يرانا، فقال
__________
[ (1) ] لم أجده عند أبي نعيم.(5/271)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو رآنا ما استقبلنا بفرجه [ (1) ] ، [سيعيننا اللَّه عليهم] .
قال: فكان الّذي بال عقبة بن أبى معيط، قال: فلم يلق أحد من الجزع بخروج رسول اللَّه ما لقي الخبيث أبو جهل، وبعث مناديا ينادى أسفل مكة وأعلاها:
من جاء بمحمد فله مائة بعير أو دل عليه، أو جاء بابن أبى قحافة أو دلّ عليه فله مائة بعير.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 14، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب مناتب المهاجرين وفضلهم منهم.
أبو بكر عبد اللَّه بن أبى قحافة التيمي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3652) تعليقا، نقلا عن (السير للواقدي) : وما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، (المطالب العالية) : 4/ 206، باب هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة حديث رقم (4292) ، وقال فيه: «لم يستقبلنا بعورته» وعزاه الأبي يعلى، (كنز العمال) : 16/ 661، كتاب الهجرتين من قسم الأفعال حديث رقم (46280) وأشار إلى ضعفه.(5/272)
[ثانى وثمانون: وقوف الحية له وسلامها عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما وقوف الحية له وسلامها عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الواقدي في كتاب المغازي- وقد ذكر غزوة تبوك-: قالوا: وعارض الناس في مسيرهم حية ذكر من عظمها وخلقها وانصاع الناس عنها، فأقبلت حتى واقفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق، فقامت قائمة.
فأقبل الناس حتى لحقوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لهم: هل تدرون من هذا؟
قالوا: اللَّه ورسوله أعلم! قال: فإن هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا يستمعون القرآن [ (1) ] ، فرأى عليه من الحق حين ألمّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببلده أن يسلم عليه، وها هو [ذا] [ (2) ] يقرئكم السلام فسلّموا عليه، فقال الناس جميعا. وعليه السلام ورحمة اللَّه، يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجيبوا [ (3) ] عباد اللَّه من كانوا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (مغازي الواقدي) : «الذين يريدون أن يسمعوا القرآن» .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «أحبوا» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1015.(5/273)
[ثالث وثمانون: شكوى الحمّرة حالها للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم لما فجعت بفرخيها]
وأما شكوى الحمرة [ (1) ] حالها للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم لما فجعت بفرخيها،
فخرج أبو داود من حديث الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، عن عبد اللَّه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فدخل رجل غيضه [ (2) ] فأخرج بيضة حمرة، فجاءت الحمرة ترفرف على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فقال: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضتها، فقال: [ردّه رحمة] [ (3) ] لها [ (4) ] .
وخرجه البخاري في الأدب المفرد ولفظه: عن عبد اللَّه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل منزلا، فأخذ رجل بيض حمرة فجاءت ترفرف على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
أيكم فجع هذه ببيضتها؟ فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه أخذت بيضتها، فقال النبي:
اردده رحمة لها [ (4) ] .
وخرجه البيهقي من حديث أبى معاوية، عن أبى إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، فجاءت الحمرة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي تعرض، فقال: من فجع هذه بفرخيها؟ قال: فقلنا: نحن، قال ردوهما، قال: فرددناهما
__________
[ (1) ] الحمّرة والحمرة: طائر من العصافير، وفي (الصحاح) : الحمّرة ضرب من الطير كالعصافير، وجمعها الحمر والحمّر، والتشديد أعلى. وفي الحديث: نزلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءت حمّرة، هي بضم الحاء وتشديد الميم وقد تخفف: طائر صغير كالعصفور. (القاموس) 4/ 214- 215.
[ (2) ] الغيضة: مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر، وفي حديث عمر رضي اللَّه تعالى عنه: لا تنزلوا المسلمين الغياض، والغياض جمع غيضة، وهي الشجر الملتف، لأنهم إذا نزلوها تفرقوا فيها فتمكّن منهم العدو.
قال ابن الأثير: الغابة غيضة ذات شجر كثير. وهي على تسعة أميال من المدينة (المرجع السابق) :
7/ 202.
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (4) ] (صحيح سنن أبى داود) : 2/ 508، باب (122) في كراهية حرق العدو بالنار، حديث رقم (2675) وقال الألباني: وأخرجه أيضا في كتاب الأدب بنفس الإسناد السابق، حديث رقم (5268) ، وقال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبى داود) : 3/ 988، باب (176) في قتل الذرّ.(5/274)
إلى مواضعهما. قال البيهقي: كذا في كتابي: تعرض، وقال غيره: تفرش، يعنى تقرب إلى الأرض وترفرف بجناحيها [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث عثمان بن أبى شيبة، حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، حدثنا الحسين بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه فذكره قريبا منه ثم قال: حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وقال الواقدي- وقد ذكر غزوة ذات الرقاع-: فكان جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول: إنا لمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إليه، فأقبل أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه بين يدي الّذي أخذ فرخه، فرأيت الناس عجبوا من ذلك! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه، واللَّه لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 32- 33، باب ما جاء في الحمرة التي فجعت ببيضتها أو بفرخيها، فشكت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حالها. وقال فيه قوله: وترفرف بجناحيها: ورواه أبو إسحاق الفزارىّ، عن أبى إسحاق الشيباني، عن الحسن بن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه، عن أبيه، وقال في الحديث: فجعلت تفرش، وهو في السادس والثلاثين من سنن أبى داود. وأخرجه ابن كثير في (البداية والنهاية) :
6/ 167، باب حديث الحمرة وهو طائر مشهور عن البيهقي، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 63، وعزاه للبيهقي، وأبى نعيم، وأبى الشيخ في (كتاب العظمة) كلهم عن ابن مسعود.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 217، حديث رقم (7599/ 30) وزاد: ولم يخرجاه، ذكره في آخر كتاب الذبائح.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 398.(5/275)
[رابع وثمانون: تسخير الأسد لسفينة (أحد الموالي) كرامة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما تسخير الأسد لسفينة [ (1) ]- أحد الموالي- كرامة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البيهقي وغيره من حديث أسامة بن زيد، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن سفينة- مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- قال: ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحا منها فأخرجنى إلى أجمة [ (2) ] فيها أسد، إذ أقبل الأسد فلما رأيته قلت: يا أبا الحارث [ (3) ] ! أنا سفينة مولى رسول اللَّه، فأقبل نحوي حتى ضربني بمنكبه، ثم مشى معى حتى أقامنى على الطريق، ثم همهم [ (4) ] ساعة وضربني بذنبه، فرأيت أنه يودعنى [ (5) ] .
__________
[ (1) ] مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبو عبد الرحمن، كان عبدا لأم سلمة رضي اللَّه تعالى عنها، فأعتقته، وشرطت عليه خدمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما عاش. روى له في (مسند بقي) أربعة عشر حديثا وحديثه مخرّج في الكتب سوى صحيح البخاري.
وسفينة لقب له. واسمه مهران، وقيل: رومان، وقيل قيس. قيل: إنه حمل مرة متاع الرفاق، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما أنت إلا سفينة» ، فلزمه ذلك. توفى بعد سنة سبعين، في زمن الحجاج.
له ترجمة في: (طبقات خليفة) : ت 32، 117، (التاريخ الكبير) : 4/ 209، 7/ 427، (التاريخ الصغير) : 1/ 197، (المعارف) : 146- 147 (الجرح والتعديل) : 4/ 320، 8/ 300، (المستدرك) : 3/ 606، (الاستيعاب) 684- 685، ترجمة رقم (1135) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 225، (تاريخ الإسلام) : 2/ 484، (الإصابة) : 3/ 132، ترجمة رقم (3336) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 137، (المطالب العالية) : 4/ 125- 126، ترجمة رقم (4127) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 110، ترجمة رقم (212) ، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 172- 173، ترجمة رقم (29) .
[ (2) ] الأجمة: المكان الّذي فيه شجر مجتمع كثير كثيف.
[ (3) ] أبو الحارث: اسم من أسماء الأسد.
[ (4) ] همهم: ردّد زئيره في صدره.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 583- 584، قصة سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (535) ، (حلية الأولياء) : 1/ 369، ترجمة سفينة أبو عبد الرحمن رقم (74) ، المطالب العالية: 4/ 125- 126، باب سفينة، حديث رقم (4127) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 45، باب ما جاء في تسخير اللَّه عزّ وجلّ الأسد لسفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كرامة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما روى في معناه،(5/276)
ومن طريق عبد اللَّه بن وهب، عن أسامة بن زيد أن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو ابن عثمان حدثه عن محمد بن المنكدر، أن سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ركبت البحر فانكسرت بى سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح إلى أجمة فيها الأسد، فدخلت فخرج إليّ الأسد فأقبل إليّ، فقلت: يا أبا الحارث: أنا مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فطأطأ رأسه وأقبل إليّ يدفعني بمنكبيه، فأخرجنى من الأجمة، ووقفني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعنى، فكان هذا آخر عهدي به [ (1) ] .
وخرجه الحاكم به نحوه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ (2) ] .
ومن طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحجبي، عن ابن المنكدر، أن سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخطأ الجيش بأرض الروم أو أسر بأرض الروم، فانطلق هاربا يلتمس الجيش فإذا هو بالأسد! قال له: يا أبا الحارث، إني مولى رسول اللَّه، كان من أمرى كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبصه حتى قام إلى جنبه كلما سمع صوتا أهوى إليه ثم أقبل يمشى إلى جنبه، فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الأسد [ (3) ] .
__________
[ () ] (المستدرك) : 2/ 675- 676، كتاب تواريخ المتقدمين، من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4235/ 245) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 46 ذات الباب المذكور في التعليق السابق ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 162- 163.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 702، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6550/ 2148) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 46 ذات الباب المذكور في التعليق السابق ونقله عنه ابن كثير أيضا في (البداية والنهاية) : 6/ 163.(5/277)
[خامس وثمانون: احتمال سفينة ما ثقل من متاع القوم ببركته صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وظهرت في سفينة معجزة أخرى
خرجها النسائي والحاكم [وصحح روايتها] من حديث سعيد بن [جمهان قال] : قلت لسفينة: ما اسمك؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قال: سماني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفينة، قلت: ولم سمّاك سفينة؟
قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه أصحابه، فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ابسط كساءك، فبسطته، فجعلوا فيه متاعهم فحملوه عليّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم احمل فإنما أنت سفينة، فلو حملت من يومئذ. وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة، ما ثقل عليّ [ (1) ] .
[إلا أن يخفوا] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 47، باب ما جاء في معجزة أخرى ظهرت له في مولاه سفينة، وبذلك سمّى سفينة، (المستدرك) : 3/ 701، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (6548/ 2146) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (حلية الأولياء) : 1/ 369) ترجمة سفينة أبو عبد الرحمن رقم (74) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من كتب السيرة.
وقال أبو تميلة يحى بن واضح، عن أبى طيبة عبد اللَّه بن مسلم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فثقل على القوم بعض متاعهم، فجعلوا يطرحونه عليّ، فمرّ بى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنت زاملة. والزاملة البعير الّذي يحمل عليه الطعام والمتاع. وقال حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان: سمعت سفينة يقول: ثقل على القوم متاعهم ... وذكر الحديث. (تاريخ الإسلام) :
2/ 484، باب في مزاحه ودماثة أخلاقه الزكية صلّى اللَّه عليه وسلّم.(5/278)
[سادس وثمانون: إحياء شاة جابر بعد ما طبخت وأكلت]
وأما إحياء شاة جابر بعد ما طبخت وأكلت، فقال الحافظ أبو نعيم: فان قلت إن عيسى عليه السلام كان يحى [الموتى بإذن] [ (1) ] اللَّه، فأعجب منه ما رفع اللَّه تعالى به شأن محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجعله [ (2) ] آية بينة شهدها الجماعة الكثيرة على [ (3) ] إحياء شاة جابر بن عبد اللَّه، وما أحيا اللَّه لامرأة من الأنصار ابنها على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم آية عجيبة لنبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
ثم ذكر من حديث أبى برّة [ (5) ] محمد بن أبى هاشم مولى بنى هاشم [بمكة] [ (1) ] قال: حدثنا أبو كعب البداح بن سهل الأنصاري، عن أبيه سهل بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك قال:
أتى جابر بن عبد اللَّه النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم عليه فرد عليه السلام، قال: جابر فرأيت وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متغيرا، وما أحسب وجه رسول اللَّه تغير إلا من الجوع [ (6) ] ، فأتيت منزلي فقلت للمرأة: ويحك! لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، فرأيت [ (7) ] وجهه متغيرا، وما أحسب وجه رسول اللَّه متغيرا إلا من الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: واللَّه ما لنا إلا هذا الداجن وفضلة من زاد نعلّل بها الصبيان.
قال: فقلت لها هل لك أن نذبح هذا الداجن وتصنعين ما كان عندك ثم نحمله إلى رسول اللَّه؟ قالت: أفعل من ذلك ما أحببت، فذبحت الداجن وصنعت ما
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «وجعلت له آية ... » .
[ (3) ] في (المرجع السابق) «في» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 616، فصل ما أوتى عيسى عليه السلام.
[ (5) ] في (خ) : «برزة» وصوبناه من المرجع السابق.
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «من جوع» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «ووجهه متغيرا» .(5/279)
كان عندها، وطحنت وخبزت، ثم ردنا في جفنة لنا،
فوضعت الداجن ثم حملتها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوضعناها بين يديه، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: يا رسول اللَّه! أتيتك فسلمت عليك فرأيت وجهك متغيرا، فظننت أن وجهك لم يتغير إلا من الجوع، فذبحت داجنا كانت لنا، ثم حملتها إليك.
قال: يا جابر، اذهب فاجمع لي قومك، قال: فأتيت أحياء العرب فلم أزل أجمعهم فأتيته بهم، ثم دخلت إليه فقلت: يا رسول اللَّه، هذه الأنصار قد اجتمعت، فقال: أدخلهم عليّ أرسالا، فأدخلتهم عليه أرسالا فكانوا يأكلون منها، فإذا شبع قوم خرجوا ودخل آخرون، حتى أكلوا جميعا، وفضل في الجفنة شبيه ما كان فيها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لهم: كلوا ولا تكسروا عظما.
ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جمع العظام في وسط الجفنة، ووضع يده عليها، ثم تكلم بكلام لم أسمعه إلا أنى أرى شفتيه تتحركان، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها، فقال لي: خذ شاتك يا جابر، بارك اللَّه لك فيها.
فأخذتها ومضيت، وإنها لتنازعنى أذنها حتى أتيت بها البيت، فقالت لي المرآة:
ما هذا يا جابر؟ قلت: واللَّه هذه شاتنا التي ذبحناها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، دعا اللَّه فأحياها لنا، قالت: أنا أشهد أنه رسول اللَّه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه، صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 616- 617، حديث رقم (560) ، وذكره السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 283، وعزاه إلى أبى نعيم.
وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 325: قلت: وقد ذكرت في قصة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدم، وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر في كتابه (الغرائب والعجائب) بسنده كما سبق أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جمع عظامها ثم دعا اللَّه تعالى فعادت كما كانت، فتركها في منزله. واللَّه تعالى أعلم. وقد أخرج البخاري في صحيحه قصة شاة جابر لكن بغير معجزة إحيائها. (فتح الباري) : 7/ 503، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، حديث رقم (4102) .(5/280)
[سابع وثمانون: تسخير الطائر له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما تسخير الطائر له،
فخرج البيهقي من حديث حبان قال: حدثنا أبو سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد الحاجة أبعد، قال: فذهب يوما فبعد تحت سمرة فنزع خفيه ولبس أحدهما، فجاء طائر فأخذ الخف الآخر فحلّق به في السماء، فانسلت منه أسود سالخ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه كرامة أكرمنى اللَّه بها، اللَّهمّ إني أعوذ بك من شر ما يمشى على رجلين، ومن شر ما يمشى على أربع، ومن شر ما يمشى على بطنه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] ونقله ابن كثير عن البيهقي بسنده ولفظه في (البداية والنهاية) : 6/ 167 وعنوان له: حديث آخر في ذلك وفيه غرابة.(5/281)
[ثامن وثمانون: كثرة غنم هند [بنت عتبة] [ (1) ] بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما كثرة غنم هند بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال أبو الوليد الواقدي: حدثني عبد اللَّه ابن يزيد عن أبى حصين الهذليّ قال: لما أسلمت هند بنت عتبة، أرسلت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهدية وهو بالأبطح مع مولاة [ (2) ] لها، بجديين مرضوفين [ (3) ] وقد [ (4) ] ، فانتهت الجارية إلى خيمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فسلّمت واستأذنت فأذن لها، فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بين نسائه: أم سلمة [زوجته] [ (5) ] وميمونة، ونساء من نساء بنى عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بارك اللَّه لكم في غنمكم، وأكثر والدتها.
فرجعت المولاة إلى هند فأخبرتها بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسرت بذلك، فكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتنا ما لم نكن نرى قبل ولا
__________
[ (1) ] هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية، والدة معاوية بن أبى سفيان. أخبارها قبل الإسلام مشهورة، وشهدت أحدا، وفعلت بحمزة ما فعلت، ثم كانت تؤلب على المسلمين إلى أن جاء اللَّه تعالى بالفتح فأسلم زوجها، ثم أسلمت هي يوم الفتح.
ومن طرق ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح مرسل عن الشعبي، وعن ميمون بن مهران، ففي رواية الشعبي لما سمعت قوله تعالى: وَلا يَزْنِينَ، قالت هند: وهل تزني الحرة، وعند قوله تعالى:
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ، قالت هند: أنت قتلتهم، وفي رواية نحوه، لكن قالت: وهل تركت لنا ولدا يوم بدر؟
وسؤالها عن أخذها من مال زوجها بغير إذنه ما يكفيها، وهل عليها فيه من حرج؟ مخرّج في الصحيحين، وفيه: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك، وهو من رواية هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، ترجمتها في: (الإصابة) : 8/ 2155 ترجمة رقم (11856) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 170، (الاستيعاب) : 4/ 1922- 1923، ترجمة رقم (4113) .
[ (2) ] في (خ) : «مولاتها» وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] المرضوف: الّذي يشوى على الرضف، والرضف الحجارة المحماة على النار. (النهاية) : 2/ 85.
[ (4) ] القدّ: جلد السخلة. (القاموس المحيط) .
[ (5) ] زيادة من (مغازي الواقدي) .(5/282)
قريبا، فتقول هند: هذا دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبركته، فالحمد للَّه الّذي هدانا للإسلام، ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أنى في الشمس أبدا قائمة والظلّ منىّ قريب لا أقدر عليه، فلما دنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منا رأيت كأنى دخلت الظل [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 868- 869.(5/283)
[تاسع وثمانون: إحياء الحمار الّذي نفق]
وأما الّذي أحيا اللَّه تعالى له حماره، فخرج البيهقي من حديث الحسن بن عرفة، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى سبرة النخعي قال:
أقبل رجل من أهل اليمن، فلما كان في بعض الطريق نفق حماره فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللَّهمّ إني خرجت من الدثينة [ (1) ] مجاهدا في سبيلك [و] ابتغاء مرضاتك، وأشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ اليوم منّة، أطلب إليك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه [ (2) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة، حيث يكون في أمته مثل هذا. وقد رواه محمد بن يحى الذهلي، وغيره، عن محمد ابن عبيد عن إسماعيل، عن الشعبي [ (2) ] . [وكأنه سمعه منهما] [ (3) ] .
وخرجه من طريق أبى بكر بن أبى الدنيا قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، وأحمد بن بجير وغيرهما، قالوا: حدثنا [ (4) ] محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبي، أن قوما أقبلوا من اليمن متطوعين في سبيل اللَّه، فنفق حمار رجل منهم، فأرادوه أن ينطلق معهم [فأبى] [ (3) ] ، قال: فقام فتوضأ وصلى وقال: اللَّهمّ إني جئت من الدثينة- أو قال- الدفينة- مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وإني أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ منّة، وإني أطلب إليك أن تبعث لي حماري، ثم قام إلى الحمار فضربه، فقام الحمار ينفض أذنيه، فأسرجه ثم ألجمه ثم ركبه، [فأجراه فلحق] [ (5) ] بأصحابه، فقالوا: ما شأنك؟
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، (دلائل البيهقي) ، وفي (البداية والنهاية) : «الدفينة» .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 48، باب ما جاء في المجاهد في سبيل اللَّه الّذي بعث حماره بعد ما نفق.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «أنبأنا» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(5/284)
قال: شأنى [ (1) ] أن اللَّه بعث لي حماري [ (2) ] .
قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع بالكناسة [ (3) ] ، قال ابن أبى الدنيا:
أخبرنى العباس بن هشام عن أبيه عن جده، عن مسلم [ (4) ] بن عبد اللَّه بن شريك النخعي، أن صاحب الحمار رجل من النخع يقال له: نباته بن يزيد، خرج في زمن عمر رضي اللَّه عنه غازيا، حتى إذا كان بسرّ [ (5) ] عميرة نفق حماره، فذكر القصة غير أنه قال: فباعه [بعد] [ (6) ] بالكناسة، فقيل له: تبيع حمارا أحياه اللَّه لك؟ قال: فكيف أصنع؟ فقال رجل من رهطه ثلاثة أبيات فحفظت هذا البيت:
ومنّا الّذي أحيا الإله حماره ... وقد مات منه كل عضو ومفصل [ (7) ]
وفي كتاب (الجمهرة لابن الكلبي) : وولد عامر بن سعد بن مالك بن النخع عوفا ومالكا والحارث وحزنا، منهم نباته بن يزيد الّذي أحيا اللَّه حماره في زمن عمر بن الخطاب وقد نفق بسنّ سميرة فأحياه اللَّه حتى غزا قزوين ثم رجع فباعه بعد بالكوفة [ (8) ] وذكر البكري أن سنّ سميرة بالقرب من عانات [ (9) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «قال: ما شأني» وما أثبتناه أجود للسياق، وهو حق اللغة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 49، باب ما جاء في المجاهد في سبيل اللَّه الّذي يعث حماره حق بعد ما نفق.
[ (3) ] الكناسة: موضع مشهور بالكوفة.
[ (4) ] في (خ) : «سلمة» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (خ) : «ببئر» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (6) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (7) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 49، في ذات الباب، وعنه نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 169، 170 باب حديث فيه كرامة لولىّ من هذه الأمة، ثم قال: وقد ذكرنا في باب رضاعه عليه السلام، ما كان من حمارة حليمة السعدية، وكيف كانت تسبق الركب في رجوعها لما ركب معها عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو رضيع، وقد كانت أدمت بالركب في مسيرهم إلى مكة، وكذلك ظهرت بركته عليه في شارفهم- وهي الناقة التي كانوا يحلبونها- وشياههم، وسمنهم، وكثرة ألبانها، صلوات اللَّه وسلامه.
عليه.
[ (8) ] (اللباب) : 2/ 306، قال: وقد فاته عامر بن سعد بن مالك بن النخع، بطن من النخع، ومنهم نباته بن يزيد الّذي أحيا اللَّه حماره ...
[ (9) ] (معجم ما استعجم) : 2/ 761. قال كثيّر:(5/285)
[تسعون: إحياء اللَّه ولد المهاجرة بعد موته، وإجابة دعاء العلاء بن الحضرميّ [ (1) ]]
وأما إحياء اللَّه ولد المهاجرة بعد موته، وإجابة دعاء العلاء بن الحضرميّ حتى سقى اللَّه المسلمين وقد عطشوا، وحتى جاز بهم البحر للقاء عدوهم، ومشي مسلم الخولانيّ على الماء تكرمة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البيهقي من طريق أبى أحمد بن عدي الحافظ قال: حدثنا محمد بن طاهر بن أبى الدميك، حدثنا عبيد اللَّه بن عائشة، حدثنا صالح المري، حدثنا ثابت عن أنس قال: عدنا شابا من الأنصار وعنده أم له عجوز عمياء، قال فما برحنا أن فاض- يعنى مات- ومددنا على وجهه الثوب وقلنا لأمه: يا هذه، احتسبي مصابك عند اللَّه، قالت: أمات ابني؟ قلنا نعم.
قالت: اللَّهمّ إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني عند كل شديدة، فلا تحمل على هذه المصيبة اليوم. قال أنس، فو اللَّه ما برحت حتى
__________
[ () ]
خيل بعانات فسنّ سميرة ... له لا يردّ الذائدون نهالها
وعانات: موضع من أرياف العراق، قال الخليل: مما يلي ناحية الجزيرة تنسب إليه الخمر الجيدة.
(المرجع السابق) : 2/ 914.
[ (1) ] هو العلاء بن الحضرميّ، وكان اسمه عبد اللَّه بن عماد [أو عباد أو هنماد] بن أكبر بن ربيعة بن مالك ابن عوين الحضرميّ، وكان عبد اللَّه الحضرميّ أبوه قد سكن مكة، وحالف حرب بن أمية والد أبى سفيان، وكان للعلاء عدة إخوة، منهم عمرو بن الحضرميّ، وهو أول قتيل من المشركين، وماله أول مال خمّس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر، واستعمل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العلاء على البحرين، وأمّره أبو بكر، ثم عمر. مات سنة أربع عشرة، وقيل سنة إحدى وعشرين.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وروى عنه من الصحابة السائب بن يزيد، وأبو هريرة، وكان يقال: أنه مجاب الدعوة، وخاض البحر بكلمات قالها، وذلك مشهور في كتب الفتوح. له ترجمة في:
(الإصابة) : 4/ 541، ترجمة رقم (5646) ، (الاستيعاب) : 3/ 1085، ترجمة رقم (1841) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 227- 228، ترجمة رقم (313) ، (تهذيب التهذيب) ، 8/ 159 ترجمة رقم (320) .(5/286)
كشف الثوب عن وجهه وطعم وطعمنا معه [ (1) ] .
ومن طريق ابن أبى الدنيا قال: حدثنا خالد بن خداش بن عجلان المهلبي، وإسماعيل بن إبراهيم بن بسام قالا: حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن أنس ابن مالك قال: عدت شابا من الأنصار فما كان أسرع من أن مات فأغمضناه ومددنا عليه الثوب فقال بعضنا لأمه: احتسبيه، قالت: وقد مات؟ قلنا: نعم، قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا نعم.
فمدت يدها إلى السماء وقالت: اللَّهمّ إني آمنت بك وهاجرت إلى رسولك، فإذا نزلت بى شديدة دعوتك ففرجتها، فأسألك اللَّهمّ لا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم، قال: فكشف الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى أكلنا، وأكل معنا [ (2) ] .
قال البيهقي: صالح بن بشير المري من صالحي أهل البصرة وقصاصهم، تفرد بأحاديث مناكير عن ثابت وغيره [ (3) ] ، وقد روى هذا من وجه آخر مرسلا بين ابن عون وأنس بن مالك، فذكر حديث أبى حمزة إدريس بن يونس قال: حدثنا محمد ابن يزيد بن مسلمة، حدثنا عيس بن يونس، عن عبد اللَّه بن عون عن أنس قال:
أدركت في هذه الأمة ثلاثا لو كان [ (4) ] مثلها في بنى إسرائيل [لما تقاسمتها الأمم] [ (4) ] ولكان عجبا، قلنا [ (5) ] ما هن يا أبا حمزة؟
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 50، باب ما جاء في المهاجرة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التي أحياء اللَّه تعالى بدعائها ولدها بعد ما مات، وما جاء في الكرامات التي ظهرت على العلاء الحضرميّ وأصحابه، (دلائل أبي نعيم) :
2/ 617- 618، حديث رقم (561) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 50- 51، وفي (خ) : «خالد بن خداش» .
[ (3) ] صالح بن بشير المري: بصرى، واعظ شهير، ضعفه ابن معين، والدار قطنى، والعقيلي، وابن حبان، وقال أحمد: هو صاحب قصص، ليس هو بصاحب حديث ولا بعرف الحديث، وقال الفلاس: منكر الحديث جدا، وقال النسائي: متروك. له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 4/ 273، ترجمة رقم (2782) ، (الضعفاء الكبير للعقيليّ) : 2/ 199، ترجمة رقم (723) ، (المجروحين) : 1/ 371، (الميزان) : 2/ 289، ترجمة رقم (3773) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «كانوا» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «قلن» ، وما أثبتناه أجود للسياق.(5/287)
قال: كنا في الصفة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أياما ثم قبض، فغمّضه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسّله قال: يا أنس، ائت أمّه فأعلمها، قال: فأعلمتها،
فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت اللَّهمّ إني أسلمت لك طوعا، وخلعت الأوثان زهدا، وهاجرت إليك رغبة، اللَّهمّ لا تشمت بى عبدة الأوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها.
قال: فو اللَّه [ما انقضى] [ (1) ] كلامها حتى حرك قدميه وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض اللَّه رسوله وحتى هلكت أمه، ثم [قال:] [ (2) ] جهز عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يعنى جيشا- واستعمل عليه العلاء بن الحضرميّ.
قال: وكنت في غزاته فأتينا مفازة [ (3) ] فوجدنا القوم قد نذروا بنا فعفوا آثار الماء، قال: والحرّ شديد فجهدنا [العطش] [ (2) ] ودوابّنا، وذلك يوم الجمعة [قال:] [ (2) ] [فلما مالت] [ (2) ] الشمس لقرنها [ (4) ] صلى بنا ركعتين ثم مد يده وما نرى في السماء شيئا، قال: فو اللَّه ما حط يده حتى بعث اللَّه ريحا وأنشأ سحابا.
فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب، فشربنا، وسقينا واستقينا، ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا عليّ يا عظيم [يا حليم] [ (2) ] يا كريم، ثم قال: أجيزوا بسم اللَّه. قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فأصبنا العدوّ غيلة، فقتلنا، وأسرنا وسبينا، ثم أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا. فلم يلبث إلا يسيرا حتى رئي في دفنه، فحفرنا له وغسّلناه ودفنّاه.
فجاء رجل يعدو [بعد] فراغنا من دفنه فقال: من هذا؟ فقلنا: هذا خير البشر.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «ما تقضّى» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «مغازينا» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «لغربها» .(5/288)
هذا ابن الحضرميّ، فقال: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى، فقلنا: ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله؟ قال:
فاجتمعنا على نبشه، فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبنا ليس فيه. وإذا اللحد مدّ البصر نورا [ (1) ] يتلألأ، فأعدنا التراب إلى القبر ثم ارتحلنا.
قال البيهقي: وقد روى عن أبى هريرة في قصة العلاء بن الحضرميّ واستسقائه ومشيهم على الماء، دون قصة الموت بنحو من هذا، وقال في الدعاء: يا عليم يا حليم يا عظيم يا على، إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ، وإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا. وقال في البحر: فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك. وقال في الموت: أخف جثتي ولا تطلع على عورتي أحد فلم يقدر عليه [ (2) ] .
وخرج أيضا من حديث ابن نمير عن الأعمش، عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة، وهي مادّة والأعاجم خلفها، فقال رجل من المسلمين: بسم اللَّه، ثم اقتحم فرسه فاندفع على الماء، فقال الناس: بسم اللَّه، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فلما ظهر إليهم الأعاجم قالوا: ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم، فما فقدوا إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء بيضاء؟ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «نور» ، وما أثبتناه أجود للسياق فهو حق اللغة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 53.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 53- 54، ثم قال البيهقي: قلت: كل هذا يرجع إلى إكرام اللَّه تعالى نبيه وإعزازه دينه الّذي بعث به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتصديقه ما وعده من إظهاره وإظهار شريعته.
وعن البيهقي ذكر ابن كثير قصة العلاء بن الحضرميّ في (البداية والنهاية) : 6/ 171- 172، وذكرها أبو نعيم في (الحلية) : 1/ 807، وذكر أيضا في (دلائل النبوة) : 2/ 573، الفصل التاسع والعشرون: ما جرى على يدي أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعده، كعبور العلاء بن الحضرميّ وجيش سعد على البحر، وما جرى على يد خالد في أيام أبى بكر، ونوحة الجن، وغيره، حديث رقم (521) .
قال محققا (دلائل النبوة لأبى نعيم) :
هذا الفصل يتحدث لنا عن الأمور الخارقة لقوانين الطبيعة التي حصلت لبعض أصحاب نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد وفاته، والخوارق على خمسة أنواع:
أ- فإن ظهرت لرسول قبل بعثته سميت إرهاصا، أي تأسيسا للرسالة.(5/289)
وقال سيف بن عمر عن الصعب بن عطية بن بلال، عن سهم بن منجاب، عن منجاب بن راشد، قال: بعث أبو بكر رضي اللَّه عنه العلاء بن الحضرميّ على قتال أهل الردة بالبحرين، فذكره إلى أن قال: وخرج مع العلاء سعد والرباب مثل عسكره، وسلك بنا الدّهناء حتى إذا كنا في بحبوحتها [والحنّانات والعزافات] [ (1) ] ، أرادا اللَّه عزّ وجل أن يرينا آية [ (2) ] ، نزل وأمر الناس بالنزول فنفرت الإبل في جوف الليل، فما بقي عندنا بعير ولا ناد ولا مزاد، ولا بناء إلا ذهب عليها في عرض الرمل، وذلك حين نزول الناس وقبل أن يحطوا، فما علمت جمعا هجم عليهم من الهم والغم ما هجم علينا، وأوصى بعضنا إلى بعض، ونادى منادى العلاء: اجتمعوا، فاجتمعنا إليه فقال: ما هذا الّذي قد ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقال الناس [وكيف] [ (1) ] نلام ونحن غدا لم تحم شمسه [ (3) ] حتى نصير حديثا؟
فقال: أيها الناس! لا تراعوا، ألستم [ (4) ] مسلمين؟ ألستم في سبيل اللَّه؟ ألستم أنصار اللَّه قالوا: [بلى] ، قال: فأبشروا، فو اللَّه لا يخذل اللَّه من كان [في] [ (1) ]
__________
[ () ] ب- وإن ظهرت لرسول بعد بعثته سميت معجزة.
ج- وإن ظهرت لمؤمن ظاهر الصلاح ولم يدّع النبوة سمّيت كرامة، وهذا ما يسمى ب «كرامات الأولياء» ، وإنما قلنا: «ظاهر الصلاح» لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، والأولياء يخطئون، لكنهم سرعان ما يهرعون إلى التوبة، والمذكور في هذا الفصل كله كرامات لأولئك الصفوة الأخيار من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإن كنا نؤمن بوجود الكرامة إلا أننا نلحّ في إثبات صحتها بالسند الصحيح، لأن الخرافة قد شاعت وانتشرت، فيجب تمييز الكرامة عنها بالنقل الصحيح.
ج- وإن ظهرت الخوارق لمن ظاهره الفسق كان استدراجا، حيث يملى اللَّه تعالى له، فيتمادى في غيّه، حتى إذا أخذه اللَّه كان أخذه له شديدا، [قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم 44- 45] .
هـ- وإن ظهرت الأمور الخارقة على يد رجل على نقيض ما يريد، كمن تفل في عين أرمد ليبرئها فاعوّرت العين، كانت إخزاء وتبكيتا.
وذكرها الذهبي في (تاريخ الإسلام) : 3/ 235- 236، في ترجمة العلاء بن الحضرميّ.
[ (1) ] زيادة للسياق من (تاريخ الطبري) .
[ (2) ] في (خ) : «إبانة» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (خ) : «شمسها» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (4) ] في (خ) : «السنا» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .(5/290)
مثل حالكم ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر، [فصلى] [ (1) ] بنا- ومنا المتيممون [ (2) ] ومنا من لم يزل على طهوره- فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس، فنصب في الدعاء [ (3) ] ، ونصبوا معه، فلمع [لهم] [ (1) ] سراب [مع] [ (4) ] الشمس، فالتفت إلى الصف فقال: رائد ينظر ما هذا؟ ففعل ثم رجع [فقال سراب] [ (5) ] ، فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه، فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد [ (6) ] من كل وجه، فأناخت إلينا، فقام رجل إلى ظهره [فأخذه] [ (7) ] ، فما فقدنا سلكا [ (8) ] فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النّهل، وتروينا ثم تروحنا.
وكان أبو هريرة رضي اللَّه عنه رفيقي، فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي:
كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد، قال: فكرّ معى حتى يقيمنى عليه، قال فكررت به، فأتيت [به] [ (7) ] على ذلك المكان [بعينه، فإذا هو لا غدير به، ولا أثر للماء، فقلت له] [ (9) ] : واللَّه لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعا قبل اليوم، وإذا إداوة مملوءة، فقال: يا أبا سهم! هذا واللَّه [ذلك] [ (10) ] المكان، ولهذا رجعت ورجعت بك، ملأت إداوتي ثم وضعتها على شفيره، فقلت: إن كان منا من المنّ وكانت آية عرفتها، وإن كان غياثا عرفته، فإذا من من المنّ فحمد اللَّه ثم سرنا حتى ننزل هجر، فذكر سيف الخبر إلى أن قال: وندب الناس إلى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (تاريخ الطبري) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «المتيمم» .
[ (3) ] نصب في الدعاء: إذا تعب فيه واجتهد، قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7] .
[ (4) ] زيادة في (خ) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (تاريخ الطبري) .
[ (6) ] الكرد: الطرد.
[ (7) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (8) ] السلك: جمع سلكة وهو الخيط الّذي يخاط به الثوب.
[ (9) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) ، واستدركناه من (المرجع السابق) .
[ (10) ] زيادة من (خ) .(5/291)
دارين.
ثم جمعهم فخطبهم وقال: إن اللَّه عزّ وجلّ قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرّد الحرب في هذا البحر، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوكم، ثم استعرضوا البحر اليهم، فإن اللَّه عز وجلّ قد جمعهم فقالوا: نفعل ولا نهاب واللَّه بعد الدّهناء هؤلاء ما بقينا، فارتحل وارتحلوا حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموه على الصاهل [ (1) ] والجامل [ (2) ] ، والشاحج [ (3) ] والناهق، والراكب والراجل، ودعا ودعوا، وكان دعاؤه ودعاؤهم:
يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم، يا أحد يا [صمد] [ (4) ] يا حىّ يا محيي الموتى، يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت يا ربّنا، [فأجازوا ذلك] [ (4) ] الخليج بإذن اللَّه جميعا، يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء [يغمر] [ (4) ] أخفاف الإبل، وإنما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن [ (5) ] البحر في بعض الحالات، فالتقوا بها فاقتتلوا [قتالا شديدا] [ (4) ] فما تركوا بها مخبرا [ (6) ] وسبوا الذراري واستاقوا الأموال، فبلغ نفل الفارس ستة آلاف، والراجل، ألفين قطعوا ليلهم [ (7) ] ، وساروا يومهم، فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا، وقال في ذلك [ (8) ] عفيف بن المنذر:
ألم تر أن اللَّه ذلّل بحرة ... وأنزل بالكفّار إحدى الجلائل
دعونا الّذي شقّ البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
قال: وكان مع المسلمين راهب في هجر فأسلّم يومئذ [ (9) ] ، فقيل [له] [ (10) ] :
__________
[ (1) ] الصاهل: الفرس، والصهيل صوته.
[ (2) ] الجامل: القطيع من الإبل.
[ (3) ] الشاحج: البغل، والشحيح صوته.
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (خ) : «بسقن» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (6) ] مخبرا، أي أحدا يخبر بما كان، يريد أنهم استأصلوهم.
[ (7) ] في (خ) : «إليهم» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (8) ] في (خ) : «إليهم» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (9) ] في (خ) : «أياسئذ» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (10) ] زيادة من (خ) .(5/292)
ما دعاك إلى الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء، خشيت أن يمسخنى اللَّه بعدها إن أنا لم أفعل: فيض في الرمال، وتمهيد أثياج البحار، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السّحر، قالوا وما هو؟ قال:
اللَّهمّ أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والحىّ الّذي لا يموت، خالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللَّهمّ كلّ شيء بغير تعليم، فعلمت أن القوم لم يغاثوا [ (1) ] بالملائكة إلا وهم على أمر اللَّه، فلقد كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمعون من ذلك الهجريّ بعد.
وكتب العلاء إلى أبى بكر رضى اللَّه عنه:
أما بعد، فإن اللَّه عز وجل فجّر لنا الدّهناء فيضا لا ترى غواربه، وأرانا آية وعبرة بعد غمّ وكرب، لنحمد اللَّه ونحمده، فادع اللَّه واستنصره لجنوده وأعوان دينه، فحمد [أبو بكر] [ (2) ] اللَّه ودعاه وقال: ما زالت العرب [فيما] [ (2) ] تحدث عن بلدانها، يقولون: إن لقمان حين سئل عن الدّهناء: أيحتفرونها أو يدعونها؟
نهاهم وقال: لا تبلغها الأرشية، ولم تقر العيون، وقال: إن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلنا، اللَّهمّ اخلف محمدا فينا [ (3) ] ، فلما عبر العلاء البحر إلى دارين [ (4) ] كتب إليه:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «لم يعانوا» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (تاريخ الطبري) : 3/ 301 وما بعدها، من أحداث سنة (11 هـ) ، ذكر خبر أهل البحرين، وردّة الحطم، ومن تجمع معه بالبحرين، وقال فيه بعد قول أبى بكر: اللَّهمّ اخلف محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم فينا: ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق، وقتل الحطم، قتله زيد ومعمر: أما بعد، فإن اللَّه تبارك اسمه سلب عدوّنا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه من النهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم، فوجدناهم سكارى، فقتلناهم إلا الشريد، وقد قتل اللَّه الحطم.
فكتب إليه أبو بكر: أما بعد، فإن بلغك عن بنى شيمان بن ثعلبة تمام على ما بلغك، وخاض فيه المرجفون، فابعث إليهم جندا فأوطئهم، وشرّد بهم من خلفهم، فلم يجتمعوا، ولم يصر ذلك من إرجافهم شيء. (المرجع السابق) 3/ 313، (الكامل في التاريخ) : 2/ 368- 372، ذكر ردّة، أهل البحرين.
[ (4) ] دارين: فرضة بالبحرين تجلب إليها المسك من الهند، والنسبة إليها: داريّ. قال الفرزدق.
كأن تريكة من ماء مزن ... ودارىّ الزكىّ من المدام
وفي كتاب سيف: أن المسلمين اقتحموا إلى دارين البحر مع العلاء بن الحضرميّ فأجازوا ذلك الخليج(5/293)
أما بعد، فإن اللَّه عزّ وجلّ حفظ محمدا فيمن لزم عهده، وقام على أمره، وكفاهم فقده، وأحسن عليهم الخلافة من بعده، فكنا فيمن حفظ منه، ومنا كمن كان معه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيمن قبلنا، وانتهينا إلى البحر فتوكلنا على اللَّه فركبناه، فمهّد لنا أثباجه، وأرانا آياته، فعبرنا إلى عدونا بدارين، فلم ندع مقاتلا إلا قتلناه، وسبينا الذراري والنساء، وقسمنا ذلك على المسلمين، فبلغ سهم الفارس ستة آلاف والراجل ألفين، سوى ما نفلت من الأخماس أهل البلاد، وبعث إليه بالخمس.
قال كاتبه: تأمل كتاب العلاء بن الحضرميّ إلى أبى بكر رضي اللَّه عنهما تجده قد عدّ عبورهم إلى البحر معجزة، وعلما من أعلام نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتصديقه ما وعده من إظهاره وإظهار شريعيه [ (1) ] .
وخرج من حديث أبى العباس السراج، حدثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد اللَّه قالا: حدثنا أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولانيّ رحمه اللَّه، جاء إلى الدجلة وهي ترمى الخشب من مدها، فمش على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعوا اللَّه؟ قال البيهقي: هذا إسناد صحيح [ (1) ] .
__________
[ () ] بإذن اللَّه جميعا يمشون على رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ... ثم قال ياقوت الحموي: وهذه صنفة أوال، أشهر مدن البحرين اليوم، ولعل اسمها أول ودارين، واللَّه أعلم، فتحت في أيام أبى بكر رضي اللَّه تعالى عنه سنة (12 هـ) . (معجم البلدان) : 2/ 492، موضع رقم (4658) ، وقال في هامشه: قال محمد بن عبد المنعم الحميري في كتاب (الروض المعطار) : 230: دارين: وبعضهم يقول دارون، قرية في بلاد فارس على شاطئ البحر، فيقال مسك دارين وطيب دارين، وليس بدارين، طيب. قال الأصمعي: سأل كسرى عن هذه القرية من بناها. فقالوا: دارين، أي عتيقة بالفارسية، وقيل: بل كسرى قال: دارين لما لم يدر أوليتها.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 54، وعنه نقلها ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 173. والعبارة السابقة على هذا الخبر من كلام المقريزي رحمه اللَّه، ولعله اقتبسها من كلام البيهقي، حيث قال في ذات الموضع:
قلت: كل هذا يرجع إلى إكرام اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإعزازه دينه الّذي بعث به رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وتصديقه ما وعده من إظهاره وإظهار شريعته.(5/294)
[حادي وتسعون: شهادة الميّت للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة]
وأما شهادة الميت للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة، فخرج البيهقيّ وغيره من حديث القعنبيّ، قال: حدثنا سليمان بن بلال عن يحى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن زيد بن خارجة الأنصاري، من بنى الحارث بن الخزرج، توفى زمن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه فسجى في ثوبه [ (1) ] ، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوى في أمر اللَّه في الكتاب الأول، صدق صدق عمر بن الخطاب القول الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجهم، مضت أربع وبقيت اثنتان، أتت الفتن، وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة وسيأتيكم من جيشكم خبر بئر أريس [ (2) ] ، وما بئر أريس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «بقوبه» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] بئر أريس: يفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وسين مهملة: بئر بالمدينة، ثم بقباء مقابل مسجدها، قال أحمد بن يحى بن جابر: نسبت إلى أريس رجل من المدينة من اليهود، عليها مال لعثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، وفيها سقط خاتم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من يد عثمان، في السنة السادسة من خلافته، واجتهد في استخراجه بكل ما وجد إليه سبيلا، فلم يوجد إلى هذه الغاية، فاستدلوا بعد به على حادث في الإسلام عظيم، وقالوا: إن عثمان لما مال عن سيرة من كان قبله، كان أول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من يده، وقد كان قبله في يد أبى بكر، ثم يد عمر، ثم في يد عثمان.
وقصة خاتم عثمان مذكورة في (صحيح مسلّم) كتاب اللباس والزينة، باب لبس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خاتما من ورق، من حديث ابن عمر، وسيأتي ذلك في موضعه مفصلا إن شاء اللَّه تعالى.
ولبئر أريس أيضا من الفضل أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يضع رجليه فيها، ويتوضأ منها، وعندها بشّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بالجنة، رضي اللَّه عنهم أجمعين، كما ورد ذلك في (صحيح البخاري) ، وسيأتي ذلك في موضعه مفصلا إن شاء اللَّه تعالى.
والأريس في لغة أهل الشام: الفلّاح، وهو الأكار، وجمعه أريسيون، وأرارسة وأرارس، في الأصل جمع أرّيس بتشديد الراء، وأظنها لغة عبرانية، وأحسب أن الرئيس مقدم القرية تعريبه، وفي كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى هرقل عظيم الروم: «وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» . (معجم البلدان) : 1/ 354، موضع رقم (1209) ، (المصباح المضيء) : 2/ 74
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 55، باب ما جاء في شهادة الميت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة والقائمين بعده بالخلافة، والرواية في ذلك صحيحه ثابتة، وفي ذلك دلالة ظاهرة من دلالات النبوة.(5/295)
قال يحى: قال سعيد: ثم هلك رجل من بنى خطمة فسجّى بثوبه، فسمع جلجله في صدره ثم تكلم فقال: إن أخا بنى الحارث بن الخزرج صدق صدق [ (1) ] .
قال البيهقي: وهذا صحيح وله شواهد، فذكر من طريق أبى بكر بن أبى الدنيا قال: حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن إسماعيل بن أبى خالد قال: جاءنا يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن [بكتاب أبيه] [ (2) ] النعمان بن بشير:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من النعمان بن بشير إلى أم عبد اللَّه بنت أبى هاشم، سلام عليك فإنّي أحمد إليك اللَّه الّذي لا إله إلا هو، فإنك كتبت إلى لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصحّ أهل المدينة، فتوفى بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره وغشّيناه بردين وكساء، فأتانى آت في مقامي وأنا أسبّح بعد العصر فقال:
إن زيدا تكلم بعد وفاته، فانصرفت إليه مسروعا وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول- أو يقال على لسانه-:
الأوسط أجلد القوم الّذي كان لا يبالي في اللَّه عز وجل لومة لائم، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، عبد اللَّه أمير المؤمنين صدق صدق، كان ذلك في الكتاب الأول، قال: ثم قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافى الناس من ذنوب كثيرة، خلت ليلتان وبقي [ (3) ] أربع، ثم اختلف الناس وأكل بعضهم بعضا فلا نظام، وأبيحت الأحماء ثم ارعوى المؤمنون وقالوا: كتاب اللَّه وقدرة الناس، أقبلوا على أميركم واسمعوا وأطيعوا، فمن تولى فلا يعهدنّ [ذما] [ (4) ] ، وكان أمر اللَّه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) . والخبر نقله ابن كثير عن البيهقي في (البداية والنهاية) : 6/ 173، قصة زيد ابن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته بالرسالة لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبالخلافة لأبى بكر الصديق، ثم لعمر، ثم لعثمان رضي اللَّه تعالى عنهم.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «وهي أربع» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .(5/296)
قدرا مقدورا، اللَّه أكبر، هذه الجنة وهذه النار، وهؤلاء النبيون والصديقون، سلام عليكم يا عبد اللَّه ابن رواحة، هل احتسبت [ (1) ] لي خارجة لأبيه؟ وسعدا للذين قتلا يوم أحد، كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى* وَجَمَعَ فَأَوْعى.
ثم خفض صوته فسألت الرهط عما سبقني من كلامه فقالوا: سمعناه يقول:
أنصتوا أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصوت من تحت الثياب، فكشفنا عن وجهه فقال: هذا أحمد رسول اللَّه، سلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، ثم قال: أبو بكر الصدّيق الأمين خليفة رسول اللَّه، كان ضعيفا في جسمه، قويا في أمر اللَّه، صدق صدق، وكان في الكتاب الأول [ (2) ] .
وذكر من حديث المعافى بن سليمان قال: حدثنا زهير بن معاوية قال:
أخبرنا [ (3) ] إسماعيل بن أبى خالد ... ، فذكره بإسناده ومعناه، وزاد في وسط الحديث: وكان ذلك على تمام سنتين خلتا من إمارة عثمان، وقال في آخره: فأما قوله: خلت ليلتان وبقي أربع، فالسنتان: اللتان خلتا من إمارة عثمان، قال: فلم أزل أحفظ العدة للأربع البواقي وأتوقع ما هو كائن فيهن، فكان فيهن انتزاء أهل العراق وخلافهم، وإرجاف المرجفين وطعنهم على أميرهم الوليد بن عقبة، والسلام ورحمة اللَّه [ (4) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وروى أيضا عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، وذكر فيه بئر أريس، كما ذكر في رواية ابن المسيب، قال: والأمر فيها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اتخذ خاتما وكان في يده، ثم كان في يد أبى بكر رضي اللَّه عنه من بعده، ثم كان في يد عمر رضي اللَّه عنه، ثم كان في يد عثمان رضي اللَّه عنه حتى وقع في بئر أريس بعد ما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغيرت
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «أحسست» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 56- 57.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «أنبأنا» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 57.(5/297)
عماله، وظهرت الفتن كما قيل على لسان زيد بن خارجة [ (1) ] .
قال البخاري في كتاب التاريخ: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري، شهد بدرا، توفى في زمن عثمان، هو الّذي تكلم بعد الموت [ (2) ] .
قال البيهقي: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة، فذكر من طريق ابن أبى الدنيا قال: حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا خالد الطحان، عن حصين عن عبد اللَّه بن عبيد الأنصاري، أن رجلا من قتلى مسيلمة تكلم فقال: محمد رسول اللَّه، أبو بكر الصديق، عثمان الأمين الرحيم، لا أدرى أيش قال لعمر [ (3) ] .
ومن حديث على بن عاصم قال: أخبرنا حصين [بن عبد الرحمن] [ (4) ] بن عبد اللَّه بن عبيد الأنصاري قال: بينما هم يصورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، تكلم رجل من الأنصار من القتلى فقال: محمد رسول اللَّه، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم، ثم سكت [ (5) ] .
قال البيهقي: خالد الطحان أحفظ من على بن عاصم وأوثق. واللَّه أعلم [ (5) ] .
قال كاتبه: وقد صنّف أبو بكر بن أبى الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 57.
[ (2) ] (المرجع السابق) ، (التاريخ الكبير) : 3/ 383، ترجمة رقم (1281) ، ونقله ابن كثير عن البيهقي في (البداية والنهاية) : 6/ 173.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 58.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 58، ونقله ابن كثير عن البيهقي في (البداية والنهاية) : 6/ 175.
وأما زيد بن خارجة: فهو زيد بن خاجة بن أبى زهير بن مالك بن امرئ القيس بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، شهد بدرا، وتوفى في زمن عثمان، وهو الّذي يقال أنه تكلم بعد الموت، وأبوه من شهداء أحد، وكان أبو بكر تزوج أخته، فولدت له أم كلثوم، وكذا ذكره في البدريين وأنه المتكلم بعد الموت: ابن سعد، وابن أبى حاتم، والترمذي، ويعقوب بن سفيان، والبغوي، والطبري، وأبو نعيم، وغيرهم. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 3/ 353- 354، ترجمة رقم (747) ، (الإصابة) 2/ 223، ترجمة والده خارجة بن زيد رقم (2138) ، 603 ترجمة رقم (2896) ، 3/ 53، ترجمة أخيه سعد بن خارجة رقم (3145) (أسماء الصحابة الرواة) :(5/298)
[ثانى وتسعون: شهادة الرضيع والأبكم برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما شهادة الرضيع والأبكم برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن يونس الكديمي [ (1) ] قال: حدثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليماني، وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها الحردة، قال: حدثني معرّض بن عبد اللَّه بن معرّض بن معيقيب اليماني، عن أبيه عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة، فرأيت فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجبا: جاءه رجل بغلام يوم ولد، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام! من أنا؟ قال: رسول اللَّه، قال: صدقت بارك اللَّه فيك، قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شبّ،
قال: قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة، قال شاصونة بن عبيد: وكنت قد أمرّ على معمر فلا أسمع منه [ (2) ] .
ومن حديث أبى الحسين محمد بن أحمد بن جميع الغساني [بثغر صيدا] [ (3) ] قال: حدثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، حدثنا أبى حدثنا جدي شاصونة بن عبيد قال: حدثني معرّض بن عبد اللَّه بن معيقيب عن أبيه عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة، فرأيت فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (441،) ] ترجمة رقم (767) ، (الثقات) : 3/ 140، (التاريخ الكبير) : 3/ 383، ترجمة رقم (1281) ، (الاستيعاب) : 2/ 547، ترجمة رقم (844) ، (مسند أحمد) : 1/ 327، حديث رقم (1716) ، (جمهرة أنساب العرب) 3640، (الكامل في التاريخ) : 3/ 199 ذكر خلافة عثمان، (تاريخ الإسلام) : 3/ 340- 341.
[ (1) ] محمد بن يونس الكديمي أحد المتروكين، كان يضع الحديث على الثقات وضعا، ولعله وضع أكثر من ألف حديث. وسئل عنه الدار قطنى فقال: يتهم بوضع الحديث، وأورد له في (الميزان) عددا من منكراته، وذكره ابن عراق في (الوضاعين) عن ابن عدي وابن حبان. (المجروحين) : 2/ 312- 313، (ميزان الاعتدال) : 4/ 74.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 59، باب شهادة الرضيع والأبكم لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة إن صحت فيه الرواية.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق، وفيه: «أنبأنا العباس» .(5/299)
وجهه كدارة القمر، فسمعت منه عجبا: أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفّه في خرقة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام! من أنا؟ فقال: أنت رسول اللَّه، فقال له: بارك اللَّه فيك، ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها [ (1) ] .
قال البيهقي: ورواه أبو الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقرئ القزويني، عن أبى الفضل العباس بن محبوب بن شاصونة، قال: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل بخلافه في وقت الكلام، فذكر من حديث إبراهيم بن عبد اللَّه العبسيّ قال: أخبرنا [ (2) ] وكيع بن الجراح عن الأعمش عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى بصبىّ قد شبّ لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟
قال: أنت رسول اللَّه [ (3) ] .
ومن حديث يونس بن بكير عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد تحرك، فقالت: يا رسول اللَّه! إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادنيه، فأدنته منه، فقال: من أنا؟ فقال: أنت رسول اللَّه [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 60، وعنه نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 175- 176 باب في كلام الأموات وعجائبهم، وقال: هذا الحديث مما تكلم الناس في محمد بن يونس الكديمي بسببه، وأنكروه عليه، واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما ينكر عقلا ولا شرعا، فقد ثبت في الصحيح في قصة جريج العابد أنه أستنطق ابن تلك البغي، فقال له: يا أبا يونس، ابن من أنت؟ قال: ابن الراعي، فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه ... على أنه قد روى هذا الحديث من غير طريق الكديمي، إلا أنه بإسناد غريب أيضا.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «أنبأنا» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 60- 61.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 61، (البداية والنهاية) : 6/ 176 نقلا عن المرجع السابق. والحديث مرسل، وشمر بن عطية الأسدي الكاهلي، الكوفي: وثقه النسائي وابن حبان، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير، وابن معين، والعجليّ. (تهذيب التهذيب) : 4/ 319، ترجمة رقم (625) .(5/300)
[ثالث وتسعون: وجود رائحة الطيب حيث سلك]
وأما وجود رائحة الطيب حيث سلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طريقا، وسجود ما يمرّ به من حجر أو شجر له، ومجّه أطيب من المسك في الدلو، فخرج البيهقي من حديث إسحاق بن الفضل الهاشمي قال: أخبرنى المغيرة بن عطية عن أبى الزبير عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه أو ريح عرقه- الشك من إسحاق- ولم يكن مرّ بحجر ولا شجر إلا سجد له [ (1) ] .
ومن حديث أبى أسامة عن مسعر، عن عبد الجبار بن وائل الحضرميّ عن أبيه قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يمضمض في دلو مجّ فيه مسكا أو أطيب من المسك، قال: أبو أسامة: يقول في ذلك الماء استنثر خارجا منه [ (2) ] . وقد تقدم شيء من ذلك.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 69، باب ما جاء في وجود رائحة الطيب من كل طريق سلكه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسجود الحجر والشجر الّذي يمر عليه ومجّه مسكا أو أطيب من المسك في الدلو الّذي كان يشرب منه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 69، وقال أبو نعيم بسنده: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كنا نعرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أقبل بطيب ريحه. (دلائل أبي نعيم) : 2/ 443، حديث رقم (362) ، ومن حديث إسحاق بن الفضل الهاشميّ، حدثنا المغيرة بن عطية، عن أبى الزبير، عن جابر قال: كان في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خصال، لم يكن في طريق فسلكه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرفه، أو ريح عرقه، وبالسند السابق ذكره الدارميّ في (السنن) : 1/ 32، باب في حسن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 398- 399، باب حبّب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من النساء والطيب، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 166.(5/301)
[رابع وتسعون: ابتلاع الأرض ما يخرج منه إذا ذهب لحاجته صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما ابتلاع الأرض ما يخرج منه إذا ذهب لحاجته،
فخرج الدار قطنى من حديث عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت يا رسول اللَّه، إني أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الّذي يدخل بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرا، فقال: يا عائشة! أما علمت أن اللَّه أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء؟ [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن أبان، حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن ابن محمد بن زاذان، عن أم سعد عن عائشة قالت: قلت: يا رسول اللَّه! تأنى الخلاء فلا نرى شيئا من الأذى؟ قال: يا عائشة! أما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء؟
وقال ابن السائب عن أبى صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لم يحدث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موضع قط إلا ابتلعته الأرض.
وخرج البيهقي من حديث الحسين بن علوان قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل الغائط دخلت في إثره فلا أرى شيئا إلا أنى كنت أشم رائحة الطيب، فذكرت ذلك له فقال: يا عائشة! أما علمت أن أجسادنا نبتت على أرواح أهل الجنة، وما خرج منها من شيء ابتلعته
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 443- 444، حديث رقم (364) تحت عنوان: بوله وغائطه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال السيوطي في (الخصائص الكبرى) 1/ 176: لهذا الحديث عدة طرق، هذه التي أخرجها أبو نعيم، وأخرى أخرجها البيهقي من طريق حسين بن علوان، وأخرى أخرجها الحاكم في (المستدرك) ، وطريق رابع أخرجه الدار قطنى في (الأفراد) ، قال: حدثنا محمد بن سليمان الباهلي، حدثنا محمد بن حسان الأموي، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، فذكر نحوه، ثم قال ابن ادحية في (الخصائص) بعد إيراده: هذا سند ثابت، محمد بن حسان بغدادي ثقة صالح، وعبدة من رجال الشيخين.(5/302)
الأرض؟ [ (1) ] .
قال البيهقي: فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغي ذكره، ففي الأحاديث الصحيحة والمشهورة في معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان [ (2) ] .
قال كاتبه: هو الحسين بن علوان أبو على الكوفي الكلبي، قال ابن معين: كذاب، وقال النّسائى متروك الحديث، وقال ابن عدي: وللحسين هذا أحاديث كثيرة، وعامتها موضوعة، وهو في عدد من يضع الحديث [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث شهاب بن معمر العوفيّ، حدثنا عبد الكريم الخزار، حدثنا أبو عبد اللَّه المديني، عن ليلى- حاجبة عائشة وخادمتها ومولاتها- قالت:
قلت: يا رسول اللَّه! إنك تدخل الخلاء، فإذا خرجت دخلت إثرك فما أرى شيئا إلا أنى أجد رائحة المسك، قال: إنا معشر الأنبياء بنيت أجسادنا على أرواح الجنة، فما خرج منا شيء إلا ابتلعته الأرض [ (4) ] .
وذكر ابن سبع في (كتاب الشفا) عن بعض الصحابة أنه قال: صحبته صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فلما أراد قضاء حاجته عاينته وقد وجد مكانا فقضى حاجته، فدخلت في الموضع الّذي خرج منه فلم أر له أثر غائط ولا بول، ورأيت في ذلك
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 70.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] هو الحسين بن علوان. من أهل الكوفة، كان يضع الحديث على هشام بن عروة وغيره من الثقات وضعا، لا تحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب، كذبه أحمد بن حنبل- رحمه اللَّه-
روى عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أكثر الحيض عشرة وأقله ثلاثة.
وروى عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أربع لا يشبعن من أربع: أرض من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وطالب علم من علم.
[ (4) ] وروى غير ذلك من الأحاديث التي أوردها الحافظ محمد بن حبان بن أحمد أبى حاتم في كتاب (المجروحين) ، ثم قال: وليس لهذه الأحاديث كلها أصول، لأنها كلها موضوعة إلا حديث السخاء، فإنه يعرف من حديث الأعرج عن أبى هريرة. (المجروحين) : 1/ 244- 246، وقال الذهبي:
قال يحى: كذاب، وقال عليّ: ضعيف جدا، وقال أبو حاتم، والنسائي، والدار قطنى: متروك الحديث.
(ميزان الاعتدال) : 1/ 542- 543، ترجمة رقم (2027) .(5/303)
الموضع ثلاثة أحجار، فأخذتهن في كفى فتعلقت رائحتهن رائحة طيب عطرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق رقم (1) ، من أحاديث هذا الباب.
وذكر ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : 1/ 187- 188، باب ابتلاع الأرض لحدثه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث عائشة رضي اللَّه عنها من طريقين ثم قال: هذا لا يصح.(5/304)
[خامس وتسعون: رؤيته صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلفه كما يرى من أمامه]
وأما أنه يرى من خلفه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما يرى من أمامه،
فخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز- وهو ابن صهيب- عن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتموا الصفوف فإنّي أراكم خلف ظهري. وقال البخاري: أقيموا الصفوف. ذكره في باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث زهير، عن حميد عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أقيموا صفوفكم، فإنّي أراكم من وراء ظهري،
وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. ترجم عليه باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف [ (2) ] قال: النعمان بن بشير رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه [ (3) ] .
وخرج في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف من حديث زائدة ابن قدامة، حدثنا حميد الطويل، حدثنا أنس بن مالك قال: أقيمت الصلاة
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 263، كتاب الأذان، باب (71) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، حديث رقم (718) ،
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «فإنّي أراكم» ،
فيه إشارة إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك لأني تحققت منكم خلافه. قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: بل حملها على ظاهرها أولى، لأن فيه زيادة في كرامة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 268، كتاب الأذان، باب (76) إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، حديث رقم (725) .
[ (3) ] قوله: «وقال النعمان بن بشير» هذا طرف من حديث
أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة من رواية أبى القاسم الجدلي، واسمه حسين بن الحارث، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثا، واللَّه لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن اللَّه بين قلوبكم،
قال: فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه.
واستدل بحديث النعمان هذا، على أن المراد بالكعب في آية الوضوء. العظم الناتئ في جانبي الرّجل- وهو عند ملتقى الساق والقدم- وهو الّذي يمكن أن يلزق بالذي جنبه، خلافا لمن ذهب إلى أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية، ولم يثبته محققوهم، وأثبته بعضهم في مسأله الحج لا الوضوء، وأنكر الأصمعي قول من زعم أن الكعب في ظهر القدم- (فتح الباري) : 2/ 269.(5/305)
فأقبل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصّوا فإنّي أراكم من وراء ظهري [ (1) ] .
ومن حديث إسماعيل عن حميد عن أنس قال: أقبل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بوجهه حين قام إلى الصلاة يريد أن يكبر، فقال مثله سواء [ (2) ] .
وخرج مسلّم من حديث أبى أمامة عن الوليد- يعنى ابن كثير- قال:
حدثني سعيد بن أبى سعيد المقبري، عن أبيه عن أبى هريرة رضي اللَّه عنه قال: صلى [رسول اللَّه] صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما ثم انصرف فقال: يا فلان! ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلى إذا صلى كيف يصلى؟ فإنما يصلى لنفسه، إني واللَّه لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث مالك بن أنس عن أبى الزناد عن الأعرج، عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: هل ترون قبلتي هاهنا؟
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 264، كتاب الأذان، باب (72) إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف، حديث رقم (719) .
[ (2) ] وفي هذا الحديث: جواز الكلام بين الإمامة والدخول في الصلاة، وفيه: مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة.
و (مسلم بشرح النووي) : 4/ 399، كتاب الصلاة، باب (28) نسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وتقديم أولى الفضل وتقريبهم من الإمام، حديث رقم (125) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 392، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، حديث رقم (108) ، قال العلماء: معناه أن اللَّه تعالى خلق له صلّى اللَّه عليه وسلّم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلّى اللَّه عليه وسلّم، بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأراكم من بعدي،
أي من ورائي كما في الروايات الباقية. قال القاضي عياض: وحمله بعضهم على بعد الوفاة، وهو بعيد عن سياق الحديث.
[ (4) ] (فتح الباري) : 2/ 286، كتاب الأذان، باب (88) الخشوع في الصلاة، حديث رقم (741) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 392، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة، حديث رقم (109) .(5/306)
فو اللَّه ما يخفي عليّ ركوعكم ولا خشوعكم-
ولم يذكر السجود-.
وأخرجا معا من حديث شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أقيموا الركوع والسجود، فو اللَّه إني أراكم من بعدي- وربما قال: من بعد ظهري- إذا ركعتم أو سجدتم. ذكره البخاري في باب الخشوع في الصلاة [ (1) ] .
وخرج مسلم بعد حديث شعبة، من حديث معاذ- يعنى ابن هشام- ومن حديث ابن أبى عدي عن سعيد، كلاهما عن قتادة عن أنس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتموا الركوع والسجود، فو اللَّه إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم. وفي حديث سعيد: إذا ركعتم أو سجدتم [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أتموا الركوع والسجود، فو الّذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم. ذكره في كتاب الأيمان [والنذور] في آخر باب كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
وخرج في باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، من حديث فليح بن سليمان، عن هلال بن على عن أنس بن مالك قال: صلى لنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة ثم رقى المنبر فقال: في الصلاة وفي الركوع، إني أراكم من ورائي كما أراكم.
وقال سيف بن عمرو، عن عمرو بن محمد عن الشعبي، عن مسروق قال:
سألت عائشة عن [إطباق عبد اللَّه بن مسعود] بيديه بين ركبتيه إذا ركع، فقال:
إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، زيادة من اللَّه عزّ وجل، زادها إياه في حجته، فرأى أناسا يصنعون كما يصنع البرهان فحولهم من ذلك إلى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 286- 287، كتاب الأذان، باب (88) الخشوع في الصلاة، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة وإتمام الخشوع فيها، حديث رقم (110) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (111) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 644، كتاب الأيمان والنذور، باب (10) كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟
حديث رقم (6644) .(5/307)
ما عليه الناس اليوم من إطباق الركب بالأكفّ، وتفريج الأصابع.
قال الشافعيّ- رحمة اللَّه عليه-:
في رواية حرملة قوله: إني لأراكم من وراء ظهري،
كرامة من اللَّه أبانه بها من خلفه. وقال الأثرم: قلت لأبى عبد اللَّه- يعنى أحمد بن حنبل رحمه اللَّه-:
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لأراكم من وراء ظهري
فقال:
كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، قلت له: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه، فأنكر ذلك إنكارا شديدا.
وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر هذا كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا سبيل إلى كيفية ذلك، وهو علم من أعلام نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم وخرج من طريق قاسم بن أصبغ عن سفيان عن داود وحميد وابن أبى نجيح، عن مجاهد، [في] قوله عزّ وجل: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [ (1) ] قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى من خلفه في الصلاة كما يرى من بين يديه.
وخرج البيهقي من حديث فضيل عن عبد الملك بن أبى سليمان، عن قيس عن مجاهد، في قوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
[ (1) ] ، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من بين يديه [ (2) ] وقال الحبر أبو زكريا النووي- رحمه اللَّه-: قال العلماء: معناه أن اللَّه تعالى خلق له صلّى اللَّه عليه وسلّم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلّى اللَّه عليه وسلّم بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به [ (3) ] .
__________
[ (1) ] سورة الشعراء الآية: 219.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 74. وقال مجاهد: المراد تقلب بصره في من يصلي خلفه. (البحر المحيط) :
8/ 198،
وقال مجاهد أيضا: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى من خلفه كما يرى من أمامه. ويشهد لذلك ما صح في الحديث: «سوّوا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري» (تفسير ابن كثير) : 3/ 365.
[ (3) ] (شرح الإمام النووي على صحيح مسلم) : 4/ 392- 393، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، شرح الحديث رقم (108) ، (109) ، (110) ، (111) .(5/308)
قال القاضي- يعنى أبا الفضل عياض [بن موسى اليحصبى] قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤية بالعين حقيقة [ (1) ] ، فخرج الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث زهير بن عباد قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة، عن المعلى بن علاء، عن هشام بن عروة عن عبد اللَّه عن عائشة رضي اللَّه عنها.
قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء [ (2) ] . وأورده البيهقي من طريق ابن عدي ثم قال: وهذا إسناد فيه ضعف [ (3) ] .
قال كاتبه: محمد بن المغيرة أبو الحسن، قال ابن عدي: وسائر أحاديثه مما لا يتابع عليه، ومع ضعفه يكتب حديثه.
قال البيهقي: وروى في ذلك من وجه آخر ليس بالقوى، فذكر من حديث مغيرة بن مسلم عن عطاء، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى بالليل في الظلمة كما يرى في النهار في الضوء [ (4) ] .
وخرج الحافظ أبو بكر بن ثابت البغدادي، من حديث زهير بن عباد الروائى، عن عبد اللَّه بن المغيرة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه
__________
[ (1) ] انظر التعليق السابق والمرجع السابق.
[ (2) ] (كنز العمال) : 7/ 160، حديث رقم (18519) ، وعزاه إلى البيهقي في (دلائل النبوة) عن ابن عباس، وابن عدي عن عائشة.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 74- 75.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 75، قال ابن عدي في (الكامل) : 4/ 217- 218، في ترجمة عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة رقم (28/ 1025) : وهذا الحديث عن هشام بن عروة، يرويه ابن المغيرة، وعنه زهير بن عباد، وقال عنه ابن حجر في (لسان الميزان) : 3/ 410: هو عمّ علان بن المغيرة.
وقال أبو حاتم: ليس بقوى، وقال ابن يونس: منكر الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، ثم أورد في أحاديثه: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء» . ترجمة عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة الكوفي رقم (391/ 4742) من المرجع السابق.
وأورده ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : 1/ 173- 174، باب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبصر في الظلمة، حديث رقم (266) ثم قال: هذا حديث لا يصح، قال العقيلي: عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة يحدث بما لا أصل له، وعباس بن الوليد كان المديني يتكلم فيه. ثم قال محقق (العلل المتناهية) : وثقه الدار قطنى، وابن قانع، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين:
صدوق كما في (التهذيب) ، وتليين ابن المديني مبهم فلا يعتبر به.(5/309)
عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء. رواه عن زهير عن حسين بن صالح بن أبى الدواهي، وعنه محمد بن عبد اللَّه بن سليمان الحضرميّ وقال: لم أكتب عنه غير هذا الحديث. مات سنة إحدى ومائتين. أهـ
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن عن القسم بن عبد اللَّه، عن حسين بن عبد اللَّه عن أبيه عن جده، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خطب أم سلمة فقال: كيف يا رسول اللَّه ورجالي بمكة؟ قال: يزوجك ابنك ويشهد لك رجال من أصحاب رسول [اللَّه] ، ثم دخل عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الظلمة، فوطئ على ابنتها زينب فصاحت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذا؟ قالوا: زينب، ثم دخل عليها في ليلة أخرى في ظلمة فقال: انظروا، زنى بكم بهذه، لا أضاء عليها؟؟
قال السهيليّ:
وفي هذا الحديث توهين لرواية من روى أنه كان يرى بالليل كما يرى بالنهار.(5/310)
[سادس وتسعون: إضاءة طرف سوط الطفيل بن عمرو الدوسيّ]
وأما إضاءة طرف سوط الطفيل بن عمرو الدوسيّ،
فخرج ابن الكلبي في نسب دوس بن عدنان بن عبد اللَّه بن زهران بن كعب بن الحرث بن كعب بن عبد اللَّه ابن مالك بن نضر بن الأزد: وطفيل بن ذي النون واسمه عمرو بن طريف بن العاص ابن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس.
وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن دوسا قد غلب عليها الزنا، فادع اللَّه عليهم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اهد دوسا، فقال: يا رسول اللَّه، ابعثني إليهم، ففعل، فقال: اجعل لي آية يهدون بها، فقال: اللَّهمّ نور له، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب! أخاف أن يقولوا مثله، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة الظلماء،
فقال: يا رسول اللَّه! اجعلنا يمنتك واجعل شعارنا مبرور، ففعل، فشعار الأزد اليوم كلها مبرور، ثم قتل يوم اليمامة، وقتل ابنه عمرو بن الطفيل يوم اليرموك. [ (1) ]
وقد خرج أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث في ترجمة الطفيل من طريق هشام ابن الكلبي [ (2) ] كما أوردته، على ما نقلته في كتاب (الجامع) ، ثم قال أبو عمر:
للطفيل بن عمرو الدوسيّ في معنى ما ذكر ابن الكلبي خبر عجيب، ذكره الأموي في مغازيه عن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس عن الطفيل بن عمرو.
وذكره ابن إسحاق عن عثمان بن الحويرث، عن صالح بن كيسان، عن
__________
[ (1) ] لم أجد هذه السياقة في (جمهرة النسب) للكلبي. برواية السكرى عن ابن حبيب، (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم: 382، باب: وهؤلاء بنو سليم بن فهم بن غنم بن دوس، (التعريف بالأنساب) :
176.
[ (2) ] لعله برواية أخرى غير رواية السّكّرى عن ابن حبيب.(5/311)
ابن عمرو، قال: كنت رجلا شاعرا سيدا في قومي، قال: فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات قريش فقالوا: يا طفيل، إنك امرؤ شاعر مطاع في قومك، وإنا قد خشينا أن يراك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه، فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك كما دخل علينا وعلى قومنا، فإنه يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فو اللَّه ما زالوا يحدثون في شأنه وينهوني أن أسمع منه شيئا حتى قلت: واللَّه لا أدخل المسجد إلا وأنا سادّ أذنى، قال: فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسفا [ (1) ] ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائما في المسجد.
قال: فقمت منه قريبا، وأبى اللَّه أن لا يسمعني، فقال: فقلت في نفسي: واللَّه إن هذا لمعجزة، واللَّه إني امرؤ [ثبتت] [ (2) ] عليّ الأمور، وما يخفى حسنها ولا قبيحها، واللَّه لأسمعن منه، فإن كان أمره رشدا أخذت منه، وإن كان غير ذلك اجتنبته.
قال: فقلت بالكرسفة [ (3) ] فنزعتها من أذنى فألقيتها ثم استمعت له، فلم أسمع كلاما قط أحسن من كلام يتكلم به، قال: فقلت في نفسي: - يا سبحان اللَّه! ما سمعت كاليوم لفظا أحسن منه ولا أجمل، قال: ثم انتظرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انصرف، فاتبعته فدخلت معه بيته فقلت له: يا محمد! إن قومك جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا- فأخبرته بالذي قالوا- وقد أبى اللَّه إلا أن يسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، فأعرض عليّ دينك وما تقول. وما تأمر به، وما تنهى عنه.
قال: فعرض عليّ الإسلام فأسلمت ثم قلت: [يا رسول اللَّه] [ (3) ] ، إني راجع إلى دوس وأنا فيهم مطاع. وأنا داعهم إلى الإسلام، لعل اللَّه أن يهديهم، فادع اللَّه أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللَّهمّ اجعل
__________
[ (1) ] الكرسف: القطن ونحوه.
[ (2) ] كذا في (خ) ، في (الاستيعاب) : «واللَّه إني امرؤ ثبت، ما يخفى عليّ من الأمور حسنها ولا قبيحها» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) .(5/312)
له آية تعينه على ما ينوى من الخير.
قال: فخرجت حتى أشرفت [على ثنية أهلي] [ (1) ] ، التي تهبط بى على حاضرة دوس، قال: وأبى هناك شيخ كبير وامرأتي وولدى، قال: فلما علوت الثنية، وضع اللَّه بين [عيني] [ (1) ] نورا [كالشهاب] [ (2) ] يتراءاه [ (3) ] الحاضر في ظلمة الليل وأنا منهبط [من الثنية] [ (1) ] ، فقلت: اللَّهمّ في غير وجهي، فإنّي أخشى أن يظنوا أنها مثلة لفراق دينهم، فتحول فوقع في رأس سوطي، فلقد رأيتني أسير على بعيري إليهم، وإنه على رأس سوطي كأنه قنديل معلق فيه حتى قدمت عليهم، قال: فأتانى أبى فقلت: إليك عنى فلست منك ولست منى.
قال: وما ذاك أي بنىّ؟ قلت أسلمت واتبعت دين محمد، قال: أي بنى، فإن ديني دينك، قال: فحسن إسلامه، ثم أتتني صاحبتي فقلت: إليك عنى، فلست منك ولست منى، قالت: وما ذاك؟ بأبي أنت وأمى، فقلت: أسلمت واتبعت دين محمد، فلست تحلين لي ولا أحل لك، قالت: فديني دينك، قال:
فقلت اعهدى إلى هذه المياه فاغتسلي منها وتطهرى وتعالى، ففعلت ثم جاءت فأسلمت وحسن إسلامها، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام، فأبت عليّ وتعاصت.
قال: ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة، فقلت: يا رسول اللَّه، غلب على دوس الزنا والربا، فادع اللَّه عليهم فقال: اللَّهمّ اهد دوسا.
قال: ثم رجعت إليهم، وهاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة فأقمت [بين ظهرانيهم] [ (1) ] أدعوهم إلى الإسلام حتى استجاب لي منهم من استجاب، وسبقتني بدر، وأحد، والخندق، مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثمانين أو تسعين أهل بيت من دوس إلى المدينة، فكنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى فتح [اللَّه] [ (1) ] مكة،
فقلت: يا رسول اللَّه! ابعثني إلى [ذي الكفين] [ (1) ] صنم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) .
[ (2) ] زيادة في (خ) .
[ (3) ] سياق العبارة مضطرب في هذا الموضع وصوبناه من (المرجع السابق) .(5/313)
عمرو بن حممة حتى أحرقه، قال: أجل، فاخرج إليه فحرّقه،
قال: فخرجت حتى قدمت عليه فجعلت أوقد عليه النار- واسمه ذو الكفين- قال: وأنا أقول: [ (1) ] .
يا ذا الكفين لست من [عبادكا] ... ميلادنا أكبر من [ميلادكا] [ (2) ]
إني حشوت النار في [فؤادكا] [ (2) ]
ثم [قدمت على] رسول اللَّه فأقمت معه حتى قبض.
قال: فلما بعث أبو بكر رضي اللَّه عنه بعثه إلى مسيلمة الكذاب، خرجت مع المسلمين ومعى ابني عمرو بن الطفيل، حتى إذا كنا ببعض الطريق رأيت رؤيا، فقلت لأصحابنا: إني قد رأيت رؤيا، عبّروها، قالوا: وما رأيت؟ قلت: رأيت رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأن امرأة لقيتني وأدخلتنى في فرجها، وكأن ابني يطلبني طلبا حثيثا فحيل بيني وبينه، قالوا: خيرا أما واللَّه فقد أولتها:
أما حلق رأسي [فقطعه] [ (3) ] وأما الطائر فروحى، وأما المرأة التي أدخلتنى في فرجها فالأرض تحفر لي وأدفن فيها، فقد رجوت أن أقتل شهيدا [وأما طلب ابني إياي فلا أراه إلا سيغدو في طلب الشهادة، ولا أراه يلحق بى في سفرنا هذا، فقتل الطفيل شهيدا يوم اليمامة، وجرح ابنه، ثم قتل باليرموك بعد ذلك في زمن عمر بن الخطاب شهيدا] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «أقول، وهو يشتعل بالنار» وما أثبتناه رواية ابن عبد البرّ في (الاستيعاب) .
[ (2) ] نصويبات من (الاستيعاب) .
[ (3) ] في (خ) : «فقتلى» ، وما أثبتناه من (الاستيعاب) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، واستدركناه من (المرجع السابق) ، (الاستيعاب) : ترجمة الطفيل بن عمرو الدوسيّ رقم (4258) ، وقال في نسبه: الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس الدوسيّ. وقيل: هو ابن عبد عمرو بن عبد اللَّه بن مالك بن عمرو بن فهم لقبه: ذو النور (طبقات ابن سعد) : 4/ 237- 240، باب الطفيل بن عمرو، وفيه «أنا حششت النار (سيرة ابن هشام) : 2/ 226- 229، باب إسلام الطفيل بن عمرو الدوسيّ، من رواية ابن إسحاق، (دلائل البيهقي) : 5/ 359- 363، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو رضي اللَّه عنه وما ظهر بين عينيه من النور، ثم رأس سوطه، وما كان في رؤياه وفي دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من براهين الشريعة، (فتح الباري) : 8/ 127، باب (76) قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسيّ، حديث رقم (6392)(5/314)
وقد روى هذا الحديث من طريق أبى نعيم [ (1) ] ، إلا أن هذه السياقة أتمّ وأكثر فائدة، واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 238، الفصل الخامس عشر: ذكر أخذ القرآن ورؤية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقلوب، حتى دخل كثير من العقلاء في الإسلام في أول ملاقاة، حديث رقم (191) .(5/315)
[سابع وتسعون: إضاءة عصا أسيد بن حضير [ (1) ] وعباد بن بشر [ (2) ]]
وأما إضاءة عصا أسيد بن حضير وعباد بن بشر لما خرجا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي.
اختلف في كنيته، فقيل فيها خمسة أقوال: أبو عيسى، وأبو يحيى، وأبو عتيك، وأبو الحضير، وأبو الحصين. قال ابن عبد البر: وأخشى أن يكون تصحيفا، والأشهر أبو يحيى، وهو قول ابن إسحاق وغيره.
أسلم قبل سعد بن معاذ على يدي مصعب بن عمير، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وهو من النقباء ليلة العقبة، وكان بين العقبة الأولى والثانية سنة، ولم يشهد بدرا. كذلك قال ابن إسحاق.
وغيره يقول: إنه شهد بدرا، وشهد أحدا، وما بعدهما من المشاهد، وجرح يوم أحد سبع جراحات، وثبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين انكشف الناس.
وكان أسيد بن حضير أحد العقلاء الكلمة من أهل الرأي، وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن، وحديثه في استماع الملائكة قراءته حين نفرت فرسه حديث صحيح، جاء عن طرق صحاح من نقل أهل الحجاز والعراق.
وذكر البخاري عن عبد العزيز الأويس، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: ثلاثة من الأنصار لم يعتد أحد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.
توفى أسيد بن حضير في شعبان سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وحمله عمر بن الخطاب بين العمودين من عبد الأشهل، حتى وضعه بالبقيع، وصلى عليه. وأوصى إلى عمر بن الخطاب، فنظر عمر في وصيته فوجد عليه أربعة آلاف دينار، فباع نخله أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دينه. وقيل: إنه حمل نعشه بنفسه بين الأربعة أعمدة وصلى عليه.. له ترجمة في:
(الاستيعاب) : 1/ 92، باب أسيد، ترجمة رقم (54) ، (الإصابة) : 1/ 83، ذكر من اسمه أسيد بالضم، ترجمة رقم (185) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 135، (تاريخ الإسلام) :
2/ 33، (تهذيب التهذيب) : 1/ 347، (خلاص تذهيب الكمال) : 38، (كنز العمال) :
13/ 277- 280، (شذرات الذهب) : 1/ 31، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 340- 343، ترجمة رقم (74) .
[ (2) ] هو عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي، يكنى أبا بشر، ويكنى أبا الربيع.
قال أبو عمر: لا يختلفون أنه أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير، وذلك قبل إسلام سعد ابن معاذ، وأسيد بن حضير، وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهوديّ، وكان من فضلاء الصحابة.(5/316)
في ليلة مظلمة حتى مشيا في ضوئهما كرامة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البخاري في كتاب الصلاة [ (1) ] ، وفي كتاب المناقب [ (2) ] من حديث معاذ [ (3) ] قال: حدثني أبي عن قتادة، حدثنا أنس رضي اللَّه عنه أن رجلين من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرجا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد، حتى أتى أهله.
وخرج أيضا في مناقب أسيد بن حضير من حديث حبان قال: حدثنا همام قال: أخبرنا قتادة عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما [ (4) ] .
وقال معمر: عن ثابت عن أنس، أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار، وقال حماد: أخبرنا ثابت عن أنس، كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
__________
[ () ] روى أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن عصاه كانت تضيء له إذا كان يخرج من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيته ليلا، وعرض له ذلك مرة مع أسيد بن حضير، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه.
عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتدّ عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل:
سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. هكذا ذكر البخاري.
قال ابن إسحاق: شهد بدرا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عباد بن بشر، وقتل يوم اليمامة شهيدا، وكان له يومئذ بلاء وعناء، فاستشهد يومئذ وهو ابن خمس وأربعين سنة. له ترجمة في: (الاستيعاب) :
2/ 801- 804، باب العين بعدها الباء، ذكر من اسمه عبّاد بفتح أوله والتشديد، ترجمة رقم (4458) ، (تاريخ الإسلام) : 1/ 370، (طبقات ابن سعد) : 3/ 16، (التاريخ الصغير) :
36، (الجرح والتعديل) : 6/ 77.
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 734، كتاب الصلاة، باب (79) [فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة] ، حديث رقم (465) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 784، كتاب المناقب، باب (28) (بدون ترجمة) ، حديث رقم (3639) .
[ (3) ] هو معاذ بن هشام.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 157- 158، كتاب مناقب الأنصار، باب (13) منقبة أسيد بن حضير، وعباد بن بشر رضي اللَّه عنهما، حديث رقم (3805) ، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وفي الصحابة عباد بن بشر بن قيظي، وعباد بن بشر بن نهيك، وعباد بن بشر بن وقش، وصاحب هذه القصة هو هذا الثالث، ووهم من زعم خلاف ذلك. (فتح الباري) : 7/ 158، (دلائل(5/317)
[ثامن وتسعون: إضاءة العصا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه]
وأما إضاءة العصا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه، فخرج أبو نعيم من حديث شبابة عن [نضر بن طريف] ، عن ثابت عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمر رضي اللَّه عنه سهرا عند أبي بكر رضي اللَّه عنه يتحدثان عنده حتى ذهب ثلث الليل ثم خرجا، وخرج أبو بكر معهما في ليلة مظلمة ومع أحدهما عصا، فجعلت تضيء لهما وعليها نور حتى بلغوا المنزل [ (1) ] .
__________
[ () ] أبي نعيم) : 2/ 561، باب ذكر إضاءة العصا وغيرها، حديث رقم (503) ، (مسند أحمد) :
3/ 598، حديث رقم (11996) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 77، باب ما جاء في إضاءة عصا الرجلين من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى خرجا من عنده في في ليلة مظلمة، حتى مشيا في ضوئها كرامة لنبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما روى في إضاءة عصا أبي عبس، ثم ما جاء في إضاءة أصابع حمزة بن عمرو الأسلمي حتى جمعوا ظهورهم.
[ (1) ] لم أجده عند أبي نعيم أو غيره، وأحاديث الباب الصحيحة تشهد لصحته، واللَّه تعالى أعلم.(5/318)
[تاسع وتسعون: إضاءة عصا أبي عبس الأنصاري]
وأما إضاءة عصا أبي عبس الأنصاري، فخرج أبو نعيم والبيهقي والحاكم، كلهم من حديث زيد بن الحباب قال: حدثني عبد المجيد بن أبي عبس [بن جبر] [ (1) ] الأنصاري قال: أخبرني ميمون بن زيد بن أبي عبس قال: أخبرني أبي أن أبا عبس كان يصلي مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلوات ثم يرجع إلى بني حارثة، فخرج في ليلة [مظلمة مطرية] [ (1) ] فنورت له عصاه حتى دخل دار بني حارثة [ (2) ] .
قال كاتبه: أبو عبس هذا هو ابن جبر اسمه عبد الرحمن بن جبر، ويقال:
ابن جابر بن عمرو بن زيد بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الحارثي، شهد بدرا وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وشهد المشاهد كلها، وهو معدود من كبار الصحابة من الأنصار، مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن سبعين سنة بالمدينة، وصلى عليه عثمان رضي اللَّه عنه، روى عنه غيابة بن رافع بن خديج، وكان أبو عبس يكتب بالعربية قبل الإسلام، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 562، باب ذكر إضاءة العصا وغيرها، حديث رقم (504) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 78، وقال فيه: «فنور له في عصاه» ، (المستدرك) : 3/ 394، باب ذكر مناقب عبد اللَّه أبي عبس بن جبر الأنصاري الخزرجي، رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (5495/ 1093) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : مرسل.
[ (3) ] له ترجمة في: (الاستيعاب) : 2/ 827، ترجمة رقم (1396) ، (الإصابة) : 4/ 295، ترجمة رقم (5099) ، 7/ 310، ترجمة رقم (10364) .(5/319)
[تمام المائة: إضاءة العرجون الّذي أعطاه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم لقتادة]
وأما إضاءة العرجون الّذي أعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقتادة بن النعمان الأنصاري،
فخرج أبو نعيم من حديث فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: كانت ليلة مطيرة، فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لصلاة العشاء برقت برقة، فرأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتادة ابن النعمان، فقال: يا قتادة، إذا صليت فاثبت حتى آمرك، فلما انصرف [من صلاته] [ (1) ] أعطاه العرجون فقال: خذ هذا يضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا. [ (2) ] [فأضاء له] [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد من حديث يونس وسريج قالا: حدثنا فليح عن سعيد [ابن الحارث] [ (3) ] عن أبي سلمة قال: كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو في صلاة يسأل اللَّه خيرا إلا أتاه إياه،
قال: وقللها أبو هريرة بيده.
قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: واللَّه لو جئت أبا سعيد فسألته عن هذه الساعة أن يكون عنده منها علم، فأتيته فأجده [ (4) ] ، [يقوّم عراجين] [ (5) ] فقلت:
يا أبا سعيد! ما هذه العراجين التي أراك تقوّم؟ قال: هذه عراجين جعل اللَّه لنا فيها بركة، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحبها ويتخصّر بها، فكنا نقومها ونأتيه بها، فرأى بصاقا في قبلة المسجد وفي يده عرجون من تلك العراجين، فحكه
وقال: إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصقن أمامه فإن ربه أمامه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، قال: ثم قال سريج: فإن لم يجد مبصقا ففي ثوبه أو نعله، [قال:] [ (6) ] ثم هاجت
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 562، حديث رقم (505) .
[ (3) ] زيادة في النسب من (المسند) .
[ (4) ] في (خ) : «فوجدته» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (6) ] زيادة للسياق من (المسند) .(5/320)
السماء من تلك الليلة، فلما خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان فقال: ما السّرى يا قتادة [ (1) ] ؟ قال: علمت يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها، قال: فإذا صليت يا رسول اللَّه فاثبت حتى أمرّ بك، فلما انصرف أعطاني العرجون، قال: خذ هذا فسيضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا، فإذا دخلت البيت وتراءيت [ (2) ] سوادا في زاوية البيت فاضربه قبل أن تتكلم [ (3) ] فإنه شيطان [ (4) ] ، قال: ففعل، فنحن نحب هذه العراجين لذلك.
قلت: يا أبا سعيد، إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة، فهل عندك منها علم؟ فقال: سألت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها فقال: إني كنت أعلمها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر. أ. هـ، وحديث أبي هريرة في الساعة التي في الجمعة وقع في الصحيح، وحديث أبي سعيد في البصاق وقع فيه أيضا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «يا أبا قتادة» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (2) ] في (خ) : «ورأيت» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المسند) : «يتكلم» .
[ (4) ] في (خ) : «الشيطان» وصوبناه من (المسند) .
[ (5) ] (مسند أحمد) : 3/ 474، حديث رقم (11230) ، وزاد في آخره: قال: ثم خرجت من عنده فدخلت على عبد اللَّه بن سلام.(5/321)
[الأول بعد المائة: البرقة التي أضاءت للحسنين رضي اللَّه عنهما]
وأما البرقة التي أضاءت للحسنين حتى مشيا لأمهما كرامة لجدهما صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج أبو نعيم من حديث موسى بن عثمان عن الأعمش [ (1) ] ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان الحسن عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة ظلماء، وكان يحبه حبا شديدا، فقال: أذهب إلى أمي، فقلت: أذهب معه يا رسول اللَّه؟ قال:
لا، فجاءت برقة من السماء فمشى في ضوئها حتى بلغ أمه [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث كامل بن العلاء، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: بينما نحن نصلي مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العشاء، فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين [رضي اللَّه عنهما] [ (3) ] على ظهره، فإذا أراد أن يرفع أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا، فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته فانصرف ووضعهما على فخذيه، قال أبو هريرة: فقمت إليه فقلت: يا رسول اللَّه! أذهب بهما إلى أمهما؟
قال: لا، فبرقت برقة فقال: الحقا بأمكما [فما زالا يمشيان في] [ (4) ] ضوئها حتى دخلا [ (5) ] . وخرجه الحاكم من حديث كامل بن العلاء وقال: هذا حديث حسن صحيح الإسناد.
__________
[ (1) ] سنده في أبي نعيم: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا موسى بن عثمان عن الأعمش عن أبي هريرة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 562- 563، حديث رقم (506) ، وفيه: «أذهب معه يا رسول اللَّه؟
قال: فجاءت برقة..» . قال السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 324: انفرد به أبو نعيم.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقة مضطرب، وصوبناه من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 76، باب ما جاء في البرقة التي برقت لابني ابنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرجا من عنده حتى مشيا في ضوئها كرامة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم. (مسند أحمد) : 3/ 315، حديث رقم (10281) باختلاف يسير، حديث رقم (10282) وفيه: «حتى دخلا على أمهما» .(5/322)
[الثاني بعد المائة: إضاءة أصابع حمزة بن عمرو الأسلمي]
وأما إضاءة أصابع حمزة بن عمرو الأسلمي، وهو بطريق مكة حتى جمع ما سقط من متاع رحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما تفرق من إبل أصحابه في الليلة التي مكر المنافقون برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البيهقي من حديث سفيان بن حمزة عن كثير ابن زيد، عن محمد بن حمزة الأسلمي، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر فتفرقنا في ليلة ظلماء دحمسة [ (1) ] ، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي [ (2) ] لتنير [ (3) ] .
وفي رواية قال: نفرت دوابنا في سفر ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة ظلماء دحمسة، فأضاءت إصبعي حتى جمعوا عليها ظهورهم، وإن إصبعي لتنير [ (3) ] وخرجه أبو نعيم أيضا [ (4) ] .
وقال الواقدي في مغازيه- وقد ذكر غزوة تبوك وعود النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قافلا منها-:
قالوا: لما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين، وأتمروا أن يطرحوه في عقبة في الطريق، فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه.
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسري بالعقبة، إذ سمع حسّ القوم قد غشّوه، فغضب وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع حذيفة إليهم- وقد رأوا غضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، وظن القوم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فساق به.
__________
[ (1) ] دحمسة: شديدة الظلام.
[ (2) ] في (خ) : «أصابعهم» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 79.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 563، حديث رقم (507) ، وأخرجه البخاري في التاريخ.(5/323)
فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العقبة نزل الناس فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حذيفة، هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول اللَّه، عرفت راحلة فلان وفلان،
وكان القوم متلثمين [فلم] [ (1) ] أبصرهم من أجل ظلمة الليل، وكانوا قد أنفروا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فسقط بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي رضي اللَّه عنه يقول: فنوّر لي في أصابعي الخمس فأضاءت، حتى كنا نجمع ما سقط: السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شيء إلا جمعناه، وكان لحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في العقبة [ (2) ] . واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1042- 1043.(5/324)
[الثالث بعد المائة: رؤية أنس بن مالك النور بأيدي قوم في الدعاء]
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عمران بن زيد التغلبي، عن خطاب بن عمير [ (1) ] ، عن الحسن [ (2) ] ، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من البيت إلى المسجد، وقوم في المسجد رافعي أيديهم يدعون اللَّه عزّ وجل [ (3) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنس! هل ترى ما بأيدي القوم [ (4) ] ؟ قلت: ما ترى بأيديهم نورا [ (5) ] ؟ قلت: ادع اللَّه أن يرينه، قال: فدعا اللَّه فرأيته، فقال: يا أنس [ (6) ] [استعجل بنا حتّى نشرك القوم، فأسرعت مع نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرفعنا أيدينا] [ (7) ] .
وخرجه البيهقي من طريق البخاري، قال: حدثنا يوسف بن راشد، حدثنا أحمد ابن عبد اللَّه، حدثنا عمران بن زيد بسنده ومتنه، ثم قال البخاري: لا يتابع عليه [ (7) ] .
__________
[ (1) ] هو خطاب بن عمير الثوري. وقيل: ابن عمر.
[ (2) ] هو الحسن بن الحسن الثوري.
[ (3) ] في (الضعفاء الكبير) : «فإذا قوم جلوس في المسجد رافعي أيديهم يدعون اللَّه» .
[ (4) ] في (خ) : «هل ترى ما أرى بأيدي القوم» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «قلت ما أرى؟ قال: بأيديهم نور.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين في (المرجع السابق) : «فقال أسرع حتى تنشر يدك مع القوم، قال: فأسرعنا فنشرنا أيدينا مع القوم» ، وما أثبتناه من (خ) ، ولعلها رواية أبي نعيم.
[ (7) ] هذا الحديث ذكره أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي في (الضعفاء الكبير) : 2/ 24- 25، في ترجمة خطاب بن عمير الثوريّ رقم (444) ، عن الحسن ولا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا بهذا الحديث، وذكره البخاري في (التاريخ الكبير) : 3/ 202، ترجمة خطاب بن عمير رقم (692) وقال: ولا يتابع عليه، (لسان الميزان) 2/ 489، ترجمة خطاب بن عمير رقم (109/ 3163) ، وقال: ذكره ابن الجارود في (الضعفاء) ، وابن حبان في (الثقات) : 6/ 272.(5/325)
[الرابع بعد المائة: تسليم الملائكة على عمران بن حصين تكرمة للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما تسليم الملائكة على عمران بن حصين تكرمة للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج الإمام أحمد من حديث وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت حميد بن هلال يحدث عن مطرف، عن عبد اللَّه قال: قال لي عمران بن حصين: أنه كان يسلّم عليّ، فلما اكتويت انقطع التسليم، [فقلت له: أمن قبل رأسك كان يأتيك التسليم] أو من قبل رجلك؟ قال: بل من قبل رأسي، فقلت: لا أرى أن تموت حتى يعود ذلك، فلما كان بعد قال [لي] : أشعرت أن التسليم عاد لي؟ ثم لم يلبث يسيرا حتى مات رضي اللَّه عنه [ (1) ] .
قال أبو نعيم: وقد رواه شعبة عن قتادة، وحميد بن هلال عن مطرف نحوه، وروى غندر ويحيى بن سعيد عنه.
ومن حديث مسدد قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: ما قدم علينا البصرة رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل فضلا من عمران بن حصين، أتت
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب (23) جواز التمتع، حديث رقم (167) ، (168) ، وقال في الحديث الأول: «وقد كان يسلّم عليّ حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكيّ فعاد» وقال في الحديث الثاني مخاطبا مطرف: «فإن عشت فأكتم عني، وإن متّ فحدث بها إن شئت، إنه قد سلّم عليّ» .
قال الإمام النووي: قوله «وقد كان يسلّم عليّ حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكيّ فعاد» ، فقوله: يسلّم عليّ، بفتح اللام المشددة، وقوله: فتركت، هو بضم التاء، أي انقطع السلام عليّ، ثم تركت- بفتح التاء- أي تركت الكي فعاد السلام عليّ.
ومعنى الحديث: أن عمران بن حصين رضي اللَّه تعالى عنه، كانت به بواسير، فكان يصبر على المهمات، وكانت الملائكة تسلّم عليه، فاكتوى، فانقطع سلامهم عليه ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه.
أما قوله: فإن عشت فأكتم عني، فأراد به الإخبار بالسلام عليه، لأنه كره أن يشاع عنه ذلك في حياته، لما فيه من التعرض للفتنة، بخلاف ما بعد الموت. (مسلّم بشرح النووي) : 8/ 456- 457.
وفي (خ) : «إني لا أرى» ، وما أثبتناه من (الطبقات) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(5/326)
عليه ثلاثون سنة تسلم عليه الملائكة من حوانيت بيته. قال أبو نعيم: عني يحيى ابن سعيد المستوطنين من الصحابة لا المجتازين [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وعمران بن حصين هو: عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم بن خريبة بن جهمة بن غاضرة بن حبشية بن كعب بن عمرو، ويكنّى عمران أبا نجيد. أسلم قديما هو وأبوه وأخته، وغزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوات. ولم يزل في بلاد قومه، وينزل إلى المدينة كثيرا إلى أن قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومصّرت البصرة فتحول إليها فنزلها إلى أن مات بها سنة ثنتين وخمسين في خلافة معاوية.
وحديث تسليم الملائكة عليه مشهور في كتب الطبقات والتراجم، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 7/ 9- 12 في تسمية من نزل البصرة من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (الاستيعاب) 3/ 1208، ترجمة رقم (1969) ، (الإصابة) : 4/ 705، ترجمة رقم (6014) .(5/327)
[الخامس بعد المائة: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن]
وأما نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن في زمن المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج البخاري ومسلم من حديث أبي خيثمة زهير عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن.
قال البخاري: وإلى جانبه فرس مربوط بشظيين، وقال: فجعلت تدنو وتدنو، وقال: نزلت بالقرآن. ترجم عليه باب فضل [سورة] الكهف [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 69- 70، كتاب فضائل القرآن، باب (11) فضل [سورة] الكهف، حديث رقم (5011) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 329، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (36) نزول السكينة لقراءة القرآن، حديث رقم (240) .
قوله: «وعنده فرس مربوط بشطنين» ، هو بفتح الشين المعجمة، والطاء، وهما تثنية شطن [وجمعه أشطان] ، وهو الحبل الطويل المضطرب.
قال محققه: [قال عنترة] :
[لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمّم]
[يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم]
قوله: «وجعل فرسه تنفر» ، وفي الرواية الثانية: «فجعلت ينفر» ، وفي الثالثة «وجعل فرسه ينفر» ، غير أنهما قالا: «ينقز، أما الأوليان: فبالفاء والراء بلا خلاف، وأما الثالثة: فبالفاء المضمومة وبالزاي، وحكاه القاضي عياض عن بعضهم وغلّطه، ومعنى «ينقز» بالقاف والزاي: يثب.
قوله: «فتغشّته سحابة فجعلت تدور وتدنو،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: تلك السكينة نزلت للقرآن» ، وفي الرواية الأخيرة: «تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم» .
قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، المختار منها: أنها شيء من مخلوقات اللَّه تعالى، فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة. واللَّه أعلم.
وفي هذا الحديث: جواز رؤية آحاد الأمة الملائكة، وفيه فضيلة القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة، وحضور الملائكة، وفيه فضيلة استماع القرآن.
قوله: «اقرأ يا فلان» ، وفي الرواية الأخرى: «اقرأ» ثلاث مرات، معناه: كان ينبغي أن تستمر على القرآن، وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتستكثر من القراءة التي هي سبب بقائها.
قوله: «وفي الرواية السابقة: «أي وثبت» ، وقال هنا: «جالت» ، فأنّث الفرس، وفي الرواية السابقة: «وعنده فرس مربوط» ، فذكّره، وهما صحيحان، والفرس يقع على الذكر والأنثى.
(مسلم بشرح النووي) : 6/ 329- 331: باختصار.(5/328)
وأخرجاه أيضا من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، ذكره البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام، ولفظهما: قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته.
قال: فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اقرأ فلان، فإنّها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن، وقال البخاري: فسلم فإذا ضبابة أو سحابة، وقال في آخره: فإنّها السكينة نزلت أو تنزلت للقرآن [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث الليث قال: حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت [الفرس] [ (2) ] ، فسكت وسكت [الفرس] [ (2) ] ، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه رفع رأسه [ (3) ] إلى السماء حتى يراها.
فلما أصبح حدّث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: فأشفقت [يا رسول اللَّه] [ (3) ] أن تطأ يحيى- وكان منها قريبا- فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلمة [ (4) ] فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ [قال: لا] [ (2) ] ، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم [ (5) ] .
قال ابن الهاد: وحدثني هذا الحديث عبد اللَّه بن خبّاب، عن أبي سعيد الخدريّ، عن أسيد بن حضير هكذا [ (5) ] . [ذكره غير متصل الإسناد] ، وترجم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 771، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3614) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 329، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (36) نزول السكينة لقراءة القرآن، والرواية المذكورة في (خ) ، هي رواية مسلم.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق من (البخاري) .
[ (3) ] في (خ) : «طرفة» ، وما أثبتناه من (البخاري) .
[ (4) ] في (خ) : «الظلة» ، وما أثبتناه من (البخاري) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 9/ 77، كتاب فضائل القرآن، باب (15) نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، حديث رقم (25018) . قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : ودل سياق الحديث على(5/329)
عليه باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي حدثنا يزيد بن الهاد، أن عبد اللَّه بن خبّاب حدثه أن أبا سعيد الخدريّ حدثه أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده، إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى [ثم جالت أيضا] [ (2) ] ، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السّرج عرجت في الجوّ حتى ما أراها.
قال: فغدوت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللَّه! بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت ثم جالت أيضا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقرأ ابن حضير، قال: فانصرفت- وكان يحيى قريبا منها خشيت أن تطأه- فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السّرج، عرجت في الجوّ حتى ما أراها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تلك الملائكة
__________
[ () ] محافظة أسيد على خشوعه في صلاته، لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكان كان بلغه حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رفع المصلى رأسه إلى السماء، فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب، ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته، فلهذا تمادي به الحال ثلاث مرات (المرجع السابق) .
ولما قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح، لكن الّذي يظهر التقييد بالصالح مثلا، والحسن الصوت، قال: وفيه فضيلة القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة، وحضور الملائكة، فقال الحافظ في (الفتح) : الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة، من سورة خاصة، بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يذكر، وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ.
وقد أشار في آخر الحديث بقوله: «ما يتوارى منهم» ، إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الّذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوّت الخير الكثير، فكيف لو كان بغير الأمر المباح؟.
[ (1) ] أما عن قول المقريزي رحمه اللَّه: [ذكره غير متصل الإسناد] ، فقد قال الحافظ في الفتح: «عن محمد بن إبراهيم» ، هو التميمي، وهو من صغار التابعين، ولم يدرك أسيد بن حضير، فروايته عنه منقطعة، لكن الاعتماد في وصل الحديث المذكور على الإسناد الثاني.
قال الإسماعيلي: محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير مرسل، وعبد اللَّه بن خباب عن أبي سعيد متصل، ثم ساقه عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، عن يزيد بن الهاد بالإسنادين جميعا وقال:
هذه الطريق على شرط البخاري. (فتح الباري) : 9/ 77- 78.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق من (صحيح مسلم) .(5/330)
كانت تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير قال: حدثني الليث بن سعد عن يزيد بن عبد اللَّه، عن أسامة عن عبد اللَّه بن خبّاب، عن أبي سعيد الخدريّ، عن أسيد بن حضير أنه كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال: وقرأت ليلة سورة البقرة ... فذكره [ (2) ] .
وخرجه من حديث يحيى بن أيوب عن ابن الهاد ... ، الحديث وزاد: اقرأ يا أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود [ (3) ] .
وخرجه من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن يحيى عن أبي سلمة قال: بينا أسيد بن حضير الأنصاري يصلي بالليل، قال: إذ غشيتني مثل السحابة فيها أمثال المصابيح، والمرأة نائمة إلى جانبي، والفرس مربوط في الدار، فخشيت أن ينفر الفرس فتفزع المرأة فتلقى ولدها، فانصرفت من صلاتي، فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حين أصبحت، فقال: اقرأ يا أسيد، فإن ذلك ملك استمع القرآن. وفي رواية تسمّع القرآن.
وخرجه أيضا من حديث عبيد اللَّه بن عمر، عن زيد بن أسلم، عن أسيد ابن حضير قال: كنت أصلي في ليلة قمرة وقد أوثقت فرسي، فجالت جولة ففزعت، ثم جالت أخرى فرفعت رأسي، وإذا ظلة قد غشيتني، وإذا هي قد حالت بيني وبين القمر، ففزعت، فدخلت البيت.
فلما أصبحت ذكرت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: تلك الملائكة جاءت تسمع قراءتك من آخر الليل [سورة] البقرة، وكان أسيد بن حضير حسن الصوت.
وذكره أيضا من عدة طرق بزيادات ونقص، والمعنى متقارب.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 330- 331، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب (36) نزول السكينة لقراءة القرآن، حديث رقم (242) . وقد سبق شرحه.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 560- 561، قصة فرس أسيد بن حضير، حديث رقم (502) .
[ (3) ] سند هذه الفقرة في (دلائل أبي نعيم) : «وفي حديث سليمان بن أحمد» ولم يذكر باقي السند.
ذكرها عقب الحديث السابق (502) .(5/331)
[السادس بعد المائة: انقلاب بضعة لحم فهرا [ (1) ]]
وأما انقلاب بضعة لحم فهرا،
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الربيع بن بدر، عن الجريريّ عن بعض أشياخه قال: أهدي لأم سلمة رضي اللَّه عنها بضعة من لحم مشوية، فقالت: ارفعيها [حتى] يأتينا اليوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوافق مسكين بابنا، فقال: بورك فيه ولم تطعمه، فجاء صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت:
خبيئة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجاءت بها فإذا هي فهر، فقلت: إنا للَّه! واللَّه إنها لبضعة أهدت لنا أم فلان، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلعلك وافقك سائل؟ فقالت: أجل، قال:
فإنما وعظتم بذا، قال: فما زال حجرا في ناحيته بيتها تدق به حتى ماتت رضي اللَّه عنها [ (2) ] .
قال أبو نعيم: رواه عاصم بن علي، وخارجة بن مصعب، عن الجريريّ- مولى لعثمان- عن أم سلمة.
واللَّه أعلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الفهر: الحجر.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 560، باب انقلاب اللحم إلى حجر، حديث رقم (501) باختلاف في اللفظ، وهذا الحديث انفرد به أبو نعيم ولم أجده عند غيره، وهو منقطع السند، والربيع بن بدر متروك كما قال النسائي، وقال غيره: ضعيف.
[ (3) ] هنا ينتهي الجزء الثالث من تقسيم أجزاء النسخة (خ) .(5/332)
فصل في ذكر أبناء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة بنين: القاسم، وعبد اللَّه، وإبراهيم، وفي رواية مدارها على داود بن المحبر- صاحب كتاب (العقل) - أن عائشة رضي اللَّه عنها جاءت بسقط فسماه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عبد اللَّه، وكناها به، وفيه نظر.
فالقاسم أمه خديجة بنت خويلد، وهو أكبر ولده، وبه يكنّى، وقد مشى وهو ابن سنتين، وعبد اللَّه أيضا أمّه خديجة، ويقال له الطيب والطاهر، ولد بعد النبوّة، ومات صغيرا بمكة، فقال العاص بن وائل: محمد أبتر لا يعيش له ذكر، فأنزل اللَّه تعالى فيه: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [ (1) ] .
وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه قال: توفي القاسم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة فمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو آت من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو ابن العاص، فقال عمرو حين رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأشنؤه، فقال العاص:
لا جرم لقد أصبح [أبترا] ، وأنزل اللَّه تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الكوثر: 3، شانِئَكَ أي مبغضك يا محمد، ومبغض ما جاءت به من الهدى والحق، والبرهان الساطع، والنور المبين، هُوَ الْأَبْتَرُ الأقل الأذل، المنقطع ذكره.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة: نزلت في العاص بن وائل، إذا ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: دعوه، فإنه رجل أبتر، لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل اللَّه تعالى هذه السورة.
وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقال ابن عباس وعكرمة: نزلت في كعب ابن الأشرف، وجماعة من كفار قريش.
وقال البزار: حدثنا زيادة بن يحيى الحساني، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى إلى هذا الصنبر المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة، وأهل السقاية، فقال:
أنتم خير منه.
قال: فزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، وهكذا رواه البزار، وهو إسناد صحيح، وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب، وذلك حين مات ابن لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذهب أبو لهب إلى المشركين، فقال: بتر محمد الليلة، فأنزل اللَّه في ذلك: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
وعن ابن عباس: نزلت في أبي جهل، وعنه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، يعني عدوك، وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر وغيرهم. وقال عكرمة: الأبتر هو الفرد.(5/333)
ويقال: إن عبد اللَّه غير الطيب وغير الطاهر، وروى معمر عن ابن هشام أنه قال: زعم بعض العلماء أنها ولدت- يعني خديجة- ولدا يسمى الطاهر، وقال ابن إسحاق: ولدت له خديجة: زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة، والقاسم- وبه كان يكنى- والطاهر والطيب، فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن معه، وقد قيل: بل عبد اللَّه هو الطيب وهو الطاهر.
قال قتادة: ولدت له خديجة غلامين وأربع بنات، القاسم- وبه كان يكنى- وعاش حتى مشى، وعبد اللَّه مات صغيرا، ومن النساء: فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم.
وقال الزبير بن بكار: ولد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القاسم- وهو أكبر ولده- ثم زينب، ثم عبد اللَّه، وكان يقال له الطيب ويقال الطاهر، ولد بعد النبوة، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، هكذا الأول ثم الأول، ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت، ولد بعد الوحي، وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، أمهم كلهم خديجة، فهذا قول مصعب والزبير.
وأكثر أهل النسب [على] أن عبد اللَّه هو الطيب والطاهر بثلاثة أسماء، وقال الكلبي [ (1) ] : زينب ثم القاسم ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية ثم عبد اللَّه، وكان يقال له: الطيب والطاهر، قال: وهذا هو الصحيح، وغيره تخليط.
__________
[ () ] وقال السديّ: كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا: بتر، فلما مات أبناء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالوا: بتر، فأنزل اللَّه: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الّذي مات انقطع ذكره، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره.
وحاشا وكلا، بل قد أبقى اللَّه ذكره على رءوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرا على دوام الآباد، إلى يوم المحشر والمعاد، صلوات اللَّه وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد، (تفسير ابن كثير) : 4/ 598، (تنوير المقباس) : 520، (البحر المحيط) : 10/ 557، (فتح الباري) : 8/ 948- 949، كتاب التفسير: باب (108) سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، (الكشاف: 4/ 237- 238.
[ (1) ] (جمهرة النسب للكلبي) : 30.(5/334)
وقال ابن حزم [ (1) ] : وروينا من طريق هشام بن عروة عن أبيه، أنه كان له عليه السلام [ولد] اسمه عبد العزى قبل النبوة، قال: وهذا بعيد، والخبر مرسل.
ولا حجة في مرسل.
وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة بالعالية بالموضع الّذي يقال له: مشربة أم إبراهيم، وكانت قابلتها سلمى مولاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، امرأة أبي رافع، فبشّر أبو رافع [به] [ (2) ] النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوهب له عبدا، فلما كان يوم سابعه عقّ عنه بكبشين، وحلق رأسه، حلقه أبو هند البياضي من الأنصار، قال الزبير بن بكار: وسماه يومئذ، وتصدق بوزن شعره ورقا على المساكين، وأخذوا شعره فجعلوه في الأرض مدفونا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (جمهرة أنساب العرب لابن حزم) : 16.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المواهب) .
[ (3) ] (المواهب اللدنية) : 2/ 68، وقال ابن الجوزي في ذكر أولاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الذكور من أولاده: القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين. وعبد اللَّه: وهو «الطاهر والطيب» ، ولد له في الإسلام- يعني بعد الرسالة- وقال الهيثم بن عدي: حدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: ولدت له خديجة عبد العزى، وعبد مناف، والقاسم، قلت لهشام: فأين الطيب والطاهر؟ قال:
هذا ما وضحتم أنتم يا أهل العراق، فأما أشياخنا فقالوا: عبد العزى وعبد مناف. قال المصنف: الهيثم كذاب لا يلتفت إلى قوله، قال لنا شيخنا ابن ناصر: لم يسمّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد مناف ولا عبد العزى قط، وقال عروة: ولدت خديجة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم القاسم، والطاهر، وعبد اللَّه، والمطيّب.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعة غلمة: إبراهيم، والقاسم، والطاهر، والمطهّر.
قال أبو بكر البرقي: إن الطاهر هو الطيب، وهو عبد اللَّه، وفرّق قوم بينهما، ويقال: إن الطيب والمطيّب ولدا في بطن، والطاهر والمطهّر ولدا في بطن. (تلقيح فهوم أهل الأثر) : 30، ذكر أولاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (الوافي بالوفيات) : 1/ 81، أولاده صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال محققه: ومما يدحض قول من قال: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولدت له خديجة فيمن ولدت من الذكور من تسمى بعبد العزى،
ما قاله بحيرا الراهب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وأي حق لهما عندي؟ لا تسألني بحق اللات والعزى، فو اللَّه ما أبغضت شيئا قط بغضهما، وما تأملتهما بالنظر إليهما كراهة لهما، ولكن اسألني باللَّه، أخبرك عما تسألني عنه إن كان عندي علم، قال بحيرا: فباللَّه أسألك، وجعل يسأله عن أشياء من أحواله فيخبره. (دلائل أبي نعيم) : 1/ 168،
ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشام في المرة الأولى، وما اشتمل عليه ذلك من الدلائل المتقدمة لنبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو ابن عشر سنين، حديث رقم (108) .(5/335)
وقد صحّ
من حديث ثابت [البناني] [ (1) ] عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم [أبي] [ (1) ] إبراهيم،
وتنافست نساء الأنصار في إبراهيم من ترضعه منهن، وأحبوا أن يفرغوا ماريّة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يعلمون من ميله إليها، فجاءت أم بردة كبشة بنت المنذر بن زيد بن أسيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، امرأة البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار [ (2) ] [الأنصاري] [ (3) ] فكلمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ترضعه، فأعطاها إياه، فكانت ترضعه بلبن ابنها، فكان إبراهيم في بني مازن بن النجار، إلا أن أمه تؤتي به ثم يعاد إلى منزل ظئرة أم بردة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتي أم بردة فيقيل عندها، ويخرج إليه إبراهيم فيحمله ويقبله.
وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قطعة من غنم ضأن ترعى بالقف، ولقائح بذي الجدر تروح على مارية، وكان يؤتي بلبنها كل ليلة فتشرب منه وتسقي ابنها إبراهيم، فكان جسمها وجسم ابنها حسنا،
فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما بإبراهيم وهو عند عائشة رضي اللَّه عنها، فقال: انظري إلى شبهه بي! فقالت: ما أرى شبها، قال: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟ فقالت: من قصرت عليه اللقاح، وسقي ألبان الضأن، سمن وابيضّ.
وكانت عائشة رضي اللَّه عنها تقول: ما غرت على امرأة غيرتي على مارية، وذلك لأنها كانت جميلة جعدة الشعر، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معجبا بها، ورزق منها الولد وحرمناه، وأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم بردة قطعة من نخل [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] زيادة للنسب من (الإصابة) .
[ (3) ] قال ابن شاهين: عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن زيد عن رجاله، أنه شهد أحدا وما بعدها، قال: وهو زوج مرضعة إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واسمها خولة بنت المنذر بن زيد (الإصابة) : 1/ 277، ترجمة رقم (616) .
[ (4) ]
حديث ثابت البناني عن أنس، ذكره المصنف وأضاف إليه سياقات بزيادة ألفاظ وعبارات أخرجته عن النص الّذي ذكره الإمام مسلم في (الصحيح) ونصه: حدثنا هداب بن خالد وشيبان بن فروخ، كلاهما عن سليمان- واللفظ لشيبان- حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له: أبو سيف، فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره،(5/336)
وروى عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال: لما ولد إبراهيم ابن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعتق أمّ إبراهيم ولدها [ (1) ] ، وقال: استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما [ (2) ] وكانت هاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم،
__________
[ () ] قد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشي بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: يا أبا سيف! أمسك، جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمسك، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبي فضمّه إليه، وقال ما شاء اللَّه أن يقول، فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدمعت عينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، واللَّه يا إبراهيم إنا بك لمحزونون.
والحديث الّذي يليه:
حدثنا زهير بن حرب، ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير- واللفظ لزهير- قالا: حدثنا إسماعيل- وهو ابن علية- عن أيوب عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينا، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع، قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة.
والقين بفتح القاف: الحداد. وفي الحديث الأول: جواز تسمية المولود يوم ولادته، وجواز التسمية بأسماء الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، وفيه استتباع العالم الكبير بعض أصحابه إذا ذهب إلى منزل قوم ونحوه، وفيه الأدب مع الكبار، وفيه جواز البكاء على المريض والحزن، وأن ذلك لا يخالف الرضا بالقدر، بل هي رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده، وإنما المذموم الندب والنياحة، والويل والثبور، ونحو ذلك من القول الباطل، ولهذا
قال: «ولا نقول إلا ما يرضي ربنا» .
وفي الحديث الثاني بيان كريم خلقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورحمته للعيال والضعفاء، وفيه جواز الاسترضاع، وفيه فضيلة رحمة العيال والأطفال وتقبيلهم. مختصرا من (مسلم بشرح النووي) : 15/ 81- 83، كتاب الفضائل، باب (15) رحمته صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، حديث رقم (62) و (63) .
وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء اللَّه تعالى في تراجم أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ]
أخرجه ابن ماجة في (السنن) : 2/ 841، كتاب العتق، (2) باب أمهات الأولاد، حديث رقم (2515) : حدثنا على بن محمد، ومحمد بن إسماعيل، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا شريك، عن حسين ابن عبيد اللَّه عن عبيد اللَّه بن عباس، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إيماء رجل ولدت أمته منه فهي معتقه عن دبر منه.
ثم
قال في الحديث الّذي يليه (2516) : ... عن الحسين ابن عبد اللَّه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أعتقها ولدها.
ثم قال تعليقا على الحديثين: في إسناده الحسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس، تركه المديني وغيره، وضعّفه أبو حاتم وغيره، وقال البخاري: إنه كان يتّهم بالزندقة. (المرجع السابق) .
[ (2) ] (كنز العمال) : 12/ 34019، وقال: في آخره: (ابن سعد عن كعب بن مالك) ، ورقم (34020) : إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإنّهم لهم ذمة ورحما، (البغوي، طب، ك- عن كعب بن مالك. ورقم (34021) : إذا ملكتم القبط فأحسنوا إليهم، فإن لهم ذمة وإن لهم رحما. (ابن سعد عن الزهري مرسلا) ، ورقم (34022) : إن اللَّه سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لكم منهم صهرا وذمة. (كر- عن عمر) ، ورقم (34023) : اللَّه اللَّه في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل اللَّه (طب- عن أم سلمة) .(5/337)
وقال: لو عاش إبراهيم لوضعت الجزية عن كل قبطي [ (1) ] ، ولما ولد إبراهيم أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل عليه السلام فقال له: يا أبا إبراهيم.
وتوفي إبراهيم في بني مازن عند أم بردة، وهو ابن ثمانية عشر شهرا في ذي الحجة سنة ثمان، وقيل: بل ولد في ذي الحجة سنة ثمان وتوفي في سنة عشر، وقيل: توفي وهو ابن ستة عشر شهرا وثمانية أيام [ (2) ] ، وقيل: توفي وهو ابن سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وقيل: مات وهو له إحدى وسبعون ليلة، والأول أثبت، وذلك سنة عشر،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن له لمرضعة تتم رضاعه في الجنة [ (3) ] .
وغسلته أم بردة، وقيل غسله الفضل بن العباس- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والعباس رضي اللَّه عنه جالسان على سرير- ثم حمل على سرير صغير، وصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبقيع [ (4) ] ،
فقيل له: يا رسول اللَّه- أين ندفنه؟ قال عند فرطنا عثمان ابن مظعون [ (5) ] ،
وكان عثمان أول من دفن بالبقيع.
وروى ابن إسحاق عن عمر، عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دفن ابنه إبراهيم ولم يصل عليه [ (6) ] والأول أصح، وقيل: معنى لم يصل عليه، يعني في جماعة، أو أمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم [ (7) ] ، لأنه شغل عن الصلاة عليه بأمر كسوف الشمس وصلاته وخطبته.
وثبت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكى على ابنه إبراهيم دون رفع الصوت وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون [ (8) ] ،
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 11/ 470، ذكر إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (32206) ، (ابن سعد عن الزهري مرسلا) ، (كنز العمال) : 11/ 472، حديث رقم (32219) ، (ابن عساكر عن البراء) .
[ (2) ] (المعارف) : 143، (الاستيعاب) : 1/ 56.
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 706، كتاب الأدب (109) باب من تسمى بأسماء الأنبياء، حديث رقم (6195) .
[ (4) ] (كنز العمال) : 11/ 472، حديث رقم (32218) ، (عن أنس وابن سعد، والروياني عن البراء) .
[ (5) ] (الاستيعاب) : 1/ 56.
[ (6) ] (المرجع السابق) : 1/ 58.
[ (7) ] (المرجع السابق) : 1/ 59، قال ابن عبد البر في (المرجع السابق) : فلا يكون مخالفا لما عليه العلماء في ذلك، وهو أولى ما حمل عليه حديثها في ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
[ (8) ] (المرجع السابق) : 1/ 57.(5/338)
وجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والعباس على شفير قبر إبراهيم، ونزل فيه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وذلك يوم ثلاثاء في آخر شهر ربيع الأول، وقيل: يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، ورأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجة في اللبن فأمر أن تسد، وقال: إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنه يقرّ بعين الحي، وإن العبد إذا عمل عملا أحب اللَّه أن يتقنه [ (1) ] .
ويروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يمشي أمام سرير إبراهيم ثم جلس على قبره، فلما دلى في قبره ووضع دمعت عيناه، فبكى الصحابة حتى ارتفعت أصواتهم، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال: تدمع العين، وتوجّع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، ثم دفن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ما أحد يأتينا بماء نطهر به قبر إبراهيم؟ فأتى بماء فأمر به فرش به على قبر إبراهيم، وكان أول من رش عليه وختم عليه بيده، وقال عند رأسه: السلام عليك.
وفي رواية: أنه وضع يده اليمنى على قبره من عند رأسه وقال: ختمت عليك باللَّه من الشيطان الرجيم، وفي رواية: طبعت عليك باللَّه، وأمر بحجر فوضع عند رأسه [ (1) ] .
ووافق موت إبراهيم عليه السلام كسوف الشمس على ثنتي عشرة ساعة من النهار، فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، [ف]
خطبهم صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته [ (2) ] .
ويروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال حين حضر قبض إبراهيم وهو مستقبل الجبل:
يا جبل! لو بك ما فيّ لهدّك، ولكنا نقول كما أمرنا: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، والحمد للَّه رب العالمين.
وخرج ابن عساكر من حديث محمد بن الحسن الأسدي، حدثنا أبو شيبة عن أنس بن مالك قال: لما مات إبراهيم ابن النبي، قال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تدرجوه في أكفانه حتى انظر إليه، فجاء فأكب عليه وبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه.
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 1/ 59 بزيادة ألفاظ ونقصان، لكن المعنى واحد.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 58، (مسند أحمد) : 2/ 267، حديث رقم (5960) .(5/339)
ويقال: إن السرّ في موت ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حياته، أنه لو عاش [لكان نبيا، ولم يكن ليبقى لأن نبيكم آخر الأنبياء] [ (1) ] .
وقد أشار حسان بن ثابت إلى هذا في قوله لما مات إبراهيم:
مضى ابنك محمود العواقب لم يشن ... بعيب ولم يأثم بقول أو فعل
رأى أنه لو عاش ساواك في العلا ... فآثر أن تبقى فريدا بلا مثل [ (2) ]
وقد جاء في حديث أن إبراهيم لو عاش لكان نبيا، وليس بقوي. وفي صحيح البخاري عن السدي قال: سألت أنس بن مالك كم كان بلغ إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: قد كان بلا مهلة، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى لأن نبيكم آخر الأنبياء.
وقد روى عيسى بن يونس عن أبي خالد قال: قلت: لا تراني أوفى، أرأيت إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: مات وهو صغير، ولو قرأت يكون بعد محمد نبي لعاش، ولكنه لا نبي بعد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سياقة مضطرب في (خ) ، وقد استدركناه من كتب السيرة والتراجم.
[ (2) ] لم أجدهما في (ديوان حسان بن ثابت) .
[ (3) ] قوله: «لو عاش إبراهيم لكان نبيا» ، ورد عن ثلاثة من الصحابة، لكن قال النووي في (التهذيب) ، في ترجمة إبراهيم: وأما ما روى عن بعض المتقدمين: «لو عاش إبراهيم لكان نبيا» ، فباطل، وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة، وهجوم على عظيم.
ونحوه قول ابن عبد البر في (التمهيد) : لا أدري ما هذا! فقد ولد نوح عليه السلام غير نبيّ، ولو لم يلد النبي إلا نبيا، لكان كل أحد نبيا، لأنهم من ولد نوح.
لكن قال الحافظ ابن حجر: ولا يلزم من الحديث المذكور ما ذكره لما يخفى، وكان ابن عبد البر سلف النووي. وقال أيضا: إنه عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال في إنكاره ما قال.
وجوابه: أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، ولا يظن بالصحابي الهجوم على مثل هذا الظن.
واعترض الجواب المذكور القاري بأنه بعيد جدا.
وقال ابن حجر المكيّ في (الفتاوى الحديثية) : قال السيوطي: صحّ
عن أنس أنه سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم(5/340)
[فصل في ذكر بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
اعلم أن إجماع من يعتد به انعقد على أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربع بنات كلهن من خديجة، وهنّ زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة عليهنّ السلام.
__________
[ () ] عن ابنه إبراهيم، قال: لا أدري رحمة اللَّه على إبراهيم لو عاش لكان صدّيقا نبيا. ورواه ابن مندة والبيهقي عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورواه ابن عساكر عن جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرج ابن عساكر أيضا بسنده وقال: فيه من ليس بالقوي عن عليّ بن أبي طالب: لما توفي إبراهيم أرسل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أمه مارية، فجاءته، وغسّلته، وكفّنته، وخرج به، وخرج الناس معه، فدفنه، وأدخل يده في قبره فقال: أما واللَّه إنه لنبي ابن نبي، وبكى المسلمون حوله حتى ارتفع الصوت، ثم قال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون.
وروى أبو داود أنه مات وعمره ثمانية عشر شهرا، فلم يصل عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
صححه ابن خزيمة.
قال الزركشي: اعتلّ من سلم ترك الصلاة عليه بعلل: منها أنه استغنى بفضيلة أبيه عن الصلاة، كما استغنى الشهيد بفضل الشهادة. ومنها أنه لا يصلي نبي على نبي، وقد جاء لو عاش لكان نبيا.
ولا بعد في إثبات النبوة له مع صغره، لأنه كعيسى القائل يوم ولد: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وكيحيى الّذي قال تعالى فيه: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قال المفسرون: نبّئ وعمره ثلاث سنين، واحتمال نزول جبريل بوحي لعيسى وليحيى يجري في إبراهيم، ويرشحه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم صام يوم عاشوراء وعمره ثمانية أشهر، ثم قال بعد أن نقل عن السبكي كلاما: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره، انتهى فأعرفه.
وقال في (المقاصد الحسنة) : الطرق الثلاثة:
أحدها: ما
أخرجه ابن ماجة وغيره عن ابن عباس أنه قال: لما مات إبراهيم ابن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى عليه وقال: إن له مرضعا في الجنة، ولو عاش لكان صديقا، ولو عاش لاعتقت أخواله من القبط، وما استرق قبطي.
وفي سنده إبراهيم بن عثمان الواسطي ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن مندة في (المعرفة) ، وقال: غريب.
ثانيها: ما رواه إسماعيل السدّيّ عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى فإن نبيكم آخر الأنبياء.
ثالثها: رواه البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد اللَّه بن أبي أوفى أنه قال: رأيت إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مات صغيرا، ولو قضي أن يكون بعد محمد نبي عاش إبراهيم ولكن لا نبي بعده.
وأخرجه أحمد عن ابن أبي أوفى أنه كان يقول: لو كان بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي ما مات ابنه. قال:
وعزاه شيخنا للبخاريّ من حديث البراء فيه.
وروى أحمد والترمذي وغيرهما، عن عقبة بن عامر رفعه: لو كان بعدي نبي لكان عمر. وورد عن جماعة آخرين.(5/341)
فزينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت أكبر بناته، ولدت سنة ثلاثين من مولده، ولا خلاف أنها أسن بناته، إلا ما لا يصح ولا يلتفت إليه، وإنما الخلاف بين القاسم وزينب أيهما ولد أولا، فقالت طائفة من أهل العلم بالنسب: أول ولد ولد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القاسم ثم زينب، وقال ابن الكلبي: زينب ثم القاسم.
__________
[ () ] وقال القاري ويشير إلى قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ: فإنه يومئ إلى أنه لا يعيش له ولد يصل إلى مبلغ الرجال، فإن ولده من صلبه يقتضي أن يكون لبّ قلبه، كما يقال: الولد سرّ أبيه، ولو عاش وبلغ أربعين سنة وصار نبيا، لزم أن يكون نبيا خاتم النبيين. ثم يقرب من هذا الحديث ما
رواه أحمد والحاكم عن عقبة مرفوعا: لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب.
قلت: ومع هذا لو عاش إبراهيم وصار نبيا لكان من أتباعه، وكذا لو صار عمر نبيا لكان من أتباعه، كعيسى والخضر وإلياس، فلا يناقض قوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، إذ المعنى أنه لا يأتي نبي بعده ينسخ ملته، ولم يكن من ملته،
وبقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي.
وقال النجم: وأورده السيوطي في (الجامع الصغير) بلفظ: لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا، وقال: أخرجه البارودي عن أنس، وابن عساكر عن جابر، وعن ابن عباس، وعن ابن أبي أوفى.
(كشف الخفا ومزيل الالتباس) : 2/ 156، حديث رقم (2101) ، (الفوائد المجموعة) :
398، ذكر إبراهيم رضي اللَّه عنه، حديث رقم (135) ، (ضعيف سنن ابن ماجة للألباني) وقال:
هذه الروايات وإن كانت موقوفة فلها حكم الرفع، إذ هي من الأمور الغيبية التي لا مجال للرأي فيها، فإذا عرفت هذا يتبين لك ضلال القاديانية في احتجاجهم بهذه الجملة «لو عاش إبراهيم لكان نبيا» ، على دعواهم الباطلة في استمرار النبوة بعده صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنها لا تصح هكذا عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإن ذهبوا إلى تقويتها بالآثار التي ذكرنا، كما صنعنا نحن، فهي تلقمهم حجرا، وتعكس دليلهم عليهم، إذ أنها تصرح أن وفاة إبراهيم عليه السلام صغيرا كان بسبب أنه لا نبي بعده صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولربما جادلوا في ذلك- كما هو دأبهم- وحاولوا أن يوهنوا من الاستدلال بهذه الآثار، وأن يرفعوا عنها حكم الرفع، ولكن لم ولن يستطيعوا الانفكاك مما ألزمناهم به من ضعف دليلهم هذا ولو من الوجه الأول، وهو أنه لم يصح عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرفوعا صراحة (المرجع السابق) : 115- 116، (27) باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر وفاته، حديث رقم (332) ، وحديث رقم (333) ، (الأسرار المرفوعة) :
290، حديث رقم (379) ، (المقاصد الحسنة) : 547- 548، حديث رقم (893) .(5/342)
[زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
[ (1) ] وكانت زينب عليها السلام عند أبي العاص بن [الربيع] بن عبد العزى بن عبد شمس، وأمه هالة ابنة خويلد، فهو ابن أخت خديجة لأبيها وأمها، وابن خالة زينب، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محبا في زينب، أسلمت وهاجرت حين أتى زوجها أبو العاص أن يسلم، وقد ولدت منه عليا وأمامة، وتوفيت سنة ثمان من الهجرة، وغسلتها سودة بنت زمعة، وأم سلمة رضي اللَّه عنهما.
وسبب موتها أنها خرجت من مكة مهاجرة، عهد إليها هبار بن الأسود بن عبد المطلب بن عبد العزى بن قصيّ، ومعه نافع بن عبد قيس- وقيل نافع بن لقيط، وقيل: هو خالد بن عبد قيس، ونافع بن قيس أصحّ، وهو نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ظرب بن الحرث بن فهد- فدفعها أحدهما على صخرة فأسقطت وأهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت. وكان زوجها محبا لها ومن شعره فيها- وقد خرج إلى الشام تاجرا-:
ذكرت زينب لما جاورت أرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها اللَّه صالحة ... وكل بعل سينبى بالذي علما [ (2) ]
__________
[ (1) ] لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 30- 36، (تاريخ خليفة) : 92، (التاريخ الصغير) :
1/ 7، (المعارف) : 72، 127، 140، 141، 142، (المستدرك) : 4/ 45- 50، ذكر بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد فاطمة رضي اللَّه عنهن، ذكر زينب بنت خديجة رضي اللَّه عنهما وهي أكبر بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (الإصابة) : 7/ 665- 166، ترجمة (11217) ، وفي هذه التراجم ذكر فدائها أبي العاص بن الربيع بقلادة كانت أدخلتها بها خديجة على أبي العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقّ لها رقّة شديدة، قال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الّذي لها. فقد أخرجه ابن سعد من طريق الواقدي، وأخرجه الحاكم من طريق ابن إسحاق وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا: فإن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث.
[ (2) ] هذان البيتان في (المستدرك) هكذا:
ذكرت زينب لما أورثت أرمى ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها اللَّه صالحة ... وكل بعل سيثنى بالذي علما(5/343)
[رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
ورقية اختلف فيها، فقيل: كانت أصغر بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: بل ولدت بعد زينب، ولرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون سنة، وكانت عند عتبة بن أبي لهب [ففارقها قبل الدخول] [ (1) ] لما أنزلت سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ بأمر أبويه، فتزوجها عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له عبد اللَّه، وبه كان يكنى، وقدمت معه المدينة، وجاءت تعتب على عثمان فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أحب المرأة تكثر شكاية بعلها، انصرفي إلى بيتك،
ومرضت بالحصباء، فتخلف عثمان عن بدر لمرضها، فتوفيت يوم وقعة بدر، ودفنت يوم جاء [زيد بن حارثة] بشيرا بالفتح.
وقال قتادة: تزوج عثمان رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتوفيت عنده ولم تلد منه، وهذا وهم من قتادة لم يقله غيره، وكأنه أراد أم كلثوم، فإن عثمان تزوجها بعد رقية فتوفيت عنده ولم تلد منه، هذا قول جمهور أهل النسب.
[وفي رواية] عن سعيد بن المسيب قال: أيم عثمان من رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأيمت حفصة من زوجها، فمر عمر وعثمان رضي اللَّه عنهما فقال: هل لك في حفصة؟ - وكان عثمان قد سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يذكرها- فلم يجبه، فذكر ذلك عمر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: هل لك في خير من ذلك؟ أتزوج أنا حفصة، وأزوج عثمان خيرا منها، أم كلثوم.
وقد روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: لما ماتت رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [قال] : لا يدخل القبر رجل قارف [أهله الليلة] [ (2) ] ، فلم يدخل عثمان،
وهذا من أوهام حماد، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشهد دفن رقية، ولا كان
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، وأثبتناه من (سير أعلام النبلاء) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .(5/344)
ذلك القول منه فيها، وإنما كان ذلك القول منه في أم كلثوم [ (1) ] .
وفي البخاري من حديث هلال بن علي، عن أنس قال: شهدنا بنت النبي عليه السلام، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس على القبر، فرأيت عينيه [تدمعان] [ (2) ] ، [قال] [ (2) ] : فقال: هل فيكم [ (3) ] أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا، فقال:
انزل في قبرها [ (4) ] .
وهذا هو الصحيح في حديث أنس لا قول من ذكر فيه رقية.
__________
[ (1) ] لكن أخرج الحاكم في (المستدرك) : 4/ 51- 52 حديثين في ذكر رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الحديث الأول:
حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي اللَّه عنه قال: لما ماتت رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة، فلم يدخل عثمان القبر،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، حديث رقم (6851/ 2350) وسكت عنه الذهبي في (التلخيص) .
الحديث الثاني:
عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: شهدت دفن بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس على القبر، ورأيت عينيه تدمعان فقال: هل منكم رجل لم يقارف الليلة أهله؟ فقال أبو طلحة:
أنا يا رسول اللَّه، قال: فانزل في قبرها.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، حديث رقم (6853/ 2451) ، قال الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (3) ] وفيه: «هل منكم رجل» في الرواية الثانية، وفيها: «بلال بن علي» .
[ (4) ] (فتح الباري) : 3/ 194، كتاب الجنائز، باب (32)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنّته لقول اللَّه تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلكم راع ومسئول عن رعيته،
فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي اللَّه عنها: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وهو كقوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وما يرخص من البكاء من غير نواح،
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، وذلك أنه أول من سنّ القتل، حديث رقم (1285) .
قوله: «شهدنا بنتا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، هي أم كلثوم زوج عثمان، رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابيّ في (الذرية الطاهرة) ، وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، فسماها رقية. أخرجه البخاري في (التاريخ الأوسط) ، والحاكم في (المستدرك) ، قال البخاري: ما أدري ما هذا؟ فإن رقية ماتت والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ببدر لم يشهدها قال الحافظ ابن حجر:
وهم حماد في تسميتها فقط، ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد أيضا في ترجمة أم كلثوم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لم يقارف»
بقاف وفاء، زاد ابن المبارك عن فليح: «أراه يعني الذنب» ، وقيل:
معناه لم يجامع تلك الليلة، وبه جزم ابن حزم وقال: معاذ اللَّه أن يتبجح أبو طلحة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه لم يذنب تلك الليلة.(5/345)
وقال مروان بن محمد الأسدي، عن غزال بن خالد بن يزيد بن عثمان بن عطاء، عن أبيه عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما عزّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رقية امرأة عثمان قال:
الحمد للَّه دفن البنات من المكرمات [ (1) ]
ولا خلاف بين أهل السير أن عثمان إنما تخلف عن بدر على امرأته رقية بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وضرب له سهمه وأجره. وذكر عمر بن شيبة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث زيد بن حارثة إلى زينب بنته ليقدم بها عليه المدينة، فخرج بها حتى إذا كانت بسنح أدركها هبار بن الأسود في نفر من قريش، فنخس بها حتى صرعت، فانفكت رجلها، فبلغ عدي بن الربيع- حموها- أخا زوجها أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، فعرض له فرماه بسهم، فخرج السهم في سوأته وأثواه. وقال:
عجبت لهبار وأوباش قومه ... يريدون إخفاري ببنت محمد
ولست أبالي ما بقيت صحيحها ... إذا استجمعت يوما [ (2) ] يدي بالمهند
إذا أنا لم أمنع ظلامة كنتي ... فلا عشت إلا كالخليع المطرّد
ألم تر هبارا غداة تبايعت ... به النفس في رأي من الرأي مفنّد
مصارعي عن زينب حين رامهت ... على ذي سبب مدمج الحلق أجرد
نصبت له مني بقطع مقدم ... على أصفر جبان أسمر محضد
فسالت ثمود في دم ... على الخد أحيانا وصفح المقلد
قال: ولما نخس هبار بزينب جاء سفيان بن حرب، فأسند ظهره إلى الكعبة ثم قال: أبنت محمد؟.
__________
[ () ] وفي هذا الحديث جواز البكاء كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها لكونهم أقوى على ذلك من النساء. وحكى عن ابن حبيب أن السرّ في إيثار أبي طلحة على عثمان، أن عثمان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة، فتلطف صلّى اللَّه عليه وسلّم في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريح.
وفيه جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن، واستدل به على جواز البكاء بعد الموت، وفيه فضيلة لعثمان لإيثاره الصدق وإن كان عليه فيه غضاضة.
وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الجنائز، باب (71) من يدخل قبر المرأة، حديث رقم (1342) .
[ (1) ] (الاستيعاب) : 4/ 1843، عن عكرمة عن ابن عباس في ترجمة رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقم (3343) .
[ (2) ] في ابن هشام:
ولست أبالي ما حييت عديدهم ... وما استجمعت قبضا يدي بالمهنّد
وفيه: «كنانة بن الربيع» (سيرة ابن هشام) : 3/ 207- 208 باب شعر هند وكنانة في هجرة زينب.(5/346)
[أفي] [ (1) ] السلم أعيار [ (2) ] جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء الحوائض
ثم مضى، فأتت هند بنت عتبة بعده- ولا تعلم بموقفه- فأسندت ظهرها إلى الكعبة ثم قالت: أبنت محمد؟.
[أفي] السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك [ (3) ]
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي إسحاق الدوسيّ، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا لقيتم هبار بن الأسود ونافع ابن عبد قيس فحرقوهما بالنار، ثم إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال بعد ذلك: لا يعذب بها إلا اللَّه، ولكن إن لقيتموهما فاقتلوهما [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] الأعيار: الحمير.
[ (3) ] يقال: عركت المرأة، ودرست، وضحكت، وطمثت: حاضت، قال العوفيّ عن ابن عباس في قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] :
فَضَحِكَتْ أي حاضت.
[ (4) ] (الإحسان) : 12/ 425- 426 كتاب الحظر والإباحة، (1) فصل في التعذيب، ذكر الزجر عن أن يعذب أحد من المسلمين بعذاب اللَّه جلّ وعلا، حديث رقم (5611) ، (غوامض الأسماء المبهمة) : 1/ 119، (21) هبار بن الأسود ونافع بن عبد عمرو، (ابن هشام) : 3/ 208 فصل: الرسول يستبيح دم هبّار الّذي روّع ابنته زينب، (سنن الترمذي) : 4/ 117، كتاب السير، باب (20) بدون ترجمة، صفحة رقم (1571) وقال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، وقد ذكر محمد بن إسحاق بين سليمان بن يسار وبين أبي هريرة رجلا في هذا الحديث، وروى غير واحد مثل رواية الليث، وحديث الليث بن سعد أشبه وأصح، (فتح الباري) : 6/ 184، كتاب الجهاد والسير، باب (149) لا يعذب بعذاب اللَّه، حديث رقم (3016) ، قال الحافظ ابن حجر: وعاش هبار هذا إلى خلافة معاوية- وهو بفتح الهاء وتشديد الموحدة- ولم أقف لرفيقه على ذكر في الصحابة، فلعله مات قبل أن يسلم، وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه، واستحباب ذكر الدليل عند الحكم لرفع الالتباس، والاستتابة في الحدود ونحوها، وأن طول الزمان لا يرفع العقوبة عمن يستحقها، وفيه كراهة قتل مثل البرغوث بالنار، وفيه نسخ السنة بالسنة وهو اتفاق.
وفيه مشروعية توديع المسافر لأكابر بلده، وتوديع أصحابه أيضا، وفيه جواز نسخ الحكم قبل العمل به أو قبل التمكن من العمل به، وهو الاتفاق إلا عن بعض المعتزلة فيما حكاه أبو بكر بن العربيّ. (المرجع السابق) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 592، حديث رقم (8007) ، 3/ 7، حديث رقم (8256) ، 207، حديث رقم (9534) ، سنن الدارميّ: 2/ 222، باب في النهي عن التعذيب بعذاب اللَّه.(5/347)
وقال الزبير بن بكار: وهبار بن الأسود هو الّذي نخس بزينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في شقها، من كفار قريش، وكانت حاملا فأسقطت، فذكروا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث سرية وقال: إن لقيتم هبارا فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أحرقوه بالنار، ثم قال: لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا اللَّه، إن وجدتموه فاقتلوه.
ثم قدم هبار بعد ذلك مسلما مهاجرا، فاكتنفه ناس من المسلمين يسبونه، فقيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل لك في هبار يسبّ ولا يسبّ؟ وكان هبار في الجاهلية مسباقا، فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا هبار سبّ من يسبّك، فأقبل هبار عليهم فتفرقوا عنه،
قال: وقتل زمعة بن الأسود وأخوه عقيل بن الأسود يوم بدر كافرين، وكان هبار بن الأسود مع زمعة ذلك اليوم وابنه الحارث بن زمعة معه أيضا، فجعل زمعة يقول: جار إذا فزعني هبار [ (1) ] .
قال الزبير [بن بكار] : وكنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى، بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، الّذي خرج بزينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة، وكانت بدر في رمضان سنة ثنتين من الهجرة كما تقدم، وكان في شأنه علم من أعلام النبوة.
قال إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن فتية من الحبشة كانوا قد رأوا رقية وهي هناك مع زوجها عثمان بن عفان، ورأيت فيما يقال:
من أحسن البشر كانوا يختلفون إليها ينظرون إليها، ويدرقلون [ (2) ] إذا رأوها بخباء منها، حتى آذاها ذلك في أمرها وهم يبقون أن يؤذوا أحدا منهم لقربه ولما رأوا
__________
[ (1) ] ونحوه في (مغازي الواقدي) : 2/ 858- 859، (البداية والنهاية) : 3/ 400- 401، فصل في قدوم زينب بنت الرسول (ص) من مكة إلى المدينة، (دلائل البيهقي) : 3/ 154، 157، باب ما جاء في زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم امرأة أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى ابن عبد شمس، وهجرتها من مكة إلى أبيها بعد بدر.
[ (2) ] درقل القوم درقلة.. إذا مرّوا مرّا سريعا، ودرقل: رقص، قال محمد بن إسحاق: قدم فتية من الحبشة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدرقلون، أي يرقصون.. والدّرقلة: الرقص، والدّرقلة: لعبة للعجم معربة، مختصرا من (لسان العرب) : 11/ 244.(5/348)
من حسن جواره، فلما سار النجاشي إلى عدوه ذلك ساروا معه، فقتلهم اللَّه في المعركة لم يفلت منهم رجل واحد [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 51، كتاب معرفة الصحابة، ذكر رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (6850/ 2448) ، وقال في هامشه: سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .(5/349)
[أم كلثوم بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأم كلثوم- ويقال: اسمها آمنة- ولدت قبل فاطمة عليها السلام، وتزوجها معتب بن أبي لهب، فلم يبن بها حتى بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما بعث فارقها بأمر أبويه، ثم تزوجها عثمان رضي اللَّه عنه بعد موت أختها رقية في ربيع الأول، وبنى عليها في [جمادى الآخرة] من السنة الثالثة، وتوفيت عنده في شعبان سنة تسع، فغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وشهدت أم عطية غسلها، وقيل: بل أم عطية هي التي غسّلتها وغسّلت أختها زينب عليهم السلام،
وقيل: بل شهدت أم عطية غسل زينب، وحكت قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أغسلها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك ... الحديث.
وصلى عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونزل في حفرتها عليّ بن أبي طالب والفضل بن عباس وأسامة بن زيد رضي اللَّه عنهم.
وقد روى أن أبا طلحة الأنصاري استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينزل معهم في قبرها فأذن له [ (1) ] ، وبكى عثمان رضي اللَّه عنه فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما يبكيك؟ قال:
انقطاع صهرتي منك يا رسول اللَّه، فقال: كلا، إنه لا يقطع الصهر الموت، إنما يقطعه الطّلاق، ولو كانت عندنا ثالثة لزوجناك،
ولم تلد أم كلثوم لعثمان [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 4/ 1952، ترجمة رقم (4201) ، (الإصابة) : 8/ 288، ترجمة رقم (12222) .
[ (2) ] ونحوه ما
أخرجه الحاكم من حديث عقيل بن خالد، عن ابن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقي عثمان بن عفان وهو مغموم، فقال: ما شأنك يا عثمان؟ قال بأبي أنت يا رسول اللَّه وأمي، هل دخل على أحد من الناس ما دخل عليّ؟ توفيت بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رحمها اللَّه، وانقطع الصهر فيما بيني وبينك إلى آخر الأبد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتقول ذلك يا عثمان وهذا جبريل عليه السلام يأمرني عن أمر اللَّه عزّ وجلّ أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عدتها؟ فزوجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إياها. (المستدرك) : 4/ 54، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6860/ 2458) .(5/350)
[فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وقيل لها: الزهراء، كما قيل لزهرة بنت عمرو بن حنتر بن رويبة بن هلال أم خويلد بن أسد الزهراء، وزهرة هذه هي جدة خديجة أم فاطمة عليها وعلى أمها السلام، وسميت البتول أيضا لأنها منقطعة القرين، والبتل القطع، وتكنى أم أبيها، وذكر المطور عن ابن عباس أنها سميت [فاطمة لأن] اللَّه تعالى فطم محبّيها عن النار.
وكانت فاطمة وأم كلثوم أصغر بنات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفاطمة أصغرهما، ولدت سنة [إحدى وأربعين من] مولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: ولدت وقريش تبني الكعبة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن خمس وثلاثين، وقيل: ولدت قبل النبوة بخمس سنين، والأول أشبه بالصواب [ (1) ] ،
وخطبها أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أنا أنتظر بها القضاء، ثم خطبها عمر رضي اللَّه عنه فقال له مثل ذلك، فقيل لعلي رضي اللَّه عنه لو خطبت فاطمة، فقال: منعها أبو بكر وعمر، ولا أريد أن يمنعنيها،
فحمل على خطبتها فخطبها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في السنة الثانية من الهجرة في رمضان وبنى بها، وقيل: تزوجها في صفر، وقيل: في رجب [ (2) ] وفي (الطبقات) لابن سعد: أنه تزوجها بعد مقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة بخمسة أشهر وبني بها مرجعه من بدر، وهي يوم بنى بها عليّ بنت ثمان عشرة سنة، فباع بعيرا له ومتاعا، فبلغ ثمن ذلك أربعمائة وثمانين درهما، ويقال: أربعمائة درهم، فأمره أن يجعل ثلثها في الطيب وثلثها في المتاع ففعل [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (الإصابة) : 8/ 53، ترجمة رقم (11583) .
[ (2) ] قال ابن عبد البر: قال السراج: سمعت عبد اللَّه بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي يقول: ولدت فاطمة رضي اللَّه عنها سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنكح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاطمة عليّ ابن أبي طالب بعد وقعة أحد.
وقيل: أنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجه إياها بتسعة أشهر ونصف، وكان سنها يوم تزويجها: خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفا، وكانت سنّ على إحدى وعشرين سنة، وخمسة أشهر. (الاستيعاب) : 4/ 1893 ترجمة رقم (4057) .
[ (3) ] (طبقات ابن سعد) : 8/ 11.(5/351)
وقيل: أصدقها عليّ درعا من حديد وجرد برد- والجرد: الثوب الخلق- وقيل: تزوجها على إهاب شاة وسحق خبزه،
وكان علي رضي اللَّه عنه يقول: ما كان لنا إلا إهاب كبش ننام على ناحية منه، وتعجن فاطمة على ناحية، وإني لقد تزوجت فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وما لي فراش] غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار وما لي خادم غيرها.
وعن عكرمة، استحل على فاطمة ببدن من حديد،
وعن علي رضي اللَّه عنه قال: أردت أن أخطب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابنته، فقلت: واللَّه ما لي شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته فخطبتها إليه فقال: هل عندك من شيء؟ قلت: لا، قال:
فأين درعك [الحطيمة] [ (1) ] التي أعطيتك يوم كذا [وكذا] [ (1) ] ؟ فقلت: هي عندي، قال: [فأعطها] [ (1) ] إياه [ (2) ] ،
وكان نكاحها بعد وقعة أحد، وقيل: إنه تزوجها بعد أن بنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعائشة رضي اللَّه عنها بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجه إياها بتسعة أشهر ونصف وكان سنها يوم تزوجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفا، وسنّ عليّ يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر.
وجهّزها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخميل وقربة ووسادة من أدم محشوة بإذخر،
فقال عليّ لأمه فاطمة بنت أسد: اكفي بنت رسول اللَّه الخدمة خارجا: سقاية الماء والحاج، وتكفيك العمل في البيت: العجن والطحن [ (3) ] .
خرج الحاكم من حديث زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: جهز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاطمة عليها السلام في خميل وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (4) ] .
ويقال: أن سعدا عمل وليمة [فاطمة بكبش] ، وآصع من ذرة أربعة أو خمسة، وولدت لعلي الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب، ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الإصابة) ، والحطمية التي تحطم السيوف أي تكسرها، وقيل: هي منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال لهم حطمة بن محارب كانوا يعملون الدروع (النهاية) .
[ (2) ] (الإصابة) : 8/ 54- 55، ثم قال: وله شاهد عند أبي داود من حديث ابن عباس.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 4/ 1893- 1894، ترجمة رقم (4057) .
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 202، كتاب النكاح، حديث رقم 2755/ 84، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (الإصابة) : 8/ 58.(5/352)
واختلف في وفاتها، فقيل: بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بستة أشهر، وقيل بثلاثة أشهر، وقيل بثمانية أشهر، وقيل: بسبعين يوما، وقيل: بخمس وسبعين ليلة، وقيل: بستة أشهر إلا ليلتين، وذلك يوم الثلاثاء [لليلات] خلت من رمضان سنة إحدى عشرة [ (1) ] .
ولما حضرتها الوفاة أمرت عليا فوضع لها غسلا فاغتسلت وتطهرت، ثم دعت بثياب أكفانها، فأتيت بثياب غلاظ خشنة فلبستها ومسّت من الحنوط، ثم أمرت عليا ألا يكشف عنها إذا قبضت، وأن تدفن كما هي في ثيابها ففعل.
وغسلتها أسماء بنت [عميس] وعليّ معا، وصلى عليها عليّ، وقيل: بل صلى عليها العباس رضي اللَّه عنه، وكبّر أربعا، ونزل هو وعلى في قبرها، ودفنت ليلا في دارها التي أدخلها عمر بن عبد العزيز في المسجد، ولم يعلم بها كثير من الناس [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) : 4/ 1894.
[ (2) ] (الإصابة) : 8/ 57- 58.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، في إسناده ابن إسحاق، وقد كذبه مالك، وهشام ابن عروة، وفيه علي بن عاصم، قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب، وكان أحمد يسيء الرأي فيه، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي متروك الحديث.
قال ابن الجوزي: وكيف يكون صحيحا؟ والغسل إنما شرع بحدث الموت فكيف يقع قبله؟
ولو قدرنا خفي هذا عن فاطمة ... فكان يخفى على عليّ، ثم إن أحمد والشافعيّ يحتجان في جواز غسل الرجل زوجته أن عليا غسّل فاطمة عليها السلام. (العلل المتناهية) : 1/ 261- 262، حديث في أنها غسّلت نفسها وماتت.
وقال أيضا: وهذا حديث لا يصح. أما محمد بن إسحاق فمجروح، شهد بأنه كذاب مالك، وسليمان التميمي، ووهب بن خالد، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد. وقال ابن المديني: يحدث عن المجهولين بأحاديث باطلة، وأما عاصم فقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وأما نوح بن يزيد والحكم فكلاهما متشيّع. وأما ابن عقيل فحديثه مرسل، ثم هو ضعيف جدا، قال ابن حبان: كان رديء الحفظ يحدث عن التوهم فيجيء بالخبر على غير سنته، فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها ...
هذا لا يصح إضافته إلى عليّ وفاطمة رضي اللَّه عنهما، بل يتنزهون عن مثل هذا. مختصرا من (الموضوعات لابن الجوزي) : 3/ 277، باب ما روى أن فاطمة عليها السلام غسلت بغسلها بعد الموت ولم تغسل قبل الموت.(5/353)
وقد ذكر عمر بن شيبة عدة أقوال في قبرها، ولم يتحصل منها معرفة موضعه [ (1) ] ، وكان لها يوم توفيت تسع وعشرون سنة، ويقال إحدى وثلاثون سنة وأشهر، و [كانت] أشبه الناس كلاما وحديثا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت إذا دخلت عليه قام لها فقبلها ورحب بها كما كانت هي تصنع به [ (2) ] ، وفضائل فاطمة عليها السلام كثيرة.
__________
[ (1) ] لكن قال الحافظ ابن حجر: وقال الواقدي: قلت لعبد الرحمن بن أبي الموالي: إن الناس يقولون:
إن قبر فاطمة بالبقيع، فقال: ما دفنت إلا في زاوية في دار عقيل، وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع. (الإصابة) : 8/ 60.
[ (2) ] عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت:
ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها، ورحّب بها، وكذلك كانت هي تصنع به. قال الذهبي: ميسرة صدوق. وأخرجه أبو داود في (السنن) ، في كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام، حديث رقم (5217) ، والترمذي في (الجامع الصحيح) ، في كتاب المناقب، باب مناقب فاطمة بنت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3871) ، والحاكم في (المستدرك) : 3/ 167، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4732/ 330) وقال في آخره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : بل صحيح.(5/354)
[فصل في ذكر أبناء بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
اعلم أن أبناء بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعة: واحد من زينب، وواحد من رقية، واثنان من فاطمة، عليهنّ السلام جميعا.
فأما ابن زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنه علي بن أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، كان مسترضعا في بني غاضرة، فافتصله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبوه يومئذ مشرك،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: من شاركني في شيء فأنا أحق به منه،
وأردفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الفتح على راحلته، وقد توفي وقد ناهز الاحتلام [ (1) ] .
وأما الّذي من رقية، فعبد اللَّه بن عثمان بن عفان، به كان يكنى عثمان رضي اللَّه عنه، بعد ما كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، وتوفي وقد ناهز الاحتلام وهو ابن ست سنين، ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبره، وذلك سنة أربع من الهجرة [ (2) ] ، ويقال: نقره ديك فمرض من ذلك ومات،
ويروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضعه في حجره ودمعت عينه وقال: إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء، وصلى عليه،
ونزل عثمان في حفرته [ (3) ] .
__________
[ (1) ] وقال ابن عساكر: ذهب بعض أهل العلم بالنسب أنه قتل يوم اليرموك، (الإصابة) : 4/ 571، ترجمة رقم (5694) ، (الاستيعاب) : 3/ 1134، ترجمة رقم (1857) ، وذكر الحديث كاملا فقال: من شاركني في شيء فأنا أحق به منه، وأيما كافر شارك مسلما في شيء فالمسلم أحق به منه.
[ (2) ] وقال أبو سعيد النيسابورىّ في كتاب (شرف المصطفى) : ذكروا أن عبد اللَّه بن عثمان مات قبل أمه بسنة، قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) : فعلى هذا يكون مات في السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة، وقال مصعب الزبيري: لما هاجر عثمان ومعه رقية إلى أرض الحبشة، ولدت له هناك غلاما سماه عبد اللَّه وكني به، وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو. (الإصابة) : 5/ 20، ترجمة رقم (6189 ز) ، وأخرج أبو نعيم من طريق حجاج بن أبي منيع، عن جده، عن الزهري نحوه. (المرجع السابق) .
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 265، حديث رقم (21269) ، (السنن الكبرى للبيهقي) : 4/ 65، كتاب الجنائز، باب الرغبة في أن يتعزى بما أمر اللَّه تعالى به من الصبر والاسترجاع، وقال في آخره تعليقا:
رواه البخاري في (الصحيح) عن عبدان، وأخرجه مسلم من أوجه عن عاصم، (سنن ابن ماجة) :
1/ 506، كتاب الجنائز، باب (53) ما جاء في البكاء على الميت، حديث رقم (1588) ، (كنز العمال) : 3/ 162، باب الرحمة بالضعفاء والأطفال والشيوخ والأرامل والمساكين وغيرهم، حديث رقم (5967) ، وعزاه إلى الطبراني عن جرير.(5/355)
وأما ابنا فاطمة فحسن وحسين عليهما السلام وعلى أمهما وأبيهما، [ف] الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد، سيد شباب أهل الجنة، ولدته فاطمة عليها السلام في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة على الصحيح [ (1) ] ، وعقّ عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكبش، وأذّن صلّى اللَّه عليه وسلّم في أذنه.
خرج الحاكم من حديث عبد اللَّه بن أبي رافع، قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة [ (2) ] ، رواه أبو داود [ (3) ] والترمذي وقال: حديث صحيح [ (4) ] .
__________
[ (1) ] قال الحافظ ابن حجر: ولد في نصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، قاله ابن سعد، وابن البرقي، وغير واحد. وقيل: في شعبان منها، وقيل: ولد سنة أربع، وقيل سنة خمس، والأول أثبت.
(الإصابة) : 2/ 68، ترجمة رقم (1721) .
وقال ابن عبد البر: ولد في النصف الأول من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة. وهذا أصح ما قيل في ذلك إن شاء اللَّه تعالى، وعقّ عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم سابعه بكبش، وحلق رأسه، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة (الاستيعاب) : 1/ 383- 384، باب الأفراد في الحاء، ترجمة رقم (555) .
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 197، كتاب معرفة الصحابة، باب ومن مناقب الحسن والحسين ابني بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4827/ 425) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، لكن قال الذهبي في (التلخيص) : عاصم بن عبد اللَّه ضعّف، ورقم (4828/ 426) وهو
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة، وأعطي القابلة رجل العقيقة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، لكن قال الذهبي في (التلخيص) : لا. يعني ليس بصحيح كما قال الحاكم.
قال محققه: هذا الحديثان اللذان رواهما أبو عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) كانا في شأن الحسين رضي اللَّه تعالى عنه، ولعل هذا حدث لكل منهما إن صحت الرواية في ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
[ (3) ] (صحيح سنن أبي داود) : 3/ 961، باب (116) في الصبي يولد فيؤذن في أذنه.
[ (4) ] (سنن الترمذي) : 4/ 82، كتاب الأضاحي، باب (17) الأذان في أذن المولود، حديث رقم (1514) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، (جامع الأصول) : 1/ 383- 384، حديث رقم (176) ، وقال في آخره: زاد رزين في كتابه: قرأ في أذنه سورة الإخلاص وحنكه بتمرة.
ولم أجد هذه الزيادة في الأصول، (شعب الإيمان) : 6/ 389، الباب الستون من شعب الإيمان وهو باب في حقوق الأولاد والأهلين، حديث رقم (8617) ، كلاهما عن عبد اللَّه بن أبي رافع.
قال الحافظ البيهقي: فكل من ولد له من المسلمين ذكر أو أنثى فعليه أن يحمد اللَّه جلّ ثناؤه على أن أخرج من صلبه نسمة مثله، تدعى له، وتنسب إليه، فيعبد اللَّه لعبادته، ويكثر به في الأرض أهل طاعته، ثم يؤمر به حدثان مولده بعدة أشياء:
أولها: أن يؤذن في أذنيه حين يولد، وذلك بأن يؤذن في أذنه اليمنى ويقيم في أذنه اليسرى.
الثانية: أن يحنكه بتمر، فإن لم يجد فبحلو يشبهه، وينبغي أن يتولى ذلك منه من برجى خيره وبركته.
والثالثة: أن يعق عنه.(5/356)
وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقّ عن الحسن والحسين كبشا، ذكره أبو داود، وذكر جرير بن حازم عن قتادة عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقّ عن الحسن والحسين كبشين [ (1) ] .
وذكر يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قال: عقّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الحسن والحسين يوم السابع، وحلق رأسه، وأمر أن يتصدّق بزنته فضة، فوزن شعر أحد الحسنين فوجده ثلثي درهم، وكان قد سماه علي رضي اللَّه عنه حربا، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حسنا [ (2) ] .
قال ابن الأعرابي، عن المفضل الضبي، أن اللَّه حجب اسم الحسن والحسين حتى سمي بهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ابنيه الحسن والحسين، قال ابن الأعرابي: فقلت له:
فالذين باليمن؟ قال: [] [ (3) ] حسن وحسين، ولا يعرف قبلهما إلا اسم [] [ (3) ] بلاد بني عندها قبل بسطام بن قيس الشيبانيّ، قال ابن غنم:
__________
[ () ] والرابعة: أن يحلق عقيقته وهو شعر رأسه الّذي ولد به.
والخامسة: أن يسميه. (المرجع السابق) .
وقال الإمام ابن القيم: وسرّ التأذين- واللَّه أعلم- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقنه كلمة التوحيد عند خروجه منها.
وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره وإن لم يشعر، مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها اللَّه وشاءها، فيسمع شيطانه ما يصفعه ويغيظه أول أوقات تعلقه به.
وفي معنى آخر، وهو أن تكون دعوته إلى اللَّه وإلى دينه الإسلام، وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها، ولغير ذلك من الحكم. (تحفة المودود بأحكام المولود) : ص 16 وما بعدها.
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 261، كتاب الأضاحي، باب (21) في العقيقة، حديث رقم (2841) ، وأخرجه النسائي في العقيقة، باب كم يعق عن الجارية، حديث رقم (4225) بلفظ:
عق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما بكبشين كبشين. قاله الخطابي في (معالم السنن) : 3/ 262.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 7/ 186، كتاب العقيقة، باب (4) كم يعق عن الجارية؟ حديث رقم (4230) مختصرا بسند آخر، ونحوه في (المستدرك) : 3/ 183، حديث رقم (4783/ 381) ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (الاستيعاب) : 1/ 384، ترجمة رقم (555) ، (مسند أحمد) : 7/ 539، حديث رقم (26655) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) : ولم أجد له توجيها، ولم أجد لهذا الأثر مرجعا.(5/357)
غداة أضر بالحسن السبيل
قال كاتبه: حسن: بفتح الحاء المهملة وسكون السين، وحسين: بفتح الحاء وكسر السين، هما ابنا عمر بن الغوث بن طيِّئ وفي (طبقات ابن سعد) ، عن عمران بن سليمان قال: الحسن والحسين [اسمان] من أسماء أهل الجنة لم يكونا في الجاهلية، ولما قتل أبوه عليّ سنة أربعين، بايعه أكثر من أربعين ألفا كلهم قد بايع عليا قبل موته على الموت ليشتدّ بهم إلى حرب معاوية، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه منهم في أبيه، فبلغ الحسن مسير معاوية إليه في أهل الشام، فتجهز هو وذلك الجيش وسار عن الكوفة إلى لقائه، وجعل قيس بن سعد ابن عبادة الأنصاري على مقدمته في اثنى عشر ألفا [ (1) ] .
فلما نزل المدائن نادى مناد في العسكر، ألا إن قيس بن سعد قتل فانفروا، فثاروا ونهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطا تحته، فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا، وكتب إلى معاوية أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط ألا يطلب أحدا من أهل الحجاز والمدينة والعراق بشيء كان في أيام أبيه، وكاد معاوية يطير فرحا، وبعث إليه برق أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه، فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر بعده وأن يعطيه ما في بيت مال الكوفة- وهو خمسة آلاف ألف-
__________
[ (1) ] وقيل: بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد اللَّه بن عباس، (الكامل لابن الأثير) : 3/ 404، ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية ضمن حوادث سنة إحدى وأربعين.
وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة أبو الفضل، وقيل: أبو عبد اللَّه، وقيل: أبو عبد الملك الأنصاري الخزرجي الساعدي.
أمه فكيهة بنت عبيد بن دليم بن حارثة الخزرجية، توفي سنة (59) ، وقيل: سنة (60) ، كان من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة في الحرب، مع النجدة والشجاعة، وكان شريف قومه غير مدافع، ومن بيت سادتهم. له ترجمة في: (أسماء الصحابة الرواة) : 133- 134، ترجمة رقم (139) ، (الإصابة) : 5/ 473، ترجمة رقم (7182) ، (الثقات) : 3/ 339، (تهذيب التهذيب) : 8/ 353، ترجمة رقم (702) ، (الاستيعاب) : 3/ 1289، ترجمة رقم (2134) ، (تلقيح فهوم أهل الأثر) :
368، (طبقات ابن سعد) : 6/ 52، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 102، ترجمة رقم (21) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 61، (تاريخ بغداد) : 1/ 177، ترجمة رقم (17) ، (البداية والنهاية) : 8/ 107، (التاريخ الكبير) : 7/ 141، 154، (صفة الصفوة) : 1/ 363، ترجمة رقم (106) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 52- 53.(5/358)
وخراج دارابجرد [ (1) ] من فارس، وألا يشتم عليّ وهو يسمع، فالتزم شروطه كلها [ (2) ] ، وحقق اللَّه بذلك
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحسن: إن ابني هذا سيد، وعسى اللَّه أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [ (3) ] ، ثم قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق! إنه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي [ (4) ] .
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول، وقيل من ربيع الآخر، وقيل من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وكانت خلافة الحسن خمسة أشهر ونصف، وقيل: ستة أشهر، ودخل معاوية الكوفة فقال له عمرو بن العاص: لتأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عيه،
فخطب معاوية الناس، ثم أمر الحسن أن يخطبهم، فقام فحمد اللَّه بديهة ثم قال:
__________
[ (1) ] دارابجرد: بعد الألف الثانية باء موحدة ثم جيم ثم راء ودال مهملة: ولاية بفارس، ينسب إليها كثير من العلماء، منهم: أبو علي الحسن بن يوسف الدارابجردي الخطيب، ودارابجرد: قرية من كورة إصطخر، وبها معدن الزئبق، ودارابجرد أيضا موضع بنيسابور، ينسب إليه أبو الحسن علي بن الحسين ابن موسى بن ميسرة الدارابجردي، ويقال دارابجرد. (معجم البلدان) : 2/ 478، موضع رقم (4549) ، وقال في هامشه: دارابجرد: كورة بفارس نفيسة، عمّرها داراب بن فارس، قال الإصطخري: بها كهف الموميا، وقال أيضا: بناحية دارابجرد جبال من الملح الأبيض، والأصفر، والأحمر والأسود، ينحت منها الموائد والصحون، والغضائر وغيرها من الظروف، وتهدى إلى سائر البلاد، وبها معدن الزئبق. (هامش المرجع السابق) ، نقلا عن (آثار البلاد) : 188.
[ (2) ] قال ابن الأثير وكأن الّذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، ومبلغه خمسة آلاف ألف، وخراج دارابجرد من فارس، وألا يشتم عليا، فلم يجبه إلى الكفّ عن شتم عليّ، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك، ثم لم يف له به أيضا، وأما خراج دارابجرد، فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه أحدا، وكان منعهم بأمر معاوية. (الكامل في التاريخ) :
3/ 405، ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 6/ 37، حديث رقم (19994) ، 6/ 27، حديث رقم (19935) ، 6/ 18، حديث رقم (1978) ، (المطالب العالية) : 4/ 73، حديث رقم (4000) ، قال الحافظ: هو في صحيح البخاري من وجه آخر عن الحسن عن أبي بكرة.. وأخرجه البزار برجال الصحيح من حديث جابر رضي اللَّه عنه. ر: (مجمع الزوائد) : 9/ 178.
[ (4) ] (تاريخ الطبري) : 5/ 159، ذكر بيعة الحسن بن عليّ، (الكامل في التاريخ) : 3/ 405.(5/359)
أيها الناس، إن اللَّه هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، وإن الدنيا دول، وإن اللَّه عز وجل قال لنبيه: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [ (1) ] ، وأشار إلى معاوية، فقال له معاوية: اجلس وحقدها علي عمرو وقال: هذا من رأيك [ (2) ] .
ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته، وحثهم فجعل الناس يبكون عند سيرهم، وقيل للحسن: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد [أبدا] [ (3) ] إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أمورا [عظاما] [ (3) ] ، فليت شعري، لمن يصلحون [بعدي] [ (3) ] وهي أسرع البلاد خرابا.
وعرض له رجل في مسيره عن الكوفة فقال له: يا مسعود وجوه المؤمنين، فقال: لا تعد لي، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرى بنو أمية ينزون على منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك، فأنزل اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (4) ] ، وهو نهر في الجنة، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ] خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ (5) ] تملكها بعدك بنو أمية [ (6) ] ،
ولم يف معاوية للحسن بشيء ما شرط.
[وقالت] [ (7) ] طائفة للحسن [ (8) ] : يا عار المؤمنين، فقال: العار خير من النار [ (9) ] ،
وقال له أبو عامر سفيان بن ليلى: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال له: لا تقل يا أبا عامر، فإنّي لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك [ (10) ] .
__________
[ (1) ] الأنبياء: 111.
[ (2) ] (الكامل) : 3/ 407.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] الكوثر: 1.
[ (5) ] القدر: 1- 3.
[ (6) ] (الكامل) : 3/ 407.
[ (7) ] زيادة للسياق.
[ (8) ] هم أصحاب الحسن.
[ (9) ] (الإصابة) : 2/ 72، ترجمة رقم (1721) ، (الاستيعاب) : 1/ 386، ترجمة رقم: (555) .
[ (10) ] (الاستيعاب) : 1/ 387.(5/360)
ومات الحسن بالمدينة في ربيع الأول سنة خمس، وقيل: في سنة تسع وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين [ (1) ] ، ودفن بالبقيع، واتهمت زوجته جعدة بنت الأحنف ابن قيس الكندي أنها سمته بتدسيس معاوية [ (2) ] ، حتى بايع لابنه يزيد، وكان سنة يوم مات ستا وأربعين سنة، وقيل: سبعا وأربعين سنة.
وكان أشبههم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأحبهم إليه، وكان رحيما ورعا فاضلا، دعي ورعه وفضله إلى ترك ملك الدنيا رغبة فيما عند اللَّه، ورأى ذلك خيرا من إراقة الدماء في طلبها، وإن كان عند نفسه أحق بها من معاوية [ (3) ] ،
وقال: واللَّه ما أحببت منذ علمت ما ينفعني ويضرني أنا إلى أمر أمة محمد، على أن يهراق في ذلك محجمة [ (4) ] دم.
وحفظ الحسن عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث ورواها عنه [ (5) ] ، ولم يتكلم بفحش قط، وحج خمس عشرة حجة ماشيا، وخرج من ماله مرتين، وقاسم اللَّه ماله ثلاث مرات، حتى إن كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفّا ويمسك خفّا، وفضائله كثيرة، وكان له من الولد: الحسن بن الحسن، وفيه العدد والبيت [ (6) ] ، وزيد، وله عقب كثير [ (7) ] ، وعمرو، والحسين، والقاسم، وأبو بكر، وطلحة [ (8) ] ، وعبد الرحمن، وعبد اللَّه، ومحمد، وجعفر، وحمزة، لا
__________
[ (1) ] قال ابن عبد البر: كانت سنه يوم مات ستا وأربعين سنة، وقيل: سبعا وأربعين. (المرجع السابق) : 389.
[ (2) ] في هوامش (الاستيعاب) : نسبة السم إلى معاوية غير صحيحة، لما ينقل في (تاريخ ابن خلدون) :
إن ما ينقل من أن معاوية دسّ السم مع زوجته جعدة بنت الأحنف فهو من أحاديث الشيعة، وحاشا لمعاوية ذلك.
[ (3) ] (الاستيعاب) : 1/ 387.
[ (4) ] المحجمة: قدر ما يسيل من الدم أثناء الحجامة.
[ (5) ] ذكره ابن حزم في (أسماء الصحابة الرواة) : 143- 144، ترجمة رقم (156) في أصحاب الثلاثة عشر حديثا رضي اللَّه تعالى عنهم، (تلقيح فهوم أهل الأثر) : 369،
قال أبو عمر رضي اللَّه عنه: حفظ الحسن بن علي عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحاديث ورواها عنه، منها: حديث الدعاء في القنوت، ومنها: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة. (الاستيعاب) : 391.
[ (6) ] أمه خولة بنت منظور بن زبّان الفزارية.
[ (7) ] أمه أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري البدريّ.
[ (8) ] أمه أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللَّه.(5/361)
عقب لواحد من هؤلاء [ (1) ] .
__________
[ (1) ] إلا أن عمرا كان له ولد فقيه محدّث مشهور، واسمه محمد بن عمرو، انقرض عقبه، فأما عبد اللَّه والقاسم وأبو بكر، فإنّهم قتلوا مع عمهم الحسين، رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين، (جمهرة أنساب العرب) : 38- 39.(5/362)
[الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما]
والحسين بن علي أبو عبد اللَّه سيد شباب أهل الجنة، ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع، وقيل: علقت به فاطمة عليها السلام بعد مولد الحسن رضي اللَّه عنه بخمسين ليلة [ (1) ] ، وقيل: لم يكن بينهما إلا طهر واحد [ (2) ] ، وقيل: ولد بعد الحسن بسنة وعشرة أشهر لخمس سنين وستة أشهر من التاريخ، وعقّ عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما عق عن أخيه [ (3) ] ، وسماه حسينا، وكان علي سماه حربا كما سمى أخاه،
ويروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو يرقص الحسين: خبقه خبقة ترون عين بقّه،
خبقة بخاء معجمة، ويروى بحاء مهملة، وقال ابن دريد: هو بالخاء والحاء، إذا صغر إلى نفسه، وقال ابن قتيبة: شبهه في صغره بعين بقة [ (4) ] .
فلما مات معاوية بن أبي سفيان وقام بالخلافة بعده ابنه يزيد بن معاوية وكان معاوية قد أراد الحسين على بيعة يزيد فأبى ذلك، وأخذ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامل معاوية على المدينة الحسين بالبيعة ليزيد بعد موت معاوية، فسار عنها إلى مكة هو وعبد اللَّه بن الزبير في جماعة.
فبلغ ذلك أهل الكوفة، فكتبوا إلى الحسين يستدعونه نحوا من مائة وخمسين كتابا، فبعث إليهم بكتابه مع مسلمة بن عقيل بن أبي طالب فدخلوا الكوفة واجتمع إليه الشيعة، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فولى عبد اللَّه بن زياد بن أبيه الكوفة، وجمع له معها البصرة، وأمره بطلب مسلمة بن عقيل وقتله أو نفيه.
وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم، فضرب عبيد اللَّه بن زياد عنق رسوله، ثم ركب من البصرة ودخل الكوفة وقد بايع مسلم بن عقيل ثمانية
__________
[ (1) ] وهذا قول الواقدي.
[ (2) ] وهذه رواية جعفر بن محمد عن أبيه.
[ (3) ] وهذا قول قتادة. (الاستيعاب) : 1/ 392- 394، ترجمة رقم (556) ، (الإصابة) : 2/ 76، ترجمة رقم (1726) .
[ (4) ] (لسان العرب) : 10/ 24- 25، وفيه: ورقّصت امرأة طفلها فقالت: حزقّة حزقّه، ترقّ عين بقّه، قيل: بقّه اسم حصن، أرادت اصعد عين بقه أي اعلها، وقيل: إنها شبّهت طفلها بالبقة لصغر جثّته.(5/363)
عشر ألفا، فركب بهم وحاصر عبيد اللَّه فلم يثبتوا وتفرقوا عنه حتى فرّ، فأخذ بعد خطوب وحروب وقتل.
وكان قد كتب إلى الحسين بمن بايعه، فخرج من مكة يريد الكوفة يوم الرّوية، فأتاه الخبر بقتل مسلم، فعلم أن أهل الكوفة قد خذلوه، فقام فيمن معه وأعلمهم ذلك فتفرقوا عنه، وبقي معه أهله، وسار فلقيه الحرّ بن يزيد التميمي في ألف فارس، قد بعث به عبيد اللَّه بن زياد، فواقفوه حتى يأخذوه ويأتوا به الكوفة على حكم عبيد اللَّه بن زياد، فامتنع من ذلك، وأراد أن يرجع من حيث أتى فمنعوه ثم ساروا به حتى أنزلوه على غير ماء بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء- قرب الطف- في يوم الخميس ثاني محرم سنة إحدى وستين.
فقدم من الغد عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، وحال بين الحسين وبين الماء ثلاثة أيام، وأصحابه يقاتلون مع الحسين ليصدونهم عن الماء، ثم قدم شموس ذو الجوش على عمر بن سعد بمناجزة الحسين، فنهض شموس في عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، وركب عمر بن سعد ليأخذوا الحسين ويأتوا به عبيد اللَّه ابن زياد، فامتنع، وأصبحوا يوم السبت- وقيل: يوم عاشوراء [ (1) ] ومع الحسين اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا.
فقاتلوا حتى قتل عليه السلام، وقد اشتد به العطش، وحزت رأسه، وانتهب متاعه، فوجد به ثلاثة وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة [ (2) ] ، ثم طرحت جثته ووطئها الفرسان بخيولها حتى رضوا ظهره وصدره، وقيل معه اثنان وسبعون رجلا، منهم سبعة عشر من ولد فاطمة عليها السلام، وقتل ثلاثة وعشرون.
وحملت رأسه إلى عبيد اللَّه بن زياد، وكان قتله إحدى مصائب الإسلام، وكان فاضلا دينا كثير الصوم والصلاة والحج، حج خمسا وعشرين حجة ماشيا [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] قال ابن حجر: قال الزبير بن بكار: قتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وكذا قال الجمهور، وشذّ من قال غير ذلك. (الإصابة) : 2/ 81 ترجمة الحسين بن علي رقم (1726) .
[ (2) ] (الكامل في التاريخ) : 4/ 78- 79.
[ (3) ] قاله مصعب الزبيري، (الاستيعاب) : 1/ 397، ترجمة رقم (556) .(5/364)
وقتل وسنه سبع وخمسون سنة، وقيل ثمان وخمسون سنة، وقيل: أربع وخمسون سنة وستة أشهر [ (1) ] ، وله من الولد على الأكبر، وقتل بالطف [ (2) ] ولا عقب له.
وعلي الأصغر وجعفر لا عقب له، وعبد اللَّه قتل صغيرا بالطف [ (2) ] ولا عقب له، فجميع من ينسب إلى الحسين عليه السلام إنما هم من ولد علي بن الحسين، ولا عقب له من أحد سواه [ (3) ] ، وكان [للحسنين] من أمهما فاطمة أخ يقال له:
محسّن، مات وهو صغير [ (4) ] .
__________
[ (1) ] قال قتادة: قتل الحسين وهو ابن أربع وخمسين سنة وستة أشهر، وذكر المازني، عن الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، قال: قال لي جعفر بن محمد: توفي عليّ بن أبي طالب، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين بن علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي عليّ بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي محمد بن علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة. (الاستيعاب) : 1/ 3974، ترجمة رقم (556) .
[ (2) ] الطّفّ: بالفتح والفاء مشدّدة، وهو في اللغة ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق. والطّفّ:
أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها كان مقتل الحسين بن عليّ رضي اللَّه عنه، وهي أرض بادية قريبة من الريف، فيها عدة عيون ماء جارية، وهناك الموضع المعروف بكربلاء، الّذي قتل فيه الحسين بن علي رضي اللَّه عنه، وبالطفّ كان قصر أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، وفيه مات رحمه اللَّه سنة (93 هـ) ، وهو ابن مائة عام وثلاثة أعوام. (معجم البلدان) : 4/ 40- 41، موضع رقم (7939) ، (معجم ما استعجم) : 3/ 891.
[ (3) ] قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي: ولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما بنين، قتل بعضهم معه، ومات سائرهم في حياته، ولم يعقب له ولد غير عليّ بن الحسين وحده. (جمهرة أنساب العرب) : 52.
[ (4) ] قال صاحب (المرجع السابق) : 38، ذكر ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه من فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعقب هؤلاء كلهم حاشا المحسّن، فلا عقب له، مات صغيرا جدا إثر ولادته.(5/365)
[فصل في ذكر بنات بنات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم]
اعلم أن بنات بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث: واحدة من زينب، واثنتان من فاطمة، فأما التي من زينب فإنّها أمامة بنت أبي العاص لقيط بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ولدت على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يحبها ويحملها على عاتقه وهو في الصلاة، ويضعها إذا سجد [ (1) ] .
روى ابن جريج عن ابن أبي عتاب، عن عمرو بن سليم، كانت تلك الصلاة صلاة الصبح،
وروى ابن إسحاق عن المقبري عن عمرو بن سليم فقال فيه: في إحدى صلاتي العشي- الظهر أو العصر- وأهدى لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قلادة من جزع متمغة بالذهب ونساؤه مجتمعات في بيت كلهن، وأمامة هذه جارية تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال لنسائه: كيف ترون هذه؟ فأخذن القلادة فنظرن إليها وقلن:
يا رسول اللَّه! ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب، فقال: ارددنها إليّ، فلما أخذها قال: واللَّه لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إليّ،
قالت عائشة: فأظلمت الأرض بيني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن، ولا أراهن إلا وقد أصابهن ما أصابني، [ووجمن] جميعا سكونا، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص، فسرى عني [ (2) ] .
وأوصى أبو العاص بابنته أمامة إلى الزبير بن العوام وبتركته، فزوجها الزبير
__________
[ (1) ] قال الزبير في كتاب (النسب) : كانت زينب تحت أبي العاص، فولدت له أمامة وعليا، وثبت ذكرها في الصحيحين من حديث أبي قتادة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحمل أمامة بنت زينب على عاتقه فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. أخرجاه من رواية مالك، عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير. (الإصابة) :
9/ 502، ترجمة رقم (10822) .
وأخرجه ابن سعد من رواية الليث، عن سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم أنه سمع أبا قتادة يقول: بينا نحن على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ خرج يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي صبية، فصلى وهي على عاتقه، إذا قام، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها. (طبقات ابن سعد) : 8/ 168.
[ (2) ] (الإصابة) : 7/ 502، ترجمة رقم (10822) ، (الاستيعاب) : 4/ 1789، ترجمة رقم (3236) .(5/366)
على بن أبي طالب بعد فاطمة رضي اللَّه عنهم، وأوصته بذلك فاطمة، فولدت له محمدا الأوسط.
وقال الزبير بن بكار: لم تلد له، وقتل علي وأمامة عنده، فقالت أم الهيثم النخعية [ (1) ] :
أشاب ذؤابتي وأذلّ ركني ... أمامة يوم فارقت القرينا
تطيف به [ (2) ] لحاجتها إليه [ (2) ] ... فلما استيأست رفعت رنينا
وكان علي رضي اللَّه عنه قال لها: تزوجي، فإن أردت التزويج فلا تخرجي من رأي المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب،
فحملها عمها عبد الرحمن ابن محرز بن حارثة بن ربيعة من الكوفة إلى المدينة، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره أن يخطبها عليه، ففعل فجاءت إلى المغيرة بن نوفل تستأمره، فقال:
أنا خير لك منه، فاجعلي أمرك إليّ، وأشهد عليها برضاها بكل ما صنع.
فلما استوثق دعا رجلا وقال: تزوجتها وأصدقتها أربعمائة دينار، فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكتب إليه: هي أملك بنفسها فدعها وما اختارت، وأسرها للمغيرة في نفسه، ثم بعثه إلى الصفراء [ (3) ] فمات بها.
وقد ولدت له أمامة يحيى بن المغيرة، وبه كان يكنى، وماتت أمامة، وقال الزبير: ولم تلد له، فليس لزينب عقب [ (4) ] ، وأما اللتان من فاطمة رضي اللَّه عنها
__________
[ (1) ] من المرجعين السابقين.
[ (2) ] في (خ) : «بها» ، «إليها» ، وصوبناهما من المرجعين السابقين.
[ (3) ] الصّفراء: بلفظ تأنيث الأصفر من الألوان، وادي الصفراء: من ناحية المدينة، وهو واد كثير النخل والزرع والخير في طريق الحاج، وسلكه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غير مرة، وبينه وبين بدر مرحلة.
ومن حديث أبي سلمة: عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة بدر الأخيرة، حتى إذا كنا بالأثيل عند الصفراء بين ظهراني الأراك، قال لي: تعالي حتى أسابقك. (معجم البلدان) :
3/ 468، موضع رقم (7567) ، (معجم ما استعجم) : 3/ 836) .
[ (4) ] (الإصابة) : 7/ 503، ترجمة رقم (10822) .
وقال عمر بن شبة: حدثنا علي بن محمد النّوفلي، عن أبيه، أنه حدثه عن أهله أن عليا لما حضرته الوفاة قال لأمامة بنت العاص: إني لا آمن أن يخطبك هذا الطاغية بعد موتي- يعني معاوية- فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا،
فلما انقضت عدتها كتب معاوية إلى مروان يأمره أن يخطبها عليه، وبذل لها مائة ألف دينار، فأرسلت إلى المغيرة: إن هذا قد أرسل يخطبني(5/367)
فأم كلثوم وزينب.
__________
[ (-) ] فإن كان لك بنا حاجة فأقبل، فخطبها إلى الحسن فزوجها منه.
قال الحافظ ابن حجر: النّوفلي ضعيف جدا مع انقطاع الإسناد، والراويّ مجهول فيه، لكن قال أبو عمر: روى هيثم- أو هشيم- عن داود بن أبي هند عن الشعبي، قال: كانت أمامة عند عليّ.
فذكر معنى ما تقدم سواء، كذا قال. وأخرجه ابن سعد عن الواقدي بمعناه.
وقال ابن سعد: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذؤيب، أن أمامة بنت أبي العاس قالت للمغيرة ابن نوفل: إن معاوية خطبني، فقال لها: أتتزوجين ابن آكلة الأكباد؟! فلو جعلت ذلك إليّ، قالت نعم، قال: قد تزوجتك. قال ابن أبي ذؤيب: فجاز نكاحه. وقال الدار الدّارقطنيّ في كتاب (الإخوة) :
تزوجها بعد عليّ المغيرة بن نوفل، وقيل: بل تزوجها بعده أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. (الإصابة: 7/ 503- 504، ترجمة رقم (10822) .(5/368)
[أم كلثوم بنت علي]
فأم كلثوم: ابنة علي بن أبي طالب، ولدت قبل وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخطبها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى عليّ، فقال: إنها صغيرة، فقال له: زوجنيها يا أبا الحسن، فإنّي أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، فقال له علي رضي اللَّه عنه: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه بردّ وقال لها: قولي له: هذا الرّدّ الّذي قلت لك، فقالت: ذلك لعمر، فقال: قولي له: رضيت، رضي اللَّه عنك، ووضع يده على ساقها وكشفها، فقالت: أتفعل هذا؟ لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك- وفي رواية: [للطمت] [ (1) ] عينيك.
ثم خرجت حتى جاءت أباها فأخبرته الخبر وقالت: تبعثني إلى شيخ سوء؟
فقال: يا بنية فإنه زوجك،
فجاء عمر رضي اللَّه عنه إلى مجلس المهاجرين في الروضة، وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون، فجلس إليهم فقال: رفئوني [ (2) ] ! فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب.
سمعت الرفّاء بالمد: الالتئام والاتفاق، ويقال للمتزوج: بالرفاء والبنين، وقد رفأت المملك ترفية وترفياء إذا قلت له ذلك [ (3) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من (الإصابة) : 8/ 293، ترجمة رقم (12233) .
[ (2) ] في (خ) : «زفوني» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) : 294.
[ (3) ] قال الإمام مجد الدين أبو السادات المبارك بن محمد الجزري بن الأثير: نهى أن يقال للمتزوج: بالرّفاء والبنين، والرّفاء: الالتئام، والاتفاق، والبركة، والنماء، وهو من قوله: رفأت الثوب رفا، ورفوته رفوا، وإنما نهي عنه كراهية لأنه كان من عادتهم، ولهذا سنّ فيه غيره، ومنه الحديث: كان إذا رفّأ الإنسان قال: بارك اللَّه لك وعليك، وجمع بينكما على خير. ويهمز الفعل ولا يهمز، ومنه حديث أم زرع: كنت لك كأبي زرع لأم زرع في الألفة والرّفاء، ومنه الحديث:
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم لقريش: جئتكم بالذبح،
فأخذتهم كلمته، حتى إنّ أشدّهم فيه وضاءة ليرفّئوه بأحسن ما يجد من القول أي يسكنه ويرفق به ويدعو له. (النهاية) : 2/ 240- 241.(5/369)
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: كل نسب وسبب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فكان لي به النسب والسبب فأردت أن أجمع إليه الصهر فرفّئوه.
وأمهرها عمر رضي اللَّه عنها أربعين ألف درهم، فولدت له زيدا ورقية، تزوج رقية بنت عمر إبراهيم بن نعيم النجار فماتت عنده ولم تترك ولدا، وقتل زيد بن عمر خطأ، قتله خالد بن أسلم مولى عمرو، ولم يترك ولدا، فلا بقية لعمر رضي اللَّه عنه في أم كلثوم بنت علي رضي اللَّه عنها.
وقد روى أن زيد بن عمر، وأمه أم كلثوم مرضا جميعا ونقلا ونزل بهما، وأن رجالا مشوا بينهما لينظروا أيهما يقبض أولا فيورّث منه الآخر، وأنهما قبضا في ساعة واحدة، فلم يدر أيهما قبض قبل صاحبه، فكانت في زيد وأمه سنّتان، ماتا في ساعة واحدة، لم يعرف أيهما مات قبل الآخر، فلم يورث واحد منهما من صاحبه، ووضعا معا في موضع الجنائز، وأخرت أمه وقدم زيد مما يلي الإمام [ (1) ] ، فجرت السّنّة في الرجل والمرأة بذلك بعد.
وصلى عليهما عبد اللَّه بن عمر [ (2) ] ، ولما قتل عمر رضي اللَّه عنه عن أم كلثوم، تزوجها محمد بن جعفر بن أبي طالب فمات عنها، فتزوجها عون بن جعفر ابن أبي طالب فماتت عنده [ (3) ] ، رحمها اللَّه.
__________
[ (1) ] (الإصابة) : 8/ 295، ترجمة رقم (12233) .
وأما قتل زيد خطأ، فإنه كان قد أصيب في حرب كانت بين بني عدي ليلا، كان قد خرج ليصلح بينهم فضربه رجل منهم في الظلمة فشجّه وصرعة، فعاش أياما ثم مات هو وأمه في وقت واحد.
وأما السّنّتان اللتان كانتا فيهما فيما ذكروا: لم يورّث واحد منهما من صاحبه، لأنه لم يعرف أولهما موتا، وقدّم زيد قبل أمه مما يلي الإمام (الاستيعاب) : 4/ 1956، ترجمة رقم (4204) .
[ (2) ] وأخرج عطاء الخراساني بسند صحيح أن ابن عمر صلى على أم كلثوم وابنها زيد، فجعله مما يليه، وكبّر أربعا، وساق بسند آخر أن سعيد بن العاص هو الّذي صلى عليهما. (الإصابة) : 8/ 295، ترجمة رقم (12233) .
[ (3) ] لكن ذكر أبو بشر الدولابي في (الذرية الطاهرة) : أنها تزوجت عوف بن جعفر بن أبي طالب، وذكرها الدار الدّارقطنيّ في كتاب (الأخوة) : أن عوفا مات عنها فتزوجها أخوه محمد، ثم مات عنها فتزوجها أخوه عبد اللَّه بن جعفر، فماتت عنده. (المرجع السابق) : 294، وذكر ابن سعد نحوه، وزاد في آخره: فكانت تقول:
إني لأستحي من أسماء بنت عميس، مات ولداها عندي، فأتخوف على الثالث، قال: فهلكت عنده، ولم تلد لأحد منهم. (طبقات ابن سعد) : 8/ 339، (جمهرة أنساب العرب) : 38.(5/370)
[زينب بنت عليّ]
وزينب بنت علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه [ (1) ] زوجها أبوها علي رضي اللَّه عنه بعبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له عليا، وفيه البقية من ولده وأم كلثوم وتزوجت ولها عقب، ورقية ماتت قبل أن تبلغ الحلم، واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] هي زينب بنت علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية، سبطة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أمها فاطمة الزهراء.
قال ابن الأثير: إنها ولدت في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانت عاقلة، لبيبة، جزلة، زوجها أبوها ابن أخيه عبد اللَّه بن جعفر فولدت له أولادا، وكانت مع أخيها لما قتل، فحملت إلى دمشق، وحضرت عند يزيد بن معاوية، وكلامها ليزيد بن معاوية حين طلب الشامي أختها مشهور، يدل على عقل وقوة جنان.
(الإصابة) : 7/ 684، ترجمة رقم (11261) ، نقلا عن (أسد الغابة) : 5/ 469.(5/371)
فصل في ذكر آل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال ابن سيده: وآل الرجل أهله، فإما أن تكون الألف منقلبة عن واو، وإما أن تكون بدلا من الهاء، وتصغيره أويل وأهيل، وقد يكون ذلك لما لا يعقل.
وأهل الرجل عشيرته وذوو قرباه، والجمع أهلون وأهلات [ (1) ] ، قال: وأهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- ويقال لهم آل البيت- قيل: نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقيل: الرجال الذين هم آله، وآل الرجل أهله، وآل اللَّه وآل رسوله أولياؤه، أصلها أهل، ثم أبدلت الهاء بهمزة، فصارت في التقدير آل، فلما توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفا.
قال: فلما كانوا بالآل الأشرف الأخص دون الشائع الأعم، حتى لا يقال إلا في نحو قولهم: آل اللَّه، واللَّهمّ [صل] [ (2) ] على محمد وعلى آل محمد، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [ (3) ] ، قال ولا يقال: آل الخياط، كما يقال أهل الخياط ولا آل الإسكاف [ (4) ] .
وقال صاحب الصحاح: وآل الرجل أهله وعياله، وآله أيضا: أتباعه، وقيل:
آل الرجل مشتق من يئول إذا رجع، فآل الرجل هم الذين يرجعون إليه ويضافون له، ويليهم أي يسوسهم، فيكون مآلهم إليه ومنه الإيالة وهي السياسة، فآل الرجل هم الذين يسوسهم.
ويقال [آل] الرجل له نفسه، وآله لمن يتبعه [ (5) ] ، ويقال: أهل الرجل
__________
[ (1) ] قال ابن منظور: والجمع أهلون، وآهال، وأهلات، وأهلات. (لسان العرب) : 11/ 28.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] سورة غافر: الآية 28.
[ (4) ] (لسان العرب) : 11/ 31، (ترتيب القاموس) : 1/ 198، وقال في هامشه: وخصّ أيضا بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات والأمكنة والأزمنة، فيقال: آل فلان، ولا يقال: آل رجل.
ولا النكرات ولا آل زمان كذا، ويقال: أهل بلد كذا، وموضع كذا.
[ (5) ] قال جار اللَّه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ: آل الرعيّة يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة(5/372)
لأهله وأقاربه، فمن الأول:
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- لما جاءه أبو أوفى بصدقة-: اللَّهمّ [صل] [ (1) ] على آل أبي أوفى [ (2) ] ،
وقوله تعالى: سلام على آل ياسين [ (3) ] ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم [ (4) ] ،
فآل إبراهيم هو إبراهيم، لأن الصلاة المطلوبة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم هي الصلاة على إبراهيم نفسه، وآله تبع له فيها.
وقيل لا يكون الآل إلا الأتباع والأقارب، وزعموا أن الأدلة المذكورة المراد بها الأقارب، وأن
قوله: كما صليت على آل إبراهيم:
آل إبراهيم الأنبياء، والمطلوب من اللَّه تعالى أن يصلى على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كما صلى على جميع الأنبياء والمرسلين من ذرية إبراهيم، لا إبراهيم وحده، كما هو مصرح به في بعض الألفاظ من قوله: على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وكذا في إِلْ ياسِينَ، فإنه قرئ: آل ياسين [ (5) ] ، والمراد أتباعه.
والصواب من هذا كله: أن الآل إذا انفرد، دخل فيها المضاف، كقوله تعالى:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [ (6) ] ، ولا ريب في دخوله في آله هنا، وقوله وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [ (7) ] ، ونظائره،
وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ
__________
[ () ] وأتالها، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم، أي سائس محتكم. (أساس البلاغة) : 25.
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 202- 204، كتاب الدعوات، باب (23) هل، يصلّى على غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، حديث رقم (6359) . قال الحافظ ابن حجر: ووقع مثله
عن قيس بن سعد بن عبادة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رفع يديه وهو يقول: اللَّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة. أخرجه أبو داود والنسائي وسنده جيد،
وفي حديث جابر:
أن امرأته قالت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: صلّ عليّ وعلى زوجي ففعل، أخرجه أحمد مطولا ومختصرا، وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونصّ عليه أحمد في رواية أبى داود، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وداود، والطبري، واحتجوا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ.
[ (3) ] سورة الصافات: الآية 130.
[ (4) ] (فتح الباري) : 11/ 182- 183، كتاب الدعوات، باب (32) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (6357) .
[ (5) ] كذا في قراءة ورش عن الإمام نافع (رواية ورش) : 153.
[ (6) ] سورة غافر: الآية 46.
[ (7) ] سورة الأعراف: الآية 130.(5/373)
[صل] [ (1) ] على آل أبى أوفى، ولا ريب في دخول أبى أوفى نفسه في ذلك، وقوله: اللَّهمّ صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم
- هنا أكثر روايات البخاري- وإبراهيم هنا داخل في آله.
وأما إذا ذكر الرجل ثم ذكر آله، لم يدخل فيهم، ففرق بين اللفظين المجرد والمقرون، فإذا قلت: أعط هذا الزيد وآل زيد، لم يكن زيد هنا داخلا في آله، وإذا قلت: أعطه لآل زيد تناول زيدا وآله، فعلم أن اللفظ واحد تختلف دلالته بالتجريد والاقتران، كالفقير والمسكين: هما صنفان، إذا قرن بينهما، وصنف واحد إذا أفرد كل منهما، ولهذا كانا في الزكاة صنفين [ (2) ] ، وفي الكفارة صنفا واحدا، وكالإيمان والإسلام، والبر والتقوى، والفحشاء والمنكر، والفسوق والعصيان، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة.
وقد اختلف في آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أربعة أقوال، أحدها: أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها، أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعيّ وأحمد في رواية عنه، والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبى حنيفة، وأحد أقوال أحمد، واختيار ابن القاسم من أصحاب مالك، والثالث:
أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل فيهم بنو المطلب، وبنو أميه، وبنو نوفل ومن فوقهم من بطون قريش، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك، على ما حكاه صاحب (الجواهر) عنه.
__________
[ (1) ] يقول الدكتور يوسف القرضاوى في (فقه الزكاة) : والّذي ينفع ذكره هنا: أن الفقير عند الحنفية هو من يملك شيئا دون النصاب الشرعي في الزكاة، أو يملك ما قيمته نصاب أو أكثر من الأثاث، والأمتعة، والثياب، والكتب، ونحوها، مما هو محتاج إليه لاستعماله والانتفاع به، والمسكين عندهم من لا يملك شيئا. وهذا هو المشهور.
[ (2) ] والفقير عند الأئمة الثلاثة: من ليس له مال ولا كسب حلال لائق به، يقع موقعا من كفايته، من مطعم، وملبس، ومسكن، وسائر ما لا بد منه، لنفسه ولمن تلزمه نفقته، من غير إسراف ولا تقتير، كمن يحتاج إلى عشرة دراهم كل يوم، ولا يجد إلا أربعة، أو ثلاثة، أو اثنين.
والمسكين عندهم من قدر على مال أو كسب حلال لائق، يقع موقعا من كفايته وكفاية من يعوله، ولكن لا تتم به الكفاية، كمن يحتاج إلى عشرة فيجد سبعة أو ثمانية. (فقه الزكاة للقرضاوى) : 2/ 546- 548.(5/374)
وحكاه اللخمي في (التبصرة) عن أصبغ لا عن أشهب، وهذا القول في الأول، أعنى أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة، هو منصوص عن الشافعيّ وأحمد، والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحابهما، والدليل عليه ما
خرجه البخاري من حديث إبراهيم ابن طهمان، عن محمد بن زياد، عن أبى هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يؤتى بالتمر عند صرام النخل، فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره، حتى يصير عنده كوما من تمر فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخرجها من فيه وقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة؟
ترجم عليه باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، وهل يترك الصبى فيمسّ تمر الصدقة [ (1) ] ؟
وخرجه مسلم من حديث وكيع عن شعبة، عن محمد- وهو ابن زياد- سمع أبا هريرة يقول: أخذ الحسن بن على رضي اللَّه عنه تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كخ كخ! ارم بها، أما علمت أنّا لا تحل لنا الصدقة؟ [ (2) ] ؟
وخرج مسلم من حديث إبراهيم بن علية قال: حدثنا أبو حبّان قال: حدثني يزيد بن حبّان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمر بن مسلم إلى زيد
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 447، كتاب الزكاة، باب (57) ، حديث رقم (1485) . والصرام- بكسر المهملة: الجداد والقطاف وزنا ومعنى.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ، 7/ 181، كتاب الزكاة، باب (50) تحريم الزكاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى آله، هم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، حديث رقم (161) واللذان بعده. قال القاضي
في قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» وفي رواية: «لا تحل لنا الصدقة» :
يقال: كخ كخ بفتح الكاف وكسرها، وتسكين الخاء، ويجوز كسرها مع التنوين، وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات، فيقال له: كخ، أي اتركه وارم به. قال الداوديّ: هي عجمية معربة بمعنى بئس، وقد أشار إلى هذا البخاري بقوله في ترجمة باب من تكلم بالفارسية والرطانة. وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار، وتمنع من تعاطيه، وهذا واجب على الولي. (مسلم بشرح النووي) :
7/ 181.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أما علمت أنا لا نأكل الصدقة»
هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم ونحوه، وإن لم يكن المخاطب عالما به، وتقديره: عجب! كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى آله، وهم بنو هاشم وبنو المطلب؟.(5/375)
ابن أرقم رضي اللَّه عنه، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت [ (1) ] يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: يا ابن أخي، واللَّه لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الّذي كنت أعي من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فما حدثتكم فاقبلوا، وما [ (2) ] لا فلا تكلفونيه [ (3) ] .
ثم
قال: قام فينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما [ (4) ] خطيبا بماء يدعى خمّا [ (5) ] بين مكة والمدينة، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتى رسول ربى [ (6) ] فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللَّه تعالى، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللَّه ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكّركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه [في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي] [ (7) ]- ثلاثا [ (8) ]
- ثم قال له حصين: ومن أهل بيته
__________
[ () ] هذا مذهب الشافعيّ وموافقيه، أن آله صلّى اللَّه عليه وسلّم هم بنو هاشم وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية. وقال أبو حنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصة. قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلها، وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي.
دليل الشافعيّ
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن بنى هاشم وبنى المطلب شيء واحد،
وقسم بينهم سهم ذوى القربى، وأما صدقة التطوع فللشافعى فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تحرم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتحل لآله، والثاني تحرم عليه وعليهم، والثالث: تحل له ولهم.
وأما موالي بنى هاشم وبنى المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: تحرم، للحديث الّذي ذكره مسلم بعد هذا، حديث أبى رافع. والثاني: تحل.
وبالتحريم قال أبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وبعض المالكية.
وبالإباحة قال مالك، وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو في موالي بنى هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع وليس كما قال بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على موالي بنى هاشم، وبنى المطلب، ولا فرق بينهما، واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) .
[ (1) ] في (خ) : «رأيت» وصوبناه من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] في (خ) : «وما ألا» وصوبناه من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] في (خ) : «تكلفنيه» وصوبناه من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «ثم قال قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما فينا خطيبا» .
[ (5) ] خمّ: اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الحسنة، عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة، فيقال: غدير خمّ.
[ (6) ] يعنى ملك الموت. قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الحج: 75.
[ (7) ] زيادة يقتضيها السياق من (صحيح مسلم) .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «فقال» .(5/376)
يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل على، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة [ (1) ] ؟ قال نعم [ (2) ] .
وخرجه من حديث جرير عن أبى حيان به، وزاد فيه: كتاب اللَّه فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأ ضل [ (3) ] .
وخرجه من حديث حسان بن إبراهيم عن سعيد بن مسروق، وعن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: دخلنا عليه فقلنا له: لقد رأيت خيرا، لقد صاحبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصليت خلفه، وساق الحديث بنحو حديث أبى حيان، غير أنه قال: ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب اللَّه عز وجل، وهو حبل اللَّه، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، وفيه: فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا وأيم اللَّه، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده [ (4) ] .
وخرجه الترمذي من حديث محمد بن فضل. حدثنا الأعمش عن عطية بن سعد، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت، عن زيد بن أرقم قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
قال: هذا حديث [حسن] غريب [ (5) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «قال كل هؤلاء كل هؤلاء حرم الصدقة بعده» .
[ (2) ]
(مسلم بشرح النووي) : 15/ 188- كتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل على بن أبى طالب رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (36) قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «وأنا تارك فيكم ثقلين فذكر كتاب اللَّه وأهل بيته» ،
قال العلماء: سمّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنها، وقيل: لثقل العمل بهما (المرجع السابق) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 189.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 190، حديث رقم (37) .
[ (5) ] (سنن الترمذي) : 5/ 622، كتاب المناقب، باب (32) مناقب أهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3788) وقال في آخره: هذا حديث حسن غريب.(5/377)
وخرجه الحاكم من حديث جرير بن عبد الحميد، عن الحسن بن عبد اللَّه النخعي، عن مسلم بن صبيح، عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللَّه وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (1) ] .
وقد روى: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللَّه وعترتي، كتاب اللَّه حبلا ممدودا من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي،
قال أبو البقاء: أما كتاب اللَّه وعترتي الأولين فبدلان من الثقلين.
وأما كتابا الثاني فهو بدل من كتاب الأول، وجوّد ذلك وحسّنه ما اتصل به من زيادة المعنى، وهو قوله: حبلا ممدودا، وكذلك عترتي أهل بيتي، ونصب حبلا ممدودا على أنه حال أو مفعول ثانى لتارك، ولو روى كتاب اللَّه حبلا ممدودا جاز على أنه مستأنف.
وقد ثبت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن الصدقة لا تحل لآل محمد [ (2) ] ،
وخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه عنها أن فاطمة والعباس رضي اللَّه عنهما أتيا أبا بكر رضي اللَّه عنه يلتمسان ميراثهما من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر رضي اللَّه عنه: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا نورّث، ما تركناه صدقه، إنما يأكل آل محمد من [هذا المال] .
قال أبو بكر رضي اللَّه عنه واللَّه لا أدع أمرا رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يصنعه] فيه إلا صنعته، قال: فهجرته فاطمة رضي اللَّه عنها فلم تكلمه حتى ماتت.
اللفظ للبخاريّ، خرجه في الفرائض [ (3) ] وخرجه في المغازي [ (4) ] في حديث بنى النضر
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 160- 161، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4711/ 309) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] في (صحيح مسلم) : «الصدقة لا تنبغي لآل محمد» بعض حديث طويل سيأتي الكلام عنه بعد قليل إن شاء اللَّه تعالى.
[ (3) ] (فتح الباري) : 12/ 4، كتاب الفرائض، باب (3)
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا نورّث ما تركناه صدقة، حديث رقم (6725) ، حديث رقم (6726) ،
وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 627- 628، كتاب المغازي، باب (39) ، غزوة خيبر، حديث رقم (4240، 4241) .(5/378)
وقال في آخره: إنما يأكل آل محمد من هذا المال، واللَّه لقرابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحب إليّ أن أصل من قرابتي، وذكره في كتاب الفيء، أطول من هذا وأشبع من حديث عقيل وصالح بن كيسان ومعمر، وهي كلها مما اتفقا عليه،
وقوله: إنما يأكل آل محمد من هذا المال،
يعنى مال اللَّه، ليس لهم أن يزيدوا على المأكل، قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لهم خواصّ: منها حرمان الصدقة، ومنها أنهم لا يرثونه، ومنها استحقاقهم خمس الخمس، ومنها اختصاصهم بالصلاة عليه.
وقد ثبت أن تحريم الصدقة، واستحقاق خمس الخمس، وعدم توريثهم، يختص ببعض أقاربه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكذلك الصلاة على آله خاصة ببعضهم غير عامة لهم.
وخرج مسلم من حديث مالك عن الزهري، أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا: واللَّه لو بعثنا هذين الغلامين- قال لي وللفضل بن عباس- إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكلماه فأمّرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدى الناس وأصابا ما تصيبه الناس.
قال: فبينما هما في ذلك جاء على بن أبى طالب رضي اللَّه عنه فوقف عليهما، فذكرا له ذلك، فقال عليّ: لا تفعلا [فو اللَّه] [ (1) ] ما هو بفاعل، فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: واللَّه ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا، فو اللَّه لقد نلت صهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما نفسناه عليك، قال عليّ: أرسلوهما، فانطلقا واضطجع عليّ، قال: فلما صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال: أخرجا ما تصررانه، ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش.
قال: فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول اللَّه، أنت أبّر الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمّرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدى إليك كما يؤدى الناس ونصيب كما يصيبون.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .(5/379)
قال: فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب رضى اللَّه عنها تلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه.
قال: ثم قال: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، أدعوا لي محمية- وكان على الخمس- ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
قال: فجاءاه فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن العباس، فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك لي، فأنكحنى، وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا. قال الزهري: ولم يسمه لي، [ (1) ] وخرجه أيضا من حديث يونس [بن يزيد] [ (2) ] عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 183- 185، كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصدقة، حديث رقم (167) .
قوله: «فانتحاه ربيعة بن الحارث» هو بالحاء، ومعناه: عرض له وقصده.
قوله: «ما تفعل هذا إلا نفاسة منك علينا» معناه حسدا منك لنا، قوله «أخرجا ما تصرران» ، هكذا هو في معظم الأصول ببلادنا، وهو الّذي ذكره الهروي، والمازري، وغيرهما من أهل الضبط، تصرران بضم التاء وفتح الصاد وكسر الراء وبعدها راء أخرى، ومعناه: تجمعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جمعته فقد صررته.
ووقع في بعض النسخ: تسرران بالسين من السر، وذكر القاضي عياض فيه أربع روايات فلتراجع في (مسلم بشرح النووي) : 7/ 184.
قوله: «قد بلغنا النكاح» أي الحلم، كقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء 6] .
قوله: «تلمع إلينا» بضم التاء وإسكان اللام وكسر الميم، ويجوز فتح التاء والميم، يقال: ألمع ولمع إذا أشار بثوبه أو بيده.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد»
دليل على أنها محرمة سواء كانت بسبب العمل، أو بسبب الفقر والمسكنة وغيرهما من الأسباب الثمانية [المذكورة في الآية 60 من سورة التوبة] ، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا.
وجوّز بعض أصحابنا لبني هاشم وبنى المطلب العمل عليها بسهم العامل لأنه إجارة، وهذا ضعيف أو باطل، وهذا الحديث صحيح في رده.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إنما هي أوساخ الناس»
تنبيه على العلة في تحريمها على بنى هاشم وبنى المطلب، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، فهي كغسالة الأوساخ. (مسلم بشرح النووي) :
7/ 185.
[ (2) ] زيادة للنسب من (صحيح مسلم) .(5/380)
ابن الحارث بن نوفل الهاشمي، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث [بن عبد المطلب] [ (1) ] وعباس بن عبد المطلب قالا لعبد المطلب بن ربيعة وللفضل بن عباس: ائتيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ... وساق الحديث بنحو حديث مالك وقال فيه: فألقى عليّ رضي اللَّه عنه رداءه ثم اضطجع وقال: أنا أبو حسن القرم، واللَّه لا أريم مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما بحور ما بعثتما به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال في الحديث: ثم قال لنا: إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.
وقال أيضا ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعوا إليّ محمية بن جزء- وهو رجل من بنى أسد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استعمله على الأخماس. قال كاتبه: هكذا وقع، وهو رجل من بنى أسد، وإنما هو من بنى زبيلة.
وخرج مسلم وأبو داود من حديث حيوة، أخبرنى أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتى به ليضحّى به فقال: يا عائشة هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر [- وقال أبو داود:
أشحثيها بحجر-] [ (2) ] ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه ثم قال: باسم اللَّه، اللَّهمّ تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به [ (3) ] .
فانظر كيف غاير بين آله وأمته، فإن حقيقة العطف المغايرة، وأمته صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) و (سنن أبى داود) : «اشحذيها» .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 130، كتاب الأضاحي، باب (3) استحباب الضحية، وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير، حديث رقم (19) : 7/ 349- 350 كتاب الضحايا، باب (4) ما يستحب من الضحايا، حديث رقم (2789) ، وفي الحديث استحباب التضحية بالأقرن، وإحسان الذبح، وإحداد الشفرة، وإضجاع الغنم في الذبح، قال النووي: واتفق العلماء على أن إضجاعها يكون على جانبها الأيسر، لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها باليسار أ. هـ والحديث فيه دليل على حواز الأضحية الواحدة عن جميع أهل البيت قال المنذري: أخرجه مسلم. (عون المعبود) : 7/ 350.(5/381)
أعمّ من آله، وتفسير الآل بكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أولى من تفسيره بكلام غيره، وهذا القول من أن آل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم هم الذين تحرم عليهم الصدقة، هو أصح الأقوال الأربعة.
وأرجح ما في هذا القول من الأقوال الثلاثة مذهب الشافعيّ رحمة اللَّه، لما
خرج البخاري من حديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي اللَّه عنه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقلنا: يا رسول اللَّه! أعطيت بنى المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد [ (1) ] .
وقال الليث: حدثني يونس، وزاد قال جبير: ولم يقسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل [شيئا] [ (2) ] . قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم- وهي عاتكة بنت مرة- وكان نوفل أخوهم لأبيهم، ذكره البخاري في كتاب فرض الخمس، وفي مناقب قريش في غزوة خيبر.
فصح أنه لا يجوز أن يفرق بين حكم هاشم وبنى المطلب في شيء أصلا، لأنهم شيء واحد بنصّ كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصح أنهم آل محمد، وإذ هم آل محمد فالصدقة عليهم حرام، وخرج بنو عبد شمس وبنو نوفل ابني عبد مناف وسائر قريش عن هذين البطنين وباللَّه التوفيق.
واعترض الحنفيون بأن
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد،
إنما أراد أنهم لم يفترقوا في الجاهلية لأنهم دخلوا مع بنى هاشم الشعب، إذ [كان] [ (3) ] بنو عبد شمس حينئذ حزبا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، [وأهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هم بنو هاشم] [ (4) ] فقط الذين هم بنو العباس، وبنو طالب، وبنو الحارث، وبنو أبى طالب، وبنو أبى لهب. فإنه لا خلاف أن عقب هاشم انحصر في عبد المطلب
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم (عون المعبود) : 7/ 350 (3) ،
[ (2) ] أخرجه البخاري في المغازي، باب (239) غزوة خيبر حديث رقم (4229) .
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) وعالجناه على حسب ما يقتضيه السياق.(5/382)
فصار بنوه آل محمد بيقين.
واعترض الشيعة العلوية على الحنفية وغيرهم بأنه ليس أهل البيت إلا من ذكرهم اللَّه تعالى بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (1) ] ،
وقد فسرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين سئل: من أهل بيتك؟ فقال:
على وفاطمة، والحسن والحسين.
خرج الترمذي من طريق يحى بن عبيد، عن عطاء بن أبى رباح، عن عمر بن أبى سلمة [ربيب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، وزينب بنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نزلت هذه الآية على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (1) ] في بيت أم سلمة رضي اللَّه عنها فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فاطمة وحسنا وحسينا رضي اللَّه عنهم فجلّلهم بكساء، وعلى رضي اللَّه عنه خلف ظهره [فجلله بكساء] ثم قال: اللَّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول اللَّه؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير [ (2) ] .
قال: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. ذكره في مناقب آل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكره أيضا بهذا الإسناد في كتاب التفسير وقال: هذا حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبى سلمة [ (3) ] .
وخرج مسلم من حديث زكريا بن أبى زائدة، عن مصعب بن أبى شيبة، عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة رضي اللَّه عنها: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الأحزاب: 33.
[ (2) ] (تحفة الأحوذي) : 10/ 196، أبواب المناقب: باب (110) مناقب أهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4039) .
[ (3) ] (تحفة الأحوذي) : 9/ 48، أبواب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، حديث رقم (3422) . قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ قيل: هو الشك، وقيل العذاب، وقيل الإثم. قال الأزهري: الرجس اسم لكل مستقذر من عمل، قاله النووي. قوله «فجللهم بكساء» أي غطاهم به من التجليل. وقوله: «فجلله بكساء» أي كساء آخر، قوله: «قالت أم سلمه وأنا معهم يا نبي اللَّه» بتقدير حرف الاستفهام، قوله: «أنت إلى مكانك وأنت إلى خير» يحتمل أن يكون معناه أنت خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي ولا حاجة لك في الدخول تحت الكساء، كأنه منعها عن ذلك لمكان عليّ، وأن يكون المعنى أنت على خير وإن تكوني من أهل بيتي، كذا في (اللمعات) .
(المرجع السابق) .(5/383)
[غداة] [ (1) ] وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن على فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله ثم قال:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (2) ] .
وخرج أبو بكر بن أبى شيبة من حديث محمد بن مصعب قال: حدثنا الأوزاعي عن شداد أبى عمار قال: دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليا رضي اللَّه عنه فشتموه، فشتمته معهم، فقال: ألا أخبرك بما رأيت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلت: بلى، قال: أتيت على فاطمة أسألها عن عليّ رضي اللَّه عنه عنهما فقالت: توجه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجلست فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه على وحسن وحسين، أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل، فدخل علينا وفاطمة، فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبا أو قال: كساء، ثم تلا هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق.
وأخرجه الحاكم من حديث بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني واثلة بن الأسقع قال: أتيت عليا فلم أجده، فقالت لي فاطمة: انطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعوه، فجاء مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدخلا ودخلت معهما، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحسن والحسين فأقعد كل واحد منهما على فخذيه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثم لفّ عليهم ثوبا وقال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، اللَّهمّ [أهل
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 203- 204، كتاب فضائل الصحابة، باب (9) فضائل أهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (61) .
قوله: «وعليه مرط مرحّل» هو بالحاء المهلة، وقال القاضي: أنه وقع لبعض رواة كتاب مسلم بالحاء، ولبعضهم بالجيم.
والمرحّل بالحاء: هو الموشّى المنقوش، عليه صور رحال الإبل، وبالجيم: عليه صور المراجل وهي القدور، وأما المرط فبكسر الميم، وهو كساء جمعه مروط. (المرجع السابق) .(5/384)
بيتي] [ (1) ] .
قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ (2) ] قال البخاري في تاريخه: محمد ابن مصعب القرقساني أبو عبد اللَّه [لم] يسمع الأوزاعي، وكان يحى بن معين يسيء الرأى فيه [ (3) ] .
وأخرج الحاكم من طريق عبد الرحمن [بن عبد اللَّه] [ (4) ] بن دينار، عن شريك ابن أبى نمر، عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت: في بيتي نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، قالت: فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي اللَّه عنهم فقال: هؤلاء أهل بيتي.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري [ (5) ] .
وخرج أيضا من طريق الحسن بن عرفه قال: حدثني على بن ثابت الجزري، حدثنا بكير بن مسمار- مولى عامر بن سعد- قال: سمعت عامر بن سعد يقول:
قال سعد: نزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوحي، فأدخل عليا وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ثم قال: [اللَّهمّ] [ (6) ] هؤلاء أهلي وأهل بيتي [ (7) ] .
وخرج من طريق أبى بكر بن أبى شيبة [الحزامي] [ (1) ] قال: حدثنا محمد
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 159، كتاب معرفة الصحابة، باب مناقب أهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (4706/ 304) .
[ (2) ] الّذي قال: على شرط مسلم هو الحافظ الذهبي في (التلخيص) ، لكن أبو عبد اللَّه الحاكم قال في (المستدرك) : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[ (3) ] (التاريخ الكبير) : 1/ 239، ترجمة محمد بن مصعب القرقساني رقم (756) . وفيه: سمع الأوزاعي، وكان يحى بن معين سيئ الرأى فيه، قال محققه: وهذا خلاف لما في (خ) ، من أنه لم يسمع الأوزاعي.
[ (4) ] زيادة في النسب من (المستدرك) .
[ (5) ] (المستدرك) : 3/ 158، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4705/ 303) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري.
[ (6) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (7) ] (المستدرك) : 3/ 159، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4708/ 306) ، وقال عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على، وبكير تكلم فيهما.(5/385)
ابن إسماعيل بن أبى فديك، حدثني عبد الرحمن بن أبى بكر المليكي عن إسماعيل ابن عبد اللَّه بن جعفر بن أبى طالب، عن أبيه قال: لما نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الرحمة هابطة قال: ادعوا لي ادعوا لي، فقالت صفية: من يا رسول اللَّه؟ قال:
أهل بيتي: عليا وفاطمة والحسن والحسين، فجيء بهم فألقى عليهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كساءه، ثم رفع يديه ثم قال: اللَّهمّ [هؤلاء] [ (1) ] آلى فصلّ على محمد وعلى آل محمد، وأنزل اللَّه عزّ وجل إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد صحت الرواية على شرط الشيخين أنه علمهم الصلاة على أهل بيته كما علمهم الصلاة على آله [ (2) ] وذكر من طريق البخاري حديث كعب بن عجرة ثم قال: وإنما خرجته ليعلم المستفيد أن أهل البيت والآل جميعا هم [ (3) ] .
وخرج الحاكم من طريق موسى بن هارون، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ [ (4) ] ، دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [عليا] [ (1) ] وفاطمة، وحسنا وحسينا فقال: اللَّهمّ [هؤلاء] [ (1) ] أهلي.
قال الحاكم: هذا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] (المستدرك) ، 3/ 159- 160، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4709/ 307) ، وقال عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : المليكي ذاهب الحديث، قال الحاكم: وصحت الرواية أنه عليه السلام علمهم الصلاة على أهل بيته كما علمهم الصلاة على آله.
[ (3) ]
وحديث كعب بن عجرة: حدثني عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبى ليلى: أنه سمع عبد الرحمن ابن أبى ليلى يقول: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدى لك هدية سمعتها من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قلت:
بلى، قال: فأهدها إليّ، قال: سألنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: يا رسول اللَّه، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
قال الحاكم: وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفا بعد حرف، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، عن موسى بن إسماعيل في الجامع الصحيح، وإنما خرجته ليعلم المستفيد من أهل العلم أن أهل البيت والآل جميعا هم. وأبو فروة هو عروة بن الحارث الهمدانيّ من أوثق التابعين بالكوفة.
(المستدرك) : 3/ 160، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4710/ 308) .
[ (4) ] آل عمران: 61.(5/386)
حديث صحيح على شرط الشيخين [ (1) ] . وخرجه ثانيا ثم قال: اتفق الشيخان على صحة هذا الإسناد واحتجّا به ولم يخرجاه وإنما خرجا بهذا الإسناد قصة أبي تراب.
وخرج من طريق عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنى حميد وعلى بن زيد، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يمرّ بباب فاطمة رضي اللَّه عنها ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
واعترض على الشيعة بأن قيل: لا نسلم أن أهل البيت في الآية من ذكرتم، بل هم نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بدليل سياقها، وانتظام ما استدللتم به معه، فإن اللَّه تعالى قال: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] [ (3) ] ، ثم استطردها إلى أن قال: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (4) ] وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [ (5) ] الآية، فخطاب نساء النبي مكتنفا لذكر أهل البيت قبله وبعده منتظما له، فاقتضى أنهن المراد به، وحينئذ لا يكون لكم في الآية متعلق أصلا، ويسقط الاستدلال بها بالكلية، وما أكدتم به قولكم من السنة فأخبار آحاد لا تقولون بها مع أن دلالتها ضعيفة.
فأجاب الشيعة بأن قالوا: الدليل على أن أهل البيت في الآية من ذكرنا، النص والإجماع. أما النص فما
ثبت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه بقي بعد نزول الآية ستة أشهر
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 163، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4719/ 317) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 172: كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4748/ 346) ، وما بين الحاصرتين زيادة منه، وهذا الحديث سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (3) ] سورة الأحزاب الآية: 32.
[ (4) ] سورة الأحزاب الآية: 33.
[ (5) ] سورة الأحزاب الآية: 34:(5/387)
يمر وقت صلاة الفجر على بيت فاطمة عليها السلام فينادي: الصلاة يا أهل البيت:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً: رواه الترمذي وغيره
وهو تفسير منه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأهل البيت بفاطمة ومن في بيتها، وهو نصّ، وأنصّ منه
حديث أم سلمة أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسل خلف فاطمة وعليّ وولديهما، فجاءوا فأدخلهم تحت الكساء، ثم جعل يقول: اللَّهمّ إليك لا أبالى النار أنا وأهل بيتي، اللَّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، وفي رواية: حامتي، اللَّهمّ أذهب عنهم الرجس [وطهرهم] تطهيرا، قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول اللَّه، ألست من أهل بيتك؟ قال: أنت إلى خير، أنت منهم.
وأما الإجماع: فلأن الأمة اتفقت على أن لفظ أهل البيت إذا أطلق إنما ينصرف إلى من ذكرناه دون النساء، ولو لم يكن إلا شهرته فيهم كفى، وإذا ثبت بما ذكرناه من النص والإجماع أن أهل البيت عليّ وزوجته وولداه، فما استدللتم به من سياق الآية ونظمه على خلافه لا يعارضه، لأنه مجمل يحتمل الأمرين، وقصارها أنه ظاهر فيما ادعيتم لا يعارضه النص والإجماع، ثم إن الكلام العربيّ يدخله الاستطراد [والاعتراض، والتخلل] الجملة الأجنبية بين الكلام المنتظم المتناسب كقوله تعالى:
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [ (1) ] ، فقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ جملة معترضة من جهة اللَّه تعالى بين كلام بلقيس، وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [ (2) ] ، أي لا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقرآن، وما بينهما اعتراض، وهو كثير في القرآن وغيره من الكلام العربيّ، فلم لا يجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ جملة معترضة متخللة لخطاب نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على هذا النهج، وحينئذ يضعف اعتراضكم.
وأما ما ذكرناه من اختيار الآحاد، فإنما أكدنا به دليل الكتاب، ثم هي لازمة لكم، فنحن أوردناها إلزاما لا استدلالا.
__________
[ (1) ] النمل: 34- 35.
[ (2) ] الوقعة: 75- 77.(5/388)
القول الثاني: أن آل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هم ذريته وأزواجه خاصة، قال ابن عبد البر- وقد ذكر حديث مالك عن عبد اللَّه بن أبى بكر، عن عمرو بن سليم، قال-:
أرى أبو حميد قد كره استدلال قوم بهذا الحديث، على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصة، لقوله في حديث مالك، عن نعيم المجمّر وفي غير ما
حديث: اللَّهمّ [صل] على محمد وعلى آل محمد.
وفي هذا الحديث: اللَّهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته فقالوا: هذا يفسّر هذا الحديث، ويبين أن آل محمد هم أزواجه وذريته.
قالوا: فجائز أن يقول الرجل لكل من كان من أزواج محمد وذريته: صلى اللَّه عليك إذا واجهه، وصلى اللَّه عليه إذا غاب عنه، ولا يجوز ذلك في غيرهم.
قالوا: والآل والأهل سواء، وأهل الرجل وآله سواء، وهم الأزواج والذرية، بدليل هذا [الحديث. وقد] احتج أصحاب هذا القول بما
في الصحيحين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا [ (1) ]
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (17) كيف كان عيش النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، حديث رقم (6460) .
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّهمّ ارزق آل محمد قوتا» ،
قال الحافظ في (الفتح) : هكذا وقع هنا،
وفي رواية الأعمش عن عمارة عند مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة: «اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا»
وهو المعتمد، فإن اللفظ الأول صالح لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك اليوم، وأن يكون طلب لهم القوت، بخلاف اللفظ الثاني فإنه يعيّن الاحتمال الثاني وهو الدالّ على الكفاف.
وعلى ذلك شرحه ابن بطال فقال: فيه دليل على فضل الكفاف، وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك، رغبة في توفر نعيم الآخرة، وإيثار لما يبقى على ما يفنى، فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك.
وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن، ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا، واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) : 11/ 355.
وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقاق، حديث رقم (19) ، قال الإمام النووي في قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا» :
قيل: كفايتهم من غير إسراف، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى كفافا، وقيل: هو سد الرمق. (مسلم بشرح النووي) : 18/ 319.
وأخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب (25) ما جاء في معيشة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهله، حديث رقم (2466) ، وقال القرطبي: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على الترفه والتبسط في الدنيا. (تحفة الأحوذي) : 7/ 22.
وأخرجه ابن ماجة في (السنن) في كتاب الزهد، باب (9) القناعة، حديث رقم(5/389)
ومعلوم أن هذه الدعوة المستجابة، ولم [يقل:] كل بنى هاشم ولا بنى المطلب، لأنه كان فيهم الأغنياء وأصحاب الجدة، وأما ذريته صلّى اللَّه عليه وسلّم وأزواجه وكان رزقهم قوتا، وما حصل من الأموال لأزواجه من بعده كن يتصدقن به، ويجعلن رزقهن قوتا، فقد جاء عائشة مال عظيم فقسمته كله في الحال وهي جالسة، فقالت لها الجارية لو تركت لنا منه درهما نشتري به لحما؟ فقالت: لو ذكّرتينى فعلت ومما في الصحيحين عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز برّ مأدوم ثلاثة أيام حتى قبض [ (1) ] . ثانيه: قالوا: ومعلوم أن العباس وأولاده وبنى المطلب لم يدخلوا في لفظ عائشة ولا مرادها، قالوا: إنما دخلت الأزواج في الآل وخصوصا أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تشبيها بالنسب، لأن اتصاله بهن صلّى اللَّه عليه وسلّم غير مرتفع، فإنّهنّ محرمات على غيره من بعده، وهن زوجاته في الآخرة.
__________
[ () ] (4139) وقال العلامة محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على هذا الحديث: «قوتا» أي على قدر الحاجة الضرورية.
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 646، كتاب الأطعمة، باب (1) قول اللَّه تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ الآية، وقوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ، وقوله: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، حديث رقم (5374) عن أبى هريرة، باب (23) ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يأكلون، حديث رقم (5416) ، 11/ 340، كتاب الرقاق، باب (17) كيف كان عيش النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، حديث رقم (6454) عن عائشة، (مسلم بشرح النووي) : 18/ 315- 316، كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم (20) : ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ قدم المدينة من طعام برّ ثلاث ليال تباعا حتى قبض، وحديث رقم (22) : ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحديث رقم (23) : ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم من خبز برّ فوق ثلاث، وحديث رقم (24) : ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم من خبز البر ثلاثا حتى مضى لسبيله، وحديث رقم (25) : ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم يومين من خبز إلا وأحدهما تمر، كلهم عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها، (سنن النسائي) : 7/ 271، كتاب الضحايا، باب (37) الادخار من الأضاحي، حديث رقم (4444) ولفظه: ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق باللَّه عزّ وجلّ، (سنن ابن ماجة) : 2/ 1110، كتاب الأطعمة باب (48) خبز البر، حديث رقم (3344) ولفظه: ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ قدموا المدينة ثلاث ليال تباعا من خبز برّ حتى توفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب (49) خبز الشعير، حديث رقم (3346) ولفظه: ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم من خبز الشعير حتى قبض، كلاهما عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 612، حديث رقم (19467) ، 7/ 142، حديث رقم (24144) ، 7/ 184، حديث رقم (24441) . 7/ 286، حديث رقم (25013) ، 7/ 299، حديث رقم (25223) ، 7/ 394، حديث رقم (25835) ، 7/ 64، حديث رقم (23631) ، 7/ 223، حديث رقم (24698) ، 5/ 612، حديث رقم (19467) .(5/390)
فالنسب الّذي لهن بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قائم مقام النسب، وقد نصّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الصلاة عليهنّ، وقد قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [ (1) ] إلى قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [ (2) ] إلى قوله: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً* وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [ (3) ] فدخلن في أهل البيت، لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن، فلا يجوز إخراجهن من شيء منه.
وزعم بعضهم أن الأهل يختص بالزوجات، ويدخل فيه الأولاد، لقوله تعالى:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ثم قال بعد [ذلك] :
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ، وهذا بخلاف الأول، فإن الأولاد يدخل فيه.
واعترض بأن تنصيصه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأزواج والذرية لا يدل على الاختصاص، بل هو حجة على عدم الاختصاص بهم، لما خرج أبو داود من حديث نعيم المجمر، عن أبى هريرة رضي اللَّه عنه في الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم [إنك حميد مجيد] [ (4) ] فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقيون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحق من دخل
__________
[ (1) ] الأحزاب: 30.
[ (2) ] الأحزاب: 32.
[ (3) ] الأحزاب: 33، 34.
[ (4) ] (عون المعبود) : 3/ 190- 191، كتاب الصلاة، باب (181) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (978) ، وما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق منه، وأول الحديث: من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللَّهمّ صل على محمد ...
قوله: «بالمكيال» بكسر الميم، وهو ما يكال به. وفيه دليل على أن هذه الصلاة أعظم أجرا من غيرها وأوفر ثوابا.
قوله: «أهل البيت» ، الأشهر فيه النصب على الاختصاص، ويجوز إبداله من ضمير علينا.
قوله: «فليقل: اللَّهمّ صل على محمد» ، قال الإسنوي: قد اشتهر زيادة [سيدنا] قبل محمد عند أكثر المصلين، وفي كون ذلك أفضل نظر، وقد روى عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الأدب، وهو مبنى على أن سلوك طريق الأدب أحب من الامتثال، ويؤيده حديث أبى بكر حين(5/391)
فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام تنبيها على شرفه وتخصيصا له بالذكر من بين النوع، لأنه أحق أنواع النوع بالدخول فيه، وهنا للناس طريقان، أحدهما:
أن ذكر الخاص قبل العام أو بعده قرينة تدل على أن المراد بالعام ما عداه، والطريق الأخرى: أن الخاص ذكر مرتين مرة بخصوصه ومرة بشمول الاسم العام له، تنبيها على مزيد شرفه، وهذا لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [ (1) ] وقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [ (2) ] .
القول الثالث: أن آله صلّى اللَّه عليه وسلّم أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، وأقدم من روى عنه هذا القول جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري، واختاره بعض أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه، ورجحه الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم، واختاره الأزهري، والحجة لهذا القول أن آل المعظم المتبوع هم أتباعه على دينه، وأمره قريبهم وبعيدهم، وأن اشتقاق هذه اللفظة تدل عليه، فإنه من آل يؤول إذا رجع، ومرجع الأتباع إلى متبوعهم، لأنه إمامهم [ومولاهم] ، ولهذا
__________
[ () ] أمره صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: ما كان لابن أبى قحافة أن يتقدم بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكذلك امتناع عليّ رضي اللَّه عنه محو اسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الصحيفة في صلح الحديبيّة بعد أن أمره بذلك وقال: لا أمحو اسمك أبدا. وكلا الحديثين في الصحيح، فتقريره صلّى اللَّه عليه وسلّم لهما على الامتناع من امتثال الأمر تأدبا مشعر بأولويته.
والحديث استدل به القائلون بأن الزوجات من الآل، والقائلون إن الذرية من الآل، وهو أدلّ دليلا على ذلك لذكر الآل فيه مجملا ومبينا.
والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وهو من طريق أبى جعفر محمد بن على بن الحسين بن على، عن المجمّر عن أبى هريرة عنه.
وقد اختلف فيه على أبى جعفر، وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن عاصم، عن حبان بن يسار الكلابي، عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، عن أبى جعفر، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه عن عليّ عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بلفظ حديث أبى هريرة. وقد اختلف فيه على أبى جعفر، وعلى حبان بن يسار.
مختصرا من (المرجع السابق) : 191.
[ (1) ] الأحزاب: 7.
[ (2) ] البقرة: 98.(5/392)
كان قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [ (1) ] المراد به أتباعه المؤمنون به من أقاربه وغيرهم، وقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [ (2) ] المراد به أتباعه وشيعته.
وقد خرج البيهقي [ (3) ] من حديث واثلة بن الأسقع، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دعا حسنا وحسينا، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة في حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه ثم قال: اللَّهمّ هؤلاء أهلي، قال واثلة: فقلت: يا رسول اللَّه! وأنا من أهلك؟ قال: وأنت من أهلي [قال: فإنّها لمن أرجى ما أرجو] [ (4) ] ،
قالوا: ومعلوم أن واثلة بن الأسقع من بنى ليث بن بكر بن عبد مناف، وإنما هو من أتباع النبي [ (5) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] القمر: 34.
[ (2) ] غافر: 46.
[ (3) ] أخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 63، باب إليه ينسب أولاد بناته صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يذكر قول واثلة. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل عليّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه، حديث رقم (32) ، ولم يذكر قول واثلة.
وأخرجه الذهبي مع قول واثلة في (سير أعلام النبلاء) 3/ 385 في ترجمة واثلة بن الأسقع وقال:
هذا حديث حسن غريب، ثم قال في هامشه: وأخرجه الطبري في (التفسير) : 22/ 7 من طريق عبد الكريم بن أبى عمير، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو عمرو الأوزاعي، حدثني شداد أبو عمار.
قال: سمعت واثلة بن الأسقع ...
وعبد الكريم بن أبى عمير، قال المصنف في (الميزان) : فيه جهالة وباقي رجاله ثقات.
[ (4) ] زيادة يقتضيها السياق من (سير أعلام النبلاء) .
[ (5) ] هو واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر. وقيل: واثلة بن الأسقع بن عبد العزى بن عبد ياليل بن ناشب الليثي، من أصحاب الصفة. أسلم سنة تسع، وشهد غزوة تبوك، وكان من فقراء المسلمين. وفي كنيته أقوال:
أبو الخطاب، وأبو الأسقع، وقيل: أبو قرصافة، وقيل: أبو شداد، له ستة وخمسون حديثا.
روى عنه أبو إدريس الخولانيّ وشداد أبو عمار. وبسر بن عبيد اللَّه، وعبد الواحد النصري، ومكحول، ويونس بن ميسرة ... وخلق آخرهم مولاه معروف الخياط الباقي إلى سنه ثمانين ومائة.
وله رواية أيضا عن أبى مرثد الغنوي، وأبى هريرة. وله مسجد مشهور بدمشق. وسكن قرية البلاط، وهي على ثلاثة فراسخ من دمشق.
قال هشام بن عمار: حدثنا معروف الخياط قال: رأيت واثلة بن الأسقع يملى عليهم الأحاديث.
واختلف في تاريخ وفاته وعمره.
روى إسماعيل بن عيّاش، عن سعيد بن خالد: توفى واثلة في سنة ثلاث وثمانين، وهو(5/393)
واعترض على هذا القول بأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد رفع الشبهة وأزالها
بقوله: إن الصدقة لا تحل لآل محمد،
وبقوله: إنما يأكل آل محمد من هذا المال،
وبقوله: اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا،
وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعا، فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك.
وأيضا فإن الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم حق له ولآله دون سائر الأمة، ولهذا تجب على وعلى آله عند الشافعيّ وغيره كما تقدم ذكره، وإن كان عندهم في الآل اختلاف، ومن لم يوجب الصلاة عليه فإنه بلا شك يستحبها عليه وعلى آله، ويكرهها ولا يستحبها لسائر المؤمنين، ولا يجوزها لغير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وآله، فمن قال: إن آله في الصلاة هم كل الأمة فقد أبعد غاية البعد، بدليل أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شرع في التشهد السلام والصلاة، فشرع في الصلاة تسليم المصلى على رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أولا، وبعده سلام المصلى على نفسه ثانيا، وعلى سائر عباد اللَّه الصالحين ثالثا،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد اللَّه صالح في الأرض والسماء [ (1) ] .
__________
[ () ] ابن مائة وخمس سنين.
وقال أبو مسهر وعدّة: مات سنة خمس وثمانون وله خمس وتسعون سنة. وهو آخر من مات من الصحابة بدمشق. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 7/ 407، (طبقات خليفة) : ت 181، 778، 1349، (التاريخ الصغير) : 1/ 184. (الجرح والتعديل) : 9/ 47. (حلية الأولياء) :
2/ 21 ترجمة رقم (120) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 142، (تهذيب التهذيب) : 11/ 89، ترجمة رقم (174) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 78. ترجمة رقم (59) ، (شذرات الذهب) : 1/ 95، أحداث سنة خمس وثمانين، (خلاص تذهيب الكمال) : 350، (المستدرك) ، 3/ 658- 659، (الإصابة) : 6/ 591، ترجمة رقم (9093) ، (الاستيعاب) : 4/ 1563 ترجمة رقم (2738) ، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 383- 387، ترجمة رقم (57) .
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم من حديث سليمان بن أحمد، وأحمد بن محمد الحارث قالا: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثنا فضل بن عياض، عن سليمان الأعمش، عن أبى وائل، عن عبد اللَّه قال: كنا إذا جلسنا في الصلاة قلنا: السلام على اللَّه قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل،
فعلمنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التشهد، فقال: إن اللَّه هو السلام، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين.
قال أبو وائل في حديث عبد اللَّه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا قلتها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض،
وقال أبو إسحاق في حديث عبد اللَّه: إذا قلتها أصابت كل ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد صالح: أشهد أن إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.(5/394)
وأما الصلاة فلم يشرعها إلا عليه وعلى آله فقط، فدل على أن آله هم أهله وأقاربه، وهذا بين يؤيده أن اللَّه تعالى أمر عباده المؤمنين بالصلاة على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذكر حقوقه، وما خصه تعالى به دون أمته: من حل نكاحه لمن تهب نفسها له، ومن تحريم نكاح أزواجه على الأمة بعده، ومن سائر ما ذكر من حقوقه وتعظيمه وتوقيره وتبجيله، ثم قال: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [ (1) ] ، ثم ذكر رفع الجناح عن أزواجه في تكليمهم إياهن وأبناؤهن، ومن ذكر دخولهن عليهنّ، ثم عقب ذلك بما حق من حقوقه الأكيدة على الأمة وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامهم، مستفتحا ذلك الأمر بإخباره تعالى [بأنه] وملائكته يصلون عليه،
فسأل الصحابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بأي [صيغة] يؤدون هذا الحق؟ فقال: قولوا: اللَّهمّ [صل] على محمد وعلى آل محمد [ (2) ] ،
فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها،
__________
[ () ] قال أبو نعيم: هذا حديث صحيح متفق عليه من حديث الأعمش، عن أبى وائل. رواه عنه إلياس، وحديث فضيل لا نعلمه رواه عنه الإسماعيلي، وكان فضيل يتورع أن يقول: الأعمش، فكان إذا حدّث عنه قال: سليمان بن مهران، وإنما أصحابه وصفوه بالأعمش ليكون أشهر. (حلية الأولياء) :
8/ 115، ترجمة الفضيل بن عياض رقم (397) .
[ (1) ] الأحزاب: 53.
[ (2) ]
(عون المعبود) : 3/ 185، كتاب الصلاة، باب (181) ، الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، حديث رقم (972) : حدثنا حفص بن عمر، أخبرنا شعبة عن الحكم، عن ابن أبى ليلى، عن كعب ابن عجرة قال: قلنا أو قالوا: يا رسول اللَّه أمرتنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
وحديث رقم (973) : حدثنا مسدد، أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا شعبة بهذا الحديث قال: صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم.
وحديث رقم (974) : حدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا ابن بشر عن مسعر، عن الحكم بإسناده هذا قال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
قال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي: الصلاة الدعاء، والرحمة، والاستغفار، وحسن الثناء من اللَّه تعالى على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو من العباد طلب إفاضة الرحمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة من اللَّه تعالى على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقد أمر اللَّه تعالى المؤمنين به. وقد أجمعوا على أنه للوجوب، فهي واجبة في الجملة، فقيل: يجب كلما جرى ذكره، وقيل: الواجب الّذي يسقط المأثم هو الإتيان(5/395)
__________
[ () ] بها مرة، كالشهادة بنبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما عدا ذلك فهو مندوب. كذا في (اللمعات) .
وقال في (المرقاة) : اعلم أن العلماء اختلفوا في أن الأمر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً هل هو للندب أو للوجوب؟ ثم هل الصلاة عليه فرض عين أو فرض كفاية؟ ثم هل تتكرر كلما سمع ذكره أم لا؟ ثم إذا تكرر هل تتداخل في المجلس أم لا؟
فذهب الشافعيّ إلى أن الصلاة في القعدة الأخيرة فرض، والجمهور على أنها سنة، والمعتمد عندنا الوجوب والتداخل، والكلام في هذه المسألة طويل، وقد أجاد وأحسن وأطال الشيخ العلامة الخفاجي في (نسيم الرياض) شرح (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض، والإمام شمس الدين ابن القيم في (جلاء الأفهام) . وهو يدل على تأخير مشروعية الصلاة عن التشهد.
«فكيف نصلي عليك» : فيه أنه يندب لمن أشكل عليه كيفية ما فهم جملته أن يسأل عنه من له به علم.
«قولوا: اللَّهمّ إلخ» :
استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، وإلى ذلك ذهب عمر، وابنه عبد اللَّه، وابن مسعود، وجابر بن زيد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو جعفر الباقر، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن المواز، واختاره القاضي أبو بكر بن العربيّ.
وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، فهم: مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وآخرون. قال الطبري والطحاوي: إنه أجمع المتقدمون والمتأخرون على عدم الوجوب.
قال الشوكانى: دعوى الإجماع من الدعاوي الباطلة، لما عرفت من نسبة القول بالوجوب إلى جماعة من الصحابة، والتابعين، والفقهاء، ولكنه لا يتم الاستدلال على وجوب الصلاة بعد التشهد، بما في حديث الباب من الأمر بها، وبما في سائر أحاديث الباب، لأن غايتها الأمر بمطلق الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو يقتضي الوجوب في الجملة، فيحصل الامتثال بإيقاع فرد منها خارج الصلاة فليس فيها زيادة على ما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
ولكنه يمكن الاستدلال لوجوب الصلاة في الصلاة، بما أخرجه ابن حبان، والحاكم، والبيهقي.
وصححوه، وابن خزيمة في صحيحه، والدار قطنى، من حديث أبى مسعود، بزيادة «كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا» وفي رواية: «كيف نصلي عليك في صلاتنا» وغاية هذه الزيادة أن يتعين بها محل الصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو مطلق الصلاة وليس فيها ما يعين محل النزاع. وهو إيقاعها بعد التشهد الأخير.
ويمكن الاعتذار عن القول بالوجوب، بأن الأوامر المذكورة في الأحاديث تعليم كيفية، وهي لا تفيد الوجوب، فإنه لا يشك من له ذوق أن من قال لغيره: إذا أعطيتك درهما فكيف أعطيك إياه؟ أسرا أم جهرا؟ فقال له: أعطينيه سرا، كان ذلك أمرا بالكيفية التي هي السرية، لا أمرا بالإعطاء، وتبادر هذا لغة، وشرعا، وعرفا، لا يدفع، وقد تكرر في السنة وكثر، فمنه: إذا قام أحدكم الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين. الحديث.
وفي (المرقاة) ، قيل: الآل من حرمت عليه الزكاة كبني هاشم، وبنى المطلب، وقيل: كل تقى آله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: المراد بالآل: جميع أمة الإجابة، وقيل المراد بالآل الأزواج ومن حرمت عليه(5/396)
__________
[ () ] الصدقة ويدخل فيهم الذرية، وبذلك يجمع بين الأحاديث.
قال ابن حجر المكيّ: هم مؤمنو بنى هاشم والمطلب عند الشافعيّ وجمهور العلماء، وقيل أولاد فاطمة ونسلهم، وقيل: أزواجه وذريته، لانهم ذكروا جملة في رواية. وردّ بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة في حديث واحد، وقيل: كل مسلم، ومال إليه مالك، واختاره الزهري وآخرون، وهو قول سفيان الثوري وغيره، ورجحه النووي في (شرح مسلم) .
وقال الإمام الشوكانى في (نيل الأوطار) : واستشكل جماعة من العلماء التشبيه للصلاة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصلاة على إبراهيم- كما وقع في هذه الرواية- أو على آل إبراهيم كما في بعض الرواية، مع أن المشبه دون المشبه به في الغالب، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل من إبراهيم وآله وأجيب عن ذلك بأجوبة:
منها: أن المشبّه مجموع الصلاة على محمد وآله بمجموع الصلاة على إبراهيم وآله، وفي آل إبراهيم معظم الأنبياء فالمشبه به أقوى من هذه الحيثية.
ومنها: أن التشبيه وقع لأصل الصلاة بأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر.
ومنها: أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل لا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو خلاف الظاهر.
ومنها: أنه كان ذلك منه صلّى اللَّه عليه وسلّم. قبل أن يعلمه أنه أفضل من إبراهيم.
ومنها: أن مراده صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتم النعمة عليه كما أتمها على إبراهيم وآله.
ومنها: مراده صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبقى له لسان صدق في الآخرين كإبراهيم.
ومنها: أنه سأله أن يتخذه اللَّه خليلا كإبراهيم.
«وبارك على محمد» :
البركة هي الثبوت والدوام، من قولهم: برك البعير إذا ثبت ودام، أي أدم شرفه، وكرامته، وتعظيمه.
«إنك حميد مجيد» ،
أي محمود الأفعال، مستحق لجميع المحامد، لما في الصيغة من المبالغة، وهو تعليل لطلب الصلاة منه. والمجيد: المتصف بالمجد، وهو كمال الشرف والكرم، والصفات المحمودة.
قال المنذري: وأخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة (عون المعبود) :
3/ 185- 188 مختصرا.
وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، (الإحسان) : 5/ 286 كتب الصلاة، باب (10) باب صفة الصلاة، ذكر وصف الصلاة على المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1957) ، وقال في هامشه:
إسناده قوى، وذكر البيان بأن القوم إنما سألوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن وصف الصلاة التي أمرهم اللَّه جلّ وعلا أن يصلوا بها على رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم: 286، حديث رقم (1958) ، وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ما خلا محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، فإنه من رجال مسلم.
وهو في (الموطأ) : 1/ 165- 166 في الصلاة، باب ما جاء في الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، (مسند الإمام الشافعيّ) : 42، باب ومن كتاب استقبال القبلة في الصلاة، (مسند الإمام أحمد) :
5/ 97، بقية حديث أبى مسعود الأنصاري، حديث رقم (16624) ، 6/ 368، حديث رقم (21847) ، مسلم (405) في الصلاة، باب الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد التشهد، والبيهقي في (السنن) 2/ 146 وابن ماجة في (السنن) : 1/ 292، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب (25) الصلاة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (903) ، (904) بسياقات مختلفة.(5/397)
لأن ذلك [مما يرفع اللَّه به قدره] [ (1) ] ، ويزيده اللَّه به شرفا وعلوا صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا ريب أن الأتباع يطلق عليهم لفظ الآل في بعض المواضع بقرينة، ولا يلزم من ذلك أنه حيث وقع لفظ الآل يراد الأتباع بما تقدم من النصوص، واللَّه أعلم.
القول الرابع: أن آله صلّى اللَّه عليه وسلّم هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة، واحتج لهذا القول بما
خرجه الطبراني من طريق نعيم بن حماد، حدثنا نوح بن أبى مريم، عن يحى بن سعيد الأنصاري، عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من آل محمد؟ فقال: كل تقى [ (2) ] وتلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [ (3) ] ،
قال الطبراني: لم يروه عن يحيى إلا نوح، تفرد به نعيم. وقد رواه البيهقي من حديث أحمد بن عبد اللَّه بن يونس، حدثنا نافع أبو هرمز عن أنس فذكره، ونوح هذا ونافع بن هرمز لا يحتج بهما أحد من أهل العلم، قال ابن معين: نوح بن أبى مريم ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال السعدي: سقط حديثه، وقال ابن عدي:
وعامة حديثه لا يتابع، ونافع أبو هرمز السلمي بصرى، قال ابن معين: ليس بشيء، ومرة قال: يروى عن أنس، ليس بثقة. كذاب، وقال أحمد: ضعيف الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف على رواياته بيّن.
واحتجوا بأن اللَّه تعالى قال لنوح عليه السلام عن ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [ (4) ] ، فأخرجه بشركه أن يكون من أهله، فعلم أن آل
__________
[ (1) ] زيادة للسياق، ومكانها مطموس في (خ) .
[ (2) ] (كنز العمال) : 3/ 89، حديث رقم (5624) عن أنس رضي اللَّه عنه، وقد سبق ذكر الآل مشروحا فليراجع.
[ (3) ] الأنفال: 34.
[ (4) ] هود: 46، وقال سفيان الثوري: عن أبى عامر الهمدانيّ، عن الضحال، عن ابن عباس في قوله تعالى:
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ قال: هو ابنه، ما بغت امرأة نبي قط. (تفسير سفيان الثوري) : 130، مسألة رقم (354: 5: 15) .(5/398)
__________
[ () ] قال الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ: هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عليه السلام عن حال ولده الّذي غرق قال رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الّذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي الذين وعدت إنجاءهم، لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره، ومخالفته أباه نبي اللَّه نوح عليه السلام.
وقد نصّ غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه. وإنما كان ابن زنية، ويحكى القول بأنه ليس بانه وإنما كان ابن امرأته، عن مجاهد، والحسن، وعبيد بن عمير، وأبي جعفر الباقر، وابن جريج، واحتج بعضهم بقوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، وبقوله:
فَخانَتاهُما، فممن قاله، الحسن البصري، احتجّ بهاتين الآيتين، وبعضهم بقول: ابن امرأته، وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن، أو أراد أنه نسب إليه مجازا لكونه كان ربيبا عنده، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن عباس وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط، قال: وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي الذين وعدتك نجاتهم، وقول ابن عباس في هذا هو الحق الّذي لا محيد عنه، فإن اللَّه سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة، ولهذا غضب اللَّه على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ* لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ* لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ* وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ* إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة وغيره، عن عكرمة عن ابن عباس قال: هو ابنه، غير أنه خالفه في العمل والنية. قال عكرمة في بعض الحروف: إنه عمل عملا غير صالح، والخيانة تكون على غير باب، وقد ورد في الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأ بذلك،
فقال الإمام أحمد: حدثنا حماد ابن سلمة، عن ثابت، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وسمعته يقول: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا وكيع، حدثنا هارون النحويّ، عن ثابت البناني، عن شهر ابن حوشب، عن أم سلمة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قرأها: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أعاده أحمد أيضا في مسنده، أم سلمة هي أم المؤمنين، والظاهر- واللَّه أعلم- أنها أسماء بنت يزيد، فإنّها تكنى بذلك أيضا.
وقال عبد الرزاق أيضا: أنبأنا الثوري عن ابن عيينة، عن يونس بن أبى عائشة، عن سليمان ابن قبة، قال: سمعت ابن عباس سئل وهو إلى جنب الكعبة عن قول اللَّه تعالى: فَخانَتاهُما قال:
أما إنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل على الأضياف،(5/399)
الرسول هم أتباعه، وأجاب الشافعيّ- رحمه اللَّه- عن هذا بأن المراد إنه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم ووعدناك نجاتهم، لأن اللَّه تعالى قال له قبل ذلك:
احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، فليس ابنه من أهله الذين ضمن له نجاتهم، ويزيد صحة هذا الجواب أن سياق الآية يدل على أن المؤمنين قسم غير أهله الذين هم أهله، لأنه تعالى قال: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ
__________
[ () ] ثم قرأ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ.
قال ابن عيينة: وأخبرنى عمار الذهبي أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كان ابن نوح، إن اللَّه لا يكذب، قال تعالى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ. قال: وقال بعض العلماء: ما فجرت امرأة بنى قط، وكذا روى عن مجاهد أيضا، وعكرمة، والضحاك، وميمون بن مهران، وثابت بن الحجاج، وهو اختيار أبى جعفر بن جرير، وهو الصواب الّذي لا شك فيه. (تفسير ابن كثير) : 2/ 463- 464.
وقال الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ومعنى قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ: نفى أن يكون من أهل دينه واعتقاده، فليس ذلك إبطالا لقول نوح عليه السلام: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، ولكنه إعلام بأن قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة، وهذا المعنى شائع في الاستعمال قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإنّي لست منك ولست مني
وقال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [سورة التوبة الآية:
56] ، وتأكيد الخبر لتحقيقه لغرابته.
وجملة إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تعليل لمضمون جملة إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فإن فيه لمجرد الاهتمام.
وعَمَلٌ في قراءة الجمهور- بفتح الميم وتنوين اللام- مصدر أخبر به للمبالغة، وبرفع غَيْرُ على أنه صفة عَمَلٌ.
وقرأه الكسائي، ويعقوب عَمِلَ- بكسر الميم- بصيغة الماضي وبنصب غيرَ على المفعولية لفعل عمل، معنى العمل غير الصالح: الكفر، وأطلق على الكفر عمل لأنه عمل القلب، ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه- كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان.
وتفرع على ذلك نهيه أن يسأل ما ليس له به علم نهى عتاب، لأنه لما قيل له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ بسبب تعليله بأنه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، سقط ما مهّد به لإجابة سؤاله، فكان حقيقا بأن لا يسأله وأن يتدبر ما أراد أن يسأله من اللَّه (تفسير التحرير والتنوير) : 12/ 85- 86.
وقال العلامة أبو القاسم جار اللَّه محمود بن عمر الزمخشريّ الخوارزمي: قوله تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، تعليل لانتفاء كونه من أهله، وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأن نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب، وإن كان حبشيا وكنت قرشيا لصيقك وخصيصك، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمسّ أقاربك رحما، فهو بعيد منك (الكشاف) : 2/ 219.(5/400)
[ (1) ] ، فمن آمن معطوف على المفعول بالحمل وهم أهل، والاثنان من كل زوجين، واحتجوا بحديث واثلة المتقدم، وتخصيص واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة به، وكأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل واثلة في حكم الأهل تشبيها بمن يستحق هذا الاسم.
والصواب: أن الأتقياء من أمته صلّى اللَّه عليه وسلّم هم أولياؤه، فمن كان منهم من أقاربه فهو من أوليائه لا من آله، فقد يكون الرجل من آله وأوليائه كأهل بيته والمؤمنين به من أقاربه ولا يكون لا من آله ولا من أوليائه كمن لم يؤمن به، وقد يكون من أوليائه وإن لم يكن من آله، كخلفائه في أمته، الداعين إلى سنته، الذابين عنه، الناصرين لدينه، وإن لم يكن من أقاربه.
وقد ثبت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن آل- أبى فلان- ليسوا لي بأولياء، إنّ أوليائي المتقون كانوا ومن كانوا [ (2) ] ،
فالمتقون هم أولياء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأولياؤه
__________
[ (1) ] هود: 40.
[ (2) ]
أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب (14) تبلّ الرحم ببلالها، حديث رقم (5990) ولفظه:
حدثني عمرو بن عباس، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس ابن أبى حازم، أن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جهارا غير سرّ- يقول: إن آل أبى- قال عمرو في كتاب محمد بن جعفر: بياض- ليسوا بأوليائى، إنما ولىّ اللَّه وصالح المؤمنين. زاد عنبسة ابن عبد الواحد عن بيان، عن قيس، عن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ولكن لهم رحم أبلّها ببلالها، يعنى أصلها بصلتها.
قوله: «سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جهارا» ، يحتمل أن يتعلّق بالمفعول، أي كان المسموع في حالة الجهر، ويحتمل أن يتعلق بالفاعل، أي أقول ذلك جهارا. وقوله: غير سرّ تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة، وأخفاه أخرى، والمراد أنه لم يقل ذلك خفية، بل جهر به وأشاعه.
قوله: «إن آل أبى» ،
وكذا للأكثر، يحذف ما يضاف إلى أداة الكنية، وأثبته المستملي في روايته لكن كنى عنه
فقال: «آل أبى فلان» ،
وكذا هو في روايتي مسلم والإسماعيلي، وذكر القرطبي أنه وقع في أصل مسلم موضع «فلان» بياض، ثم كتب بعض الناس فيه «فلان» على سبيل الإصلاح، وفلان كناية عن اسم علم، ولهذا وقع لبعض رواته
«إن آل أبى يعنى فلان» ،
ولبعضهم
«إن آل أبى فلان»
بالجزم.
قوله: «بياض» : قال عبد الحق في كتاب (الجمع بين الصحيحين) : إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض يعنى بغير كتابة، وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكنى عنه في الرواية، فقرأه بالجر على أنه في كتاب محمد بن جعفر إن آل أبى، بياض.
وهو فهم سيئ ممن فهمه، لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها آل أبى بياض، فضلا عن قريش.(5/401)
__________
[ () ] وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخصّ من ذلك، لقوله: «إن لهم رحما» ، وأبعد من حمله على بنى بياضه، وهم بطن من الأنصار، لما فيه من التغير أو الرحم على رأى، ولا يناسب السياق أيضا، وقال ابن التين: حذفت التسمية لئلا يتؤذى بذلك المسلمون من أبنائهم.
وقال النووي: هذه الكناية من بعض الرواة، خشي أن يصرح بالاسم، فيترتب عليه مفسدة، إما في حق نفسه، وإما في حق غيره، وإما معا. وقال القاضي عياض: إن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبى العاص. وقال ابن دقيق العيد: كذا وقع مبهما في السياق، وحمله بعضهم على بنى أمية، ولا يستقيم مع قوله: آل أبى، فلو كان بنى لأمكن، ولا يصح تقدير آل أبى العاص، لأنهم أخصّ من بنى أمية، والعام لا يفسّر بالخاص. قلت: لعل مراد القائل أنه أطلق العام وأراد الخاصّ، وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها «إن آل بنى» لكن وهب لا يعتمد عليه. وجزم الدمياطيّ في حواشيه بأنها آل أبى العاص ابن أمية، ثم قال ابن دقيق العيد: إنه رأى في كلام ابن العربيّ في هذا شيئا يراجع منه.
قلت: قال أبو بكر بن العربيّ في (سراج المريدين) : كان في أصل حديث عمرو بن العاص «إن آل أبى طالب» ، فغير «آل أبى فلان» ، كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع، ونسبه إلى التحامل على آل أبى طالب.
قوله: «ليسوا بأوليائى» كذا للأكثر- وفي نسخة من رواية أبى ذرّ «بأولياء» فنقل ابن التبين عن الداوديّ أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم، فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع.
وقال الخطابي: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول، وهو الراجح، فإن من جملة آل أبى طالب: عليا، وجعفرا، أو هما أخصّ الناس بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام، ونصر الدين. وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث- لما نسب إلى بعض راويه من النصب، وهو الانحراف عن عليّ رضي اللَّه عنه وآل بيته.
قلت: أما قيس بن أبى حازم، فقال يعقوب بن شيبة: تكلم أصحابنا في قيس، فمنهم من رفع قدره وعظمه، وجعل الحديث عنه من أصحّ الأسانيد، حتى قال ابن معين: هو أوثق من الزهري.
ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب، وإفراده لا يقدح فيه.
ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال: كان يحمل على عليّ، ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين. وأجاب من اطراه بأنه كان يقدم عثمان على عليّ.
قلت: والمعتمد عليه أنه ثقة، ثبت، مقبول الرواية، وهو من كبار التابعين، سمع من أبى بكر الصديق فمن دونه، وقد روى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبى خالد، وبيان بن بشر، وهما كوفيان، ولم ينسبا إلى النصب.
لكن الراويّ عن بيان، وهو عنبسة بن عبد الواحد، أموى قد نسب إلى شيء من النصب، وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين على ما كان فحاشاه أن يتهم، وللحديث محل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني أبى طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد بآل(5/402)
__________
[ () ] أبى طالب أبو طالب نفسه، وهو إطلاق سائغ كقوله في أبى موسى: «إنه أوتى مزمارا من مزامير آل داود،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «آل أبى أوفى» ،
وخصه بالذكر مبالغة في الانتفاء ممن لم يسلم، لكونه عمّه، وشقيق أبيه، وكان القيم بأمره، ونصره، وحمايته، ومع ذلك فلما لم يتابع على دينه انتفى من موالاته.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إنما ولى اللَّه وصالح المؤمنين» ،
كذا للأكثر بالإفراد وإرادة الجملة، وهو اسم جنس- ووقع في رواية البرقاني: «وصالحوا المؤمنين بصيغة الجمع وقد أجاز بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل: فإن اللَّه هو مولاه وجبريل [وصالحوا] المؤمنين لكن حذفت الواو من الخط على وفق النطق، وهو مثل قوله تعالى: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ وقوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، وقوله تعالى:
وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ.
وقال النووي: معنى الحديث أن وليي من كان صالحا وإن بعد منى نسبه، وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب منى نسبه. وقال القرطبي: فائدة الحديث انقطاع الولاية في الدين بين المسلم والكافر، ولو كان قريبا حميما.
وقال ابن بطال: أوجب في هذا الحديث الولاية بالدين، ونفاها عن أهل رحمه إن لم يكونوا من أهل دينه، فدلّ ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد، لم يكن بينهم توارث ولا ولاية.
قال: ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها، والمتوعد على قطعها، هي التي شرع لها ذلك فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك ولا يلحق بالوعيد من قطعه، لأنه قطع من أمر اللَّه بقطعه لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا، كما دعا صلّى اللَّه عليه وسلّم لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا لهم. قلت: ويتعقب كلامه في موضعين:
أحدهما: يشاركه فيه كلام غيره، وهو قصره النفي على من ليس على الدين، وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا لتقييده الولاية بقوله: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ.
والثاني: أن صلة الرحم الكافر، ينبغي تقيدها بما إذا أيس منه رجوعا عن الكفر، أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم كما في الصورة التي استدل بها، وهي دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لقريش بالخصب، وعلل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شيء من ذلك وأما من كان على الدين ولكنه مقصّر في الأعمال مثلا فلا يشارك الكافر في ذلك.
وقد وقع في (شرح المشكاة) : المعنى أنى لا أوالي أحدا بالقرابة، وإنما أحب اللَّه تعالى لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالح المؤمنين لوجه اللَّه تعالى، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح- سواء كان من ذوى رحم أو لا، ولكنى أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ على أقوال: أحدها: الأنبياء، أخرجه الطبري- وابن أبى حاتم عن قتادة، وذكره ابن أبى حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد.
الثاني: الصحابة، أخرجه ابن أبى حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي، قال: هم أبو بكر، وعمر وعثمان وعلى، وأشباههم ممن ليس بمنافق.
الثالث: خيار المؤمنين، أخرجه ابن أبى حاتم عن الضحاك.
الرابع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، أخرجه ابن أبى حاتم عن الحسن البصريّ.(5/403)
__________
[ () ] الخامس: أبو بكر، وعمر، أخرجه الطبري وابن مردويه، عن ابن مسعود مرفوعا، وسنده ضعيف. وأخرجه الطبري وابن أبى حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغنى بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك. قال ابن أبى حاتم: وروى عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعبد اللَّه بن بريدة، ومقاتل ابن حبان كذلك.
السادس: أبو بكر خاصة، ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك.
السابع: عمر خاصة، أخرجه ابن أبى حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس.
الثامن: عليّ، أخرجه ابن أبى حاتم بسند منقطع عن عليّ نفسه مرفوعا، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، قال: هو عليّ.
وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ على بن أبى طالب. ومن طريق أبى مالك عن ابن عباس مثله موقوفا،
وفي سنده راو ضعيف.
وذكره النقاش عن ابن عباس، ومحمد بن على الباقر، وابن جعفر بن محمد الصادق، قلت: فإن ثبت هذا، ففيه دفع توهّم من توهّم أن في الحديث المرفوع نقصا من قدر عليّ رضي اللَّه عنه، ويكون المنفىّ أبا طالب ومن مات من آله كافرا، والمثبت من كان منهم مؤمنا، وخصّ عليّ بالذكر لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة، ونصّ فيها على عليّ تنويها بقدره، ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور غضاضة، ولو تفطن من كنى عن أبى طالب لذلك لاستغنى عما صنع.
قوله: «وزاد عنبسة بن عبد الواحد» ، أي ابن أمية بن عبد اللَّه بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا، وهو سعيد بن العاص بن أمية، وهو موثوق عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الموضوع المعلق، وقد وصله البخاري في كتاب البر والصلة فقال: حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة، حدثنا جدي ... فذكره،
وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور، وساقه بلفظ: سمعت عمرو بن العاص بقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينادى جهرا غير سرّ: إن بنى فلان ليسوا بأوليائى، وإنما ولي اللَّه والذين آمنوا، ولكن لهم رحم ...
الحديث وقد قدمت رواية الفضل، وإنما الفضل ابن الموفق عن عنبسة من عند أبى نعيم، وأنها أخص من هذا.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ولكن لها رحم أبلها ببلالها، يعنى أصلها بصلتها» ،
كذا لهم، لكن سقط التفسير من رواية النسفي، ووقع عند أبى ذر بعده «أبلها ببلالها» وبعده في الأصل: كذا وقع، وببلالها أجود وأصحّ.
قال الخطابي وغيره: بللت الرحم بلا وبللا وبلالا، أي نديتها بالصلة، وقد أطلقوا على الإعطاء الندى، وقالوا في البخيل: ما تندى كفه بخير، فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بالماء الّذي يطفئ ببرده الحرارة، ومنه الحديث: بلوا أرحامكم ولو بالسلام.
وقال الطيبي وغيره: شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حتى إذا سقيها أزهرت(5/404)
أحب إليه، قال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [ (1) ] ،
وسئل صلّى اللَّه عليه وسلّم: أي الناس أحب إليك؟
قال: عائشة، قيل: من الرجال؟ قال: أبوها.
متفق عليه [ (2) ] وذلك أن المتقين هم أولياء اللَّه تعالى، كما قال عزّ من قائل: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [ (3) ] ، فأولياء اللَّه تعالى أولياء رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
تم بحمد اللَّه تعالى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله: «فصل في ذكر ذرية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
__________
[ () ] ورئيت فيها النضارة، فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقى يبست وبطلت منفعتها، فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء، ومنه قولهم سنة جماد لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها.
وجوّز الخطابي أن يكون معنى
قوله: أبلها ببلالها، في الآخرة،
أي أشفع لها يوم القيامة، وتعقبه الداوديّ بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا، ويؤيده
ما أخرجه مسلم من طريق موسى بن طلحة عن أبى هريرة قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قريشا فاجتمعوا، فعمّ وخصّ- إلى أن قال-: يا فاطمة أنقذى نفسك من النار، فإنّي لا أملك لكم من اللَّه شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها،
وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة.
وقال الطيبي: في
قوله: «ببلالها»
مبالغه بديعة، وهي مثل قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي زلزالها الشديد الّذي لا شيء فوقه، فالمعنى: أبلها بما اشتهر وشاع، بحيث لا أترك منه شيئا. (فتح الباري) : 10/ 513- 518 مختصرا.
وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (93) موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراء منهم، حديث رقم (215) .
[ (1) ] التحريم: 4.
[ (2) ]
أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (5) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو كنت متخذا خليلا، حديث رقم (3662) ، ولفظه: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، قال خالد الحذّاء:
حدثنا عن أبى عثمان قال: حدثني عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدّ رجالا. وأخرجه في كتاب المغازي، باب (64) غزوة ذات السلاسل،
وهي غزوة لخم وجذام، وزاد في آخره: فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم.
[ (3) ] يونس: 62- 63.(5/405)
[المجلد السادس]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فصل في ذكر ذرية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
اعلم أن اشتقاق لفظ الذرية [على] ثلاثة أقوال، أحدها: أنها مشتقة من ذرأ، قال الكسائي: وذرية الرجل: النشؤ الذين خرجوا منه، وهو من ذروت وذريت، وليس بمهموز، قال أبو عبيدة: أصله مهموز ولكن العرب تركت الهمز فيه وفي آخر وغيره، وهو في مذهب أبي عبيدة من ذرأ اللَّه الخلق، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [ (1) ] أي أنشأهم وخلقهم، قال تعالى: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [ (2) ] أي يخلقكم، فكأن ذرية الرجل من خلق اللَّه منه ومن نسله، ومن أنشأ من صلبه، وقال ابن فارس في (مقاييسه) : قولهم ذرأنا الأرض بذرناها [ذرءا] ذرىء على فعيل، ومن هذا الباب: ذرأ اللَّه الخلق يذرؤهم ذرءا، خلقهم، وفي التنزيل:
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [ (3) ] ، وقال ثعلب: معناه يكثركم فيه، أي في الخلق والذرية، وكان ينبغي أن تكون مهموزة فكثرت فأسقط الهمز.
ثانيها: أنها من الذر الّذي هو النمل الصغار، وهذا قول ضعيف.
ثالثها: أنها من ذرأ يذرأ إذا فرق، والقول الأول أصحها، لأن الاشتقاق والمعنى يشهد ان له، قال تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [ (3) ] ، وفي الحديث، أعوذ بكلمات اللَّه التامات
__________
[ (1) ] الأعراف: 179.
لكن قال ابن الجوزي في حديث «من آل محمد؟ قال: كل مؤمن تقى» : هذا الحديث لا يصح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ونافع يغلب على حديثه الوهم، قال يحى بن معين: لا يكتب حديثه، وضعّفه هو وأحمد بن حنبل، وقال يحى مرة: كذاب، وقال الدار قطنى: متروك، وقال البيهقي: لا يحل الاحتجاج بمثله، نافع السلمي أبو هرمز بصرى، كذبه يحى بن معين، وضعّفه أحمد بن حنبل وغيرهما من الحفاظ. (العلل المتناهية) : 1/ 266- 267، حديث في تفسير آل محمد رقم (429) .
[ (2) ،]
[ (3) ] الشورى: 11.(6/3)
[اللاتي] لا يجاوزهن برّ ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ [ (1) ] ، [قال
__________
[ (1) ]
أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 431- 432، من حديث عبد الرحمن بن خنيش التميمي رضى اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (15034) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا سيار بن حاتم أبو سلمة العنزي قال: حدثنا جعفر- يعنى ابن سليمان- قال: حدثنا أبو التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنيش التميمي وكان كبيرا: أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: قلت: كيف صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة كادته الشياطين؟ فقال: إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الأودية والشعاب، وفيهم شيطان بيده شعلة نار، يريد أن يحرق بها وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فهبط إليه جبريل عليه السّلام فقال: يا محمد قل، قال: ما أقول؟ قال: قل: أعوذ بكلمات اللَّه التامة من شرّ ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شرّ ما ينزل من السماء، ومن شرّ ما يعرج فيها، ومن شرّ فتن الليل والنهار، ومن شرّ كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان، قال: فطفئت نارهم، وهزمهم اللَّه تبارك وتعالى.
وأخرجه الإمام أحمد أيضا من حديث عبد الرحمن بن خنيش التميمي، حديث رقم (15035) لكن باختلاف يسير.
وأخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) : 4/ 175، باب (33) في تعديد نعم اللَّه عزّ وجلّ وشكرها، فصل في النوم وآدابه، حديث رقم (4710) : أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن على الصنعاني، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، عن أبى رافع، أن خالد بن الوليد جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فشكا إليه وحشة يجدها، فقال له: ألا أعلمك ما علمني الروح الأمين، جبريل عليه السّلام، قال: إن عفريتا من الجن يكيدك، فإذا أويت إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر من شرّ ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرّ ما يخرج منها، ومن شرّ طوارق الليل والنهار، ومن شرّ كل طارق يطرق إلا بخير يا رحمان.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أعوذ بكلمات اللَّه التامات وأسمائه كلها من شرّ ما ذرأ وبرأ، ومن شرّ كل ذي شرّ، ومن شرّ كل دابة ربى آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم» ،
قال الحافظ العراقي: رواه أبو الشيخ في كتاب (الثواب) ، من حديث عبد الرحمن بن عوف: «من قال حين يصبح: أعوذ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر من شرّ ما خلق، وبرأ، وذرأ، اعتصم من الثقلين» ، وفيه: «وإن قالهن حين يمسى كن له كذلك حتى يصبح» ،
وفيه ابن لهيعة.
والكلمات، قال الهروي وغيره: القرآن، وقال أبو داود في (سننه) ، باب في القرآن، وذكر فيه حديث تعويذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الحسن والحسين بكلمات اللَّه التامة. والتامّات، قيل: هي النافعات، الكافيات، الشافيات من كل ما يتعوذ منه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في (الدعاء) من طريق إبراهيم بن أبى بكر قال: سمعت كعبا يقول: لولا كلمات أقولهن حين أصبح وأمسى، لجعلتنى اليهود من الحمر الناهقة، والكلاب النابحة، والذئاب العادية: «أعوذ بوجه اللَّه الجليل، وبكلماته التامة، الّذي لا يخفر جاره، الّذي يمسك السموات(6/4)
تعالى:] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [ (1) ] وقال تعالى:
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [ (2) ] ، فالذرية منه بمعنى مفعولة، أي مذرورة، ثم أبدلوها همزها ياء فقالوا: ذرية.
ولا خلاف أن الذرية تقال على الأولاد الصغار والكبار، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: الذريات عندنا إذا كانت بالألف: الأعقاب والنسل، فأما الذين في حجورهم خاصة فإنّهم الذرية، انتهى.
وقد قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [ (3) ] ، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [ (4) ] ، وقال تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [ (5) ] وقال تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [ (6) ] .
وهل يقال الذرية على الآباء؟ فيه قولان ليس هذا موضع بسط القول فيهما، فإذا ثبت هذا فالذرية الأولاد وأولادهم، وهل يدخل فيها أولاد البنات؟ فيه قولان، أحدهما: يدخلون، وهو مذهب الشافعيّ وأحد قولي
__________
[ () ] والأرض ومن فيهن أن تقع على الأرض إلا بإذنه، من شرّ ما خلق، وذرأ، وبرأ» . (إتحاف السادة المتقين) : 5/ 384- 385، كتاب الأذكار والدعوات، الباب الخامس، مختصرا.
[ (1) ] الأعراف: 179.
[ (2) ] النحل: 13.
[ (3) ] البقرة: 124.
[ (4) ] آل عمران: 34.
[ (5) ] الأنعام: 87.
[ (6) ] الإسراء: 3.
قال الفيروزآبادي: وذرأ الشيء: كثّره، قيل: ومنه الذرية مثلثة الذال، وهو اسم لنسل الثقلين، وقيل:
أصلها الصغار أي الأولاد، وإن كان يقع على الصغار والكبار معا في التعارف، ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع، (بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 3/ 7.(6/5)
أحمد، ودليله إجماع المسلمين على دخول أولاد فاطمة رضى اللَّه عنها في ذرية النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، المطلوب لهم من اللَّه تعالى الصلاة عليهم، لأن أحدا من بناته لم يعقب عقباً باقيا غيرها، فمن انتسب إليه صلّى اللَّه عليه وسلم من أولاد بيته فإنما هو من جهة فاطمة رضى اللَّه عنها خاصة.
وقد
قال صلّى اللَّه عليه وسلم في الحسن ابن بنته، إن [ابني] هذا سيد [ (1) ] ،
فسماه ابنه، ولما نزلت آية المباهلة [وهي قوله تعالى:] [ (2) ] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ [ (3) ]
__________
[ (1) ] (المطالب العالية) : 4/ 72، حديث رقم (4000) ، وهو في (صحيح البخاري) من وجه آخر عن الحسن، عن أبي بكرة، وأخرجه البزار برجال الصحيح من حديث جابر، (المستدرك) :
3/ 191- 192، كتاب معرفة الصحابة، باب: ومن فضائل الحسن بن علي بن أبي طالب رضى اللَّه تعالى عنه، وذكر مولده، ومقتله، حديث رقم (4809/ 407) ، (4810/ 408) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : أخرجهما البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، لكن البخاري من طريق أبى موسى إسرائيل، عن الحسن، (مسند أحمد) : 6/ 17، حديث رقم (19879) ، 6/ 27، حديث رقم (19935) ، 6/ 30، حديث رقم (19960) ، ثلاثتهم من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث ابن كلدة.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (3) ] آل عمران: 61.
قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن داود الملكي، حدثنا بشر بن مهران، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن جابر، قال: قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه أن يلاعناه الغداة، فغدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيد عليّ، وفاطمة، والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، وأقرّا له بالخراج، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: والّذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي نارا.
قال جابر: وفيهم نزلت: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ وقال جابر:
أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وعلى بن أبى طالب، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في (المستدرك) : [3/ 163، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مقتل أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضى اللَّه تعالى عنه بأصحّ الأسانيد على سبيل الاختصار، حديث رقم (4719/ 317) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم] .
وقد روى عن ابن عباس والبراء نحو ذلك، ثم قال اللَّه تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ أي(6/6)
الآية، دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا للمباهلة.
وخرج الحاكم من طريق أحمد الإمام ابن عفان، حدثنا وهيب حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن منية الثقفي قال: جاء الحسن والحسين يستبقان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فضمهما إليه ثم قال: إن الولد مبخلة مجبنة محزنة [ (1) ] .
قال صحيح على شرط مسلم.
__________
[ () ] هذا الّذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الّذي لا معدل عنه ولا محيد وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا أي عن هذا إلى غيره فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي من عدل عن الحق وولي الباطل فهو المفسد، واللَّه عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر الّذي لا يفوته شيء، سبحانه، وبحمده، ونعوذ به من حلول نقمته. (تفسير ابن كثير) :
1/ 378- 379 مختصرا، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق.
وقد أخرجه الحافظ البيهقي مطولا في (دلائل النبوة) : 5/ 382- 393، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
وانظر أيضا في وفد نجران ما ذكره كل من ابن هشام في (السيرة) ، ابن سعد في (الطبقات) ، البلاذري في (فتوح البلدان) ، وابن كثير في (البداية والنهاية) ، النويرى في (نهاية الأرب) ، الزرقانى في (شرح المواهب اللدنية) .
[ (1) ] (المستدرك) 3/ 179، كتاب معرفة الصحابة، باب: ومن مناقب الحسن والحسين ابني بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (4771/ 369) وسكت عنه الذهبي في (التلخيص) ، وقال محقق (المستدرك) ، قال في (الفيض) : أخرجه الحاكم في الفضائل عن الأسود بن خلف بن يغوث القرشي، وقال الحاكم على شرط مسلم، وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح، (كنز العمال) :
16/ 288- 289، الباب الثاني في الترهيب عن النكاح، حديث رقم (44512) : أما إن الأولاد مبخلة مجبنة محزنة، الطبراني عن الأشعث بن قيس. وحديث رقم (44513) : لا تقل ذلك، فإن فيهم قرة أعين وأجرا إذا قبضوا، ولئن قلت ذلك فإن فيهم لمجبنة ومحزنة ومبخلة. الطبراني عن أشعث ابن قيس أيضا وزاد فيه: قال: قلت يا رسول اللَّه! ولد لي مولود ولوددت أن يكون لي مكانه شبع اليوم! قال- فذكره، وحديث رقم (44514) : أما إن قلت ذلك إنهم لمجبنة محزنة، ثمرات القلوب وقرأت الأعين. هناد وعن خيثمة مرسلا، وحديث رقم (44515) : إن قلت ذلك إنهم لمجبنة محزنة، وإنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين. الحاكم عن الأشعث بن قيس، حديث رقم (44516) : الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة، وإن آخر وطاءة وطئها اللَّه بوج [موضع بناحية الطائف] وعزاه إلى الطبراني عن خولة بنت حكيم، حديث رقم (44517) إن الولد مبخلة مجبنة محزنة. ابن عساكر والبيهقي، عن يعلى بن أبي أمية.(6/7)
وفي حديث شريك عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحى بن يعمر على الحجاج، ومن حديث صالح من موسى، حدثنا عاصم بن بهدلة قال:
اجتمعوا عند الحجاج فذكر الحسين بن على، فقال الحجاج: لم يكن من ذرية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعنده يحى بن يعمر فقال له: كذبت أيها الأمير، فقال: لتأتينى على ما قلت بينة ومصداق من كتاب اللَّه تعالى أو لأقتلنّك، فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى [ (1) ] إلى قوله تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى [ (1) ] فأقرّ اللَّه تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه، والحسن بن على من ذرية محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بأمه، قال: صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسى؟ قال: ما أخذ اللَّه على الأنبياء ليبيّننّه للناس ولا يكتمونه، قال اللَّه تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ [ظُهُورِهِمْ] وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [ (2) ] ، قال: فنفاه إلى خراسان [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الأنعام: 84- 85 وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ.
[ (2) ] آل عمران: 187.
[ (3) ] أورد الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير هذا الخبر هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا على بن عباس، عن عبد اللَّه بن عطاء المكيّ، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تجده في كتاب اللَّه، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال: أليس تقرأ سورة الأنعام وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ حتى بلغ وَيَحْيى وَعِيسى قال: بلى، قال: أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف علي ذريته أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربيّ:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم أيضا، لما
ثبت في صحيح البخاري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال للحسن بن على: إن ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
فسماه ابنا، فدل علي دخوله في الأبناء.(6/8)
وخرج من طريق عبيد اللَّه بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن عليّ رضى اللَّه عنه قال: لما ولدت فاطمة الحسن رضى اللَّه عنهما، جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: أرونى ابني، ما سميتموه؟
قال: قلت: سميته حربا، قال: بل هو حسن، فلما ولدت الحسين رضى اللَّه عنه جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: أرونى ابني، ما سميتموه؟ قلت: سميته حربا، قال: بل هو حسين، ثم لما ولدت الثالث جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، [فقال] : أرونى ابني، ما سميتموه؟ قلت: سميته حربا، قال: بل هو محسن، قال: إنما أسميتهم باسم ولد هارون عليه السّلام: شبر، وشبير، ومشبر [ (1) ] .
ومن طريق محمد بن إسماعيل بن أبى فديك، حدثنا محمد بن موسى المخزومي، حدثنا عون بن محمد عن أبيه، عن أم جعفر أمه، عن جدتها أسماء، عن فاطمة رضى اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أتاها يوما فقال: أين ابناي؟ فقالت ذهب بهما عليّ، فتوجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر، فقال: يا عليّ! ألا تقلب ابنىّ قبل
__________
[ () ] وقال آخرون: هذا تجوّز، وقوله: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ، ذكر أصولهم، وفروعهم، وذوى طبقتهم، وأن الهداية بالاجتباء شملهم كلهم، ولهذا قال: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ثم قال تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، أي إنّما حصل لهم ذلك بتوفيق اللَّه وهدايته إياهم. (تفسير ابن كثير) : 2/ 160.
وأما رواية (خ) ، فأخرجها الحاكم في (المستدرك) بسياقة قريبة منه: 3/ 180، كتاب معرفة الصحابة، باب: ومن مناقب الحسن والحسين ابني بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (4772/ 370) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 180، كتاب معرفة الصحابة، باب: ومن مناقب الحسن والحسين ابني بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (4773/ 371) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح. ونحوه حديث رقم (4783/ 381) لكن باختلاف يسير، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : مرّ من حديث إسرائيل.
وهو الحديث السابق.(6/9)
الحر؟ .. وذكر باقي الحديث.
قال: محمد بن موسى هذا هو ابن مشمول مدينى ثقة، وعون هذا هو ابن محمد بن عبيد اللَّه بن أبي رافع، هو وأبوه ثقتان، وأم جعفر هي ابنة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وجدّتها أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنهم، وكلهم أشراف ثقات [ (1) ] .
وخرج أيضا من طريق وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، عن أبيه قال: خرج [علينا] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر] وهو حامل [أحد] ابنيه الحسن أو الحسين، فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الصلاة فوضعه عند قدمه اليمنى، فسجد رسول اللَّه سجدة أطالها، قال أبى: فرفعت رأسي من بين الناس، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساجد، وإذا الغلام راكب على ظهره، فعدت فسجدت، فلما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال الناس: يا رسول اللَّه! لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، أفشيء أمرت به أو كان يوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضى حاجته.
قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (2) ] .
ومن طريق ابن نعيم الفضل بن دكين، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن أبى ظبيان.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4774/ 372) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : بل محمد ضعّفوه.
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (4775/ 373) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(6/10)
عن سلمان قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: الحسن والحسين ابناي، من أحبهما أحبنى، ومن أحبنى أحبه [اللَّه] ، ومن أحبه اللَّه أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضنى، ومن أبغضنى أبغضه اللَّه، ومن أبغضه اللَّه أدخله النار،
قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ (1) ] .
ومن طريق عثمان بن سعيد الدارميّ، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عطاء بن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عبّاس عن أم الفضل قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا أرضع الحسين بن على بلبن ابن كان يقال له قثم، قلت: فتناوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فناولته إياه، [فبال] عليه، قالت: فأوهيت بيدي إليه [فقال] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا تزرمى ابني، قالت فرشّه بالماء [ (2) ] .
وقد ذكر اللَّه تعالى عسى بن مريم عليه السّلام فيمن ذكر من ذرية إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حيث رقم (4776/ 374) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : هذا حديث منكر، وإنما رواه بقي بن مخلد بإسناد آخر واه عن زادان عن سلمان.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 187- 198، حديث رقم (4829/ 427) ، وزاد في آخره: قال ابن عباس: بول الغلام الّذي لم يأكل يرش، وبول الجارية يغسل. قال الحاكم: هذا حديث قد روى بأسانيد ولم يخرجاه، فأما إسماعيل بن عياش وعطاء بن عجلان، فإنّهما لم يخرجاه، وقد حذفه الذهبي من (التلخيص) ، وما بين الحاضرين زيادة للسياق من (المستدرك) .
قال في (اللسان) : زرم دمعه وبوله وكلامه، وازرأم: انقطع، ما انقطع فقد زرم. قال الأصمعي:
الإزرام القطع، أي لا تقطعوا عليه بوله، ومنه حديث الأعرابي الّذي بال في المسجد، قال: لا تزرموه.
(لسان العرب) : 12/ 263) .
وقال الإمام النووي: الواجب في إزالة النجاسة الغسل، إلا في بول صبي لم يطعم، ولم يشرب سوى اللبن، فيكفى فيه الرش، ولا بدّ فيه من إصابة الماء جميع موضع البول، ثم لإيراده ثلاث درجات:
الأولى: النضح المجرد الثانية: النضح مع الغلبة والمكاثرة الثالثة: أن ينضم إلى ذلك السيلان، فلا حاجة في الرش إلى الثالثة قطعا، ويكفى الأولى على وجه، ويحتاج إلى الثانية على الأصح، ولا يلحق ببول الصبى بول الصبية، بل يتعين غسله على الصحيح. (روضة الطالبين) :
1/ 41.(6/11)
قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (1) ] .
وفي ذكر عيسى هنا دليل على أن البنت داخلة في الذرية، وذلك أنه تعالى شك عيسى وسائر الأنبياء المذكورين معه في كونهم من ذرية إبراهيم، مع أن عيسى إنما ينتمى إليه من جهة أمه، فدلّ على ما قلناه. واللَّه أعلم.
والقول الثاني: أنهم لا يدخلون، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي أحمد، وحجتهم أن ولد البنات إنما ينسبون إلى آبائهم حقيقة، فإن الهذلي والتيمي والعدوىّ إذا أولد هاشمية لم يكن ولده هاشميا، لأن الولد في النسب يتبع أباه، بخلاف الرّقّ والحرية والدين فإنه يتبع أمه، وقد قيل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولو وصى أو وقف على قبيلة لم يدخل فيها أولاد بناتها من غيرها، وأما دخول أولاد فاطمة رضى اللَّه عنها في ذرية النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلشرف هذا الأصل العظيم، والوالد الكريم، الّذي لا يدانيه أحد من العالمين، سرى ونفد إلى أولاد البنات لقوته وجلالته وعظم قدره.
وأما دخول عيسى في ذرية إبراهيم عليه السّلام، فإن المسيح لا أب له حتى يرجع إليه، فقامت أمه مقام أبيه، فنسبه اللَّه تعالى إليها، وهكذا كل من انقطع نسبه من جهة أبيه- إما بلعان أو غيره- قامت أمه في النسب مقام أبيه، وكذا في العصبة والولاء، كما هو مذكور في موضعه من كتب الفقه، واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] الأنعام: 83- 85.(6/12)
فصل في ذكر عترة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
عترة الرجل أسرته وفصيلته، من قول اللَّه تعالى: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [ (1) ] .
وقيل: عترته- رهطه الأدنون، والعترة: أصل شجرة تبقى بعد القطع، فتنبت من أصولها وعروقها، وقيل: العترة: صخرة عظيمة يتخذ الضب عندها حجرا يأوى إليها ليهتدى، وذلك لقلة هدايته، فكأن عترة الرجل هم أسرته وقومه الذين يأوى إليهم ويعتمد عليهم، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي، ويروى: كتاب اللَّه وأهل بيتي،
وبادلوا في العترة هنا أهل بيته، قالوا: لأنهم أسرته وفصيلته التي تؤويه، ورهطه الأدنون [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المعارج: 13.
[ (2) ] قال في (اللسان) : عترة الرجل: أقرباؤه من ولد وغيره، وقيل: هم قومه دنيا، وقيل: هم رهطه وعشيرته الأدنون، من مضى منهم ومن غبر، ومنه قول أبي بكر رضى اللَّه عنه: نحن عترة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه، وإنما جيبت العرب عنا كما جيبت الرحى عن قطبها، قال ابن الأثير: لأنهم من قريش، والعامة تظن أنها ولد الرجل خاصة، وأن عترة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولد فاطمة رضى اللَّه عنها قول ابن سيده،
وقال الأزهري رحمه اللَّه: وفي حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين خلفي: كتاب اللَّه وعترتي، فإنّهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض. قال: وقال محمد بن إسحاق: وهذا حديث صحيح، ورفعه نحوه زيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدريّ، وفي بعضها: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، فجعل العترة أهل البيت.
وقال أبو عبيد وغيره: عترة الرجل وأسرته، وفصيلته رهطه الأدنون. وقال ابن الأثير: عترة الرجل أخص أقاربه. وقال ابن الأعرابي: العترة ولد الرجل، وذريته، وعقبه من صلبه، قال: فعترة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ولد فاطمة البتول عليها السلام.
وروى عن أبى سعيد قال: العترة ساق الشجرة، قال: وعترة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عبد المطلب وولده، وقيل:
عترته أهل بيته الأقربون، وهم أولاده، وعلى، وقيل: عترته الأقربون والأبعدون منهم، وقيل: عترة الرجل أقرباؤه من ولد عمه دنيا، ومنه حديث أبي بكر رضى اللَّه عنه قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم حين شاور أصحابه في أسارى بدر: عترتك وقومك، أراد بعترته العباس ومن كان فيهم من بنى هاشم، وبقومه قريشا.
والمشهور المعروف أن عترته أهل بيته، وهم الذين حرمت عليهم الزكاة والصدقة المفروضة، وهم ذوو القربى الذين لهم خمس الخمس المذكور في سورة الأنفال. (لسان العرب) : 4/ 538.(6/13)
خرج الترمذي من حديث زيد بن الحسن- هو الأنماطي- عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنه قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في حجته يوم عرفه وهو على ناقته [القصواء] يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم [به] لن تضلوا، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي.
قال: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال: وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم [ (1) ] .
وخطّأ ابن قتيبة من يقتصر بالعترة على الذرية فقط، ومن يجعل عترة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولد فاطمة خاصة، ثم قال: وعترة الرجل ذريته وعشيرته الأدنون من مضى منهم ومن غبر، ويدلك على ذلك قول أبى
__________
[ (1) ]
(سلسلة الأحاديث الصحيحة للألبانى) : 4/ 355- 361، حديث رقم (1761) : يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي.
أخرجه الترمذي: 2/ 308، والطبراني (2680) عن زيد بن الحسن الأنماطي، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: ... فذكره
وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم.
قلت: قال أبو حاتم: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال الحافظ: ضعيف. قلت:
لكن الحديث صحيح، فإن له شاهدا من
حديث زيد بن أرقم قال: قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما خطيباً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال:
أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتى رسول ربى فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب اللَّه، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأ ضل، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللَّه، ورغّب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي.
أخرجه مسلم: 7/ 122- 123، والطحاوي في (مشكل الآثار) : 4/ 368، و (مسند أحمد) :
4/ 366- 367، وابن أبى عاصم في (السنة) : 1550، 1551، والطبراني: (5026) ، من طريق زيد بن حبان التميمي عنه.
ثم
أخرج أحمد: 4/ 371، والطبراني (5040) ، والطحاوي من طريق على بن ربيعة قال: لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده، فقلت له: أسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم(6/14)
__________
[ () ] يقول: إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي؟ قال: نعم.
وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح.
وله طرق أخرى عند الطبراني: 4969- 4971 و 4980 و 4980- 4982 و 5040، وبعضها عند الحاكم في (المستدرك) : 3/ 109، 148، 533، وصحيح هو والذهبي بعضها. وشاهد آخر من
حديث عطية العوفيّ، عن أبى سعيد الخدريّ مرفوعا: إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض.
ثم قال الألباني: واعلم أيها القارئ الكريم، أن من المعروف أن الحديث مما يحتج به الشيعة، ويلهجون بذلك كثيرا، حتى يتوهم بعض أهل السنة أنهم مصيبون في ذلك، وهم جميعا واهمون في ذلك، وبيانه ومن وجهين:
الأول: أن المراد من الحديث في
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «عترتي»
أكثر مما يريده الشيعة، ولا يرده أهل السنة، بل هم مستمسكون به، ألا وأن العترة فيه هم أهل بيته صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد جاء ذلك موضحا في بعض طرقه، كحديث الترجمة:
«وعترتي أهل بيتي» ،
وأهل بيته في الأصل هم نساؤه صلّى اللَّه عليه وسلم، وفيهم الصديقة عائشة، رضى اللَّه عنهن جميعا، كما هو صريح في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً* وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.
وتخصيص الشيعة أهل البيت في الآية بعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضى اللَّه تعالى عنهم دون نسائه صلّى اللَّه عليه وسلم، من تحريفهم لآيات اللَّه تعالى، انتصاراً لأهوائهم، كما هو مشروح في موضعه، وحديث الكساء وما في معناه، غاية ما فيه توسيع دلالة الآية، ودخول على وأهله فيها.
والوجه الآخر: أن المقصود من أهل البيت إنما هم العلماء الصالحون منهم، والمتمسكون بالكتاب والسنة، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه اللَّه تعالى: «العترة» هم أهل بيته صلّى اللَّه عليه وسلم الذين هم على دينه وعلى التمسك بأمره. وذكر نحوه الشيخ على القاري في الموضع المشار إليه آنفا ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله:
إن أهل البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم المطلعون على سيرته، الواقفون على طريقته، العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكون مقابلا لكتاب اللَّه سبحانه كما قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ(6/15)
بكر رضى اللَّه عنه: نحن عترة رسول اللَّه التي خرج منها وبيضته التي تفتات عنه، وإنما جيبت العرب منا كما جيبت الرحا عن قطبها، وما كان أبو بكر ليدعى بحضرة القوم جميعاً إلا يعرفونه. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[ () ] وسماهما «ثقلين» ، لأن الأخذ بهما «يعنى الكتاب والسنة» ، والعمل بهما ثقيل، ويقال لكل خطير نفيس «ثقل» ، فسماهما «ثقلين» إعظاما لقدرهما وتفخيما لشأنهما» (سلسلة الأحاديث الصحيحة) : 4/ 355- 360 مختصرا، (مشكل الآثار) : 4/ 368، (النهاية) : 1/ 216.(6/16)
فصل في ذكر سلالة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
قال ابن سيده: والسلالة والسليل: الولد، والأنثى سليلة، وقال غيره:
السلالة: الصفوة من كل شيء، قال ابن فارس في (المقاييس) : السليل:
الولد، كأنه سلّ من أمه سلّا، قالت امرأة في ابنها:
سل من قلبي ومن كبدي ... قمر أين دونه قمر
وقيل للحسن والحسين رضى اللَّه عنهما: سلالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أي هما الصفوة من ولده، وقيل: السليل: المنتوج، كأنه النقاح الخالص الصافي [ (1) ] .
واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] وسلالة الشيء: ما استل منه، والنطفة سلالة الإنسان، قال حسّان بن ثابت:
لجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين
وفي التنزيل العزيز وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:] قال الفراء السلالة الّذي سلّ من كل تربة. وقال أبو الهيثم: السلالة ما سلّ من صلب الرجل وترائب المرأة، كما يسلّ الشيء سلا، والسليل: الولد، سمّى سليلا لأنه خلق من السلالة، والسليل: الولد حين يخرج من بطن أمه، وروى عن عكرمة أنه قال في السلالة: إنه الماء يسلّ من الظهر سلا. وقال الأخفش: السلالة: الولد، والنطفة السلالة، وقد جعل الشماخ السلالة الماء في قوله:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
قال: والدليل على أنه الماء قوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعنى آدم، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ ثم ترجم عنه فقال: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فقوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ أراد بالإنسان ولد آدم، جعل الإنسان اسما للجنس، وقوله مِنْ طِينٍ، أراد أن تلك السلالة تولدت من طين خلق منه آدم في الأصل.
وإلى هذا ذهب الفراء، وقال الزّجاج: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، سلالة، فعالة والسليل: الولد، والأنثى سليلة، وقال أبو عمرو: السليلة: بنت الرجل من صلبه. (لسان العرب) : 11/ 339.
وقال الفيروزآبادي: سلّ السيف من غمده، واستله فانسلّ منه نزعه فانتزع، وسلّ الشعرة من العجبين، فانسلت انسلالا، وانسلّ من المضيق والزحام، واستلّ وتسلّل، وسلّ الشيء من البيت على سبيل السرقة، وسلّ الولد من الأب، ومنه قيل للولد سليل، قال تعالى: يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً [النور: 63] ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] ، أي من الصفو الّذي يسلّ من الأرض، وقيل: السلالة كناية عن النطفة، تصور فيه صفو ما يحصل منه (بصائر ذوى التمييز) : 3/ 251، بصيرة رقم (38) .(6/17)
فصل في ذكر سبط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
الأسباط: ولد يعقوب- وهو إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام- وكانوا اثنى عشر رجلا،
وفي الحديث المرفوع: الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمة،
والقبائل في العرب كالأسباط في بنى إسرائيل، فكان الأسباط قبائل الأنبياء، فلذلك سمى الحسن والحسين: السبطان، لأن أولادهما قبيلتا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من أجل أنهما ولد فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال ابن سيده: والسبط ولد الابن والابنة، ومنه الحسن والحسين سبطا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والسبط من اليهود كالقبيلة من العرب، وهم الذين يرجعون إلى أب واحد سمى سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق عليهما السلام، وجمعه أسباط [ (1) ] .
خرج أبو بكر بن أبى شيبة وأحمد بن حنبل من حديث عفان قال:
حدثنا وهيب، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن أبى راشد، عن يعلى العامري، أنه خرج مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى طعام دعوا له، فإذا حسين مع غلام يلعب في طريق، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمام القوم، [وحسين مع الغلمان يلعب فأراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يأخذه [ (2) ]] . فطفق الصبى يفرّها هنا مرة، وهاهنا مرة، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يضاحكه حتى
__________
[ (1) ] قال في (المرجع السابق) : السّبط- بالكسر-: ولد الولد، كأنه امتداد الفروع، والجمع أسباط، والقبيلة من اليهود، والجمع الأسباط أيضا، وقوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً بدل لا تميز، لأن تمييز العدد المركب مفردا لا جمعا (المرجع السابق) : 3/ 179، بصيرة رقم (5) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .(6/18)
أخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه يقبله وقال: حسين منى وأنا من حسين، أحب اللَّه من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط [ (1) ]
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 194- 195، كتاب معرفة الصحابة، أول فضائل أبى عبد اللَّه الحسين بن عليّ الشهيد رضى اللَّه عنهما، ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (4820/ 418) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح.(6/19)
نبدة
اعلم أن أهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأحبته في الجملة قسمان: قسم اخترم فأجراه اللَّه تعالى فيهم، كعمه حمزة بن عبد المطلب، وابن عمه جعفر بن أبى طالب، وإبراهيم ابنه ومن أصيب به من خديجة أم المؤمنين، وسائر أصحابه رضى اللَّه عنهم.
وقسم أقرّ اللَّه بهم عينه صلّى اللَّه عليه وسلم، كعائشة أم المؤمنين، وزينب أم المؤمنين، وأم سلمة، وجويرية، وسائر أمهات المؤمنين رضى اللَّه عنهنّ، وكفاطمة الزهراء والحسن والحسين، وعلى بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل، وعبد اللَّه والقثم ابنا العباس، وأبى سفيان بن الحرث، وسائر أصحابه رضى اللَّه عنهم، ومنهم له الأحبة. وكل من القسمين يجب محبته وموالاته، وقبول رواياته، وتعظيم حقه، والترضى عنه، لأنه قد رضى اللَّه عنهم، [ووعدهم بالحسنى] .
خرج الحاكم من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، عن أبي سبرة النخعي، عن محمد بن كب [القرظي] ، عن العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه عنه قال: كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم، فذكرنا ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يتحدثون فإذا رأوا الرجل من أهلي قطعوا حديثهم، واللَّه لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم للَّه ولقرابتي [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 4/ 85، كتاب معرفة الصحابة، ذكر فضائل القبائل قريش، حديث رقم (6960/ 2558) ، وقال الحاكم: هذا حديث يعرف من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن العباس، فإذا حصل هذا الشاهد من حديث أبى فضيل عن الأعمش، حكمنا له بالصحة. وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .(6/20)
وخرجه من حديث محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبى زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن العباس قال: قلت لرسول اللَّه: إذا لقي قريش بعضها بعضا لقوا بالبشارة، وإذا لقيناهم لقونا بوجوه لا نعرفها، قال: فغضبت غضبا شديدا، ثم قال: والّذي بعثني [بالحق] لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم للَّه ولرسوله [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (6961/ 2559) ، وقد سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .(6/21)
فصل [في العقب والعاقب]
قال ابن سيده: والعقب والعقب والعاقبة: ولد الرجل وولد ولده الباقون بعده، وقول العرب: لا عقب له، أي لم يبق له ولد ذكر. وقوله تعالى:
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [ (1) ] ، أراد عقب إبراهيم عليه السّلام، يعنى لا يزال من ولده من يوحد اللَّه تعالى، والجمع: أعقاب، وأعقب الرجل إذا ترك عقبا، يقال: كان له ثلاثة أولاد فأعقب منهم رجلان، أي تركا عقبا ودرج واحد. قال: وعقب مكان أبيه يعقب عقبا وعقب إذا خلّف، وكذلك عقبه يعقبه عقبا، الأول لازم والثاني متعدّ، وكل ما خلف شيئا فقد عقبه، وعقبه وعقّبوا من خلفنا وعقبونا: أتوا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الزخرف: 28.
[ (2) ] قال في (البصائر) : عاقبة كلّ شيء: آخره، وقولهم: ليس لفلان عاقبة، أي ولد. والعاقبة أيضا:
مصدر عقب فلان مكان أبيه عاقبة، أي خلفه، وهم اسم جاء بمعنى المصدر، كقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] .
وعقب الرجل وعقبه: ولده وولد ولده، وقوله تعالى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] أي جعل كلمة التوحيد باقية في ولده.
والعقب والعقب- بضمة وبضمتين-: العاقبة، قال اللَّه تعالى: خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 44] وتقول أيضا: جئت في عقب شهر رمضان، وفي عقبانه: إذا جئت بعد ما يمضى كله.
ويعقوب اسم النبي، لا ينصرف للعجمة والتعريف، واسمه: إسرائيل، وقيل له يعقوب، لأنه ولد مع عيصو في بطن واحد، ولد عيصو قبله، ويعقوب متعلق بعقبه، خرجا معا، فعيصو أبو الروم. قاله الليث.
والعقبي: جزاء الأمر، وقوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 15] ، أي لا يخاف أن يعقّب على عقوبته من يدفعها، أي يغيّرها. وقيل: لم يخف القاتل عاقبتها، والقاتل هو عاقرها أَشْقاها قدار بن سالف. وأعقبه بطاعته أي جازاه.
وقوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً أي أضلهم بسوء فعلهم عقوبة لهم.
والمعقبات في قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ(6/22)
وقال أبو عمر بن عبد البر: وليس ولد البنات من العقب ولا من الولد، إذ ليسوا من العصبات. قال ابن سيده: والعصبة الذين يرثون الرجل عن كلاله [ (1) ] . من غير والد ولا ولد، فأما في الفرائض فكل من لم تكن له فريضة مسماة فهو عصبة، إن يبقى شيء بعد الفرض أخذ.
__________
[ () ] [الرعد: 11] : ملائكة الليل والنهار لأنهم يتعاقبون، وإنما أنّث لكثرة ذلك منهم، نحو نسّابة. وعلّامة.
وقيل: ملك معقّب، وملائكة معقّبة، ثم معقبات جمع الجمع.
وقوله تعالى: وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل: 10] ، أي لم يعطف، وقيل: لم يرجع، وقيل: لم يمكث ولم ينتظر، وحقيقته لم يعقّب إقباله إدبارا والتفاتا.
وعاقبت الرجل في الراحلة: إذا ركبت أنت مرة وهو مرة.
وقوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ [الممتحنة: 1] أي أصبتموهم في القتال حتى غنمتكم.
وقوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] سمّى الأول عقوبة، وما العقوبة إلا الثانية لازدواج الكلام في الفعل بمعنى واحد، ومثله قوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ [الحج: 60] ، وكذلك قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ، والمجازاة عليها حسنة، إلا أنها سميت سيئة لأنها وقعت إساءة بالمفعول به، لأنه فعل ما يسوءه، والعقوبة، والمعاقبة، والعقاب، يخص بالعذاب، قال تعالى: فَحَقَّ عِقابِ [ص: 14] . والعقب، مؤخر الرجل.
ورجع على عقبه، انثنى راجعا. قال تعالى: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ [المؤمنون: 66] (بصائر ذوى التمييز) : 4/ 81- 82 بصيرة رقم (32) .
[ (1) ] قال في (المرجع السابق) : والكلالة: الرجل لا والد ولا ولد وقيل: ما لم يكن من النسب لحّا [أي لاصق بالنسب] بنسبك، كابن العم وشبهه. وقيل: هي الإخوة لأم، وقيل: هي من العصبة من ورث معه الإخوة لأمّ. وقيل: هم بنو العم الأباعد.
وقال ابن عباس رضى اللَّه تعالى عنهما: هي اسم لما عدا الوالد،
وروى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سئل عن الكلالة فقال: «من مات وليس له ولد ولا والد»
فجعله اسم الميت، وهو صحيح أيضاً، فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا، وقيل: اسم لكلّ وارث. (بصائر ذوى التمييز) : 4/ 373- 374 بصيرة رقم (23) .(6/23)
فصل في ذكر أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خطب ثلاثين امرأة، منهن واحدة وهبت نفسها، وإحدى عشرة امرأة دخل بهن، وسبع عقد عليهنّ ولم يدخل بهن، ومات من نسائه في حياته اثنتان، وتوفي عن تسع، ولم يتزوج بكرا غير واحدة.
[أم المؤمنين خديجة بنت خويلد]
[ (1) ]
__________
[ (1) ] هي خديجة أم المؤمنين، وسيدة نساء العالمين في زمانها، أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، أم أولاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبتت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، كما جاء في حديث عائشة في البخاري: بدء الوحي، وفيه أن خديجة، قالت له صلّى اللَّه عليه وسلم: كلا واللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. وفيه أنها انطلقت إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل وقالت له: اسمع من ابن أخيك،
وأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الّذي نزّل اللَّه على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم،
لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ومناقبها جمّة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة، جليلة، ديّنة، مصونة، كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يثنى عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لها.
ومن كرامتها عليه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرّى إلى أن قضت نحبها، فوجد لفقدها، فإنّها كانت نعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها، ويتجر هو صلّى اللَّه عليه وسلم لها، وقد أمره اللَّه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
والقصب في هذا الحديث: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، وقد جاء تفسيره في (كبير الطبراني) من حديث أبي هريرة ولفظه: «بيت من لؤلؤة مجوفة» ، والصّخب: «اختلاط الأصوات» ،(6/24)
__________
[ () ] والنصب: التعب.
قال الزبير بن بكار: كانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها هي فاطمة بنت زائدة العامرية. كانت خديجة أولا تحت أبى هالة زرارة التميمي، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، ثم بعده النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فبنى بها وله خمس وعشرون سنة، وكانت أسنّ منه بخمس عشرة سنة.
وقال مروان بن معاوية، عن وائل بن داود، عن عبد اللَّه البهي قال: قالت عائشة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يوما فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك اللَّه من كبيرة السن! قال: فرأيته غضب غضبا. أسقطت في خلدي، وقلت في نفسي: اللَّهمّ إن أذهبت غضب رسولك عنى لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ما لقيت، قال، واللَّه لقد آمنت بى إذ كذبني الناس، وآوتنى إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه منى قالت: فغدا رواح عليّ بها شهرا.
[الخلد، بالتحريك: الباب والقلب والنفس] .
هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، مما كنت أسمع من ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لها، وما تزوجني إلا بعد موتها بثلاث سنين.
محمد بن فضيل عن عمارة، عن أبى زرعة، سمع أبا هريرة يقول: أتى جبريل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: هذه خديجة أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. متفق على صحته.
عبد اللَّه بن جعفر: سمعت عليا: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران.
أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي: باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين، والترمذي في المناقب.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «خير نسائها» ،
قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعنى به الدنيا، والمعنى أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها.
قال ابن إسحاق: تتابعت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المصائب بهلاك أبى طالب وخديجة، وكانت خديجة وزيرة صدق، وهي أقرب إلى قصىّ من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم برجل، وكانت متموّلة فعرضت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يخرج في مالها إلى الشام، فخرج مع مولاها ميسرة، فلما قدم باعث خديجة ما جاء به، فأضعف، فرغبت فيه، فعرضت نفسها عليه، فتزوجها، وأصدقها عشرين بكرة.(6/25)
__________
[ () ] قال الشيخ عزّ الدين بن الأثير: خديجة أول خلق اللَّه أسلم بإجماع المسلمين. وقال الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق. والواقدي، وسعيد بن يحيى: أول من آمن باللَّه ورسوله خديجة، وأبو بكر، وعليّ، رضى اللَّه تعالى عنهم.
قال ابن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبى حكيم- أنه بلغه عن خديجة أنها قالت: يا ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك؟ فلما جاءوه قال: يا خديجة، هذا جبريل، فقالت: اقعد على فخذي ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول إلى الفخذ اليسرى، ففعل، قالت: هل تراه؟ قال، نعم، فألقت خمارها، وحسرت عن صدرها، فقالت: هل تراه؟ قال: لا، قالت: أبشر، فإنه واللَّه ملك وليس بشيطان.
[رجاله ثقات، لكنه منقطع] .
حماد بن سلمة، عن حميد، عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير، قال: وجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على خديجة حتى خشي عليه، حتى تزوج عائشة [رجاله ثقات لكنه مرسل] .
معمر عن قتادة، وأبو جعفر الرازيّ، عن ثابت، واللفظ لقتادة، عن أس مرفوعا: حسبك من نساء العالمين أربع. [إسناده صحيح وأخرجه الترمذي في المناقب، والحاكم، وأحمد] .
الدراوَرْديّ، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم، فاطمة، وخديجة، وامرأة فرعون آسية.
[رجاله ثقات] .
وروى عروة، عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، وقال الواقدي: توفيت في رمضان، ودفنت بالحجون. وقال قتادة: ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وكذا قال عروة.
* لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 52، 1/ 131- 133، (المستدرك) : 3/ 200- 206، كتاب معرفة الصحابة، باب ومنهم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى رضى اللَّه تعالى عنها، الأحاديث من رقم (4834/ 432) إلى رقم (4856/ 454) ، (الاستيعاب) : 4/ 1817- 1825، ترجمة رقم (2311) ، (المعارف) : 59، 70، 132، 144، 150، 219، 311، (جامع الأصول) : 9/ 120- 125، القسم الثاني من الفرع الثاني من الباب الرابع في فضائل النساء الصحابيات رضى اللَّه تعالى عنهن، الأحاديث من رقم (6666) إلى رقم (6670) ، (الإصابة) : / 600- 605 ترجمة رقم (11086) ، (كنز العمال) : 13/ 690- 693 باب فضائل أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مفصلة، أم المؤمنين خديجة رضى اللَّه عنها، الأحاديث أرقام من (37762) إلى (37770) ، (شذرات الذهب) : 1/ 14.(6/26)
فأول نسائه خديجة سعيد بن بهم، وأمها: عاتكة ابنة عبد العزى بن قصي، وأمها: الحظيّا بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة [بن كعب بن لؤيّ بن غالب] [ (1) ] ، وأمها نائلة ابنة حذافة بن جمح.
وكانت خديجة عند عتيق بن عائذ بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، فولدت له جارية يقال لها: أم محمد هند، تزوجها ابن عمة لها يقال له صيفي بن أبى أمية بن عائذ بن عبد اللَّه، وهلك عتيق عن خديجة، فتزوجها أبو هالة هند بن النباش بن زرارة [بن وقدان بن حبيب بن سلامة ابن غوىّ بن جروة] [ (2) ] بن أسيد بن عمرو بن تميم بن مرّ. وطابخة بن إلياس [أمه] [ (2) ] خندف [وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة] [ (2) ] .
وقيل: أبو هالة مالك بن إلياس بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي- بضم العين وقيل بفتحها- ابن أسد- بضم الهمزة- ابن عمرو بن تميم بن مرّ بن أسيد، فهو أسيدى بالتخفيف، فإذا نسب إليه قيل:
اسيّدىّ بالتشديد على ما قاله سيبويه.
وذكر الحافظ أبو محمد بن حزم [ (3) ] أن خديجة كانت عند عتيق فولدت له عبد اللَّه، ثم خلف عليها أبو هالة فولدت له ذكرين هما هند والحرث،
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (جمهرة النسب) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سياقة مضطرب، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (3) ] قال الكلبي: كان زوج خديجة بنت خويلد قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فولدت له هند بن هند، وابن ابنه هند ابن هند بن هند، شهد هند بن أبى هالة بدرا، وقالوا: بل أحدا، وقتل هند بن هند بن أبى هالة مع ابن الزبير، وانقرضوا ولا عقب لهم. (جمهرة النسب) لابن الكلبي) : 269، وقال في هامشه: هند بن أبى هالة صحابىّ شهد بدرا وقيل: أحد، قتل مع على في واقعة الجمل.
وهند بن هند بن أبى هالة قتل مع مصعب بن الزبير يوم المختار بن أبى عبيد في الكوفة، واختلف في اسم أبى هالة، فقيل: النباش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي بن جردة بن أسيد،(6/27)
وابنة اسمها زينب، وأن هندا شهد أحدا، والحرث قتله أحد الكفار عند الركن اليماني. قال العسكري: هو أول قتيل قتل في الإسلام، ثم تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ثنتى عشرة أوقية، وهي أول امرأة تزوجها [ (1) ] .
وروى أنه أصدقها عشرين بكرة، زوجه إياها عمرو بن أسد بن عبد العزى، وعمرها أربعون، وقيل ست وأربعون، وقيل ثمان وأربعون، وقيل خمسون، [وقيل] أربعون، وقيل ثلاثون، وقيل ثمان وعشرون سنة، فأقامت معه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعا وعشرين سنة، منها قبل الوحي خمس عشرة سنة، وكان عمره صلّى اللَّه عليه وسلم إذ تزوجها إحدى وعشرين، وقيل: كان ابن خمس وعشرين سنة وشهران وعشرة أيام، وهو الأكثر، وقيل ابن ثلاثين.
فولدت له أربع بنات [هن:] زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وولدت له القاسم وعبد اللَّه، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، وهي أول من آمن باللَّه ورسوله على الصحيح، وقيل أبو بكر رضى اللَّه عنه، وكانت وزير صدق له، آزرته على أمره، وثبتته وخففت عنه وهوّنت عليه ما كان يلقى من قومه، وتوفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بأربع سنين، وقيل بثلاث سنين، وهو الأصح، ويقال: توفيت لعشر خلون من رمضان، وهي ابنة خمس وستون سنة، فدفنها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالحجون [ونزل في قبرها ولم يتزوج] [ (2) ] في حياتها بسواها لجلالتها وعظم محلها عنده.
وقد اختلف أيهما أفضل، هي أو عائشة؟ فرجح فضل خديجة جماعة من العلماء، وماتت ولرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر، وتركت من الأولاد هند بن أبى هالة، وبنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الأربع،
__________
[ (1) ] (جمهرة أنساب العرب لابن حزم) : 16، 120، 142، 171، 210.
[ (2) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(6/28)
وفضائلها كثيرة رضى اللَّه عنها.
قال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة، عن عميرة بنت عبد اللَّه بن كعب عن أم سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية، قالت: لما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الشام دخل مكة، وخديجة رضى اللَّه عنها في عليه لها فرأت ملكين يظلانه، وكانت جلدة حازمة، وهي أوسط قريش نسبا وأوسطهم مالا، وكل قومها حريص على نكاحها لو قدروا على ذلك، قد طلبوا وبذلوا لها الأموال، فأرسلتنى دسيسا إلى محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بعد أن رجع من الشام، فقلت: يا محمد، ما منعك أن تتزوج؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به، قلت:
فإن كنت كذلك ودعيت إلى الجمال، والمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قلت عليّ فأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت الساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في عمومته، فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة.
وذكر أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا أن أبا طالب خطب يومئذ، فقال: الحمد للَّه الّذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حصنة بيته، وسوّاس حزبه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد اللَّه لا يوزن به رجل إلى رجح به، فإن كان في الكمال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو واللَّه بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل.(6/29)
وقال المطرز: ألقى أبو طالب على ولىّ خديجة حلّة فقبلها، وكان قبول الحلّة تمام التزويج، قال أبو طالب: فجاءنا البشار من زوايا الدار وأعلى الجدر، ولا أدرى ديارا ولا ناثرا.
وكانت التي غسّلت خديجة أم أيمن وأم الفضل زوجة العباس، وذلك قبل أن تفرض الصلاة، ولم تكن يومئذ سنّة الجنازة والصلاة عليها، ودفنت بالحجون بمكة، ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حفرتها، واشترى معاوية منزل خديجة فجعله مسجدا.(6/30)
[أم المؤمنين سودة بنت زمعة] [ (1) ]
وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك
__________
[ (1) ] هي سودة أم المؤمنين- بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية، وهي أول من تزوج بها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد خديجة، وانفردت به صلّى اللَّه عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين أو أكثر، حتى دخل بعائشة رضى اللَّه عنها. وكانت سيدة جليلة، نبيلة، ضخمة، وكانت أولا عند السكران بن عمرو، أخى سهيل بن عمرو العامري.
وهي التي وهبت يومها لعائشة رضى اللَّه عنها، رعاية لقلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت قد فركت [قلّ ميلها للرجال] ، وقد أخرج البخاري في النكاح، باب: المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة، وأخرجه أيضا في الهبة، وزاد في آخره: تبتغي بذلك رضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأخرجه مسلم عن عائشة رضى اللَّه عنها وفيه ... فلما كبرت جعلت يومها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعائشة، قالت: يا رسول اللَّه قد جعلت يومى منك لعائشة.
وأخرجه أبو داود من طريق أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد- عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: قالت عائشة: يا ابن أختى كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قلّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، يومى لعائشة، فقبل ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منها، قالت: تقول في ذلك أنزل اللَّه تعالى، وفي أشباهها، آراه قال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النساء: 128] .
لها أحاديث، وخرّج لها البخاري، حدّث عنها: ابن عباس، ويحى بن عبد اللَّه الأنصاري.
توفيت في آخر خلافة عمر رضى اللَّه عنه بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. وقال الواقدي: وهذا الثبت عندنا.
وروى عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال: أن سودة رضى اللَّه عنها توفيت زمن عمر رضى اللَّه عنه.
قال ابن سعد: أسلمت سودة وزوجها، فهاجرا إلى الحبشة. وعن بكير بن الأشجّ: أن السكران قدم من الحبشة بسودة، فتوفى عنها فخطبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. فقالت: أمرى إليك. قال: مري رجلا من قومك يزوجك، فأمرت حاطب بن عمرو العامري، فزوجها، وهو مهاجري بدريّ.
هشام الدستوائى(6/31)
__________
[ () ] حدثنا القاسم بن أبى بزّة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعث إلى سودة بطلاقها، فجلست على طريقه فقالت:
أنشدك بالذي أنزل عليك كتابه، لم طلقتني؟ الموجدة؟ قال: لا، قالت: فأنشدك اللَّه لما راجعتني، فلا حاجة لي في الرجال، ولكن أحب أن أبعث في نسائك فراجعها. قالت: فإنّي قد جعلت يومى لعائشة. [أخرجه ابن سعد، وسنده صحيح، لكنه مرسل، والصحيح أنه لم يطلقها كما تقدم] .
الأعمش، عن إبراهيم، قالت سودة: يا رسول اللَّه، صليت خلفك البارحة، فركعت بى، حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم، فضحك صلّى اللَّه عليه وسلم. وكانت تضحكه الأحيان بالشيء.
صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر.
[ظهور الحصر: منصوب على تقدير: ثم الزمن، والحصر: جمع حصير، وهو ما يفرش في البيوت، والمراد أن يلزمن بيوتهن، ولا يخرجن منها. والحديث
أخرجه ابن سعد وأحمد، وسنده قوى، وأبو داود في أول الحج من طريق عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن واقد بن أبى واقد الليثي، عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال لنسائه في حجته: هذه ثم ظهور الحصر.
وسنده حسن في الشواهد] .
وقالت عائشة رضى اللَّه عنها: استأذنت سودة ليلة المزدلفة، أن تدفع قبل حطمة الناس- وكانت امرأة ثبطة- أي ثقيلة، فأذن لها. [وتمامه: فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلأن أكون استأذنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كما استأذنته سودة، أحب إلى من مفروح به، والحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء: الزحمة، أي قبل أن يزدحموا، ويحطم بعضهم بعضا. أخرجه ابن سعد، والبخاري، ومسلم، وأحمد، والنسائي] .
حماد بن يزيد عن هشام، عن ابن سيرين: أن عمر بعث إلى سودة بغرارة دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في الغرارة مثل التمر! يا جارية، بلّغينى القنع ففرّقتها.
يروى لسودة خمسة أحاديث: منها في الصحيحين: حديث واحد عند البخاري.
الواقدي: حدثنا موسى بن محمد بن عبد الرحمن، عن ريطة، عن عمرة عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: لما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة بعث زيدا، وبعث معه أبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، فخرجنا جميعا، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة، وبأم كلثوم، وبسودة بنت زمعة، وبأم أيمن، وأسامة ابنه.
(*) لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 52- 58، (طبقات خليفة) . 335، (المعارف) : 133، 284، 442، (الاستيعاب) : 4/ 1867 ترجمة رقم (3394) ، (جامع الأصول) : 9/ 145، (تهذيب التهذيب) : 12/ 445 ترجمة رقم (2819) ، (الإصابة) : /، ترجمة رقم () ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 484، ترجمة رقم (87) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 265- 269 ترجمة رقم (40) ، (شذرات الذهب) : 1/ 34 و 60.(6/32)
ابن حسل بن عدي بن النجار تزوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ- هو أخو سهيل بن عمرو- وهاجرت معه إلى الحبشة ومات، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد موت خديجة رضى اللَّه عنها، ولى تزويجها أباه أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس- ويقال أبوها- وهو يومئذ شيخ، وأصدقها أربعمائة درهم، وتزوج بعائشة رضى اللَّه عنها، وقيل: تزوج بعائشة قبلها، وكان تزويجه بسودة [وبناؤه] بها في شهر رمضان سنة عشر من النبوة.
وكانت سودة قد رأت في النوم كأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وطئ على عنقها، فأخبرت السكران بذلك، فقال: لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: حجرا وسترا! ثم رأت ليلة أخرى كأن قمرا انقضّ عليها من السماء، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وذلك أن خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية- امرأة عثمان بن مظعون- قالت: يا رسول اللَّه! إني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة فقال: أجل، أمّ العيال وربة البيت، قال: ألا أخطب عليك؟ قال: بلى، إنك معشر النساء أرفق بذلك، فخطبت عليه سودة بنت زمعة، وخطبت عليه عائشة بنت أبى بكر- وعائشة يومئذ ابنة ست سنين حتى بنى بها حين قدم المدينة-.
وكانت امرأة ثقيلة ثبطة، وكان في أذنها ثقل، وأسنّت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فهمّ بطلاقها، ويقال طلقها في سنة ثمان من الهجرة تطليقة، فجمعت ثيابها وجلست له على الطريق التي كان يسلكها إذا خرج إلى الصلاة، فلما دنا منها بكت
وقالت: يا رسول اللَّه! أهل أعتددت عليّ في الإسلام بشيء؟ فقال: اللَّهمّ لا،
فقالت: أسألك باللَّه لما راجعتني، فراجعها، وجعلت يومها لعائشة رضى اللَّه عنها، وقالت: واللَّه ما غايتي إلا أن أرى وجهك وأحشر مع أزواجك، وإني لا أريد ما تريد النساء.(6/33)
فأمسكها حتى توفى عنها مع سائر من توفى عنهن من أزواجه، وفيها نزلت: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ [يُصْلِحا] بَيْنَهُما صُلْحاً [ (1) ] ، وتوفيت سنة ثلاث وعشرين، وصلّى عليها عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، وقيل: إنها توفيت في خلافه عثمان رضى اللَّه عنه، ولها نحو من ثمانين سنة، وكانت قد لزمت بيتها فلم تحج حتى توفيت، وهي أول امرأة وطئها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة.
__________
[ (1) ] النساء: 128.(6/34)
[أم المؤمنين عائشة بنت أبى بكر]
[ (1) ] وعائشة بنت أبى بكر عبد اللَّه بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو
__________
[ (1) ] هي عائشة أم المؤمنين، بنت الإمام الصدّيق الأكبر، خليفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أبى بكر، عبد اللَّه بن أبى قحافة، عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ، القرشية التيمية، المكية، النبويّة، زوجة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر ابن عبد شمس، بن عتاب بن أذينة الكنانية.
هاجر بعائشة أبواها، وتزوجها نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل مهاجره، بعد وفاة الصدّيقة خديجة بنت خويلد رضى اللَّه عنها، وذلك قبل الهجرة ببضعة عشر شهرا، وقيل بعامين، ودخل بها في شوال سنة اثنين، منصرفة صلّى اللَّه عليه وسلم من غزوة بدر، وهي ابنة تسع.
روت عنه صلّى اللَّه عليه وسلم علما كثيرا طيبا مباركا فيه، وعن أبيها، وعن عمر وفاطمة، وسعد، وحمزة بن عمر الأسلمي، وجدامة بنت وهب، رضى اللَّه تعالي عن الجميع. وروى عنها خلق كثير.
بلغ مسند عائشة (2210) ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربع وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين.
وعائشة رضى اللَّه عنها ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثماني سنين، وكانت تقول:
لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان بالدين. وذكرت أنها لحقت بمكة سائس الفيل شيخا أعمى يستعطى.
وكانت امرأة بيضاء جميلة، ومن ثمّ يقال لها: الحميراء، ولم يتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بكرا غيرها، ولا أحبّ امرأة حبّها، ولا أعلم في أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقا امرأة أعلم منها. وذهب بعض العلماء إلى أنها أفضل من أبيها، وهذا مردود، وقد جعل اللَّه لكل شيء قدرا، بل تشهد أنها زوجة نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهو فوق ذلك مفخر، وإن كان للصديقة خديجة شأو لا يلحق.
قال الحافظ الذهبي: وأنا واقف في أيتهما أفضل، نعم جزم بأفضلية خديجة عليها الأمور ليس هذا موضعها.
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أريتك في المنام ثلاث ليال، جاء بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه، فأقول: إن يك هذا من عند اللَّه يمضه. [والسّرقة بفتح السين والراء والقاف: هي القطعة] . أخرجه أحمد، والبخاري في مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عائشة رضى اللَّه عنها، وفي النكاح، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، وفي التعبير، باب كشف المرأة في المنام، وباب ثياب الحرير في المنام، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
وأخرج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن علقمة المكيّ، عن ابن أبى حسين، عن ابن(6/35)
__________
[ () ] مليكة، عن عائشة: أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة. حسّنه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد اللَّه، ورواه عبد الرحمن بن مهدي عنه مرسلا. [أخرجه الترمذي في المناقب: باب فضل عائشة رضي اللَّه عنها، ورجاله ثقات. وابن أبى حسين: هو عمر بن سعيد بن حسين النوفلي] .
بشر بن الوليد القاضي: حدثنا عمر بن عبد الرحمن، عن سليمان الشيباني عن على بن زيد بن جدعان، عن جدته، عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتها امرأة بعد مريم بنت عمران:
لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حتى أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا، وما تزوج بكرا، ولقد قبض ورأسه صلّى اللَّه عليه وسلم في حجري، ولقد قبرته في بيتي، ولقد خفّت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وإني لمعه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذرى من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما. [رواه أبو بكر الآجري عن أحمد بن يحيى الحلواني، عنه، وإسناده جيد، إلا أن على بن زيد بن جدعان ضعيف] .
وكان تزويجه بها إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة، رضى اللَّه عنها في شوال بعد وقعة بدر، فما تزوج بكرا سواها، وأحبها حبا شديدا كان يتظاهر به، بحيث
إن عمرو بن العاص- وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة- سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أي الناس أحب إليك يا رسول اللَّه؟ قال: عائشة، قال فمن الرجال؟ قال أبوها. [أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي، باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، وفي المغازي، باب غزوة السلاسل، وسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر رضى اللَّه عنه.
وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان إلا طيبا،
وقد قال: لو كنت متخذا خليلا من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل.
فأحب صلّى اللَّه عليه وسلم أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فهوى حرىّ أن يكون بغيضا إلى اللَّه ورسوله. وحبه عليه السّلام لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته؟
قال حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة، فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان.
فذكرت أم سلمة له ذلك، فسكت، فلم يردّ عليها فعادت الثانية، فلم يردّ عليها، فلما كانت الثالثة قال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه واللَّه ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة غيرها..
[متفق على صحته، فقد أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، وفي الهبة، باب من أهدى إلى أصحابه، وتحرى بعض نسائه دون بعض، من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، وأخرجه مسلم مختصرا في فضائل الصحابة، من طريق عبدة، عن هشام، عن(6/36)
__________
[ () ] أبيه عن عائشة، وأخرجه مطولا من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة، وفيه أن التي أرسلتها فاطمة، وليست أم سلمة] .
وهذا الجواب منه صلّى اللَّه عليه وسلم دالّ على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها صلّى اللَّه عليه وسلم.
إسماعيل بن جعفر: أخبرنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن، سمع أنسا يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. [متفق عليه من طرق عن أبى طواله، فقد أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب فضل عائشة رضى اللَّه عنها، وفي الأطعمة، باب الثريد، وباب ذكر الطعام، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضى اللَّه عنها، وأبو طوالة:
هو عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري، راوية عن أنس رضى اللَّه عنه.
شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن مرّة، عن أبى مرسى، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. [أخرجه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل خديجة رضى اللَّه عنها] .
شعيب، عن الزهري: حدثني أبو سلمة، أن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا عائش، هذا جبريل وهو يقرأ عليك السلام، قالت: وعليه السّلام ورحمة اللَّه، ترى ما لا نرى يا رسول اللَّه.
زكريا بن أبى زائدة، عن عامر، عن أبى سلمة، أن عائشة رضى اللَّه عنها حدثته أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال لها: إن جبريل يقرئك السلام، قالت: وعليه السّلام ورحمة اللَّه. [أخرجهما البخاري في فضل عائشة، وفي بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، وفي الأدب، باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا، وفي الإستئذان، باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، وباب إذا قال: فلان يقرئك السلام، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضى اللَّه عنها، وأبو داود، والترمذي، وأخرج النسائي من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة نحو الأول، في عشرة النساء، باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض
روى هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم متوفّى خديجة، وأنا بنت ستّ، وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع، جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة وأنا مجمّمة، فهيأننى، وصنعنى، ثم أتين بى إليه صلّى اللَّه عليه وسلم. [أخرجه أبو داود في الأدب، باب الأرجوحة، وإسناده صحيح. والمجممة: ذات جمة، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين، جمّة، وإذا كان الشعر إلى شحمة الأذنين: وفرة.
قال عروة: فمكثت عنده تسع سنين، وأخرج البخاري من قول عروة: أن خديجة رضى اللَّه عنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلبث صلّى اللَّه عليه وسلم سنين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين. [أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة وبنائه(6/37)
__________
[ () ] بها، وتمامه: ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين. وفي خبر عروة إشكال أجاب عنه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ] .
هشام عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: كنت ألعب بالبنات يعنى اللّعب- فيجيء صواحبي فينقمعن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فيخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيدخلن على، وكان يسرّبهن إليّ فيلعبن معى.
وفي لفظ: فكن جوار يأتين يلعبن معى بها، فإذا رأين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تقمّعن، فكان يسربهن إليّ.
[أخرجه البخاري في الأدب، باب الانبساط إلى الناس، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات، واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخصّ ذلك من عموم النهى عن اتخاذ الصور، وبه جزم القاضي عياض، ونقله عنه الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات.
وعن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا ألعب بالبنات [أي اللعب] ، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: خيل سليمان ولها أجنحة، فضحك. [أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في (الطبقات) من طريق الواقدي، وأخرجه أبو داود في (السنن) في الأدب، باب اللعب بالبنات، بأطول من هذا،
والنسائي في (عشرة النساء) ، عن عائشة قالت: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهواتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: ما هذا يا عائشة؟
قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع فقال: ما هذا الّذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الّذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه. وإسناده صحيح] .
الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترنى بردائه لكي انظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلى حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ الحريصة على اللهو.
وفي لفظ معمر، عن الزهري: فما زلت انظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ، التي تسمع اللهو.
ولفظ الأوزاعي عن الزهري في هذا الحديث قالت: قدم وفد الحبشة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقاموا يلعبون في المسجد، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا انظر إليهم حتى أكون أنا التي أسأم.
[أخرجه البخاري في المساجد، باب أصحاب الحراب في المسجد، وفي العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، وفي النكاح، باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، ومسلم، وأحمد والنسائي في العيدين، باب اللعب في المسجد يوم العيد، ونظر النساء لذلك، والحميدي في (مسندة) ، والطحاوي في (مشكل الآثار) ، وأخرج النسائي في (عشرة النساء) من حديث يونس بن عبد الأعلى، بسنده عن عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قالت: دخل الحبش المسجد يلعبون، قال لي: يا حميراء، أتحبين أن تنظرى إليهم؟ فقلت: نعم، فقام بالباب وجئته، فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حسبك قلت:(6/38)
__________
[ () ] يا رسول اللَّه لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك، فقلت: لا تعجل يا رسول اللَّه، قالت: وما بى حب النظر إليهم، ولكنى أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه.
إسناده صحيح كما قال الحافظ في (الفتح) .
يحيى بن يمان، عن الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد اللَّه بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شوال، وأعرس بى في شوال، فأى نسائه كان أحظى عنده منى.
[وكانت العرب تستحب لنسائها أن يدخلن على أزواجهن في شوال، أخرجه مسلم في النكاح، باب استحباب التزوج والتزويج في شوال، واستحباب الدخول فيه، والدارميّ في النكاح، باب بناء الرجل بأهله في شوال، وأحمد في (المسند) ، وابن سعد في (الطبقات) ، وابن ماجة في النكاح، باب متى يستحب البناء بالنساء، والنسائي في النكاح، باب التزويج في شوال، من طرق عن سفيان بن عيينة، وفيه عندهم: وكانت عائشة رضى اللَّه عنها تستحب أن تدخل نساءها في شوال.
وقالت عائشة رضى اللَّه عنها ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكرها. [أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل خديجة رضى اللَّه عنها.
قال الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) : وهذا من أعجب شيء! أن تغار رضى اللَّه عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعائشة بمديدة، ثم يحميها اللَّه تعالى من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فهذا من ألطاف اللَّه بها وبالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، لئلا يتكدر عيشهما، ولعله إنما خفّف أمر الغيرة عليها حبّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لها، وميله إليها. فرضى اللَّه تعالى عنها وأرضاها.
معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: دخلت امرأة سوداء على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. فأقبل عليها، قالت: فقلت يا رسول اللَّه! أقبلت على هذه السوداء هذا الإقبال؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: إنها كانت تدخل على خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان [رجاله ثقات، وأخرج الحاكم نحوه في (المستدرك) من طريق صالح بن رستم،
عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزينية، فقال: بل أنت حسّانة المزينية، كيف أنتم كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير، بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه. فلما خرجت قلت: يا رسول اللَّه! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ قال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في (التلخيص) .
وأخرج البخاري في النكاح، باب غيرة النساء ووجدهن، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل عائشة.. لأبى أسامة، عن هشام بلفظ: إني لأعلم إذا كنت عنى راضية وإذا كنت عليّ غضبى، قالت: وكيف يا رسول اللَّه؟ قال: إذا كنت عنى راضية، قلت: لا وربّ محمد، وإذا كنت عليّ غضبى، قلت: لا وربّ إبراهيم، قلت أجل واللَّه، ما أهجر إلا اسمك.(6/39)
__________
[ () ] هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت: سابقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فسبقته ما شاء، حتى إذا رهقني اللحم، سابقني، فسبقني، فقال: يا عائشة، هذه بتلك. [إسناده صحيح، وهو في المسند، وأخرجه الحميدي في (مسندة) ، وأبو داود في الجهاد: باب السبق على الرجل، وابن ماجة والنسائي في عشرة النساء] .
قال الإمام أحمد في (المسند) : حدثنا يحيى القطان، عن إسماعيل: حدثنا قيس، قال: لما أقبلت عائشة، فلما بلغت مياه بنى عامر ليلا، نبحت الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظننى إلا أننى راجعة. قال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون، فيصلح اللَّه ذات بينهم،
قالت: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب.
[إسناده صحيح كما قال الذهبي وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أحمد في (المسند) ،
وقال الحافظ ابن كثير في (البداية) . وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه، بعد أن ذكره من طريق الإمام أحمد. والحوأب: من مياه العرب على طريق البصرة، قاله أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري، فيما نقله عنه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) ، وقال أبو عبيد البكري في (معجم ما استعجم) : ماء قريب من البصرة على طريق مكة إليها، سمّى بالحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية] .
قال عطاء بن أبى رباح: كانت عائشة رضى اللَّه عنها أفقه الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة، وقال الزهري: لو جمع علم عائشة رضى اللَّه عنها إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة رضى اللَّه عنها أفضل. [ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) ونسبة إلى الطبراني. وقال: رجاله ثقات، وذكره أبو عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) .
عروة بن الزبير: أن معاوية بعث مرة إلى عائشة رضى اللَّه عنها بمائة ألف درهم فو اللَّه ما أمست حتى فرقتها، فقالت: لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحما؟ فقالت: ألا قلت لي. [أخرجه أبو نعيم في (الحلية) والحاكم في (المستدرك) ] .
يحيى بن أبى زائدة- عن حجاج، عن عطاء: أن معاوية بعث إلى عائشة رضى اللَّه عنها بقلادة بمائة ألف، فقسّمتها بين أمهات المؤمنين.
الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها: أنها تصدقت بسبعين ألفا، وإنها لترقع جانب درعها.
أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر، عن أم ذرّة، قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة رضى اللَّه عنها بمال في غرارتين، يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست، قال: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرّة: يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشترى لنا لحما بدرهم؟
قالت: لا تعنّفينى، لو أذكرتينى لفعلت. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، وأبو نعيم في(6/40)
__________
[ () ] (الحلية) ، ورجاله ثقات] .
ابن عليّة، عن أيوب، عن ابن مليكة، قال: قالت عائشة رضى اللَّه عنها توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في بيتي، وفي يومى، وليلتي وبين تحرى وسحري، ودخل عبد الرحمن بن أبى بكر، ومعه سواك رطب، فنظر إليه حتى ظننت أنه يريده، فأخذته، فمضغته، ونفضته ثم دفعته إليه، فاستنّ به كأحسن ما رأيته مستنّا قط، ثم ذهب يرفعه إليّ، فسقطت يده، فأخذت أدعو له بدعاء كان يدعو به له جبريل، وكان هو يدعو به إذا مرض، فلم يدع به في مرضه ذاك، فرفع بصره إلى السماء، وقال: الرفيق الأعلى، وفاضت نفسه صلّى اللَّه عليه وسلم، فالحمد للَّه الّذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا. [أخرجه أحمد في (المسند) ، وصححه الحاكم في (المستدرك) ، ووافقه الذهبي في (التلخيص) ، والسّحر: الرئة، والنّحر: أعلى الصدر، واستن: استاك] .
العوام بن حوشب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 3] ، قال: نزلت في عائشة رضى اللَّه عنها خاصة، أخرجه الحاكم في (المستدرك) ، وصححه، ووافقه الذهبي في (التلخيص) ، وأورده السيوطي في (الدر المنثور) ، وزاد نسبته لابن أبى حاتم وابن مردويه.
وحديث الإفك طويل ومشهور، ولذلك أمسكنا عن ذكره.
إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس، قال: قالت عائشة- وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها- فقالت: إني أحدثت بعد رسول اللَّه حدثا، ادفنوني مع أزواجه. فدفنت بالبقيع رضى اللَّه عنها [ابن سعد في (الطبقات) ، وصححه الحاكم في (المستدرك) ، ووافقه الذهبي في (التلخيص) .
قال الذهبي: تعنى بالحدث مسيرها يوم الجمل، فإنّها ندمت ندامة كلّية، وثابت من ذلك، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة، قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن عبيد اللَّه، والزبير بن العوام، وجماعة من الكبار، رضى اللَّه عن الجميع (سير الأعلام) .
وقد قيل إنها مدفونة بغربي جامع دمشق، وهذا غلط فاحش، لم تقدم رضى اللَّه عنها إلى دمشق أصلا، وإنما هي مدفونة بالبقيع، ومدة عمرها: ثلاث وستون سنة وأشهر.
ومن عالى حديثها: قال الحافظ الذهبي: قرأت على ابن عساكر، عن أبى روح: أخبرنا تميم، حدثنا أبو سعد، أخبرنا ابن حمدان، أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم، عن عليّ بن هاشم، عم هشام بن عروة، عن بكر بن وائل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم امرأة قطّ، ولا ضرب خادما له قط، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه، إلا أن تنتهك محارم اللَّه، فينتقم. [إسناده صحيح، وأخرجه مسلم في الفضائل، باب مباعدته صلّى اللَّه عليه وسلم للآثام، وأحمد في (المسند) من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضى اللَّه عنها، وأخرج مالك والبخاري في صفة النبي، ومسلم من طريق الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أنها قالت: ما خيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم(6/41)
ابن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب، الصديقة بنت [الصديق] حبيبة رسول اللَّه المبرأة من السماء، أم المؤمنين، أم عبد اللَّه رضي عنها، أمها أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أرنبة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، والخلاف في أبيها إلى كنانة كثير جدا، وأجمعوا أنها من بنى غنم بن مالك بن كنانة، من المهاجرات ذات الفضائل.
ولدت في السنة الرابعة من النبوة في أولها، تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة بعد سودة بشهر، على اثنى عشرة أوقية ونش، وقيل: أربعمائة درهم، وقيل: قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث وهي بنت ست سنين، وقيل: بنت تسع سنين، وقيل تزوجها في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث سنين، وأعرس بها بالمدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره.
وقال الواقدي: بنى بها في الأولى، وصححه الدمياطيّ، وتوفى عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة، كان مكثها معه تسع سنين وخمسة أشهر، ولم ينكح بكرا غيرها، ولم يأته الوحي في لحاف واحدة من نسائه سواها، ولم يحب أحدا من النساء مثلها، وقد كانت لها مآثر وخصائص ذكرت في
__________
[ () ] بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه عزّ وجلّ] .
(*) لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 46 وما بعدها، (طبقات ابن سعد) 8/ 58- 81، (طبقات خليفة) : 333، (تاريخ خليفة) 225، (المعارف) : 134، 176، 208، 550، (المستدرك) :
4/ 15- 17، (حلية الأولياء) : 2/ 43، (الاستيعاب) : 4/ 1881، ترجمة رقم (4029) ، (جامع الأصول: 9/ 132، (تهذيب التهذيب) : 12/ 461، ترجمة رقم (2840) ، (الإصابة) : 8/ 16، ترجمة رقم (11457) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 387، ترجمة رقم (106) ، (كنز العمال) : 13/ 693، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 135، ترجمة رقم (19) ، (شذرات الذهب) :
1/ 9، 61- 63، (المواهب اللدنيّة) : 2/ 81- 83، (صفة الصفوة) : 2/ 9- 27.(6/42)
القرآن والنسب، وكانت لها ليلتان، ولكل امرأة سواها ليلة، لأن سودة وهبتها ليلتها.
وخرجت بعد قتل عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه إلى الكوفة تدعو الناس لأخذ ثأره من قتلته، وكانت وقعة الجمل، ثم عادت إلى المدينة وبها توفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشر خلون من رمضان سنة ثمان وخمسين، وقيل: سبع وخمسين، ودفنت ليلا بعد الوتر بالبقيع، وصلّى عليها أبو هريرة، ونزل في قبرها خمسة: عبد اللَّه [وعروة والقاسم بن محمد وعبد اللَّه بن محمد بن أبى بكر، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبى بكر] .
وكان عمرها يوم ماتت ستا وستين سنة، وكانت أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة: تعرف من الطب والشعر شيئا كثيرا، ولا نعلم امرأة في هذه الأمة بلغت من العلم مبلغها.
وروى عنها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث مرفوعة، اتفقا منها على مائة وأربعة وسبعين حديثا، انفرد منها البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بستة وستين وفضائلها وأخبارها كثيرة جدا.(6/43)
غزيّة
[ (1) ] وغزّية بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤيّ، وهي أم شريك التي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، وقيل: هي غزية بنت عوف بن جابر بن صبابه بن حجير بن عبد بن معيص، كانت عند أبى العكر مسلم بن الحارث الأزدي،. فولدت له شريكا فكنيت به، قيل: [بنى بها] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، وقيل: لم يدخل بها، وأنها هي أم شريك الأنصارية لأنه كره غيرة نساء الأنصار، وقيل: هي التي وهبت نفسها فلم يتزوجها ولم يردها، وقيل: رأى بغزية كبرة فطلقها،
__________
[ (1) ] هي الواهبة نفسها له صلّى اللَّه عليه وسلم، واختلف من هي، فقيل: أم شريك القرشية العامرية، واسمها غزية- بضم الغين المعجمة وفتح الزاى، وتشديد المثناة التحتية- بنت جابر بن عوف، من بنى عامر بن لؤيّ، وقيل: بنت دودان بن عوف، وطلقها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، واختلف في دخوله بها.
وقيل: هي أم شريك غزيّة الأنصارية من بنى النجار، وفي (صفة الصفوة) : هي أم شريك غزية بنت جابر الدوسية، قال: والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها له صلّى اللَّه عليه وسلم، فلم يقبلها، فلم تتزوج حتى ماتت، وذكر ابن قتيبة في (المعارف) عن أبى اليقظان: أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي، ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد.
وقال عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم، من اللاتي وهبن أنفسهن للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [الأحزاب: 51] ، قالت عائشة رضى اللَّه عنها: يا رسول اللَّه! ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك. [رواه الشيخان] . وهذه خولة هي زوجة عثمان بن مظعون، ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان.
عن قتادة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار، ثم إني أكره غيرتهن، قال: فلم يدخل بها [ذكره الحاكم في المستدرك] .
لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 154- 157، (طبقات خليفة) : 335، (الجرح والتعديل) : 9/ 464، (المستدرك) : 4/ 37، (الاستيعاب) :
4/ 1942- 1943، ترجمة رقم (4169) ، (الإصابة) : 8/ 236- 237، ترجمة رقم (12097) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 498، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 255- 256، ترجمة رقم (33) ، (صفة الصفوة) : 2/ 37- 38، ترجمة رقم (134) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 94.(6/44)
فأوثقها أهلها. وحملوها من مكة إلى البدو، وكانت تدخل على النساء بمكة فتدعوهن إلى الإسلام، وكانت على ذلك بعد طلاقها تدعو إلى الإسلام.
ويقال: أم شريك العامرية، ويقال: الأنصارية، ويقال: الدوسية، ويقال بل اسمها عزيلة، روت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وروى عنها جابر بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وشهر بن حوشب، ولها أحاديث في البخاري ومسلم، والترمذي والنسائي، وقال ابن عبد البر: وقد ذكرها بعضهم في أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا يصح من ذلك شيء لكثرة الاضطراب فيه.(6/45)
[أم المؤمنين حفصة بنت عمر]
[ (1) ] وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد اللَّه بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب، أمها وأم عبد اللَّه بن عمر زينب بنت مظعون بن حبيب بن حذافة بن جمح، فمن فضلها: أن [أباها عمر] .
وعمها زيد، وأخوالها عثمان وحذافة وعبد اللَّه بنى مظعون، وابن خالها السائب بن عثمان، شهدوا جميعاً بدرا، وولدت قبل المبعث بخمس سنين وقريش تبنى البيت، ثم تزوج بها خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي.
فلما تأيمت ذكرها عمر لأبى بكر رضى اللَّه عنهما فلم يرجع عليه أبو بكر، كلمة فغضب، ثم عرضها على عثمان رضى اللَّه عنه- وقد ماتت رقية عليها السلام- فقال: ما أريد أن أتزوج اليوم، فانطلق إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وشكا إليه ذلك،
فقال: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هو خير من حفصة، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
في شعبان قبل أحد بشهرين من سنة ثلاث، وقيل: في سنة اثنتين، زوجة أبوها وأصدقها صلّى اللَّه عليه وسلم أربعمائة درهم.
قال الدار قطنى في (العلل) : هذا صحيح من حديث الزهري عن سالم عن أبيه، عن عمر رضى اللَّه عنه، تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة
__________
[ (1) ] هي حفصة أم المؤمنين، السّتر الرّفيع، بنت أمير المؤمنين، أبى حفص عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، تزوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد انقضاء عدّتها من خنيس بن حذافة السهمي، سنة ثلاث من الهجرة.
وخنيس كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، هاجر إلى أرض الحبشة، وعاد إلى المدينة، وشهد بدرا وأحدا، وأصابه بأحد جراحات، فمات رضى اللَّه عنه.
قالت عائشة رضى اللَّه عنها: هي التي كانت تسامينى من أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وروى أن مولدها كان قبل المبعث بخمس سنين، فعلى هذا يكون دخول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بها ولها نحو من عشرين سنة.(6/46)
__________
[ () ] روت عنه عدة أحاديث.
وكانت لما تأيمت،
عرضها أبوها على أبى بكر، فلم يجبه بشيء، وعرضها على عثمان فقال: بدا لي ألا أتزوج اليوم، فوجد عليهما وانكسر، وشكا حاله إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة، ثم خطبها، فزوجه عمر- وزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عثمان بابنته رقية بعد وفاة أختها-[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] ، والبخاري في النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير) .
ولما أن زوجها عمر، لقيه أبو بكر فاعتذر، وقال: لا تجد عليّ، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كان قد ذكر حفصة، فلم أكن لأفشى سرّه، ولو تركها لتزوجتها. [أخرجه البخاري، وهو قطعة من الحديث السابق] .
وروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، طلّق حفصة تطليقة، ثم راجعها بأمر جبريل عليه السّلام له بذلك، وقال: إنها صوّامة قوّامة، وهي زوجتك في الجنة. [حديث صحيح أخرجه أبو داود، وابن ماجة، من حديث عمر: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. وأخرجه النسائي من حديث ابن عمر، واسناده صحيح] .
وحفصة، وعائشة، هما اللتان تظاهرتا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأنزل اللَّه تعالى فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ، بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 4- 5] أخرجه البخاري في التفسير، باب تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرّم امرأته.
موسى بن على بن رباح، عن أبيه، عن عقبة، قال: طلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حفصة، فبلغ ذلك عمر رضى اللَّه عنه، فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ اللَّه بعمر وابنته. فنزل جبريل من الغد، وقال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر- رضى اللَّه عنهما-[أخرجه الطبراني في (الكبير) ] .
توفيت حفصة سنة إحدى وأربعين، وقيل: توفيت سنة خمس وأربعين بالمدينة، وصلّى عليها والى المدينة مروان. [قاله الواقدي، عن معمر، عن الزهري، عن سالم. ذكره ابن مسعود في (الطبقات) ] .
ومسندها في كتاب (بقي بن مخلد) ستون حديثا، اتفق لها الشيخان على أربعة أحاديث، وانفرد مسلم بستة أحاديث، [فما اتفقا عليه هو في البخاري في الأذان، باب الأذان بعد الفجر، ومسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والبخاري في الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم في الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم والبخاري في الحج- باب التمتع والقرآن والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، ومسلم في الحج، باب أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحج المفرد، وما انفرد به مسلم: هو عنده في صلاة(6/47)
السهمي، رواه عنه جماعة من الثقات الحفاظ، واتفقوا على إسناده، منهم:
شعيب بن أبى حمزة، وصالح بن كيسان، ويونس، وعقيل، ومحمد بن أخى الزهراء، وسفيان بن حسين، والوليد بن محمد الموقرى، وعبيد اللَّه بن أبى زياد الرصافيّ، وغيرهم، واتفقوا على لفظ واحد في قول أبى بكر لعمر رضى اللَّه عنهما: لم يمنعني أن أرجع إليك شيئا إلا أنى قد كنت علمت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذكر حفصة.
ورواه معمر بن راشد عن الزهري بهذا الإسناد فجوّده وأسنده وقال فيه:
لم يمنعني أنى أرجع إليك شيئا إلا أنى كنت سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكرها، ولم أكن لأفشى سرّ رسول اللَّه، وهو حديث صحيح عن الزهري، أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معمر، ومن حديث صالح بن كيسان وشعيب عن الزهري، إلا أن معمرا قال فيما حكى عنه هشام بن يوسف:
قال فيه خنيس بن حذافة أو حذيفة، والصحيح أنه خنيس بن حذافة بن
__________
[ () ] المسافرين، وفي الصيام، وفي الطلاق، وفي الفتن] .
ويروى عن عمر رضى اللَّه عنه: أن حفصة ولدت إذ قريش تبنى البيت، وقيل: بنى بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شعبان سنة ثلاث.
قال الواقدي: حدثني عليّ بن مسلم، عن أبيه، رأيت مروان فيمن حمل سرير حفصة، وحملها أبو هريرة من دار المغيرة إلى قبرها. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ] .
حماد بن سلمة: أخبرنا أبو عمران الجونى، عن قيس بن زيد، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، طلّق حفصة، فدخل عليها خالاها: قدامة، وعثمان، فبكت، وقالت: واللَّه ما طلقني عن شبع. وجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: قال لي جبريل: راجع حفصة، فإنّها صوّامة، قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ، والطبراني كما في (مجمع الزوائد) . وقيس بن زيد تابعي صغير مجهول، وباقي رجاله ثقات] .
لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 81- 86، (طبقات خليفة) : 334، (تاريخ خليفة) : 66 (المعارف) : 135- 158- 184- 550، (المستدرك) :
4/ 17- 18، الاستيعاب) : 4/ 1811، ترجمة رقم (3297) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 439، ترجمة رقم (2763) ، (الإصابة) : 7/ 581، ترجمة رقم (11047) ، (خلاصة تذهيب الكمال) :
(كنز العمال) : 13/ 697، (شذرات الذهب) : 1/ 10 و 16، (صفة الصفوة) : 2/ 28، ترجمة رقم (128) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 83، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 2227.(6/48)
قيس، أخو عبد اللَّه بن حذافة الّذي استعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو الّذي كان ينادى في أيام منى عن أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أنها أيام أكل وشرب، وهو الّذي قال: من أبى يا رسول اللَّه؟ قال: أبوك حذافة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر رضى اللَّه عنه قال: تأيمت حفصة من رجل من قريش يقال له خنيس بن حذيفة أو حذافة، [شهد مع] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بدرا، مات بالمدينة، فلقى عثمان رضى اللَّه عنه فقال: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، قال: انظر في ذلك.
فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: ما أريد النكاح يومى هذا، فوجدت في نفسي، ثم لقيت أبا بكر رضى اللَّه عنه فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فلم يرجع إليّ شيئا، وكان وجدي عليه أشد من وجدي على عثمان، فلبثت ليالي، فخطبها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فزوجها إياه، فلقيني أبو بكر رضى اللَّه عنه فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال: قلت: نعم، قال: فإنّي كنت سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكرها، ولم أكن لأفشى سرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولو تركها تزوجتها.
ورواه ابن وهب فقال: أخبرنى يونس عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد اللَّه كان يحدث أن عمر رضى اللَّه عنه حين تأيمته حفصة ... ، ثم ذكر نحو حديث معمر، ورواه سويد بن سعيد فقال: حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري، عن سالم، أنه سمع أباه يحدث أن عمر قال: إن حفصة كان طلّقها أبو حذافة، قال عمر: فلقيت عثمان ... ، ثم ذكر الحديث، ولم يذكر ابن عمر.
ورواه صالح عن ابن شهاب، أخبرنى سالم بن عبد اللَّه أنه سمع عبد اللَّه ابن عمر يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمته حفصة بنت عمر من(6/49)
خنيس بن حذافة السهمي- وكان من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فتوفي بالمدينة- فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان ... ، الحديث.
ورواه يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: لما [تأيمت] حفصة لقي عمر عثمان فعرضها عليه، فقال عثمان: ما لي في النساء من حاجة، فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فسكت، فغضب على أبى بكر، فإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد خطبها فتزوجها، فلقى عمر أبا بكر فقال: إني عرضت على عثمان ابنتي فردّ لي، وعرضت عليك فسكت، فأنا كنت عليك أشد غضبا حين سكت عثمان، وقد روى فقال أبو بكر رضى اللَّه عنه [إن رسول اللَّه] صلّى اللَّه عليه وسلم قد ذكر معنا شيئا وكان سرا وكرهت أن أفشى السر.
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى جاريته مارية، وقد خرجت حفصة من بيتها فجاءته، فدخلت حفصة وهي معه، فقالت: يا رسول اللَّه! أفي بيتي وعلى فراشي؟ فقال: اسكتي، فلك اللَّه ألا أقربها أبدا ولا تذكري هذا لأحد، فأخبرت به عائشة- وكانت لا تكتمها شيئا، إنما كان أمرهما واحدا
- فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [ (1) ] ، الآيات، فكفر عن يمينه، فقوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [ (2) ] ، وقوله: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [ (3) ] ، يعنى عائشة وحفصة رضى اللَّه عنهما، فطلق حفصة تطليقة ثم راجعها [ (4) ] .
خرج الحاكم من حديث عمرو بن عون، حدثنا هشيم، وأخبرنا حميد عن أنس قال: لما طلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حفصة أمر أن يراجعها فراجعها، قال
__________
[ (1) ] التحريم: 1
[ (2) ] التحريم: 3.
[ (3) ] التحريم: 4.
[ (4) ] (تفسير ابن كثير) : 4/ 412.(6/50)
الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (1) ] .
أيضا من حديث يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن عمر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (1) ] .
وله من حديث سليمان بن المغيرة، عم ثابت عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كانت له أمة، فلم تزل به حفصة حتى جعلها على نفسه حراما، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [ (2) ] . الآية قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ (1) ] .
وخرج الطبراني من حديث ابن وهب، حدثني عمرو بن صالح الحضرميّ، عن موسى بن على بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فوضع التراب على رأسه وقال: ما يعبأ اللَّه بابن الخطاب بعد هذا، فنزل جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إن اللَّه يأمرك أن تراجع حفصة [ (1) ] .
وقيل في سبب نزول الآيات غير ذلك، وقيل هم بطلاقها ولم يطلقها، وتوفيت في جمادى سنة إحدى وأربعين، وقيل خمس وأربعين، وقيل سبع وعشرين، وأثبتها سنة خمسة وأربعين، وصلّى عليها مروان بن الحكم، ونزل في قبرها عبد اللَّه بن عمر، وعاصم بن عمر، وحمزة بن عبد اللَّه بن عمر، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، ودفنت بالبقيع، وحمل مروان- وهو أمير المؤمنين يومئذ- سريرها، ثم حمله أبو هريرة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 535، تفسير سورة التحريم، حديث رقم (3824/ 961) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، 4/ 16- 17، ذكر أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنهما- حديث رقم (6753/ 2351) ، (6754/ 2352) ، وكلاهما سكت عنه الذهبي في (التلخيص) .
[ (2) ] التحريم: 1.
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 16، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6752/ 2350) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : هذه رواية الواقدي، وقد استقر الإجماع على وهنه.(6/51)
[أم المؤمنين زينب بنت خزيمة]
[ (1) ] وزينب أم المساكين، بنت خزيمة بن الحارث بن عبد اللَّه بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة العامرية، أخت ميمونة بنت الحارث بن حرث، لأنها تزوجها الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد منافس بن قصي، أخو عبيدة بن الحارث، ثم طلقها، فخلف عليها أخوه فأصيب يوم بدر، ومات بالصفراء، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شهر رمضان سنة ثلاث، زوجه أبوها قبيصة بن عمر الهلالي، وأصدقها أربعمائة درهم، وقيل كانت تحت عبد اللَّه بن جحش فلما قتل يوم أحد تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأقامت عنده ثمانية أشهر، وقيل شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في آخر شهر ربيع الآخر، فدفنها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبقيع بعد ما صلّى عليها.
__________
[ (1) ] هي زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد اللَّه الهلالية، وتدعى: أم المساكين لكثرة معروفها. قتل زوجها عبد اللَّه بن جحش يوم أحد، فتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولكن لم تمكث عنده إلا شهرين أو أكثر، وتوفيت رضى اللَّه عنها.
وقيل: كانت أولا عند الطفيل بن الحارث، وما روت شيئا. وقال النسّابة عليّ بن عبد العزيز الجرجاني:
كانت عند الطفيل، ثم خلف عليها أخوه الشهيد: عبيدة بن الحارث المطلبي.
لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 115- 116، (المعارف) : 87 و 135 و 185، (المستدرك) : 4/ 37- 38، (الاستيعاب) : 4/ 1853، ترجمة رقم (3359) ، (الإصابة) :
7/ 672، ترجمة رقم (11230) ، (شذرات الذهب) : 1/ 10، (المواهب اللدنية) : 2/ 89، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 218.(6/52)
[أم المؤمنين أم سلمة]
[ (1) ] وأم سلمة هند- وقيل: رملة، وليس بشيء- بنت أبى أمية، حذيفة ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له سلمة وعمر وزينب ودرة، ثم مات عنها في جمادى الآخرة سنة أربع، فلما انقضت عدتها تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأعرس بها في شوال منها، ويقال: إنه خطبها إلى نفسها فجعلت أمرها إليه.
ويقال: إنه قال لها: مري ابنك سلمة بن أبى سلمة يزوجك، فزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو غلام.
ويقال: إن الّذي زوجه إياها عمر بن أبى سلمة، كما رواه [النسائي وأحمد] . وقيل: إن عمر هذا هو عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، لأنه كان هو الخاطب لها. والثابت أن سلمة زوّجه إياها.
قال أبو الحسن المدائني، عن إبراهيم بن أبى يحيى، عن حسين بن عبد اللَّه ضمرة- مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم- عن جده، عن على رضى اللَّه عنه قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم سلمة فقالت: من يزوجني ورجالي غيّب؟ قال:
ابنك، ويشهد أصحاب النبي، فزوجها ابنها وهو غلام.
__________
[ (1) ] هي السيدة المحجّبة، الطاهرة، هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة، المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد، سيف اللَّه، وبنت عم أبى جهل بن هشام.
من المهاجرات الأول، كانت قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عند أخيه من الرضاعة: أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الرجل الصالح، دخل بها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة، وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسبا، وكانت من آخر من مات من أمهات المؤمنين، عمّرت حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد، فوجمت لذلك، وغشي عليها، وحزنت عليه كثيرا، لم تلبث بعده إلا يسيرا. وانتقلت إلى رحمة اللَّه.
ولها أولاد صحابيون: عمر، وسلمة، وزينب، ولها جملة، أحاديث، روى عنها سعيد بن المسيب، وشقيق بن سلمة، والأسود بن يزيد، والشعبىّ، وأبو صالح السمان، ومجاهد، ونافع بن جبير بن(6/53)
__________
[ () ] مطعم، ونافع مولاها، ونافع مولى بن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وشهر بن حوشب، وابن أبى مليكة، وخلق كثير.
عاشت نحوا من تسعين سنة، وكانت تعدّ من فقهاء الصحابيات.
وأبوها: هو زاد الراكب، أحد الأجواد، قيل: اسمه حذيفة، وقد وهم من سماها: رملة، تلك أم حبيبة. [قال في (اللسان) : وأزواد الركب من قريش: أبو أمية بن المغيرة، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، ومسافر بن أبى عمرو بن أمية عم عقبة. كانوا إذا سافروا فخرج معهم الناس، فلم يتخذوا زادا معهم ولم يوقدوا، يكفونهم ويغنونهم] .
الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن سعيد بن يربوع، عم عمر بن أبى سلمة، قال بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبى إلى أبى قطن، في المحرّم سنة أربع، فغاب تسعا وعشرين ليلة، ثم رجع في صفر، وجرحه الّذي أصابه يوم أحد منتقض، فمات منه، لثمان خلون من جمادى الآخرة، وحلّت أمى في شوال، وتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ذكره ابن سعد في (الطبقات) ] ، إلى أن قال:
وتوفيت سنة تسع وخمسين في ذي الحجة.
ابن سعد: أخبرنا أحمد بن إسحاق الخضرمي: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم الأحول، عن زياد بن أبى مريم، قالت أم سلمة لأبى سلمة، بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها، وهو من أهل الجنة، ثم لم تزوج إلا جمع اللَّه بينهما في الجنة، فتعال أعاهدك ألا تزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك، قال: أتطيعيننى؟ قالت: نعم: قال: إذا مت تزوجي، اللَّهمّ ارزق أم سلمة بعدي رجلا خيرا منى، لا يحزنها ولا يؤذيها.
فلما مات قلت: من خير من أبى سلمة؟ فما لبثت، وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقام على الباب، فذكر الخطبة إلى ابن أخيها، أو ابنها، فقالت: أردّ على رسول اللَّه، أو أتقدم عليه بعيالي. ثم جاء الغد فخطب. [رجاله ثقات، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، وفيه: ثم جاء الغد، فذكر الخطبة، فقلت مثل ذلك، ثم قالت لوليها: إن عاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فزوّج، فعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فتزوجها] .
عفان:
حدثنا حماد، حدثنا ثابت، حدثني ابن عمر بن أبى سلمة. عن أبيه: أن أم سلمة لما انقضت عدتها، خطبها أبو بكر، فردّته، ثم عمر، فردته، فبعث إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: مرحبا، أخبر رسول اللَّه أنى غيري، وأنى مصيبة، وليس أحد من أوليائي شاهدا. فبعث إليها: أما قولك إني مصيبة، فإن اللَّه تعالى سوف يكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيري، فسأدعو اللَّه أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء، فليس أحد منهم إلا سيرضى بى. قالت يا عمر، قم فزوج رسول اللَّه، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أما إني لا أنقصك مما أعطيت فلانة، رحيين، وجرتين، ووسادة من أدم حشوها ليف،
قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حييا كريما، يستحى فيرجع، فعل ذلك مرارا، ففطن عمار بن ياسر لما تصنع، قال: فأقبل صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم وجاء عمار- وكان أخاها لأمها- فدخل عليها، فانتشلها من حجرها وقال: دعي هذه(6/54)
وعن الأجلح عن الشعبي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أزوج بنت حمزة سلمة بن أبى سلمة مكافأة له، حيث زوجني أمه. ذكره في كتاب (من زوّج أمه) .
__________
[ () ] المقبوحة المشقوحة، التي اذيت بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخل، فجعل يقلب بصرة في البيت يقول: أين زناب؟ ما فعلت زناب؟ قالت: جاء عمار فذهب بها، قال: فبنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بأهله، ثم قال: إن شئت أن أسبع لك سبّعت للنساء. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، وأحمد، والنسائي في النكاح، باب إنكاح الابن لأمه، وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) ، ووافقه الذهبي في (التلخيص) ] . قولها: غبرى: كثيرة الغبرة، ومصبية: ذات صبيان وأولاد صغار.
أبو أسامة، عن الأعمش، عن شقيق، عن أم سلمة، قالت: لما توفى أبو سلمة، أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: كيف أقول؟ قال: قولي: اللَّهمّ أغفر لنا وله، وأعقبنى منه عقبى صالحة، فقلتها، فأعقبني اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم [إسناده صحيح، وأخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند المريض، وأبو داود في الجنائز، باب ما يستحب أن يقال عند الميت من الكلام، والترمذي في الجنائز، باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده والنسائي في الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر،
من طرق عن الأعمش، عن أبى وائل شقيق بن سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، قالت: فلما مات أبو سلمة، أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا حضرت المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون، قالت: فلما مات أبو سلمة، أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، إن أبا سلمة قد مات، قال: قولي: اللَّهمّ اغفر لي وله، وأعقبنى منه عقبى حسنة، قالت: فقلت، فأعقبني اللَّه من هو خير لي منه، محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقوله: أعقبنى، أي بدلنى وعوضني منه، أي في مقابلته عقبى حسنة، أي بدلا صالحا.]
إسحاق السلولي: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي، عن أبى إسحاق، عن صلة، عن حذيفة، أنه قال لامرأته: إن سرّك أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا، فلذلك حرم على أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن ينكحن بعده، لأنهن أزواجه في الجنة.
[رجاله ثقات] . وقد تزوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين حلت في شوال سنة أربع، وتوفيت سنة إحدى وستين، رضى اللَّه تعالى عنها، ويبلغ مسندها ثلاث مائة وثمانية وسبعين حديثا. اتفق البخاري ومسلم لها على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر. رضى اللَّه تعالى عن الجميع. لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 6/ 288، (طبقات ابن سعد) : 8/ 86- 96، (طبقات خليفة) : 334، (المعارف) : 128- 136، (الجرح والتعديل) : 9/ 464، (المستدرك) : 4/ 19- 22، (الاستيعاب) :
4/ 1920- ترجمة رقم (4111) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 483، ترجمة رقم (2904) (الإصابة) : 8/ 221، ترجمة رقم (12061) ، (وخلاصة تذهيب الكمال) :، (كنز العمال) :
13/ 499، (شذرات الذهب) : 1/ 69، (المواهب اللدنية) : 2/ 84، (صفة الصفرة) : 2/ 29 ترجمة رقم (129) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 201.(6/55)
ويقال: كان السفير بن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وبين أم سلمة عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، ويقال: حاطب بن أبى بلتعه، فقالت: إني مسنّة، فقال: وأنا أسنّ منك، قالت: فإنّي مصبية، قال: هم في عيال اللَّه ورسوله، قالت:
فإنّي غيور، قال: أنا أدعوا اللَّه أن يذهب عنك الغيرة، فدعا لها، ثم إنه تزوجها وأصدقها صلّى اللَّه عليه وسلم فراشا حشوه ليف، وقدما، وصحفة، ومجشة، وابنتي لها في بيت أم المساكين، فوجد فيه جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحاء وبرمة، وفيها قعب من إهالة، فكان ذلك طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأهله ليلة عرسه، وقال لها في صبحيتها: إنه ليس بك على أهلك هوان، فإن شئت ثلّث لك أو خمّس أو سبّع، فإنّي لم أسبّع لامرأة من نسائي قط، فقالت: اصنع ما شئت، فإنما أنا امرأة من نسائك.
ويقال: إنه قال لها: لك عندنا قطيفة تلبسينها في الشتاء وتفرشينها في الصيف، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيان تطحنين بهما، وجرتان في إحداهما ماء وفي الأخرى دقيق، وجفنة تعجنين وتثردين فيها، فقالت:
رضيت، فكان ذلك مهرها، ونزلت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمنزلة لطيفة.
وتوفيت في شوال سنة تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع، ونزل في قبرها ابناها سلمة وعمر، وابن أخيها عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبى أمية، وقيل:
توفيت في شهر رمضان منها، وقيل: توفيت يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وصلّى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد، وهي آخر أمهات المؤمنين [موتا] ، وقال عطاء: آخرهن موتا صفية، وهي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل: بل ليلى بنت أبى خيثمة، زوج عامر بن ربيعة العنزي، خليفة الخطاب بن نفيل.(6/56)
[أم المؤمنين زينب بنت جحش]
[ (1) ] وزينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم
__________
[ (1) ] هي زينب بنت جحش بن رباب، وابنة عمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، وهي أخت حمزة، وأبى أحمد، من المهاجرات الأول، وكانت عند زيد، مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهي التي يقول اللَّه فيها: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] ، والّذي أخفاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هو إخبار اللَّه إياه أنها ستصير زوجته، وكان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد اللَّه تعالى إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الّذي يدعى ابنا، ووقوع ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليكون أدعى لقبولهم، وقد أخرج الترمذي من طريق داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن عائشة قالت:
لو كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآية.
فزوجها اللَّه تعالى بنص كتابة، بلا ولى ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين، وتقول زوجكن أهاليكن، وزوجني اللَّه من فوق عرشه. [أخرجه البخاري في التوحيد، باب وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ،
من طريق أنس، قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: اتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك.
قال أنس لو كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه. قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تقول: زوجكم أهاليكن، وزوجني اللَّه تعالى من فوق سبع سماوات. وفي رواية البخاري: كانت تقول: إن اللَّه أنكحنى في السماء، أخرجه البخاري من حديث أنس قال: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش، وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما، وكانت تفخر على نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت تقول: إن اللَّه أنكحنى في السماء.
وكانت رضى اللَّه عنها من سادة النساء، دينا، وورعا، وجودا، ومعروفا، وحديثها في الكتب الستة، روى عنها ابن أخيها محمد بن عبد اللَّه بن جحش، وأن المؤمنين أم حبيبة، وزينب بنت أبى سلمة، وأرسل عنها القاسم بن محمد.
توفيت في سنة عشرين، وصلّى عليها عمر رضى اللَّه عنه، وعن ابن عمر: لما ماتت بنت جحش أمر عمر رضى اللَّه عنه مناديا: ألا يخرج معها إلا ذو محرم، فقالت بنت عميس: يا أمير المؤمنين، ألا أريك شيئا رأيت الحبشة تصنعه بنسائهم؟ فجعلت نعشا وغشته ثوبا، فقال: ما أحسن هذا وأستره! فأمر مناديا فنادى: أن اخرجوا على أمكم. [إسناده صحيح، وهو في (طبقات ابن سعد) ، لكن سقط من إسناده فيه ابن عمر، واستدركناه من (سير الأعلام) .
وهي التي كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أسرعكن لحوقا بى أطولكن يدا. وإنما عنى طوال يدها بالمعروف.
قالت عائشة: فكن يتطاولن أيهن أطول يدا، وكانت زينب تعمل وتصدّق، [والحديث أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل زينب أم المؤمنين.
من طريق عائشة بنت طلحة، عن(6/57)
__________
[ () ] عائشة أم المؤمنين قالت قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أسرعكن لحاقا بى أطولكن يدا.
قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا قالت: فكانت أطولنا يدا زينب- لأنها كانت تعمل بيدها وتصدّق.] .
وروى عن عائشة قالت: كانت زينب، أتقى اللَّه، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة رضى اللَّه عنها [أخرجه مسلم في فضائل الصحابة من طريق الزهري، أخبرنى محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة رضى اللَّه عنها في خبر مطوّل، وفيه: قالت عائشة رضى اللَّه عنها:
فأرسل أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهي التي كانت تسامينى منهن في المنزلة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى اللَّه، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشدّ ابتذالا لنفسها في العمل الّذي تصدّق به، وتقرب به إلى اللَّه تعالى، ما عدا سورة من حدّة كانت فيها، تسرع منها الفيئة] .
[وأخرجه أحمد من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة بلفظ: ولم أر امرأة خيرا منها، وأكثر صدقة، وأوصل للرحم، وأبذل لنفسها في كل شيء يتقرب به إلى اللَّه عز وجل، من زينب، ما عدا سورة من غرب حدّ كان فيها، توشك منها الفيئة] .
ابن جريح عن عطاء، سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة رضى اللَّه عنها تزعم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان يمكث عن زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها، فلتقل: إني أجد منك ريح مغاير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، قال:
بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له. فنزل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إلى قوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما- الآيات من أول سورة التحريم- يعنى حفصة وعائشة، قوله: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً: قوله بل شربت عسلا. [أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب إذا حرّم طعاما. وفي الطلاق، باب لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرّم امرأته ولم ينو الطلاق، وابن سعد في (الطبقات) ، والبخاري في التفسير عن عائشة بلفظ: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا يدخل عليها، فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغاير، قال: لا، ولكنى كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، لن أعود له، وقد حلفت ألا تخبري بذلك أحدا] .
[والمغافير: شراب مصنوع من الصمغ له ريح منكرة. وثمة سبب آخر في نزول الآية: فقد أخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح فيما قاله الحافظ إلى مسروق قال: حلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمته، وقال: هي عليّ حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل اللَّه له] .
[وأخرج الضياء المقدس في (المختارة) ، من مسند الهيثم بن كليب، ثم من طريق جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لحفصة: لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم عليّ حرام، قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل اللَّه تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ،
وأخرج الطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه من طريق أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمارية ببيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: يا رسول اللَّه في بيتي تفعل هذا معى دون نسائك، فذكر نحوه. وللطبراني من طريق الضحاك، عن ابن عباس(6/58)
ابن دودان بن أسد بن خزيمة، أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، تزوجها زيد بن حارثة- حبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- وشكاها
__________
[ () ] قال: دخلت حفصة بيتها، فوجدته صلّى اللَّه عليه وسلم يطأ مارية، فعاتبته، فذكر نحوه. قال الحافظ: وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا. وقد روى النسائي من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس هذه القصة مختصرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة رضى اللَّه عنها حتى حرمها، فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ] .
ويروى عن عمرة عن عائشة، قالت: يرحم اللَّه زينب، لقد نالت في الدنيا الشرف الّذي لا يبلغه شرف، إن اللَّه زوجها، ونطق به القرآن، وإن رسول اللَّه قال لنا: أسرعكن بى لحوقا أطولكن باعا.
فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة.
قال الحافظ الذهبي: وأختها هي حمنة بنت جحش، التي نالت من عائشة في قصة الإفك، فطفقت تحامى عن أختها زينب، وأما زينب فعصمها اللَّه تعالى بورعها، وكانت حمنة زوجة عبد الرحمن ابن عوف. ولها هجرة، وقيل: بل كانت تحت مصعب بن عمير، فقتل عنها، فتزوجها طلحة، فولدت له محمد، وعمر، وكانت زينب بنت جحش رضى اللَّه تعالى عنها صناع اليد، فكانت تدبغ، وتخرز، وتصدّق.
وقيل: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج بزينب في ذي القعدة سنة خمس، وهي يومئذ بنت خمس وعشرين سنة، وكانت صالحة، صوامة، قوامة بارّة، ويقال لها: أم المساكين.
سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لزيد: اذكرها عليّ، قال:
فانطلقت، فقلت لها: يا زينب، أبشرى، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أرسل يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن.
[أخرجه مسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، والنسائي في النكاح، باب صلاة المرأة إذا خطبت واستخارت ربها] .
ولزينب بنت جحش أحد عشر حديثا، اتفقا لها على حديثين. [البخاري في الجنائز، باب إحداد المرأة علي غير زوجها، وفي الفتن، باب يأجوج ومأجوج، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وفي أول الفتن] .
وعن عثمان بن عبد اللَّه الجحشى، قال: باعوا منزل زينب بنت جحش من الوليد بخمسين ألف درهم، حين هدم المسجد. لها ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 8/ 101، 115، (طبقات خليفة) :
332، (المعارف) : 215، 457، 555، (المستدرك) : 4/ 27- 29، (الاستيعاب) : 4/ 1849، ترجمة رقم (3355) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 449، ترجمة رقم (2800) ، (الإصابة) :
7/ 667 ترجمة رقم (11221) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 382، ترجمة رقم 68، (كنز العمال) : 13/ 700، (شذرات الذهب) : 1/ 10، 31، (صفة الصفوة) : 2/ 33، ترجمة رقم (131) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 87، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 211- 218، ترجمة رقم (21) .(6/59)
إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال: إنها سيئة الخلق، واستأمره في طلاقها، فقال له:
أمسك عليك زوجك يا زيد، ورآها صلّى اللَّه عليه وسلم فأعجبته، ثم إن زيدا ضاق ذرعا بما رأى من سوء خلقها، فطلقها [ (1) ] ، فزوجها اللَّه بنبيه حين انقضت عدتها، بغير مهر، ولا تولى أمرها أحد كسائر أزواجه.
وذكر ابن إسحاق أن [أخاها أحمد] بن جحش زوّجها، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلم أصدقها أربعمائة درهم، وأولم عليها بشاة واحدة، ودعا الناس في صبيحة عرسها فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون ولم يقوموا، فآذوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأنزل اللَّه تعالى آية الحجاب، وأنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [ (2) ] ، أي بلوغه ... الآية،
__________
[ (1) ]
قال أبو حيان الأندلسى: فجاء زيد فقال: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم:
أرابك منها شيء؟ قال: لا واللَّه، ولكنها تعظم عليّ لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، أي لا تطلقها، وهو أمر ندب، وَاتَّقِ اللَّهَ في معاشرتها، فطلقها، وتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد انقضاء عدتها،
وعلل تزويجه إياها بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرّم في قوله:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ، [النساء: 23] (البحر المحيط) : 8/ 481.
وقال على بن الحسين: كان قد أوحى اللَّه إليه أن زيدا سيطلقها، وأنه يتزوجها بتزويج اللَّه إياها، فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها، وهذا هو الّذي أخفى في نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق، ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، أمره بطلاقها، فعاتبه اللَّه على هذا القدر في شيء قد أباحه اللَّه بأن قال: أَمْسِكْ، مع علمه أن يطلق، فأعلمه أن اللَّه أحق بالخشية، أي في كل حال، (المرجع السابق) : 482.
وهذا المروي عن على بن الحسين، هو الّذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهرى، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبى بكر بن العربيّ، وغيرهم. والمراد بقوله: وَتَخْشَى النَّاسَ، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية، يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحا (المرجع السابق) : 482.
وروى أبو عصمة: نوح بن أبى مريم، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت: ما كنت أمتنع منه، غير أن اللَّه منعني منه، وقيل: إنه منذر تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها. وروى أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها. (المرجع السابق) : 483.
[ (2) ] الأحزاب: 53.(6/60)
وقالت زينب للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم لست كسائر نسائك، إني أدلّ بثلاث ما من نسائك من يدلّ بهن: جدك وجدي واحد، ونكحتك من السماء، وكان جبريل السفير في أمرى.
وقالت عائشة: رضى اللَّه عنها: يرحم اللَّه زينب، لقد نالت الشرف الّذي لا يبلغه شرف في الدنيا: أن اللَّه زوجها نبيّه، ونطق بذلك كتابه، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال ونحن حوله: أسرعكن لحوقا بى أطولكن يدا- أو قال:
باعا- فبشرها بسرعة لحاقها به، وأنها زوجته في الجنة،
وكانت زينب تقول لأزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: زوجكن أولياؤكن بمهور، وزوجني اللَّه.
وكان تزويج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إياها في سنة خمس، وقيل في سنة ثلاث، ولما بشّرت بتزويج اللَّه نبيه إياها، ونزول الآية في ذلك، جعلت على نفسها صوم شهرين شكرا للَّه، وأعطيت من بشّرها حليا [كانت] عليها.
ولا خلاف أنها كانت قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحت زيد بن حارثة، وأنها التي ذكر اللَّه تعالى في قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [ (1) ] ، ولما دخلت عليه قال: ما اسمك؟ قالت: برّة، فسماها زينب، ولم يكن أحد من نسائه يشارك عائشة رضي اللَّه عنها في حسن المنزلة غير زينب بنت جحش، وغضب عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لقولها في صفية بنت حيّى:
حتى تلك اليهودية، وهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان عليه معها.
وذكر الحاكم أنه رضى عنها في شهر ربيع الأول الّذي قبض فيه، فلما دخل عليها قالت: ما أدرى ما أجزئك، فوهبت له جارية اسمها نفيسة [ (2) ] .
وخرج من حديث عبد العزيز الأريش، حدثنا عبد الرحمن بن أبى
__________
[ (1) ] الأحزاب: 53.
[ (2) ] سبق تخريجه في ترجمتها.(6/61)
الرجال عن أبيه، عن عمرو عن عائشة قالت: أهدى لي لحم، فأمرنى رسول اللَّه أن أهدى منه لزينب، فأهديت لها فردته، فقال: زيديها، فزدتها، فردته، فقال: أقسمت عليك إلا زدتيها، فزدته، فدخلتني غيره، فقلت:
لقد أهانيك، [فقال] : أنت وهي أهون على اللَّه من أن يهينني منكن أحد، أقسمت لا أدخل عليكن شهرا.
فغاب عنا تسعا وعشرين، ثم دخل علينا مساء الثلاثين فقلت: كنت [حلفت] أن لا تدخل شهرا، فقال: شهر هكذا وشهر هكذا، وفرق بين كفيه وأمسك في الثالث الإبهام. قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وفيه البيان أن أقسمت على كذا يمين وقسم.
وتوفيت سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين، وصلّى عليها عمر رضى اللَّه عنه، ودفنت بالبقيع، ونزل في قبرها محمد بن عمر بن جحش، وعبد اللَّه بن أحمد بن جحش، وأسامة بن زيد، وضرب عمر على قبرها فسطاطا من شدة الحر، فكانت أول أزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وفاة بعده.(6/62)
[أم المؤمنين أم حبيبة]
[ (1) ] وأم حبيبة رملة، وقيل: هند- ورملة أثبت- ابنة أبى سفيان صخر بن
__________
[ (1) ] هي السيدة المحجّبة: رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي. مسندها خمسة وستون حديثا، واتفق لها البخاري ومسلم على حديثين، وتفرد مسلم بحديثين [البخاري في النكاح، باب وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، وفي الطلاق، باب الكحل للحادة، ومسلم في الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، وفي الطلاق، باب وجوب الإحداد، وفي صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وفي الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى مني في أواخر الليل قبل زحمة الناس] .
وهي من بنات عم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، ليس في أزواجه من هي أقرب نسبا إليه منها، ولا في نسائه من هي أكثر صداقا منها، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلّى اللَّه عليه وسلم عليها بالحبشة، وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربعمائة دينار وجهزها بأشياء، روت عنه عدّة أحاديث، وقبرها بالمدينة.
قال ابن سعد: ولد أبو سفيان: حنظلة المقتول يوم بدر، وأم حبيبة، توفى عنها زوجها الّذي هاجر بها إلى الحبشة: عبيد اللَّه بن جحش بن رياب الأسدي، مرتدا متنصرا.
عقد عليها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم بالحبشة سنة ست، وكان الولي عثمان بن عفان. [ (الاستيعاب) (والمستدرك) ] معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة: أنها كانت تحت عبيد اللَّه، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوجها بالحبشة، زوجها إيها النجاشىّ، ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشىّ. [إسناده صحيح، أخرجه أبو داود في النكاح، باب الصداق، والنسائي في النكاح، باب القسط في الأصدقة، وأحمد في (المسند) ] .
وقيل: إن أم حبيبة لما جاء أبوها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليؤكد عقد الهدنة، ودخل عليها، فمنعته أن يجلس على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمكان الشرك. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) من طريق الواقدي، عن محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري] .
وأما ما ورد من طلب أبى سفيان من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يزوجه بأم حبيبة، فما صحّ، ولكن الحديث في مسلم، وحمله الشارحون على التماس تجديد العقد. [مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى سفيان بن حرب، وقد أعله غير واحد من الأئمة] .
وقد كان لأم حبيبة حرمة وجلالة، ولا سيما في دولة أخيها ولمكانه منها قيل له: خال المؤمنين [كذا قاله الذهبي في (سير الأعلام) . لكن قال القسطلاني في (المواهب اللدنية) : ولا يقال: بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات] .
قال الواقدي، وأبو عبيد، والفسوي: ماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، قال: لما قدم أبو سفيان المدينة، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم(6/63)
حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أمها صفيّا بنت أبى العاص، عمة عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، تزوجها عبيد اللَّه بن جحش، فولدت له جارية سميت حبيبة، فكنيت بها، وهاجر بها إلى الحبشة، فتنصّر، وثبتت أم حبيبة على الإسلام، فلما هلك عبيد اللَّه رأت في منامها أباها يقول لها: يا أم المؤمنين.
وكتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سنة سبع- وهو الثابت- كتابين إلى النجاشي يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويأمره في الثاني أن يخطب عليه أم حبيبة، وأن يبعث من قبله من المسلمين مع عمرو بن أمية الضمريّ، وهو كان رسوله بالكتابين.
وقال الحافظ أبو نعيم: فأما بعثة عمرو بن أمية الضمريّ من قبل رسول اللَّه إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان وإجابته إلى ذلك، فلا أعلم خلافا أنه كان بعد مرجعه صلّى اللَّه عليه وسلم من خيبر، وذلك بعد خمس سنين
__________
[ () ] يريد غزو مكة، فكلمه في أن يزيد في الهدنة، فلم يقبل عليه، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلّى اللَّه عليه وسلم طوته دونه، فقال: يا بنية! أرغبت بهذا الفراش عنى، أم بى عنه؟
قالت: بل هو فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: يا بنيه، لقد أصابك بعدي شرّ.
[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] .
قال عطاء: أخبرنى ابن شوال، أن أم حبيبة أخبرته، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمرها أن تنفر من جمع بليل. [أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى قبل زحمة الناس، وابن سعد في (الطبقات) ، وجمع: علم للمزدلفة، وابن شوال هو سالم مولى أم حبيبة] .
قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن أبى سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث:
سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر اللَّه لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر اللَّه لك ذلك كله وحلّلك من ذلك، فقالت: سررتني سرّك اللَّه، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك: [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ] . لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 577- 581، (طبقات ابن سعد) :
8/ 96- 100، (طبقات خليفة) : 332، (تاريخ خليفة) : 79، 86، (المعارف) : 136، 344، (الجرح والتعديل) : 9/ 461، (المستدرك) : 4/ 21- 24، (الاستيعاب) : 4/ 1929، ترجمة رقم (4136) ، (تهذيب التهذيب) : 12/ 448، ترجمة رقم (2793) ، (الإصابة) : 7/ 651- 654، ترجمة رقم (11185) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : (شذرات الذهب) : 1/ 54، (صفة الصفوة) : 2/ 31- 33 ترجمة رقم (130) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 85- 87، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 218، ترجمة رقم (23) .(6/64)
وأشهر مضت من هجرته إلى المدينة، وأن النجاشي أصدقها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعمائة دينار، دفعها من ماله إليها [ (1) ] .
وفي صحيح ابن حبان عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة قالت: هاجر عبد اللَّه بن جحش بأم حبيبة بنت أبى سفيان- وهي امرأته- إلى أرض الحبشة، فلما قدم أرض الحبشة مرض، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول اللَّه، فتزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة، وبعث بها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة [ (2) ] .
فأسلم النجاشي، ووجه إلى أم حبيبة جارية له يقال لها: أبرهة لتعلمها بذلك وتبشرها بذلك وتبشرها به، فوهبت لها أم حبيبة [حلة] كانت عليها وكستها.
ثم وكلت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية- وهو ابن عمها- بتزويجها، فخطبها عمرو بن أمية إليه، فزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ومهرها عنه النجاشىّ أربعمائة دينار- وقيل: مائتي دينار، وقيل أربعة آلاف درهم- وبعث بها إليها مع أبرهة، فوهبتها منها خمسين مثقالا فلم تقبلها، وردت ما كانت أعطتها أولاد، وذلك أن النجاشي أمرها برده.
وهيأ النجاشي طعاما أطعمه من حضره من المسلمين، وأهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كسوة جامعة، وأمر نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة فبعثن لها بعود وروس وعنبر وزيادة كثير، قدمت به على رسول اللَّه، وكان يراه عندها وعليها فلا ينكره.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه في ترجمتها.
[ (2) ] (سنن النسائي) : 6/ 429، باب (66) القسط في الأصدقة، حديث رقم (3350) ، (سنن أبى داود) : 2/ 583، كتاب النكاح، باب (29) الصداق، حديث رقم (2107) ، (2108) ، وقال الخطابي في (معالم السنن) : وقد روى أصحاب السير أن الّذي عقد النكاح عليها خالد بن سعيد بن العاص، وهو ابن عم أبى سفيان- وأبو سفيان إذا ذاك مشرك- وقبل نكاحها عمرو بن أبى أمية الضمريّ، وكله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، (مسند أحمد) : 7/ 579 حديث رقم (26862) ، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 13/ 385- 386، كتاب الوصبة، باب ذكر إباحة وصية المرء وهو في بلد ناء إلى الموصى إليه في بلد آخر، حديث رقم (6027) ، وإسناد صحيح على شرط البخاري.(6/65)
فلما قدم عمرو بن أمية بأم حبيبة المدينة، ابنتي بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والثابت أنها قدمت مع عمرو في إحدى السفينتين أيام خيبر، وقيل: بل بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبا عامر الأشعري حين بلغه خطبة عمرو أم حبيبة وتزويج خالد إياها، فحملها إليه قبل قدوم أهل السفينتين وهيأ النجاشي طعاما أطعمه من حضره من المسلمين، وأهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كسوة جامعة، وأمر نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة فبعثن لها بعود وروس وعنبر وزياد كثير، قدمت به على رسول اللَّه، وكان يراه عندها وعليها فلا ينكره.
وأن أبا سفيان قال: أنا أبوها أم أبو عامر؟ وقيل: بل بعث إليها شرحبيل بن حسنة فجاءه بها.
قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، أن أم حبيبة بعث بها النجاشي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، ولما بلغ أبو سفيان تزوّج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا [يقدع] أنفه [ (1) ] .
وقال ابن عباس رضى اللَّه عنه في قول اللَّه تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [ (2) ] ، نزلت حين تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان بن [حرب] [ (3) ] وقيل قدم عمرو بن أمية بأم
__________
[ (1) ] القدع: الكفّ والمنع، وفلان لا يقدع أنفه، أي لا يرتدع، وهذا فحل لا يقدع أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما، وفي حديث زواجه صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة رضى اللَّه عنها: قال ورقة ابن نوفل: محمد يخطب خديجة، هو الفحل لا يقدع أنفه (لسان العرب) : 8/ 260.
[ (2) ] الممتحنة: 7.
[ (3) ] وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الآية نزلت في أبى سفيان صخر بن حرب، فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج ابنته، فكانت هذه مودة ما بينه وبينه. وفي هذا يقول العلامة محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسى الغرناطي: ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالا، وإن كان متقدما لهذه الآية، لأنه استمر(6/66)
حبيبة مع أصحاب السفينتين فخطبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، فزوجه إياها، والأول أثبت، وتوفيت رضى اللَّه عنها سنة أربع وأربعين، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وصلّى عليها مروان.
وقد وقع في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل قال: حدثني ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم يا نبي اللَّه! ثلاثة أعطينهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبى سفيان أزوجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمّرنى حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم.
قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: نعم [ (1) ] .
قال أبو عبد اللَّه محمد بن أبى نصر الحميدي رحمه اللَّه: قال لنا بعض الحفاظ: هذا الحديث وهم فيه بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين اثنين من أهل المعرفة بالأخبار، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة رضى اللَّه عنها قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر يومئذ [ (2) ] .
__________
[ () ] بعد الفتح كسائر ما نشأ من المؤدّات، قاله ابن عطية. (البحر المحيط) : 10/ 156.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 296، كتاب (44) ، فضائل الصحابة باب (40) من فضائل أبى سفيان بن حرب، رضى اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (168) .
[ (2) ] قال الإمام محيي الدين أبو زكريا بن شرف النووي: واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل.
قال أبو عبيدة، وخليفة بن خياط، وابن البرقي، والجمهور: تزوجها سنة ست، وقيل: سنة سبع، قال القاضي عياض: واختلفوا أين تزوجها، فقيل: بالمدينة بعد قدومها من الحبشة، وقال الجمهور: بأرض الحبشة. قال: واختلفوا فيمن عقد له عليها هناك، فقيل: عثمان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص بإذنها، وقيل: النجاشىّ لأنه كان أمير الموضع وسلطانه.(6/67)
قال كاتبه: وقد استغرب من مسلم رحمه اللَّه كيف لم ينتبه لهذا الحديث؟ فإنه لا يخفى عليه أن أبا سفيان إنما أسلم ليلة فتح مكة، وقد كان بعد تزويج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة بأكثر من سنة بلا خلاف، وقد أشكل هذا الحديث على الناس واختلفوا فيه، ووجه إشكاله أن أم حبيبة تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل إسلام أبى سفيان كما تقدم، زوّجها إياه النجاشي، ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن يسلم أبوها، فكيف يقول بعد الفتح: أزوجك أمّ حبيبة؟ فقالت طائفة من أهل الحديث: هذا الحديث كذب لا أصل له.
قال أبو محمد على بن سعيد بن حزم: كذبه عكرمة بن عمار وحمل عليه، واستعظم ذلك آخرون وقالوا: إني يكون في صحيح مسلم حديث مرفوع؟ وإنما وجه الحديث أنه طلب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يجدد له العقد على
__________
[ () ] وقال القاضي عياض: والّذي في مسلم هنا أنه زوّجها أبو سفيان غريب جدا، وخبرها مع أبى سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور، ولم يزد القاضي على هذا.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضا أنه قال: أنه موضوع. قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار، الراويّ عن أبى زميل، وأنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه اللَّه هذا أيضا على ابن حزم، وبالغ في الشناعة عليه.
قال: وهذا القول من جسارته فإنه كان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار، وإطلاق اللسان فيهم.
قال: ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد وثقه وكيع، ويحيى بن معين، وغيرهما، وكان مستجاب الدعوة.
قال: وما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها غلط منه وغفلة، لأنه يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح تطييبا لقلبه، لأنه ربما يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه، أن تزوج بنته بغير رضاه، أو أنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد، وقد خفي أوضح من هذا على أكبر مرتبة من أبى سفيان ممن كثر علمه، وطالت صحبته، هذا كلام أبى عمرو رحمه اللَّه، وليس في الحديث أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم جدّد العقد: ولا قال لأبى سفيان أنه يحتاج إلى تجديده، فلعله صلّى اللَّه عليه وسلم أراد بقوله: نعم، أن مقصودك يحصل، وإن لم يكن بحقيقة عقد. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 16/ 296.(6/68)
ابنته ليتقى له بذلك وجهه بين المسلمين.
واعترض على هذا القول بأن في الحديث: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وعده وهو الصادق الوعد، ولم ينقل أحد قط أنه صلّى اللَّه عليه وسلم جدد العقد على أم حبيبة، ومثل هذا لو كان لنقل، فحيث لم ينقله أحد قط علم أنه لم يقع.
ولم يردّ القاضي [عياض] على استشكال الحديث فقال: والّذي وقع في مسلم من هذا غريب جدا عند أهل الخبر، وخبرها مع أبى سفيان عند وروده المدينة بسبب تجديد الصلح ودخوله عليها مشهور.
وقالت طائفة: ليس الحديث بباطل، وإنما سأل أبو سفيان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أن يزوجه ابنته الأخرى على أختها أم حبيبة، قالوا: ولا يبعد أن يخفى هذا على أبى سفيان لحداثة عهده بالإسلام، كما خفي على ابنته أم حبيبة حتى
سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يتزوجها، فقال: إنها لا تحل لي،
فأراد أبو سفيان أن يتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابنته الأخرى، والتبعة على الراويّ. وذهب وهمه إلى أنها أم حبيبة وهذه التسمية من غلط بعض الرواة لا من قول أبى سفيان.
قال شيخنا العماد عمر بن كثير- رحمه اللَّه-: والصحيح في هذا أن أبا سفيان لما رأى صهر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [رفع من قدره] [ (1) ] أحب أن يزوجه ابنته الأخرى- وهي عزة- واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، كما أخرجاه
في الصحيحين عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول اللَّه! أنكح أختى بنت أبى سفيان، فقال: وتحبين ذلك؟ قلت: نعم.. الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق، ومكانها مطموس في (خ) .
[ (2) ]
أخرجه البخاري في (الصحيح) قال: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير أخبره أن زينب ابنة أبى سلمة أن أم حبيبة قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أنكح أختى بنت أبى سفيان، قال: وتحبين؟ قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختى، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت: يا رسول اللَّه، فو اللَّه إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبى سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ فقلت: نعم، قال: فو اللَّه لو لم تكن في حجري ما(6/69)
__________
[ () ] حلت لي، إنها لابنة أخى من الرضاعة، أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة- فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن. (فتح الباري) : 9/ 198، كتاب النكاح، باب (27) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، حديث رقم (5107) ، (مسلم بشرح النووي) : 9/ 278، كتاب الرضاع، باب (4) تحريم الربيبة وأخت المرأة، حديث رقم (15) ،
وقال الإمام النووي: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون:
أولهم: بكير بن عبد اللَّه بن الأشج، روى عن جماعة من الصحابة، والثاني عبد اللَّه بن مسلم الزهري أخو الزهري المشهور وهو تابعي سمع ابن عمرو آخرين من الصحابة، وهو أكبر من أخى الزهري المشهور، والثالث: محمد بن مسلم الزهري المشهور، وهو أخو عبد اللَّه الراويّ عنه كما ذكرنا، والرابع: حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهو الزهري، تابعيان مشهوران.
ففي هذا الإسناد ثلاث لطائف من علم الإسناد: إحداها: كونه جمع أربعة تابعين بعضهم عن بعض، الثانية: أن فيه رواية الكبير عن الصغير، لأن عبد اللَّه أكبر من أخيه محمد كما سبق، الثالثة: أن فيه رواية الأخ عن أخيه.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخى من الرضاعة» ،
معناه أنها حرام عليّ بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخى، فلو فقد أحد السببين حرمت بالآخر، والربيبة بنت الزوجة، مشتقة من الربّ، وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمورها، ويصلح أحوالها.
ووقع في بعض كتب الفقه أنها مشتقة من التربية، وهذا غلط فاحش، فإن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية، ولام الكلمة، وهو الحرف الأخير مختلف، فإن آخر ربّ باء موحدة، وفي آخر ربّى ياء مثناة من تحت، واللَّه تعالى أعلم.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «ربيبتي في حجري» ،
ففيه حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها، فإن لم تكن في حجره فهي حلال له، وهو موافق لظاهر قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ، ومذهب العلماء كافة سوى داود أنها حرام، سواء كانت في حجره أم لا.
قالوا: والتقييد إذا خرج على سبب لكونه الغالب، لم يكن له مفهوم يعمل به، فلا يقصر الحكم عليه، ونظيره قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، ومعلوم أنه يحرم قتلهم بغير ذلك أيضا، لكن خرج التقييد بالإملاق لأنه الغالب، وقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، ونظائره في القرآن كثيرة.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أرضعتنى وأباه ثويبة» ،
أباها بالباء الموحدة، أي أرضعتنى أنا وأبوها أبو سلمة، من ثوبية بثاء مثلثة مضمومة، ثم واو مفتوحة ثم ياء التصغير ثم باء موحدة ثم هاء، وهي مولاة لأبى لهب، ارتضع منها صلّى اللَّه عليه وسلم قبل حليمة السعدية رضى اللَّه عنها.
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «فلا تعرضوا عليّ بناتكن ولا أخواتكن» ،
إشارة إلى أخت أم حبيبة، وبنت أم سلمة، واسم أخت أم حبيبة هذه: عزّة، بفتح العين المهملة، وهذا محمول على أنها لم تعلم حينئذ تحريم(6/70)
وعلى هذا فيصح الحديث الأول، ويكون قد وقع الوهم من بعض الرواة في قوله: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة، وإنما قال: عزة، فشبه على الراويّ، أو أنه قال- يعنى الشيخ-: ابنته، فتوهم السامع أنها أم حبيبة، إذا لم يعرف سواها، ولهذا النوع من الغلط شواهد كثيرة، قلما قررت سرد ذلك في خبر مفرد لهذا الحديث، وللَّه الحمد، وهذا القول جيد، لكن سرده أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: نعم، فأجابه إلى ما سأل، ولو كان المسئول أن يزوجه أخت أم حبيبة لقال: إنها لا تحل لي كما قال ذلك لأم حبيبة، ولولا هذا لكان هذا التأويل في الحديث من أحسن التأويل.
وقال ابن طاهر المقدسي في (مسألة الانتصار) : والشبهة التي حملته- يعنى ابن حزم- على الكلام في عكرمة بن عمار بغير حجة، هي أن النجاشي زوّج أم حبيبة من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، ثم بعث بها إلى المدينة قبل إسلام أبى سفيان.
والجواب عن هذه الشبهة: أن أبا سفيان لما أسلم أراد بهذا القول تجديد النكاح، لأنه إذا ذاك كان مشركا، فلما أسلم ظن أن النكاح [يجدد] بإسلام الولي، وخفي ذلك عليه، وقد خفي على أمير المؤمنين على بن أبى طالب الحكم في الّذي [] [ (1) ] مع قدم إسلامه وصحبته وعلمه وفقهه، حتى أرسل المقداد فسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، وخفي على عبد اللَّه بن عمر الحكم في طلاق الحائض، حتى سأل عمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأمره بالسنة
__________
[ () ] الجمع بين الأختين، وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الربيبة، وكذا لم تعلم من عرض بنت حمزة تحريم بنت الأخ من الرضاعة، أو لم تعلم أن حمزة أخ له من الرضاع، واللَّه تعالى أعلم.
(المرجع السابق) .
وأخرجه أيضا الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 162، كتاب النكاح، باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .(6/71)
في ذلك.
ولهذا نظائر غير خافية بين أهل النقل، [والرجوع] إلى هذا التأويل أولى من التخطي إلى الكلام في رجل ثقة، وإبطال حديث ورد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، متصل الإسناد، معتمد الرواة. وأما قول أبى زميل: حدثنا ابن الوليد، فهو مقصور عليه، لم ينسبه إلى من فوقه، فتكلم عليه.
قال جامعة: وقد تبع ابن طاهر على هذا الجواب أبو عمر بن الصلاح إلى الشيخ أبى زكريا النووي في (شرح مسلم) ، وهذا تأويل بعيد جدا، لأنه لو كان كذلك لم يقل: عندي أحسن العرب وأجمله، إذ قد رآها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منذ سنة فأكثر، وتوهّم فسخ نكاحها بإسلامه بعيد جدا.
وقالت طائفة لم يتفق أهل النقل على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة بأرض الحبشة، حكاه أبو محمد المنذرىّ، وهذا من أضعف الأجوبة لوجوه.
أحدها: أن هذا القول لا يعرف به أثر صحيح ولا حسن، ولا حكاه أحد ممن يعتمد على نقله.
الثاني: أن قصة تزوج أم حبيبة وهي بأرض الحبشة قد جرت مجرى التواتر، كتزويجه صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة بمكة، وعائشة بمكة، وبنائه بعائشة بالمدينة، وتزويجه حفصة بالمدينة، وصفية عام خيبر، وميمونة في عمرة [القضية] [ (1) ] ، ومثل هذه الوقائع شهرتها عند أهل العلم موجبة بقطعهم بها، فلو جاء سند ظاهره الصحة يخالفها، عدوّه غلطا، ولم يلتفتوا إليه ولا يمكنهم مكابرة نفوسهم في ذلك.
الثالث: أنه من [المعلوم] [ (1) ] عند أهل العلم بسيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأحواله، أنه لم يتأخر نكاحه أم حبيبة إلى بعد فتح مكة، ولا يقع ذلك في وهم
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.(6/72)
أحد منهم أصلا.
الرابع: أن أبا سفيان لما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية! ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش؟ أم رغبت به عنى؟ قالت: بل هو فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: واللَّه لقد أصابك يا بنية بعدي شرّ، وهذا الخبر مشهور عند أهل المغازي والسّير، ذكره ابن إسحاق وغيره في قصة قدوم أبى سفيان المدينة لتجديد الصلح.
الخامس: أن أم حبيبة [كانت] [ (1) ] من مهاجرات الحبشة مع زوجها عبد اللَّه بن جحش، ثم تنصر زوجها وهلك بأرض الحبشة، ثم قدمت حتى جاءت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد ما زوجه النجاشي إياها، فكانت عندك صلّى اللَّه عليه وسلم ولم تكن عند أبيها، وهذا مما لا يشك فيه أحد من أهل النقل، [ومن المعلوم أن أبا سفيان] [ (1) ] لم يسلم إلا عام الفتح، فكيف يقول: عندي أجمل العرب أزواجك إياها؟ وهل كانت عنده بعد هجرتها وإسلامها قط؟
فإن كان قال ذلك القول قبل إسلامه فهو محال، فإنّها لم تكن عنده، ولم يكن له عليها ولاية أصلا، وإن كان قاله بعد إسلامه فمحال أيضا، لأن نكاحها لم يتأخر إلى بعد الفتح، فإن قيل: بل بيقين أن يكون نكاحها بعد الفتح لأن الحديث الّذي رواه مسلم صحيح، ورجال إسناده ثقات حفاظ، وحديث نكاحها بأرض الحبشة من رواية محمد بن إسحاق مرسلا، والناس مختلفون بمسانيد ابن إسحاق، فكيف بمراسيله؟ فكيف بها إذا خالفت المسانيد الثابتة؟ وهذه طريقته في تصحيح حديث ابن عباس هذا، والجواب من وجوه:
أحدها: أن ما ذكره هذا القائل إنما يمكن عند تساوى النّقلين، فيترجح ما
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.(6/73)
ذكره، وأما مع تحقق بطلان أحد النقلين فلا يلتفت إليه فإن لا يعلم نزاع بين اثنين من أهل العلم بالسير والمغازي، وأحوال رسول اللَّه في ذلك قط، ولو قاله قائل لعلموا بطلان قوله ولم يشكوا فيه.
الثاني: أن الاعتماد في هذا [الحديث] [ (1) ] على رواية ابن إسحاق وحده لا متصلة ولا مرسلة، بل النقل المتواتر عند أهل المغازي والسير، أن أم حبيبة هاجرت مع زوجها، وأنه هلك نصرانيا بأرض الحبشة، وأن النجاشي زوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأمهرها من عنده، وقصتها في كتب المغازي والسير.
وقد ذكرها أيضا أئمة العلم، واحتجوا بها على جواز الوكالة في النكاح،
قال الشافعيّ رحمه اللَّه في رواية الربيع في حديث عقبة بن عامر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا نكح الوليان فالأول أحق،
فيه دلالة على أن الوكالة في النكاح جائزة، مع توكيل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ فزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان.
وقال في (الأم) أيضا: ولا يكون الكافر وليا لمسلمة، ولو كانت بنته، [و] [ (1) ] قد زوج ابن سعيد بن العاص النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان، وأبو سفيان حي، لأنها كانت مسلمة وابن سعيد مسلم، ولا أعلم مسلما أقرب لها منه، ولم يكن لأبى سفيان [فيها] [ (2) ] ولاية، لأن اللَّه تعالى قطع الولاية بين المسلمين والمشركين في المواريث [والعقل] [ (3) ] وغير ذلك [ (4) ] .
وابن سعيد هذا هو خالد بن سعيد بن العاص، ذكره ابن إسحاق وغيره، وذكر عروة والزهري أن عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه هو الّذي ولى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) : «عليها» .
[ (3) ] في (خ) : «القتل» ، والعقل في الشرع: الدية.
[ (4) ] (الأم) : 5/ 13، من لا يكون له الولاء من ذي القرابة، والتصويبات السابقة منه.(6/74)
نكاحها، وكلاهما ابن عم أبيها، لأن عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، وخالد بن سعيد بن أبى العاص بن أمية، وأبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية.
والمقصود أن أئمة الفقه والسير، ذكروا أن نكاحها كان بأرض الحبشة، وهذا يبطل وهم من توهم أنه تأخر إلى بعد الفتح، احترازا منه بحديث عكرمة بن عمار.
الثالث: أن عكرمة بن عمار- راوي حديث ابن عباس هذا- قد ضعفه كثير من أئمة الحديث. قال على بن المديني: سألت يحى بن سعيد عن أحاديث عكرمة بن عمار عن يحى بن أبى كثير فضعفها وقال: ليست بصحاح، وقال الإمام أحمد: ضعاف ليست بصحاح، قال عبد اللَّه: قلت له: من عكرمة أو من يحى؟ قال: لا، إلا من عكرمة، وقال البخاري:
عكرمة بن عمار يضطرب في حديث يحى بن أبى كثير، ولم يكن عنده كتاب، ومرة قال: منكر الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال المفضل الغلابي: حدثنا رجل من أهل اليمامة، وسألته عن عكرمة فقال: هو عكرمة بن عمار بن عقبة بن حبيب بن شهاب بن ذباب بن الحارث بن حمضانة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل.
وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن يحيى بن أبى كثير، وقال أيضا عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة، وكان حديثه عن إياس صالحا.
وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أحمد يضعف رواية أيوب بن عتبة، وعكرمة بن عمار عن يحى ابن أبى كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد اللَّه هل كان باليمامة أحد يقدم على عكرمة اليمامي مثل أيوب ابن عتبة، وملازم بن عمرو. وهؤلاء؟ فقال: عكرمة فوق هؤلاء أو نحو هذا، ثم قال: روى عنه شعبة أحاديث.
وقال معاوية بن صالح. عن يحيى بن معين: ثقة. وقال الغلابي عن يحى: ثبت. وقال ابن أبى خيثمة، عن ابن معين: صدوق ليس به بأس. وقال أبو حاتم، عن ابن معين: كان أميا، وكان حافظا.
وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيوب بن عتبة أحب إليك أو عكرمة بن عمار؟ فقال:(6/75)
__________
[ () ] عكرمة أحب إليّ، وأيوب ضعيف.
وقال ابن المدائني: أحاديث عكرمة عن يحى بن أبى كثير ليست بذاك، مناكير كان يحى بن سعيد يضعفها. وقال في موضع آخر: كان يحى يضعف رواية أهل اليمامة، مثل عكرمة وضربه.
وقال محمد بن عثمان بن أبى شيبة، عن على بن المديني: كان عكرمة عند أصحابنا ثقة ثبتا. وقال العجليّ ثقة، يروى عنه النضر بن محمد ألف حديث. وقال البخاري: مضطرب في حديث يحى بن أبى كثير، ولم يكن عنده كتاب. وقال الآجري، عن أبى داود: ثقة، وفي حديثه عن يحي بن أبى كثير اضطراب.
وقال النسائي: ليس به بأس، إلا في حديث يحى بن أبى كثير. وقال أبو حاتم: كان صدوقا، وربما وهم في حديثه، وربما دلّس، وفي حديثه عن يحى بن أبى كثير بعض الأغاليط.
وقال الساجي صدوق، وثّقه أحمد ويحى، إلا أن يحي بن سعيد ضعّفه في أحاديثه عن يحي بن أبي كثير، وقدم ملازما عليه. وقال عكرمة بن عمار ثقة عندهم، وروى عنه ابن مهدي: ما سمعت فيه إلا خيرا.
وقال في موضع آخر: هو أثبت من ملازم، وهو شيخ أهل اليمامة. وقال على بن محمد الطنافسي:
حدثنا وكيع عن عكرمة بن عمار، وكان ثقة. وقال صالح بن محمد الأسدي: كان يتفرد بأحاديث طول، ولم يشركه فيها أحد.
قال: وقدم البصرة، فاجتمع إليه الناس. فقال: ألا أرانى فقيها وأنا لا أشعر، وقال صالح بن محمد أيضا: إن عكرمة بن عمار صدوق، إلا أن في حديثه شيئا. روى عنه الناس.
وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري: ثقة، روى عنه الثوري، وذكره بالفضل، وكان كثير الغلط، ينفرد عن إياس بأشياء.
وقال ابن خراش: كان صدوقا، وفي حديثه نكرة. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن عدي: مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة. وقال عاصم بن على: كان مستجاب الدعوة.
قال معاوية بن صالح: مات في إمارة المهدي، وقال ابن معين وغيره: مات سنة (159) . قلت: وكذا ذكر ابن حبان في الثقات، وقال: في روايته عن يحى بن أبى كثير اضطراب، كان يحدث عن غير كتابة.
وقال أبو أحمد الحاكم: جل حديثه عن يحى وليس بالقائم. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتا.
وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح: أنا أقول: إنه ثقة، واحتج به وبقوله.
له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 12/ 234، ترجمة رقم (475) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 5/ 272- 277، ترجمة رقم (444/ 1412) . (تاريخ بغداد) : 12/ 257- 262، ترجمة رقم (6705) ، (الضعفاء الكبير) : 3/ 378- 379، ترجمة رقم (1415) ، (المغنى في(6/76)
وقال أبو حاتم: عكرمة هذا صدوق، وربما وهم، وربما دلّس، وإذا كان هذا حال عكرمة، فلعله دلّس هذا الحديث عن غير حافظ، أو غير ثقة، أو وهم هو فيه، فإنه كان أميا لا يكتب. ومسلم- رحمه اللَّه- قد رواه عن عباس بن عبد العظيم، عن النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار عن أبى زميل، عن ابن عباس هكذا معنعنا، لكن رواه الطبراني فقال: حدثنا محمد بن محمد الجدوعى، حدثنا العباس بن عبد العظيم، حدثنا النضر ابن محمد بن عكرمة بن عمار، حدثنا زميل قال: حدثني ابن عباس..
فذكره.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: في هذا الحديث وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا فيه ابن عمار راوي الحديث، قال: وإنما قلنا: إن هذا وهم لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد اللَّه بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، وثبتت أم حبيبة على دينها، فبعث إلى النجاشي يخطبها عليه فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة آلاف درهم، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل بيتها، [فطوت عنه فراش] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان، ولا يعرف أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [] أبا سفيان.
وقال أبو محمد بن حزم: هذا حديث موضوع لا شك فيه، والأنة فيه من عكرمة بن عمار، ولا يختلف اثنان من أهل المعرفة بالأخبار في أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لم يتزوج أم حبيبة رضى اللَّه عنها إلا قبل الفتح بدهر وهي بأرض
__________
[ () ] الضعفاء) : 2/ 438، ترجمة رقم (4168) ، (الضعفاء والمتروكين) : 2/ 185، ترجم رقم (2337) ، (سير أعلام النبلاء) : 7/ 134- 139، ترجمة رقم (49) ، (الجرح والتعديل) :
7/ 10، ترجمة رقم (14) ، (ثقات ابن حبان) : 5/ 233، (التاريخ الكبير للبخاريّ) : 7/ 50، ترجمة رقم (226) .(6/77)
الحبشة، ومثل هذا لا يكون خطأ أصلا، ولا يكون إلا قصدا، نعود باللَّه من البلاء.
[و] قال محمد بن طاهر المقدسي [في كتاب] (الانتصار لإمامى الأمصار) : هذا كلامه بعينه ورمته، وهو كلام رجل مجازف، هتك فيه حرمة كتاب مسلم، و [صار] إلى الغفلة عما اطلع هو عليه، وصرح أن عكرمة بن عمار وضعه، وهذا ارتكاب بطرق لم تسلكها أئمة النقل [أو علماء] الحديث، فإنا لا نعلم أحدا منهم نسب عكرمة إلى الوضع البتة، وهم أهل مائة الذين عاصروه وعرفوا أمره، وحملوا عنه واحتجوا بأحاديثه، وأخرجوها في الدواوين الصحيحة.
واعتمد عليه مسلم في غير حديث من كتابه الصحيح، [وروى] عنه الأئمة، مثل عبد الرحمن بن مهدي، وعبد اللَّه بن المبارك، وأبو عامر العقدي، وزيد بن الحباب، ففي مسلم- وهو [من] الأئمة المقتدى بهم في تزكية الرواة الذين عاهدوهم وأخذوا عنهم- ثم ذكر بسنده: قال وكيع عن عكرمة- وكان ثقة- وعن يحى بن معين: عكرمة بن عمار صدوق وليس به بأس، وفي روايته كان أمينا وكان حافظا، وعن الدار قطنى أنه قال: عكرمة بن عمار يماني ثقة، ثم قال: فكان الرجوع إلى قول الأئمة الحفاظ في تعديله أولى من قوله وحده في تجريحه.
فإن قيل: لم ينفرد عكرمة بهذا الحديث بل توبع عليه، فقال الطبراني:
حدثنا على بن سعيد الرازيّ، حدثنا عمر بن خليف بن إسحاق بن مرسال الحنفي قال: حدثني عمى إسماعيل بن مرسال عن أبى زميل الحنفي قال:
حدثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يفاتحونه، فقال: يا رسول اللَّه، ثلاث أعطينهن ... ، الحديث. فهذا إسماعيل ابن مرسال قد رواه عن أبى زميل، كما رواه عكرمة بن عمار، يبرئ(6/78)
عكرمة من عهدة التفرد به.
قيل: هذه المتابعة لا تفيد قوة، فإن هؤلاء مجاهيل لا يعرفون بنقل العلم، ولا هم ممن يحتج به، فضلا [عن] أن تقدم روايتهم على النقد المستفيض المعلوم خاصة عند أهل العلم وعامتهم، فهذه المتابعة إن لم تزده وهنا لم تزده قوة.
وقالت طائفة، منهم البيهقي والمنذري- رحمهما اللَّه-: يحتمل أن تكون مسألة أبي سفيان النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين كان سمع نفى زوج أم حبيبة بأرض الحبشة، والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه، فجمعهما الراويّ.
وعورض هذا بأن أبا سفيان إنما قدم آمنا بعد الهجرة في زمن [الهدنة] [ (1) ] قبيل الفتح، وكانت أم حبيبة إذ ذاك من نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ولم يقدم أبو سفيان قبل ذلك إلا مع الأحزاب عام الخندق، ولولا الهدنة والصلح الّذي كان بينهم وبين النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لم يقدم المدينة، فمتى [قد تزوج] [ (1) ] النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم حبيبة، وهذا وهم بيّن، ومع ذلك فإنه لا يصح أن يكون تزويجه إياها في حال كفره، إذ لا ولاية له عليها، ولا تأخّر تزوجه إياها بعد إسلامه لما تقدم.
فعلى التقريرين لا يصحّ قوله: أزوجك أم حبيبة، هذا، وظاهر الحديث يدل على أن المسائل الثلاثة وقعت منه في وقت واحد، فإنه قال: ثلاث أعطينهن ... ، الحديث.
ومعلوم أن سؤاله [تزويجها] [ (1) ] واتخاذ معاوية كاتبا، إنما يتصور بعد إسلامه، فكيف يقال: سأل بعض ذلك حال كفره، وبعضه وهو مسلم، وسياق الحديث يرده.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(6/79)
وقالت طائفة: بل يمكن حمل الحديث على محمل صحيح يخرج به عن كونه موضوعا، إذ القول بأنه في صحيح مسلم حديث موضوع مما يسهل.
قال: ووجهه أن تكون معنى [أزوّجك] [ (1) ] بها: أرضى بزواجك بها، فإنه كان على زمن منى وبدون اختياري، وإن كان نكاحك صحيحا، لكن هذا أجمل وأحسن وأكمل، لما فيه من تأليف القلوب. قال: وتكون إجابة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بنعم له، كانت تأنيسا له، ثم أخبره بعد بصحة العقد، وأنه لا يشترط رضاك، ولا ولاية لك عليها، لاختلاف دينكما حالة العقد. قال:
وهذا مما لا يمكن دفع احتماله.
وردّ هذا بأن ما ذكرتم لا يفهم من لفظ الحديث، فإن قوله: عندي أجمل العرب أزوجكها، لا يفهم منه أحد أن زوجتك التي هي في عصمة نكاحك أرضى زواجك بها، ولا يطابق هذا المعنى أن يقول له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
نعم، فإنه إنما سأل من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أمرا تكون الإجابة إليه من جهته صلّى اللَّه عليه وسلم، وأما رضاه بزواجه بها فأمر قائم بقلبه هو، فكيف يطلب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟
ولو قيل: طلب منه أن يقره على نكاحه إياها- وسمى إقراره نكاحا- لكان مع فساده أقرب إلى اللفظ، وكل هذه تأويلات لا يخفى شدة بعدها، وأنها مستنكرة [و] [ (1) ] في غاية المنافرة للفظ ولمقصود الكلام.
وقالت طائفة: كان أبو سفيان يخرج إلى المدينة كثيرا، [فجاءها وهو كافر] [ (1) ] وبعد إسلامه حين كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم آلى من نسائه شهرا واعتزلهن، فتوهم أن ذلك الإيلاء طلاق، كما توهمه عمر رضى اللَّه عنه، فظن وقوع الفرقة به، فقال هذا القول للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، متعطفا ومتعرضا لعله يراجعها، فأجابه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على تقدير إن امتد الإيلاء أوقع طلاق، فلم يقع شيء من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(6/80)
ذلك.
وردّ هذا بأن قوله: عندي أجمل العرب وأحسنه أزوجك إياها، لا يفهم منه ما ذكر من شأن الإيلاء ووقوع الفرقة به، ولا يصح أن يجاب بنعم، ولا كان أبو سفيان حاضرا وقت الإيلاء، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اعتزل في مشربة [و] [ (1) ] حلف أن لا يدخل على نسائه شهرا، وجاء عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه فاستأذن في الدخول عليه مرارا، فأذن له في الثالثة، فقال: طلقت نساءك؟ قال: لا، قال عمر: اللَّه أكبر، واشتهر عند الناس أنه لم يطلق نساءه، وأين كان أبو سفيان حينئذ؟
وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك كله قبل إسلامه بمدة تتقدم على تاريخ النكاح، كالمشترط ذلك في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمت تعطيهن: أم حبيبة أزوجكها، ومعاوية يسلم فيكون كاتبا بين يديك، وتؤمرنى بعد إسلامي فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، [حيث قد كان الناس] [ (1) ] لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يقاعدونه، فقال: يا نبي اللَّه! ثلاث أعطينهنّ ... ، لا يليق أن يصدر منه وهو بمكة قبل الهجرة أو بعد الهجرة وهو يجمع الأحزاب لحرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أو وقت قدومه المدينة، وأم حبيبة عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لا عنده، فما هذا إلا تكلف وتعسف، فكيف يقول- وهو كافر-: حتى أقاتل المشركين كما كنت أقاتل المسلمين؟ وكيف ينكر جفوة المسلمين له وهو جاهد مجد في قتالهم وحربهم وإطفاء نور اللَّه؟
وهذه قصة إسلام أبى سفيان معروفة، لا اشتراط فيها ولا تعرض لشيء من هذا، ومن أنصف علم أن هذه التأويلات كلها بعيدة، وأن الصواب في الحديث أنه غير محفوظ، بل وقع فيه تخبيط، واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(6/81)
أم المؤمنين جويرية بنت الحارث
[ (1) ] جويرية، واسمها برة بنت الحارث بن أبى ضرار بن حبيب بن الحارث بن
__________
[ (1) ] هي جريرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقية، سبيت يوم غزوة المريسيع في السنة الخامسة، وكان اسمها برّة [أخرجه مسلم في صحيحه من طريق سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس قال: كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اسمها إلى جويرية، وقد أخرجه أيضا ابن سعد في (الطبقات) ، والإمام أحمد في (المسند) .
وكانت من أجمل النساء، وكان أبوها سيدا مطاعا، حدّث عنها ابن عباس وعبيد بن السباق، وكريب، ومجاهد، وأبو أيوب يحى بن مالك الأزدي، وآخرون.
أخرج ابن هشام في (السيرة) عن ابن إسحاق، ومن طريقه الإمام أحمد في (المسند) ، حدثني محمد ابن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: لما قسّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبايا بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس- أو لابن عم له- فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملّاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فو اللَّه ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه صلّى اللَّه عليه وسلم سيرى فيها ما رأيت.
فدخلت عليه فقالت: يا رسول اللَّه، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس- أو لابن عم له- فكاتبته على نفسي- فجئتك أستعينك على كتابتى. قال: فهل لك خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول اللَّه، قال: قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبى ضرار، فقال الناس: أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق لتزويجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها. [إسناده صحيح، فقد صرح ابن إسحاق بالتحديث] .
قال ابن سعد وغيره: بنو المصطلق من خزاعة، وكان زوجها قبل أن يسلم ابن عمها مسافع بن صفوان ابن أبى الشّفر. [ذكره ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ، وابن حجر في (الإصابة) ] ، وقدم أبوها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأسلم] عن جويرية قالت: تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا بنت عشرين، وقال ابن سعد في (الطبقات) : توفيت أم المؤمنين جويرية في سنة خمسين، وقال خليفة في (طبقاته) : توفيت سنة ست وخمسين، رضي اللَّه تعالي عنها، جاء لها سبعة أحاديث: منها عند البخاري حديث، وعند مسلم حديثان.(6/82)
عائذ بن مالك بن جذيمة، وهو المصطلق بن سعيد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقاء بن عامر بن حارثة بن امرؤ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد.
كانت أولا في الجاهلية عند مسافع بن صفوان بن ذي الشفر الخزاعي،
__________
[ () ] أيوب، عن أبى قلابة، قال: أتى والد جويرية فقال: إن بنتي لا يسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أرأيت إن خيّرناها؟ فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيّرك، فلا تفضحينا، فقالت: فإنّي قد اخترته، قال: قد واللَّه فضحتنا.
[إسناده صحيح لكنه مرسل، أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] .
زكريا عن الشعبي، قال: أعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جويرية واستنكحها، وجعل صداقها عتق كل مملوك من بنى المصطلق. [إسناده صحيح، لكنه مرسل، أخرجه عبد الرزاق في (المصنف) ، وابن سعد في (الطبقات) ، وذكره الهيثمي في (المجمع) ، وقال: رواه الطبرانىّ مرسلا، ورجاله رجال الصحيح] .
همام، وغيره، عن قتادة، عن أبى أيوب الهجريّ، عن جويرية بنت الحارث، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دخل عليها يوم جمعة وهي صائمة، فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومى غدا؟ قالت:
لا، قال: فأفطرى. [أخرجه البخاري في الصوم، باب صوم يوم الجمعة، وأبو داود في الصوم، وأحمد، وابن سعد، وإسناده صحيح] .
شعبة وجماعة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، سمعت كريبا، عن ابن عباس، عن جويرية قالت: أتى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غدوة وأنا أسبّح، ثم انطلق لحاجته، ثم رجع قريبا من نصف النهار، فقال: أما زلت قاعدة؟ قلت: نعم، قال: ألا أعلمك كلمات لو عدلن بهن عدلتهن، أو وزن بهنّ وزنتهنّ- يعنى جميع ما سبّحت-: سبحان اللَّه عدد خلقه، ثلاث مرات، سبحان اللَّه زنة عرشه، ثلاث مرات، سبحان اللَّه رضا نفسه، ثلاث مرات، سبحان اللَّه مداد كلماته، ثلاث مرات.
[إسناده صحيح- أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم،
وابن سعد وأحمد] . لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 457، (طبقات ابن سعد) : 8/ 116- 120، (طبقات خليفة) : (342) ، (تاريخ خليفة) : (224) ، (المعارف) : 138، 139، (المستدرك) :
4/ 27- 30، (الاستيعاب) : 4/ 1804 ترجمة رقم (3282) ، (تاريخ الإسلام) : 2/ 593، (تهذيب التهذيب) : 12/ 436، ترجمة رقم (2754) ، (الإصابة) : 7/ 565، ترجمة رقم (11002) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : (489) ، (كنز العمال) : 13/ 706، (شذرات الذهب) : 1/ 61، (أسماء الصحابة الرواة) : (195) ، ترجمة رقم (251) . (صفة الصفوة) :
2/ 35، ترجمة رقم (132) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 90- 91، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 261- 265، ترجمة رقم (39) ، (أعلام النساء) : 1/ 227.(6/83)
فقتل يوم المريسيع كافرا، فصارت جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وابن عم له، فكاتباها على تسع أواقي ذهب. وكانت جارية حلوة، لا يكاد يراها أحد إلا ذهبت بنفسه، فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على الماء، إذا دخلت عليه تسأله في كتابتها، فقالت: يا رسول اللَّه، إني امرأة مسلمة، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه،
وأنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار، بنت سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس ابن شماس وابن عم له، فخلصني من ابن عمه بنخلات بالمدينة، وكاتبني على ما لا طاقة لي به ولا يدان، وما أكرهنى على ذلك إلا أنى رجوتك- صلّى اللَّه عليك- فأعنى في مكاتبتي، فقال: أوخير لك من ذلك؟ قالت: فما هو يا رسول اللَّه؟ قال:
أؤدّي عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول اللَّه قد فعلت، فأرسل إلى ثابت فطلبها منه، فقال: هي لك يا رسول اللَّه، بأبي وأمى، فأدى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما كان عليها من كتابتها وأعتقها وتزوجها،
وخرج الخبر إلى الناس، ورجال بنى المصطلق قد اقتسموا وملكوا ووطئ ونساؤهم، فقال المسلمون: أصهار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم! فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي، وهم مائة أهل بيت، فكانت جويرية أعظم امرأة بركة على قومها.
وقالت جويرية: رأيت قبل قدوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بثلاث ليال كأنّ القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبرها أحدا من الناس، حتى قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جعل صداقها عتق كل أسبية من بنى المصطلق، ويقال: جعل صداقها عتق أربعين من قومها، وقيل: افتدى جويرية، أبوها من ثابت بن قيس، ثم خطبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى أبيها، فأنكحها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان اسمها برة، فسماها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من بيت برة.(6/84)
وأثبت الأقوال: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قضى عنها كتابتها وأعتقها وتزوجها، وضرب عليها الحجاب، وقسم لها كما يقسم لنسائه، وفرض لها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ستة آلاف [ (1) ] ، ويقال: فرض لها اثنى عشر ألفا.
وتوفيت في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين، وصلّى عليها مروان.
__________
[ (1) ] بعد قوله: «ستة آلاف» ، عبارة مقحمة لا تتناسب مع السياق فلم نضبتها حيث لم نجد لها توجيها.(6/85)
أم المؤمنين صفية بنت حيي
[ (1) ] وصفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن
__________
[ (1) ] هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعيه، من سبط اللاوى بن نبي اللَّه إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، ثم من ذرية رسول اللَّه هارون عليه السّلام. تزوجها قبل إسلامها: سلام ابن أبى الحقيق، ثم خلف عليها كنانة بن أبى الحقيق، وكانا من شعراء اليهود، فقتل كنانة يوم خيبر عنها، وسبيت، وصارت في سهم دحية الكلبي، فقيل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم عنها، وأنها لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأخذها من دحية، وعوضه عنها سبعة أرؤس. أخرجه أحمد في (المسند) ، ومسلم في النكاح:
باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وأبو داود في الخراج والإمارة، باب ما جاء في سهم الصفي، وابن سعد في (الطبقات) ، كلهم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك.
وأخرجه مسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبي- يعنى بخيبر- فجاءه دحية الكلبي فقال: يا رسول اللَّه! أعطنى جارية من السبي فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا نبي اللَّه! أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك، قال صلّى اللَّه عليه وسلم: ادعوه بها، قال فجاء بها، فلما نظر اليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
خذ جارية من السبي غيرها، قال: وأعتقها صلّى اللَّه عليه وسلم وتزوجها. وأخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر عن طريق حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، وفيه: وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
ثم إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما طهرت، تزوجها وجعل عتقها صداقها. [أخرجه البخاري من حديث أنس في المغازي، باب غزوة خيبر، وفي النكاح، باب من جعل عتق الأمة صداقها، وفي النكاح، باب الوليمة ولو بشاة، ومسلم في النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وأخرجه أيضا: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعبد الرزاق] .
حدث عنها على بن الحسين، وإسحاق بن عبد اللَّه بن الحارث، وكنانة مولاها، وآخرون وكانت رضى اللَّه عنها شريفة عاقلة، ذات حسب، وجمال، ودين.
قال أبو عمر بن عبد البرّ في (الاستيعاب) : روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحبّ السبت، وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها، فقالت: أما السبت، فلم أحبه منذ أبدلني اللَّه به الجمعة، وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت الجارية: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: الشيطان، قالت: فاذهبي فأنت حرة.
وأخرج الترمذي في (الجامع) ، من طريق هاشم بن سعيد الكوفي، حدثنا كنانة: حدثتنا صفية بنت حيي، قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام، فذكرت له ذلك،(6/86)
الخزرج بن أبى حبيب بن النضير بن النحام بن ينحوم الإسرائيلي، من سبط هارون بن عمران عليه السّلام، أمها مرة بنت سموأل، كانت عند سلام بن
__________
[ () ] فقال: ألا قلت: وكيف تكونان خيرا منى وزوجي محمد، وأبى هارون، وعمى موسى؟ وكان بلغها أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منها، نحن أزواجه، وبنات عمه. [أخرجه الترمذي في المناقب، والحاكم،
وإسناده ضعيف، لضعف هاشم بن سعيد الكوفي، وباقي رجاله ثقات، لكن يشهد له
حديث أنس عند أحمد، والترمذي من طريق عبد الرزاق، عن معمر عن ثابت، عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت، بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهي تبكى، فقال:
ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إنك لابنة نبي، وان عمك لنبي، وانك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقى اللَّه يا حفصة.
وإسناده صحيح] .
قال ثابت البناني: حدثتني سمية- أو شميسة- عن صفية بنت حيي: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حج بنسائه، فيرك بصفية جملها، فبكت، وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما أخبروه فجعل يمسح دموعها بيده، وهي تبكى، وهو ينهاها،
فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالناس، فلما كان عند الرواح، قال لزينب بنت جحش: أفقرى أختك جملا- وكانت من أكثرهن ظهرا- فقالت: أنا أفقر يهوديتك! فغضب فلم يكلمها، حتى رجع إلى المدينة، ومحرم وصفر، فلم يأتها، ولم يقسم لها، ويئست منه.
فلما كان ربيع الأول دخل عليها، فلما رأته قالت: يا رسول اللَّه، ما أصنع؟ قال: وكانت لها جارية تخبؤها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: هي لك- قال: فمشى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى سريرها، وكان قد رفع، فوضعه بيده، ورضى عن أهله صلّى اللَّه عليه وسلم [أخرجه أحمد في (المسند) ، وابن سعد في (الطبقات) ،
وقوله: أفقرى أختك،
أي أعيرها إياها للركوب، ومنه حديث جابر، أنه اشترى منه بعيرا، وأفقره ظهره إلى المدينة، مأخوذ من ركوب فقار الظهر، وهو خرزاته، والواحدة فقارة] .
وكانت صفية رضى اللَّه عنها ذات حلم ووقار، قيل: توفيت سنة ست وثلاثين، وقيل: توفيت سنة خمسين، [والثاني هو الصحيح، لأن على بن الحسين قد سمع منها حديث زيارتها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في اعتكافه في المسجد، وهو مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وعلى بن الحسين إنما ولد بعد سنة أربعين أو نحوها، ذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ] . وقبرها بالبقيع. لها ترجمة في:
(مسند أحمد) : 7/ 473- 475، (طبقات ابن سعد) : 8/ 120- 129، (تاريخ خليفة) : 82، 83، 86، (المعارف) : 138، 215، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 231- 238، ترجمة رقم (26) ، (المستدرك) : 4/، (الاستيعاب) : 4/ 1871، ترجمة رقم () ، (جامع الأصول) : 9/ 143، (تهذيب التهذيب) : 12/ 429، ترجمة رقم () ، (الإصابة) : / ترجمة رقم () ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 492، (كنز العمال) : 13/ 637، 704، (المواهب اللدنية) : 2/، (صفة الصفوة) : 2/، ترجمة رقم () ، (شذرات الذهب) : 1/ 12 ورد لها من الحديث عشرة أحاديث، منها واحد متفق عليه [أخرجه البخاري في الاعتكاف.(6/87)
مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبى الحقيق اليهودي، فقتل يوم خيبر، وكانت صفىّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مغانم خيبر، ويقال: بل وقعت في سهمه يومئذ هي وأختها، فتزوجها ووهب أختها لدحية بن خليفة، ويقال بل اشتراها بسبعة أرؤس.
وقيل: لما جمع سبى خيبر جاء دحية فقال: يا رسول اللَّه! أعطنى جارية من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية، فقيل: يا رسول اللَّه! إنها سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك، فقال لدحية: خذ جارية غيرها من السبي.
والثابت أنها صارت في سهمه، فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وحجبها وأولم عليها بتمر وسويق وقسم لها، فكانت إحدى أمهات المؤمنين، وكانت حليمة عاقلة فاضلة، توفيت في رمضان سنة خمس.
وقال محمد بن عائد. - في (كتاب المغازي) -: حدثنا الوليد عن ابن لهيعة، عن أبى الأسود عن عروة قال: وقد كان قال قبل وفاته: مروا جويرية ابنة الحارث بالحجاب وصفية بنت حيي، وردوا وفود العرب وجهزوهم.
وخرج الطبراني من حديث إسماعيل بن عياش، عن الحجاح بن أرضأة، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم استبرأ صفية بحيضة.(6/88)
أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث
[ (1) ] وميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد اللَّه بن
__________
[ (1) ] هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد اللَّه بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالية، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عباس.
تزوجها أولا مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإسلام، ففارقها، وتزوجها أبو رهم بن عبد العزى، فمات، فتزوج بها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في وقت فراغه من عمرة القضاء، سنة سبع في ذي القعدة، وبنى بها بسرف، وكانت من سادات النساء.
روت عدة أحاديث: سبعة في (الصحيحين) ، وانفرد لها البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، وجميع ما روت ثلاثة عشر حديثا.
حدّث عنها ابن عباس، وابن أختها الآخر: عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وعبيد ابن السّباق، وابن أختها الثالث: عبد الرحمن بن الصائب الهلالي، وابن أختها الرابع: يزيد بن الأصم، وكريب مولى بن عباس، ومولاهما: سليمان بن يسار، وأخوه عطاء بن يسار وآخرون.
قال ابن سعد في (الطبقات) : أخبرنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن محمد بن موسى، عن الفضيل بن أبى عبد اللَّه، عن على بن عبد اللَّه بن عباس، قال: لما أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الخروج إلى مكة عام القضية [أي عام عمرة القضية أو القضاء، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وقد دخل مكة، ثم خرج بعد إكمال عمرته] بعث أوس بن خوليّ، وأبا رافع إلى العباس، فزوجه بميمونة، فأضلا بعيريهما، فأقاما أياما ببطن رابغ، حتى أدركهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بقديد، وقد ضمّا بعيريهما، فسارا معه حتى قدم مكة، فأرسل إلى العباس، فذكر له ذلك، وجعلت ميمونة أمرها إلى [العباس] ، فخطبها إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فزوجها إياه.
قال عبد الكريم الجزري، عن ميمون بن مهران: دخلت على صفية بنت شيبة عجوز كبيرة، فسألتها: أتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ميمونة وهو محرّم؟ قالت: لا، واللَّه لقد تزوجها وإنهما لحلالان [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) من طريق عبد اللَّه بن جعفر الرقى، ورجاله ثقات] .
أيوب، عن يزيد بن الأصم، قال: خطبها صلّى اللَّه عليه وسلم وهو حلال، وبنى بها وهو حلال [أخرجه مسلم في النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته، وابن ماجة عن يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس] .
جرير بن حازم، عن أبى فزارة، عن يزيد بن الأصم، قال: دفنّا ميمونة بسرف، في الظلة التي(6/89)
هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قبيس بن غيلان بن مضر، أمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة، من حمير، وقيل: من كنانة، وهي أخت أم الفضل لبابة الكبرى، امرأة العباس، ولبابة الصغرى امرأة الوليد بن المغيرة المخزومي أم خالد بن الوليد، وأخت عصماء امرأة أبىّ بن خلف، وعزة امرأة زياد بن عبد اللَّه الهلالي، وأخت أسماء بنت عميس، وسلمى بنت عميس، وسلامة بنت عميس، وزينب بنت خزيمة.
وكانت عند أبى سبرة بن أبى رهم، وقيل: بل كانت عند أبى رهم عبد العزى بن قيس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن
__________
[ () ] بنى بها فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد كانت حلقت في الحج، نزلت في قبرها أنا وابن عباس. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) والحاكم في (المستدرك) ، وصححه الذهبي، وأقره في (التلخيص) ] .
وعن عطاء: توفيت ميمونة بسرف، فخرجت مع ابن عباس إليها، فقال: إذا رفعتم نعشها فلا تزلزلوها، ولا تزعزعوها. وقيل: توفيت بمكة، فحملت على الأعناق بأمر ابن عباس إلى سرف، وقال: أرفقوا بها، فإنّها أمكم. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) .
وصححه الذهبي في (التلخيص) ] . وقال خليفة في (طبقاته) : توفيت سنة إحدى وخمسين.
لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 463- 473، (طبقات ابن سعد) : 8/ 132- 140، (طبقات خليفة) ، 338، (تاريخ خليفة) : 86، 218، (المعارف) : 137- 344، (المستدرك) : 4/ 33، (الاستيعاب) : 4/ 1914، (تهذيب التهذيب) : 12/ 480، ترجمة رقم (2898) ، (الإصابة) : 8/ 126، ترجمة رقم (11779) ، (خلاصة تذهيب الكمال) :
496، (كنز العمال) : 13/ 708، (شذرات الذهب) : 1/ 12، 58، (المواهب اللدنية) :
2/ 89- 90، (أسماء الصحابة الرواة) : 68، ترجمة رقم (44) ، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 238- 245، ترجمة رقم (27) .
وقال أبو عبد اللَّه الحاكم: ومما يتعجب من قضاء اللَّه تعالى وقدره: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بنى بميمونة بنت الحارث بسرف، وردها إلى المدينة عند منصرفه من عمرة القضاء، وبقيت عنده إلى أن خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لفتح مكة، وقد أخرجها معه إلى أن فتح الطائف، وانصرف راجعا إلى المدينة، فماتت ميمونة بسرف في الموضع الّذي بنى بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عند تزويجها. (المستدرك) :
4/ 33، كتاب معرفة الصحابة باب ذكر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضى اللَّه عنها، حديث رقم (6796/ 2394) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم، ثم قال: وعن ابن شهاب قال: وقدر اللَّه أن يكون موتها بسرف، وقبرت بها.(6/90)
لؤيّ، وقيل: عند حويطب بن عبد العزى، وقيل: عند أبى رهم بن عبد العزى، وقيل: عند فروة بن عبد العزى بن أسد بن غنم بن دودان، وهو خطأ.
وقيل: هي التي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، وفيها نزلت: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ [ (1) ] الآية، والثابت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [أرسل] [ (2) ] أبا رافع مولاه، ورجلا من الأنصار يقال له: أوس بن خولى إلى مكة فخطباها عليه، فلما قدم مكة في عمرة القضاء تزوج بها، زوّجه إياها العباس على عشر أواقي ونشّ، وقيل: أربعمائة درهم، ويقال:
تزوجها على ما تركت زينب بنت خزيمة، وخرج من مكة، وخلّف أبا رافع ليحملها، فوافاه بها بسرف، فبنى بها.
وقيل: بل بعث إليها بجعفر بن أبى طالب فخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس فزوّجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، وقيل: بل لقي العباس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية فقال له: يا رسول اللَّه، إن ميمونة بنت الحارث تأيمت، هل لك أن تتزوجها؟ فتزوجها وهو محرم، كما خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عباس، وقيل: بل كان حلالّا، كما رواه مسلم عن ميمونة، والترمذي عن أبى رافع وكان اسمها برة، فسماها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ميمونة، وبنى بها بسرف بعد ما خرج من مكة، وتوفيت بسرف في الموضع الّذي ابنتي بها فيه رسول اللَّه، وذلك سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ست وستين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وصلّى عليها عبد اللَّه بن عباس، ودخل قبرها هو ويزيد بن الأصم، وعبد اللَّه بن شداد بن الهادي، وهم بنو أخواتها، وعبيد اللَّه الخولانيّ وكان يتيما في حجرها، وهي آخر من تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقيل: ماتت بمكة فحملت إلى سرف [ (3) ] فدفنت هناك.
__________
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] موضع على ستة أميال من مكة (معجم البلدان) : 3/ 329، موضع رقم (6378) .(6/91)
فصل [جامع لأزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم]
فهؤلاء اثنتي عشرة امرأة، واحدة وهبت نفسها، وماتت اثنتان في حياته صلّى اللَّه عليه وسلم، وتوفى عن تسع هن: سودة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة، وجويرية، وصفية، وميمونة، رضى اللَّه عنهن.
وقد جاء في رواية في الصحيح أنه مات عن إحدى عشرة، والأول أصح، وقال قتادة بن دعامة: أنه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة، فدخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، ومات عن تسع [ (1) ] .
وفي رواية: تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمس عشرة امرأة، ست منهن من قريش وواحدة من حلفاء قريش، وسبعة من نساء العرب، وواحدة من بنى إسرائيل، ولم يتزوج في الجاهلية غير واحدة [ (2) ] .
وعن الزهري وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل قالا: تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثنتى عشرة امرأة عربيّة محصنات، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وقد ثبت عندنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج ثماني عشرة امرأة، سبع [منهن من] قريش، وواحدة من حلفاء قريش، وتسع من سائر قبائل العرب، وواحدة من بنى إسرائيل.
فأول من تزوج خديجة، ثم سودة بمكة، ثم عائشة قبل الهجرة بسنتين، ثم تزوج بالمدينة بعد بدر أم سلمة، ثم حفصة، فهؤلاء الخمسة من قريش، ثم تزوج في سنة ثلاث زينب بنت جحش، ثم في سنة
__________
[ (1) ] ، (2) (دلائل البيهقي) : 7/ 288- 289، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 254.(6/92)
خمس جويرية، ثم تزوج في سنة ست أم حبيبة بنت أبى سفيان، ثم في سنة سبع صفية بنت حيي، ثم تزوج ميمونة، ثم فاطمة بنت شريح، ثم زينب بنت خزيمة، ثم هند بنت يزيد، ثم أسماء بنت النعمان، ثم أخت الأشعث بن قيس، ثم أسماء السّلمية [ (1) ] .
وقال الماوردي: تزوج ثلاثا وعشرين، ستّ متن قبله، وتسع مات قبلهن، وثمان فارقهن، فاللاتى متن قبله: خديجة، [وزينب أم المساكين] ، وسناء بنت الصلت، وشراف، وخولة بنت الهذيل، وخولة بنت حكيم السلمية ماتت قبل أن يدخل بها، وقيل: هي التي وهبت نفسها.
وروى الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسي بنحو قول قتادة عن أنس في كتابه (المختار) : وأرجأ من نسائه: سودة، وصفية، وجويرية، وأم حبيبة، وميمونة، والإرجاء أن يرجئ من يشاء منهن متى شاء، ويتركها إذا شاء، وكان ذلك من أمر اللَّه تعالى ورضاه.
وأوى من نسائه: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة. والإيواء:
أن يقسم لهن ويسوى بينهن. وعن الشعبي في قول اللَّه تعالى: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ، قال: هنّ نساء وهبن أنفسهن للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم لم يدخل بهن، ولم يتزوجهن أحد بعده [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 288- 289، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 254.
[ (2) ] قال الإمام محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسى الغرناطي: روى أن أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلم لمّا تغايرن وابتغين زيادة النفقة فهجرهن شهرا، نزل التغيير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 28- 29] ، أشفقن أن يطلقهن، فقلن:
يا رسول اللَّه، أفرض لنا من نفسك ومالك ما شئت، والظاهر أن الضمير في (منهن) عائد على أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلم. والإرجاء: الإيواء.
قال ابن عباس والحسن: في طلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك، وإمساك من تشاء. وقالت(6/93)
وخرج الإمام أحمد من حديث عمار، عن ثابت عن أنس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أرسل أم سليم تنظر إلى جارية فقال: شمّى عوارضها وانظري إلى عرقوبها [ (1) ] ،
وأما النساء اللاتي لم يدخل بهن فهن:
الكلبية، تزوجها
__________
[ () ] فرقة: في تزوج من تشاء من الواهبات، وتأخير من تشاء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك:
وتقرر من شئت في القسمة لها، وتؤخر عنك من شئت، وتقلل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أن هذا حكم اللَّه وقضاؤه، زالت الإحنة والغيرة عنهن، ورضين وقرت أعينهن، وهذا مناسب لما روى في سبب هذه الآية المتقدم ذكره.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ: أي ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات، فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في ردها أو إيوائها إليك. ويجوز أن يكون ذلك توكيدا لما قبله، أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء، لا جناح عليك. كما تقول: من لقيك ممن لم يلقك، جميعهم لك شاكر، تريد من لقيك ومن لم يلقك، وفي هذا الوجه حذف المعطوف، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب، والراجح القول الأول.
وقال الحسن: المعنى: من مات من نسائك اللواتي عندك أو خلّيت سبيلها، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضا من اللاتي أحللت لك، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك.
وقال الزمخشريّ: معنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج من شئت.
وعن الحسن: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع، أو ترك وقسم، أو لم يقسم، وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلى المعزولة لا يتبعها أو يتبعها.
وروى أنه صلّى اللَّه عليه وسلم أرجأ منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن أوى إليه: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، أرجأ خمسا وأوى أربعا.
وروى أنه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يسوى بينهن مع ما أطلق له وخيّر فيه إلا سودة، فإنّها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن، وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند اللَّه، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك. (البحر المحيط) :
8/ 494- 496.
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 110، حديث رقم (13012) .(6/94)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما دنا [منها] قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال: «عذت بعظيم، الحقي بأهلك» [ (1) ] .
وقيل: دخل بها، ولكنه لمّا خير نساءه اختارت قومها ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر، وتدخل على أمهات المؤمنين فيتصدقن عليها وتقول: أن الشقية. وماتت عند أهلها سنة ستين، وكان تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بها في سنة ثمان منصرفه من الجعرانة، وقيل: إنها ابنة الضحاك بن سفيان الكلابي، واسمها فاطمة، وقيل إن الضحاك الكلابي عرض ابنته على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال من صفتها كذا وكفاك من صحة بدنها أنها لم تمرض قط ولم تصدع، فقال: لا حاجة لنا فيها، هذه تأتينا بخطاياها [ (2) ] .
وقال الكلبي: التي قال أبوها أنها لم تصدع قط وعرضها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لا حاجة لنا بها: سلميّة، وأما الكلبية فاختارت قومها، فذهلت وذهب عقلها، فكانت تقول: أنا الشقية، خدعت [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 287، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 257- 259.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 7/ 288.
[ (3) ] وأخرج البخاري في كتاب الطلاق، باب (3) من طلّق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟
حديث رقم (5254) : حدثنا الحميدي، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعيّ قال: سألت الزهري:
أي أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم استعاذت منه؟ قال: أخبرنى عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك. قال أبو عبد اللَّه: رواه حجاج بن أبى منيع عن جده، عن الزهري أن عروة أخبره أن عائشة قالت ...
وحديث رقم (5255) :
حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن غسيل، عن حمزة بن أبى أسيد، عن أبى أسيد رضى اللَّه عنه قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط، حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اجلسوا هاهنا، ودخل، وقد أتى بالجونية، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحبيل، ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: هبي نفسك لي، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ باللَّه منك. فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد، اكسها رازقين، وألحقها بأهلها.(6/95)
__________
[ () ] وحديث رقم (5256، 5257) : وقال الحسين بن الوليد النيسابورىّ عن عبد الرحمن، عن عباس بن سهل، عن أبيه وأبى أسيد قالا: تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أميمة بنت شراحبيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقين.
وأخرج في كتاب الأشربة، باب (30) الشرب من قدح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وآنيته، حديث رقم (5637) :
حدثنا سعيد بن أبى مريم، حدثنا أبو غسان قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد رضى اللَّه عنه قال: ذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت فنزلت في أجم بنى ساعدة، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قالت: أعوذ باللَّه منك! فقال: قد أعذتك منى، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك.
فأقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ. حتى جلس في سقيفة بنى ساعدة هو وأصحابه......
قال الحافظ في (الفتح) : ووقع في كتاب (الصحابة) لأبى نعيم، من طريق عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن عمرة بنت الجون تعوذت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين أدخلت عليه، قال: لقد عذت بمعاذ ...
الحديث، وعبيد متروك. والصحيح أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شراحبيل، كما في حديث أبى أسيد، وقال مرة: أميمة بنت شراحبيل، فنسبت لجدها، وقيل: اسمها أسماء كما سأبينه في حديث أبى أسيد مع شرحه مستوفى.
وروى ابن سعد عن الواقدي، عن ابن أخى الزهري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:
تزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الكلابية ... فذكر مثل حديث الباب. وقوله: الكلابية غلط، وإنما هي الكندية، فكأنما الكلمة تصحفت. نعم، للكلابية قصة أخرى، ذكرها ابن سعد أيضا بهذا السند إلى الزهري وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاستعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول:
أنا الشقية، قال: وتوفيت سنة ستين.
ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها، ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية. ومن طريق سعيد بن أبى هند أنها استعاذت منه فأعاذها، ومن طريق الكلبي اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو.
وحكى ابن سعد أيضا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل: بنت يزيد بن الجون. وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة اختلف في اسمها، والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية، وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها.
قلت: وهو الّذي يغلب عليه الظن، لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة، فيبعد أن تخدع أخرى بمثل ما خدعت به، بعد شيوع الخبر بذلك.
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج الجونية، واختلفوا في سبب فراقه، فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت. فطلقها، وقيل: كان بها وضح كالعامرية. قال:(6/96)
وقال الواقدي: تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم امرأة من بنى عامر، فكان إذا خرج اطلعت إلى أهل المسجد، فأخبرته أزواجه بذلك، فقال إنكن تبغين عليها، فقلن: نحن تركنها وهي تطلع، فلما رآها فارقها.
[أم شريك]
وأم شريك الأنصارية،
قال ابن إسحاق: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا زهير بن العلاء، حدثنا سعيد بن أبى عروة، عن قتادة قال: وتزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم شريك الأنصارية من بنى النجار، قال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار، ثم قال: إني أكره غيرتهن فلم يدخل بها. ذكره الحاكم [ (1) ] .
[العالية]
والعالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف بن عبد بن أبى بكر بن كلاب، تزوج بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فمكثت عنده ما شاء اللَّه ثم طلقها، فقيل:
بسبب التطلع، فتزوجها ابن عم لها ودخل بها، وذلك قبل أن يحرم نكاحهن على الناس، وولدت له [ (2) ] .
وذكر الحاكم أنها التي بكشحها بياض، وأنها غير أسماء بنت النعمان ابن يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب، تزوج بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فبلغه أن
__________
[ () ] وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال: قد عذت بمعاذ وقد أعاذك اللَّه منى، فطلقها.
قال: وهذا باطل، إنما قال له هذا امرأة من بنى العنبر، وكانت جميلة، فخاف نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها: إنه يعجبه أن يقال له: نعوذ باللَّه منك، ففعلت، فطلقها. كذا قال، وما أدرى لم حكم ببطلان ذلك مع كثيرة الروايات الواردة فيه، وثبوته في حديث عائشة رضى اللَّه تعالى عنها في (صحيح البخاري) . (فتح الباري) : 9/ 446- 447.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 556، حديث رقم (15631) ، وزاد في آخره: قال:
وقال غير أبى أحمد: امرأة من بنى الجون يقال لها أمينة.
[ (1) ] (المستدرك) : 4/ 37، كتاب معرفة الصحابة، ذكر أم شريك الأنصارية من بنى النجار، حديث رقم (6810/ 2408) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 255- 256) .
[ (2) ] (سير أعلام النبلاء) : 2/ 254، (المستدرك) : 4/ 36- 37 حديث رقم (6807/ 2405) .(6/97)
بها بياضا، أو رأى بكشحها بياضا [ (1) ] ، فطلقها، قال ابن الكلبي: وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هند بنت يزيد [] القرطاء، من ولد أبى بكر بن كلاب، وبعث إليها أبا أيوب الأنصاري فلما اهتداها رأى بها بياضا فطلقها.
[الكلابية]
وقال الحاكم: والكلابية قد اختلف في اسمها، فقال بعضهم: هي فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي، وقال بعضهم: هي عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب بن عامر، وقال بعضهم: هي عالية بنت كيسان بن عمرو بن عوف بن كعب بن عبيد بن كلاب، وقال بعضهم:
هي سبا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن عبيد بن أبى بكر بن كلاب [ (2) ] .
وقال بعضهم: لم يكن إلا كلابية واحدة، وإنما اختلف في اسمها، وقال بعضهم: بل كن جمعا [ولكن] [ (3) ] لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها. وذكر [سعيد] [ (4) ] أن [أسماء بنت النعمان] [ (3) ] لما أدخلت عليه لم تكن باليسيرة لما أدخلت، فانتظر بها اليسر، ومات إبراهيم ابن رسول اللَّه على بقية ذلك، فقالت: لو كان نبيا ما مات أحب الناس إليه
__________
[ (1) ]
وزاد الحاكم: فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: البسى ثيابك وألحقى بأهلك،
وأمر لها بالصداق، وفيه زيد بن كعب بن عجرة قال عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) : قال ابن معين: زيد ليس بثقة.
[ (2) ] قال الحاكم: هذه ليست بالكلابية إنما هي أسماء بنت النعمان، (الاستيعاب) 4/ 1881، ترجمة رقم (4028) الغفارية، (المستدرك) : 4/ 37، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر العالية حديث رقم (6807/ 2405) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (4) ] هو ابن أبى عروبة عن قتادة. (المرجع السابق) ، حديث رقم (6809/ 2407) ، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وفيه زهير بن العلاء، روى عن أبى حاتم الرازيّ أنه قال: أحاديثه موضوعة كما في (الميزان) .(6/98)
وأعز عليه، فطلقها وأوجب لها المهر، وحرمت على الأزواج [ (1) ] .
[أسماء بنت عمرو]
وأسماء بنت عمرو بن النعمان بن الحارث بن شراحبيل، كذا قال هشام ابن محمد الكلبي في كتاب (الجامع) ، وعند ابن عبد البر أنها أسماء بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحبيل بن النعمان [بن كندة] ، ولم يصححه، بل ذكره بصيغة التمريض، وهي من كندة، ثم من معاوية وهو الجون بن آكل المرار، تزوج بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت من أجمل النساء، ومهرها اثنتي عشرة أوقية ونشا،
فقال لها بعض نسائه: أنت بنت ملك، وإن استعذت باللَّه منه حظيت عنده.
فلما دخلت عليه دنا منها فقالت: أعوذ باللَّه منك، فقال: عذت بمعاذ عذت، وقال: ارجعي إلى أهلك،
فقيل: يا رسول اللَّه، إنها خدعت وهي حدثه، فلم يراجعها، فتزوجها المهاجر بن أمية المخزومي، ثم قيس بن هبيرة المرادي، فأراد عمر رضى اللَّه عنه معاقبتهما فقيل له: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يدخل بها، ولم يضرب عليها الحجاب، ولم تسمّ في أمهات المؤمنين، فأمسك [ (2) ] .
[قتيلة بنت قيس]
قال الكلبي: وقال الشوقى بن القطامي: دعاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت:
بل ائتني أنت، فطلقها، وذكره الحاكم عن قتادة،
وقال الكلبي: لما فعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بهذه الكندية ما فعل، كان الأشعث بن قيس الكندي حاضرا، فقال: يا رسول اللَّه، ألا أزوجك قتيلة بنت قيس أختى؟ قال:
__________
[ (1) ] (تاريخ الإسلام) : 2/ 593، فصل عدة أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 40، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6816/ 2414) ، قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : سنده واه، ويروى عن زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا.(6/99)
نعم، فتوفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن يخرج من اليمن،
فتزوجها عكرمة بن أبى جهل [ (1) ] وذكر الحاكم عن أبى عبيدة معمر بن المثنى أنه عليه السّلام تزوجها حين قدم عليه وفد كندة، وتوفى ولم يقدم عليه. وزعم بعضهم أنه تزوجها قبل وفاته بشهر، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه، وزعم آخرون أنه أوصى أن تخير فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل، وزعم بعضهم أنها ارتدت [ (2) ] .
[الجونيّة]
وقال الواقدي: قدم النعمان الكندي وكان منزله، بنجد فأسلم، وقال:
يا رسول اللَّه! ألا أزوجك أجمل أيم في العرب؟ فتزوجها على اثنتي عشرة أوقية ونشّ- وذلك خمسمائة درهم- ووجه أبا أسيد الساعدي فقدم بها، وأنزلها في أطعم بنى ساعدة، وكانت جميلة فائقة الجمال.
فاندسّت إليها امرأة من نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: أنت كنت تريدين الحظوة عنده فاستعيذى منه، فإن ذلك يعجبه، فلما جاءها أقعى، ثم أهوى إليها ليقبلها- وكذلك كان يصنع- فقالت: أعوذ باللَّه منك،
__________
[ (1) ] قال أبو عمرو بن عبد البر: الاختلاف في الكندية كثيرا جدا، منهم من يقول: هي أسماء بنت النعمان، ومنهم من يقول: هي أميمة بنت النعمان، ومنهم من يقول: أمامة بنت النعمان، واختلافهم في سبب فراقها على ما رأيت، والاضطراب فيها وفي صواحبها اللواتي لم يجتمع عليهنّ من أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلم اضطراب عظيم على ما ذكرنا كثيرا منه في صدر هذا الكتاب، والحمد للَّه.
(الاستيعاب) : 4/ 1787 تعليقا على ترجمة أسماء بنت النعمان بن الجون بن شراحبيل رقم (3232) ، (عيون الأثر) : 2/ 311.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 40، كتاب معرفة الصحابة، ذكر قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، حديث رقم (6817/ 2415) ، قال عنه الذهبي في التلخيص: قتيلة أخت الأشعث بن قيس، قال أبو عبيدة: تزوجها نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ذكر الحديث، (المواهب اللدنية) : 2/ 97، فصل:
الثامنة، قتيلة.(6/100)
فانحرف عنها وقال: عذت بمعاذ، وخرج فأمر بردها.
فردها أبو أسيد إلى قومها فقالوا: إنك لغير مباركة، جعلتينا في العرب شهرة، فأقامت في بيتها لا يطمع في بيتها طامع، ولا يراها إلا ذو محرم حتى توفيت في خلافة عثمان عند أهلها بنجد، قال: وكان تزويجه هذه الجونية في ربيع الأول سنة تسع، ويقال: إن عائشة وحفصة رضى اللَّه عنهما توليا مشطها وإصلاح أمرها، فأمراها أن تستعيذ منه إذا دنا منها [ (1) ] .
وعن الزهري: لم يتزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كندية إلا أخت الجون، ثم فارقها، وعن عروة بن الزبير: أنه ما تزوج أخت الأشعث قط، ولا تزوج كندية إلا أخت بنى الجون. وقال محمد بن حبيب: الجونية امرأة من كندة، وليست بأسماء ابنة النعمان، كان أبو أسيد قدم بها عليه، [فتولت] عائشة وحفصة مشطها وإصلاح أمرها، فقالت إحداهما لها:
إن رسول اللَّه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ باللَّه منك، فلما دخل عليها وأرخى الستر، ثم مد يده، قالت: أعوذ باللَّه منك، فوضع كمه على وجهه وقال: عذت بمعاذ ثلاث مرات، ثم خرج فأمر أبا أسيد أن يلحقها بأهلها، ويمتعها برازقتين ثياب كتان، فذكروا أنها ماتت كمدا [ (2) ] .
[مليكة بنت كعب]
ومليكة بنت كعب الليثي من كنانة، تزوجها في رمضان سنة ثمان، فقالت لها عائشة رضى اللَّه عنها: أما تستحين أن تنكحى قاتل
__________
[ (1) ]
فقالت حفصة لعائشة: أخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلتا، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ باللَّه منك، فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ باللَّه منك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة على وجهه فاستتر به وقال: «عذت بمعاذ» ثلاث مرات. (المستدرك) : 4/ 40، حديث رقم (6816/ 2415) .
[ (2) ] المرجع السابق.(6/101)
أبيك [ (1) ] ؟ فقالت: كيف أصنع؟ قالت: استعيذى باللَّه منه، فاستعاذت فطلقها، وقتل أبوها [ (1) ] يوم فتح مكة، وقيل: هذه الكندية هي عمرة، وقيل: دخل بمليكة الكنانية فماتت عنده، وأنكر الزهري وغيره أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج كنانية قط [ (2) ] .
[أم هانئ]
وذكر ابن الكلبي: وخطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أم هانئ بنت أبى طالب فقالت: ولقد كنت أحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟ ولكنى امرأة ذات أولاد صغار وأنا أخاف أن يؤذوك، فأمسك عنها وقال: خير نساء ركبن المطايا نساء قريش: أحناهن على ولد في صغر، وأرعاهن على زوج في ذات يد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] قتله خالد بن الوليد بالخندق (طبقات ابن سعد) : 8/ 148.
[ (2) ] قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: مما يضعف هذا الحديث ذكر عائشة أنها قالت لها: ألا تستحيين ... إلخ، وعائشة لم تكن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك السفر. (طبقات ابن سعد) :
8/ 148، (تاريخ الإسلام) : 2/ 596.
قال القسطلاني: الخامسة [من الزوجات] : مليكة بنت كعب الليثية، قال بعضهم: هي التي استعاذت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقيل: دخل بها، وماتت عنده، والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا. (المواهب اللدنية) : 2/ 96، في رواية الواقدي: فطلقها، فجاء قومها فقالوا: يا رسول اللَّه! إنها صغيرة، ولا رأى لها، وإنها خدعت فارتجعها، فأبى عليهم، فاستأذنوه أن يزوجوها، فأذن لهم. (تاريخ الإسلام) : 2/ 596.
[ (3) ] هي أم هانئ فاختة بنت أبى طالب، أخت عليّ، خطبها صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: إني امرأة مصبية، واعتذرت إليه، فعذرها. (المواهب اللدنية) : 2/ 99. وقال الحافظ الذهبي: وقد خطب صلّى اللَّه عليه وسلم أم هانئ بنت أبى طالب: وضباعة بنت عامر، وصفية بنت بشامة، ولم يقض له صلّى اللَّه عليه وسلم أن يتزوج بهن، واللَّه تعالى.
أعلم. (تاريخ الإسلام) : 2/ 599.
وهذا الحديث رواه البخاري في النكاح، باب إلى من ينكح وأي النساء خير، وفي النفقات، باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة،
ورواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل نساء قريش، ولفظه عن أبى هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده.
ويقول أبو هريرة على إثر ذلك:
ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط، ولو علمت أنها ركبت بعيرا ما فضّلت عليها أحدا.(6/102)
__________
[ () ]
وفي رواية: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خطب أم هاني بنت أبى طالب، فقالت: يا رسول اللَّه! إني قد كبرت ولى عيال، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل، وفي رواية: خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش.. (جامع الأصول) : 9/ 210- 211.
قول أبى هريرة: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط، فكأنه أراد إخراج مريم من هذا التفضيل، لأنها لم تركب بعيرا قط، فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها، ولا يشك لمريم فضلا، وأنها أفضل من جميع نساء قريش، إن ثبت أنها نبية، أو من أكثرهن إن لم تكن نبية.
ويحتمل أن لا يحتاج في إخراج مريم من هذا التفضيل إلى الاستنباط من قوله: ركبن الإبل، لأن تفضيل الجملة لا يستلزم ثبوت كل فرد منها، لأن قوله: ركبن الإبل، إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم ركوب الإبل، وقد عرف أن العرب خير من غيرهم مطلقا في الجملة فيستفاد منه تفضيلهن مطلقا على نساء غيرهن مطلقا.
ويمكن أن يقال أيضا: إن الظاهر أن الحديث سيق في معرض الترغيب في نكاح القرشيات، فليس فيه التعرض لمريم ولا لغيرها ممن انقضى زمنهن.
قوله: صالح نساء قريش، كذا للأكثر بالإفراد، وفي رواية، غير الكشمهيني: صلح، بضم أوله وتشديد اللام بصيغة الجمع، فالمحكوم له بالخيرية الصالحات من نساء قريش، لا على العموم، والمراد بالصلاح هنا صلاح الدين، وحسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك.
قوله: أحناه، بسكون المهملة بعدها نون: أكثره شفقة، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم، فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية. قاله الهروي. وجاء الضمير مذكرا، وكان القياس أحناهن، وكأنه ذكر باعتبار اللفظ والجنس أو الشخص أو الإنسان. وجاء نحو ذلك في حديث أنس: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا، بالإفراد في الثاني.
وحديث ابن عباس في قول أبى سفيان: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة، بالإفراد في الثاني أيضا. قال أبو حاتم السجستاني: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردا.
قوله: على ولده، في رواية الكشمهيني: على ولد، بلا ضمير وهو أوجه، ووقع في رواية لمسلم: على يتيم، وفي أخرى: على طفل، والتقييد باليتيم والصغر يحتمل أن يكون معتبرا من ذكر بعض أفراد العموم، لأن صفة الحنو على الولد ثابتة لها لكن ذكرت الحالتان لكونهما أظهر في ذلك.
قوله: وأرعاه على زوج، أي أحفظ وأصون لما لها بالأمانة فيه والصيانة له، وترك التبذير في الإنفاق.
قوله: في ذات يده، أي في ماله المضاف إليه، ومنه قولهم: فلان قليل ذات اليد أي قليل المال، وفي الحديث الحث على نكاح الأشراف خصوصا القرشيات، ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب.(6/103)
وخرج الحاكم من حديث عبيد اللَّه بن موسى، حدثنا إسرائيل عن السدي، عن أبى صالح عن أم هاني قالت: خطبنى النبي عليه السّلام فاعتذرت إليه فعذرني، وأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [ (1) ] إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ [ (1) ] قالت: فلم أكن [زوجا له] [ (2) ] ولم أهاجر معه، وكنت من الطلقاء. [قال: [ (2) ]] هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (3) ] .
[صفية بنت بشامة]
وصفية بنت بشامة الغيري، أخت الأعور بن بشامة، أخذت سبيّة فعرض عليها أن يتزوجها أو ترد إلى أهلها فاختارت أن ترد فردت [ (4) ] .
__________
[ () ] ويؤخذ منه اعتبار الكفاءة في النسب، وأن غير القرشيات ليس كفأ له، وفضل الحنو والشفقة وحسن التربية والقيام على الأولاد وحفظ مال الزوج وحسن التدبير فيه.
ويؤخذ منه مشروعية إنفاق الزوج على زوجته. (فتح الباري) : 9/ 155- 156 كتاب النكاح، باب (12) إلى من ينكح، وأي النساء خير، وما يستحبّ أن يتخيّر لنطفه من غير إيجاب، حديث رقم (5082) ، (جامع الأصول) : 9/ 309، الباب السادس من كتاب الفضائل والمناقب، الفصل الأول في فضل قريش حديث رقم (6790) .
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] لم أجده في المستدرك، لكن قال القسطلاني: الخامسة [من المخطوبات] : أم هانئ فاختة بنت أبى طالب أخت عليّ، خطبها صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: إني امرأة مصبية، واعتذرت إليه فعذرها. (المواهب اللدنية) : 2/ 99.
[ (4) ] قال القسطلاني: الثالثة [من المخطوبات] : صفية بنت بشامة- بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة- كان أصابها في سبى، فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها، فاختارت زوجها.
(المواهب اللدنية) : 2/ 99، وقال الحافظ في (الإصابة) : صفية بنت بشامة، أخت الأعور، من بين العنبر بن تميم، ذكرها ابن حبيب في [ (المحبر) ] ممن خطبهن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ولم يدخل بهن،
قال الحافظ: وأسند ابن سعد عن ابن عباس بسند فيه الكلبي، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خطبها، وكان أصابها سباء، فخيرها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إن شئت أنا وإن شيء زوجك، فقالت زوجي، فأرسلها، فلعنها بنو تميم. (الإصابة) : 7/ 737- 738، ترجمة رقم (11397) .(6/104)
[ليلى بنت الخطيم]
وليلى بنت الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة، أتته وهو غافل عنها [فضربت] [ (1) ] على منكبه فقال من هذا أكلة [الأسد] [ (2) ] ، فقالت: ابنة الخطيم، وبنت مطعم الطير، ومسارى الريح، وقد جئتك أعرض عليك نفسي، فقال: قد قبلتك.
فأتت نساءها فقلن: بئس ما صنعت، أنت امرأة غيور، ورسول اللَّه كثير الضرائر، ونخاف أن تغارى، فيدعو عليك فتهلكى فاستقيليه، فأتت فاستقالته فأقالها، فدخلت بعض حيطان المدينة [تغتسل، إذ وثب عليها ذئب فأكل بعضها، فأدركت فماتت] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «فخطأت» ، وما أثبتناه من (الإصابة) .
[ (2) ] في (خ) : «الأسود» ، وما أثبتناه من (الإصابة) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سياقة مضطرب في (خ) ، وما أثبتناه من (الإصابة) .
وقال الحافظ في (الإصابة) : ليلى بنت الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر الأنصارية الأوسية، ثم الظفرية. استدركها أبو على الجيانى على (الاستيعاب) ، وقال: ذكرها ابن أبى خيثمة وقال: أقبلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك أعرض نفسي عليك، فتزوجني، قال قد فعلت، ورجعت إلى قومها، فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غيري، وهو صاحب نساء، ارجعي فاستقيليه، فرجعت فقالت: أقلنى، فقال: قد فعلت.
قال الحافظ: ذكر ذلك ابن سعد عن ابن عباس بسند فيه الكلبي، فذكروا أتم منه، وأوله:
أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو مولّ ظهره الشمس، فضربت على منكبه، فقال: من هذا أكلة الأسد، وكان كثيرا ما يقولها.
وفي آخره: فقال قد أقلتك، قال: وتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر فولدت له، فبينا هي في حائط من حيطان المدينة تغتسل، إذ وثب عليها ذئب فأكل بعضها فأدركت، فماتت.
ثم أسند عن الواقدي، عن محمد بن صالح بن دينار، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال:
كانت ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم فقبلها، وكانت تركب بعولتها ركوبا منكرا، وكانت سيئة الخلق ... فذكر نحو القصة دون ما في آخرها، وقال في روايته: فقالت: إنك نبي(6/105)
[خولة بنت الهذيل]
[و] [ (1) ] خولة بنت الهذيل بن هبيرة، خطبها فهلكت قبل دخولها عليه [ (2) ] .
[شراف بنت قطام]
وشراف بنت قطام أخت دحية الكلبي، هلكت قبل دخولها عليه [ (3) ] .
__________
[ () ] اللَّه، وقد أحلّ اللَّه لك النساء، وأنا امرأة طويلة اللسان، لا صبر لي على الضرائر، واستقالته صلّى اللَّه عليه وسلم.
ومن طريق ابن أبى عون، أن ليلى وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، ووهبن نساء أنفسهن، فلم يسمع أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قبل منهن أحدا، قال: وأمها مشرفة الدار بنت هيشة بن الحارث وأخرج ابن سعد عن الواقدي، حسبته عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: أول من بايع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أم سعد بن معاذ، وهي كبشة بنت أبى رافع بن عبيد، ومن بنى ظفر ليلى بنت الخطيم، ومن بن عمرو بن عوف ليلى ومريم وسهيمة بنات أبى سفيان الليثي، يقال له: أبو البنات.
وذكر ابن سعد أيضا: أن مسعود بن أوس تزوجها في الجاهلية، فولدت له عمرة وعميرة، وكان يقال لها: أكله الأسد، وكانت أول امرأة بايعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومعها ابنتاها، وابنتان لابنتها، ووهبت نفسها له، ثم استقالة بنو ظفر، فأقالها. (الإصابة) : 8/ 103- 104، ترجمة رقم (11710) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 246 وما بعدها.
[ (1) ] للزيادة للسياق.
[ (2) ] هي خولة بنت الهذيل بن قبيصة بن هبيرة بن الحارث بن حبيب بن حرفة- بضم المهملة وسكون الراء بعدها فاء- ابن ثعلبة بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب التغلبية. قال الحافظ في (الإصابة) : وقد ذكرها المفضل بن غسان الغلابي في تاريخه، عن على بن صالح، عن على بن مجاهد، قال: وتزوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خولة بنت الهذيل، وأمها خرنق بنت خليفة، أخت دحية الكلبي.
، فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق، فنكح خالتها شراف أخت دحية بن خليفة الكلبي، فحملت إليه، فماتت في الطريق أيضا.
وذكر ابن سعد عن هشام بن الكلبي، عن شرقى بن قطامى، حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج خولة بنت الهذيل، وأمها بنت خليفة بن فروة، أخت دحية الكلبي، وكانت خالتها شراف بنت خليفة هي التي ربتها فماتت بالطريق قبل أن تصل. (طبقات ابن سعد) : 8/ 115، (الإصابة) :
7/ 608، 609، ترجمة رقم (11093) ، 7/ 626- 627، ترجمة رقم (11130) ، (الاستيعاب: 4/ 1834، ترجمة رقم (2329) .
[ (3) ]
أخرج الطبراني، وأبو نعيم عنه، من طريق جابر الجعفي، عن ابن أبى مليكة، قال خطب رسول(6/106)
[ضباعة بنت عامر]
وضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، مات عنها هشام بن المغيرة، وكانت جميلة، فخطبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم بلغه عنها كبرة وتغيّرا فأمسك عنها، وضباعة هذه هي التي طافت حول الكعبة عريانة، ولم تجد ثوب حرمىّ تستعيره ولا تكتريه، فقالت:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... فما بدا منه فلا أحلّه [ (1) ] .
__________
[ () ] اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم امرأة من بنى كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت، ثم رجعت، فقالت: ما رأيت طائلا، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أقد رأيت خالا عندها اقشعرّت كل شعرة منك؟ فقالت: ما دونك سرّ.
أورده أبو موسى في (الذيل) ، في ترجمة شراف،
وقال: قيل إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوجها ولم يدخل بها، وبذلك جزم ابن عبد البر.
قال الحافظ: وقد ورد التصريح بذكرها عن ابن سعد، عن هشام الكلبي، عن شرقى بن القطامي، قال: لما هلكت خولة بنت الهذيل تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شراف بنت خليفة أخت دحية، ولم يدخل بها، ثم أخرج أثر عائشة المذكور، عن محمد بن عمر، عن الثوري، عن جابر الجعفي، به. (الإصابة) : 7/ 726، ترجمة رقم (11370) ، (الاستيعاب) : 4/ 1868، ترجمة رقم (3397) .
[ (1) ] ذكرها أبو نعيم، وأخرج من طريق عبد اللَّه بن الأجلح، عن الكلبي، أخبرنى عبد الرحمن العامري، عن أشياخ من قومه، قالوا: أتانا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ونحن بعكاظ، فدعانا إلى نصرته ومنعته، فأجبناه إذ جاء بيجرة بن فراس القشيري، فغمز شاكلة ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقمصت به، فألقته، وعندنا يومئذ ضباعة بنت عامر بن قرط، وكانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، جاءت زائرة بنى عمها، فقالت: يا آل عامر، ولا عامر لي، يصنع هذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين أظهركم ولا يمنعه أحد منكم؟! فقام ثلاثة من بنى عمها إلى بيجرة، فأخذ كل رجل منه رجلا فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره، ثم علا وجهه لطما،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ بارك على هؤلاء، فأسلموا، وقتلوا شهداء.
وهذا مع انقطاعه ضعيف، وقد وجدت لضباعة هذه خبرا آخر، ذكره هشام بن الكلبي في الأنساب، عن أبيه، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: كانت ضباعة القشيرية تحت هودة بن على الحنفي، فمات فورثته من ماله، فخطبها ابن عم لها، وخطبها عبد اللَّه بن جدعان، فرغب أبوها(6/107)
[الكلبية]
وذكر الواقدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خطب امرأة من كلب، فبعث عائشة رضى اللَّه عنها لتنظر إليها، فذهبت ثم رجعت، فقال لها: ما رأيت؟
__________
[ () ] في المال، فزوجها من ابن جدعان، ولما حملت إليه تبعها ابن عمها فقال: يا ضباعة، الرجال النخر أحب إليك أم الرجال الذين يطعنون السّور؟ قالت: لا، بل الرجال الذين يطعنون السور.
فقدمت على عبد اللَّه بن جدعان، فأقامت عنده، ورغب فيها هشام بن المغيرة، وكان من رجال قريش، فقال لضباعة، أرضيت لجمالك وهيئتك بهذا الشيح اللئيم؟ سليه الطلاق حتى أتزوجك، فسألت ابن جدعان الطلاق، فقال: بلغني أن هشاما قد رغب فيك، ولست مطلقا حتى تحلفي لي أنك إن تزوجت أن تنحري مائة ناقة سوداء الحدق بين إساف ونائلة، وأن تغزلى خيطا يمد بين أخشبى مكة، وأن تطوفي بالبيت عريانة.
فقالت: دعني انظر في أمرى، فتركها، فأتاها هشام فأخبرته فقال: أما نحر مائة ناقة فهو أهون عليّ من ناقة أنحرها عنك، وأما الغزل، فأنا آمر نساء بنى المغيرة يغزلن لك، وأما طوافك بالبيت عريانة، فأنا أسأل قريشا أن يخلو لك البيت ساعة، فسليه الطلاق، فسألته فطلقها وحلفت له.
فتزوجها هشام، فولدت له سلمة، فكان من خيار المسلمين، ووفى لها هشام بما قال.
قال ابن عباس: فأخبرني المطلب بن أبى وداعة السهمي- وكان لدة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- قال: لما أخلت قريش لضباعة البيت، خرجت أنا ومحمد ونحن غلامان، فاستصغرونا فلم نمنع، فنظرنا إليها لما جاءت، فجعلت تخلع ثوبا ثوبا وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحلّه
حتى نزعت ثيابها، ثم نشرت شعرها فغطى بطنها وظهرها، حتى صار في خلخال، فما استبان من جسدها شيء، وأقبلت تطوف، وهي تقول هذا الشعر.
فلما مات هشام بن المغيرة، وأسلمت هي وهاجرت، خطبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى ابنها سلمة،
فقال: يا رسول اللَّه، ما عنك مدفع، فأستأمرها؟ قال: نعم، فأتاها، فقالت: إنا للَّه، أفي رسول اللَّه تستأمرنى؟ أنا أسعى لأن أحشر في أزواجه، أرجع إليه فقل له: نعم قبل أن يبدو له، فرجع سلمة فقال له، فسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ولم يقل شيئا، وكان قد قيل له بعد أن ولّى سلمة: إن ضباعة ليست كما عهدت، قد كثرت غضون وجهها وسقطت أسنانها من فمها.
وذكر ابن سعد بعض هذا في ترجمتها عن هشام الكلبي، وعنه بهذا السند كانت ضباعة من أجمل نساء العرب، وأعظمهن وخلقة، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيرا، وكانت تغطى جسدها بشعرها، (طبقات ابن سعد) : 8/ 109، (الإصابة) : 8/ 6، ترجمة رقم (11426) ، (الاستيعاب) : 4/ 1874- 1875، ترجمة رقم (4018) ، (المواهب اللدنية) :
2/ 99، السادسة [من المخطوبات] ، ضباعة.(6/108)
قالت: لم أر طائلا، فقال: لقد رأيت خالا بخدّها اقشعرت له كل شعرة منك؟ فقالت: يا رسول اللَّه! ما دونك ستر. وعن مجاهد: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب فردّ لم يعد، فخطب امرأة فقالت: أستأمر أبى، فاستأمرته فأذن لها، ثم أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال لها: قد التحفنا لحافا غيرك [ (1) ] .
[أمامة بنت الحارث]
وخطب أمامة بنت الحارث بن عوف بن أبى حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وكان أبوها أعرابيا جافيا سيد قومه فقال: إن بها بياضا- وكانت العرب تكنى بذلك عن البرص- فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: ليكن كذلك، فبرصت من وقتها،
فتزوجها يزيد بن حمزة بن عوف بن أبى حارثة، فولدت له الشاعر شبيب بن يزيد المعروف بابن البرصاء [ (2) ] .
[جمرة بنت الحارث]
وخطب جمرة بنت الحارث بن عوف، فقال أبوها: إن بها برصا، وهو كاذب- فبرصت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر، قال أبو عبيدة معمر ابن المثنى: وذكر المدائني أن أم شبيب بن البرصاء اسمها القرصافة بنت الحارث بن عوف بن أبى حارثة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) 2/ 99، الرابعة [من المخطوبات] ولم يذكر اسمها، قيل إنه صلّى اللَّه عليه وسلم خطبها، فقالت: أستأمر أبى، فلقيت أباها فأذن لها، فعادت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
فقال لها: قد التحفنا لحافا غيرك.
[ (2) ] (الاستيعاب) : 4/ 1788، ترجمة رقم (3235) ، (الإصابة) : 7/ 499، ترجمة رقم (10815) ، وقيل: اسمها قرصافة: (المعارف) : 140.
[ (3) ] اسمها قرصافة كما في (الإصابة) : 7/ 499، ترجمة رقم (10815) ، (الإصابة) : 7/ 554، ترجمة رقم (10975) [جمرة بنت الحارث] ، (المواهب اللدنية) 2/ 99، (الإصابة) : 7/ 530، ترجمة رقم (10419) .(6/109)
وقال الكلبي: كانت أم شبيب أدماء فسميت برصاء على القلب ولم يكن بها برص.
[درة بنت أبى سلمة]
وعرضت عليه صلّى اللَّه عليه وسلم درة بنت أبى سلمة فقال: لو لم تكن أمها عندي لما حلت لي، قد أرضعتنى وأباها ثويبة [ (1) ] ... الحديث.
[أمامة بنت حمزة]
وعرضت عليه أمامة بنت حمزة رضى اللَّه عنه فقال: أما علمتم أن أخى حمزة من الرضاعة، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب [ (2) ] ؟
__________
[ (1) ] هي درة بنت أبى سلمة بن عبد الأسد القرشية المخزومية، ربيبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بنت امرأته أم سلمة، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهي معروفة عند أهل العلم بالسير والخبر والحديث، في بنات أم سلمة ربائب رسول اللَّه. صلّى اللَّه عليه وسلم.
حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن، وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا الحارث بن أبى أسامة، حدثنا أبو النضر، حدثنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب، عن عراك ابن مالك، أن زينب بنت أبى سلمة، أخبرته أن أم حبيبة قالت: يا رسول اللَّه، إنا تحدثنا إنك ناكح درة بنت أبى سلمة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أعلى أم سلمة؟ لو أنى لم أنكح أم سلمة لم تحل لي، إن أباها أخى من الرضاعة، وفي (الإصابة) : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، لأنها ابنة أخى من الرضاعة. (الإصابة) : 7/ 634، ترجمة رقم (11147) ، (الاستيعاب) :
4/ 1835، ترجمة رقم (3333) .
[ (2) ] هي أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، وأمها سلمى بنت عميس بن معد بن تيم، أخت أسماء بنت عميس، عاشت بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد روت عنه. (المستدرك) : 4/ 74 كتاب معرفة الصحابة، ذكر أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب رضى اللَّه عنهما، حديث رقم (6924/ 2522) ، (أعلام النساء) : 1/ 76، (فتح الباري) : 5/ 317، كتاب الشهادات، باب (7) الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم،
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «أرضعتنى وأبا سلمة ثوبية»
والتثبت فيه، حديث رقم (2645) ، 9/ 173، كتاب النكاح، باب (21) وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، حديث رقم (5100) ، (مسلم بشرح النووي) : 10/ 277، كتاب الرضاع، باب (3) تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، حديث رقم (12) ، (سنن النسائي) : 6/ 408، كتاب النكاح، باب (50) تحريم(6/110)
[أم حبيب]
وعرضت عليه بنت العباس رضى اللَّه عنه، فقال: العباس أخى من الرضاع،
ويروى أنه قال إن كبرت أم حبيب وأنا حىّ تزوجتها،
وفي رواية: أنه رأى أم حبيب وهي فوق الفطيم فقال: لئن بلغت بنية العباس هذه وأنا حىّ لأتزوجنها [ (1) ] .
قال ابن عباس: في هذا تأكيد لقول عائشة رضى اللَّه عنها أنه أحل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم كثيرا من النساء، وأنه لم يحبس على تسع.
[سناء بنت أسماء بنت الصلت]
وعرضت عليه أسماء- وقيل: سناء- بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حزام بن سماك بن عوف السلمية، وحملت إليه فماتت قبل وصولها إليه [ (2) ] .
__________
[ () ] بنت الأخ من الرضاعة، حديث رقم (3305) ، (مسند أحمد) : 1/ 557، مسند عبد اللَّه بن عباس، حديث رقم (3134) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 12.
[ (1) ] هي أم حبيبة، ويقال: أم حبيب أيضا- كذلك يقول أكثر أهل النسب- بنت العباس بن عبد المطلب، مذكورة
في حديث أم الفضل، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: لو بلغت أم حبيبة بنت العباس وأنا حىّ لتزوجتها.
وتزوجها الأسود بن سفيان بن عبد الأسود بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم وأم حبيب بنت العباس أم الفضل بنت الحارث، فهي أخت عبد اللَّه، والفضل، وعبيد اللَّه، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد بنى العباس.
قال ابن الأثير: ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه، عن الحسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه ابن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى أم حبيب بنت العباس تدب بين يديه، فقال: لئن بلغت هذه وأنا حىّ لتزوجتها
فقبض صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن تبلغ، فتزوجها الأسود، فولدت له لبابة، سمتها باسم أمها، قال الحافظ في (الإصابة) : وهذا يقتضي أن يكون لها رؤية، فتكون من أهل القسم الثاني، لكن ذكرها ابن سعد في الصحابيات، وذكر أنها ولدت للأسود ابنة أخرى اسمها زرقاء، قال: وولدها يسكنون مكة (الاستيعاب) : 4/ 1928، ترجمة رقم (4134) ، (الإصابة) : 8/ 186- 187، ترجمة رقم (11956) ، (طبقات ابن سعد) : 4/ 6.
[ (2) ] هي أسماء بنت الصلت السلمية: اختلف فيها وفي اسمها، فقال أحمد بن صالح المصري:(6/111)
وقيل له: يا رسول اللَّه، ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ فقال: إن فيهن غيرة شديدة وأنا صاحب ضرائر، وأكره أن أسوأ قومهن فيهن.
__________
[ () ] أسماء بنت الصلت السلمية من أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. وروى عن قتادة نحوه. وقال ابن إسحاق: سناء بنت أسماء بن الصلت السلمية وتزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم طلقها.
وقال على بن عبد العزيز بن على الحسن الجرجاني النسّابة: هي وسناء بنت الصلت بن حبيب بن جارية بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثه بن سليم السلمية تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فماتت قبل أن تصل إليه. وقال أبو عمر: قول من قال: سناء بنت الصلت أولى بالصواب إن شاء اللَّه تعالى.
وقال الحافظ في (الإصابة) : سناء، بفتح أوله وتخفيف النون، بنت أسماء بن الصلت السلمية.
ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أنها ممن تزوجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فماتت قبل أن يدخل بها. وروى ذلك عن حفص بن النضر، وعبد القادر بن السري السلميين، وقال: هي عمة عبد اللَّه بن خازم- بمعجمتين- بن أسماء بن الصلت أمير خراسان.
قال الحافظ: ذكر ابن أبى خيثمة، عن أبى عبيدة بن عبد القاهر: سماها سنا كالذي هاهنا، وأن غيره سماها وسنا- بزيادة واو في أولها-.
وقال ابن إسحاق: سنا بنت أسماء، وقال غيره: وسنا، حكى ذلك أبو عمر، قال: ولا يثبت من ذلك شيء من حيث الإسناد، إلا أن قول ابن إسحاق أرجح.
وقال ابن سعد: سنا، ويقال: سبا- بالموحدة والنون- ونسبها ابن حبيب إلى جدها، فساق نسبها إلى بنى سليم، وذكر أن أسماء أخوها لا أبوها، وذكر أنها ماتت قبل أن يدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بها.
وحكى الرشاطى عن بعضهم أن سبب موتها أنه لما بلغها بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوجها سرت بذلك حتى ماتت من الفرح (الإصابة) : 7/ 713- 714، ترجمة رقم (11338) ، (الاستيعاب) :
4/ 1783- 1784، ترجمة رقم (3328) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 149، (المواهب اللدنية) :
2/ 97، التاسعة [ممن لم يدخل بهن] : سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية، تزوجها صلّى اللَّه عليه وسلم وماتت قبل أن يدخل بها، وعند ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها، (المستدرك) : 4/ 37، كتاب معرفة الصحابة، ذكر سناء بنت أسماء بن الصلت السلمية، حديث رقم (6811/ 2409) :
أخبرنا أبو النضر الفقيه، حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيدة قال: وزعم حفص بن النضر السلمي وعبد القاهر بن السري السلمي، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج سناء بنت أسماء بن الصلت السلمية، فماتت قبل أن يدخل بها. قال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : وزعم حفص بن النضر السلمي، وعبد القاهر بن السري أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تزوج سنا بنت أسماء بنت الصلت السلمية، فماتت قبل أن يدخل بها.(6/112)
وذكر الحاكم عن قتادة: أنه- عليه السّلام- تزوج أم شريك الأنصارية من بنى النجار، وقال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار، ثم قال: إني أكره غيرتهن، فلم يدخل بها [ (1) ] .
وقال الزهري: كان صداق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الّذي زوج به بناته وتزوج به:
عشر أواقي ونشا، قال عبد الرزاق: وذلك خمس مائة درهم [ (2) ] .
وذكر الواقدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا خطب المرأة قال للذي يخطبها عليه: اذكر لها جفنة سعد بن عبادة الّذي كان يبعث بها، يعنى أنها مرة
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (6810/ 2408) ، وسكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) .
[ (2) ] قال أبو عبد اللَّه الحاكم: فحدثني أبو بكر بن بالويه، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا مصعب بن عبد اللَّه الزبيري، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أنه سأل عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كم أصدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أزواجه؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونصفا، فذلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأزواجه.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد، وعليه العمل، وإنما أصدق النجاشي أم حبيبة أربعمائة دينار، استعمالا لأخلاق الملوك في المبالغة في الصنائع، لاستعانة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم به في ذلك.
(المستدرك) : 4/ 23- 24 كتاب معرفة الصحابة، ذكر أم حبيبة بنت أبى سفيان رضى اللَّه تعالى عنها، حديث رقم (6772/ 2370) ، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
وقال (القسطلاني) : واختلف في أم شريك: هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة.
والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات بالاتفاق سبع، واثنتان على خلاف الميتات في حياته بالاتفاق أربع، ومات صلّى اللَّه عليه وسلم عن عشر، واحدة لم يدخل بها. (المواهب اللدنية) : 2/ 98، وقد نظم بعضهم زوجات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الّذي مات عنهن:
توفى رسول اللَّه عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة وميمونة وصفية ... جويرية مع سودة ثم زينب
كذا رملة مع هند أيضا وحفصة ... ثلاث وست نظمهن مهذب
ولبعضهم أيضا:
توفى رسول اللَّه عن تسع نسوة ... وهي ابنة الصديق رملة حفصة
جويرية هند وزينب سودة ... وميمونة والمصطفاة صفية(6/113)
بلحم ومرة بسمن ومرة بلبن [ (1) ] .
وقال الواقدي: بلغنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طاف على نسائه في غسل واحد [ (2) ] ، [ويروى] أنه طاف عليهنّ يغتسل من كل امرأة ...
__________
[ () ] (المعارف) : 139 «هامش» .
قال القسطلاني: ومات عنده صلّى اللَّه عليه وسلم منهن اثنتان: خديجة، وزينب أم المساكين، ومات صلّى اللَّه عليه وسلم عن تسع، ذكر أسماهن الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسي نظما فقال:
توفى رسول اللَّه عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة وميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب
وهند: هي أم سلمة، ورملة: هي أم حبيبة، (المواهب اللدنية) 2/ 75- 76.
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 409.
[ (2) ] قال الإمام النووي: وأما طوافه على نسائه بغسل واحد، فيحتمل أنه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يتوضأ بينهما، أو يكون المراد بيان جواز ترك الوضوء،
وقد جاء في (سنن أبى داود) أنه صلّى اللَّه عليه وسلم طاف على نسائه ذات ليلة، يغتسل عند هذه وعند هذه، فقيل: يا رسول اللَّه، ألا تجعله غسلا واحدا؟ فقال: هذا أزكى، وأطيب، وأطهر،
قال أبو داود: والحديث الأول أصح، قلت: وعلى تقدير صحته، يكون هذا في وقت وذاك في وقت، واللَّه تعالى أعلم.
واختلف العلماء في حكمة هذا الوضوء، فقال أصحابنا: لأنه يخفف الحدث، فإنه يرفع الحدث عن أعضاء الوضوء. وقال أبو عبد اللَّه المازري رضى اللَّه عنه: اختلف في تعليله، فقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين، خشية أن يموت في منامه. وقيل: بل لعله ينشط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه.
قال المازري ويجرى هذا الخلاف في وضوء الحائض قبل أن تنام، فمن علل المبيت على طهارة استحبه لها. هذا كلام المازري.
وأما أصحابنا: فإنّهم متفقون على أنه لا يستحب الوضوء للحائض والنفساء، لأن الوضوء لا يؤثر في حدثهما، فإن كانت الحائض قد انقطعت حيضتها، صارت كالجنب واللَّه تعالى أعلم.
وأما طواف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على نسائه بغسل واحد، فهو محمول على أنه كان برضاهن، أو برضى صاحبة النوبة، إن كانت نوبة واحدة، وهذا التأويل يحتاج إليه من يقول: كان القسم واجبا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الدوام، كما يجب علينا، وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى تأويل، فإنه له أن يفعل ما يشاء. وهذا الخلاف في وجوب القسم، هو وجهان لأصحابنا، واللَّه تعالى أعلم.(6/114)
غسلا [ (1) ] ، وأنه قال: أعطيت في الجماع قوة أربعين رجلا [ (2) ] .
__________
[ () ] وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب: أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة، وهذا بإجماع المسلمين.
وقد اختلف أصحابنا في الموجب لغسل الجنابة: هل هو حصول الجنابة بالتقاء الختانين أو إنزال المنى؟
أم هو القيام إلى الصلاة؟ أم هو حصول الجنابة مع القيام إلى الصلاة؟ - فيه ثلاثة أوجه لأصحابنا، ومن قال: يجب بالجنابة قال: هو وجوب موسع.
وكذا اختلفوا في موجب الوضوء: هل هو الحدث أم القيام إلى الصلاة؟ أم المجموع؟
وكذا اختلفوا في الموجب لغسل الحيض، هل هو خروج الدم أم انقطاعه؟ واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 222، كتاب الحيض، باب (6) جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له، وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام، أو يجامع، حديث رقم (309) ، (عون المعبود) : 1/ 253، كتاب الطهارة، باب (85) في الجنب يعود، حديث رقم (215) ، عن أنس رضى اللَّه تعالى عنه.
[ (1) ] (عون المعبود) : 1/ 254، كتاب الطهارة، باب (86) الوضوء لمن أراد أن يعود، حديث رقم (216) :
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن عبد الرحمن بن أبى رافع، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم طاف على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه. قال: فقلت له: يا رسول اللَّه، ألا تجعله غسلا واحدا؟ قال: هذا أزكى، وأطيب، وأطهر.
قال أبو داود: حديث أنس أصح من هذا.
والحديث يدل على استحباب الغسل قبل المعاودة، ولا خلاف فيه. قال النسائي: ليس بينه وبين حديث أنس اختلاف، بل كان يفعل هذا مرة وذلك أخرى.
وقال النووي في (شرح مسلم) : هو محمول على أنه فعل الأمرين في وقتي مختلفين، والّذي قالاه هو حسن جدا، ولا تعارض بينهما، فمرّة تركه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيانا للجواز، وتخفيفا على الأمة، ومرة فعله لكونه أزكى وأطهر.
و «حديث أنس» المتقدم «أصح من هذا» أي من حديث أبى رافع، لأن حديث أنس مروى من طرق متعددة، ورواته ثقات أثبات، ورواة حديث أبى رافع ليسوا بهذه المثابة، وقول المؤلف هذا ليس بطعن في حديث أبى رافع، لأنه لم ينف الصحة عنه، وأورد حديث أبى رافع في هذا الباب لأن الغسل يشمل الوضوء أيضا. قال المنذري: وأخرجه النسائي وابن ماجة. (عون المعبود) :
1/ 254.
[ (2) ] قال ابن القيم: وكان قد أعطى قوة ثلاثين في الجماع وغيره، وأباح اللَّه له من ذلك ما لم يبحه لأحد من أمته صلّى اللَّه عليه وسلم (زاد المعاد) : 1/ 151، فصل في هديه في النكاح، ومعاشرته صلّى اللَّه عليه وسلم أهله.
وقال أنس رضى اللَّه عنه: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل، وهنّ إحدى عشرة، قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه صلّى اللَّه عليه وسلم أعطى قوة ثلاثين. رواه البخاري من طريق قتادة. وقال سعيد عن قتادة: إن أنسأ حدثهم: تسع نسوة. (فتح الباري) : 1/ 497، كتاب(6/115)
__________
[ () ] الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد. ومن دار على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (268) ، باب (24) الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره، حديث رقم (284) ، 9/ 140، كتاب النكاح، باب (4) كثرة النساء، حديث رقم (5068) ، 9/ 394، كتاب النكاح، باب (103) من طاف على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (5215) .
وذكر القاضي عياض أن الحكمة في طوافه عليهنّ في الليلة الواحدة كان لتحصينهن، وكأنه أراد به عدم تشوفهن للأزواج، إذ الإحصان له معان، منها: الإسلام، والحرية، والعفة، والّذي يظهر أن ذلك إنما كان لإرادة العدل بينهن في ذلك، وإن لم يكن واجبا، وفي التعليل الّذي ذكره نظر، لأنهن حرم عليهنّ التزويج بعده، وعاش بعضهن بعده خمسين سنة فما دونها، وزادت آخرهن موتا على ذلك. (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 51 وما بعدها، فصل: والضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته، والفخر بوفوره كالنكاح والجاه، (فتح الباري) : شرح الحديث رقم (5215) مختصرا.
قال الحافظ في (الفتح) : وفي هذا الحديث من الفوائد: ما أعطى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من القوة على الجماع، وهو دليل على كمال البنية، وصحة الذكورية، والحكمة في كثرة أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلم أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها، فينقلنها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب، ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات.
نقل الحافظ في (الفتح) كلام ابن حبان هذا في الجمع بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، ثم تعقبه بقوله: لكنه وهم في قوله: إن الأولى كانت في أول قدومه المدينة، حيث كان تحته صلّى اللَّه عليه وسلم تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر، حيث اجتمع عنده إحدى عشر امرأة.
وموضع الوهم منه أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية، وأم حبيبة، وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور.
واختلف في ريحانة- وكانت من سبى بنى قريظة- فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل. قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة.
فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد، لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن، وأطق عليهنّ لفظ «نسائه» تغليبا.(6/116)
وقد اختلف في الحجاب، فذكر أبو الحسن المدائني في كتاب (النساء اللاتي لم يكن مستترات) : حدثنا ابن مجاهد عن ابن إسحاق قال: كنّ نساء الجاهلية لا يستترن، فقالت هند بنت عتبة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بأبي أنت وأمى، ما أكرم هذا الدين لولا خصال فيه، قال: ما هي؟ قالت:
منهن هذا القناع، فلا نعرف ذعرا من [فزع] ، قال: لا بدّ من التستر.
وكان في الإسلام يقصد الرجل امرأته فيدخل عليها الداخل فلا تقف المرأة ويقعد الرجل امرأته للرجل (انتهى) .
وعن مجاهد عن ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: أكل عمر رضى اللَّه عنه مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأصابت يده بعض نسائه فأمر بالحجاب.
قال الواقدي: ونزل الحجاب في ذي القعدة سنة خمس، وقوم يقولون نزل بمكة في حجة الوداع [ (1) ] .
__________
[ () ] قال أبو حاتم رضى اللَّه تعالى عنه: في خبر هشام الدستوائى عن قتادة: «وله يومئذ تسع نسوة» .
أما خبر هشام، فإن أنسا حكى ذلك الفعل منه صلّى اللَّه عليه وسلم في أول قدومه المدينة، حيث كانت تحته إحدى عشرة امرأة، وخبر سعيد عن قتادة إنما حكاه أنس في آخر قدومه المدينة صلّى اللَّه عليه وسلم، حيث كانت تحته تسع نسوة، لأن هذا الفعل كان منه صلّى اللَّه عليه وسلم مرارا كثيرة، لا مرة واحدة، (الإحسان) : 4/ 10- 11، كتاب الطهارة، باب (7) أحكام الجنب، حديث رقم (1209) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 479، باب قوته صلّى اللَّه عليه وسلم في النكاح، ثم قال القسطلاني: ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لما خيّر بين أن يكون نبيا ملكا أبى ذلك، واختار أن يكون نبيا عبدا، فأعطى من الخصوصية ذلك القدر لكونه صلّى اللَّه عليه وسلم اختار الفقر والعبوديّة، فأعطى الزائد لخرق العادة في النوع الّذي اختار، وهو الفقر والعبوديّة، فكان صلّى اللَّه عليه وسلم يربط على بطنه الأحجار من شدة الجوع والمجاهدة، وهو على حاله في الجماع، لم ينقصه شيئا، والناس أبداً إذا أخذهم الجوع والمجاهدة لا يستطيعون ذلك، فهو أبلغ في المعجزة. قاله في (بهجة النفوس) .
واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 485.
[ (1) ] قوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ عطف على جملة لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ فهي زيادة بيان للنهى عن دخول البيوت النبويّة، وتحديد لمقدار الضرورة التي أدّت إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها، وهذه الآية شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين، وقد قيل: إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس. (تفسير التحرير والتنوير) : 4/ 90.(6/117)
وللإمام أحمد من حديث سفيان عن عمر عن عطاء عن عائشة قالت:
ما مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أحل له النساء [ (1) ] ، وفي رواية عن عطاء عن عائشة رضى اللَّه عنها، ما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أحل اللَّه له أن يتزوج من النساء من شاء إلا ذات زوج، لقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ [ (2) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث عاصم عن معاذة عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان يستأذن إذا كان يوم المرأة منا، بعد أن نزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قالت: فقلت لها: ما كنت تقولين له؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذلك إليّ فإنّي لا أريد يا رسول اللَّه أن أؤثر عليك أحدا [ (3) ] .
وعن أبى أمامة بن سهل بن حنيف في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، قال: حبس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن نسائه فلم يتزوج بعدهن [ (4) ] .
وعن أبى زرين قال: همّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يطلّق نساءه، فلما رأين ذلك
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 63، حديث رقم (23617) .
[ (2) ] الأحزاب: 51.
[ (3) ] (مسند أحمد) 7/ 112- 113، حديث رقم (23955) .
[ (4) ] حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ من بعد هؤلاء اللاتي عندك. قال الحسن: لما خيّرهن، فاخترن اللَّه ورسوله، قصر عليهنّ، فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، يقول: من بعد هؤلاء اللاتي عندك. (تفسير عبد الرزاق) : 2/ 99، مسألة رقم (2365) ، وقال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الكلبي، قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ يقول: ما قصّ اللَّه عليك من بنات العم، وبنات الخال، وبنات وبنات ... ، (المرجع السابق) : مسألة رقم (2367) . وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس، قال: نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب: 52] .(6/118)
جعلته في حل من أنفسهن يؤثر من يشاء، فأنزل اللَّه وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، يقول: تعزل من تشاء فكان ممن عزل: سودة، وأم حبيبة، وصفية، وجويرية، وميمونة، وجعل يأتى عائشة وحفصة، وزينب، وأم سلمة.
وقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ، يقول: من تشاء في غير طلاق، ثم قال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، يقول:
من المسلمات [ (1) ] .
وكان يستتر في الجماع، فجاء من طرق عن عائشة، ما نظرت إلى فرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قط، وفي رواية: ما رأيت عورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قط، وعنها أنها قالت: ما أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أحدا من نسائه إلا مقنعا يرخى الثوب على رأسه، وما رأيته من رسول اللَّه ولا رآه منّى» [ (2) ] .
وخرج الخطيب أبو بكر الحافظ، من طريق منصور بن عمار قال: حدثني معروف أبو الخطاب قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: سمعت أم سلمة تقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا أتى امرأة من نسائه غمض عينيه وقنع رأسه [زاد الخلال] ، وقال للتي تكون تحته: عليك بالسكينة والوقار [ (3) ] .
وأدّب أزواجه بالهجر،
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا
__________
[ (1) ] حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن أبى رزين، في قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ، قال: المرجئات: ميمونة، وسودة، وصفية، وجويرية، وأم حبيبة، وكانت عائشة وحفصة، وأم سلمة، وزينب، سواء في قسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يساوى بينهن في القسم. (تفسير عبد الرزاق) : 2/ 99، مسألة رقم (2361) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 7/ 93، حديث رقم (23823) : حدثنا عبد اللَّه حدثني أبى، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن منصور، عن موسى بن عبد اللَّه بن يزيد الخطميّ، عن مولى لعائشة، عن عائشة قالت: ما أنظرت إلى فرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قط- أو ما رأيت فرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قط-، 7/ 292، حديث رقم (25040) .
[ (3) ] (تاريخ بغداد) : 5/ 162، ترجمة أحمد بن محمويه بن أبى سلمة المدائني رقم (2607) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.(6/119)
جعفر بن سليمان، عن ثابت قال: حدّثتنى شميسة- أو سمية-[قال عبد الرزاق: هو في كتابي سمينة] [ (1) ] عن صفية بنت حىّ، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حج بنسائه، حتى إذا كان في بعض الطريق، نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كذاك سوقك بالقوارير- يعنى النساء-.
فبينما هم يسيرون، برك بصفية بنت حيي جملها- وكانت من أحسنهن ظهرا- فبكت، وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين أخبر بذلك فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها، فلما أكثرت زبرها وانتهرها، وأمر الناس بالنزول، ولم يكن يريد أن ينزل، قالت: فنزلوا، وكان يومى، فلما نزلوا ضرب خباء رسول اللَّه ودخل فيه، قالت: فلم أدر علام أهجم من رسول اللَّه، وخشيت أن يكون في نفسه شيء [منى] [ (1) ] .
فانطلقت إلى عائشة فقلت لها: تعلمين أنى لم أكن لأبيع يومى من رسول اللَّه بشيء أبدا، وإني قد وهبت يومى لك على أن ترضى رسول اللَّه [عنى؟] [ (1) ] قالت: نعم،
فأخذت عائشة خمارا لها قد ثردته بزعفران فرشته بالماء ليذكى ريحه، ثم لبست ثيابها، ثم انطلقت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فرفعت طرف الخباء فقال لها: ما لك يا عائشة! إن هذا ليس بيومك، قالت: ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
فقال [ (2) ] مع أهله، فلما كان عند الرواح قال لزينب بنت جحش: [يا زينب] [ (1) ] أفقرى صفية جملا- وكانت من أكثرهن ظهرا- فقالت: أنا أفقر يهوديتك؟ فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين سمع ذلك منها، فهجرها فلم يكلمها حتى قدم مكة وأيام منى في سفره حتى رجع إلى المدينة والمحرم وصفر، فلم يأتها ولم يقسم لها ويئست منه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (2) ] من القيلولة وهي نوم الظهيرة.(6/120)
فلما كان شهر ربيع الأول دخل عليها فرأت ظله فقالت: إن هذا لظل رجل، وما يدخل عليّ النبي! فمن هذا؟ فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلما رأته قالت:
يا رسول اللَّه! ما أدرى ما أصنع حين دخلت عليّ.
قالت: وكانت لها جارية، وكانت تخبؤها من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: فلانة لك، فمشى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى سرير زينب- وكان قد رفع- فوضعه بيده ثم أصاب أهله ورضى عنهم [ (1) ] .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الى من نسائه شهرا [ (2) ] واعتزلهن لشيء صدر منهن، فقيل: لأنهن سألنه من النفقة ما
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) 7/ 474- 475، حديث رقم (26325) ، وحديث رقم (26326) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبى، حدثنا عفان، حدثنا حماد- يعنى ابن سلمة- قال: حدثنا ثابت عن سمية، عن عائشة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان في سفر فاعتل بعير لصفية.. فذكره نحوه.
[ (2) ] الإيلاء في اللغة: الحلف. وفي الشرع: الحلف على ترك وطء الزوجة. وإن ترك الوطء بغير يمين لم يكن مؤليا، فإذا كان تركه لعذر من مرض، أو غيبة، ونحوه، لم تضرب له مدة، وإن تركه مضرا بزوجته، ففي رواية له أربعة أشهر، فإن وطئها، وإلا دعي بعدها إلى الوطء، فإن امتنع منه أمر بالطلاق، كما يفعل في الإيلاء سواء، وفي رواية أخرى: لا تضرب له مدة.
والألفاظ التي يكون بها مؤليا، ثلاثة أقسام.
الأول: ما هو صريح في الحكم والباطن- أي في القضاء والديانة- جميعا، وهو ثلاثة ألفاظ، قوله: واللَّه لا آتيك، ولا أدخل، ولا أغيّب، أو أولج ذكرى في فرجك، ولا أفتضك- إذا كانت الزوجة بكرا- فهذه صريحة ولا يديّن فيها.
الثاني: صريح في الحكم، ويديّن فيما بينه وبين اللَّه تعالى، وهي عشرة ألفاظ: لا وطئتك، ولا جامعتك، ولا أصبتك، ولا باشرتك، ولا مسستك، ولا قربتك، ولا أتيتك، ولا باضعتك، ولا باعلتك، ولا اغتسلت منك. فهذه صريحة في الحكم، وأشهرها الجماع والوطء، فلو قال: أردت بالوطء الوطء بالقدم، وبالجماع اجتماع الأجسام، وبالإصابة الإصابة باليد، دين فيما بينه وبين اللَّه تعالى ولم يقبل الحكم.
الثالث: ما لا يكون إيلاء إلا بالنية، وهو ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل الجماع وغيره، كقوله:
واللَّه لا قربت فراشك، لا نمت عندك، فهذه الألفاظ إن أراد بها الجماع واعترف بذلك، كان مؤليا، وإلا فلا.
وهذا النوع الثالث منه ما يفتقر إلى نية الجماع والمدة، حتى تعتبر إيلاء، وذلك مثل:(6/121)
__________
[ () ] لأسوءنك، لأغيظنك، لتطولن غيبتي عنك، فلا يكون مؤليا، حتى ينوى بها ترك الجماع مدة تزيد على أربعة أشهر، ومنه ما يكون مؤليا بنية فقط، وهو سائر ألفاظ الكناية.
وإن قال: واللَّه ليطولن تركي لجماعك، أو لوطئك، أو لإصابتك، فهذا صريح في ترك الجماع، وتعتبر نية المدة دون نية الوطء.
وإن قال لإحدى زوجتيه: واللَّه لا وطئتك، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، لم يصر مؤليا من الثانية على قول، وعلى آخر يكون مؤليا. وكذلك لو الى رجل من زوجته، فقال آخر لامرأته: أنت مثل فلانة لم يكن مؤليا، وإن قال: إن وطئتك فأنت طالق، ثم قال لزوجته الأخرى: أشركتك معها، ونوى، فقد صار طلاق الثانية معلقا على وطئها- أي وطء الثانية- أيضا.
ويصح الإيلاء بكل لغة من العجمية وغيرها ممن يحسن العربية وممن لا يحسنها، فإن آلى بالعجمية من لا يحسنها وهو لا يدرى معناها لم يكن مؤليا، وإن نوى موجبها عند أهلها، وكذلك الحكم إذا آلى بالعربية من لا يحسنها، فإن اختلف الزوجان في معرفته بذلك، فالقول قول الزوج، إذا كان متكلما بغير لسانه.
فأما إن آلى العربيّ بالعربية، ثم قال: جرى على لساني من غير قصد، أو قال ذلك العجمي في إيلائه بالعجمية لم يقبل في الحكم.
ويصح الإيلاء بأن يحلف باللَّه تعالى، أو بصفة عن صفاته. ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك إيلاء، فأما إن حلف على ترك الوطء بغير ذلك مثل: أن يحلف بطلاق، أو عتاق، أو صدقة المال، أو الحج، أو الظهار، فلا يكون مؤليا، في الرواية المشورة، وفي الأخرى: هو مؤل، وعلى الرواية الأخيرة لا يكون مؤليا، إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث فيه حق، كقوله: إن وطئتك فعبدي حر، أو فلله عليّ صوم سنة، أو فأنت طالق، أو فأنت عليّ حرام، ونحوه، فهذا يكون إيلاء.
ويكون مؤليا بنذر فعل المباحات والمعاصي أيضا، فإن نذر المعصية موجب للكفارة في ظاهر المذهب، وإذا استثنى في يمينه- قال: إن شاء اللَّه- لم يكن مؤليا بلا خلاف إذا كانت اليمين باللَّه تعالى، أو كانت يمينا مكفرة- منعقدة- فأما تعليق الطلاق والعتاق، فمن جعل الاستثناء فيهما غير مؤثر، فوجوده كعدمه، ويكون مؤليا بهما، سواء استثنى أم لم يستئن.
ولا يشترط في الإيلاء الغضب. ولا قصد الإضرار، ويصح الإيلاء من كل زوج مكلف قادر على الوطء. أما العاجز عن الوطء، فإن كان لعارض مرجوّ زواله، كالمرض، والحبس، صح إيلاؤه. وإن كان غير موجوّ الزوال كالجبّ- قطع الذكر- والشلل لم يصح إيلاؤه، وهو الأولى.
وأما الخصىّ الّذي سلت بيضتاه، أو رضتا، فيمكن منه الوطء، وينزل ماء رقيقا، فيصح إيلاؤه، وكذلك المجبوب الّذي بقي من ذكره ما يمكن الجماع به، ويصح إيلاء الذمي ويلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضى إلينا.
ويصح الإيلاء من كل زوجة، مسلمة كانت أو ذمية، حرة كانت أو أمة، ويصح الإيلاء من المجنونة، والصغيرة، إلّا أنه لا يطالب بالفيئة في الصغر والجنون، فأما الرتقاء، والقرناء، فلا يصح(6/122)
__________
[ () ] الإيلاء منهما، ويحتمل أن يصح وتضرب له المدة، ويفيء فيء المعذور.
وإن الى من زوجته المطلقة رجعيا صح إيلاؤه، وروى أنه لا يصح، وإذا آلى منها احتسب بالمدة من حين آلى، وإن كانت في العدة. وقيل: لا يحتسب عليه المدة إلا حين يراجعها.
وأما توجيه الإيلاء لأكثر من زوجة، فإن قال لأربع نسوة. واللَّه لا أقربكن فهو مؤل منهن كلهن في الحال. فإن وطئ واحدة منهن حنث، وانحلت يمينه، وزال الإيلاء من البواقي. وإن طلق بعضهن أو ماتت لم ينحل الإيلاء في الباقيات.
وقيل لا يكون مؤليا منهن في الحال، فإن وطئ ثلاثا صار مؤليا من الرابعة فقط، وإن مات بعضهن أو طلقها انحلت يمينه وزال الإيلاء، فإن راجع المطلقة أو تزوجها بعد بينونتها عاد حكم يمينه، وقيل:
إن وطئ واحدة حنث، ولم ينحل الإيلاء في الباقيات.
ومدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الأحرار، والعبيد المسلمين، وأهل الذمة سواء، ولا فرق بين الحرة والأمة، والمسلمة والذمية، والصغيرة والكبيرة، وروى أن مدة إيلاء العبيد شهران. (المغنى) : 11/ 107- 116 مختصرا من المعجم.
قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:
226] . ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المؤلي بأربعة أشهر، الأثر الّذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه في الموطأ، عن عبد اللَّه بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه ... وأرّقنى أن لا ضجيع ألاعبه
فو اللَّه لولا اللَّه أنى أراقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة رضى اللَّه عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر، أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك.
وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس، وكان قد أدرك أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرا، إذ مرّ بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول:
تطاول هذا الليل وازورّ جانبه ... وأرقنى أن لا ضجيع ألاعبه
ألاعبه طورا وطورا كأنما ... بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه
يسرّ به من كان يلهو بقربة ... لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فو اللَّه لولا اللَّه لا شيء غيره ... لنقضّ من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا ... بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه(6/123)
ليس عنده، وقيل: بسبب مارية أم إبراهيم عليه السّلام [ (1) ] ، وقيل: لرد زينب نصيبها من الهدية.
وكان ينفق على نسائه كل سنة [ثمانين] وسقا من شعير، وثمانين وسقا من تمر، وقيل: لم يصح أن هذا العدد لكل واحدة منهن في العام [ (2) ] ، فاللَّه
__________
[ () ]
مخافة ربى والحياء يصدني ... وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
وقد روى هذا من طرق، وهو من المشهورات (تفسير ابن كثير) : 1/ 276.
[ (1) ] (تفسير ابن كثير) : 4/ 415، تفسير سورة التحريم، (فتح الباري) : 9/ 531، كتاب الطلاق، باب (21) قول اللَّه تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلى قوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ، حديث رقم (5289) ، (مسلم بشرح النووي) : 10/ 337، باب (5) في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) ، حديث رقم (30) إلى رقم (35) .
[ (2) ] قال تقى الدين المقريزي: اللَّهمّ صلّ عليه من نبي كان يأكل الطيبات من الطعام، وينكح المبرءات من العيوب والآثام، ويستخدم الموالي من الأرقاء والأحرار، ويصرفهم في مهنته مهماته الجليلات الأقدار، ويركب البغلة الراتعة ويلبس الحبرة والقباء، ويمشى منتعلا وحافيا من مسجده إلى نحو قباء، ويدخر لأهله مما أتاه اللَّه عليه أقوات سنة كاملة، ويجعلها تحت أيديهم محرزة حاصلة، ويؤثر بقوته وثوبه أهل الحاجة والمساكين، ثقة منه بخير الرازقين (إمتاع الأسماع) : 1/ 3 مقدمة المؤلف، لكن قال القسطلاني تحت [إشكال وجواب] :
وقد استشكل كونه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا، مع ما يثبت أنه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يرفع لأهله قوت سنة، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلم قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير مما أفاء اللَّه عليه، وأنه ساق في عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابى بقطيع من الغنم، وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال، كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه، وقد أمر بالصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة، فجهزهم عثمان بألف بعير، إلى غير ذلك.
وأجاب عنه الطبري- كما حكاه في (فتح الباري) - أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة، لا لعوز وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهة الشبع وكثرة الأكل.
وتعقب بأن ما نفاه مطلقا فيه نظر، لما تقدم من الأحاديث.
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة: من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك، إلى غير ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة، حيث كانوا بمكة، ثم(6/124)
أعلم. فقد كان لكل واحدة منهن الإماء والعبيد [الموالي] ، في حياته صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ () ] لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم.
وقد قال صلّى اللَّه عليه وسلم: لقد أخفت في اللَّه وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في اللَّه وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله أحد إلا شيء يواريه إبط بلال. رواه الترمذي وصححه.
نعم، كان صلّى اللَّه عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له كما أخرج الترمذي من حديث أبى أمامة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: عرض عليّ ربى ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك، وحكمة هذا التفصيل الاستلذاد بالخطاب، وإلا فاللَّه تعالى عالم بالأشياء جمله وتفصيلا، (المواهب اللدنية) : 2/ 388- 389.(6/125)
[فصل في] ذكر قوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على الجماع
قال ابن قتيبة في (غريبه) في حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال له رجل: يا رسول اللَّه هل أنزل عليك طعام من السماء؟ قال: نعم، أنزل عليّ طعام بمسخنة. يرويه أرطاة ابن المنذر، عن ضمرة بن حبيب، عن سلمة بن نفيل السكونيّ، قال: المسخنة: قدر كأنها ثور.
وفي حديث آخر: أتانى جبريل بقدر يقال له الكفيت، فأكلت منها أكلة، فأعطيت قوة أربعين رجلا في الجماع.
قال: وأحسب الكفيت والكفت شيئا واحدا، وهي قدر لطيفة [ (1) ] .
وقال ابن سعد في (طبقاته) : أخبرنا عبيد اللَّه بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن صفوان بن سليم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أتانى جبريل عليه السلام بقدر فأكلت منها، فأعطيت قوة أربعين رجلا في الجماع [ (2) ] .
أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسان، حدثنا إسرائيل عن ليث عن مجاهد قال: أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضع أربعين رجلا، وأعطى كل رجل من أهل الجنة بضع ثمانين [ (3) ] .
أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الأسدي وقبيصة بن عقبة قالا: حدثنا سفيان عن معمر عن ابن طاووس قال: أعطى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قوة أربعين رجلا في الجماع.
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 11/ 406، حديث رقم (31896) ، عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبى هريرة، (31897) ، عن صفوان بن سليم مرسلا.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 374، ذكر ما أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من القوة على الجماع.
[ (3) ] المرجع السابق.(6/126)
وخرج البخاري من حديث معاذ بن هشام، حدثني أبى عن قتادة قال:
حدثنا أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن أحد عشرة، قلت لأنس، أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين. قال أبو عبيد اللَّه: وقال سعيد عن قتادة: أن أنسأ حدثهم: تسع نسوة. ذكره في باب: إذا جامع ثم عاود، ومن دار على نسائه في غسل واحد [ (1) ] .
وقال الحافظ أبو نعيم: أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد- يعنى الطبراني- حدثنا محمد بن هارون ومحمد بن بكار، حدثنا العباس بن الوليد الخلال، حدثنا مروان بن محمد الظاهري، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فضّلت على الناس بأربع:
بالسماحة والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش [ (2) ] ،
وقال مقاتل بن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) 1/ 497، كتاب الغسل، باب (12) إذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (268) باب (24) الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره، حديث رقم (284) ، 9/ 140، كتاب النكاح، باب (4) كثرة النساء، حديث رقم (5068) ، 9/ 394، كتاب النكاح، باب (103) من طاف على نسائه في غسل واحد، حديث رقم (5215) .
[ (2) ] (دلائل أبى نعيم) : 1/ 67، الفصل الرابع، ذكر الفضيلة الرابعة بإقسام اللَّه تعالى بحياته، وتفرده بالسيادة لولد آدم في القيامة، وما فضل به هو وأمته على سائر الأنبياء وجميع الأمم صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (30)
قال: حدثني أبو سعيد أحمد بن أبتاه قال: حدثنا الحسن بن إدريس، حدثنا قتيبة بن سعيد، وحدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان قال: حدثنا خالد بن يوسف قالا: حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبى سلمة، عن أبيه عن أبى هريرة قال: عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: فضلت على النبيين بستّ، أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، وأرسلت إلى الناس كافة، وأحلت لي الغنائم، وختم بى النبيون.
هذا الحديث أخرجه مسلم في (الصحيح) في كتاب المساجد، من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة، وذكر الأمور الستة التي ذكرت في هذا الحديث، وأخرجه البخاري في (الصحيح) ، في كتاب التيمم من حديث جابر: أعطيت خمسا.. فذكر الحديث، والإمام أحمد في (المسند) : 3/ 134، دون ذكر كثرة الجماع.
وذكر ابن الجوزي في (العلل المتناهية) ، من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه(6/127)
حبان: أعطى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بضع سبعين شابا فحسدته اليهود، فنزل: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ (1) ] .
__________
[ () ] صلّى اللَّه عليه وسلم: فضلت على الناس بأربع: بالسخاء، والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش. قال ابن الجوزي:
هذا لا يصح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. (العلل المتناهية) : 2/ 175، باب تفضيله صلّى اللَّه عليه وسلم بالكرم والقوة.
وذكره الخطيب البغدادي في ترجمة الحسين بن على النخعي، (تاريخ بغداد) : 8/ 69- 70، ترجمة رقم (4144) .
وقال الحافظ الذهبي: الحسين بن على النخعي، شيخ كتب عنه الإسماعيلي، عمر وتغير، ولا يعتمد عليه، وأتى بخبر باطل، قال: حدثنا العباس بن الوليد الخلال، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سعيد، حدثنا قتادة، عن أنس مرفوعا: فضلت بأربع: بالسخاء، والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش. رواه عنه الإسماعيلي. (ميزان الاعتدال) : 1/ 543، ترجمة الحسين بن على النخعي رقم (2030) .
وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية) : طاووس: أعطى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قوة أربعين رجلا في الجماع، مجاهد قال: أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قوة بضع وأربعين رجلا، كل رجل من أهل الجنة.
هما للحارث، وكلاهما مرسل منقطع. (المطالب العالية) : 4/ 27- 28، باب قوته صلّى اللَّه عليه وسلم على الجماع حديث رقم (3869) ، (3870) .
[ (1) ] قال أبو حيان الأندلسى في تفسير قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ:
وقال ابن عباس والسدي أيضا: والفضل ما أبيح له من النساء.
وسبب نزول هذه الآية عندهم، أن اليهود قالت لكفار العرب: انظروا إلى هذا الّذي يقول إنه بعث بالتواضع، وأنه لا يملأ بطنه طعاما، ليس همه إلا في النساء، ونحو هذا، فنزلت.
والمعنى: لم تخصونه بالحسد، ولا تحسدون آل إبراهيم- يعني- سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما في أمر النساء، وهو ما روى أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، ولداود مائة امرأة. فالملك في هذه الآية: إباحة النساء، كأنه المقصود أولا بالذكر. (البحر المحيط) : 3/ 678.
وقال أبو القاسم جار اللَّه محمود بن عمر الزمخشريّ: وعن ابن عباس، الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان، وقيل: استكثروا نساءه، فقيل لهم: كيف استكثرتم له التسع، وقد كان لداود مائة، وسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ (الكشاف) : 1/ 274.(6/128)
فصل [في ذكر سراري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سريتان [ (1) ] : مارية، وريحانة.
[مارية] [ (2) ] [ (3) ]
فأما مارية بنت شمعون القبطية، فبعث بها المقوقس صاحب
__________
[ (1) ] لكن ذكر أبو الفرج ابن الجوزي، أن سراري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: مارية القبطية، بعث بها إليه المقوقس، وريحانة بنت زيد، ويقال: إنه تزوجها، وقال الزهري: استسرها ثم أعتقها فلحقت بأهلها.
وقال أبو عبيدة كان له أربع: مارية، وريحانة، وأخرى جميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. (صفة الصفوة) : 1/ 276، ذكر سراري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقال القسطلاني: وأما سراريه صلّى اللَّه عليه وسلم فقيل: إنهن أربعة:
[ (2) ] مارية القبطية بنت شمعون- بفتح الشين المعجمة- أهداها له المقوقس القبطي، صاحب مصر والإسكندرية، وأهدى معها أختها سيرين- بكسر السين المهملة، وسكون المثناة التحتية، وكسر الراء، وبالنون آخرها- وخصيا يقال له: مأبور، وألف مثقال ذهبا- وعشرين ثوبا لينا من قباطي مصر، وبغلة شهباء- وهي دلدل- وحمارا أشهب- وهو عفير ويقال يعفور- وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالعسل ودعا في عسل بنها بالبركة. قال ابن الأثير: وبنها- بكسر الباء وسكون النون- قرية من قرى مصر، بارك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء. ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن بن حسان، ومارية أم إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. وماتت مارية في خلافة عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه سنة ست عشرة ودفنت بالبقيع.
* وريحانة بنت شمعون من بنى قريظة، وقيل: من بنى النضير، والأول أظهر، وماتت قبل وفاته صلّى اللَّه عليه وسلم، مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان صلّى اللَّه عليه وسلم وطئها بملك اليمين، وقيل:
أعتقها وتزوجها.
* وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش.
* الرابعة أصابها في بعض السبي. (المواهب اللدنية) : 2/ 100- 101، (زاد المعاد) : 1/ 114.
[ (3) ] سبق طرف من ترجمتها ضمن ترجمة ولدها إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في فصل ذكر أولاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، لها ترجمة وافية في: (الإصابة) : 8/ 111- 112، ترجمة رقم (11737) ، (الاستيعاب) : 4/ 1912- 1913، ترجمة رقم (4091) ، (تاريخ الإسلام) : 2/ 597، (طبقات ابن سعد) :
8/ 216، (أعلام النساء) : 5/ 10- 11، (المواهب اللدنية) : 2/ 100- 101، (أسماء الصحابة الرواة) : 349 ترجمة رقم (553) ، (تلقيح فهوم أهل الأثر) : 359، (حلية الأولياء) :
2/ 70، ترجمة رقم (150) ، (شذرات الذهب) : 1/ 29، (مغازي الواقدي) 1/ 378.(6/129)
الإسكندرية مدينة بأرض مصر- في سنة سبع مع حاطب بن أبى بلتعه لما أتاه بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وبعث معها بأختها سيرين.
وفي رواية: أنه بعث ثلاث جوار: أم إبراهيم، وواحدة وهبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأبى جهم بن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت، وألف مثقال من الذهب، وعشرين ثوبا، وبغلة، وحمارا، وخصيا، كل ذلك هدية، فلما خرج [حاطب] بمارية عرض عليها الإسلام فأسلمت وأختها، وأقام الخصىّ على دينه حتى أسلم بالمدينة، فأعجب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمارية- وكانت بيضاء جميلة جعدة الشعر، وكانت أمها رومية- فأنزلها في المال الّذي يعرف بمشربة أم إبراهيم [ (1) ] ، وصار يختلف إليها هناك، وضرب عليها الحجاب، واتخذها لفراشه فحملت بإبراهيم، وولد في ذي الحجة سنة ثمان، فقبلتها سلمى مولاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وحضنته أم بردة كبشة بنت المنذر بن زيد بن لبيد،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلم- لما ولد إبراهيم-: أعتق أمّ إبراهيم ولدها [ (2) ] .
ومات إبراهيم وهو يرضع، فلما توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان أبو بكر رضى اللَّه عنه ينفق على مارية حتى توفاه اللَّه، ثم كان عمر رضى اللَّه عنه ينفق عليها حتى ماتت في رمضان لسنتين من خلافته، وقيل: ماتت في المحرم سنة ست عشرة.
__________
[ (1) ] مغازي الوافدى) : 1/ 378.
[ (2) ] سنده ضعيف، وقد سبق أن أشرنا إليه في الكلام على أبنائه صلّى اللَّه عليه وسلم.(6/130)
[ريحانة]
[ (1) ] وريحانة بنت شمعون بن زيد- ويقال: زيد بن خنافة- من بنى
__________
[ (1) ] هي ريحانة بنت شمعون بن زيد، وقيل زيد بن عمرو بن قنافة- بالقاف- أو خنافة- بالخاء المعجمة، من بنى النضير. وقال ابن إسحاق: من بنى عمر بن قريظة.
وقال ابن سعد: ريحانة بنت زيد بن عمر خنافة بن شمعون بن زيد من بنى النضير، وكانت متزوجة رجلا من بنى قريظة يقال له: الحكم، ثم روى ذلك عن الواقدي.
قال ابن إسحاق في (الكبرى) : كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سباها فأبت إلا اليهودية، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في نفسه، فبينما هو مع أصحابه، إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: هذا ثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة، فبشره وعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول اللَّه، بل تتركني في ملكك، فهو أخفّ عليّ وعليك، فتركها. وماتت قبل وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بسنة عشر. وقيل: لما رجع من حجة الوداع.
وأخرج ابن سعد عن الواقدي بسند له عن عمر بن الحكم، قال: كانت ريحانة عند زوج لها يحبها، وكانت ذات جمال، فلما سبيت بنو قريظة، عرض السبي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فعزلها، ثم أرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قيس، حتى قتل الأسرى وفرق السبي، فدخل إليها فاختبأت منه حياء.
قالت: فدعاني فأجلسنى بين يديه، وخيّرتى فاخترت اللَّه ورسوله، فأعتقنى وتزوج بى، فلم تزل عنده حتى ماتت، وكان يستكثر منها ويعطيها ما تسأله، وماتت مرجعه من الحج، ودفنها بالبقيع.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني صالح بن جعفر، عن محمد بن كعب قال:
كانت ريحانة مما أفاء اللَّه على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت جميلة وسيمة، فلما قتل زوجها وقعت في السّبى، فخيرها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوجها، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة فطلقها، فشق عليها، وأكثرت البكاء، فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت قبل وفاته صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأخرج من طريق الزهري أنه لما طلقها كانت في أهلها، فقالت: لا يراني أحد بعده. قال الواقدي:
وهذا وهم، فإنّها توفيت عنده صلّى اللَّه عليه وسلم.
وذكر محمد بن الحسن في (أخبار المدينة) ، عن الدراوَرْديّ، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلّى في منزل من دار قيس بن فهد، وكانت ريحانة القرظية زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تسكنه.
وقال أبو موسى: ذكرها ابن مندة في ترجمة مارية، ولم يفردها بترجمة ... وقيل: اسمها ربيحة- بالتصغير.
قال: الحافظ في (الإصابة) : بل أفردها، فإنه قال ما هذا نصه بعد ذكر الأزواج الحرائر: وسبى(6/131)
قريظة، ويقال: من بنى النضير، والأكثر أنها من بنى قريظة، ويقال: اسمها ربيحة، كانت متزوجة في بنى قريظة بابن عم لها يقال له: الحكم أو عبد الحكم، فلما غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قريظة وغنم أموالهم، أخذ ريحانة صفيا- وكانت جميلة- فعرض عليها أن تسلم، فأبت إلا اليهودية، فعزلها ووجد في نفسه.
فأرسل إلى ابن سعية، فذكر له ذلك فقال: فداك أبى وأمى، هي تسلم، وخرج حتى جاءها، فجعل يقول لها: لا تتبعى قومك، فقد رأيت ما حل [على آل] حيي بن أخطب، وأسلمى يصطفيك رسول اللَّه لنفسه.
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أصحابه، إذ سمع وقع نعل فقال: إن هاتين لنعلا ابن سعية يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول اللَّه، قد أسلمت ريحانة، فسرّ بذلك، وأرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة، ثم طهرت من حيضتها.
فجاءها في منزل أم المنذر،
فقال لها: إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي وأطؤك بالملك فعلت،
فقال:
__________
[ () ] جويرية في غزوة المريسيع، وهي ابنة الحارث بن أبى ضرار، وسبى صفية بنت حيي بن أخطب من بنى النضير، وكانت مما أفاء اللَّه عليه، فقسم لهما، واستسرى جاريته القبطية فولدت له إبراهيم، واستسرى ريحانة من بنى قريظة، ثم أعتقها فلحقت بأهلها، واحتجبت، وهي عند أهلها. وهذه فائدة جليلة، أغفلها ابن الأثير.
وأخرج ابن سعد عن الواقدي من عدة طرق، أنه صلّى اللَّه عليه وسلم تزوجها، وضرب عليها الحجاب، ثم قال:
وهذا الأثر عند أهل العلم. وسمعت من يروى أنه كان يطؤها بملك اليمين.
وأورد ابن سعد من طريق أيوب بن بشر المعافري، أنها خيّرت، فقالت: يا رسول اللَّه، أكون في ملكك، فهو أخفّ عليّ وعليك، فكانت في ملكه يطؤها إلى أن ماتت، لها ترجمة في: (الإصابة) :
7/ 658- 660، ترجمة رقم (11197) ، (الاستيعاب) : 4/ 1847، ترجمة رقم (3350) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 92، (أعلام النساء) : 1/ 474، (عيون الأثر) : 2/ 309، (صفة الصفوة) : 1/ 78، (المواهب اللدنية) : 2/ 100- 101.(6/132)
يا رسول اللَّه، إني أخفّ عليك، وعليّ أن أكون في ملكك، فكانت في ملكه يطؤها حتى ماتت، وكان قد جعلها في محل له يدعى الصدقة، وكان ربما قال عندها وعندها وعك، فأتى منزل ميمونة، ثم تحول إلى بيت عائشة رضى اللَّه عنها.
وعن الزهري: كانت ريحانة بنت شمعون قريظية، وكانت من ملك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها، وجعل [صداقها عتقها] ، ثم إنه طلقها، فكانت في أهلها تقول: لا يراني أحد بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وعن محمد بن كعب القرظي: كانت ريحانة من قريظة صفى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ، فأعتقها وتزوجها، فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة ثم راجعها، فكانت عنده حتى ماتت قبل أن يتوفاه اللَّه.
وكانت ريحانة تقول: تزوجني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومهرنى مثل مهر نسائه، وكان يقسم لي، وضرب عليّ الحجاب، وكان تزويجه إياي في المحرم سنة ست من الهجرة.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: كان للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم سريتان:
[مارية] [ (1) ] القبطية، وريحانة بنت شمعون، وصحح الواقدي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعتقها وتزوج بها، والّذي ذهب إليه أبو عمر بن عبد البر: أن ريحانة ماتت قبل وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في سنة عشر، مرجعه من حجة الوداع.
وعن ابن سيرين: أن رجلا لقي ريحانة بالموسم فقال: إن اللَّه لم يرضك للمؤمنين أمّا، قالت وأنت فلم يرضك اللَّه لي ابنا.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(6/133)
فصل في ذكر أسلاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
السّلفان والسّلفان: متزوجان الأختين، والجمع أسلاف، وقال ابن الأعرابي: ليس في النساء سلفة، إنما السلفان في الرجال. وقال كراع:
السلفان: المرأتان تحت الأخوين [ (1) ] وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الأسلاف سبعة وأربعون رجلا، ستة من قبل خديجة، وثلاثة من قبل عائشة، وأربعة من قبل حفصة، وسبعة من قبل أم سلمة، وأحد عشر من قبل أم حبيبة، واثنان من سودة، وعشرة من قبل ميمونة، وثلاثة من قبل زينب بنت جحش، وواحد من قبل مارية.
[أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل خديجة]
فأما أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل خديجة فإنّهم: الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس ابن عبد مناف [ (2) ] أمة وأم أخيه ربيعة [ (3) ] : أم المطاع ابنة أسد ابن
__________
[ (1) ] وقال في (التهذيب) : السلفان رجلان تزوجا بأختين، كل واحد منهما سلف صاحبه، والمرأة سلفة لصاحبتها إذا تزوج أخوان بامرأتين. وقال الجوهري: وسلف الرجل زوج أخت امرأته، وكذلك سلفه، مثل كذب وكذب. قال عثمان بن عفان:
معاتبة السلفين تحسن مرة ... فإن أدمنا إكثارها أفسدا الحبا
(لسان العرب) : 9/ 160- 161.
[ (2) ] ، (3) الربيع، وربيعة ابنا عبد العزي، فولد الربيع أبو العاصي، واسمه القاسم، صهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، زوّجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابنته الكبرى زينب، وأسلم وحسن إسلامه، وحمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مصاهرته، ماتت زينب رضى اللَّه عنها عنده، وولدت له على بن أبى العاصي، مات مراهقا. وأمامة بنت أبي العاصي، تزوجها علي بن أبى طالب بعد فاطمة- رضي اللَّه عنهم جميعا- وتوفي أبو العاصي في ذي الحجة سنة (12) في خلافة أبي بكر، ولا عقب لأبى العاصي ولا لأبيه الربيع.
وتزوج أبو العاصي بن الربيع بعد موت زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأختة بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وفاختة بنت أبي أحيحة سعيد بن أبى العاصي، فولدت له بنت أبي أحيحة ابنة اسمها مريم، تزوجها محمد بن عبد الرحمن بن عوف، فولدت له القاسم، وللقاسم هذا عقب باق. (جمهرة أنساب العرب) : 77- 78.(6/134)
عبد العزى بن قصي، وهما اللذان غضبا لأم حبيبة بنت عبد شمس لما خرجت إلى الطائف، وقد أكثرت من رحل من بنى عقيل، فلقيها بعض بنى بكر وقتلوا العقيلي، فرجعت إلى مكة، وجاءت حرب بن أمية بن عبد شمس وطلبت منه أن يأخذ لها بثأر العقيلي فقال: لا سبيل إلى ما قبل بنى بكر، فأتت الربيع والربيعة ابني عبد العزى بن عبد شمس، فشكت إليهما ما لقيته وما قال لها حرب، وتحفرت بالعقيلى فقاما معها وغضبا لها حتى أخذا لها الدية، فبعث بها إلى أهل العقيلي، فمدحهما الخليع شاعر بنى عقيل، وتزوج الربيع هذا بهالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها وأمها، فاطمة ابنة زائدة بنت جندب بن هدم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر بن لؤيّ، فولدت له أبا العاصي بن الربيع زوج زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وابن خالتها، ومات الربيع عن هالة، فخلف عليها أخوه ربيعة بن عبد العزى، وقد انقرض ولد الربيع بن عبد العزى بن هاله، ولربيعة عقب، ومات وبيعة عن هاله فخلف عليها قطن بن وهب بن عمرو بن حبيب بن سعد بن عائذ بن مالك المصطلقيّ من خزاعة، فولدت له عبد العزى بن قطن الّذي شبهه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بقمر بنى لحي [ (1) ] وعلاج بن أبى سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، كانت تحته خالدة بنت خويلد أخت خديجة. [ (2) ]
وعبد بن بجاد [بن عبد اللَّه] [ (3) ] بن عمير بن الحارث بن حارثة بن سعد
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 204- 208، خروج زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة، وما أصابها عند خروجها، (جمهرة أنساب العرب) : 171
[ (2) ] (جمهرة أنساب العرب) : 268.
[ (3) ] زيادة للنسب من (الإصابة) .(6/135)
ابن تيم بن مرة بن كعب، كانت تحته رقيقة [ (1) ] بنت خويلد أخت خديجة لأبيها، فولدت له أميمة بنت بجاد، وهي التي يقال لها بنت رقيقة [ (2) ] وهي من المبايعات، حدث عنها محمد بن المنكدر [ (3) ] .
[سلفاه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل سودة]
وأما سلفاه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل سودة رضى اللَّه عنهما، فهما: حويطب ابن عبد العزّى بن أبى قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن خسل بن عامر بن لؤيّ بن غالب القرشيّ العامري، أبو محمد، وقيل: أبو الأصبغ، أمه وأم أخيه رهم بن عبد العزّى: زينب بنت علقمة بن غزوان بن يربوع بن الحرث بن منقذ بن عمرو بن معيص، أسلم يوم الفتح، وهو من المؤلفة [قلوبهم] [ (4) ] ، وأعطى يوم حنين مائة بعير، [وهو] [ (4) ] أحد النفر الذين أمرهم عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه بتجديد [أنصاب] [ (4) ] الحرم، ومات
__________
[ (1) ] في (خ) : «رفيقه» وصوبناه من (الإصابة) .
[ (2) ] رقيقة بالتصغير.
[ (3) ] (الإصابة) : 7/ 508، ترجمة أميمة بنت بجاد رقم (10840)
[ (4) ] زيادة للسياق، وأنصاب الحرم: حدوده، وحد الحرم من طريق الغرب التنعيم، ثلاثة أميال، ومن طريق العراق: تسعة أميال، ومن طريق اليمن سبعة أميال، ومن طريق الطائف: عشرون ميلا.
وقد روى حويطب بن عبد العزى، عن عبد اللَّه بن السعدي، عن عمر رضى اللَّه عنه حديث العمالة، ورواه عنه السائب بن يزيد الصحابي، وقد أخرجه البخاري في (الصحيح) ، في الأحكام، باب رزق الحاكم والعاملين عليها من طريق أبي اليمان، عن شعيب عن الزهري، أخبرني السائب بن يزيد ابن أخت نمر، أن حويطب بن عبد العزي، أخبره أن عبد اللَّه بن السعدي أخبره أنه قدم علي عمر في خلافته، فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالا، فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقلت: بلى: فقال عمر: ما تريد إلي ذلك؟ فقلت: أن لي أفراسا وأعبدا، وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة علي المسلمين.
قال عمر: لا تفعل، فإنّي كنت أردت الّذي أردت وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه منى، حتى أعطانى مرة مالا، فقلت: أعطه أفقر إليه منى،
فقال النبي(6/136)
بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن مائة وعشرين سنة أدرك منها في الجاهلية ستين سنة، وكانت تحته أم كلثوم ابنة زمعة أخت سودة لأبيها وأمها، فولدت له عبد الرحمن بن حويطب.
وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ، القرشي الزهري [أبو محمد] ، كان اسمه في الجاهلية: عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عبد الرحمن [أمه] : الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة، ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل دخول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا وما بعدها، وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان له حظ في التجارة، وكسب مالا كثيرا، خلف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس، وصولحت امرأته عن ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفا، ومات بالمدينة سنة إحدى وثلاثين، وقيل:
ثنتين وثلاثين، عن خمس وأربعين سنة، وقيل عن اثنتين وسبعين سنة،
__________
[ () ] صلّى اللَّه عليه وسلم خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذ، وإلا فلا تتبعه نفسك.
وقال الحافظ الذهبي ولا نعلم حويطبا يروي سواه، ثم قال: ومن لطائف هذا الإسناد أن الزهري رواه عن أربعة من الصحابة في نسق: السائب، وحويطب، وابن السعدي، وعمر.
له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 454، (طبقات خليفة) : 27، (تاريخ خليفة) :
223، (التاريخ الكبير) : 3/ 127. (المعارف) : 311، 112، 342، (الجرح والتعديل) :
3/ 314، (المستدرك) : 3/ 561- 563، حديث رقم (6082/ 1680) إلى (6084/ 1682) ، (الاستيعاب) : 1/ 399- 400، ترجمة رقم (557) ، (تهذيب التهذيب) : 3/ 58- 59، ترجمة رقم (125) ، (الإصابة) : 2/ 143، ترجمة رقم (1884) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 272، ترجمة رقم (1728) ، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 540- 541 ترجمة رقم (111) .(6/137)
وتزوج أم حبيبة بنت جحش أخت زينب [ (1) ] بنت جحش [ (2) ] .
وذكر مالك في الموطأ: عن هشام بن عروة، عن أبيه عن زينب بنت أبى سلمة أنها رأت زينب ابنة جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكانت تستحاض، فكانت تغتسل وتصلى [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «أخت سودة بنت زمعة» .
[ (2) ] له ترجمة في: (كنز العمال) : 3/ 220- 230، (تاريخ الخميس) : 2/ 257، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 147، ترجمة رقم (4209) ، (الإصابة) : 4/ 346- 350، ترجمة رقم (5183) ، (تهذيب التهذيب) : 6/ 221- 222، ترجمة رقم (493) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 300- 302، (جامع الأصول) : 9/ 19- 20 (صفة الصفوة) :
1/ 183- 186، (الاستيعاب) : 2/ 844- 850، ترجمة رقم (1447) ، (حلية الأولياء) :
1/ 98- 100، ترجمة رقم (9) ، (المستدرك) : 3/ 345- 352، (الجرح والتعديل) : 5/ 247، (المعارف) : 235- 240، (التاريخ الصغير) : 1/ 50، 60، 61، (التاريخ الكبير) :
5/ 240، (تاريخ خليفة) : 166، (طبقات خليفة) : 15، (طبقات ابن سعد) : 3/ 124- 136 (مسند أحمد) : 1/ 312- 320، (شذرات الذهب) : 1/ 38، (سير أعلام النبلاء) :
1/ 68- 29، ترجمة رقم (4) .
وقد أفرد ابن سعد في (الطبقات) فصلا في ذكر أزواج عبد الرحمن بن عوف وولده، وذكر خمس عشرة زوجة ليس من بينهن ما يفيد أنه رضى اللَّه عنه كان من أسلاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، على خلاف ما ذكره التقى المقريزي وهن: أم كلثوم بنت عقبة بن ربيعة، وبنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط بن أبى عمرو بن أمية بن عبد شمس، وسهلة بنت عاصم بن عدي، وبحرية بنت هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وسهلة بنت سهيل ابن عمرو، وأم حكيم بنت قارض بن خالد، وابنة أبى الحيس بن رافع بن امرئ القيس، وتماضر بنت الأصبغ بن عمرو، وأسماء بنت سلامة بن مخربة بن جندل، وأم حريث من سبى بهراء، ومجد بنت يزيد بن سلامة، وغزال بنت كسرى أم ولد من سبى سعد بن أبى وقاص يوم المدائن، وزينب بنت الصباح بن ثعلبة بن عوف من سبى بهراء أيضا، وبادية بنت غيلان بن سلمة بن معتّب الثقفي.
(طبقات ابن سعد) : 3/ 127- 128، ذكر أزواج عبد الرحمن بن عوف وأولاده.
[ (3) ] (موطأ مالك) : 51- 52، باب المستحاضة، حديث رقم (134) ، وقال العلامة محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقانى: قال عياض: اختلف أصحاب الموطأ في هذا، فأكثرهم يقولون: زينب،(6/138)
قال ابن عبد البر: هكذا رواه [] عن مالك في الموطأ وهو وهم، لانه
__________
[ () ] منهم يقول: ابنة جحش، وهذا هو الصواب، ويبين الوهم فيه قوله: «التي كانت تحت عبد الرحمن ابن عوف» ، وزينب هي أم المؤمنين لم يتزوجها عبد الرحمن قط، وإنما تزوجها زيد بن حارثة، ثم تزوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، والتي كانت تحت عن الرحمن هي أم حبيبة.
وقال ابن عبد البر: قيل: إن بنات جحش الثلاثة زينب، وأم حبيبة، وحمنة زوج طلحة بن عبيد اللَّه كن يستحضن كلهن، وقيل: لم يستحض منهن إلا أم حبيبة.
وذكر القاضي يونس بن مغيث في كتابة (الموعب في شرح الموطّأ) مثل هذا، وذكر أن كل واحدة منهن اسمها زينب، ولقب إحداهن حمنة، وإذا كان كذلك فقد سلم مالك من الخطأ في تسمية أم حبيبة زينب، وقد ذكر البخاري من حديث عائشة: أن امرأة من أزواجه صلّى اللَّه عليه وسلم كانت تستحاض، وفي رواية: أن بعض أمهات المؤمنين، وفي أخرى: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اعتكف مع بعض نسائه وهي مستحاضة.
وفي (فتح الباري) : قيل: حديث الموطأ هذا وهم، وقيل: صواب، وإن اسمها زينب، وكنيتها أم حبيبة بإثبات الهاء على المشهور في الروايات الصحيحة للواقدي، وتبعه إبراهيم الحربي: الصحيح أم حبيب بلا هاء، واسمها حبيبة، وإن رجحه الدار قطنى، قال: وأما أختها أم المؤمنين، فلم يكن اسمها الأصلي زينب، وإنما كان اسمها برّة، فغيره النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وفي أسباب النزول للواحدي: إنما كان اسمها زينب بعد أن تزوجها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلعله سماها باسم أختها ثم غلبت عليها الكنية، فأين اللبس؟ قال: - أعنى الحافظ- ولم ينفرد الموطأ بتسمية أم حبيبة زينب، بل وافقه يحى بن كثير، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسندة. وبه يردّ قول صاحب (المطالع) : لا يلتفت لقول من قال: إن بنات جحش اسم كل منهن زينب، لأن أهل المعرفة بالأنساب لا يثبتونه، وإنما حمل عليه من قاله أن لا ينسب إلى مالك وهم، كذا قال، وقد علم أنه لم ينفرد به.
(شرح الزرقانى على الموطأ) : 1/ 181، كتاب الطهارة، باب (37) في المستحاضة، شرح الحديث رقم (134) .
في (الاستيعاب) : أم حبيبة، ويقال: أم حبيب ابنة جحش ابن رئاب الأسديّ أخت زينب بنت جحش، وأخت حمنة بنت جحش، وأكثرهم يسقطون الهاء، فيقولون: أم حبيب كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكانت تستحاض.
وأهل السير يقولون: إن المستحاضة حمنة، والصحيح عند أهل الحديث أنهما كانتا تستحاضان جميعا. وقد قيل: إن زينب بنت جحش استحيضت، ولا يصح. وفي الموطأ وهم، أن زينب بنت جحش استحيضت، وأنها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وهذا غلط، إنما كانت تحت زيد بن حارثة، ولم تكن تحت عبد الرحمن بن عوف، والغلط لا يسلم منه أحد، وزعم بعض الناس أن أم حبيب هذه اسمها حبيبة. (الاستيعاب) : 4/ 1928- 1929، ترجمة رقم (4135) .(6/139)
لم تكن قط زينب بنت جحش تحت عبد الرحمن بن عوف، وإنما كانت تحت زيد بن حارثة، ثم كانت تحت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وإنما كانت تحت عبد الرحمن ابن عوف أمّ حبيبة بنت جحش، وكنّ ثلاث أخوات كما ذكرنا، وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف، وحمنة بنت جحش تحت طلحة بن عبد اللَّه، وقد قيل: إن بنات جحش ما استحض، وقيل: لم يستحض منهن إلا أم حيبة وحمنة، واللَّه أعلم.(6/140)
أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل عائشة
وأما أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل عائشة رضى اللَّه عنها إنهم: الزبير بن العوام، كانت تحته أسماء ذات النطاقين، وابنة أبى بكر الصديق، من قبيلة تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن نضر بن نزار بن معدّ بن عدنان] [ (1) ] ، وهي أخت عائشة رضى اللَّه عنها لأبيها، فولدت له عبد اللَّه [وعروة والمنذر وعاصما وخديجة الكبرى] [ (2) ] ، وأم الحسن وعائشة بنى الزبير، وقد تقدم من التعريف به ما أغنى عن إعادته [ (3) ] .
وطلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ [بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، القرشيّ، التيمي، المكيّ] [ (4) ] أبو محمد، وأمه الحضرمية، اسمها الصعبة بنت عبد اللَّه بن عماد بن مالك بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عويف بن مالك بن الخزرج بن إياه بن الصدف بن حضر موت بن كندة، يعرف أبوها عبد اللَّه بالحضرمي، ويقال لها: بنت الحضرميّ، يكنى طلحة أبو محمد، ويعرف بطلحة الفياض.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، وما أثبتناه من (معجم قبائل العرب) : 1/ 138.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من (طبقات ابن سعد) .
[ (3) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 3/ 100- 113، (طبقات خليفة) : 13، 189، 291، (تاريخ خليفة) : 68، (التاريخ الكبير) : 3/ 409، (التاريخ الصغير) : 1/ 75، (المعارف) :
219- 227، (الجرح والتعديل) : 3/ 578، (حلية الأولياء) : 1/ 89، (جامع الأصول) :
9/ 5- 10، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 194- 196، (تاريخ الخميس) : 1/ 172، (كنز العمال) : 13/ 204- 212، (شذرات الذهب) : 1/ 42- 44، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 41- 67.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للنسب من كتب التراجم.(6/141)
وهو أحد المهاجرين الأولين، آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك، ولم يشهد [بدرا] ، فضرب له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بسهمه،
فلما قدم قال: يا رسول اللَّه! وأجرى؟ قال: وأجرك، وشهد أحدا [وما بعدها] وكان له بلاء حسن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقاه يومئذ بنفسه، واتقى عنه النبل بيده حتى شلت [إصبعه] ، وضرب في رأسه، وحمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على رأسه، ظهره حتى استقل على الصخرة، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اليوم أوجب طلحة [ (1) ] ، ثم شهد المشاهد كلها،
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد أصحاب الشورى الستة، ثم شهد وقعة الجمل محاربا لعلى رضى اللَّه عنهما، فذكّره أشياء فرجع عن قتال عليّ، واعتزل في بعض الصفوف، فرماه مروان بن الحكم بسهم، فلم يزل ينزف دمه حتى مات في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين عن ستين- وقيل: بضع وستين- سنة، كانت تحته أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق [ (2) ] . أخت عائشة من حبيبة بنت خارجة بن رهم الأنصاري، فهي أخت عائشة لأبيها، فولدت لطلحة زكريا [ويوسف] [ (3) ] وعائشة، وكانت تحته أيضا حمنة بنت جحش بعد موت
__________
[ (1) ] أوجب طلحة: عمل عملا أوجب له الجنة.
[ (2) ] هي أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق التيمية، تابعية، مات أبوها وهي حمل، فوضعت بعد وفاة أبيها، وقصتها بذلك صحيحة في الموطأ وغيره، أرسلت حديثها، فذكرها بسببه ابن السكن وابن مندة في الصحابة.
وأخرج من طريق إبراهيم بن طهمان، عن يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع وعن أم كلثوم بنت أبى بكر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نهى عن ضرب النساء ... ثم قال: رواه الليث عن يحيى نحوه، ورواه الثوري عن يحى بن حميد، فقال: عن زينب بنت أبى سلمة.
قال الحافظ: ولأم كلثوم بنت أبى بكر رواية أخرى عن عائشة في (صحيح مسلم) ، روى عنها جابر ابن عبد اللَّه الأنصاري، وأمها حبيبة بنت خارجة، وضعتها بعد موت أبى بكر، وروى عنها أيضا جبر- أو جابر- بن حبيب، وطلحة بن يحى، والمغيرة بن الحكيم، وغيرهم. (الإصابة) : 8/ 296، ترجمة رقم (12235) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (طبقات ابن سعد) .(6/142)
مصعب بن عمير عنها، وهي أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش، فولدت حمنة لطلحة محمد السّجاد، وهو الّذي قتل يوم الجمل، وعمران [بن طلحة] [ (1) ] .
وخرج الحاكم من حديث أبى صالح الحراني: حدثنا سليمان [ (2) ] بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن محمد بن طلحة، عن أبيه [ (3) ] عن جده قال: كان طلحة سلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في أربع: كانت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عائشة بنت أبى بكر، وكانت أختها أم كلثوم بنت أبى بكر عند طلحة، فولدت له زكريا ويوسف وعائشة، وكانت عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم زينب بنت جحش، وكانت حمنة بنت جحش تحت طلحة [بن عبيد اللَّه] [ (4) ] ، فولدت له محمدا، وقتل يوم الجمل [مع أبيه] [ (5) ] ، وكانت أم حبيبة بنت أبى سفيان تحت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكانت أختها رفاعة [ (6) ] بنت أبى سفيان تحت طلحة وكانت أم سلمة بنت أبى أمية تحت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكانت أختها قريبة بنت أبى أمية تحت طلحة، فولدت له مريم بنت طلحة [ (7) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (طبقات ابن سعد) .
[ (2) ] في (خ) : «سلمان» .
[ (3) ] في خ: «عن أمه» .
وقال عنه الحافظ في (الإصابة) :
* أحد العشرة [المبشرين بالجنة] .
* أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام.
* أحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبى بكر.
* أحد الستة أصحاب الشورى.
[ (4) ] زيادة للنسب من (المستدرك) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي المستدرك: «الرفاعة» .
[ (7) ] (المستدرك: 3/ 419- 420، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب طلحة بن عبيد اللَّه التيمي رضى(6/143)
وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو ابن مخزوم [] [ (1) ] القرشي المخزومي، وقال له: الأحول، أحد وجوه قريش [ (2) ] ، أمه ليلى بنت عطارد بن حاجب بن زرارة [ (3) ] ، خلف على أم
__________
[ () ] اللَّه عنه، حديث رقم (5596/ 1194) ، وقد سكت عنه الحافظ الذهبي في (التلخيص) . وطلحة ابن عبيد رضى اللَّه عنه له ترجمة في: (الجرح والتعديل) : 4/ 471، (المعارف) : 228- 234، (التاريخ الصغير) : 1/ 75، (تاريخ خليفة) : 181، (طبقات خليفة) : 18، 189، (طبقات ابن سعد) : 3/ 214- 255، (سيرة ابن هشام) : 2/ 91، (مسند أحمد) : 1/ 260- 265، مسند أبى محمد طلحة بن عبيد اللَّه، (المستدرك) : 3/ 419- 425، (حلية الأولياء) : 1/ 87، (جامع الأصول) : 9/ 3- 5، (اللباب) : 2/ 88، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 251، (خلاصة تذهيب الكمال) : /، ترجمة رقم () ، (كنز العمال) : 3/ 198- 404، (شذرات الذهب) : 1/ 42- 43، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 23- 40، (صفة الصفوة) : 1/ 176- 179، (الإصابة) : 3/ 529- 533، ترجمة رقم (4270) ، (الاستيعاب) : 764- 770، ترجمة رقم (1280) ، تلقيح فهوم أهل الأثر) : 366، (أسماء الصحابة الرواة) : 59، ترجمة رقم (83) .
[ (1) ] ما بين الحاصرتين. مطموس في (خ) .
[ (2) ] هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، أمه ليلى بنت عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد اللَّه بن زارم من بنى تميم.
فولد عبد الرحمن بن عبد اللَّه عمرا وأمّه وأمّ بشير بنت أبى مسعود، وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عسيرة بن عطية بن جدارة بن عوف بن الحارث من الخزرج.
وأخوه لأمه زيد بن حسن بن على بن أبى طالب. وعثمان بن عبد الرحمن. وإبراهيم وموسى وأم حميد وأم عثمان. وأمهم أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق، وأمها أم حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبى زهير من بلحارث بن الخزرج.
وأبا بكر ومحمدا، وأمهما فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة، وأمها أسماء بنت أبى جهل ابن هشام، وعبد اللَّه وأم جميل لأم ولد.
وكان عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبى ربيعة أحد الرءوس يوم الحرة، ونجا فلم يقتل يومئذ. حتى مات بعد ذلك. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 172، (المعارف) : 175، (وفيات الأعيان) : 3/ 70، ترجمة رقم (339) ، 3/ 436- 439، ترجمة رقم (490) ، (تهذيب التهذيب) : 5/ 184، ترجمة والده عبد اللَّه بن أبى ربيعة رقم (362) ، (طبقات ابن سعد) :
5/ 160- 165، ترجمة طلحة بن عبد اللَّه، وموسى، وعيسى، ويحى، ويعقوب أبناء طلحة بن عبد اللَّه.
[ (3) ] (الإصابة) : 8/ 105، ترجمة رقم (11720) .(6/144)
كلثوم بنت أبى بكر بعد طلحة بن عبد اللَّه، فولدت له: عثمان، وموسى، وإبراهيم، [وزكريا] ، وله من غير أم كلثوم: محمد، وأبو بكر، أمهما فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وفيه يقول معاوية بن أبى سفيان: غلبنا عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبى ربيعة على أيام قريش، وقال عبد الملك بن مروان: ثلاثة أعطوا اللَّه عهدا ألا يعطوا طاعة أبدا، فأما واحد فعاجلته منيته، وهو عبد اللَّه بن صفوان الجمحيّ، وأما الآخر: فوفى حتى مات، وهو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبى ربيعة، وأما [الثالث] فحام وهو عبد الرحمن بن عثمان السهمي، وتوفى عبد الرحمن بن أبى ربيعة.(6/145)
[أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل حفصة]
وأما أسلافه من قبل حفصة رضى اللَّه عنها فإنّهم: عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد اللَّه بن قرط بن رزاح ابن عدي بن كعب [بن لؤيّ بن غالب بن فهر] [ (1) ] القرشي العدوي، أمه لبابة بنت أبى لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وعمه عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، ولد وهو ألطف من ولد، فأخذه جده أبو أمه أبو لبابة في ليفة، فجاء به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما هذا معك يا أبا لبابة؟ قال: ابن ابني يا رسول اللَّه، ما رأيت مولودا قط أصغر خلقه منه، فحمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ومسح على رأسه، ودعا فيه بالبركة، فما [رئي عبد] [ (1) ] الرحمن بن زيد مع قوم في صف إلا فرعهم طولا، وكان من أطول الرجال وأتمهم، وكان شبيها بأبيه زيد بن الخطاب، وزوّجه عمه عمر بن الخطاب ابنته فاطمة من أم كلثوم، بنت على بن أبى طالب من فاطمة عليها السلام، فولدت له عبد اللَّه وابنة، وولد له من غير فاطمة بنت عمر عدة أولاد، وولى عبد الرحمن بن زيد مكة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (الإصابة) .
[ (2) ] له ترجمة في: (الإصابة) : 5/ 36- 37، ترجمة رقم (6216) ، (الاستيعاب) : 2/ 550، ترجمة والده زيد بن الخطاب رقم (846) ، (تهذيب التهذيب) : 6/ 162- 163، ترجمة رقم (362) ، وسمي محمدا حتى غيره عمر، لأنه مر به ورجل يسبه بقول: فعل اللَّه بك يا محمد، فقال عمر (رضي اللَّه عنه) لا أري محمدا يسب بك، واللَّه لا تدعي محمدا ما دمت حيا فسمّاه عبد الرحمن. (المعارف) : 180.(6/146)
وإبراهيم بن نعيم النحام بن عبد اللَّه بن أسيد بن عبد عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشيّ العدوي، أمه زينب بنت حنظلة بن قسامة بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعان بن ذهل بن رويان، من طيِّئ [ (1) ] تزوجها نعيم لما طلقها زيد بن حارثة، فولدت له إبراهيم، وتزوج إبراهيم رقية بنت عمر بن الخطاب [رضى اللَّه عنه] من أم كلثوم بنت على بن أبى طالب، فهي أخت حفصة لأمها [ (2) ] وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن سراقة بن المعتمر بن أنس بن أذاة بن رياح بن عبد اللَّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب [ (3) ] ، شهد أبوه وعمه [عمر] [ (4) ] بدرا، وأمه أميمة بنت الحارث بن عمرو بن المؤمل، تزوج زينب بنت عمر بن الخطاب [رضى اللَّه عنه] من فكيهة أم ولد [ (5) ] .
وذكر البلاذري أن أم زينب هذه هي أم عاصم بن عمر، وهي جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبى الأفلح، فهي أخت حفصة لأبيها [ (6) ] ، وولدت زينب لعبد اللَّه: عثمان بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه، روى عنه الحديث، وهو الّذي أصلح بين بنى جعفر بن كلاب والضباب، وقد وقعت بينهم حرب قتل فيها بينهم سبعة وثلاثون قتيلا، فأرسل إليهم عثمان هذا، وما زال بهم حتى اصطلحوا، وله في ذلك قصة.
__________
[ (1) ] (جمهرة أنساب العرب) : 399.
[ (2) ] له ترجمة مختصرة في: (طبقات ابن سعد) : 4/ 272، (المعارف) : 185.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 238، (البداية والنهاية) : 3/ 212، 390، (الإصابة) : 5/ 18، ترجمة رقم (6185 ز) .
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] (الإصابة) : 7/ 648، ترجمة رقم (11262) ، زاد الحافظ: وهي أخت عبد الرحمن بن عمر الأصغر والد المختار.
[ (6) ] كان اسمها: عاصية، فسماها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: جميلة، (الإصابة) : 7/ 558، ترجمة رقم (10983) .(6/147)
وعبد الرحمن بن معمر بن عبد اللَّه بن أبى ابن سلول، كانت عنده زينب ابنة عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، أخت حفصة، خلف عليها بعد عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن سراقة في قول البلاذري. [ (1) ]
وقال الزبير بن بكار: وأما زينب ابنة عمر فكانت عند عبد الرحمن بن معمر بن عبد اللَّه بن أبى ابن سلول، ثم خلف عليها عبد اللَّه بن سراقة بن المعتمر بن أنس، أذاة بن رباح بن عبد اللَّه بن قرظ بن عدي بن كعب، فولدت له عثمانا، وحميدا وعشيمة بنى عبد اللَّه بن عبد اللَّه. [ (2) ]
حدثنا الزبير قال: حدثني عثمان بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن عبد العزيز بن عمر السراقي قال: مات جدي وعمى ابنا سراقة، فأوصيا إلى عمر ابن الخطاب رضى اللَّه عنه ابن عبد اللَّه بن سراقة، فجعله عمر عند بنته زينب بنت عمر، فلما بلغ الحلم قال له [عمر: يا حبيبي] [ (3) ] ، من تحب أن أزوجك من بناتي؟ قال: أمى زينب- وكان. يدعوها أمه- فقال عمر:
يا بنى إنها ليست أمك ولكنها ابنة عمك، وقد زوجتك إياها، فولدت له ابنه [ (4) ] عثمان بن سراقة، فهي أم كل سراقى على وجه الأرض [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (الإصابة) : 5/ 18، ترجمة رقم (6185 ز) .
[ (2) ] (المراجع السابق) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين في (خ) فقط وليست في (الإصابة) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (الإصابة) .
[ (5) ] ثم قال: فيؤخذ من هذا أنه ولد في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، لكونه بلغ، وتزوج، وولد له في حياة عمر وكل ذلك بعد الوفاة النبويّة بثلاث عشر سنة. (الإصابة) : 5/ 18.(6/148)
[سلفه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل زينب أم المساكين]
وأما سلفه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل زينب أم المساكين، فإنه العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه عنه، لأن روحية أم العباس، ولبابة بنت الحارث أخت زينب أم المساكين لأمها هند بنت عوف بن زهير، وقد تقدم التعريف بالعباس.
[أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل أم سلمة]
وأما أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل أم سلمة رضى اللَّه عنها فهو زمعة بن الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصي، كان أبوه أبو زمعة بن الأسود أحد المستهزءين الذين قال اللَّه فيهم: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [ (1) ] ، رمى جبريل عليه السّلام في وجهه بورقة فعمى، وكان من كبراء قريش وأشرافها، وكان زمعة أبو حكيمة، من أشرف قريش أيضا، وهو أحد المطعمين أيام خرج المشركون إلى بدر وهو أحد أزواد الركب، وأمه أروى بنت خذيفة بن مسعر بن سعيد بن سهم، وكان أحد خطباء قريش في الجاهلية، وتزوج ثويبة الكبرى بنت أبى أمية أخت أم سلمة [رضى اللَّه عنها] لأبيها من عاتكة بنت عبد المطلب، فولدت له عبد اللَّه، ووهبا، ويزيدا، وقتل زمعة يوم بدر كافرا.
__________
[ (1) ] الحجر: 95، قال عروة وابن جبير: هم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأبو زمعة، والأسود بن يغوث، ومن بني خزاعة الحرث بن الطلاطلة.
قال أبو بكر الهذلي: قلت للزهري: إنّ ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزءين، فقال ابن جبير: هو الحرث بن عيطلة، وقال عكرمة: هو الحرث بن قيس، فقال الزهري: صدقا، إنه عيطلة وأبوه قيس.
وذكر الشعبي في المستهزءين هبار بن الأسود، وذلك وهم، لأن هبارا أسلم يوم الفتح، ورحل إلى المدينة.
وعن ابن عباس: أن المستهزءين كانوا ثمانية، وفي رواية: مكان الحرث ابن قيس عدي ابن قيس.
وقال الشعبي وابن أبي بزة: كانوا سبعة: فذكر الوليد، والحرث بن عدي، والأسودين، والأثرم(6/149)
وعمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد اللَّه، قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشيّ العدوي، أمير المؤمنين أبو حفص، أمه حنتمة بنت هاشم، وقيل هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، وأم حنتمة الشفاء بنت عبد قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وأمها بنت أسد بن عبد العزى بن قصي، وأمها برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب [بن لؤيّ بن غالب] [ (1) ] ، وكانت برة بنت عوف جدة آمنة بنت وهب أم أمها، فعمر بن الخطاب أحد أخوال رسول اللَّه من قبل أمهاته، ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وقيل ولد قبل الفجار الأعظم بأربع سنين، وكان من أشراف قريش، إليه كانت السفارة في الجاهلية- وهي إذا وقعت الحرب بعثوه سفيرا- وإن نافرهم مفاخر أو فاخرهم وفاخر، بعثوه منافرا ومفاخرا، ورضوا به. وأسلم بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة فأعز اللَّه بإسلامه المسلمين، وأظهر به الدين، وهاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها، وتوفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو عنه راض، وولى الخلافة يوم مات أبو بكر الصديق رضى اللَّه عنه باستخلافه له في [يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الاخرة [ (2) ]] سنة ثلاث عشرة، فسار أحسن سيرة،
__________
[ () ] وبعكك ابني الحرث بن السباق. وكذا قال مقاتل، إلا أنه قال مكان الحرث بن عدي: الحرث بن قيس السهى.
وذكر المفسرون والمؤرخون: أن جبريل عليه السّلام، قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أمرت أن أكفيكم، فأومأ إلي ساق الوليد، فمرّ بنبال فتعلق بثوبه، فمنعه الكبر أن يطامن لنزعه، فأصاب عرقاً في عقبه.
قال قتادة ومقسم: وهو الأكحل، فقطع، فمات.
وأومأ إلي أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة. وقيل: ضربته حية، فانتفخت رجله حتى صار كالرحى، ومات.
وأومأ إلي عيني الأسود بن المطلب، فعمي، وهلك. وأشار إلى أنف الحرث بن قيس فامتخط قيحا فمات. وقيل: أصابته سموم فاسود حتى صار كأنه حبشي، فأتى أهله فلم يعرفوه، وأغلقوا الباب في وجهه، فصار يطوف في شعاب مكة حتى مات.
وفي بعض ما أصاب هؤلاء اختلاف واللَّه تعالي أعلم (البحر المحيط) : 6/ 489، (تفسير ابن كثير) : 2/ 579- 580.
[ (1) ] زيادة للنسب من (المعارف) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (صفة الصفوة) .(6/150)
وأنزل نفسه من مال اللَّه بمنزله رجل من الناس على سوابقهم، وكان لا يخاف في اللَّه لومة لائم، وهو الّذي زين شهر رمضان بصلاة التراويح، وأرخ التاريخ من الهجرة، وهو أول من سمى بأمير المؤمنين، وهو أول من اتخذ الدّرّة.
وقتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، لثلاث بقين- وقيل، بل قتل يوم الأربعاء لأربع بقين- من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين ونصف، وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل: أقل من ذلك، وكانت تحته قريبة الصغرى، أخت أم سلمة، ففرّق بينهما الإسلام، ورجعت إلى الكفار ثم أسلمت، وفضائل عمر كثيرة جدا [ (1) ] .
ومعاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن أمية بن عبد شمس أبو عبد الرحمن، القرشيّ، الأموي، أمه هند بنت عتبة بن زمعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أسلم يوم الفتح، وعد من المؤلفة [قلوبهم] ، وهو أحد من كتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وولاه عمر رضى اللَّه عنه على الشام بعد موت أخيه يزيد بن أبى سفيان في سنة تسع عشرة، ورزقه ألف دينار في كل شهر، وأقام أربع سنين، ومات عمر فأقره عثمان رضى اللَّه عنه عليها اثنى عشرة إلى أن مات، فحارب عليّ رضى اللَّه عنه أربع سنين، وبايعه أهل الشام خاصة بالخلافة سنة ثمان أو تسع وثلاثين، واجتمع الناس عليه بعد بيعة الحسن بن على له في سنة إحدى وأربعين، فأقام أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، وتوفى
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (صفة الصفوة) : 1/ 139- 153، ترجمة رقم (3) ، (الإصابة) : 4/ 588- 591، ترجمة رقم (5740) (الاستيعاب) : 3/ 1144- 1159، ترجمة رقم (1878) ، (الجرح والتعديل) : 6/ 105، (تهذيب التهذيب) : 6/ 138، (حلية الأولياء) : 1/ 38- 55، ترجمة رقم (2) ، (الطبقات الكبرى) : 3/ 265- 376، (تلقيح الفهوم) : 363- 364، (أسماء الصحابة الرواية) : 44، ترجمة رقم (11) (المصباح المضيء) : 1/ 43- 56.(6/151)
للنصف من رجب سنة ستين بدمشق عن ثمان وسبعين سنة، وقيل:
[سبعا وسبعين] وأخباره كثيرة، وكانت تحته قريبة الصغرى بنت أبى أمية أخت أم سلمة، تزوجها بعد ما فرق الإسلام بينها وبين عمر رضى اللَّه عنه، وبعد ما أسلمت قال له أبوه أبو سفيان بن حرب: أتتزوج ظعينة أمير المؤمنين؟ فطلقها. [ (1) ]
وعبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه أبو محمد، أمه وأم أخته عائشة رضى اللَّه عنها: أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية، شهد بدرا وهو كافر، ثم أسلم في هدنة الحديبيّة، وكان اسمه: عبد الكعبة- ويقال: عبد العزى- فسماه رسول اللَّه: عبد الرحمن، وكان من أشجع قريش وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد، وقتل سبعة من كبارهم، وكان أش من ولد أبيه، وكان صالحا وفيه دعابة، وشهد الجمل مع عائشة، وتوفى سنة ثلاث- وقيل خمس- وخمسين، وكان تحته قرينة الصغرى ابنة أبى أمية، أخت أم سلمة لأبيها من عاتكة بنت عتبة بن ربيعة، خلف عليها بعد معاوية فولدت له عبيد اللَّه بن عبد الرحمن، وأم حكيم. [ (2) ]
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (المصباح المضيء) : 1/ 167- 176، ترجمة رقم (40) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 32، 7/ 406، (التاريخ الكبير) : 7/ 326، (المعارف) : 344، (الجرح والتعديل) :
8/ 377، (جمهرة أنساب العرب) : 112- 113، (الاستيعاب) : 3/ 1416 ترجمة رقم 2435 (تاريخ بغداد) : 1/ 207. ترجمة رقم (48) ، (جامع الأصول) : 9/ 107، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 102، (مرآة الجنان) : 1/ 131، (تهذيب التهذيب) : 10/ 187، ترجمة رقم (387) ، (الإصابة) : 6/ 151 ترجمة رقم (8074) ، (المطالب العالية) : 4/ 108، (تاريخ الخلفاء) : 194 (خلاصة تذهيب الكمال) : 326، (شذرات الذهب) :
1/ 65، دسير أعلام (أسماء الصحابة الرواة) : 55، ترجمة رقم (26) .
[ (2) ] له ترجمة في: (مسند أحمد) : 1/ 197، (طبقات خليفة) : 18، 189، (تاريخ خليفة) :
219، (التاريخ الكبير) : 5/ 242، (المعارف) : 173، 174، 233، 592، (المستدرك) :
3/ 5473 (الاستيعاب) : 2/ 2824، ترجمة رقم (1394) ، (تهذيب التهذيب) : 6/ 133- ترجمة رقم (300) ، (الإصابة) : 4/ 325، ترجمة رقم (5155) . (خلاصة تذهيب الكمال) : 2224 (شذرات الذهب) : 1/ 59، (أسماء الصحابة الرواة) : 175 ترجمة رقم (215) ، (تلقيح الفهوم) : 370، (سير الأعلام) : 2/ 471- 473، ترجمة رقم (92) .(6/152)
ومنبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، أمه وأم أخيه نبيه أروى ابنة عميلة بن السباق بن عبد الدار، وكان لهما شرف، ومدحها الأعشى بن نباش بن زرارة التميمي ثم الأسدي. وكانا ممن يؤذى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ويطعن عليه [ (1) ] ، وكانا يلقيانه فيقولان: أما وجد اللَّه من يبعثه غيرك؟ أن هاهنا من هو أسنّ منك وأيسر، فإن كنت صادقا فأتنا بملك يشهد لك ويكون معك!! وإذا ذكر لهما قالوا: معلم مجنون، يعلمه أهل الكتاب ما يأتى به، وكان رسول اللَّه يدعو عليهما، فأما منبه فقتله عليّ رضى اللَّه عنه يوم بدر [ (2) ] ، وقيل: قتله عليّ أبو اليسر الأنصاري. ويقال: أبو أسيد الساعدي، وقتل نبيه أيضا ببدر، قتله عليّ، وكانا من المطعمين يوم بدر [ (3) ] ، ولمنبه ابن من بنت العاصي بن وائل بن هشام السهمي اسمه العاصي بن منبه، قتل أيضا يوم بدر، وهو صاحب ذي الفقار، وقيل: كان سيف أبيه منبه، وقيل: [كان] سيف عمه نبيه [ (4) ] ، وكان تحت منبه هذا أبى أمية أخت أم سلمة، وولدت له رجلين.
وعبد اللَّه بن سعد بن جابر عمير بن بشير بن بشير بن عويمر بن الحارث ابن كبير بن السبيل بن حدقة بن سفيان، وهو مظة بن سلهم بن الحكم بن سعد العشيرة، كانت تحته آمنة ابنة عفان أخت أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه لأبيه وأمه، فولدت له محمد بن عبد اللَّه بن سعد [ (5) ] ، وكان ولده بالمدينة، والبصرة وكان تحته أيضا ابنة لأبى بن مالك بن عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن أسلم بن
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 100، عداوة قومه صلى اللَّه عليه وسلم ومساندة أبي طالب له، 3/ 6، قريش تتشاور في أمره صلّى اللَّه عليه وسلم، 3/ 164، التعرف علي أخبار قريش،
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 196. بلوغ مصاب قريش في رجالها إلي مكة.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 3/ 218، المطعمون من قريش
[ (4) ] (المرجع السابق) : 3/ 269، من قتل بيدر من المشركين.
[ (5) ] (جمهرة أنساب العرب) 409(6/153)
وأس مناة بن النمر بن قاسط النمري، المعروف بصهيب الرومي أبو يحى، [أمه] سلمى بنت قعيد بن مهيض بن خزاعيّ بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، كان أبوه سنان عاملا لكسرى على الأبلّة، من قبل النعمان بن المنذر، وكانت منازلهم بأرض الموصل، ويقال: كانوا في قرية على شاطئ الفرات مما يلي الجزيرة، فأغارت الروم على ناصيتهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير فنشأ بالروم فصار [ألكنا] ، فابتاعه رجل من كلب فقدم به مكة، فاشتراه أبو زهير عبد اللَّه بن جدعان ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب، ثم أعتقه فأقام عنده إلى أن هلك قبل المبعث ببضع عشرة سنة، ولم يزل مع آل جدعان إلى أن جاء اللَّه بالإسلام، ويقال: لم يشتره أحد من الذين سبوه، ولكنه لما ترعرع وعقل هرب من الروم فسقط إلى مكة وحالف ابن جدعان، [فأقام] معه إلى أن هلك، وإن صهيب كان أحمر شديد الحمرة فسمى روميا بذلك، ولأنه سقط إلى الروم، ويقال سبته العرب فوقع إلى مكة ولم يدخل الروم قط، وإنما سمى روميا لحمرته، وأسلم هو وعمار في يوم واحد بعد ما أسلم بضعة وعشرون رجلا، وكان من المستضعفين الذين يعذبون في اللَّه، وهاجر وترك ماله لأهل مكة، وشهد بدرا وما بعدها، وتوفى أمية أخت أم سلمة، ويقال بل هي ابنة أبى ربيعة بن المغيرة بن بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، عن سبعين سنة، وكانت عنده [] بنت أبى أمية، أخت أم سلمة، ويقال: بل هي ابنة أبى ربيعة بن المغيرة عم أبى سلمة وفضائل صهيب كثيرة [ (1) ]
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 3/ 226- 230، (طبقات خليفة) : 19، 62، (التاريخ الكبير) : 4/ 315، (الجرح والتعديل) : 4/ 444، (المستدرك) : 3/ 449- 454، (الاستيعاب) : 2/ 726، ترجمة رقم (1226) ، (تهذب التهذيب) : 4/ 385، ترجمة رقم، (الإصابة) : 3/ 449- 452 ترجمة رقم (4108) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 472، ترجمة رقم (3116) (شذرات الذهب) : 1/ 47، (سير الأعلام) : 2/ 17- 26، ترجمة رقم (4) ، (مسند أحمد) : 5/ 435(6/154)
[أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل زينب بنت جحش]
وأما أسلافه من قبل زينب بنت جحش: مصعب بن عمير، كانت عنده حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش، لم تلد له، وذكر ابن عبد البر أن زينب بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف كما تقدم.
ومصعب الخير بن عمر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرش العبدري، أبو عبد اللَّه المرثوىّ، أمه خناس بنت مالك بن المضرب بن وهب بن عمرو بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤيّ، وكان في مكة شابا وجمالا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة، وأسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أبيه وقومه، وصار تختلف إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فبصر به عثمان بن طلحة يصلّى فأخبر به قومه وأمه، فأخذوه وحبسوه حتى خرج منها مهاجرا إلى أرض الحبشة، وبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الأنصار يقرئهم القرآن بالمدينة قبل الهجرة، فأسلم على يديه خلق كثير، ولذلك قيل له: المقرئ والقارئ، وشهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، قتله ابن قميئة، وهو ابن أربعين سنة، وهو من جلة الصحابة، وكانت عنده حمنة بنت جحش، أخت زينب بنت جحش لأبيها وأمها، تزوجها بعد عبد الرحمن بن عوف، فولدت له زينب، تزوجها عبد اللَّه بن عبد اللَّه ابن أبى أمية، ولا عقب لمصعب إلا منها، وخلف على حمنة بعد مصعب [ (1) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في (كنز العمال) : 13/ 482، (الإصابة) : 6/ 123- 124، ترجمة رقم (8008) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 116- 122، (الاستيعاب) : 4/ 1473- 1475، ترجمة رقم (2553) ، (حلية الأولياء) : 1/ 106- 108، ترجمة رقم (12) ، (الجرح والتعديل) : 8/ 303، (التاريخ الصغير) : 1/ 21، 25، (تاريخ خليفة) : 69، (سير الأعلام) : 1/ 145- 148، ترجمة رقم (7) ، (المعارف) : 264- 265، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 96- 97، ترجمة رقم (139) ، (صفة الصفوة) : 1/ 205- 206، ترجمة رقم (17) .(6/155)
طلحة بن عبيد اللَّه، فولدت له محمد السجاد وعمران، وقد تقدم التعريف بعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد اللَّه [ (1) ] ، وكانت ممن تكلم في عائشة رضى اللَّه عنها فحدّث، قاله البلاذري [ (2) ] .
__________
[ (1) ] تقدم التعريف بهما، والإحالة مصادر ترجمتهما.
[ (2) ] قال أبو حيان الأندلسي في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ: والعصبة: عبد اللَّه بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه.. ثم قال: والمشهور أنه حد حسان، ومسطح، وحمنة، قيل:
وعبد اللَّه بن أبي، وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر، وقيل: لم يحدّ مسطح، وقيل: لم يحد عبد اللَّه، وقيل: لم يحد أحد في هذه القصة، وهذا مخالف للنص فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وقابل ذلك بقول: إنما يقال الحد بإقرار أو بينة، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار، كما لم يتقيد بقتل المنافقين، وقد أخبر تعالى بكفرهم. (البحر المحيط) : 8/ 20- 21.(6/156)
[أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل أم حبيبة]
وأما أسلافه من قبل أم حبيبة بنت أبى سفيان رضى اللَّه عنها فهم:
الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أسلم وهو رجل عند إسلام أبيه نوفل بن الحارث، وولى مكة، ومات في آخر خلافة عثمان رضى اللَّه عنه بالبصرة، [ (1) ] وكانت عنده هند بنت أبى سفيان- أخت أم حبيبة لأبيها- فولدت له عبد اللَّه ابن الحارث الّذي بقال له ببة، [ (2) ] ومحمد بن الحارث الأكبر، وربيعة، وعبد الرحمن، ورملة، وأم الزبير، وظريبة وامرأة أخرى.
ومحمد بن أبى حذيفة العبشمي-[وقيل هشيم، وقيل: هاشم] [ (3) ] ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أبو القاسم القرشيّ
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (الإصابة) : 1/ 603- 605، ترجمة رقم (1502) ، (تاريخ الإسلام) : 3/ 338، 463، (الاستيعاب) : 1/ 291، ترجمة رقم (409) (الجرح والتعديل) : 5/ 67، (طبقات ابن سعد) : 4/ 56- 57، (سير الأعلام) : 1/ 199، ترجمة رقم (28) .
[ (2) ] قال الزبير بن بكار: هو ابن أخت معاوية بن أبي سفيان، واسمها هند، هي كانت تنقّزه وتقول.
يا ببة يا ببّة ... لأنكحن ببّه
جارية خدبّه ... تسود أهل الكعبة
في الاستيعاب: «تجبّ» بدل «تسود» ، وفسّرها بأنها تغلب نساء قريش بجمالها، وأما رواية (تاريخ بغداد) :
لأنكحن ببة ... جارية خدبه
مكرمة محبة ... تحب أهل الكعبة
(الاستيعاب) : 3/ 885- 886 ترجمة رقم (1500) ، (تاريخ بغداد) : 1/ 211- 212، ترجمة رقم (50) ، (سير الأعلام) : 1/ 200، ترجمة رقم (29) .
[ (3) ] ما بين الحاضرتين في (خ) فقط.(6/157)
العبشمي، أمة سهلة بنت سهيل بن عمرو العامري، ولد بأرض الحبشة وأبوه مهاجربها، وولاه على رضى اللَّه عنه، مصر، وكان من أشدهم انحرافا عن عثمان رضى اللَّه عنه، وأكثرهم تأليبا عليه، وقتل في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وكانت تحته زميلة بنت أبى سفيان أخت أم حبيبة [ (1) ] وسعيد بن عثمان بن عفان، أمه وأم أخيه سعيد، وأخته أم عثمان، فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، ولاه معاوية خراسان، وفتح سمرقند، وكانت [عامة] [ (2) ] المدينة عبيدهم ونساؤهم يقولون:
واللَّه لا ينالها يزيد ... حتى ينال هامة الحديد
إن الأمير بعده سعيد
يعنون: لا ينال الخلافة يزيد بن معاوية، لأن الأمير بعد معاوية سعيد بن عثمان، فقدم سعيد على معاوية فقال: يا ابن أخى؟ ما شيء يقوله أهل المدينة؟ فقال: ما يقولون؟
قال: قولهم، وذكره، قال: ما شيء من ذلك، يا معاوية، واللَّه إن أبي لخير من أبى يزيد، ولأمى خير من أم يزيد، ولأنا لخير من يزيد، ولقد استعملناك فما عزلناك، ووصلناك فما قطعناك، ثم صار في يديك ما قد ترى، [وبنا
__________
[ (1) ] له ترجمة في: الإصابة) : 6/ 10/ 13، ترجمة رقم (7772) ، (سير الأعلام) : 3/ 479- 481، ترجمة رقم (103) ، (الكامل في التاريخ) : 3/ 265، ذكر قتل محمد بن أبي حذيفة (الوافي بالوفيات) : 3/ 328- 329، ترجمة رقم (776) ، (تاريخ الطبري) : 5/ 105، أحداث سنة (38) ثم ذكر رواية الوافدي في وفاة محمد بن أبي حذيفة سنة (36) ، (الإصابة) : 3/ 1369- 1370، ترجمة 2326.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) وما أثبتناه من (وفيات الأعيان) .(6/158)
نلت ما نلت] [ (1) ] فقال معاوية: يا بنى! أما قولك: إن أبى خير من أبى يزيد فقد صدقت، عثمان خير من معاوية، أما قولك: أمى خير من أم يزيد فقد صدقت، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وبحسب امرأة أن تكون [في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وينجب ولدها] ، وأما قولك: أنى خير من يزيد فو اللَّه ما يسرني أن حبلا بيني وبين العراق تم نظم لي [به، ثم قال له] : ألحق بعمك زياد بن أبى سفيان، فإنّي قد أمرته أن يوليك خراسان، وكتب إلى زياد [أن وليه] [ (2) ] خراسان وابعث على الخراج رجلا جلدا حازما، فقد عليه فولاه وتوجه سعيد بن عثمان إلى خراسان على أمرها، وبعث زياد بن أسلم ابن زرعة الكلابي معه على الخراج، وقدم المدينة فقتله غلمان جاء بهم من [] ، وكانت تحته رملة بنت أبى سفيان أخت أم حبيبة، خلف عليها بعد محمد بن أبى حذيفة، فلم تلد له [ (3) ] .
والسائب بن أبى حبيش [أهيب] [ (3) ] بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ابن قصي، [القرشي الأسدي] [ (4) ] ، كانت عنده [] بنت أبى
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرين مطموس في (خ) ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.
[ (2) ] أخباره مبثوثة في: (تاريخ الطبري) : 4/ 55420/ 304- 306، (صفة الصفرة) : 1/ 154، ترجمة رقم (4) ، (الكامل في التاريخ) : 3/ 186، (وفيات الأعيان) : 5/ 353، 6/ 348
[ (3) ] ما بين الحاصرتين في (خ) فقط.
[ (4) ] زيادة للنسب من (الإصابة) ، له ترجمة في: (الإصابة) : 3/ 18- 19، ترجمة رقم (3061) ، (التاريخ الكبير) : 4/ 153، ترجمة رقم (2297) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 239، (الثقات) :
4/ 326، (تهذيب التهذيب) : 3/ 387، ترجمة رقم (831) ، (الاستيعاب) : 2/ 570، ترجمة رقم (886) .(6/159)
سفيان، أخت أم حبيبة، فلم تلد له.
وعبد الرحمن بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف [ (1) ] ، أمه من ثقيف، وخلف على [] بنت أبى سفيان فلم تلد له.
وصفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر القرشي الجمحيّ، أبو وهب- وقيل: أبو أمية- أمه صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وقتل أبوه يوم بدر كافرا، وقتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخاه أبى بن خلف بأحد كافرا، وهرب صفوان يوم الفتح ثم رجع وشهد حنينا وهو مشرك، ثم أسلم ومات بمكة سنة اثنتين وأربعين، وكان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وإليه كانت فيهم الأيسار- وهي الأزلام- وكان أحد المطعمين، وكان يقال له: سداد البطحاء، وهو أحد المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم، وكان من أفصح قريش لسانا، وكانت تحته أميمة بنت أبى سفيان أخت أم حبيبة لأبيها وأمها، فولدت له عبد الرحمن بن صفوان [ (2) ] .
وحويطب بن عبد العزى بن أبى قيس القرشي العامري، كانت تحته اميمة قبل صفوان، فولدت له عبد الرحمن بن صفوان، أبا سفيان بن
__________
[ (1) ] (الإصابة) : 4/ 295، ترجمة رقم (5102 ز) .
[ (2) ] له ترجمة في: (طبقات بن سعد) : 5/ 449، (طبقات خليفة) : 24، 278، (تاريخ خليفة) :
111، 205، (التاريخ الكبير) : 4/ 2304، (المعارف) : 342، (الجرح والتعديل) : 4/ 421، (المستدرك) : 3/ 484، (الاستيعاب) : 2/ 718- ترجمة رقم (1214) ، (تهذيب التهذيب) 4/ 372، ترجمة رقم (473) ، (الإصابة) : 3/ 432، ترجمة رقم (4077) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 469، ترجمة رقم (3069) (شذرات الذهب) : 1/ 52، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 562- 567، ترجمة رقم (119) ، (تلقيح الفهوم) : 369، (الثقات) : 3/ 191، (أسماء الصحابة الرواة) : 146، ترجمة رقم (160) .(6/160)
حويطب [ (1) ] .
وعياض بن غنم بن زهير بن أبى شداد بن أبى ربيعة بن هلال بن مالك، ابن ضبة بن الإرث بن فهر القرشي الفهري، أسلم قبل الحديبيّة وشهدها، وافتتح عامة بلاد الجزيرة والرقة، وهو أول من جاز الدرب إلى الروم، وكان شريفا في قومه، مات بالشام سنة عشرين، وهو ابن ستين سنة، كانت عنده أم الحكم بنت أبى سفيان، أخت أم حبيبة لأبيها، من هند بنت عتبة، أم معاوية بن أبى سفيان، ففرق الإسلام بينهما [ (2) ] .
وعبد اللَّه بن عثمان بن عبد اللَّه بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسىّ- وهو ثقيف- وكان عثمان بن عبد اللَّه هو صاحب لواء المشركين يوم حنين، وتزوج عبد اللَّه بن عثمان بأم الحكم ابنة أبى سفيان أخت أمّ حبيبة لأبيها، من هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، خلف عليها بعد عياض، فولدت له عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عثمان،
وهو الّذي يقال له: ابن أم الحكم، ولى الكوفة [ (3) ] ، وقتل عبد اللَّه بن عثمان يوم الطائف، فمر به على رضى اللَّه عنه فقال:
لعنك اللَّه، فإنك كنت تبغض قريشا.
وسعيد بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبى سلمة
__________
[ (1) ] سبق التعريف بمصادر ترجمته عند الكلام على سلفيه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل سودة.
[ (2) ] له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 7/ 18- 19، (سير الأعلام) : 2/ 354- 355، ترجمة رقم (69) ، (طبقات خليفة) : 28، 300، (تاريخ خليفة) : 147 (المستدرك) : 3/ 328، (الاستيعاب) : 3/ 1234، ترجمة رقم (2014) ، (الإصابة) : 4/ 757، ترجمة رقم (6144) ، (شذرات الذهب) : 1/ 31، (التاريخ الصغير) : 1/ 48، (أسماء الصحابة الرواة) : 493، ترجمة رقم (785) (تلقيح الفهوم) : 383، (طبقات ابن سعد) : 7/ 398.
[ (3) ] (جمهرة أنساب العرب) : 266.(6/161)
ابن عبد العزى بن غيره بن عوف بن ثقيف [ (1) ] [بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان] ، كان الأخنس بن شريق من سادات مكة، وتزوج سعيد [بصخرة] بنت أبى سفيان أخت أم حبيبة، فولدت له أبا بكر بن سعيد وغيره.
وعروة بن مسعود معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف ابن ثقيف الثقفي أبو مسعود- وقيل: أبو يعفور [ (2) ]- شهد صلح الحديبيّة، وأسلم بعد الطائف، ورجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فقتل بسهم، وكانت تحته ميمونة بنت أبى سفيان أخت أم حبيبة، فولدت له داود بن عروة.
والمغيرة بن شعبة بن أبى عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسى- وهو ثقيف- الثقفي، أبو عبد اللَّه- وقيل: أبو عيسى- أسلم عام الخندق، وأول مشاهدة الحديبيّة، وولى البصرة والكوفة لعمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، وتوفى سنة خمسين،
__________
[ (1) ] (الإصابة) : 1/ 38 ترجمة أبيه الأخنس بن شريق، رقم (61) ، وما بين الحاصرين زيادة للنسب من (خ) .
[ (2) ] قال محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسى الغرناطي: والضمير في: وقالُوا، لقريش، كانوا قد استبعدوا أن يرسل اللَّه من البشر رسولا، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الرسل صلّى اللَّه عليهم. فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع، ناقضوا فيما يخص محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: لم كان محمدا ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال. وقرئ: على رجل، بسكون الجيم. من القريتين أي من إحدى القريتين. وقيل: من رجل القريتين، وهما مكة والطائف.
قال ابن عباس: والّذي من مكة: الوليد بن بن المغيرة المخزومي، ومن الطائف: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة، وكنانة بن عبد ياليل. وقال قتادة: الوليد بن المغيرة، عروة ابن مسعود الثقفي.(6/162)
وقيل: إحدى وخمسين وهو على الكوفة لمعاوية، وكان أعور داهية، أحصن ألف امرأة، وخلف على ميمونة بنت أبى سفيان بعد عروة بن مسعود [ (1) ] .
وعبد اللَّه بن معاوية العبديّ، خلف على أميمة بنت أبى سفيان بعد صفوان بن أمية.
__________
[ () ] وقال أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر: أخبرنى أحمد بن القاسم، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا الحارث بن أبى أسامة، قال: حدثنا يونس بن محمد المؤدب، قال: حدثنا ليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: عرض عليّ الأنبياء عليهم السلام، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم، يعنى نفسي- صلّى اللَّه عليه وسلم، ورأيت جبريل عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية لكلبى.
له ترجمة في: (البحر المحيط) : 9/ 369، (الاستيعاب) : 3/ 1066- 1067، ترجمة رقم (1804) ، (الإصابة) : 4/ 492- 494، ترجمة رقم (5530) ، (طبقات ابن سعد) :
5/ 503- 504.
[ (1) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 4/ 284، 6/ 20، (طبقات خليفة) : 361، 884، 1419، (التاريخ الكبير) . 316، (المعارف) 294، (الجرح والتعديل) : 8/ 224، (تاريخ الطبري) : 5/ 234، ((جمهرة أنساب العرب) : 267، (الاستيعاب) : 4/ 1445، ترجمة رقم (2483) ، (تاريخ بغداد) : 1/ 191، ترجمة رقم (30) ، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 21- 32، ترجمة رقم (7) ، (الكامل في التاريخ) : 3/ 461، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 109، (مرآة الجنان) : 1/ 124، (البداية والنهاية) : 8/ 53، (الإصابة) : 6/ 197- 200، ترجمة رقم (8185) ، (تهذيب التهذيب) : 10/ 234، ترجمة رقم (473) ، (خلاصة تذهيب الكمال) :
3/ 50، ترجمة رقم (7155) ، (شذرات الذهب) : 1/ 56، (أسماء الصحابة الرواة) : 58، ترجمة رقم (31) ، (الثقات) : 3/ 372، (تلقيح الفهوم) : 365.(6/163)
[أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل ميمونة]
وأما أسلافه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل ميمونة [رضى اللَّه تعالى عنها] ، فإنّهم:
حمزة بن عبد المطلب، كانت تحته سلمى بنت عميس، أخت ميمونة لأبيها [ (1) ] من هند بنت [عوف الحميرية] ، فولدت له أمة اللَّه، وقد تقدم التعريف بحمزة رضى اللَّه عنه [ (2) ] .
وشداد بن الهاد، واسمه أسامة بن عمرو بن عبد اللَّه بن جابر بن بشر بن عتوارة بن عامر بن مالك بن ليث بن بكر [بن عبد مناة بن كنانة
__________
[ (1) ] وهي أخت أسماء بنت عميس الخثعمية. (طبقات ابن سعد) : 3/ 8.
[ (2) ] هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ... الإمام، البطل، الضرغام، أسد اللَّه أبو عمارة، وأبو يعلى، القرشيّ، الهاشميّ، المكّي، ثم المدنيّ، البدريّ الشهيد، عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، قال ابن إسحاق: لما أسلم حمزة علمت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد امتنع، وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، وقد بارز حمزة يوم بدر عتبة بن ربيعة فقتله، ورجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم أحد، فسمع نساء بنى عبد الأشهل يبكين على هلكاهن، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده.
وعن أنس قال: لما كان يوم أحد وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على حمزة وقد جدع ومثل به، فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى يحشره اللَّه من بطون السباع والطير. ولم يصلّ على أحد من الشهداء، وقال: أنا شهيد عليكم. وكان يجمع الثلاثة في قبر والاثنين، فيسأل: أيهما أكثر قرآنا فيقدمه في اللحد، وكفّن الرجلين والثلاثة في ثوب.
ووجدوا حمزة (رضى اللَّه عنه) قد بقر بطنه، واحتمل وحشيّ كبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل حمزة أباها يوم بدر، فدفن في نمرة كانت عليه، إذا رفعت إلى رأسه بدت قدماه، فغطوا قدميه بشيء من الشجر رضى اللَّه تعالى عنه. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) :
3/ 8- 19، (تاريخ خليفة) : 68، (الجرح والتعديل) : 3/ 212، (الاستيعاب) :
1/ 369- 375، ترجمة رقم (541) ، تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 168- 169، (الإصابة) :
2/ 121- 124، ترجمة رقم (1828) ، (صفة الصفوة) : 1/ 195- 198، ترجمة رقم (12) ، (المستدرك) : 3/ 211- 220، (سير الأعلام) : 171- 184، ترجمة رقم (15) ، (شذرات الذهب) : 1/ 10.(6/164)
الليثي] [ (1) ] وشداد لقب له، والهاد لقب لأبيه، حليف بنى هاشم، وتزوج سلمى بنت عميس، خلف عليها بعد حمزة فولدت له: عبد اللَّه وعبد الرحمن، وسكن المدينة وتحول إلى الكوفة [ (2) ] .
والعباس بن عبد المطلب رضى اللَّه عنه [ (3) ] ، كانت عنده لبابة بنت
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (الإصابة) .
[ (2) ] وإنما قيل لأبيه: الهاد، لأنه كان يوقد النار ليلا للسارين، روى عنه ابنه عبد اللَّه، وله رؤية، وإبراهيم ابن محمد بن طلحة. وعبد الرحمن بن أبى عمارة.
وكانت تحته سلمى بنت عيسى أخت أسماء بنت عميس، فكان من أسلاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن سلمى أخت ميمونة لأمها، ومن أسلاف أبى بكر رضى اللَّه عنه، وله في (المشارق) حديث واحد، قال الدري عن ابن معين ليس له مسند غيره، قال البخاري: له صحبة، وذكره ابن سعد فيمن شهد الخندق، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 4/ 280، ترجمة رقم (556) ، (الإصابة) :
3/ 324، ترجمة رقم: (3861 ز) ، (حلية الأولياء) : 1/ 60، (الثقات) : 3/ 186، (الاستيعاب) : 2/ 695- 696، ترجمة رقم (1161) ، (تاريخ الصحابة) : 131، ترجمة رقم (637) ، (المعارف) : 282، (طبقات ابن سعد) : 6/ 26، 8/ 286.
[ (3) ] هو العباسي بن عبد المطلب رضى اللَّه عنه، عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر، فأسر يومئذ، فادعى أنه مسلم، فاللَّه أعلم، وليس هو في عداد الطلقاء، فإنه كان قد قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قبل الفتح، ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟
له عدة أحاديث، منها خمسة وثلاثون في مسند بقي، وفي البخاري ومسلم حديث، وفي البخاري حديث، وفي مسلم ثلاثة أحاديث. وقد الشام مع عمر رضى اللَّه عنه، وكان رضى اللَّه عنه شريفا مهيبا عاقلا جميلا، أبيض بضّا، له ضفيرتان، معتدل القامة، ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين، وكان أطول الرجال، وأحسنهم صورة، وأبهاهم، وأجهرهم صوتا، مع الحلم الوافر، والسؤدد.
قيل للعباس: أنت أكبر أو النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: هو أكبر منى وأنا ولدت قبله. وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطى في النوائب. وثبت أن العباس كان يوم حنين وقت الهزيمة، آخذا بلجام بغلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وثبت معه حتى نزل النصر. وثبت من حديث أنس: أن عمر رضى اللَّه عنه استشفى فقال: اللَّهمّ إنا كنا إذ قحطنا على عهد نبيك صلّى اللَّه عليه وسلم توسلنا به، وإنا نستسقي إليك بعمّ نبيك العباس.
قال الضحاك بن عثمان الحزامي: كان يكون للعباس الحاجة إلى غلمانه وهم بالغابة، فيقف على سلع- جبل بمكة- وذلك في آخر الليل فيناديهم- فيسمعهم، والغابة نحو من تسعة أميال.
قال الحافظ الذهبي: كان تامّ الشكل، جهوريّ الصوت جدا، وهو الّذي أمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أن يهتف يوم حنين: يا أصحاب الشجرة. كانت وفاته رضى اللَّه عنه في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وله(6/165)
الحارث بن حزن، وهي أم الفضل وعبد اللَّه وعبيد اللَّه وقثم وعبد الرحمن ومعبد وأم حبيب، وهي أخت أم حبيبة ميمونة.
وجعفر بن أبى طالب رضى اللَّه عنه [ (1) ] ، كانت عنده أسماء بنت
__________
[ () ] ستّ وثمانون سنة، ولم يبلغ أحد هذه السنّ من أولاده، ولا أولادهم، ولا ذريته الخلفاء. له ترجمة في: (أسماء الصحابة الرواة) : 97، ترجمة رقم (85) ، (تلقيح فهوم أهل الأثر) : 366، (طبقات ابن سعد) : 4/ 5- 33، (مسند أحمد) : 1/ 339- 345) ، (تاريخ خليفة) : 168، (التاريخ الكبير) : 7/ 2، ترجمة رقم (1) ، (المعارف) : 118، 137، 156، 589، 592، (الجرح والتعديل) : 6/ 210، ترجمة رقم (1151) ، (المستدرك) 3/ 362- 377، (الاستعاب) :
2/ 810- 830، ترجمة رقم (1378) ، (صفة الصفوة) : 1/ 262- 264- 264، (تهذيب التهذيب) :
5/ 107- 108، ترجمة رقم (214) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 35، ترجمة رقم (3355) (كنز العمال) : 13/ 502- 503، حديث رقم (37294) ، (شذرات الذهب) : 1/ 38- 39، (أسير أعلام النبلاء) : 3/ 78- 103، ترجمة رقم (11) .
[ (1) ] هو جعفر بن أبى طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصىّ الهاشميّ، ابن عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أخو عليّ بن أبى طالب، وهو أسنّ من عليّ رضى اللَّه عنه بعشر سنين.
هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، فوافى المسلمين وهم على خيبر إثر أخذها، فأقام بالمدينة أشهرا، ثم أمّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك، فاستشهد، وقد سرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كثيرا بقدومه، وحزن لوفاته.
روى شيئا يسيرا، روى عنه ابن مسعود، وعمرو بن العاص، وأم سلمة، وابنه عبد اللَّه، عن نافع أن ابن عمر قال: جمعت جعفرا على صدري يوم مؤتة، فوجدت في مقدّم جسده بضعا وأربعين، ما بين ضربة وطعنة.
وعن أسماء قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فدعا بنى جعفر، فرأيته شمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول اللَّه: أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: نعم، قتل اليوم، فقمنا نبكي، ورجع فقال:
أصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم، مات سنة تسع وثلاثين، عن بضع وثلاثين سنة رضى اللَّه عنه.
عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: رأيت جعفر بن أبى طالب ملكا في الجنة، مضرجة قوادمه بالدماء يطير في الجنة،
له ترجمة في: (مسند أحمد) : 1/ 332- 334، 6/ 393- 395، (طبقات بن سعد) : 4/ 34- 41، (طبقات خليفة) : 4، (تاريخ خليفة) : 86، 87، (التاريخ الكبير) 2/ 185، ترجمة رقم (2139) ، (التاريخ الصغير) : 1/ 22، (الجرح والتعديل) :
2/ 482، ترجمة رقم (1960) ، (حلية الأولياء) : 1/ 114، ترجمة رقم (17) ، (الاستيعاب) :
1/ 242، ترجمة رقم (327) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 148، ترجمة رقم (105) ،(6/166)
عميس، أخت ميمونة لأمها، فولدت له عبيد اللَّه وعوفا ومحمدا، وقد تقدم التعريف بعباس وجعفر.
وأبو بكر الصديق رضى اللَّه عنه، واسمه: عبد اللَّه بن أبى قحافة، عثمان ابن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه، كان في الجاهلية وجيها، رئيسا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناق- وهي الديات-، كان إذا حمل شيئا قالت فيه قريش صدقوه وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه، وصحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قديما، وهو أول من أسلم بعد خديجة، وكان يقال له: عتيق، لجماله وعتاقة وجهه، أو لأنه لم يكن في [صفاته] [ (1) ] . شيء يعاب به، أو لأنه كان له أخوان يقال لأحدهما: عتيق، والآخر عتيق، فمات عتيق قبله فسمى باسمه، أو لأن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا،
وسمى صديقا لمبادرته إلى تصديق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في كل ما جاء به، ولتصديقه له في خبر الإسراء، وأسلم وله أربعون ألفا أنفقها على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وفي سبيل اللَّه، وأعتق سبعة كانوا يعذبون في اللَّه، ولم يغب عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في موطن من مواطنه، واستخلفه على الصلاة بالناس في مرض موته، فبايعه المسلمون بعد وفاته في سقيفة بنى ساعدة، ثم بويع بيعة العامة يوم الثلاثاء غد ذلك اليوم، وارتدت العرب، فقام بقتال أهل الردة حتى استقر الإسلام وثبت، ومكث في الخلافة سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال، وقيل: سنتين وثلاثة أشهر وسيع ليالي، وقيل توفّى على رأس
__________
[ () ] (تهذيب التهذيب) : 2/ 2/ 83، ترجمة رقم (146) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 168، ترجمة رقم (1041) ، (تاريخ الصحابة) : 57، ترجمة رقم (178) ، (صفة الصفوة) : 1/ 264، ترجمة رقم (56) ، (شذرات الذهب) : 1/ 48.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.(6/167)
ستين وثلاثة أشهر واثنى عشر يوما، وقيل: وعشرة أيام، وقيل: وعشرين يوما. وتوفى يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الآخرة، فغسّلته زوجته أسماء بنت عميس، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ونزل في قبره: عمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن أبى بكر رضى اللَّه عنهم، ودفن ليلا إلى جانب قبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة، وفضائله كثيرة جدا، رضى اللَّه عنه، وكانت تحته أسماء بنت عميس، خلف عليها بعد جعفر بن أبى طالب، وهي أخت ميمونة، فولدت له محمد بن أبى بكر المقتول بمصر [ (1) ] .
وعلى بن أبى طالب رضى اللَّه عنه خلف بعد أبى بكر رضى اللَّه عنه على أسماء بنت عميس، فولدت له يحيى وعونا، وقد تقدم التعريف [به رضى اللَّه عنه] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (الثقات) : 2/ 338، (طبقات ابن سعد) : 3/ 169، (الإصابة) : 4/ 169- 175، ترجمة رقم (482) ، (حلية الأولياء) : 1/ 28، (صفة الصفوة) : 1/ 123- 139، ترجمة رقم (2) ، (وفيات الأعيان) : 3/ 64- 71، ترجمة رقم (339) ، (تاريخ الإسلام) : 3/ 105- 112، (تاريخ خليفة) : 123، (طبقات خليفة) : 8، (تاريخ الطبري) : 3/ 171، 3/ 419، 3/ 435، (المعارف) : 48، 167 (الكامل في التاريخ) : 2/ 449، (مسند أحمد) : 7/ 154، (المستدرك) : 3/ 64- 86، (تاريخ الصحابة) : 23، (فتح الباري) : 7/ 9- 49، (تهذيب التهذيب) :
5/ 276- 277، ترجمة رقم (537) ، (شذرات الذهب) : 1/ 24، (مسلم بشرح النووي) :
15/ 157- 167، (شذرات الذهب) : 1/ 24.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 87- 94، (مسلم بشرح النووي) : 15/ 183- 191، (سنن ابن ماجة) :
المقدمة: 42- 45، (طبقات ابن سعد) : 3/ 19- 40، (الاستيعاب) : 3/ 1089- 1133، ترجمة رقم (1855) ، (المستدرك) : 3/ 116- 158، (نهج البلاغة) : المقدمة: 35- 55، (شرح ابن أبي الحديد على النهج) : 1/ 11- 30، (حلية الأولياء) : 1/ 61- 87، ترجمة رقم (4) ، (صفة الصفوة) : 1/ 162- 175، ترجمة رقم (5) ، (مسند أحمد) : 1/ 122 وما بعدها، (مغازي الواقدي) : 2/ 655، (الإصابة) : 4/ 564- 570، ترجمة رقم (5692) ، (تاريخ الإسلام) :
3/ 621- 652، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 344- 349، (المعارف) : 203- 218، (تهذيب التهذيب) : 7/ 294- 298، ترجمة رقم (566) ، (تاريخ بغداد) : 1/ 133- 138،(6/168)
والطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشيّ المطلبي، أمه وأم اخوته عبيدة بن الحارث، والحصين بن الحارث: سخيلة بنت خزاعيّ ابن الحويرث بن الحارث بن حبيب بن مالك بن الحارث بن حطيط بن جشم ابن ثقيف، وتزوج زينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمها هند، وشهد بدرا، ومات بعدها، ومات عن سبعين سنة، سنة اثنتين وثلاثين [ (1) ] .
وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد المناف بن قصي أبو الحارث وقيل: أبو معاوية، كان أسنّ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعشر سنين، وأسلم قبل الدخول إلى دار الأرقم، وهاجر هو وأخواه الطفيل والحصين إلى المدينة، ومعهم مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب، وكان لعبيدة قدرا ومنزلة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعقد له لواء على ستين راكبا في سنة [ثنتين] ، وشهد بدرا فأغنى يومئذ غناء عظيما، وقطع عتبة- وقيل: شيبة بن ربيعة- رجله فارتثّ منها، ومات بالصفراء وله ثلاث وستون سنة، وخلف على زينب أم المساكين أخت ميمونة فقتل عنها [ (2) ] .
__________
[ () ] ترجمة رقم (1) ، (شذرات الذهب) : 1/ 49- 51.
[ (1) ] هو الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه سخيلة بنت خزاعيّ الثقيفة، وهي أم عبيدة بن الحارث، وكان للطفيل من الولد عامر بن الطفيل. وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين الطفيل بن الحارث والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، هذا في رواية محمد بن عمر. وأما في رواية ابن إسحاق فإنه آخى بين الطفيل بن الحارث وسفيان بن نسر بن عمرو بن الحارث بن كعب بن زيد بن الحارث الأنصاريّ.
قال محمد بن عمر: وشهد الطفيل بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها، مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وتوفى سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 3/ 51، (الإصابة) : 3/ 519، ترجمة رقم (4251) ، (الاستيعاب) : 2/ 756- 757، ترجمة رقم (1271) .
[ (2) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 3/ 50- 52، (تاريخ خليفة) : 59، 61، 62، (الاستيعاب) : 3/ 1020- 1021، ترجمة رقم (1748) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 317- 318، (الإصابة) : 4/ 424- 425، ترجمة رقم (5379) ، (مغازي الواقدي) : 2، 10، 11، 24، 68، 69، 100، 145، 147، 148، 153، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 256، ترجمة رقم (45) ، شذرات الذهب (1/ 9) .(6/169)
والوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن شمس [بن] قيس بن عمرو بن مخزوم، وهو الوحيد، أبو عبد شمس، أمه وأم أخيه عبد شمس صخرة بنت الحارث ابن عبد اللَّه بن عبد شمس، من قيس، وهو أبو خالد بن الوليد، كانت تحته لبابة الصغرى، وهي العصماء بنت الحارث بن حرب الهلالية أخت ميمونة، فولدت له خالد بن الوليد، سيف اللَّه، وهو ابن خالة عبد اللَّه بن عباس، ويقال: إن لبابة الصغرى غير العصماء، وأن العصماء كانت عند أبىّ بن خلف، فولدت له أبا أبى وإخوة له، والأول قول الكلبي [ (1) ] .
وعبد اللَّه بن كعب بن عبد اللَّه بن كعب بن منبه بن الأوس بن خثعم الخثعميّ، كانت عنده سلامة بنت عميس، أخت ميمونة لأمها، فولدت له آمنة، تزوجها عبد اللَّه بن جعفر [ (2) ] .
وزياد بن عبد اللَّه بن مالك بن بجير الهلالي [ (3) ] ، كانت عنده عزة بنت الحارث بن حزن أخت ميمونة.
__________
[ (1) ] (جمهرة النسب) : 38- 39، 85، (جمهرة أنساب العرب) : 144، 147، 148، وكان الوليد ابن المغيرة، من المستهزءين وفي بعض المصادر: حزن بدل حرب.
[ (2) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدىّ من كتب التراجم.
[ (3) ] هو زياد بن عبد اللَّه بن مالك بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد اللَّه بن هلال بن عامر، وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلما دخل المدينة توجه إلى منزل ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكانت خالة زياد.
واسم أمه غرّة- أو عزّة- بنت الحارث، وهو يومئذ شابّ، فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو عندها، فلما أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، غضب فرجع، فقالت: يا رسول اللَّه! هذا ابن أختى، فدخل إليها ثم خرج حتى أتى المسجد ومعه زياد فصلى الظهر، ثم أدنى زيادا، فدعا له ثم وضع يده على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال تقول: ما زلنا نتعرف البركة في وجه زياد. وقال الشاعر لعلى بن زياد:
يا ابن الّذي مسح النبي برأسه ... ودعا له بالخير عند المسجد
أعنى زيادا لا أريد سواءه ... من غائر أو متهم أو منجد
ما زال ذاك النور في عرنينه ... حتى تبوأ بيته في الملحد
له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 1/ 309- 310، (الإصابة) : 2/ 584- 585، ترجمة رقم (2858 ز) .(6/170)
والأصم البكائي، كانت عنده برزة [ (1) ] أخت ميمونة بنت الحارث، فولدت له يزيد بن الأصم، ومات يزيد بن الأصم سنة ثلاث ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وكان ينزل الرقة [ (2) ] ، ويقال: إن الأصم خلف على عزة بعد زياد بن عبد اللَّه.
[سلفه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل مارية]
وأما سلفه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل مارية فإنه: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زياد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك النجار الأنصاري، أبو الوليد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو الحسام، شاعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] ، أمه الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد ودّ بن زيد بن
__________
[ (1) ] في (خ) : «عزة» ، وما أثبتناه من (ابن سعد) .
[ (2) ] يزيد الأصم من جلّة التابعين بالرّقّة، ولأبيه صحبة، وهو عمرو، ويقال: عبد عمرو، ويقال: عدس ابن معاوية، الإمام، الحافظ، أبو عوف العامرىّ، البكّائى.
حدّث عن خالته ميمونة أم المؤمنين، وابن خالته ابن عباس، وعليّ بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة، وعائشة، ومعاوية، وعوف بن مالك، وغيرهم، ولم تصح روايته عن عليّ، وقد أدركه وكان بالكوفة في خلافته.
حدث عنه ابن أخيه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصم، وابن شهاب، وعبد الملك ابن عطاء، وآخرون.
وكان كثير الحديث، قاله ابن سعد، وثّقه العجليّ، وأبو زرعة، والنسائي وغيرهم، مات سنة إحدى ومائة، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: (الإصابة) : 6/ 693- 694، ترجمة رقم (9388) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 479، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (3067) ، (تاريخ البخاري) : 8/ 318، (الجرح والتعديل) : 4/ 252، (حلية الأولياء) : 4/ 97، ترجمة رقم (252) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 161، (تهذيب التهذيب) : 11/ 273- 274، ترجمة رقم (501) .
[ (3) ] نسب الرواة حسان إلى أبيه فقالوا: هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار- وهو تيم اللَّه- بن ثعلبة ابن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقاء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يعرب بن قحطان.
ونسبوه إلى أمه فقالوا: أم حسان الفريعة بنت خنيس بن لوزان بن عبد ودّ بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.
ولد حسان في منتصف العقد السابع من القرن السادس الميلادى، وعاش مائة وعشرين سنة،(6/171)
ثعلبة بن الخزرج بن كعب بن ساعدة الأنصارية، وانتدب لهجو المشركين
__________
[ () ] نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، فهو من المخضرمين، وتوفى سنة أربعين من الهجرة على أرجح الآراء.
كانت أسرة حسان ذات شأن عظيم في الجاهلية والإسلام، فوالده ثابت بن المنذر قد حكمته الأوس والخزرج في حرب يوم سمير، ونزلوا على حكمه، وأخوه أوس بن ثابت ممن شهد العقبة مع السبعين مع الأنصار، كما آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينه وبين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، وقد سقط أوس يوم أحد شهيدا، كما استشهد أخ آخر له، وهو أبيّ بن ثابت يوم بئر معونة.
وأنجب حسان عدة أبناء، بينهم الشاعر عبد الرحمن بن حسان، أمه سيرين القبطية، أخت مارية أم إبراهيم بن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهبها لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان، فهو ابن خالة إبراهيم ابن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وكان عبد الرحمن شاعرا، وقد روى عن أبيه وغيره، فولد عبد الرحمن: الوليد، وإسماعيل، وأم فراس، أمّهم أم شيبة بنت السائب بن يزيد بن عبد اللَّه، وسعيد بن عبد الرحمن. وكان شاعرا، وقد روى عنه أمه أم ولد، وحسان بن عبد الرحمن والفريعة، ويكنى عبد الرحمن بن حسان أبا سعيد، وكان شاعرا، قليل الحديث، وقد ضمه بعض العلماء إلي الثقات.
وقد أشار العلماء إلى صفة لصقت بحسان، وهي صفة الجبن، وقد أثبتت المصادر أن أكحل حسان كان قد قطع، فلم يكن يضرب بيده، وتلك علة إحجامه عن الاشتراك في غزوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هذا إلى جانب كبر سنة، وضعف روح المغامرة عنده، مما جعله حذرا متمهلا، في الوقت الّذي نجد فيه شباب المسلمين وشيوخهم، مدفوعين بقوة الدين، وبروح الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم نحو الجهاد الّذي كان المظهر الحقيقي للمسلم المؤمن في هذه الفترة.
وقد عاش حسان في جاهليته في الفترة التي ازدهر فيها نوعان من الشعر التقليدي القديم، في الشعر القبلي، وفن المديح، وقد برع الحسان في كلا الفنين، برع في أولهما، لأنه كان من الشعراء القبليين، الذين كانوا لسان حال قبائلهم، يمجدون انتصاراتها، ويفخرون بأمجادها، كما برع في آخرهما، لأنه كان من الشعراء الجوالين، الذين نزلوا الإمارتين الشماليتين: إمارة الغساسنة، وإمارة المناذرة، يمدحون ملوكها، وينالون عطاياهم وجوائزهم، لذلك نجد شعر حسان الجاهلي في مناقضاته القبليّة، وفي مدائحه التكسبية، من خير ما وصلنا من هذا العصر. له ترجمة في: (ديوان حسان بن ثابت) : 9- 10، (الشعر والشعراء) : 188- 190، (طبقات ابن سعد) : 5/ 266، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 512- 523، ترجمة رقم (106) ، (تاريخ الإسلام) : 2/ 440، (مسند أحمد) :
6/ 292، (المستدرك) : 3/ 553- 557، (الإصابة) : 2/ 62- 64، ترجمة رقم (1706) ، (الاستيعاب) : 1/ 341- 350، ترجمة رقم (507) ، (طبقات خليفة) : 88، (تاريخ خليفة) :
202، (التاريخ الكبير) : 3/ 29، (المعارف) : 2، 128، 143، 197، 132، (الجرح والتعديل) :
3/ 332، (تهذيب التهذيب) : 2/ 216- 217، ترجمة رقم (450) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 209، ترجمة رقم (1301) ، (شذرات الذهب) : 1/ 41، 60.(6/172)
هو وكعب ابن مالك، وعبد اللَّه بن رواحة، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
[اهجهم]- يعنى المشركين- وروح القدس معك، وقال له: اللَّهمّ أيده بروح القدس،
وكان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام، وأجمعت العرب علي أنّ أشعر أهل المدر يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدر حسان، وكان ممن خاض في الإفك على عائشة رضى اللَّه عنها، وقيل لم يخض ولم يجلد، وكان من أجبن الناس، لم يشهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا من المشاهد لجبنه، وأنكر قوم حسان ذلك وقالوا: لكن أقعده عن الحرب قطع أكحله، وأنشدوا قوله:
أضر بجسمي مرور الدهور ... وخان قراع يدي الأكحل
وقد كنت أشهد [وقع] الحروب ... ويحمرّ في كفى المنصل
وقال إسماعيل بن إسحاق: الدليل على أن حسان لم يكن جبانا: أنه هاجى جماعة فلم يعيره أحد بالجبن، وأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سيرين أخت مارية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان، وتوفى قبل الأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: أيام قتل على رضى اللَّه عنه وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكان يخضب شاربه وعنقفته بالحناء ولا يخضب سائر لحيته، فقال له ابنه عبد الرحمن: لم تفعل هذا؟ قال: لأكون كأنى أسد ولغ في دم. قال ابن قتيبة: انقرض ولد حسان ولم يبق منهم أحد.(6/173)
فصل في ذكر أحماء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
حمو الرجل: أبو امرأته، وحمو المرأة وحماها: أبو زوجها، ويقال: حمو الرجل: أبو امرأته أو أخوها أو عمها، وحمو المرأة: أبو زوجها، وكذلك من [كان من] قبله ويقال: هذا حموها [ (1) ] ، ورأيت حماها [ (2) ] ، ومررت بحميها [ (3) ] ، والأنثى حماة، وقيل: الأحماء من قبل المرأة خاصة، والأختان من قبل الزوج، والصهر يجمع ذلك كله [ (4) ] .
__________
[ (1) ] حموها: خبر مرفوع بالواو لأنه من الأسماء الستة.
[ (2) ] حماها: مفعول به منصوب بالألف لأنه من الأسماء الستة.
[ (3) ] بحميها: مجرور بالباء وعلامة جره الياء لأنه الأسماء الستة والأسماء الستة هي: «ذو» بمعنى صاحب، وما أضيف لغير الياء من «أب» ، «أخ» ، «حم» ، «هن» ، و «فم» بغير ميم، فإنّها تعرب بالواو، والألف، والياء، فترفع فالواو: نيابة عن الضمة، وتنصب بالألف نيابة عن الفتحة، وتخفض بالياء نيابة عن الكسرة.
قال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ [الرعد: 6] ، وقال تعالى أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ [القلم:
14] ، وقال تعالى: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] ، وقال تعالى: وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص: 23] ، وقال تعالى: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «يوسف: 8] ، وقال تعالى: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ [يوسف: 81] ، (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب) : 41/ 42، مختصرا.
[ (4) ] (ترتيب القاموس) : 1/ 718- 719، (لسان العرب) : 14/ 196- 197.(6/174)
[حمو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من قبل خديجة]
خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي، أبو عدي، ويقال له: ابى الخسف، [أمة زهرة ويقال لها: زهراء] ابنة عمرو بن حنثرة بن ذؤيبة [ (1) ] بن هلال، وفي ولد أسد العدد، ولما قدم تبّع الأخير مكة، وأراد احتمال الركن إلى اليمن [فقام خويلد في ذلك] [ (2) ] واشتدت مرارته له، فانصرف وتركه، فقال خويلد:
__________
[ (1) ] وفي جمهرة النسب: ذؤيبة بن قرفة بن عمرو بن عوف بن مازن بن كاهل بن أسد بن خزيمة، وهي التي ذكرها القرآن الكريم بقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النحل: 92] ، وإياها عنى فضالة بن شريك في قوله:
فما لى حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد
وذلك أن فضالة بن شريك أتى عبد اللَّه بن الزبير يرجو نواله، غير أن هذا الأخير لم يصله، فانصرف، فقال:
أقول لغلمتى أدنوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد
فما لى حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد
أرى الحاجات عند أبى خبيب ... نكدن ولا أميّة بالبلاد.
فلما بلغ ابن الزبير الشعر، فمرّ به قوله: «إلى ابن الكاهلية» قال: لو علم لي جدة لأم من عمته لسبنى بها.
وكانت أم خويلد بن أسد بن عبد العزى جدة العوام بن خويلد: زهرة بنت عمر بن حنثرة، من بنى كاهل بن أسد بن خزيمة.
[ (2) ] زيادة لتصويب السياق من (البداية والنهاية) : 2/ 362، حيث قال: وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو الّذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن. فقام في ذلك خويلد، وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما روّعه، فنزع عن ذلك، وترك الحجر الأسود مكانه.
(البداية والنهاية) ، وفي (خ) : «تبع الآخر» .
وتبّع الأخير هو الّذي سار إلى المشرق من التبابعة، ويعنى بقوله: تبع الأخير، أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد. فإن ابن إسحاق وغيره يقولون: إن الّذي ملك البلاد المشرقية لما توفى، ملك بعده عدة تبايعة، ثم اختل أمرهم زمانا طويلا، حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن.
(الكامل في التاريخ) : 1/ 423.(6/175)