ابن سفيان عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مبشرهم إذا [أبلسوا] [ (1) ] ، لواء [الكرامة] [ (1) ] يومئذ بيدي، يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون.
وله من طريق أبي داود الطيالسي وسليمان بن حرب قالا: حدثنا حماد ابن سلمة، حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال: خطبنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما على منبر البصرة، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه وقال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ألا إني سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه ولا فخر.
ورواه هشيم عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع ولا فخر، وإن لواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر [ (2) ] .
ورواه سفيان بن عيينة عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال:
خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر [ (2) ] .
وله من حديث زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فيفتحها اللَّه لي، وأنا سيد الأولين والآخرين من النبيين ولا فخر.
وله عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينظرون، فخرج حتى دنا منهم، فسمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا! إن اللَّه اتخذ من خلقه خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلامه موسى تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة اللَّه وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه اللَّه، فخرج عليهم
__________
[ () ] بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس الحديث بطوله.
والقعقعة: حكاية حركة لشيء يسمع له صوت (لسان العرب) : 8/ 286.
[ (1) ] سيأتي شرحه بعد قليل، وفي (خ) : «بلسوا» ، «الكرم» .
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.(3/229)
فسلّم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن اللَّه اتخذ إبراهيم خليلا، وهو كذلك، وموسى نجيّ اللَّه، وهو كذلك، وعيسى كلمته وروحه، وهو كذلك، وآدم اصطفاه اللَّه، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب اللَّه ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة وتحته آدم ومن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق [باب] [ (1) ] الجنة فيتفح اللَّه لي، فيدخلينها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، [و] [ (1) ] أنا أكرم الأولين والآخرين على اللَّه عز وجل ولا فخر.
ورواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أرسلت إلى الجن والإنس، [وإلى] [ (2) ] كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا، ونصرت بالرعب أمامي شهرا، وأعطيت خواتيم سورة البقرة [ (3) ] وكانت من كنوز العرش، وخصصت بها دون الأنبياء، وأعطيت المثاني [ (4) ] مكان التوراة، [والمئين] [ (5) ] مكان الإنجيل، والحواميم [ (6) ] مكان الزبور، وفضلت بالمفصّل، فأنا سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم وجميع الأنبياء من ولد آدم تحته ولا فخر، وإليّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وبي تفتح الشفاعة يوم القيامة ولا فخر، وأنا سابق [ (7) ] الخلق
__________
[ (1) ] زيادة للسياق، وأخرج الحاكم نحوه مختصرا في (المستدرك) : 2/ 629 حديث رقم (4098/ 107) .
[ (2) ] زيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] وهي من قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ حتى آخر السورة [من الآية 285 حتى الآية 286] .
[ (4) ] المثاني: سورة الفاتحة، وسميت بالمثاني لأنها تثنى وتقرأ في كل ركعة من ركعات الصلاة. قال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [87: الحجر] .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي رواية البيهقي في (الدلائل) ، لكن في رواية أبي نعيم في (الدلائل) : «والمائدة مكان الإنجيل» ، أي سورة المائدة. والمئين: أي السور التي أولها ما يلي سورة الكهف لزيادة كل منها على مائة آية.
[ (6) ] الحواميم: السور التي أولها حم وهي سبع سور: [1] سورة غافر، [2] سورة فصلت، [3] سورة الشورى، [4] سورة الزخرف، [5] سورة الدخان، [6] سورة الجاثية، [7] سورة الأحقاف.
[ (7) ] في (خ) : «سابق» ، وهي رواية السيوطي في (الخصائص) .(3/230)
إلى الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا أمامهم وأمتى بالأثر [ (1) ] .
وفي رواية مردان بن معاوية عن يحيى اللخمي عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لواء الحمد بيدي يوم القيامة، وأقرب الناس من لوائي العرب.
وله من حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن صالح بن عطاء، عن عطاء عن جابر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا قائد المسلمين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا شافع ومشفع ولا فخر.
وله من حديث شريج بن النعمان قال: حدثنا عبد اللَّه بن نافع عن عاصم ابن عمر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من تنشق الأرض عنه ثم أبو بكر ثم عمر، ثم يأتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين الحرمين [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 1/ 65، حديث رقم (25) من الفصل الرابع: ذكر الفضيلة الرابعة بإقسام اللَّه بحياته، وتفرده بالسيادة لولد آدم في القيامة، وما فضل هو وأمته على سائر الأنبياء وجميع الأمم صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال فيه: «وأنا سائق الخلق.
..» . و (دلائل البيهقي) : 5/ 475، في باب ما جاء في تحدث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بنعمة ربه عزّ وجلّ لقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وما جاء في خصائصه على طريق الاختصار: أخبرنا أبو بكر بن فورك، أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الزبور المئين، ومكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصل» .
والسبع الطوال: من البقرة إلى براءة (التوبة) . والمفصّل: من أول سورة الحجرات حتى آخر القرآن الكريم.
والحديث أخرجه الطبراني في الكبير، وأشار إليه السيوطي بالحسن.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 505، حديث رقم (3732/ 869) : بدون قوله: «فأحشر بين الحرمين» ، وزاد في رواية (المستدرك) : «وتلا عبد اللَّه بن عمر: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ذكره في باب (50) تفسير سورة ق من كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين. و (دلائل أبي نعيم) : 1/ 66 حديث رقم (26) بمثله سواء.(3/231)
وله من حديث حماد بن شعيب وزائدة وإسرائيل، كلهم عن عاصم عن زر ابن حبيش عن عبد اللَّه قال: إن اللَّه اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل اللَّه، وإن محمدا سيد ولد آدم يوم القيامة،
ثم قرأ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] .
ورواه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد اللَّه قال: إن اللَّه اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل اللَّه، وإن نبي اللَّه أكرم الخلائق على اللَّه يوم القيامة، ثم قرأ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (2) ] .
وله من حديث كثير بن زيد عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه [ (3) ] .
وفي رواية سعيد بن رافع عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد الخلائق يوم القيامة في اثنى عشر نبيا، منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
__________
[ (1) ] ونحوه باختلاف يسير بدون ذكر الآية في (المستدرك) : 2/ 550، حديث رقم (4018/ 27) ، ذكره في باب ذكر إبراهيم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خليل اللَّه عزّ وجلّ، وبينه وبين نوح هود وصالح صلوات اللَّه عليهما، من كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ونحوه في (المستدرك) : 1/ 652، 653، الأحاديث أرقام (3741) ، (3742) ، (3743) ، (3744) بسياقات متقاربة.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 485، وقال فيه: «وأن محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم أكرم الخلاق على اللَّه..» ،
والآية رقم 79: الإسراء.
[ (3) ] ونحوه بدون قوله: «فمن بعده المؤمنين» ، وقال فيه: «ومن دونه» ، في (دلائل أبي نعيم) :
1/ 64، حديث رقم (23) ، بدون الآية.
ورواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدريّ في (الجامع الصحيح) ، حديث رقم (3148) ، وقال: حديث حسن صحيح، (سنن الترمذي) : 5/ 288، كتاب (48) باب (18) . ورواه الإمام أحمد في (المسند) من حديث ابن عباس في الشفاعة، ورواه ابن ماجة في (السنن) :
2/ 1440، كتاب الزهد، باب (37) ذكر الشفاعة، حديث رقم (4308) . والترمذي أيضا في المناقب، حديث (3615) ، قال أبو عيسى: وفي الحديث قصة، وهذا حديث حسن صحيح، وقد روي بهذا الإسناد عن أبي نضرة، عن ابن عباس.(3/232)
وفي رواية بديل بن المحبّر قال: حدثنا عبد السلام بن عجلان قال: سمعت أبا يزيد المدني يحدث عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا بيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول شخص يدخل عليّ الجنة: فاطمة بنت محمد، ومثلها في هذه الأمة مثل مريم في بني إسرائيل [ (1) ] .
ورواه يعقوب الحضرميّ عن عبد السلام عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأول من تنشق الأرض عن هامته ولا فخر، وأنا أول مشفع ولا فخر، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، حرم اللَّه الجنة على كل آدمي يدخلها قبلي [ (2) ] .
وله من حديث زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني أول من يرفع [رأسه] [ (3) ] بعد النفخة الأخيرة، فإذا موسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذاك كان أو بعد النفخة [ (4) ] ؟.
ومن حديث شعيب عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة وسعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 66، حديث رقم (27) . وأخرجه الترمذي بسند آخر وقال: حديث غريب. وتوقف غيره في الاحتجاج به ثم قال: عن بديل بن المحبر، عن عبد السلام بن عجلان، عن أبي يزيد المدني، عن أبي هريرة ... ، فذكره، ثم قال: أخرجه أبو صالح المؤذن في مناقب فاطمة عليها السلام.
[ (2) ]
وفي (صحيح مسلم بشرح النووي) : 3/ 73- 74، كتاب الإيمان، باب (85) في قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعا» ، حديث رقم (333) ،
حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب قالا: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن:
من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك.
وأخرجه البيهقي في (الدلائل) من حديث أنس بمثله سواء. (دلائل النبوة للبيهقي) : 5/ 480.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ]
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (43) النفخ في الصور، قال مجاهد: الصور كهيئة البوق، زجرة: صيحة، وقال ابن عباس: الناقور الصور، الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الثانية، حديث رقم (6517) : حدثني عبد العزيز بن عبد اللَّه قال: حدّثني إبراهيم بن سعد عن(3/233)
__________
[ () ] ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن الأعرج أنهما حدّثاه أن أبا هريرة قال: «استبّ رجلان، رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والّذي اصطفى محمدا على العالمين، فقال اليهودي: والّذي اصطفى موسى على العالمين. قال: فغضب المسلم عند ذلك، فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهوديّ إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تخيّروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان موسى فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللَّه عزّ وجلّ» .
وحديث رقم (6518) : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق» . رواه أبو سعيد عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
قوله: «باب نفخ الصور» تكرر ذكره في القرآن الكريم، في الأنعام، والمؤمنين، والنمل، والزمر، وق، وغيرها، وهو بضم المهملة وسكون الواو، وثبت كذلك في القراءات المشهورة والأحاديث، وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها بفتح الواو، جمع صورة، وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح.
وقال أبو عبيدة في (المجاز) : يقال: الصور- يعني بسكون الواو- جمع صورة، كما يقال: سور المدينة جمع سورة، قال الشاعر:
[فلما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة] فيستوي معنى القراءتين.
وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة، قالوا: والمراد النفخ في الصّور وهي الأجساد لتعاد فيها الأرواح، كما قال تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، وتعقب قوله: «جمع» ، بأن هذه أسماء أجناس لا جموع، وبالغ النحاس وغيره في الردّ على التأويل، وقال الأزهري: إنه خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : وقد أخرج أبو الشيخ في (كتاب العظمة) ، من طريق وهب بن منبه من قوله قال: خلق اللَّه الصور من لؤلؤ بيضاء في صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش:
خذ الصور فتعلق به، ثم قال: كن، وكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور، فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة، ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه: «ثم تجمع الأرواح كلها في الصور، ثم يأمر اللَّه إسرافيل فينفخ فيه، فتدخل كل روح في جسدها» ، فعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولا، ليصل النفخ بالروح إلى الصور، وهي الأجساد، فإضافة النفخ إلى الصور الّذي هو القرن، حقيقة، وإلى الصّور التي هي الأجساد، مجاز.
قوله: «قال مجاهد: الصور كهيئة البوق» ، وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، قال كهيئة البوق، وقال صاحب الصحاح: البوق الّذي يزمر به، وهو معروف، ويقال للباطل، يعني يطلق ذلك عليه مجازا، لكونه من جنس الباطل.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : لا يلزم من كون الشيء مذموما أن لا يشبه به(3/234)
وفي رواية محمد بن يوسف الفرياني قال: حدثنا سفيان عن عمر بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الناس يصعقون [يوم القيامة] [ (1) ] فأكون أول من يفيق [ (2) ] .
__________
[ () ] الممدوح، فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس، مع النهي عن استصحاب الجرس، كما تقدم تقريره في بدء الوحي.
قوله: «قال ابن عباس: الناقور الصور» ، وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال: الصور، ومعنى نقر نفخ، قاله في الأساس.
وأخرج البيهقي من طريق أخرى عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن» ؟
وللحاكم بسند حسن، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رفعه «إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان درّيّان» .
قوله: «الراجفة النفخة الأولى، والرادفة النفخة الثانية» ، هو من تفسير ابن عباس، وصله الطبري وابن أبي حاتم بالسند المذكور، وقد تقدم بيانه في تفسير سورة النازعات، فليراجع هناك.
وإذا تقرر أن النفخة للخروج من القبور فكيف تسمعها الموتى؟ والجواب: يجوز أن تكون نفخة البعث تطول إلى أن يتكامل إحياؤهم شيئا بعد شيء، وتقدم الإلمام في قصة موسى مما ورد في تعيين من استثنى اللَّه تعالى في قوله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال ذكرهم الحافظ ابن حجر في (الفتح) : 11/ 451 باب (43) من كتاب الرقاق فليراجع هناك.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 67، حديث رقم (28) .
وخرّج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه، قال: «جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد لطم وجهه، فقال: يا محمد! إن رجلا من الأنصار من أصحابك لطم وجهي، فقال: ادعوه، فدعوه، فقال: لم لطمت وجهه؟
قال: يا رسول اللَّه، إني مررت باليهودي، فسمعته يقول: والّذي اصطفى موسى على البشر، فقلت:
وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة، فلطمته، فقال: لا تخيّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أفاق قبلي، أو جوزي بصعقة الطور» .
وفي رواية: «فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ... »
وذكر نحوه.
رواه البخاري في (الخصومات) ، باب ما يذكر من الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي، وفي (الأنبياء) ، باب قول اللَّه تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، وفي تفسير سورة الأعراف، باب وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، وفي (الديات) ، باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، وفي (التوحيد) ، باب وكان عرشه على الماء وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. ورواه مسلم في (الفضائل) ، باب من فضائل موسى صلى اللَّه عليه وسلّم.(3/235)
وله من حديث يحيى الحماقي وحبان بن موسى قالا: حدثنا عبد اللَّه بن المبارك، أنبأنا حبان [عن] يحيى بن سعيد التيمي قال: حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة قال: أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة. رواه مسلم [ (1) ] .
وفي رواية عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: وضعت بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قصعة من ثريد فتناول الذراع- وكانت أحب الشاة إليه- فنهس نهسة ثم قال: أنا سيد [الناس] [ (2) ] يوم القيامة [ (3) ] .
ولأبي نعيم من حديث يحيى الحماني، حدثنا شريك عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي كعب عن أبيه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا كان يوم القيامة، كنت إمام الناس يوم القيامة وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ولا فخر [ (4) ] .
وله من حديث عبيد اللَّه بن عمرو عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن جابر ابن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة كان لواء الحمد بيدي، وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (327) وهو حديث الشفاعة كاملا، والبيهقي في (الدلائل) : 5/ 476.
قوله: «فنهس منها نهسة» ، هو بالسين المهملة. قال القاضي عياض: أكثر الرواة رووه بالمهملة، ووقع لابن ماهان بالمعجمة وكلاهما صحيح، بمعنى أخذ بأطراف أسنانه. قال الهروي: قال ابن عباس:
النهس بالمهملة بأطراف الأسنان، وبالمعجمة الأضراس.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» ،
إنما قال هذا صلى اللَّه عليه وسلّم تحدثا بنعمة اللَّه تعالى، وقد أمره اللَّه تعالى بهذا، ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال القاضي عياض: السيد الّذي يفوق قومه، والّذي يفزع إليه في الشدائد، والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم سيدهم في الدنيا والآخرة، وإنما خصّ يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيه، وتسليم جميعهم له، ولكون آدم وجميع أولاده تحت لوائه صلى اللَّه عليه وسلّم (مسلم بشرح النووي) : 3/ 66- 67.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين في (خ) : «سيد ولد آدم» وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) : 3/ 69، كتاب الإيمان باب (84) ، حديث رقم (328) .
[ (4) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 481، والترمذي في (المناقب) باب (1) في فضل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3613) ، وقال: هذا حديث حسن.
[ (5) ] سبق الإشارة إليه.(3/236)
وله من حديث أبي عوانة عن أبي بشير، عن سعيد عن جابر عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كنت عند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنا سيد ولد آدم.
وله من حديث أحمد بن أبي ظبية عن أبيه عن عبد اللَّه بن جابر عن عطاء عن أم كرز أنها قالت: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أنا سيد المؤمنين إذا بعثوا، وسابقهم [ (1) ] إذا وردوا، ومبشرهم إذا أبلسوا [ (2) ] ، وإمامهم إذا سجدوا، وأقربهم مجلسا من الرب تعالى إذا اجتمعوا، [أقوم] [ (3) ] ، فأتكلم فيصدّقني، وأشفع فيشفّعني، وأسأل فيعطيني [ (4) ] .
وله من حديث الحرث بن أسامة قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا إسرائيل عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر رضي اللَّه عنه يقول: تصير الأمم يوم القيامة تجيء كل أمة نبيها فيرقاهم على كوم فيقول: يا فلان اشفع، فيردها بعضهم إلى بعض حتى ينتهي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فهو المقام المحمود الّذي قال اللَّه تعالى عنه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (5) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) : وفي (الخصائص) : 3/ 222، وفي (دلائل أبي نعيم) : «وسائقهم» .
[ (2) ] أبلسوا: أسكتوا من الحزن، ومنه إبليس لعنه اللَّه، وفي التنزيل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ، حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [12: الروم] ، [44: الأنعام] ، [77:
المؤمنون] ، [75: الزخرف] ، [49: الروم] على الترتيب.
[ (3) ] في (خ) : «أقول» ، وما أثبتناه من رواية أبي نعيم.
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 67، الفصل الرابع، ذكر الفضيلة الرابعة بإقسام اللَّه تعالى بحياته، وتفرده بالسيادة لولد آدم في القيامة، وما فضّل به هو وأمته على سائر الأنبياء وجميع الأمم صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (29) . وقال السيوطي في (الخصائص) : 3/ 222 «أخرجه أبو نعيم عن أم كرز» .
[ (5) ] 79: الإسراء، وعسى، مدلولها في المحبوبات الترجي، فقيل: هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجا من أن يَبْعَثَكَ. وقيل هي بمعنى كي، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى.
والأجود أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجود من اللَّه تعالى، وهو متعلق من حيث المعنى بقوله:
فَتَهَجَّدْ. وعسى هنا تامة، وفاعلها أَنْ يَبْعَثَكَ، وربك فاعل يبعثك، ومقاما الظاهر أنه معمول ليبعثك، هو مصدر من غير لفظ الفعل، لأن يبعثك بمعنى يقيمك، تقول: أقيم من قبره، وبعث من قبره. وقال ابن عطية: منصوب على الظرف أي في مقام(3/237)
__________
[ () ] محمود. وقيل: منصوب على الحال، أي ذا مقام محمود. وقيل: هو مصدر لفعل محذوف، التقدير فتقوم مقاما، ولا يجوز أن تكون عسى هنا ناقصة، وتقدم الخبر على الاسم فيكون ربك مرفوعا اسم عسى وأَنْ يَبْعَثَكَ الخبر في موضع نصب بها، إلا في هذا الإعراب الأخير.
وفي تفسير المقام المحمود أقوال:
أحدها: أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى اللَّه عليه وسلّم، والحديث في الصحيح، وهي عدة من اللَّه تعالى له صلى اللَّه عليه وسلّم، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم، في دعائه المشهور:
«وابعثه المقام المحمود الّذي وعدته» واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة.
الثاني: أنه في أمر شفاعته لأمّته في إخراجه لمذنبهم من النار، وهذه الشفاعة لا تكون إلا بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء.
وقد روي حديث الشفاعة وفي آخره: «حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن» ،
أي وجب عليه الخلود.
قال: ثم تلا هذه الآية عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: «المقام المحمود هو المقام الّذي أشفع فيه لأمتي»
فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى، التي يحمده بسببها الخلق كلهم، على أن المراد لأمته وغيرهم، أو يقال: إن كل مقام منها محمود.
الثالث: عن حذيفة: يجمع اللَّه الناس في صعيد فلا تتكلم نفس، فأول مدعوّ محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فيقول:
لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا منجأ ولا ملجأ إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت. قال: فهذا قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
الرابع: قال الزمخشريّ: معنى المقام المحمود المقام الّذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات (أ. هـ) ، وهو قول حسن ولذلك نكّر مَقاماً مَحْمُوداً، فلم يتناول مقاما مخصوصا، بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.
الخامس: ما قالت فرقة- منها مجاهد- وقد روي أيضا عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه اللَّه تعالى معه على العرش. وذكر الطبري في ذلك حديثا، وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا. قال ابن عطية:
يعني من أنكر جوازه على تأويله. وقال أبو عمر ومجاهد: إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم هذا أحدهما، والثاني تأويل إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [22: القيامة] ، قال تنتظر الثواب ليس من النظر، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [206: الأعراف] ، وقوله: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً [11: التحريم] ، وإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [69: العنكبوت] ، كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان.
وقال الواحدي: هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل، موحش، فظيع، لا يصح مثله عن ابن عباس، ونصّ الكتاب ينادي بفساده من وجوه: ...(3/238)
ورواه البخاري من حديث أبي الأحوص عن آدم، وله من حديث أبي نعيم قال: حدثنا داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: الشفاعة [ (1) ] .
ورواه إدريس الأودي عن أبيه مثله، قال الحافظ أبو نعيم: أحمد. وفيه عن سعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه بن مسعود وكعب بن مالك وجابر وأبي سعيد وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص في المقام المحمود [ (1) ] .
ورواه الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن رجل من أهل العلم عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في المقام المحمود [ (1) ] .
واعلم أن كل من خبرك عن نفسه بأمر يحتاج إلى علمه لو إخباره ما عرفته، فليس يقبح ذكره وإن اتصل بمدحه، ولهذه العلة مدحت الأنبياء عليهم السلام أنفسها مع تواضعها.
وخرج الحاكم من حديث إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا الحكم بن أبان قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس [رضي اللَّه عنهما] [ (2) ] :
إن اللَّه فضل محمدا على أهل السماء وفضله على أهل الأرض قالوا: [يا ابن عباس] [ (2) ] :
__________
[ () ] الأول: أن البعث ضد الإجلاس، بعث التارك، وبعث اللَّه الميت أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد.
الثاني: لو كان جالسا- تعالى- على العرش لكان محدودا متناهيا، فكان يكون محدثا.
الثالث: أنه قال: مقاما ولم يقل مقعدا محمودا، والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
الرابع: أن الحمقى والجهال يقولون: إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية، فلا مزّية له بإجلاسه معه! الخامس: إذا قيل: بعث السلطان فلانا، لا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه. (البحر المحيط) :
7/ 100- 102، تفسير سورة الإسراء.
[ (1) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 484، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الإسراء، حديث رقم (3137) 5/ 283 وقال: هذا حديث حسن.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .(3/239)
فبم [ (1) ] فضله على أهل السماء؟ قال: قال اللَّه تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ (2) ] ، وقال لمحمد: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [ (3) ] الآية، قالوا:
فبم [ (1) ] فضله اللَّه على أهل الأرض؟ قال: إن اللَّه تعالى قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [ (4) ] الآية، وقال لمحمد: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [ (5) ] ، فأرسله إلى الجن والإنس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن الحكم بن أبان قد احتج به جماعة من أئمة الإسلام [أيضا] [ (6) ] [ولم يخرجه الشيخان] [ (7) ] .
***
__________
[ (1) ] كذا في (خ) : وفي المرجع السابق: «فبما» .
[ (2) ] الأنبياء: 29.
[ (3) ] الفتح: 1.
[ (4) ] إبراهيم: 4.
[ (5) ] سبأ: 28.
[ (6) ] زيادة في (خ) .
[ (7) ] تكملة من المستدرك. والحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 381، حديث رقم (3335/ 472) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح. وأخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 486- 487 بالإسناد السابق..
والحكم بن أبان العدني أبو عيسى، روي عن عكرمة، وطاووس، وشهر بن حوشب، وإدريس ابن سنان بن بنت وهب، وغيرهم، وعنه ابنه إبراهيم، وابن عيينة، ومعمر، ومات قبله، وابن جريج- وهو من أقرانه- ومعتمر بن سليمان، وابن علية، ويزيد بن أبي حكيم، وموسى بن عبد العزيز القنباري، وغيرهم.
قال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح، وقال العجليّ: ثقة صاحب سنّة، كان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر اللَّه تعالى حتى يصبح. وقال سفيان بن عيينة:
أتيت عدن فلم أر مثل الحكم بن أبان. وقال ابن عيينة: قدم علينا يوسف بن يعقوب قاصّ كان لأهل اليمن، وكان يذكر منه صلاح، فسألته عن الحكم بن أبان، قال: ذاك سيد أهل اليمن. قال أحمد: مات سنة (154) وهو ابن (84) سنة. ترجمته في: (تهذيب التهذيب) : 2/ 364، ترجمة رقم (736) ، (الثقات) : 6/ 185، (التاريخ الكبير) : 2/ 336، ترجمة رقم (662) .(3/240)
فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات اللَّه عليهما وسلامه [ (1) ]
اعلم أنه لما ثبتت سيادة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأنه إمام الأنبياء والمرسلين وأفضلهم، قيل: فكيف طلب له من أمته من صلاة اللَّه تعالى عليه ما لإبراهيم عليه السلام حين قالوا في صلواتهم: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ فاقتضى هذا أن يكون إبراهيم أفضل من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] قال اللَّه عزّ وجلّ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [253: البقرة] ، فأخبره بأنه فاوت بينهم في الفضل، فأما الأخبار التي وردت في النهي عن التخيير بين الأنبياء فإنما هي في مجادلة أهل الكتاب في تفضيل نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم على أنبيائهم عليهم السلام، لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين مختلفين لم يؤمن أن يخرج كل واحد منهما في تفضيل من يريد تفضيله إلى الإزراء بالآخر، فيكفر بذلك.
فأما إذا كانت المخايرة من مسلم يريد الوقوف على الأفضل، فيقابل بينهما ليظهر له رجحان الأرجح، فليس هذا بمنهي عنه، لأن الرسل إذا كانوا متفاضلين، وكان فضل الأفضل يوجب له فضل حق، وكان الحق إذا وجب لا يهتدى إلى أدائه إلا بعد معرفته، ومعرفة مستحقه كانت إلى معرفة الأفضل حاجة، ووجب أن يكون للَّه عزّ وجلّ عليه دلالة، وطلب العلم المحتاج إليه من قبل إعلامه المنصوبة عليه ليس مما ينكر واللَّه تعالى أعلم. وهذا قول أبو عبد اللَّه الحليمي رحمه اللَّه.
قال البيهقي: ومن تكلم في التفضيل ذكر في مراتب نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وخصائصه وجوها لا يحتمل ذكرها بأجمعها هذا الكتاب، ونحن نشير إلى وجه منها على طريق الاختصار.
فمنها: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم كان رسول الثقلين الإنس والجن، وأنه خاتم الأنبياء.
ومنها: أن شرف الرسول بالرسالة، ورسالته أشرف الرسالات بأنها نسخت ما تقدمها من الرسالات، ولا تأتي بعدها رسالة تنسخها.
ومنها: أن اللَّه تبارك وتعالى أقسم بحياته صلى اللَّه عليه وسلّم.
ومنها: أنه جمع له بين إنزال الملك عليه أو إصعاده إلى مساكن الملائكة، وبين إسماعه كلام الملك، وإراءته إياه في صورته التي خلقه عليها، وجمع له بين إخباره عن الجنة والنار وإطلاعه عليهما، وصار العلم له، واقعا بالعالمين، دار التكليف ودار الجزاء عيانا.
ومنها: قتال الملائكة معه صلى اللَّه عليه وسلّم.
ومنها: ما أخبر عن خصائصه التي يخصّه اللَّه تعالى بها يوم القيامة، وهو المقام المحمود الّذي وعده بقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [79: الإسراء] .(3/241)
قيل: قد اختلفت طرق العلماء في الجواب عن ذلك، فقالت طائفة: هذه الصلاة علمها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يعرف أنه سيد ولد آدم، وردّ هذا بأن هذه هي الصلاة التي علمها أمته لما سألوه عن تفسير قول اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] ، وجعلها مشروعة في الصلاة إلى يوم القيامة، وهو لم يزل أفضل ولد آدم قبل أن يعلم بذلك وبعده، فلما علم بأنه سيد ولد آدم لم يغيّر نظم الصلاة عليه التي علمها أمته، ولا أبدلها بغيرها، ولا روي عن أحد خلافها، [فصلح] [ (2) ] هذا الجواب.
وقالت طائفة: هذا السؤال والطلب شرع ليتخذه اللَّه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وقد أجابه اللَّه تعالى إلى ذلك كما
ثبت في الصحيح: «ألا وإن صاحبكم خليل الرحمن» [ (3) ] ،
يعني نفسه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهذا القول من جنس ما قبله، فإن مضمونه أنه بعد أن اتخذ خليلا لا تشرع الصلاة عليه على هذا الوجه، وهذا من أبطل الباطل.
وقالت طائفة أخرى: إنما هذا التشبيه راجع إلى المصلى فيما يصير له من ثواب الصلاة عليه، فطلب من ربه ثوابا وهو أن يصلي عليه كما صلى على إبراهيم، لا بالنسبة إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فإن المطلوب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الصلاة وأعظم مما هو حاصل لغيره من العالمين، وردّ هذا: بأن التشبيه ليس فيما يحصل للمصلّي، بل فيما يحصل للمصلى عليه، وهو النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وآله، فمن قال: أن المعنى اللَّهمّ أعطني ثواب صلاتي عليه كما صليت على إبراهيم و [على] [ (4) ] آل إبراهيم فقد حرف الكلام
__________
[ () ] ومنها: أن اللَّه جلّ ثناؤه لم يخاطبه في القرآن إلا بالنبيّ أو الرسول، ودعا سائر الأنبياء بأسمائهم، وحين دعا الأعراب نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم باسمه أو كنيته نهاهم عن ذلك، وقال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [63: النور] ، وأمرهم بتعظيمه وبتفخيمه، ونهاهم عن التقديم بين يديه، وعن رفع أصواتهم فوق صوته، وعاب من ناداه من وراء الحجرات، إلى غير ذلك مما يطول بشرحه الكتاب، وهو مذكور في كتب أهل الوعظ أهل الوعظ والتذكير.
ومنها: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أكثر الأنبياء إعلاما، وقد ذكر بعض المصنفين أن أعلام نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم تبلغ ألفا.
(دلائل البيهقي) : 5/ 491، باب ما جاء في التخيير بين الأنبياء.
[ (1) ] الأحزاب: 56.
[ (2) ] في (خ) : «فطاح» ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] سبق الإشارة إليه.
[ (4) ] زيادة للسياق.(3/242)
وأبطل في كلامه.
وقالت طائفة: التشبيه عائد إلى الآل فقط، وتم الكلام عند قوله: اللَّهمّ صل على محمد، ثم قال: وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، فالصلاة المطلوبة لآل محمد هي المشبهة بالصلاة الحاصلة لإبراهيم، وهذا الجواب نقله العمراني عن الشافعيّ، واستبعدت صحته عنه رحمه اللَّه، فإنه
ورد في كثير من الأحاديث: «اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على آل إبراهيم» ،
وأيضا فإنه لا يصح هذا الجواب من جهة العربية، فإن العامل إذا ذكر معموله وعطف عليه غيره، ثم قيد بظرف أو جار أو مجرور أو مصدر أو صفة مصدر، كان ذلك راجعا إلى المعمول وما عطف عليه، هذا الّذي لا تحتمل العربية غيره.
فإذا قلت: جاءني زيد وعمرو يوم الجمعة، كان الظرف مقيدا بمجيئهما لا بمجيء أحدهما دون الآخر، وكذلك إذا قلت: ضربت زيدا وعمرا ضربا مؤلما، وأمام الأمير، أو قلت: سلّم علي زيد وعمرو يوم الجمعة.. ونحوه.
فإن قيل: هذا متجه إذا لم تعد العامل، فأما إذا أعيد العامل حسن ذلك، تقول: سلّم علي زيد وعلى عمرو إذا لقيته لم يمنع أن تختص ذلك بعمرو دون زيد، وهنا قد أعيد العامل في قوله: وعلى آل محمد، قيل: ليس هذا المثال بمطابق لمسألة الصلاة، وإنما المطابق أن تقول: سلّم علي زيد وعلى عمرو كما تسلم على المؤمنين، ونحو ذلك، وحينئذ فادّعاء أن التشبيه بسلامه على عمرو وحده دون زيد دعوى باطلة.
وقالت طائفة: لا يلزم أن يكون المشبه به أعلى من المشبه، بل يجوز أن يكونا متماثلين، وأن يكون المشبه أعلى من المشبه به، قال هؤلاء: والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل من إبراهيم من جهات غير الصلاة عليه وإن كانا متساويين في الصلاة، والدليل على أن المشبه قد يكون أفضل من المشبه به قول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وعورض هذا القول بوجوه من الرد:
أحدهما: أن هذا خلاف المعلوم من قاعدة تشبيه الشيء بالشيء، فإن العرب(3/243)
لا تشبه الشيء إلا بما فوقه [ (1) ] .
الثاني: أن الصلاة من اللَّه تعالى من أفضل المراتب وأجل وأتم من كل صلاة، تحصل لكل مخلوق فلا يكون غيره مساويا له فيها.
الثالث: أن اللَّه تعالى أمر بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، فأمر بالصلاة والسلام عليه، وأكده بالتسليم، وهذا الخبر والأمر لم يثبتهما لغيره في القرآن من المخلوقين.
الرابع:
أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن اللَّه وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، وهذا لا بتعلمهم الخير، فلما هداهم إلى خير الدنيا والآخرة وتسبّبوا بذلك إلى سعادتهم وفلاحهم، وذلك سبب دخولهم في جملة المؤمنين المهديين الذين يصلى عليهم اللَّه وملائكته.
ومن المعلوم أنه لا أحد من معلمي الخير أفضل ولا أكثر تعليما له من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ولا أنصح لأمته ولا أصبر على تعليم الخير منه، ولهذا أنال أمته من تعليمه لهم ما لم تنله أمة من الأمم سواهم، وحصل للأمة من تعليمه من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما صارت به خير أمة أخرجت للعالمين، فكيف تكون الصلاة على هذا الرسول المعلم للخير مساوية في الصلاة على من لم يماثله في التعليم؟ وما بقول الشاعر على جواز كون المشبه به أفضل من المشبه، فلا يدل ذلك لأن قوله:
بنونا بنو أبنائنا
إما أن يكون المبتدأ فيه مؤخرا والخبر مقدما، ويكون قد شبه بنو أبنائه ببنيه، وكان تقديم الخبر لظهور المعنى وعدم وقوع اللبس، وعلى هذا جاز على أصل التشبيه، وإما أن يكون من باب عكس التشبيه كما يشبه القمر بالوجه الكامل في حسنه، ويشبه الأسد بالكامل في شجاعته، وعلى هذا فيكون الشاعر قد نزل
__________
[ (1) ] ومع ذلك فقد ضرب اللَّه تعالى مثلا لنوره كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [35: النور] .(3/244)
بني أبنائه منزلة بنيه وأنه لم يفرقهم عنده، ثم شبه بنيه بهم، وهذا قول طائفة من أهل المعاني.
وظاهر البيت أن الشاعر لم يرد ذلك وإنما أراد التفريق بين بني بنيه وبين بني بناته، فأخبر أن بني بناته تتبع لآبائهم ليسوا بأبناء لنا، وإنما أبناؤنا بني أبنائنا لا بنو بناتنا ولم يرد تشبيه بني بنيه ببنيه ولا عكسه، وإنما أراد ما ذكرنا من المعنى، وهذا ظاهر.
وقالت طائفة: النبي صلى اللَّه عليه وسلّم له من الصلاة الخاصة التي لا تساويها صلاة من لم يشركه فيها أحد، والمسئول له إنما هو صلاة زائدة على ما أعطيته مضافا إليه، [وتكون تلك] [ (1) ] الزائدة [مشبهة] [ (2) ] بالصلاة على إبراهيم، وليس بمستنكر أن يسأل للفاضل فضيلة أعطيها المفضول منضما إلى ما اختص به من هو من الفضل الّذي لم يحصل لغيره.
قالوا: ومثال ذلك أن يعطي السلطان رجلا مالا عظيما، ويعطي غيره دون ذلك فيسأل السلطان أن يعطي صاحب المال الكثير مثل ما أعطي صاحب من هو دونه لينضم إلى ما أعطيه فيحصل له مثل مجموع العطاءين أكثر ما يحصل له من الكثير وحدة، وهذا جواب ضعيف، لأن اللَّه سبحانه وتعالى أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، ثم أمر بالصلاة عليه، ولا ريب أن المطلوب من اللَّه سبحانه وتعالى هو الصلاة المخبر بها لا ما هو دونها، وهو أكمل الصلاة عليه وأرجحها لا الصلاة المرجوحة المفضولة، وعلى قول هؤلاء إنما يكون الطلب لصلاة مرجوحة لا راجحة، وإنما تصير راجحة بانضمامها إلى صلاة لم تطلب، ولا ريب في فساد ذلك، فإن الصلاة التي تطلبها الأمة له صلى اللَّه عليه وسلّم من ربه تعالى هي أجلّ صلاة وأفضلها.
وقالت طائفة: التشبيه المذكور إنما هو في أصل الصلاة لا في قدرها ولا كيفيتها، إنما هو راجع إلى الهبة لا إلى قدرها، وهذا كما تقول للرجل: أحسن إلى أبيك كما أحسنت إلى فلان، وأنت لا تريد بذلك قدر الإحسان وإنما تريد به أصل الإحسان.
__________
[ (1) ] في (خ) : «ويكون ذنك» .
[ (2) ] في (خ) : «مشبها» .(3/245)
وقد يحتج لذلك بقوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [ (1) ] ، ولا ريب أنه لا يقدر أحد أن يحسن بقدر ما أحسن اللَّه إليه، وإنما أريد به أصل الإحسان لا قدره.
ومنه قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ (2) ] ، وهذا التشبيه إنما هو في أصل الوحي لا في قدره وفضيلة الموحي به، وقوله تعالى: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [ (3) ] ، إنما مرادهم جنس الآية لا نظيرها.
وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [ (4) ] ، ومعلوم أن كيفية الاستخلاف مختلفة، وإنما لهذه الأمة أكمل ما لغيرها.
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ (5) ] ، والتشبيه إنما هو في أصل الصوم لا في عينه وقدره وكيفيّته.
وقال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ (6) ] ، ومعلوم تفاوت ما بين النشأة الأولى وهي المبتدأ، وبين الثانية وهي المعاد.
وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [ (7) ] ، ومعلوم أن الشبيه في أصل الإرسال لا يقتضي تماثل الرسولية.
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لو أنكم تتوكلون على اللَّه حق توكله لرزقنكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» ،
فالتشبيه هنا في أصل الرزق لا في قدره، ولا في كيفيته، ونظائر ذلك [كثير] .
__________
[ (1) ] القصص: 77.
[ (2) ] النساء: 163.
[ (3) ] الأنبياء: 5.
[ (4) ] النور: 55.
[ (5) ] البقرة: 183.
[ (6) ] الأعراف: 29.
[ (7) ] المزمل: 16.(3/246)
واعترض على هذا بوجوه:
أحدها: ما ذكروه يجوز أن يستعمل في الأعلى والأدنى، فلو قلت: أحسن إلى ابنك وأهلك كما أحسنت إلى مركوبك وخادمك ونحوه، جاز ذلك.
ومن المعلوم أنه لو كان التشبيه في أصل الصلاة لحسن أن تقول: اللَّهمّ صل على محمد كما صليت على آل أبي أوفى، أو كما صليت على آحاد المؤمنين ونحوه، أو كما صليت على آدم ونوح، وهود ولوط، فإن التشبيه عند هؤلاء إنما هو واقع في أصل الصلاة لا في قدرها ولا في صفتها، ولا فرق في ذلك بين كل من صلى عليه، وأيّ مزيّة في ذلك لإبراهيم وآله، وما الفائدة حينئذ. في ذكره وذكر آله، وكان الكافي في ذلك أن يقال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد فقط.
الثاني: أن الأمثلة المذكور ليست بنظير الصلاة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فإنّها نوعان: خبر وطلب، فما كان منها خبرا فالمقصود بالتشبيه الاستدلال والتقريب إلى الفهم، وتقرير ذلك الخبر وأنه لا ينبغي لعاقل إنكاره كنظيره المشبه به، فكيف تنكرون الإعادة وقد وقع الاعتراف بالبداءة وهي نظيرها، وحكم النظير حكم نظيره.
ولهذا يحتج سبحانه بالمبدإ على المعاد كثيرا، قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ (1) ] ، وقال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [ (2) ] ، وقال تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ (3) ] ، وهذا كثير في القرآن.
وكذلك قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [ (4) ] ، أي كيف يقع الإنكار منكم وقد تقدم قبلكم رسل مني مبشرين ومنذرين، وقد علمتم حال من عصى رسلي كيف أخذتهم أخذا وبيلا.
__________
[ (1) ] الأعراف: 29.
[ (2) ] الأنبياء: 104.
[ (3) ] يس: 78.
[ (4) ] المزمل: 16.(3/247)
وكذلك قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [ (1) ] الآية، أي لست أول رسول طرق العالم، قد تقدمت قبلك رسل أوحيت إليهم كما أوحيت إليك كما قال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [ (2) ] ، فهذا ردّ وإنكار على من أنكر رسالة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم مع مجيئه صلى اللَّه عليه وسلّم ولست من الأمور التي لم تطرق العالم، بل لم تخل الأرض من الرسل وآثارهم، فرسولكم جاء على منهاج من تقدمه من الرسل في الرسالة لم يكن بدعا.
وكذلك قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ (3) ] ، إخبارا عن عادته سبحانه وتعالى في خلقه، وحكمته التي لا تبديل لها، من آمن وعمل صالحا مكّن له في الأرض واستخلفه فيها ولم يهلكه ويقطع دابره كما أهلك من كذب رسله وخالفهم، وأخبرهم سبحانه وتعالى عن معاملته من آمن برسله وصدقهم، وأنه لم يفعل بهم كما فعل بمن قبلهم من أتباع الرسل.
وهكذا قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لو أنكم تتوكلون على اللَّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» ،
إخبار بأنه سبحانه وتعالى يرزق المتوكلين عليه من حيث لا يحتسبون، وأنه لا يخليهم من رزق قط كما ترون ذلك في الطير فإنّها تغدو من أوكارها خماصا فيرزقها سبحانه وتعالى حتى ترجع بطانا من رزقه، فأنتم أكرم على اللَّه سبحانه وتعالى من الطير ومن سائر الحيوانات، فلو توكلتم عليه سبحانه وتعالى لرزقكم من حيث لا تحتسبون، ولم يمنع أحدا منكم رزقه، هذا ما كان من قبيل الإخبار.
وأما في قسم الطلب والأمر، فالمقصود منه التنبيه على العلة وأن الجزاء من جنس العمل، فإذا قلت: علم كما علمك اللَّه، وأحسن كما أحسن اللَّه إليك، واعف كما عفا اللَّه عنك.. ونحوه، كان في ذلك تنبيها للمأمور على شكر النعمة التي أنعم اللَّه سبحانه وتعالى بها عليه، وأنه حقيق أن يقابلها بمثلها ويقيدها بشكرها، وأن جزاء تلك النعمة من جنسها، ومعلوم أنه يمتنع خطاب الرب سبحانه وتعالى بشيء
__________
[ (1) ] النساء: 163.
[ (2) ] الأحقاف: 9.
[ (3) ] النور: 55.(3/248)
من ذلك، ولا يحسن في حقه، فيصير ذكر التشبيه لغوا لا فائدة فيه وهذا غير جائز.
الثالث: أن قوله: كما صليت على آل إبراهيم صفة لمصدر محذوف تقديره:
صلاة مثل صلاتك على آل إبراهيم، وهذا الكلام حقيقته أن تكون الصلاة مماثلة في الصلاة المشبهة بها، فلا تعدل عن حقيقة الكلام ووجهه.
وقالت طائفة: إن هذا التشبيه حاصل بالنسبة إلى كل صلاة من صلوات المصلين، فكل مصل صلى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بهذه الصلاة فقد طلب من اللَّه تعالى أن يصلي على رسوله صلاة مثل الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ولا ريب أنه إذا حصل من كل من طلب من اللَّه مثل صلاته على آل إبراهيم حصل له من ذلك أضعافا مضاعفة من الصلاة لا تعدّ ولا تحصى، ولم يقاربه فيها صلى اللَّه عليه وسلّم أحد، فضلا عن أن يساويه أو يفضله صلى اللَّه عليه وسلّم.
ونظير هذا: أن يعطى ملك لرجل ألف درهم فيسأله كل واحد منهم أن يعطيه ألفا، فيحصل له من الألوف بعدد كل واحد منهم، وأورد على هذا أن التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة المطلوبة وكل فرد من أفرادها، فالإشكال وارد كما هو، وتقديره أن العطية التي [يعطاها] الفاضل لا بد أن تكون أفضل من العطية التي يعطاها المفضول، فإذا سئل عطية دون ما يستحقه لم يكن لائقا بمنصبه.
وأجيب بأن هذا الإشكال إنما يرد إذا لم يكن الأمر للتكرار، فأما إذا كان الأمر للتكرار فالمطلوب من الأمة أن يسألوا اللَّه سبحانه وتعالى له صلاة بعد صلاة، كل صلاة منها نظير ما حصل لإبراهيم، فيحصل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الصلوات ما لا يحصى مقداره بالنسبة إلى الصلاة الحاصلة لإبراهيم عليه السلام.
وردّ هذا الجواب بأن التشبيه إنما هو واقع في صلاة اللَّه سبحانه وتعالى عليه، لا في صلاة المصلى عليه، ومعنى هذا الدعاء: اللَّهمّ أعطه نظير ما أعطيت إبراهيم، فالمسئول له صلى اللَّه عليه وسلّم صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام، وكلما تكرر هذا السؤال كان هذا معناه، فيكون كل مصل قد سأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يصلي عليه صلاة دون التي يستحقها، وهذا السؤال والأمر به متكرر، فهل هذا إلا تقوية(3/249)
لجانب الإشكال؟.
ثم إن التشبيه واقع في أصل الصلاة وأفرادها ولا يعني جوابكم عنه بقضية التكرار شيئا، فإن التكرار لا يجعل جانب المشبه به أقوى من جانب المشبه كما هو مقتضى التشبيه، فلو كان التكرار يجعله كذلك لكان الاعتزار به نافعا، بل التكرار يقتضي زيادة تفضيل المشبه وقوته، فكيف يشبه حينئذ بما هو دونه، فظهر ضعف هذا الجواب.
وقالت طائفة: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليست في آل محمد مثلهم، فإذا طلب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء حصل لآل محمد من ذلك ما يليق بهم فإنّهم لا يبلغون مراتب الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم عليه السلام لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم فتحصل له بذلك من المزية صلى اللَّه عليه وسلّم ما لم يحصل لغيره، وتقدير ذلك: أن تجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله وفيهم الأنبياء جملة مقسومة على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وآله.
ولا ريب أنه لا يحصل لآله صلى اللَّه عليه وسلّم مثل ما حصل لآل إبراهيم عليه السلام وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم ويبقى سهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مع الزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى اللَّه عليه وسلّم، فيصير الحاصل له صلى اللَّه عليه وسلّم من مجموع ذلك أعظم وأفضل من الحاصل لإبراهيم عليه السلام، وهذا أحسن من كل ما تقدم.
وأحسن منه أن يقال: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من آل إبراهيم بل هو خير آل إبراهيم، كما روي عن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [ (1) ] ، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من آل إبراهيم عليه السلام، فدخول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أولى فيكون قولنا: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم متناولا للصلاة عليه وعلى سائر الأنبياء الذين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا اللَّه سبحانه وتعالى أن نصلي عليه وعلى آله خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموما وهو فيهم،
__________
[ (1) ] آل عمران: 34.(3/250)
فيحصل لآله صلى اللَّه عليه وسلّم ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له صلى اللَّه عليه وسلّم.
وتقدير ذلك: أنه يكون قد صلى عليه خصوصا، وطلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم عليه السلام ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له صلى اللَّه عليه وسلّم دونهم، فيطلب له صلى اللَّه عليه وسلّم هذا الأمر العظيم الّذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعا.
وحينئذ تظهر فائدة التشبيه وجريه على أصله، وأن المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه، صار له صلى اللَّه عليه وسلّم من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم عليه السلام وغيره، وتضاف إلى ذلك ما له من المشبه به من الخصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله صلى اللَّه عليه وسلّم وشرفه على إبراهيم عليه السلام وعلى كل من آله- وفيهم النبيون- ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته.
واعلم أن الأحاديث الواردة في الصلاة والواردة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كلها صريحة بذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وبذكر آله، وأما في حق إبراهيم عليه السلام- وهو المشبه به- فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم عليه السلام فقط دون ذكر إبراهيم، أو بذكره عليه السلام دون ذكر آله، ولم يجيء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم كما تظاهرت على لفظ محمد وآل محمد، وبيانه أن أشهر الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال:
ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وهذا لفظهم إلا الترمذي فإنه قال: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم فقط، وكذا في ذكر البركة ولم يذكر الآل، وهي رواية لأبي داود، وفي رواية: كما صليت على آل إبراهيم بذكر الآل فقط، وكما باركت على إبراهيم
(بذكره فقط) .(3/251)
وفي الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي: قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . هذا هو اللفظ المشهور، وقد روي فيه: «كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم
بدون لفظ الآل في الموضعين.
وفي البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: قلنا: يا رسول اللَّه هذا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه قال: أتانا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا اللَّه سبحانه وتعالى أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» .
وقد روي هذا الحديث بلفظ آخر: بكما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم (لم يذكر الآل فيهما) وفي رواية أخرى: كما صليت على إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم
بذكر إبراهيم عليه السلام وحده في الأولى، والآل فقط في الثانية، هذه هي الألفاظ المشهورة في هذه الأحاديث المشهورة، أكثرها بلفظ آل إبراهيم في الموضعين، وفي بعضها بلفظ آل إبراهيم فيهما، وفي بعضها بلفظ إبراهيم في الأول والآل في الثاني، وفي بعضها عكسه.
وأما الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم
فرواه البيهقي في سننه من حديث حيي ابن السباق عن رجل من بني الحرث عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [أنه قال:] «إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد كما صليت(3/252)
وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وهذا إسناد ضعيف.
ورواه الدّارقطنيّ من حديث ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه فذكر الحديث وفيه: «اللَّهمّ صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ،
ثم قال: هذا إسناد حسن متصل.
وفي النسائي من حديث موسى بن طلحة عن أبيه قال: قلنا: يا رسول اللَّه كيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» ، ولكن رواه هكذا ورواه مقتصرا فيه على ذكر إبراهيم في الموضعين.
وقد روي ابن ماجة حديثا موقوفا آخر عن ابن مسعود فيه إبراهيم وآل إبراهيم، قال في السنن: حدثنا الحسين بن بيان، حدثنا زياد بن عبد اللَّه حدثنا المسعودي عن عون بن عبد اللَّه عن ابن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: إذا صليتم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض، قال: فقالوا له: فعلمنا، قال: قولوا: «اللَّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللَّهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبطه الأولون والآخرون، اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وهذا حديث موقوف، وابن أبي فاختة اسمه نوير، قال يونس بن أبي إسحاق: كان رافضيا، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال الدار الدّارقطنيّ: متروك.
وعامة الأحاديث التي في الصحاح والسنن كما ذكرنا باقتصار على الآل وإبراهيم(3/253)
في الموضعين، أو الآل في إحداهما وإبراهيم في [الأخرى] [ (1) ] فحيث جاء ذكر إبراهيم وحده في الموضعين فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها وآله تبعا له عليه السلام فيها، فذلك ذكر المتبوع على التابع، واندرج فيه وأغنى عن ذكره، وحيث جاء ذكر آله فقط فلأنه داخل في آله كما تقرر في موضعه، فيكون ذكر آل إبراهيم عليه السلام مغنيا عن ذكره وذكر آله بلفظين، وحيث جاء في أحدهما ذكره عليه السلام فقط وفي الآخر ذكر آله فقط، كان ذلك جمعا بين الأمرين فيكون ذكر المتبوع الّذي هو الأصل، وذكر أتباعه بلفظ يدخل هو فيهم.
وأما ذكر محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وذكر آله فقد جاء بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، فلأن الصلاة عليه صلى اللَّه عليه وسلّم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء بخلاف الصلاة على إبراهيم عليه السلام، فإنّها جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع لأن
قوله: «اللَّهمّ صل على محمد وعلى آل محمد» جملة طلبية، وقوله: «كما صليت على آل إبراهيم»
جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا شرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها فإنّها دعاء، واللَّه سبحانه وتعالى يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيرا من أدعية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فيها من بسط الألفاظ وذكر كل معنى بصريح لفظه دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه، ما يشهد لذلك
كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم في حديث علي الّذي رواه مسلم في صحيحه: «اللَّهمّ اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت» .
ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن ألفاظ الحديث في مقام الدعاء والتضرع وإظهار العبوديّة والافتقار، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلا أحسن أو بلغ من الإيجاز والاختصار.
وكذلك قوله في الحديث الآخر: «اللَّهمّ اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، أوله وآخره» .
وفي حديث آخر: «اللَّهمّ اغفر لي خطيئتي وجهلي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/254)
وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللَّهمّ اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» .
وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية للَّه سبحانه وتعالى وافتقار إليه، وتذلل بين يديه سبحانه وتعالى، فكلما كثّره العبد وطوله، وأعاده وأبدأه، ونوّع جملته، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره، وتذلله وحاجته، فكان ذلك أقرب له من ربه سبحانه وتعالى وأعظم لثوابه.
وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما كثرت سؤالك إياه وعددت له حوائجك أبرمته وثقلت عليه وهنت في نفسه عنده، وكلما تركت سؤاله كنت أعظم عنده وأحب إليه، واللَّه جل جلاله كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه، وكلما ألححت في الدعاء أحبك، ومن لم يسأل اللَّه سبحانه وتعالى يغضب عليه، فاللَّه سبحانه وتعالى يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب [ (1) ] ، فالمطلوب منه سبحانه وتعالى يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه.
وأما الخبر، فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم تكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة، ولا سيما والمقام ليس مقام إيضاح وتفهيم المخاطب ليحسن معه البسط والإطناب، فكان الإيجاز والاختصار فيه أكمل وأحسن، فلهذا جاء فيه بلفظ إبراهيم تارة، وبلفظ آله تارة أخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الّذي تقدم ذكره، فكان المراد باللفظين واحدا مع الإيجاز والاختصار، بخلاف ما لو قيل: صل على محمد، لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ، ليس خبرا عن أمر قد وقع واستقر.
ولو قيل: صلى على آل محمد لكان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إنما يصلي عليه ضمنا في العموم، فقيل: على محمد وعلى آل محمد ليحصل له صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك الصلاة عليه بخصوصه،
__________
[ (1) ] إشارة إلى قول الشاعر:
لا تسألنّ بنيّ آدم حاجة ... وسل الّذي أبوابه لا تقضب
فاللَّه يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
القضب: القطع. (لسان العرب) : 1/ 678.(3/255)
والصلاة عليه صلى اللَّه عليه وسلّم بدخوله في آله.
وهنا للناس طريقان في مثل هذا، هل يقال: داخل في آله مع اقترانه بذكره فيكون قد ذكر مرتين: مرة بخصوصه ومرة في اللفظ العام، وعلى هذا فيكون قد صلى عليه مرتين خصوصا وعموما، وهذا على أصل من يقول: أن العام إذا ذكر بعد الخاص كان متناولا له أيضا، ويكون الخاص قد ذكر مرتين، وكذلك في ذكر الخاص بعض العام كقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [ (1) ] ، وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ [ (2) ] الآية، والطريق [الّذي اختاره] [ (3) ] إلى ذكره بلفظ الخاص يدل على أنه غير داخل في اللفظ العام، فيكون ذكره بخصوصه مغنيا عن دخوله في العام، وعلى هذه الطريقة فيكون في ذلك فوائد:
الأولى [ (4) ] : أنه لما كان صلى اللَّه عليه وسلّم من أشرف النوع العام أفرد صلى اللَّه عليه وسلّم بلفظه يخصه صلى اللَّه عليه وسلّم، فيكون في ذلك تنبيها على اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم ومزيته على النوع الداخل في اللفظ العام.
الثانية: أنه يكون فيه تنبيه على أن الصلاة عليه صلى اللَّه عليه وسلّم أصل، وأن الصلاة على آله تبع له، وأنهم إنما نالوا ذلك بتبعيتهم له صلى اللَّه عليه وسلّم.
الثالثة: أن إفراده صلى اللَّه عليه وسلّم بالذكر يرفع عنه توهم التخصيص، وأنه لا يجوز أن يكون مخصوصا من اللفظ العام، بل هو مراد قطعا.
واعلم أن
قوله: «وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم»
دعاء يتضمن إعطاء محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الخير ما أعطاه اللَّه سبحانه وتعالى لآل إبراهيم مع إدامة ذلك الخير وثبوته له صلى اللَّه عليه وسلّم ومضاعفته وزيادته، فإن هذا هو حقيقة البركة، وقد قال اللَّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [ (5) ] ، وقال تعالى فيه وفي
__________
[ (1) ] البقرة: 98.
[ (2) ] الأحزاب: 7.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق، وفي (خ) : «منها» .
[ (5) ] الصافات: 112- 113.(3/256)
أهل بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [ (1) ] ، وتأمل كيف جاء في القرآن: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [ (2) ] ، ولم يذكر إسماعيل، وجاء في التوراة ذكر البركة على إسماعيل ولم يذكر إسحاق، فقال بعد أن ذكر إسماعيل: وأنه سيلد اثنى عشر عظيما ما حكايته سمعتك ها أنا باركته وأيمنته بمادماد أي بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فجاء في التوراة ذكر البركة في إسماعيل إيذانا بما حصل لبنيه من الخير والبركة، ولا سيما خاتم بركتهم، وأعظمهم وأجلهم محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فنبههم سبحانه وتعالى بذلك على ما يكون في بني إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام من البركة العظيمة الموافية على لسان المبرك صلى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر لنا في القرآن الكريم بركته سبحانه وتعالى، منها ما حصل في أولاده من نبوة موسى وغيره، وما أوتوه من الكتاب والعلم، مستدعيا سبحانه وتعالى من عباده الإيمان بذلك والتصديق به، وأن لا يهملوا معرفة حقوق بيت إبراهيم عليه السلام، إذا هو البيت المبارك، وأهله أهل النبوة والعلم والكتاب.
ولا يقول القائل: هؤلاء أنبياء بني إسرائيل لا تعلق لنا بهم، فإنه يجب علينا معشر المسلمين احترامهم وتوقيرهم والإيمان بهم ومحبتهم، وموالاتهم والثناء عليهم، وصلوات اللَّه عليهم وسلامه.
ولما كان هذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق، خص اللَّه سبحانه وتعالى أهله بخصائص منها: أن جعل فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم عليه السلام نبي إلا من أهل بيته.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعلهم أئمة يهدون بأمره تعالى إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة أولياء اللَّه سبحانه وتعالى بعدهم فإنما دخل بدعوتهم من طريقهم.
ومنها: أنه اتخذ منهم سبحانه وتعالى الخليلين إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فبدأ هذا البيت بإبراهيم عليه السلام، وختمه بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، أنه من ولد إبراهيم
__________
[ (1) ] هود: 73.
[ (2) ] الصافات: 113.(3/257)
عليه السلام، قال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [ (1) ] ،
وثبت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن اللَّه اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» ،
ولم يكن لبيت من بيوت العالم مثل هذه الخصوصية.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل صاحب هذا البيت إماما للعالمين، قال تعالى:
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [ (2) ] .
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أجرى على يديه بناء بيته الحرام الّذي جعله قبلة للناس وحجا لهم، فكان ظهور هذا البيت المحرم من أهل هذا البيت الأكرمين، ومن تبحر في أحوال العالم علم أنه كان في الدهر الغابر سبعة بيوت في الأرض يحج الناس إليها، لم يبلغ بيت منها عظمة هذا البيت ولا بركته، ما منها إلا ما أباده اللَّه وأبقى هذا البيت دونها، وزاده تشريفا وتكريما وتعظيما.
قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [ (3) ] ، أي صير اللَّه الكعبة قواما للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز ضعيفهم عن قويهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، فحجز سبحانه وتعالى بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم لدينهم ومصالح أمورهم، فجعل سبحانه وتعالى الكعبة والشهر الحرام قواما لمن كان يحترم ذلك من العرب، ويعظمه بمنزلة الرئيس الّذي يقوّم أمر أتباعه.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أخرج منهم الآيتين العظيمتين التي لم يخرج من أهل بيت غيرهم مثلهما، وهما أمة موسى عليه السلام وأمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، تمام سبعين أمة خيرها وأكرمها على اللَّه سبحانه وتعالى.
ومنها: أن اللَّه سبحانه وتعالى أبقى عليهم لسان صدق وثناء حسنا في العالم، فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم، والصلاة والسلام عليهم، قال تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] النساء: 125.
[ (2) ] البقرة: 124.
[ (3) ] المائدة: 97.
[ (4) ] الصافات الآيات: 108- 110.(3/258)
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل أهل هذا البيت فرقانا بين الناس، فالسعداء أتباعهم ومحبوهم ومن تولاهم، والأشقياء من أبغضهم وأعرض عنهم وعاداهم، فالجنة لهم ولأتباعهم، والنار لأعدائهم ومخالفيهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل ذكرهم مقرونا بذكره تعالى، فيقال: إبراهيم خليل اللَّه ورسوله ونبيه، وموسى كليم اللَّه ورسوله، وعيسى روح اللَّه وكلمته، ومحمد رسول اللَّه، قال اللَّه تعالى لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (1) ] ، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: إذا ذكرت ذكرت معي، فيقال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه في كلمة الإسلام وفي الأذان وفي الخطب وفي التشهد وغير ذلك.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على يدي أهل هذا البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم من المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة مع الأيادي العظام عندهم ما لا يمكن أن يجازيهم عليها إلا اللَّه سبحانه وتعالى.
ومنها: أن كل خير ونفع وعمل صالح وطاعة للَّه سبحانه وتعالى حصلت وكانت في العالم فلهم من الأجر مثل أجور عاملها فضيلة خصهم اللَّه سبحانه وتعالى بها من بين أهل العالم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى سد جميع الطرق بينه وبين البشر وأغلق دونهم الأبواب فلم يفتح لأحد إلا من طريقهم وبابهم، قال الجنيد رحمه اللَّه: يقول اللَّه عز وجل لرسوله محمد صلى اللَّه عليه وسلّم: وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى خصهم من العلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم، فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم باللَّه سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله، وثوابه وعقابه وشرعه، ومواقع رضاه وغضبه، وملائكته ومخلوقاته منهم،
__________
[ (1) ] الشرح: 4.(3/259)
فجمع سبحانه وتعالى لهم علم الأولين والآخرين.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى خصهم من توحيده ومحبته وقربه والاختصاص به بما لم يخص أهل بيت سواهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى مكن لهم الأرض واستخلفهم فيها، وأطاع أهل الأرض لهم، ما لم يحصل لغيرهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائهم وأعدائه ما لم يؤيد به غيرهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى محابهم من آثار أهل الضلال والشرك، ومن الآثار التي يبغضها ويمقتها، ما لم يمحه بسواهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعل آثارهم في الأرض سببا لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقيا ما دامت آثارهم باقية، فإذا ذهبت آثرهم من الأرض فذاك أوان خراب العالم، قال سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: لو تركت الناس كلّهم الحج لوقعت السماء على الأرض، وقال: لو ترك الناس الحج كلهم لما مطروا.
وأخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن في آخر الزمان يرفع اللَّه بيته من الأرض وكلامه من المصاحف وصدور الرجال، فلا يبقى في الأرض بيت يحجّ ولا كلام يتلى، فحينئذ يقرب خراب العالم.
وهكذا الناس اليوم، إنّما قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم، وقيام أمورهم وحصول مصالحهم واندفاع أنواع البلاء والشر عنهم بحسب ظهورها بينهم وقيامها، وهلاكهم وحلول البلايا والشر بهم عند تعطلها والإعراض عنها والتحاكم إلى غيرها واتحاد سواها.
ومن عرف حوادث الزمان فإنه يقف على أن البلاد التي سلّط اللَّه سبحانه وتعالى عليها من سلّطه حتى أخرب البلاد وأهلك العباد، إنما كان سببه تعطيلهم لدينه بينهم(3/260)
وشرائعه، فكان ذلك انتقاما منهم بتسليط اللَّه سبحانه وتعالى عليهم، وأن البلاد التي لآثار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وسنته وشرائعه فيها ظهور دفع اللَّه سبحانه وتعالى عنهم بحسب ظهور ذلك بينهم.
وهذه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثار رحمة اللَّه سبحانه وتعالى وبركاته على أهل هذا البيت الإبراهيمي، فلهذا أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن نطلب له من اللَّه سبحانه وتعالى أن يبارك عليه وعلى آله كما بارك على [آل] [ (1) ] هذا البيت المعظم.
ومن بركاته: أنه سبحانه وتعالى أظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت غيرهم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أعطاهم من خصائصهم ما لم يعط غيرهم، فمنهم من اتخذه خليلا [ (2) ] ، ومنهم الذبيح [ (3) ] ، ومنهم من كلّمه تعالى تكليما [ (4) ] ، ومنهم من آتاه اللَّه سبحانه وتعالى شطر الحسن وجعله من أكرم الناس عليه [ (5) ] ، ومنهم من أتاه اللَّه سبحانه وتعالى ملكا لم يؤته أحدا غيره [ (6) ] .
ولما ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أهل هذا البيت وذرّيتهم أخبر أن كلهم فضّله على العالمين [ (7) ] .
ومن خصائصهم: بركاتهم على أهل الأرض [أنه] [ (8) ] يرفع العذاب عن سكان البسيطة بهم ويبعثهم، فإن عادة اللَّه سبحانه وتعالى كانت في أمم الأنبياء الذين قبلهم أن يهلكهم إذا كذبوا أنبياءهم ورسله بعذاب يعمهم كلهم كما فعل بقوم نوح إذ أغرق الأرض كلها وأهلك من عليها بالطوفان إلا أصحاب السفينة [ (9) ] ، وكما
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] إبراهيم عليه السلام.
[ (3) ] إسحاق أو إسماعيل على خلاف بين أهل التفسير فليراجع هناك.
[ (4) ] موسى عليه السلام.
[ (5) ] يوسف عليه السلام.
[ (6) ] سليمان عليه السلام.
[ (7) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [86: الأنعام] .
[ (8) ] زيادة للسياق.
[ (9) ] إشارة إلى قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [15: العنكبوت] .(3/261)
فعل تعالى بقوم هود إذ أهلك عادا بريح دمّرتهم كلهم [ (1) ] ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ (2) ] ، وكما فعل سبحانه وتعالى بقوم صالح: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ
[ (3) ] ، وكما فعل تعالى بقوم لوط جعل مدائنهم عالِيَها سافِلَها [ (4) ] ، فلما أنزل اللَّه سبحانه وتعالى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، رفع بنزولها العذاب العام عن أهل الأرض، وأمر سبحانه وتعالى بجهاد من كذبها وخالفها، فكان ذلك نصرة لأهل دينه بأيديهم، وشفاء لصدورهم واتخاذ الشهداء منهم، وإهلاك عدوّ اللَّه بأيديهم لتحصل [نصرته] سبحانه وتعالى على أيديهم.
وحق لأهل بيت هذا من بعض فضائلهم وخصائصهم أن لا تزال الألسنة رطبة بالصلاة عليهم والسلام، والثناء والتعظيم، ولا تزال القلوب ممتلئة من محبتهم وتوقيرهم وإجلالهم، وليعلم المصلي عليهم أنه لو صرف أنفاسه كلها في الصلاة عليهم لما وفى القليل من حقهم، فجزاهم اللَّه سبحانه وتعالى [عنا] [ (5) ] أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيما وتشريفا، ومهابة وتكريما، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
***
__________
[ (1) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [21: الأحقاف] .
[ (2) ] الذاريات: 42.
[ (3) ] الأعراف: 78.
[ (4) ] إشارة إلى قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] .
[ (5) ] زيادة للسياق.(3/262)
وأما اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بالشفاعة [ (1) ] العظمى يوم الفزع [ (2) ] الأكبر
قال اللَّه تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ (3) ] ، قال قتادة والحسن وزيد بن أسلّم: قدم صدق هو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم يشفع لهم.
وعن أبي سعيد الخدريّ: هي شفاعة نبيهم محمد، وهو شفيع صدق عند ربهم.
__________
[ (1) ] الشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصرا له ومسائلا عنه. وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في القيامة، قال تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [48:
المدثر] ، أي لا تشفع لهم.
وقوله: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها [85: النساء] ، أي من انضم إلى غيره وعاونه، وصار شفعا له أو شفيعا في فعل الخير أو الشّر وقوّاه، شاركه في نفعه وضرّه.
وقيل الشفاعة ها هنا: أن يشرع الإنسان لآخر طريق خير أو طريق شرّ، فيقتدي به، فصار كأنه شفع له، وذلك كما
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» . [رواه مسلم مطولا] .
وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [3: يونس] ، أي يدبر الأمر وحده لا ثاني له في فصل الأمر، إلا أن يأذن للمدبرات والمقسمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه.
واستشفعت بفلان على فلان فتشفّع لي إليه. وشفّعه: أجاب شفاعته. ومنه الحديث: «القرآن شافع مشفّع» . [رواه ابن حبان] . وإن فلانا ليستشفع به. قال الشاعر:
مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
(بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 3/ 328- 329.
[ (2) ] الفزع: الذّعر والفرق. وربما جمع على الأفزاع، وإن كان مصدرا يقال: فزع- بالكسر-: خفا.
قال تعالى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [89: النمل] . وفزع أيضا: استغاث. والإفزاع:
الإخافة والإغاثة.
والتفزيع من الأضداد، يقال: فزّعه إذا أخافه. وفزّع عنه: كشف عنه الفزع. قال تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [23: سبأ] ، أي كشف عنها الفزع. (المرجع السابق) : 4/ 191.
[ (3) ] يونس: 2.(3/263)
خرج البخاري وأبو داود من حديث مسدد قال: حدثنا يحيى عن الحسن بن ذكوان قال: حدثنا أيوب قال: حدثني عمران بن الحصين رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يخرج قوم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميون. ذكره البخاري في الرقاق في باب صفة الجنة والنار، وذكره أبو داود في كتاب السنة في باب الشفاعة
ولفظهما فيه سواء [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث همام عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميون [ (1) ] . ذكره في الرقاق في كتاب التوحيد في باب قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [ (2) ] .
[و] من حديث هشام عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم اللَّه تعالى الجنة بفضل رحمته يقال لهم: الجهنميون [ (3) ] .
وللترمذي من طريق عن الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه [ (4) ] .
وله من حديث سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أتاني آت من عند ربي فخيّرني بين أن يدخل نصف
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليه وشرحه.
[ (2) ] الأعراف: 56.
[ (3) ] سبق الإشارة إليه.
[ (4) ] رواه الترمذي رقم (2437) في صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة، وأبو داود رقم (4739) في السنة، باب في الشفاعة، ورواه أيضا ابن ماجة رقم (4310) في الزهد، باب ذكر الشفاعة، وهو حديث صحيح، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما مثله، وزاد فيه: قال الراويّ: فقال لي جابر: «يا محمد! من لم يكن من أهل الكبائر، فما له وللشفاعة؟» رقم (2438) في صفة القيامة، باب رقم (12) وهو حديث حسن.(3/264)
أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك باللَّه شيئا [ (1) ] .
وخرج أبو بشر بن محمد بن أحمد بن حماد الدولابي من حديث محمد بن عوف ابن سفيان الطائي قال: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدثنا أنس بن مالك عن أم حبيبة رضي اللَّه عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أريت ما [يلقى] [ (2) ] أمتي بعدي وسفك بعضهم دماء بعض، [فأحزنني وشق ذلك عليّ] [ (3) ] ، وسبق ذلك من اللَّه [تعالى] [ (3) ] كما سبق في الأمم قبلهم، فسألته [أن يوليني الشفاعة فيهم يوم القيامة ففعل] [ (4) ] .
وخرج مسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابرا رضي اللَّه عنه يقول: سمعه من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بأذنه يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة [ (5) ] .
وخرج من حديث حماد بن زيد قال: قلت لعمرو بن دينار: أسمعت جابر ابن عبد اللَّه يحدث عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن اللَّه تعالى يخرج قوما من النار بالشفاعة؟
__________
[ (1) ] حديث رقم (2443) في صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة، وإسناده حسن، وفي (خ) :
«وهي لمن مات» ، وفي الترمذي: «وهي نائلة من مات..» .
[ (2) ] في (خ) : «تلقى» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة عن رواية (المستدرك) .
[ (4) ]
كذا في (خ) ، وفي (المستدرك) : «فسألته أن يوليني الشفاعة فيهم يوم القيامة ففعل» . والحديث رواه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 138- 139، حديث رقم (227/ 228) من كتاب الإيمان وقال في آخره: هذا حديث حسن صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والعلة عندهما فيه أن أبا اليمان حدّث به مرتين، فقال مرة: عن شعيب، عن الزهري، عن أنس، وقال مرة:
عن شعيب، عن ابن أبي حسين، عن أنس.. وقد قدمنا القول في مثل هذا أنه لا ينكر أن يكون الحديث عند إمام من الأئمة عن شيخين، فمرة يحدث به هذا، ومرة عن ذاك. وقد حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن عمر، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا إبراهيم بن هانئ النيسابورىّ قال:
قال لنا أبو اليمان: الحديث حديث الزهري والّذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها.
قال الحاكم: هذا كالأخذ باليد، فإن إبراهيم بن هانئ ثقة مأمون. وقال الذهبي في (التلخيص) بنحو كلام الحاكم.
[ (5) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (317) .(3/265)
قال: نعم [ (1) ] .
وخرجه البخاري من حديث حماد عن عمرو عن جابر أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «يخرج من النار [قوم] [ (2) ] بالشفاعة كأنهم الثّعارير، قلنا: ما الثعارير؟ قال:
الضغابيس» [وفي رواية] [ (2) ] : «إن اللَّه يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة» وفي أخرى: «إن اللَّه يخرج قوما من النار بالشفاعة» ] [ (3) ] .
وخرج من حديث حماد، عن عمرو، عن جابر رضي اللَّه عنه، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «يخرج من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير» . قلت: وما الثعارير؟
قال: الضغابيس. وكان قد سقط فمه، فقلت لعمرو [بن دينار] [ (3) ] : أبا محمد، سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «يخرج بالشفاعة من النار» ؟ قال: نعم [ (4) ] . ذكره في كتاب الرقاق.
ولمسلم من حديث أبي أحمد الزبيري، حدثنا قيس بن سليم العنبري، قال:
حدثني يزيد الفقير، حدثنا جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أم قوما يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، من حديث رقم (318) . وكلاهما في (مسلم بشرح النووي) : 3/ 51.
[ (2) ] زيادة للسياق من (جامع الأصول) : 10/ 550، و (الثعارير) : صغار القثاء، وهي الضغابيس أيضا، واللفظة بالثاء المعجمة والعين المهملة. وذكرها الهروي في حرف الغين المعجمة، وبعدها الراء المهملة، وبعدها الزاي المعجمة «كما تنبت التغاريز» والتاء معجمة بنقطتين من فوق قبل الغين، وقال:
هي فسيل النخل إذا حولت من موضع إلى موضع فغرزت فيه، الواحدة تغريز وتنبيت. وقال مثله في التقدير: التناوير، لنور الشجر، والتقاصيب لما قصّب من الشعر. قال: وقد رويت «الثعارير» يعني الأول، والوجه الأول، وهو الرواية، وتعضده الرواية الأخرى التي قال فيها: «الضغابيس» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (جامع الأصول) ، والحديث أخرجه البخاري في الرقاق باب (51) ، حديث رقم (6558) ، ومسلم في الإيمان، باب (84) أدنى أهل الحجنة منزلة فيها، حديث رقم (317) ، (318) .
[ (4) ] انظر التعليق السابق.
[ (5) ] أخرجه مسلم في الإيمان، باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم (319) .(3/266)
وله من حديث ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يسأل عن الورود فقال: «نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا، ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء اللَّه، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم، كأضواء نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل، ويذهب حراقه، ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها» [ (1) ] .
[قال كاتبه: هكذا وقع في رواية هذا الحديث «عن كذا وكذا، انظر» .
وقال الحفاظ: هو كلام فاسد غير مستقيم، وصوابه: «على كوم» ، وهو جمع كومة، وهو المكان المشرف، أي نحن فوق الناس، فلم يذكر المؤلف اللفظة أو المكنى عنه، فكنى عنها بكذا وكذا، وفسرها بقوله: «أي ذلك فوق الناس» ، وقوله: «انظر» أي تأمل هذا الموضع واستثبت فيه، فظنه الناسخ من الحديث
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (316) قوله: «حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها» ، وهكذا هو في جميع الأصول ببلادنا «نبات الشيء» ، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، وعن بعض رواة مسلم «نبات الدمن» ، يعني بكسر الدال وإسكان الميم، وهذه الرواية هي الموجودة في (الجمع بين الصحيحين) لعبد الحق، وكلاهما صحيح، لكن الأول هو المشهور الظاهر، وهو بمعنى الروايات السابقة «نبات الحبة في حميل السيل «، وأما «نبات الدمن» فمعناها أيضا كذلك، فإن الدمن البعر، والتقدير: نبات ذي الدمن في السيل، أي كما ينبت الشيء الحاصل في البعر، والغثاء الموجود في أطراف النهر، والمراد التشبيه به في السرعة والنضارة، وقد أشار صاحب (المطالع) إلى تصحيح هذه الرواية، ولكن لم ينقح الكلام في تحقيقها، بل قال: عندي أنها رواية صحيحة، ومعناه سرعة نبات الدمن مع ضعف ما ينبت فيه، وحسن منظره. واللَّه تعالى أعلم.
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 50- 51.(3/267)
فألحقه بمتنه، ولا يخفى ما فيه من التخليط] [ (1) ] .
[وقال الشيخ محيي الدين النووي: « ... هكذا في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف» ] [ (1) ] .
[وقال الحافظ عبد الحق في كتابه (الجمع بين الصحيحين) : «هذا الّذي وقع في كتاب مسلم تخليط» ] [ (1) ] .
[وقال القاضي عياض: «هذه صورة الحديث في جميع النّسخ، وفيه تغيير كثير وتصحيف» ] [ (1) ] .
[وفي طريق ابن أبي خيثمة من حديث أنس بن مالك: «يحشر الناس يوم القيامة على تل وأمتي على تل» ] [ (1) ] .
[وفي رواية: «يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل» ،
قال القاضي عياض: «.... فجمع النقلة الكلّ ونسّقوه على أنه من متن الحديث كما تراه.... وقد تابعه عليه جماعة من المتأخرين» ] [ (1) ] .
وخرج من حديث محمد بن [بشر] [ (2) ] حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: أتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك [ (3) ] ؟ يجمع اللَّه يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي [ (4) ] ، وينفذهم البصر [ (4) ] ، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون، من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون:
يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في التصوير الميكروفيلمي للمخطوطة (خ) ، وقد قمنا بصياغة هذه العبارات بحيث تفيد المعنى الّذي أراده المصنف من خلال الأجزاء الواضحة في الميكروفيلم.
[ (2) ] في (خ) : «عبيد» .
[ (3) ] في (خ) : «بم يجمع» .
[ (4) ] في (خ) : «فيبصرهم الناظر» ، «ويسمعهم الداعي» .(3/268)
فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟.
فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسمّاك اللَّه عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، لا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها، على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم.
فيأتون إبراهيم فيقولن: أنت نبي اللَّه وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم:
إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقولون: يا موسى، أنت رسول اللَّه فضّلك اللَّه برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى صلى اللَّه عليه وسلّم: إن ربي قد غضب اليوم غصبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى صلى اللَّه عليه وسلّم.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول اللَّه، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم صلى اللَّه عليه وسلّم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
فيأتون فيقولون: يا محمد، أنت رسول اللَّه، وخاتم الأنبياء، وغفر لك(3/269)
ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشتفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح اللَّه على ويلهمني من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم قال:
يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفّع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والّذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين [ (1) ] من مصاريع الجنة، لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المصراعان- بكسر الميم- جانبا الباب، وهجر- بفتح الهاء والجيم- مدينة عظيمة، هي قاعدة بلاد البحرين، وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث «إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر» ، تلك قرية من قرى المدينة، كانت القلال تصنع بها، وهي غير مصروفة. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 69، (معجم البلدان) موضع رقم (12637) .
[ (2) ] بصرى- بضم الباء- مدينة معروفة، بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، وهي مدينة حوران، وبينها وبين مكة شهر (المرجع السابق) ، (معجم البلدان) موضع رقم (1949) .
والحديث أخرجه مسلم في الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (327) ، قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «يجمع اللَّه يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر» ،
أما الصعيد فهو الأرض الواسعة المستوية، وأما ينفذهم البصر، فهو بفتح الياء وبالذال المعجمة، وذكر الهروي وصاحب (المطالع) وغيرهما، أنه روي بضم الياء، وبفتحها، قال صاحب (المطالع) : رواه الأكثرون بالفتح، وبعضهم بالضم.
وأما معناه، فقال الهروي: قال أبو عبيد: معناه ينفذهم بصر الرحمن تبارك وتعالى، حتى يأتي عليهم كلهم. وقال غير أبي عبيد: أراد تخرقهم أبصار الناظرين لاستواء الصعيد، واللَّه تبارك وتعالى قد أحاط الناس أولا وآخرا. هذا كلام الهروي.
وقال صاحب (المطالع) : معناه أنه يحيط بهم الناظر، لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض، أي ليس فيها ما يستتر به أحد عن الناظرين. قال: وهذا أولى من قول أبي عبيد: يأتي عليهم بصر الرحمن سبحانه وتعالى، لأن رؤية اللَّه تعالى تحيط بجميعهم في كل حال، في الصعيد المستوى وغيره، هذا قول صاحب (المطالع) .
قال الإمام أبو السعادات الجزري بعد أن ذكر الخلاف بين أبي عبيد وغيره، في أن المراد بصر الرحمن سبحانه وتعالى، أو بصر الناظر من الخلق: قال أبو حاتم: أصحاب الحديث يروونه بالذال المعجمة، وإنما هو بالمهملة، أي يبلغ أولهم وآخرهم، حتى يراهم كلهم ويستوعبهم، من نفد الشيء وأنفدته.
قال: وحمل الحديث على بصر الناظر أولى من حمله على بصر الرحمن تبارك وتعالى. مختصرا من (مسلم بشرح النووي) : 3/ 67- 68.(3/270)
ولمسلم من حديث عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: وضعت بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذراع، وكانت أحب الشاة إليه، فنهس نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم نهس أخرى فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال: ألا تقولون كيفه؟ قالوا: كيفه يا رسول اللَّه؟ قال: يقوم الناس لرب العالمين، وساق الحديث بمعنى حديث أبي حيان عن أبي زرعة. وزاد في قصة إبراهيم فقال: وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعل كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم.
قال: والّذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة، قال: لا أدري أي ذلك قال [ (1) ] .
وله من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وأبو مالك عن ربعي [بن خراش] [ (2) ] ، عن حذيفة قالا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يجمع اللَّه تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون، يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل اللَّه، قال: فيقول إبراهيم:
لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء [ (3) ] أعمدوا إلى موسى صلى اللَّه عليه وسلّم، الّذي كلّمه اللَّه تكليما، فيأتون موسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست بصاحب ذاك، اذهبوا إلى عيسى كلمة اللَّه وروحه، فيقول عيسى صلى اللَّه عليه وسلّم: لست بصاحب ذاك.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 3/ 69- 70، حديث رقم (328) .
[ (2) ] زيادة للنسب من (خ) .
[ (3) ]
قوله: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» ،
قال صاحب (التحرير) : هذه الكلمة تذكر على سبيل التواضع، أي لست لتلك الدرجة الرفيعة، قال: وقع لي معنى مليح فيه، وهو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بوساطة سفارة جبريل عليه السلام، ولكن ائتوا موسى فإنه حصل له سماع الكلام بغير واسطة، قال: وإنما كرر «وراء وراء» ، لكون نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم حصل له السماع بغير واسطة، وحصل له الروية، فقال إبراهيم عليه السلام: أنا وراء موسى الّذي هو وراء محمد صلى اللَّه عليه وعليهم أجمعين وسلّم. هذا كلام صاحب التحرير، وأما ضبط «وراء وراء» ، فالمشهور فيه الفتح فيهما بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، على خلاف بين أهل اللغة، فليراجع في مظانه.
(المرجع السابق) .(3/271)
فيأتون محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم [ (1) ] ، فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أوّلكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كمرّ البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمرّ الريح، ثم كمرّ الطير، وشدّ الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم [قائم] [ (2) ] على الصراط، يقول: ربّ سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا.
قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والّذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفا [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، قال: حدثني أبي، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يدخل اللَّه أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار،
__________
[ (1) ] وأما إرسال الأمانة والرحم، فهو لعظم أمرهما، وكثير موقعهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها اللَّه تعالى، قال صاحب (التحرير) : في الكلام اختصار، والسامع فهم أنهم تقومان لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. (المرجع السابق) .
[ (2) ] في (خ) : «ونبيم على الصراط» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) قوله: «فيمر أولهم كالبرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم» ، أما شدّ الرجال فهو بالجيم جمع رجل، هذا هو الصحيح المعروف المشهور.
ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء، قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدّها:
عدوها البالغ وجريها.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «تجري بهم أعمالهم» ،
فهو كالتفسير،
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم، «فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح.. إلخ»
معناه أنهم يكونون في سرعة المرور على حسب مراتبهم وأعمالهم.
قوله: «والّذي نفس أبي هريرة بيده أن قعر جهنم لسبعون خريفا» ، هكذا هو في بعض الأصول «لسبعون» بالواو، وهذا ظاهر، وفيه حذف تقديره أن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة، ووقع في بعض الأصول والروايات: لسبعين بالياء، وهو صحيح أيضا، أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على جره، فيكون التقدير سير سبعين.
وأما على أن قعر جهنم مصدر، قال: قعرت الشيء إذا بلغت قعره، ويكون «سبعين» ظرف زمان، وفيه خبر «أن» ، التقدير أن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفا، والخريف السنة. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) .
[ (3) ] والحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (329) ، وفي (خ) بعد قوله: وراء وراء» «اعمدوا إلى ابني إبراهيم خليل اللَّه» ، وهو تكرار من الناسخ.(3/272)
ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون منها حمما قد امتحشوا، فيلقون في نهر الحياة أو الحيا، فينبتون فيه كما تبنت الحبة إلى جانب السيل، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية؟ هذا لفظ مسلم، وعند البخاري: «فيخرجون منها قد اسودّوا، وقال: «من خردل من خير» [ (1) ] .
وأخرجاه من حديث وهيب، حدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا عمرو ابن عون، أخبرنا خالد، كلاهما عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد [وقالا] [ (2) ] : فيلقون في نهر يقال له: الحياة، ولم يشكّا، وفي حديث خالد: كما تنبت الغثاءة في جانب السيل، وفي حديث وهيب: كما تنبت الحبة في حمئة أو حميلة السيل [ (3) ] ، [ذكره البخاري في باب صفة الجنة والنار، وذكره مسلم في باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار] .
وخرج مسلم من حدث بشر بن المفضل عن أبي مسلمة عن أبي نصرة عن أبي سعيد [الخدريّ] [ (4) ] قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أما أهل النار الذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال:
- بخطاياهم- فأماتهم [اللَّه] [ (4) ] إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة [ (5) ] فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل [ (6) ] : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل،
فقال رجل من القوم: كأنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد كان بالبادية [ (7) ] .
__________
[ (1) ] رواه البخاري في الرقاق، باب صفة الجنة والنار حديث رقم (6560) ، ومسلم في الإيمان باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
[ (2) ] في (خ) : «وقال» .
[ (3) ] ذكره مسلم في كتاب الإيمان باب (82) إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار حديث رقم (305) ، والبخاري كما في تعليق (7) .
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] في (خ) : «في الشفاعة» .
[ (6) ] في (خ) : «فقيل» .
[ (7) ]
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (82) إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، حديث رقم (304) ، قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فأماتهم» ،
أي أماتهم إماتة، وحذف للعلم به، وفي بعض النسخ «فأماتتهم» بتاءين، أي أماتتهم النار ...(3/273)
وخرج البخاري ومسلم من حديث حماد بن زيد، أخبرنا معبد بن هلال الغزي قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك رضي اللَّه عنه وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه وأجلس ثابتا معه على سريره فقال له [ثابت] [ (1) ] : يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد [رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم [صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] فيقولون [ (2) ] : اشفع لذريتك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم [عليه السلام] [ (3) ] فإنه خليل اللَّه، فيأتون إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست لها [بأهل] [ (4) ] ، ولكن عليكم بموسى [عليه السلام] [ (3) ] فإنه كليم اللَّه، فيؤتى موسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست لها، ولكن
__________
[ () ] وأما معنى الحديث، فالظاهر أن الكفار الذين هم أهل النار والمستحقون للخلود لا يموتون فيها ولا يحيون حياة ينتفعون بها ويستريحون معها، كما قال اللَّه تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [36: فاطر] ، وكما قال تعالى: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى، [13:
الأعلى] ، وهذا جار على مذهب أهل الحق أن نعيم أهل الجنة دائم، وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ولكن ناس أصابتهم النار ... إلخ» فمعناه أن المذنبين من المؤمنين يميتهم اللَّه تعالى إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها اللَّه تعالى، وهذه الإماتة إماتة حقيقية يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدة التي قدّرها اللَّه تعالى، ثم يخرجون من النار موتى قد صاروا فحما، فيحملون ضبائر كما تحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة، فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون وينبتون نبات الحبة في حميل السيل في سرعة نباتها وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء ملتوية، ثم تشتد قوتهم بعد ذلك، ويصيرون إلى منازلهم وتكمل أحوالهم. فهذا هو الظاهر من لفظ الحديث ومعناه.
وحكى القاضي عياض رحمه اللَّه فيه وجهين: أحدهما: أنها إماتة حقيقية. والثاني: ليس بموت حقيقي، ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالآلام. قال: ويجوز أن تكون آلامهم أخفّ، فهذا كلام القاضي، والمختار ما قدمناه واللَّه تعالى أعلم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم، «ضبائر» ، فكذا هو في الروايات والأصول، «ضبائر ضبائر» مكررة مرتين، وهو منصوب على الحال، وهو بفتح الضاد المعجمة، وهو جمع ضبارة، بفتح الضاد وكسرها لغتان، حكاهما القاضي عياض، وصاحب (المطالع) ، وغيرهما، أشهرها الكسر، ولم يذكر الهروي وغيره إلا الكسر، ويقال فيها أيضا إضبارة بكسر الهمزة، قال أهل اللغة: الضبائر جماعات في تفرقة، وروي:
«ضبارات في ضبارات» . واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 40- 41.
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] في (خ) ، والبخاري: «فيقولون: اشفع» ، وفي رواية مسلم: «فيقولون له: اشفع» .
[ (3) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (4) ] زيادة من (خ) .(3/274)
عليكم بعيسى فإنه روح اللَّه وكلمته، فيؤتى عيسى صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فأوتي فأقول: أنا لها، فأنطلق فاستأذن على ربي عزّ وجلّ فيؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن [ (1) ] يلهمنيه اللَّه عزّ وجلّ، ثم أخرّ له [ (2) ] ساجدا فيقال [ (3) ] لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب [ (4) ] أمتي أمتي، فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها. قال البخاري:
فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفّع، فأقول: رب [ (5) ] أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه [ (6) ] مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها. وقال البخاري: فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه ... ، وقال البخاري: فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.
هذا حديث أنس الّذي أنبأنا به، فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا: لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة، قال: فدخلنا عليه فسلمنا عليه، قلنا [ (7) ]
__________
[ (1) ] في مسلم: «الآن» ولعلها خطأ مطبعي، وفي (خ) ، والبخاري: «إلا أن» .
[ (2) ] في (خ) ، ومسلم: «ثم أخرّ له» ، وفي البخاري: «ثم أخرّ لربنا ساجدا» .
[ (3) ] في (خ) ، ومسلم: «فيقال لي» ، وفي البخاري: «فيقول» .
[ (4) ] في (خ) ، والبخاري: «يا رب أمتي» ، وفي مسلم: «رب أمتي» .
[ (5) ] في (خ) : «رب أمتي» ، وفي البخاري ومسلم: «يا رب أمتي» .
[ (6) ] في رواية مسلم أيضا، «فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار» ، وهو مطابق لرواية البخاري.
[ (7) ] كذا في (خ) والبخاري، وفي مسلم: «فقلنا» .(3/275)
يا أبا سعيد، جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع بمثل حديث حدثناه في الشفاعة، [قال] [ (1) ] : هيه، قال: فحدثناه الحديث فقلنا هيه، قلنا: ما زادنا، قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع، ولقد ترك شيئا ما أدري أنسى الشيخ أم كره [ (2) ] أن يحدثكم فتتكلوا، قلنا له، حدثنا، فضحك وقال:
خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه: ثم أرجع إلى ربي [عز وجل] [ (3) ] في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن [قال] [ (4) ] : لا إله إلا اللَّه، قال: ليس [ (5) ] ذلك لك، أو قال: ليس ذلك [ (6) ] إليك، ولكن وعزتي وكبريائي، وعظمتي وجبريائي [ (7) ] لأخرجن من قال: لا إله إلا اللَّه. قال: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك، أراه قال: قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع. اللفظ لمسلم [ (8) ] .
وقال البخاري في أوله: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي [ (9) ] الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.. الحديث وقال فيه: ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد، وقال فيه: خلق الإنسان عجولا، وقال في آخره: فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا اللَّه. هذا آخر الحديث عنده، ذكره في كتاب التوحيد
__________
[ (1) ] في (خ) : «فقال» ، وما أثبتناه من رواية البخاري ومسلم.
[ (2) ] في رواية مسلم: «أو كره» .
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] في (خ) : «يقول» .
[ (5) ] في البخاري: «فليس» .
[ (6) ] في مسلم: «ليس ذاك» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، ومسلم، وفي البخاري: «وعظمتي لأخرجن» .
[ (8) ] حديث رقم (326) من كتاب الإيمان، باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من صحيح مسلم.
[ (9) ] في (خ) : «فصلى» والتصويب من رواية البخاري.(3/276)
في باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم [ (1) ] .
وخرج في هذا الباب حديث أبي بكر بن عيّاش عن حميد قال: سمعت أنسا قال: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إذا كان يوم القيامة [شفعت] [ (2) ] فقلت: يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء،
فقال أنس: كأني انظر إلى أصابع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث أبي عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يجمع اللَّه الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك [وقال ابن عبيد: فيلهمون من ذلك] [ (4) ] فيقولون: لو استشفعنا [على] [ (5) ] ربنا عزّ وجلّ حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا [ (6) ] فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها [ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه اللَّه، فيأتون نوحا صلى اللَّه عليه وسلّم فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها] [ (7) ] ولكن ائتوا إبراهيم الّذي اتخذه اللَّه خليلا، فيأتون إبراهيم عليه السلام
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري برقم (5710) . قوله: «وهو يومئذ جميع» في رواية مسلم، وفي رواية البخاري «وهو جميع» ، أي مجتمع العقل، وهو إشارة إلى أنه كان حينئذ لم يدخل في الكبر، الّذي هو مظنة تفرق الذهن، وحدوث اختلاط الحفظ.
وأخرجه البخاري أيضا في التوحيد، باب (19) قول اللَّه تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، حديث رقم (7410) ، وفي باب (37) في قوله عزّ وجلّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم (7515) ، وفي تفسير سورة البقرة، باب (1) قول اللَّه تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، حديث رقم (4476) ، وفي الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار حديث رقم (6565) .
[ (2) ] في (خ) : «تشفعت» .
[ (3) ] أخرجه البخاري في التوحيد، باب (36) كلام الرب عزّ وجلّ يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، حديث رقم (7509) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين تكملة من صحيح مسلم.
[ (5) ] في (خ) : «إلى» .
[ (6) ] في (خ) بعد قوله: «مكاننا هذا» قال: فيأتون آدم عليه السلام وهو تكرار من الناسخ، والتصويب من صحيح مسلم.
[ (7) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) .(3/277)
فيقول: لست هناكم [ويذكر] [ (1) ] خطيئته التي أصحاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الّذي كلمه اللَّه وأعطاه التوراة، قال: فيأتون موسى عليه السلام فيقول:
لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح اللَّه وكلمته، فيأتون عيسى روح اللَّه وكلمته عليه السلام فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا قد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فيأتوني فاستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع [فيحد لي حدا] [ (2) ] فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقال [لي] [ (3) ] : يا محمد، قل تسمع، وسل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع [فيحد لي حدا] [ (2) ] فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة. قال: [فلا] [ (4) ] أدري في الثالثة أو في الرابعة قال:
فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب الخلود، واللفظ لمسلم [ (5) ] ولم يذكر البخاري فيه قوله: فيهتمون لذلك، ولا فيلهمون لذلك، ولا قوله: التي أصاب فيستحي ربه منها في المواضع الثلاثة. وقال في آخره: حتى ما بقي في النار إلا من حبسهم القرآن، فكان قتادة يقول عند هذا: إلا من وجب عليه الخلود. ذكره في كتاب الرقاق [ (6) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيهتمون بذلك أو يلهمون ذلك، بمثل حديث أبي عوانة، وقال في الحديث: ثم آتيه الرابعة فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن [ (7) ] .
لم يذكر مسلم من الحديث غير هذا، وذكر بعده
__________
[ (1) ] في (خ) : «فيذكر» .
[ (2) ] في (خ) : «فنخر ساجدا» وهو خطأ بين.
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] في (خ) : «ولا» .
[ (5) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم (322) .
[ (6) ] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار، حديث رقم (6565) .
[ (7) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (84) ، أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم (323) .(3/278)
حديث معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يجمع اللَّه المؤمنون يوم القيامة فيلهمون لذلك بمثل حديثهما، وذكر في الرابعة: فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود [ (1) ] .
وأخرجه البخاري من هذه الطريق ولفظه: عن أنس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يجمع المؤمنون يوم القيامة لذلك فيقولون، لو استشفعنا إلى ربنا ... الحديث بنحو حديث أبي عوانة عن قتادة، وقال فيه في ذكر نوح وأنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، وقال فيه: فأستأذن على ربي ويؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وهكذا في موضعين بعد هذا، ثم أرجع فإذا رأيت ربي كما قال في هذا، وقال في الرابع: ثم أرجع فأقول: رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود [ (2) ] .
وخرج البخاري في تفسير سورة البقرة من طريق مسلم بن إبراهيم، أخبرنا هشام، [حدثنا] [ (3) ] قتادة عن أنس عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يجمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك اللَّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحى ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحي ويقول: ائتوا خليل [ (4) ] الرحمن، فيأتون فيقول: لست هناكم، [ائتوا موسى، عبدا كلمه اللَّه وأعطاه التوراة، فيأتونه فيقول: لست هناكم] [ (5) ] فيستحي من ربه [فيقول] [ (6) ] : ائتوا عيسى عبد اللَّه ورسوله، وكلمة اللَّه وروحه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا، عبدا غفر
__________
[ (1) ] المرجع السابق، حديث رقم (324) .
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.
[ (3) ] في (خ) : «أخبرنا» .
[ (4) ] في (خ) : «كليم» .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) .
[ (6) ] زيادة للسياق من البخاري.(3/279)
اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى [ (1) ] استأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء ثم يقال: ارفع رأسك [وسل] [ (2) ] تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع [فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة] [ (2) ] ثم أعود الرابعة: فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود. قال أبو عبد اللَّه [ (3) ] : إلا من حبسه القرآن يعني قول اللَّه تعالى: خالِدِينَ فِيها [ (4) ] .
وخرج في كتاب التوحيد من حديث همام بن يحيى عن قتادة عن أنس أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا [ (5) ] فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس: خلقك اللَّه بيده، وأسكنك جنته [ (6) ] ، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع [ (7) ] لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيقول لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب- أكله من الشجرة وقد نهى عنها- ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب- سؤاله ربه تعالى بغير علم- ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم فيقول: [إني] [ (8) ] لست هناكم ويذكر ثلاث [كذبات] [ (9) ] كذبهن، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه اللَّه التوراة وكلّمه وقرّبه نجيا، قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته، التي أصاب- قتله النفس- ولكن ائتوا عيسى عبد اللَّه ورسوله، وروح اللَّه وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،
__________
[ (1) ] في (خ) : «فأستأذن» .
[ (2) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (3) ] هو الإمام البخاري.
[ (4) ] الحديث أخرجه البخاري في التفسير باب (1) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، حديث رقم (4476) ، واختلف في المراد بالأسماء: فقيل أسماء ذريته، وقيل أسماء الملائكة، وقيل أسماء الأجناس دون أنواعها، وقيل أسماء كل ما في الأرض، وقيل أسماء كل شيء حتى القصعة. (فتح الباري) : 8/ 202- 203.
[ (5) ] في (خ) : «إلى اللَّه» .
[ (6) ] في (خ) : «الجنة» .
[ (7) ] في (خ) : «اشفع» .
[ (8) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (9) ] في (خ) : «كلمات» .(3/280)
فيأتوني [ (1) ] فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعي، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: وأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه [ (2) ] ، فيحدّ لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة.
قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه [ (3) ] ، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته [ (4) ] يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما [ (5) ] يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود، ثم تلا هذه الآية:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قال: وهذا المقام المحمود الّذي وعده [ (6) ] نبيكم صلى اللَّه عليه وسلّم [ (7) ] .
وخرج مسلم من حديث مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة يدعوها [ (8) ] ،
__________
[ (1) ] في (خ) : «قال: فيأتوني» .
[ (2) ] في (خ) : «يعلمنيه ثم أشفع» .
[ (3) ] في (خ) : «تعط» .
[ (4) ] في (خ) : «وقد سمعته» .
[ (5) ] في (خ) : «حتى لا يبقى» .
[ (6) ] في (خ) : «وعد» .
[ (7) ] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب (24) قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، حديث رقم (7440) .
[ (8) ] في (خ) : «يدعو بها» .(3/281)
فأريد [ (1) ] أن أختبئ [ (2) ] دعوتي شفاعة [ (3) ] لأمتي يوم القيامة [ (4) ] .
ومن حديث ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة، وأردت إن شاء اللَّه أختبئ [ (5) ] دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (6) ] . خرجه البخاري من حديث شعيب عن الزهري ولفظه: لكل نبي دعوة، وأريد إن شاء اللَّه أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. ذكره في كتاب التوحيد في المشيئة والإرادة [ (7) ] .
وخرج مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة يدعوها، فأنا أريد إن شاء اللَّه أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة،
فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ قال أبو هريرة: نعم [ (8) ] .
وخرج البخاري من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة [مستجابة] [ (9) ] يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة [ (10) ] . ذكره في أول كتاب الدعاء.
وخرج مسلم من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة مستجابة، [فتعجل كل نبي دعوته] [ (11) ] وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي [ (12) ] نائلة إن
__________
[ (1) ] في (خ) : «وأنا أريد» .
[ (2) ] في (خ) : «أخبي» .
[ (3) ] في (خ) : «شفاعتي» .
[ (4) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (86) اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (334) .
[ (5) ] في (خ) : «أخبي» .
[ (6) ] المرجع السابق، حديث رقم (335) .
[ (7) ] حديث رقم (7474) .
[ (8) ] مسلم في كتاب الإيمان، باب (86) اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (337) .
[ (9) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (10) ] ذكره البخاري في أول كتاب الدعاء، باب (1) لكل نبي دعوة مستجابة، حديث رقم (6304) .
[ (11) ] زيادة للسياق من صحيح مسلم.
[ (12) ] في (خ) : «وهي» .(3/282)
شاء اللَّه من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئا [ (1) ] .
وأخرجه الترمذي من هذه الطريق، ولم يقل فيه: فتعجل كل نبي دعوته.
وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له فيؤتاها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (3) ] .
وله من حديث شعبة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء اللَّه أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (4) ] .
[و] [ (5) ] وله من حديث ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر ابن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول عن النبي للَّه: لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (6) ] .
وله من حديث معاذ بن [ (7) ] هشام قال: أخبرنا [ (8) ] أبي عن قتادة، أخبرنا [ (8) ] أنس بن مالك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة دعاها [ (9) ] لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (10) ] . وذكر له طرقا أخر. وخرجه البخاري تعليقا
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (86) ، اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (338) .
[ (2) ] رواه الترمذي رقم (3597) في الدعوات، باب رق (141) ، ط (الموطأ) : 1/ 22 في القرآن، باب ما جاء في الدعاء.
[ (3) ] رواه مسلم في كتاب الإيمان باب (86) اختباء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم دعوة الشفاعة لأمته، حديث رقم (339) .
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم (340) ، في (خ) : «أدّخر» .
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] المرجع السابق، حديث رقم (345) .
[ (7) ] في مسلم: «معاذ يعنون ابن هشام» .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي مسلم: «حدثنا» .
[ (9) ] في (خ) : «دعا بها» .
[ (10) ] المرجع السابق، حديث رقم (341) .(3/283)
في كتاب الدعاء [ (1) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أحمد بن عبد اللَّه قال: أخبرنا زهير ابن معاوية، أخبرنا أبو خالد الأسدي، أخبرنا عون بن أبي جحيفة السواري عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي عن عبد الرحمن بن أبي عقيل قال: انطلقت في وفد فأتينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأنخنا الباب وما في الناس أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فما خرجنا حتى ما في الناس رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه، فقال قائل منا: يا رسول اللَّه! ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان بن داود؟ فضحك ثم قال: لعل لصاحبكم عند اللَّه أفضل من ملك سليمان بن داود! إن اللَّه لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذ بها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذا عصوه فأهلكوا بها، وإن اللَّه أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي
__________
[ (1) ]
أخرجه البخاري في الدعوات، باب (1) ، لكل نبي دعوة مستجابة، حديث رقم (6304) ، (6305) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأريد. أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة» ،
وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة «فأريد إن شاء اللَّه أن أختبئ» ،
وزيادة «إن شاء اللَّه» في هذا للتبرك،
ولمسلم من رواية أبي صالح عن أبي هريرة «وإني اختبأت» ،
وفي حديث أنس «فجعلت دعوتي» ، وزاد «يوم القيامة» ، وزاد أبو صالح «فهي نائلة إن شاء اللَّه من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئا.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم «من مات» في محل نصب على المفعولية، و «لا يشرك» في محل نصب على الحال، والتقدير: شفاعتي نائلة من مات غير مشرك، وكأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل، ورجا وقوع ذلك، فأعلمه اللَّه به، فجزم به.
وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة.
وقيل: معنى قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لكل نبي دعوة» ، أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل:
لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته، إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة، فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل: لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح:
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ، وقول زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي، وقول سليمان:
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، حكاه ابن التين.
والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع، أعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة....(3/284)
يوم القيامة [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد [المقبري] [ (2) ] عن سعيد عن أبي هريرة أنه قال: قيل [ (3) ] يا رسول اللَّه، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال [رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا اللَّه خالصا من قلبه، أو نفسه [ (5) ] . ذكره في كتاب العلم وترجم عليه باب الحرص
__________
[ () ] وتعقبه الطيبي- وفي نسخة القرطبي- بأنه صلى اللَّه عليه وسلّم دعا على أحياء من العرب، ودعا على أناس من قريش بأسمائهم، ودعا على رعل، وذكوان، ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال: إن اللَّه جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته، فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم فإنه لما دعا على بعض أمته، نزل عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا.
وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة، ففيه غفلة عن
الحديث الصحيح: «سألت اللَّه ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة» .
قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم على سائر الأنبياء، حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم.
وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه أنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته، لكونهم أحوج إليها من الطائعين.
وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته ورأفته بهم، واعناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم.
وأما قوله: «فهي نائلة» ، ففيه دليل لأهل السنة أن من مات غير مشرك لا يخلد في النار، ولو مات مصرا على الكبائر. مختصرا من (فتح الباري) : 11/ 116- 117.
[ (1) ] له شواهد من أحاديث الباب على صحته.
[ (2) ] زيادة في النسب من البخاري.
[ (3) ] في (خ) : «قال» .
[ (4) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (5) ] ذكره البخاري في كتاب العلم، باب (32) الحرص على الحديث، حديث رقم (99) . قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: أولى منك» ، فيه فضل أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وفضل الحرص على تحصيل العلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من قال: لا إله إلا اللَّه» ،
احتراز من المشرك، والمراد مع قوله: محمد رسول اللَّه، لكن قد يكتفي بالجزء الأول من كلمتي الشهادة، لأنه صار شعارا لمجموعهما كما تقدم في الإيمان ...(3/285)
على الحديث. وخرجه في كتاب الرقاق من حديث إسماعيل بن جعفر عن عمرو ...
إلى آخره، وقال: خالصا من قبل نفسه [ (1) ] .
وخرجه النسائي بنحوه [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن العاص أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تلى قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ... [ (3) ] الآية، وقال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ (4) ] ، فرفع يديه وقال: اللَّهمّ أمتي.. أمتي [ (5) ] ، وبكي، فقال اللَّه عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك أعلم، فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بما قال
__________
[ () ] قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «خالصا» احتراز من المنافق، ومعنى أفعل في قوله: «أسعد» الفعل، لا أنها أفعل التفضيل، أي سيد الناس، كقوله تعالى: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد يحصل له سعد بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم يشفع في الخلق لإراحتهم من هول الموقف، ويشفع في الكفار بتخفيف العذاب كما صح في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، ويشفع في بعضهم بعدهم دخولها بعد أن استوجبوا دخولها، ويشفع في بعضهم بدخول الجنة بغير حساب، ويشفع في بعضهم برفع الدرجات فيها، فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة، وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من قلبه، أو نفسه» شك من الراويّ، وللمصنف في الرقاق: «خالصا من قبل نفسه» ، وذكر ذلك على سبيل التأكيد كما في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.
وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بكلمتي الشهادة، لتعبيره بالقول في قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من قال» ، واللَّه تعالى أعلم. مختصرا من (فتح الباري) 1/ 257- 258.
[ (1) ] ذكره البخاري في كتاب الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار، حديث رقم (6570) ، وقال النووي: الشفاعة خمس:
[1] في الإراحة من هول الموقف. [2] في إدخال قوم الجنة بغير حساب.
[3] في إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا.
[4] في إخراج من أدخل النار من العصاة.
[5] في رفع الدرجات.
[ (2) ] لم أجده في (سنن النسائي) .
[ (3) ] 36: إبراهيم، وتمامها: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[ (4) ] 118: المائدة.
[ (5) ] في (خ) : «اللَّهمّ أمتي اللَّهمّ أمتي» .(3/286)
وهو أعلم، فقال اللَّه: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب (87) دعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لأمته وبكائه شفقة عليهم، حديث رقم (346) : وسنده: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو ابن الحارث، أن أبا بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ...
وهذا أتم من السند المذكور في (خ) .
وهذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد:
منها بيان كمال شفقة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم.
ومنها استحباب رفع اليدين في الدعاء.
ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة، زادها اللَّه شرفا بما وعدها اللَّه تعالى بقوله: سنرضيك في أمتك ولا نسؤك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة، أو أرجأها.
ومنها بيان عظم منزلة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عند اللَّه تعالى، وعظيم لطفه سبحانه به صلى اللَّه عليه وسلّم والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله صلى اللَّه عليه وسلّم إظهار شرف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأنه بالمحل الأعلى، فيسترضى ويكرم بما يرضيه واللَّه تعالى أعلم.
وهذا الحديث موافق لقول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، وأما قوله تعالى:
ولا نسؤك، فقال صاحب (التحرير) : هو تأكيد للمعنى، أي لا نحزنك، لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم، ويدخل الباقي النار، فقال تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك حزنا، بل ننجي الجميع واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 78- 79.(3/287)
ذكر المقام المحمود الّذي وعد اللَّه تعالى به الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم
قال اللَّه جل جلاله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] .
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث وكيع عن إدريس الأودي عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] قال: الشفاعة.
وخرج الحاكم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب ابن مالك عن أبيه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء اللَّه أن أقول، فذلك المقام المحمود،
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وله من حديث إسرائيل قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة ابن اليمان [سمعته يقول] [ (3) ] في قوله عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (4) ] قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا، سكوتا لا تكلم نفس إلا بإذنه، قال: فينادي محمد صلى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] 79: الإسراء.
[ (2) ] أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 395، في كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3383) وما بين الحاصرتين زيادة منه، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 492 من حديث كعب بن مالك الأنصاري، حديث رقم (15356) بنحوه سواء.
[ (3) ] تكملة من (المستدرك) .
[ (4) ] 79: الإسراء.(3/288)
فيقول: «لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، المهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت» ، فذلك المقام المحمود الّذي قال اللَّه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما خرج مسلم حديث أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة، ليخرجن من النار فقط [ (2) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد قال: حدثنا علي بن الحكم عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة، فقال رجل من الأنصار: وما المقام المحمود؟ قال: ذاك إذا جيء بكم عراة حفاة غرلا، فأقوم مقاما لا يقومه أحد غيري يغبطني به الأولون والآخرون [ (3) ] .
وله من حديث وكيع قال: حدثنا داود بن عبد اللَّه الأودي الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: المقام المحمود الشفاعة [ (4) ] ، وخرجه الترمذيّ وقال: هذا حديث حسن [ (5) ] ، وداود الزعافري هو داود الأودي، وهو عم عبد اللَّه بن إدريس وفي الباب عن كعب بن مالك وأبي سعيد وابن عباس.
وخرجه البغوي من حديث أبي عبد الرحمن عبد اللَّه بن عمر، حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [ (1) ] قال: هو المقام الّذي أشفع فيه لأمتي.
__________
[ (1) ] 79: الإسراء.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 395 في كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3384) ، وحديث مسلم المشار إليه قد سبق شرحه.
[ (3) ] هذا الحديث جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد في (المسند) من حديث عبد اللَّه بن مسعود، حديث رقم (3777) ج 1 ص 658، وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) : 2/ 396 في كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل حديث رقم (3385) وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[ (4) ] (مسند أحمد) : 3/ 253، حديث رقم (9844) .
[ (5) ] (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 68- 69، حديث رقم (3358) ، وقال الألباني: صحيح، و (المجموعة الصحيحة) برقم (2639) ، (2370) .(3/289)
ورواه سفيان بن وكيع عن جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: [قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] : يقيمني رب العالمين مقاما لم يقمه أحدا قبلي ولن يقيمه أحدا بعدي.
وروى حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: إن لمحمد من ربه مقاما لا يقومه نبي مرسل ولا ملك مقرب، يبين اللَّه للخلائق فضله على جميع الأولين والآخرين.
وقال أبو سفيان العمري عن معمر عن الزهري، عن علي بن الحسن أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم حتى لا يكون للإنسان إلا موضع قدميه، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن فأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ، فيقول تبارك وتعال: صدق، ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك في أطراف الأرض، فهو المقام المحمود.
قال أبو عمر بن عبد البر: على هذا أصل في تأويل قول اللَّه عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أنه الشفاعة.
وقد روي عن مجاهد: أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش، وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية، والّذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن المقام المحمود هو المقام الّذي يشفع فيه لأمته.
وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك فصار إجماعا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة.
ذكر ابن أبي شيبة عن شبابة عن ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قال: شفاعة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
وذكر بقيّ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أخبرنا قيس عن عاصم عن عبد اللَّه مثله، وذكر الغرباني عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود مثله.(3/290)
وذكر ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: المقام المحمود الشفاعة. وروى سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق عن صله عن حذيفة قال: يجتمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي- زاد سفيان في حديثه-: حفاة عراة سكوتا، كما خلقوا قياما، لا تكلم نفس إلا بإذنه، ثم اجتمعوا، فينادي منادي: يا محمد، على رءوس الأولين والآخرين، فيقول:
لبيك وسعديك والخير في يديك، زاد سفيان: والشر ليس إليك، ثم اجتمعا والمهدي من هديت تباركت وتعاليت، ومنك وإليك، لا ملجأ ولا منجى إلا إليك. قال حذيفة: فذلك المقام المحمود. وذكر له عن حذيفة عدة طرق، قال:
وروى يزيد عن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قال: ذكر لنا أن نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خيّر بين أن يكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا فأومأ إليه جبريل أن تواضع، واختار نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يكون عبدا نبيا، وأعطى.
بها اثنتين: أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع.
قال قتادة: وكان أهل العلم يرون أن المقام المحمود الّذي قال اللَّه عزّ وجلّ:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً شفاعته يوم القيامة، قال: وممن روى عنه أيضا: أن المقام المحمود الشفاعة: الحسن البصري وإبراهيم النّخعيّ وعلي ابن الحسين بن علي وابن شهاب وسعد بن أبي هلال وغيرهم.
***(3/291)
تنبيه وإرشاد
قال الحافظ أبو نعيم: وهذه الأخبار وما يجانسها في الشفاعة وإجابة آدم عليه السلام فمن دونه في الشفاعة عليه كلها داخلة في علو مرتبة نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وشرف منزلته ورفعته عند ربه تعالى، لأن النبوة لا يخص اللَّه بها إلا المنتخبين من خلفة في الأمم، وذوي الأخطار العظيمة، والمناقب الرفيعة، فإذا كان سائر الأنبياء يدفعون عن أنفسهم التشفيع والمسألة، ويجيئون بها على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم بأن فضله وعلو مرتبته على مراتبهم، وفي تعريف هذه المنزلة وإن لم تكن في نفسها معجزة، وأن اللَّه تعالى وضع نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم في أعلى المراتب وأشرف المناقب، لتكون القلوب مقبلة على قبوله، والنفوس مسرعة إلى طاعته صلى اللَّه عليه وسلّم، هذا له مع ما خصه اللَّه من الخصال التي لم تعط من تقدمه من النّبيين والمرسلين من المنافع البهية والمرافع السنية. انتهى.
واعلم أن الشفاعة خمسة أقسام:
الأولى: الشفاعة في إراحة المؤمنين من طول الوقوف وتعجيل الحساب كما تقدم ذكره.
والثانية: الشفاعة في إدخال قوم من المؤمنين الجنة بغير حساب كم تقدم من حديث أنس، وفيه: فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن.
والثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم ومن يشاء اللَّه.
والرابعة: الشفاعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجهم اللَّه بشفاعة نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وبشفاعة الملائكة وإخوانهم المؤمنين، ثم يخرج اللَّه عز وجل من النار كل من قال لا إله إلا اللَّه ولا يبقى في النار إلا الكافرون.
والخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
واتفقوا على شفاعة الحشر وعلى الشفاعة في زيادة درجات أهل الجنة، وخالفت الخوارج والمعتزلة في الأقسام الثلاثة الأخر. وقال ابن عبد البر: وقد قيل إن الشفاعة(3/292)
منه صلى اللَّه عليه وسلّم تكون من مرتين: مرة في الموقف يشفع في قوم فينجون من النار ولا يدخلون الجنة، ومرة بعد دخول قوم من أمته النار فيخرجون منها بشفاعته.
وقد رويت آثار بنحو هذا الوجه بنفي الوجه الأول،
ثم ذكر من طريق ثور ابن يزيد عن هشام بن عروة عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول اللَّه، أدع اللَّه أن يجعلني ممن يشفع له يوم القيامة، فقال لها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إذن تخمشك النار فإن شفاعتي لكل هالك من أمتي تخمشه [ (1) ] النار.
وذكر من طريق يحيى بن معين قال: حدثنا أبو اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن الزهري عن أنس بن مالك عن أم حبيب رضي اللَّه عنها أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذكر ما تلقى أمته بعده من سفك دم بعضها بعضا، وسبق ذلك من اللَّه كما سبق في الأمم قبلهم، فسألته أن يوليني شفاعة فيهم ففعل.
وذكر من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذرّ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي:
بعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب شهرا فيرعب العدو مني مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وقيل سل تعط فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة وهي نائلة إن شاء اللَّه من لم يشرك باللَّه شيئا.
وذكر شيبان بن فروخ قال: حدثنا حرب بن شريح، أخبرنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال: ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقال إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
__________
[ (1) ] الخمش: الخدش في الوجه، وقد يستعمل في سائر الجسد، والخموش الخدوش، قال الفضل بن عباس يخاطب امرأته:
هاشم جدّنا، فإن كنت غضبي ... فاملئي وجهك الجميل خدوشا
والخماشة من الجراحات: ما ليس له أرش [دية] معلوم، كالخدش ونحوه، والخماشة: الجناية.
مختصرا من (لسان العرب) : 6/ 299.(3/293)
وذكر من طريق أبي داود الطيالسي قال: أخبرنا محمد بن ثابت عن جعفر ابن محمد بن على عن أبيه جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، قال: فقال لي جابر: من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة.
قال أبو عمرو: والآثار في هذا كثيرة متواترة، والجماعة وأهل السنة على التصديق بها، ولا ينكرها إلا أهل البدع.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ قال: أخبرنا الحرث بن أبي أسامة، أخبرنا إسحاق بن عيسى، أخبرنا حماد بن زيد عن على بن زيد عن يوسف بن عوان عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا أيها الناس، إن الرجم حق ولا تخدعنّ عنه، وآية ذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد رجم، وأبا بكر [قد رجم] [ (1) ] ، ورجمنا بعدهما، وأنه سيكون أناس يكذبون بالرجم، ويكذبون باللعان، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا، قال أبو عمر: كل هذا يكذب به جميع طوائف أهل البدع والخوارج والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق المبتدعة، وأما أهل السنة، أئمة الفقه والأمر في جميع الأمصار فيؤمنون بذلك كله ويصدقونه، وهم أهل الحق، واللَّه المستعان.
***
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/294)
إيضاح وتبيان
قد استشكل ظاهر قوله: لكل نبي دعوة يدعو بها، إنما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا صلى اللَّه عليه وسلم، فإنه ظاهره أن لكل نبي دعوة واحدة مجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعوات فهو على رجاء الإجابة، وقيل: مضى قوله: لكل نبي دعوة أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخر، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم أو بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب: وقيل: لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح عليه السلام: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [ (1) ] ، وقول زكريا عليه السلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [ (2) ] ، وقول سليمان عليه السلام: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ (3) ] ، حكاه ابن التين.
وقال بعض شراح (المصابيح) : اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن لكل نبي دعاء على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع، فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة: أمة الدعوة لا أمة الإجابة، وتعقبه الطيبي بأنه صلى اللَّه عليه وسلم دعا على أحياء من العرب، ودعا على الناس من قريش بأسمائهم، فدعا على رعل وذكوان وغيرهم. قال: والأولى أن يقال: أن اللَّه تعالى جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته، فنالها كل منهم في الدنيا إلا نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، فبقي تلك الدعوة المستجابة مدّخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] 26: نوح.
[ (2) ] 5: مريم.
[ (3) ] 35: ص.
[ (4) ] 128: آل عمران.
[ (5) ] (فتح الباري) : 11/ 116- 117.(3/295)
وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح:
سألت اللَّه ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. وقال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضيلة نبينا صلى اللَّه عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاءً عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم [ (1) ] .
وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنه جعل الدعوة بشيء ينبغي، ومن كثرة كرمه أنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره أنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين.
وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى اللَّه عليه وسلّم على أمته ورأفته بهم، واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم [ (2) ] .
قال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله: لكل نبي دعوة يدعو بها، فمعناه:
أن كل نبي أعطى أمنية وسؤلا ودعوة يدعو بها ما شاء أجيب وأعطيه. ولا وجه لهذا الحديث غير ذلك، لأن لكل نبي دعوات مستجابات، ولغير الأنبياء أيضا، دعوات مستجابات، وما يكاد أحد من أهل الإيمان يخلو من أن تجاب دعوته ولو مرة في عمره، فإن اللَّه تعالى يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ (3) ] ، وقال:
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [ (4) ] ، وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما يستجاب له فيما دعا به، وإما أن يدخر له مثله، أو يكفر عنه [ (5) ] . وقال: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر، والدعاء عند حضرة النداء، والصف في سبيل اللَّه، وعند نزول الغيث، وفي ساعة يوم الجمعة لا يرد، فإذا كان هذا، هكذا لجميع المسلمين، فكيف يتوهم متوهم أن ليس للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم ولا لسائر الأنبياء إلا دعوة واحدة يجابون فيها، هذا ما لا يتوهمه ذو لب ولا إيمان، ولا من له أدنى فهم، وباللَّه التوفيق.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 116- 117.
[ (2) ] انظر شرح النووي لأحاديث الشفاعة بصحيح مسلم كتاب الإيمان.
[ (3) ] 60: غافر.
[ (4) ] 41: الأنعام.
[ (5) ] رواه الترمذي رقم (3378) في الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وهو حديث صحيح لكن باختلاف يسير، وأخرجه مالك موقوفا في القرآن 1/ 217.(3/296)
وأما حوض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو الكوثر
قال اللَّه جل جلاله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (1) ] ، واختلف في المراد به، فقيل إنه نهر في الجنة، وقيل: الكوثر: الخير الكثير الّذي أعطيه النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فقد بلغ التواتر عن جماعة من علماء الآثار، ورواه الجم الغفير عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
وبان، وجابر، وأبو هريرة، وجابر بن سمرة، وعقبة بن عامر، وعبد اللَّه بن عمرو، وأبوه عمرو بن العاص، وحارثة بن وهب، والمستورد، وأبو برزة، وحذيفة، وأبو أمامة، وأبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وعبد اللَّه بن زيد، وسهل بن سعيد، وسويد بن عبلة، وبريدة وأبو سعيد، والبراء بن عازب، وعتبة ابن عبد السلمي وجندب، والصنايجي، وأبو بكرة، وأبو ذر الغفاريّ، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بنت قيس، ذكرهم اللالكائي وغيره.
قال القاضي عياض [ (2) ] : أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة. قاله ابن عباس.
وقيل: هو العلم والقرآن، قاله الحسن، وقيل: النبوة، قاله عكرمة، وقيل:
إنه حوض النبي صلى اللَّه عليه وسلم يكثر عليه الناس. قاله عطاء، وقيل: إنه كثرة أتباعه وأمته، قاله أبو بكر بن عياش،
وقال جعفر بن محمد الصادق: يعني بالكوثر نورا في قلبك يدلّك علي ويقطعك عمن سواي. وعنه أيضا أنه الشفاعة.
وقال هلال بن يسار:
هو قول لا إله إلا اللَّه، وقيل: هو الصلوات الخمس.
وأصح هذه الأقوال: ما ثبت عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم،
[فقد] [ (3) ] خرج البخاري في آخر كتاب الرقاق من حديث هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا
__________
[ (1) ] 1: الكوثر.
[ (2) ] (الشفا) : 1/ 185.
[ (3) ] زيادة للسياق.(3/297)
قتادة، حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: [بينما] [ (1) ] أنا أسير في الجنة، [إذا] [ (2) ] أنا بنهر [حافّتاه] [ (3) ] قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربك، فإذا طيبه أو طينه [مسك] [ (4) ] أذفر شكّ هدبة [ (5) ] .
وخرج في التفسير من حديث شيبان، حدثنا قتادة عن أنس: لما عرج بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافاته قباب اللؤلؤ [مجوف] [ (6) ] فقلت:
ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر [ (7) ] .
ومن حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عائشة رضي اللَّه عنها قال: سألتها عن قوله [تعالى] [ (8) ] : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى اللَّه عليه وسلم شاطئاه [عليه] [ (9) ] در مجوف، آنيته كعدد النجوم [ (10) ] . [رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي إسحاق] [ (8) ] .
ومن حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الّذي أعطاه اللَّه إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الّذي في الجنة هو الخير الّذي أعطاه اللَّه إياه [ (11) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «بينا» وما أثبتناه من البخاري.
[ (2) ] في (خ) : «وإذا» .
[ (3) ] في (خ) : «حافته» .
[ (4) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (5) ] حديث رقم (6581) ، كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
[ (6) ] في (خ) : «مجوفة» ، وما أثبتناه من البخاري.
[ (7) ] حديث رقم (4964) من كتاب التفسير باب (108) ، سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
[ (8) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (9) ] في (خ) : «عليهما» .
[ (10) ] حديث رقم (4965) ، من كتاب التفسير، باب (108) ، سورة: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
[ (11) ] أخرجه البخاري في التفسير، باب (108) ، سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (4966) ، وفي الرقاق، باب (53) ، في الحوض وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6578) .(3/298)
وخرج مسلم من حديث على بن مسهر قال: أخبرنا المختار بن فلفل عن أنس ابن مالك رضي اللَّه عنه قال: بينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رجع، فرأيته مبتسما!! فقلنا: ما أضحكك يا رسول اللَّه؟ قال: نزلت على آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ (1) ] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [ (2) ] ، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟
فقلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عليه خير كثير، أو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك [ (3) ] . [زاد
__________
[ (1) ] أول سورة الفاتحة.
[ (2) ] أول سورة الكوثر 1- 3.
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (14) ، حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى (براة) ، حديث رقم (400) .
وقوله: «يختلج» ، أي ينتزع وينقطع، وفي هذا الحديث فوائد، منها: أن البسملة في أوائل السور من القرآن، وهو مقصود مسلم بإدخال هذا الحديث هنا.
وفيه جواز النوم في المسجد، وجواز نوم الإنسان بحضرة أصحابه، وأنه إذا رأى التابع من متبوعه تبسما أو غيره مما يقتضي حدوث أمر، يستحب له أن يسأل عن سببه.
وفيه إثبات الحوض والإيمان به واجب.
قوله: «وهل تدري ما أحدثوا بعدك» ، وفي الرواية الأخرى: قد بدلوا بعدك فأقول: «سحقا سحقا» ، هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال:
أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون، فيقال: ليس هؤلاء ممن وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم ارتد بعده، فيناديهم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى اللَّه عليه وسلّم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.
والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر، الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين ينادون بالنار، بل يجوز أن يزاد عقوبة لهم، ثم يرحمهم اللَّه سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب.
وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر. قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخير. واللَّه تعالى أعلم. مختصرا من (مسلم بشرح النووي) : 3/ 138- 139، كتاب الطهارة، باب (12) استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، حديث رقم (246) ، 4/ 355- 356، كتاب الصلاة، باب (14) حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى (براءة) ، حديث رقم (400) .(3/299)
ابن حجر في حديثه: «بين أظهرنا في المسجد» وقال: «ما أحدث بعدك» ] [ (1) ] .
وفي رواية النسائي: «أحدثت بعدك» ، وهي رواية لمسلم أيضا، وقال النسائي في حديثه: «آنيته أكثر من عدد الكواكب» ، ذكره النسائي في كتاب الصلاة، وفي كتاب التفسير.
[ ... ] [ (2) ]
وخرج الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب عن محارب ابن دثار عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ذكره في التفسير [ (3) ] .
وخرج البخاري في الرقاق من حديث شعبة عن عبد الملك [بن عمير] [ (4) ] قال: سمعت جندبا يقول: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أنا فرطكم على الحوض [ (5) ] .
وخرجه مسلم من حديث زائدة عن عبد الملك [ (6) ] ، وذكر له طرقا، وله من
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من المرجع السابق.
[ (2) ] في (خ) بعد قوله: «في كتاب التفسير» طمس في الأصل، لم يظهر في التصوير الميكروفيلم، قال المقريزي بعده: «وخرجه أبو داود بهذا الإسناد وقال: فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، ذكره في كتاب شرح السنة، في باب الحوض» .
[ (3) ] رقم (3358) باب ومن سورة الكوثر، وأخرجه ابن ماجة في الزهد حديث رقم (43344) باب صفة الجنة، وأحمد في (المسند) 2/ 256، حديث رقم (5877) ، وإسناده صحيح، فإن الراويّ عن عطاء عنده هو حماد بن زيد، وقد سمع منه قديما. وذكره السيوطي في (الدر المنثور) :
6/ 403، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وابن جرير.
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] أخرجه البخاري في الرقاق، باب (53) ، في الحوض، وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» ، حديث رقم (6589) .
[ (6) ] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (25) ، وجندب: هو أبو ذر الغفاريّ الصحابي الجليل رضي اللَّه عنه، وسبقت له ترجمة.(3/300)
حديث سماك بن حرب عن جابر بن سمرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ألا إني فرط لكم على الحوض، وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه النجوم [ (1) ] .
وله من حديث حاتم بن إسماعيل، عن المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أخبرني بشيء سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكتب إليّ: أني سمعته يقول: أنا الفرط على الحوض [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن أبي عدي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة أنه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: حوضه ما بين صنعاء والمدينة،
فقال له المستورد: ألم تسمعه قال الأواني؟ فقال: لا، فقال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب [ (3) ] .
وخرجه البخاري من حديث حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة عن معبد بن خالد «عن حارثة سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وذكر الحوض فقال: كما بين المدينة وصنعاء» [ (4) ] [قال] [ (5) ] : وزاد ابن أبي عدي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة سمع
__________
[ (1) ] المرجع السابق، حديث رقم (44) ، وصنعاء: منسوبة إلى جودة الصنعة ذاتها، كقولهم: امرأة حسناء وعجزاء وشلاء، والنسبة إليها صنعانيّ على غير قياس، كالنسبة إلى بهراء بهراني.
روى البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار، باب (29) من حديث خباب مرفوعا، وفيه: «وليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللَّه» قال البخاري: زاد بيان: «والذئب على غنمه» .
وصنعاء موضعان، أحدهما باليمن، وهي العظمي، وأخرى قرية بالغوطة من دمشق، وقد ذكرهما ياقوت الحموي في (معجم البلدان) بالتفصيل، وفرّق بين من نسب إلى هذه وهذه، ج 3 ص 483- 489، فليراجع هناك، و (تقويم البلدان) : 94- 95.
وأيلة: بالفتح: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام، قال أبو زيد: أيلة مدينة صغيرة، عامرة، بها زرع يسير، وهي مدينة اليهود الذين حرّم اللَّه عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا فمسخوا قردة وخنازير. (معجم البلدان) : 1/ 347.
[ (2) ] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وشفاعته، حديث رقم (45) .
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (33) .
[ (4) ] أخرجه البخاري في الرقاق باب (53) في الحوض، وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6591) .
[ (5) ] زيادة من (خ) .(3/301)
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: حوضه ما بين صنعاء والمدينة،
فقال له المستورد: ألم تسمعه قال الأواني؟ قال: لا، قال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب [ (1) ] .
وخرج مسلم وأحمد من حديث عبد العزيز بن عبد الصمد العمى، عن أبي عمران الجوني عن عبد اللَّه بن الصامت عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قلت:
يا رسول اللَّه، ما آنية الحوض؟ قال: والّذي نفس محمد بيده، لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء، وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، ذكره في المناقب [ (2) ] .
وله من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد عن عقبة بن عامر رضي اللَّه عنه قال: صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال: إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] المرجع السابق، حديث رقم (6592) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وشفاعته، حديث رقم (36) . وأخرجه أحمد في (المسند) : 6/ 184- 185 عن أبي ذر الغفاريّ رضي اللَّه عنه، حديث رقم (20820) ، وأخرجه أحمد بنحو منه في المرجع السابق 2/ 256، حديث رقم (5877) مسند عبد اللَّه بن عمر.
[ (3) ] الجحفة: بالضم ثم السكون، والفاء: كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا بالمدينة فميقاتهم ذو الحليفة، وكان اسمها مهيعة، وإنما سميت الجحفة، لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام، وهي الآن خراب، وبينها وبين ساحل الحجاز نحو ثلاث مراحل، وبينها وبين المدينة ست مراحل.
وقال السكري: الجحفة: على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة، والجحفة أول الغور إلى مكة، وكذلك هي من الوجه الآخر إلى ذات عرق، وأول الثغر من طريق المدينة أيضا الحجفة.
وقال الكلبي: إن العماليق أخرجوا بني عقيل، وهم إخوة عاد بن رب، فنزلوا الجحفة، وكان اسمها يومئذ مهيعة، فجاءهم سيل واجتحفهم، فسميت الجحفة.
ولما قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة استوبأها وحمّ أصحابه، فقال: اللَّهمّ حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشدّ، وصحّحها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها إلى الجحفة.
وروى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نعس ليلة في بعض أسفاره، إذ استيقظ فأيقظ أصحابه وقال: مرّت بي الحمى في صورة امرأة ثائرة الرأس منطلقة إلى الجحفة، (معجم البلدان) : 2/ 129.(3/302)
إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن [تنافسوا] [ (1) ] فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم،
قال عقبة: فكان آخر ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر [ (2) ] .
وذكره البخاري بهذا السند ولفظه: قال: صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، إن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها.
قال: فكانت آخر نظرة نظرها إليّ رسول اللَّه [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وأني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها [ (3) ] . لفظهما متقارب جدا، ذكره البخاري في باب الصلاة على الشهيد، وفي كتاب الرقاق، وفي آخر غزوة أحد. وذكره في باب علامات النبوة في الإسلام وقال: مفاتيح خزائن الأرض (من غير شك) . وذكره أبو داود بهذا الإسناد [ (4) ] ، وانتهى من الحديث إلى قوله: ثم انصرف. وذكره النسائي [ (5) ] وانتهى إلى قوله: وأنا شهيد عليكم.
__________
[ (1) ] في (خ) : «تتنافسوا» .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (31) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي البخاري: «نظرتها إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم» . والحديث رواه البخاري في الرقاق، باب في الحوض، وباب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، وفي الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، وفي الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام، وفي المغازي، باب غزوة أحد، وباب أحد يحبنا ونحبه.
ومسلم في الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته.
[ (4) ] (صحيح سنن أبي داود) : 2/ 620، باب (75) ، الميت يصلى على قبره بعد حين، حديث رقم (2760) ، قال الألباني: صحيح.
[ (5) ] (صحيح سنن النسائي) : 2/ 420، باب (61) ، الصلاة على الشهداء، حديث رقم (1846) ، قال الألباني: صحيح.(3/303)
وخرج مسلم من حديث معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن سالم ابن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن ثوبان، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: إني لبعقر حوضي أذود الناس [عنه] [ (1) ] لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم، فسئل عن عرضه فقال: من مقامي إلى عمان، وسئل عن شرابه فقال:
أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من الذهب والآخر من ورق [ (2) ] .
وخرج أيضا من حديث الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: لأذودن عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة من الإبل [ (3) ] .
وخرج البخاري في كتاب الشرب من حديث شعبة عن محمد بن زياد سمعت أبا هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: والّذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض [ (4) ] .
وخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني عمرو- وهو ابن الحرث- أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي، عن عبد اللَّه بن رافع مولى أم سلمة، عن م سلمة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم سمع ذلك من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما كان [يوما] [ (5) ] من ذلك- والجارية تمشطني- فسمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: [أيّها] [ (6) ] الناس، فقلت للجارية: استأخري عنها، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إني من الناس، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني لكم فرط على الحوض، فإياي لا يأتينّ
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (37) ، وعقر الحوض: مؤخره.
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (38) ، وفي (خ) : «تزاد» .
[ (4) ] (جامع الأصول) : 10/ 473، في ورود الناس على الحوض، حديث رقم (8004) ، وإسناده صحيح.
[ (5) ] في (خ) : «يوم» .
[ (6) ] في (خ) : «يا أيها» .(3/304)
أحدكم فيذبّ عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: [سحقا] [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد اللَّه بن عمرو، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا. ذكره في الرقاق في باب الحوض [ (2) ] .
وله فيه من حديث نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها قالت: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: إني على الحوض حتى انظر من يرد عليّ منكم، [وسيؤخذ] [ (3) ] ناس دوني، فأقول: يا رب [مني] [ (4) ] ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ واللَّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم. فكان ابن أبي مليكة يقول: اللَّهمّ إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا.
على أعقابهم ينكصون: يرجعون على العقب، ذكره في كتاب الفتن [ (5) ] .
وخرج مسلم في المناقب من حديث نافع بن عمر الجمحيّ، عن ابن أبي مليكة، قال: قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: حوضي مسيرة شهر، زواياه سواء وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا. قال: وقالت أسماء بنت أبي بكر: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني على الحوض [حتى] [ (6) ] انظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي، فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ واللَّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم،
قال: وكان ابن أبي مليكة
__________
[ (1) ] في (خ) : «فسحقا» ، أخرجه مسلم في الفضائل باب (9) إثبات حوض نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم وصفاته، حديث رقم (29) .
[ (2) ] حديث رقم (6579) .
[ (3) ] في (خ) : «وسيوجد» .
[ (4) ] في (خ) : «أمتي» .
[ (5) ] باب (1) ما جاء في قول اللَّه تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يحذّر من الفتن، حديث رقم (7048) وذكره أيضا في كتاب الرقاق، باب (53) في الحوض، وقول اللَّه تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، حديث رقم (6593) .
[ (6) ] تكملة من رواية البخاري.(3/305)
يقول: اللَّهمّ إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا [ (1) ] .
وله من حديث ابن خيثم عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة، سمع عائشة رضي اللَّه عنها تقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول بين ظهراني أصحابه:
إني على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم، فو اللَّه ليقتطعن دوني رجال فلأقولن:
أي رب، مني ومن أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم [ (2) ] .
وخرج البخاري في الرقاق من حديث أبي عوانة عن سليمان عن شقيق عن عبد اللَّه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [أنه قال] : أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ إليّ رجال منكم حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي! يقول:
لا تدري ما أحدثوا بعدك [ (3) ] . وخرجه مسلم من طرق [ (4) ] .
وخرج البخاري من حديث عبد اللَّه قال: حدثني نافع عن ابن عمر أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال لي: إنّ أمامكم حوضا ما بين جرباء وأذرح [ (5) ] .
وخرجه مسلم من طرق في بعضها: حوضي، وفي بعضها: إن أمامكم حوضا ما بين ناحيتيه. وخرجه كذلك أبو داود وفي بعضها: إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح، فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (53) الحوض، حديث رقم (6593) ، وفي كتاب الفتن، باب (1) ، حديث رقم (7048) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل، باب (9) حديث رقم (28) .
[ (3) ] أخرجه البخاري في الرقاق، باب (53) الحوض بسند آخر وسياقة أخرى، حديث رقم (6576) .
[ (4) ] أخرجه مسلم في الفضائل، باب (9) ، حديث رقم (40) .
[ (5) ] كتاب الرقاق، باب (53) ، حديث رقم (6577) .
[ (6) ] مسلم في الفضائل، باب (9) ، حديث رقم (34، 35) ، والجرباء: كأنه تأنيث الأجرب، موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام، قرب جبال السراة من ناحية الحجاز، وهي قرية من أذرح، وبينهما كان أمر الحكمين بين عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعريّ. والجرباء أيضا:
ماء لبني سعد بن زيد مناة بن تميم بين البصرة واليمامة. (معجم البلدان) : 2/ 137.
وأذرح: بالفتح، ثم السكون، وضم الراء، والحاء المهملة: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال(3/306)
وخرج البخاري من حديث ابن وهب عن يونس، قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة [ (1) ] . وخرجه مسلم من طرق، في بعضها: ما بين لابتي حوضي. وله من حديث خالد بن الحرب عن سعيد عن قتادة، قال أنس: قال نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ترى فيه: أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء [ (2) ] . وفي لفظ: أو أكثر من عدد نجوم السماء [ (3) ] .
وذكر البخاري ومسلم أحاديث فيها ذكر الحوض من حديث سهل بن سعد بمعنى ما تقدم، وجاءت أحاديث أخر في ذكر الحوض، وفيما أوردته من الصحيحين والسنن ما يشبع ويكفي إن شاء اللَّه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه اللَّه، ولم يأذن به اللَّه، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، هؤلاء كلهم مبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بهذا الخبر، ولا يخلد في النار إلا كل فاجر جاحد، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
وقد قال أبو القاسم: قد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء، وكان يقال: تمام الإخلاص تجنب المعاصي. (انتهى) .
__________
[ () ] الشراة، ثم من نواحي البلقاء، وفي كتاب مسلم بن الحجاج: بين أذرح والجرباء ثلاثة أيام، (المرجع السابق) : 1/ 157.
[ (1) ] أخرجه البخاري في الرقاق، باب (53) ، حديث رقم (6591) ، وقال فيه: «كما بين المدينة وصنعاء» ، ورواية مسلم في الفضائل: «بين صنعاء والمدينة» .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الفضائل باب (9) ، حديث رقم (43) .
[ (3) ] المرجع السابق في الباب.(3/307)
والظاهر أن الشرب من الحوض يكون بعد الحساب والنجاة من النار، وقيل:
يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار. واللَّه الرحيم الرحمن [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] قال القاضي عياض رحمه اللَّه: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأوّل ولا يختلف فيه.
قال القاضي: وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمرو ابن العاص، وعائشة، وأم سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وحارثة بن وهب، والمستورد، وأبي ذر، وثوبان، وأنس، وجابر بن سمرة.
ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصديق، وزيد بن أرقم، وأبي أمامة، وعبد اللَّه بن زيد، وأبي برزة، وسويد بن جبلة، وعبد اللَّه بن الصنابحي، والبراء بن عازب، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بن قيس، وغيرهم.
قال الإمام النووي: ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة، ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب، وعائذ بن عمر، وآخرين.
وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (البعث والنشور) بأسانيده، وطرقه، المتكاثرات. قال القاضي: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا فرطكم على الحوض» ،
قال أهل اللغة: الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط:
هو الّذي يتقدم الوارد ليصلح لهم الحياض، والدلاء، ونحوها من أمور الاستقاء. فمعنى «فرطكم على الحوض» : سابقكم إليه كالمهيء له. (مسلم بشرح النووي) : 15/ 59.(3/308)
وأما كثرة أتباعه صلى اللَّه عليه وسلّم
فخرج مسلم من حديث جرير عن المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعا [ (1) ] .
وفي رواية سفيان عن مختار: أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة [ (2) ] . وفي رواية زائدة عن المختار: أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدّق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] والنسائي من حديث الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الّذي [أوتيته] وحيا أوحي إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم [تابعا] يوم القيامة.
وخرج الترمذي من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أكثرهم واردة، وإني
__________
[ (1) ]
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (85) في قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا» ، حديث رقم (330) .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (331) .
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (332) .
[ (4) ]
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب (1) كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، حديث رقم (4981) ، وفي (خ) : «أوتيت» ، و «تبعا» ، والتصويب من رواية البخاري، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الاعتصام بالسنة، باب (1) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: بعثت بجوامع الكلم، حديث رقم (7274) .
[ (5) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (70) وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، حديث رقم (329) .(3/309)
لأرجو أن أكون أكثرهم واردة [ (1) ] . قال هذا حديث غريب، وقد روى الأشعث ابن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مرسلا، ولم يذكر عن سمرة،
وهذا أصح.
***
__________
[ (1) ] (صحيح سنن الترمذي) : 2/ 295- 296، باب (12) صفة الحوض، حديث رقم (1988) ، قال الألباني: صحيح، و (الصحيحة) : حديث رقم (1589) .(3/310)
وأما الخمس التي أعطيها صلى اللَّه عليه وسلّم
وقد روى ست، وروى ثلاث وأربع، وهي تنتهي إلى أزيد من سبع، قال:
فهن لم يؤتهن أحد قبلي.
فخرج البخاري من حديث هشيم، أخبرنا سيار، حدثنا يزيد الفقير، قال:
أخبرنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. ذكره في باب التيمم [ (1) ] ، وخرجه في كتاب الصلاة [ (2) ] ولفظه: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.. الحديث إلى آخره، وقال: وبعثت إلى كافة الناس. وخرجه مسلم [ (3) ] بهذا السند ولفظه: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة.
وخرجه النسائي [ (4) ] ، ولفظه عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا طهورا، فأينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلى.
لم يذكر
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب التيمم. قول اللَّه تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] باب (1) ، حديث رقم (335) .
[ (2) ]
باب (56) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، حديث رقم (438) .
وأخرجه البخاري أيضا في كتاب فرض الخمس، باب (8) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «أحلّت لي الغنائم.
وقال اللَّه عزّ وجلّ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [الفتح: 20] ، وهي للعامة حتى بينه الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3122) ، ورقم (3124) .
[ (3) ] ذكره في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (521) .
[ (4) ] ذكره النسائي في كتاب المساجد، باب (42) الرخصة في الصلاة في أعطان الإبل، حديث رقم (735) .(3/311)
منه غير هذا [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعيّ عن حذيفة رضي اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فضلنا على الأنبياء بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء،
وذكر خصلة أخرى [ (2) ] .
وخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي عوانة عن أبي مالك بسنده ولفظه:
فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا وترابها طهورا، وأعطيت آخر سورة البقرة وهي كنز من العرش.
وروى أبو داود السجستاني من حديث جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد ابن عمير عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا [ (3) ] .
وخرج ابن الجارود من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا محمد- يعني ابن عمرو- عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: مثله سواء.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة بسنده ولفظه.
وخرجه ابن الجارود أيضا من حديث حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا.
__________
[ (1) ]
قال محققه: لكن ذكره النسائي أيضا في كتاب الغسل، باب (26) التيمم بالصعيد، حديث رقم (430) : أخبرنا الحسن بن إسماعيل بن سليمان، حدثنا هشيم قال: أنبأنا سيّار عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحدا قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأينما أدرك الرجل من أمتي الصلاة يصلي، وأعطيت الشفاعة، ولم يعط نبي قبلي، وبعثت إلى الناس كافة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة» .
(سنن النسائي) 1/ 229- 231.
[ (2) ] ذكره في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (4) .
[ (3) ] ذكره في كتاب الصلاة، باب (24) في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، حديث رقم (489) .(3/312)
وخرج أبو نعيم من حديث شعبة عن واصل عن مجاهد عن أبي ذر عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب على مسيرة شهر، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمتي من مات منهم لا يشرك باللَّه شيئا. قال أبو نعيم: هكذا رواه شعبة عن واصل عن مجاهد عن أبي ذر، وتابعه عليه عمرو بن ذر [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق قال: حدثني سليمان الأعمش عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج عن عبيد بن عمير الليثي عن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي كان قبلي: نصرت بالرعب فيرعب مني العدو من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وقيل لي: سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم- إن شاء اللَّه- من لقي اللَّه عز وجل لا يشرك به شيئا،
وكان مجاهد يرى أن الأحمر الإنس والأسود الجن [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر قال: طلبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليلا فوجدته قائما يصلي فأطال الصلاة ثم قال: أوتيت الليلة خمسا لم يؤتها نبي قبلي: أرسلت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب فيرعب العدو وهو مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وقيل لي: سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي، وهي نائلة لمن لا يشرك باللَّه شيئا [ (1) ] .
قال أبو نعيم: تابع جرير استدل ابن علي وأبو معاوية ومحمد بن إسحاق على عبيد بن عمير وقال مرة: متن هذا الحديث وخصائص النبي صلى اللَّه عليه وسلّم راتب مشهور ومتفق عليه من حديث يزيد الفقير عن جابر بن عبد اللَّه وغيره، وحديث عبيد بن عمير عن أبي ذر مختلف في سنده، فمنهم من يرويه عن الأعمش عن مجاهد عن أبي ذر من دون عبيد، وتفرّد جرير بإدخال عبيد بين مجاهد وأبي ذر عن الأعمش.
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها في فصل (اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر) فتراجع هناك.(3/313)
وله من حديث سلمة عن مجاهد عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، ونصرت بالرعب يرعب مني عدوي شهرا، وأطعمت المغنم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا [ (1) ] .
وله من حديث سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مثله، قال: وتابعه عليه الحكم بن عيينة، ورواه يزيد بن أبي زياد مثله عن مجاهد وفيه: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود، فذكر مثله سواء.
وله من حديث ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن على بن رباح عن رجل سمع عبادة بن الصامت قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن جبريل أتاني فبشرني أن اللَّه أمدني بالملائكة وأتاني النصر، وجعل بين يدي الرعب، وأتاني السلطان والملك، وطيب لي ولأمتي الغنائم، ولم يكن لأحد قبلنا. واللَّه يؤتي فضله من يشاء وبه يكتفى [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] سبق تخريجه أو نحوه والتعليق عليه.(3/314)
وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزائن الأرض
فخرج البخاري في الجهاد من حديث عقيل عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي،
قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول اللَّه وأنتم تنتثلونها [ (1) ] .
وخرجه في كتاب التعبير في باب المفاتيح في اليد ولفظه: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت مفاتيح خزائن الأرض وضعت [ (2) ] في يدي، قال محمد: وبلغني أن جوامع الكلم: أن اللَّه يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك [ (3) ] .
وخرجه في كتاب الاعتصام من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي، قال أبو هريرة:
فقد ذهب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأنتم تلغثونها أو ترغثونها، أو كلمة تشبهها [ (4) ] .
وخرجه مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب، ومن حديث الزبيدي عن الزهري، أخبرنا سعيد بن المسيب وأبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول
__________
[ (1) ]
باب (122) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ، حديث رقم (2977) .
[ (2) ] في (خ) : «فوضعت» .
[ (3) ] حديث رقم (7013) ، قوله: (باب المفاتيح في اليد) أي إذا رئيت في المنام، قال أهل التعبير:
المفتاح مال، وعز، وسلطان، فمن رأى أنه فتح بابا بمفتاح فإنه يظفر بحاجته، بمعونة من له بأس، وإن رأى أن بيده مفاتيح فإنه يصيب سلطانا عظيما. (فتح الباري) : 12/ 496.
[ (4) ]
باب (1) قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت بجوامع الكلم» ، حديث رقم (7273) ، واللغث والرغث كناية عن سعة العيش، وأصله من رغث الجدي أمه إذا ارتضع منها، وأرغثته هي أرضعته. (فتح الباري) : 13/ 308.(3/315)
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول:.. فذكره [ (1) ] ، وخرجه من حديث معمر عن الزهري [ (2) ] ، وخرجه النسائي أيضا من حديث معمر ويونس عن الزهري [ (3) ] ، وأخرجه أيضا من حديث الزبيدي عن الزهري عن سعيد [ (4) ] ، وأبي سلمة عن أبي هريرة [ (5) ] .
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول حين فتحت الأمصار في زمان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومن بعده: افتحوا ما بدا لكم، فو الّذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا اللَّه قد أعطى محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم مفاتيحها قبل ذلك.
وخرج البخاري من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت مفاتيح الكلم ونصرت بالرعب، وبينما أنا نائم البارحة إذا أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي، قال أبو هريرة: فذهب رسول اللَّه وأنتم تنتقلونها. ذكره في كتاب التعبير في باب رؤيا بالليل [ (6) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة أنه حدثه عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: نصرت بالرعب على العدو، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي [ (7) ] .
وله من حديث عبد الرزّاق، حدثنا معمر عن هشام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فذكر أحاديث منها: وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم، ذكره والّذي قبله في كتاب الصلاة [ (8) ] .
__________
[ (1) ] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (6) من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] الحديث الّذي يليه بالمرجع السابق.
[ (3) ] (سنن النسائي) : 6/ 310 كتاب الجهاد، باب (1) وجوب الجهاد، حديث رقم (3087) .
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم (3089) .
[ (5) ] المرجع السابق، حديث رقم (3088) .
[ (6) ] حديث رقم (6998) .
[ (7) ] ذكره في كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها، حديث رقم (7) .
[ (8) ] المرجع السابق، حديث رقم (8) .(3/316)
وخرج من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم من حديث أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: فضلت على النبيين بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، وأرسلت إلى الناس كافة، وأحلت لي الغنائم، وختم بي النبيون [ (2) ] .
وله من حديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت فواتح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم إذ أتيت بمفاتح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي [ (2) ] .
وله من حديث الحسن بن سفيان قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا عيسى ابن ميمون، حدثنا محمد بن كعب قال: سمعت ابن عياش رضي اللَّه عنه يقول:
كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: أوتيت خصالا لا أقولها فخرا، قيل: وما هن يا رسول اللَّه؟ قال: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأوتيت الكوثر آنيته عدد نجوم السماء.
وله من طريق الغرياني جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا موسى بن أمين عن عطاء بن السائب عن أبي جعفر عنه أبيه عن جده عن أبي طالب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي، وأعطيت جوامع الكلم، يعني القرآن [ (2) ] .
__________
[ (1) ] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (6) من صحيح مسلم.
[ (2) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها.(3/317)
وخرج مسلم من حديث مالك بن مغول عن الزبير بن عديّ عن مرة الهمدانيّ عن عبد اللَّه قال: لما أسري برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى، أعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن كان من أمته لا يشرك باللَّه المقحمات [ (1) ] .
وذكر قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أعطيت مكان التوراة السبع، ومكان الزبور المئين، ومكن الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل [ (2) ] .
***
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان. باب (76) في ذكر سدرة المنتهى، حديث رقم (279) ، والمقحمات: الذنوب الكبائر التي تقحم أصحابها في النار.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 475، وأخرجه الطبراني في الكبير، وأشار إليه السيوطي بالحسن، (فيض القدير) : 1/ 565.(3/318)
وأما تأييده بقتال الملائكة معه
فخرج البخاري من حديث يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقيّ عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة [ (1) ] .
ومن حديث خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب [ (2) ] .
ولمسلم قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين [ (3) ] .
ولعثمان بن سعيد الدارميّ من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [ (4) ] ، قال: أقبلت عير مكة تريد الشام، فبلغ أهل مكة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يريدون العير، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا السير إليها لكيلا يغلب عليها النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وكان اللَّه عز وجل قد وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا
__________
[ (1) ] أخرجه في كتاب المغازي، باب (11) شهود الملائكة بدرا، حديث رقم (3992) .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (3995) ، وأخرجه أيضا في باب (17) غزوة أحد برقم (4041) وفيه: «قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد ... » وباقي الحديث بمثله سواء.
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب (18) الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث رقم (58) ، وهو حديث طويل.
[ (4) ] 7: الأنفال.(3/319)
العير أحب إليهم وأيسر شوكة، وأحضر مغنما، فلما سبقت العير وفاتت سار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم، فنزل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم والمسلمين بينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم القنط يوسوسهم: تزعمون أنكم أولياء اللَّه وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا، فأمطر اللَّه عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، فأذهب اللَّه عنهم رجز الشيطان، وصار الرمل كذا، ذكر كلمة أخبر أنه أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمدّ نبيّه والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، [وميكائيل في خمسمائة مجنبة] [ (1) ] ، وجاء إبليس في جند من الشياطين معه، رأيته في صورة رجال بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جشعم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [ (2) ] ، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللَّهمّ أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يده فقال: يا رب إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا، فقال جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوههم،
فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس- لعنه اللَّه- فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة!! لم تزعم أنك جار لنا؟ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [ (2) ] ، وذلك حين رأى الملائكة.
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال:
وحدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد اللَّه ابن أبي بكر وغيرهم من علمائنا، فذكر الحديث في يوم بدر إلى أن قال: فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في العريش هو وأبو بكر رضي اللَّه عنه ما معهما غيرهما، وقد تداني القوم بعضهم من بعض، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يناشد ربه ما وعده من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من تفسير ابن كثير.
[ (2) ] 48: الأنفال.(3/320)
نصره ويقول: اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد، وأبو بكر رضي اللَّه عنه يقول:
بعض منا شدتك يا رسول اللَّه فإن اللَّه موفيك ما وعدك من نصره.
وخفق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خفقة [ثم هب] [ (1) ] ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر اللَّه، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع- يقول الغبار-، ثم خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فعبأ [ (2) ] أصحابه وهيأهم وقال: لا يعجلن رجل بقتال [ (3) ] حتى نؤذنه، فإذا أكثبوكم [ (4) ] القوم- يقول: اقتربوا منكم- فانضحوهم [عنكم] [ (5) ] بالنبل، ثم تزاحم الناس، فلما تداني بعضهم من بعض خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخذ حفنة من حصباء [ (6) ] ثم استقبل بها قريشا فنفخ بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه- يقول: قبحت الوجوه- ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: احملوا يا معشر المسلمين، فحمل المسلمون، وهزم اللَّه قريشا، وقتل من قتل من أشرافهم، وأسر من أسر منهم [ (7) ] .
وقال يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق: قال عبد اللَّه بن أبي بكر: حدثني بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة- وكان شهد بدرا- قال بعد أن أذهب بصره: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري، لأريتكم الشّعب الّذي خرجت منه الملائكة [ (8) ] .
وقال موسى بن عقبة: فمكث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعد قتل ابن الحضرميّ شهرين، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عير لقريش من الشام، فذكر قصة بدر، إلى أن قال: وعجّ المسلمون إلى اللَّه تعالى يسألونه النصر حين رأوا القتال قد نشب، ورفع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يديه إلى اللَّه تعالى يسأله ما وعده ويسأله النصر ويقول: اللَّهمّ إن ظهر على هذه العصابة ظهر الشرك ولم يقم لك دين، وأبو بكر رضي اللَّه عنه
__________
[ (1) ] في (خ) : «ثم قال هب» .
[ (2) ] في (خ) : «فعبى» .
[ (3) ] في (خ) : «لقتال» .
[ (4) ] في (خ) : «أكثبكم» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (6) ] في (خ) : «حصاه» .
[ (7) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 81.
[ (8) ] المرجع السابق، و (ابن هشام) : 3/ 181، وزاد: «لا أشك فيه ولا أتمارى» .(3/321)
يقول له: يا رسول اللَّه، والّذي نفسي بيده لينصرنك اللَّه عز وجل، وليبيض وجهك، فأنزل اللَّه عز وجل من الملائكة جندا في أكتاف العدو، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: قد أنزل اللَّه ونزلت الملائكة، أبشر يا أبا بكر فإنّي قد رأيت جبريل معتجرا يقود فرسا بين السماء والأرض، فلما هبط إلى الأرض جلس عليها فتغيب عني ساعة، ثم رأيت على شفته غبارا.
وقال ابن إسحاق في رواية محمد بن عبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد اللَّه البكائي: حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال:
حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان، ننظر الوقعة على من تكون الدائرة، فننتهب مع من ينتهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه مات مكانه، وأما أنا فكدت أن أهلك ثم تماسكت [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق عن يسار عن رجال من بني مازن ابن النجار عن أبي داود المازني- وكان شهد بدرا- فقال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع على رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم مولى عبد اللَّه بن الحرث عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء وأرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا [ (3) ] .
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: العمائم تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فقد كانت عليه عمامة صفراء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] المرجع السابق، وقال: «على من تكون الدّبرة» وهي بمعنى الدائرة.
[ (2) ] المرجع السابق، وقال: «وقع رأسه» .
[ (3) ] المرجع السابق: 182، وقال: «بيضا قد أرسلوها على ظهورهم» .
[ (4) ] المرجع السابق، وقال: «عمائم بيضا» .(3/322)
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم [ (1) ] عن ابن عباس قال: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون [ (2) ] .
وقال الواقدي: فحدثني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف الناس- يعني يوم بدر- أغمى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ساعة] [ (3) ] ، ثم كشف عنه، فبشر المؤمنين بجبريل في جند من الملائكة [في] [ (3) ] ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر [في] [ (3) ] ميسرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وإسرافيل في جند آخر بألف [ (4) ] ، قال: وكانت سيما الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم، خضرا وصفرا [وحمرا] [ (3) ] من نور، والصوف في نواصي خيلهم [ (5) ] .
وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن الملائكة قد سوّمت فسوّموا، فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم.
وحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال: كان أربعة من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعلمون في الزحوف: حمزة بن عبد المطلب معلم يوم بدر بريشة نعامة، وكان عليّ معلما بصوفة بيضاء، وكان الزبير معلما بعصابة صفراء، وكان الزبير يحدث:
إن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر، وكان على الزبير يومئذ عصابة صفراء، وكان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء [ (6) ] .
وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن صالح عن عامر بن صالح بن عبد اللَّه ابن عروة بن الزبير، عن هشام بن عروة عن عباد بن حمزة بن عبد اللَّه بن الزبير أنه بلغه أن الملائكة نزلت يوم بدر وهم طير بيض عليهم عمائم صفر، وكانت
__________
[ (1) ] في (خ) : «مغنم» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (4) ] المرجع السابق: 1/ 70- 71.
[ (5) ] المرجع السابق: 1/ 75.
[ (6) ] المرجع السابق: 1/ 76، وقال: «فكان على الزبير» .(3/323)
على الزبير يومئذ عمامة صفراء من بين الناس، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: نزلت الملائكة اليوم على سيما أبي عبد اللَّه، وجاء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وعليه عمامة صفراء.
حدثني أبو المكرم عقبة بن مكرم الضبي قال: حدثني مصعب بن سلام التميمي عن سعد بن طريف عن أبي جعفر محمد بن علي قال: كانت على الزبير بن العوام يوم بدر عمامة صفراء، فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر.
حدثني محمد بن حسن عن محمد بن يحيى عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: نزلت الملائكة يوم بدر على سيما الزبير، عليهم عمائم صفر، وقد أرخوها في ظهورهم، وكانت على الزبير عمامة صفراء، وفي ذلك يقول عامر بن صالح ابن عبد اللَّه بن عروة بن الزبير رضي اللَّه عنه:
جدي بن عمة أحمد ووراء ... عند البلاء وفارس الشقراء
وغداة بدر كان أول فارس ... شهد الوغى في لأمة الصفراء
نزلت بسيماه الملائكة قصره ... بالحوض يوم بسالة الأعداء
وقال الواقدي: وحدثني عبد اللَّه بن موسى بن أمية بن عبد اللَّه بن أبي أمية عن مصعب بن عبد اللَّه عن مولى لسهيل قال: سمعت بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون [ (1) ] .
وحدثني خارجة بن إبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال: سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة: «أقدم حيزوم» ؟
فقال: يا محمد، ما كلّ أهل السماء أعرف [ (2) ] .
وحدثني عبد الرحمن بن الحرث عن أبيه عن جده عبيد بن أبي [عبيد، عن أبي] [ (3) ] رهم الغفاريّ عن ابن عم له قال: بينما أنا وابن عم لي على ماء بدر، فلما رأينا قلة مع محمد وكثرة قريش قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 76.
[ (2) ] المرجع السابق: 1/ 77.
[ (3) ] زيادة في النسب من المرجع السابق.(3/324)
وأصحابه فانطلقنا إلى المجنّبة اليسري من أصحاب محمد ونحن نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي [في] [ (1) ] الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: «أقدم حيزوم» ، وسمعناهم يقولون: رويدا تتامّ أخراكم» ، فنزلوا على ميمنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم جاءت أخرى مثل تلك، فكانت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فنظرنا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فإذا هم الضّعف على قريش، فمات ابن عمي وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. وأسلم وحسن إسلامه [ (2) ] .
قالوا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة- وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام- إلا ما رأى يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال:
أما أنه قد رأى جبريل يزع الملائكة. قالوا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: هذا جبريل يسوق الريح كأنه دحية الكلبي، إني نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور [ (3) ] .
وحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن صالح ابن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف يقول: رأيت يوم بدر رجلين، عن يمين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم ثلثهما ثالث من خلفه، ثم ربعهما رابع أمامه [ (4) ] .
وحدثني أبو إسحاق بن أبي عبد اللَّه عن عبد الواحد بن أبي عون عن زياد مولى سعد، عن سعد قال: رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أحدهما عن يساره والآخر عن يمينه، وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة، وإلى ذا مرة، سرورا بما ظفّره اللَّه تعالى [ (5) ] .
حدثني إسحاق بن يحيى عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: ما أدري كم يد مقطوعة، أو ضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر، قد رأيتها [ (6) ] !!.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] المرجع السابق.
[ (4) ] المرجع السابق.
[ (5) ] المرجع السابق: 1/ 78.
[ (6) ] المرجع السابق: 1/ 78.(3/325)
وحدثني محمد بن يحيى عن أبي عفير عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار قال: جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتهن بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقلت:
يا رسول اللَّه! أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث، فإنّي رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه فتدهدى أمامه، فأخذت رأسه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ذاك فلان من الملائكة.
وكان ابن عباس يقول: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر [ (1) ] .
وحدثني أبو حبيبة [ (2) ] عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم فيقول:
إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، وذلك قول اللَّه تبارك وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ (3) ] إلى آخر الآية.
وحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال: كان السائب بن أبي حبيش الأسديّ يحدث في زمن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه ما أسرني أحد من الناس، فيقال: فمن؟ فيقول: لما انهزمت قريش ما انهزمت معها، فيدركني رجل طويل أبيض على فرس أبلق بين السماء والأرض، فأوثقني رباطا، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، وكان عبد الرحمن ينادي في العسكر [ (4) ] : من أسر هذا؟
فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهيت [ (5) ] إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من أسرك؟ قلت: لا أعرفه [ (6) ] ، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أسره ملك من الملائكة كريم، اذهب يا ابن عوف بأسيرك،
فذهب بي عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه، فقال السائب، فما زلت تلك الكلمة أحفظها، وتأخر إسلامي حتى [كان] [ (7) ] ما كان من إسلامي.
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 1/ 78- 79.
[ (2) ] في المرجع السابق: «ابن أبي حبيبة» .
[ (3) ] الأنفال: 18، وتمامها: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
[ (4) ] في المرجع السابق: «العسكر» .
[ (5) ] في المرجع السابق: «حتى انتهى بي» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «لا أعرف» .
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.(3/326)
وحدثني عائذ بن يحيى عن ابن الحويرث عن عمارة بن أكيمة الليثي عن حكيم ابن حزام قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيّد به محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة [ (1) ] .
حدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم، عن رجل من بني أود قال: سمعت عليا رضي اللَّه عنه يقول وهو يخطب بالكوفة:
بينا أنا [أسيح] [ (2) ] في قليب ببدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة، ثم ذهبت فجاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول اللَّه، والثانية ميكائيل في ألف عن ميمنة رسول اللَّه وأبي بكر، وكانت الثالثة إسرافيل في ألف نزل عن ميسرة رسول اللَّه، وأنا في الميسرة، فلما هزم اللَّه أعداءه حملني رسول اللَّه على فرس [] [ (3) ] فلما جرت خررت على عنقها، فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت، وما لي والخيل، إنما كنت صاحب غنم، فلما استويت طعنت بيدي هذه حتى اختضبت مني ذا، يعني إبطه.
وفي مغازي ابن عقبة: أن ابن مسعود وجد أبا جهل جالسا لا يتحرك ولا يتكلم، فسلبه درعه، فإذا في بدنه نكت سود، فحلّ سبغة البيضة وهو لا يتكلم، واخترط سيفه- يعني سيف أبي جهل- فضرب به عنقه ثم سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين احتمل رأسه إليه عن تلك النكت السود التي رآها في بدنه، فأخبره عليه السلام أن الملائكة قتلته، وأن تلك آثار ضرب الملائكة له [ (4) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد قال: حدثنا سعد عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 1/ 80، والبجاد: الكساء.
[ (2) ] كذا في (خ) ، ولم أجد لها توجيها.
[ (3) ] في (خ) كلمة لم أتبين معناها لعدم وضوحها.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 90، و (ابن هشام) : 3/ 185 [هامش] ، (شرح ابن أبي الحديد على النهج) : 4/ 143.(3/327)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وعن يساره رجلين عليها ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد [ (1) ] . وذكره البخاري في [المغازي] [ (2) ] ، وخرجاه من حديث مسعر عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال: رأيت عن يمين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل، لم يقل البخاري: يعني جبريل وميكائيل، ذكره البخاري في كتاب اللباس [ (3) ] .
وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد: لم تقاتل الملائكة يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر، قال البيهقي: إنما أراد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به [ (4) ] .
وحدث الواقدي عن شيوخه في قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [ (5) ] ، قال: فلم يصبروا فانكشفوا فلم يمدوا [ (6) ] .
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: وكان اللَّه عزّ وجلّ وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة،
__________
[ (1) ] ذكره البخاري في المغازي، باب (18) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، حديث رقم (4054) .
[ (2) ] في (خ) : «المناقب» ، والصواب ما أثبتناه، وذكره مسلم في الفضائل باب (10) في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، حديث رقم (47) . و (مغازي الواقدي) : 1/ 234.
[ (3) ] باب (24) الثياب البيض، حديث رقم (5826) ولفظه: «رأيت بشمال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ويمينه رجلين عليهما ثياب بيض يوم أحد، ما رأيتهما قبل ولا بعد» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 255- 256.
[ (5) ] آل عمران: 124.
[ (6) ] المرجع السابق: 256، و (مغازي الواقدي) : 1/ 319- 320، باب ما نزل من القرآن بأحد.(3/328)
وأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [ (1) ] ، فصدق اللَّه وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا الرسول أعقبهم البلاء.
وقال ابن هشام: مسوّمين: معلّمين، بلغنا عن الحسن بن أبي الحسن [البصري] [ (2) ] أنه قال: أعلموا أذناب خيلهم ونواصيها بصوف أبيض [ (3) ] .
وذكر يونس بن بكير عن عبد اللَّه بن عون عن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبله أتاه بها قال: ارم أبا إسحاق، فلما فرغوا نظروا من الشاب فلم يروه ولم يعرف.
ورواه الواقدي عن عبيدة بنت نائل عن عائشة بنت سعد عن أبيها سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يومئذ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد فظننت أنه ملك [ (4) ] .
وقال الواقدي: حدثني الزبير بن سعيد عن عبد اللَّه العضل قال: أعطى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير اللواء، فقيل: فأخذه ملك في صورة مصعب، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول لمصعب في آخر النهار: يا مصعب، فالتفت إليه الملك فقال:
لست بمصعب، فعرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه ملك أيّد به [ (5) ] . [وسمعت أبا معشر يقول مثل ذلك] [ (6) ] .
وحدثني عبد الملك بن سليم عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر، قال عبيد بن عمير: ولم تقاتل الملائكة يوم أحد [ (7) ] .
__________
[ (1) ] آل عمران: 152.
[ (2) ] زيادة للسياق من ابن هشام.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 58.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 234.
[ (5) ] المرجع السابق.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين زيادة من المرجع السابق.
[ (7) ] المرجع السابق: 234- 235.(3/329)
وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد الحميد بن سهيل، عن عمر بن الحكم قال:
لم يمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد بملك واحد، وإنما كانوا يوم بدر [ (1) ] .
وحدثني ابن خديج عن عمرو بن دينار عن عكرمة مثله [ (2) ] .
وحدثني معمر بن راشد عن أبي لحيح عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل [ (3) ] .
وحدثني سفيان بن [ (4) ] سعيد عن عبد اللَّه بن عثمان عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر [ (5) ] .
وحدثني ابن أبي سبرة عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث [ (6) ] عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قد وعدهم اللَّه أن يمدهم لو صبروا، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ [ (7) ] .
وحدثني سعيد بن عبد اللَّه بن أبي الأبيض، عن جدته- وهي مولاة جويرية-[قالت] [ (8) ] : سمعت جويرية بنت الحارث تقول: أتانا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت: فكنت أرى من [الخيل والناس] [ (9) ] [والسلاح] [ (10) ] ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ورجعنا، جعلت انظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، [فعرفت] [ (11) ] أنه رعب من اللَّه يلقيه في قلوب المشركين، [فكان رجل منهم] [ (12) ] قد أسلم فحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق ما كنا نراهم قبل ولا بعد [ (13) ] .
__________
[ (1) ] المرجع السابق.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) : «ابن أبي سعيد» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (5) ] المرجع السابق.
[ (6) ] في (خ) : «الليث» .
[ (7) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 235.
[ (8) ] في (خ) : «قال» .
[ (9) ] في المرجع السابق: «من الناس والخيل» .
[ (10) ] زيادة من (خ) .
[ (11) ] في المرجع السابق: «فعلمت» .
[ (12) ] في (خ) : «وكان منهم» .
[ (13) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 407، 408.(3/330)
وقال ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أنه حدّث: أن مالك بن عوف بعث عيونا [من رجاله] [ (1) ] ، فأتوه وقد تقطعت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ فقالوا: أتانا رجال بيض [ (2) ] على خيل بلق، فو اللَّه ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فما رده [ (3) ] ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد [ (4) ] يعني في يوم حنين.
وخرج بقي بن مخلد من حديث النضر بن شميل قال: أخبرنا عوف عن عبد الرحمن مولى أم برثن صاحب السبقاية- سقاية المربد- قال: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وصحابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لم يقوموا لنا حلب شاة [ (5) ] أن كشفناهم، قال: فبينما نحن نسوقهم في آثارهم فإذ صاحب البغلة البيضاء، قال: فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه وقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، قال: فانهزمنا من قولهم، وركبوا أجيادنا فكانت إياها [ (6) ] .
وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار عن من حدثه عن جبير بن مطعم قال: إنا لمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد [ (7) ] الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا
__________
[ (1) ] تصويب من (ابن هشام) .
[ (2) ] في المرجع السابق: «رأينا رجالا بيضا» .
[ (3) ] في المرجع السابق: «فو اللَّه ما ردّه» .
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 107، عيون مالك بن عوف ونزول الملائكة، وهي رواية ابن إسحاق.
وقال الواقدي: وبعث مالك بن عوف رجالا من هوازن ينظرون إلى محمد وأصحابه- ثلاث نفر- وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ما شأنكم؟ ويلكم! قالوا:
رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو اللَّه، ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وقالوا له: ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلا أهل السموات- وإن أفئدة عيونه تخفق، وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الّذي أصابنا.
قال: أف لكم! بل أنتم قوم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج، ثم رجع إليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم.
فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا علي خليل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو اللَّه ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثنه ذلك عن وجهه، (مغازي الواقدي) : 3/ 892- 893.
[ (5) ] كناية عن الزمن اليسير، وهو ما يساوي زمن حلب الشاة.
[ (6) ] ونحوه في (المرجع السابق) : 3/ 906.
[ (7) ] البجاد يعني الكساء من النمل مبثوثا.(3/331)
وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة [ (1) ] .
وقال الواقدي [ (2) ] : حدثني عبد اللَّه بن علي عن سعيد بن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن جده قال: لما تراءينا نحن والقوم، رأينا سوادا لم نر مثله قط كثرة، وإنما ذلك السواد نعم، فحملوا النساء عليه، قال: فأقبل مثله الظّلّة السوداء من السماء حتى أظلت علينا وعليهم وسترت الأفق، فنظرت فإذا وادي حنين يسيل بالنمل- نمل أسود مبثوث- لم أشك أنه نصر أيدنا اللَّه به فهزمهم اللَّه عزّ وجلّ.
وحدثني ابن أبي سبرة، حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى ابن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، عن شيوخ من قومه من الأنصار قال: رأينا يومئذ كالبجد [ (3) ] الأسود هوت من السماء ركاما [ (4) ] ، فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كنا لننفضه عن ثيابنا، فكان نصر أيدنا اللَّه به [ (5) ] .
وكان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الّذي قذف اللَّه في قلوب المشركين يوم حنين، فكان يزيد بن عامر السوائي يحدث وكان حضر يومئذ فسئل عن الرعب فكان يأخذ الحصاة يرمي بها في الطست فيطن، فقال: كنا نجد في أجوافنا مثل [ (6) ] هذا.
وكان مالك بن أوس بن الحدثان يقول: حدثني عدّة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بتلك الكف من الحصا، [ (7) ] فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينه، وقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصا في
__________
[ (1) ] وقريب منه في (سيرة ابن هشام) : 5/ 117- 118.
[ (2) ] (المغازي) : 3/ 905.
[ (3) ] البجد: جمع البجاد، وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب.
[ (4) ] الركام: السحاب المتراكم، وفي التنزيل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً [43: النور] .
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 905.
[ (6) ] المرجع السابق) : 3/ 905- 906.
[ (7) ] في المرجع السابق.(3/332)
الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان عنا، ولقد رأينا يومئذ رجالا بيضا على خيل بلق، عليهم عمائم حمر، أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب، ما يلقون شيئا، وما نستطيع أن نتأملهم من الرعب [ (1) ] [منهم] .
***
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 3/ 906، وما بين الحاصرتين زيادة منه.(3/333)
وأما أنه خاتم الأنبياء
فقد قال اللَّه تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (1) ] ، قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: خاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (1) ] : الّذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، واختلفت القراء في قراءة قوله: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (1) ] ، فقرأ ذلك الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين، بمعنى أنه ختم النبيين، ذكر أن ذلك في قراءة عبد اللَّه، ولكنّ نبينا ختم النبيين، فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء، بمعنى أنه الّذي ختم الأنبياء صلى اللَّه عليه وسلّم. وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بفتح التاء، بمعنى أنه آخر النبيين، كما قرأ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ بمعنى آخره مسك، من قرأ ذلك كذلك [ (2) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن عبد اللَّه بن دينار عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا- وقال البخاري: بيتا- فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين، ولم يذكر البخاري قوله: من زواياه [ (3) ] .
ولمسلم من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد [ (4) ] عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه
__________
[ (1) ] الأحزاب: 40، وتمامها ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ.
[ (2) ] (تفسير الطبري) : 12/ 16، تفسير سورة الأحزاب.
[ (3) ] ذكره البخاري في كتاب المناقب، باب (18) خاتم النبيين، حديث رقم (3535) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب (7) ذكر كونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، حديث رقم (22) .
[ (4) ] في (خ) : «النهاد» .(3/334)
وأجمله، فجعل الناس يطيفون به ويقولون: ما رأينا بنيانا أحسن من هذا [ (1) ] ، إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة [ (2) ] .
وله من حديث عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فذكر أحاديث منها، قال: وقال أبو القاسم صلى اللَّه عليه وسلّم: ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها [وأجملها] [ (3) ] وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس [يطوفون] [ (4) ] ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة فيتم [بنيانك] [ (5) ] ؟ فقال محمد صلى اللَّه عليه وسلّم: فكنت أنا اللبنة [ (6) ] .
وخرج البخاري [ (7) ] ومسلم [ (8) ] من حديث سليم بن حيان قال: حدثنا سعيد ابن مينا عن جابر بن عبد اللَّه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها- وقال البخاري فأكملها وأحسنها- إلا موضع لبنة،
__________
[ (1) ] في (خ) : «هذه» .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (20) .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) : «يطيفون» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) : «بناؤك» .
[ (6) ] (صحيح مسلم) : كتاب الفضائل، باب (7) ذكر كونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، حديث رقم (21) ، وفيه فضيلته صلى اللَّه عليه وسلّم، وأنه خاتم النبيين، وجواز ضرب الأمثال في العلم وغيره، واللبنة، بفتح اللام وكسر الباء- ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام وكسرها، كما في نظائرها، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 15/ 56- 57.
[ (7) ] (صحيح البخاري) : كتاب المناقب، باب (18) خاتم النبيين، حديث رقم (3534) ، قال الحافظ في (الفتح) : أي أن المراد بالخاتم في أسمائه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، ولمح بما وقع في القرآن، وأشار إلى ما أخرجه في التاريخ من حديث العرباض بن سارية رفعه: «إني عبد اللَّه وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته» ، الحديث، وأخرجه أيضا أحمد وصححه ابن حبان والحاكم، فأورد فيه حديثي أبي هريرة وجابر رضي اللَّه عنهما، ومعناهما واحد، وسياق أبي هريرة أتم، ووقع في آخر حديث جابر عند الإسماعيلي من طريق عفان عن سليم بن حيان: «فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء» ، وفي الحديث: ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وفضل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على سائر النبيين، وأن اللَّه تعالى ختم به المرسلين، وأكمل به شرائع الدين. (فتح الباري) : 6/ 694.
[ (8) ] (صحيح مسلم) : كتاب الفضائل، باب (7) ذكر كونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين، حديث رقم (23) .(3/335)
فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء. انتهى حديث البخاري عند قوله: إلا موضع اللبنة. وترجم عليه وعلى حديث إسماعيل بن جعفر: باب خاتم الأنبياء.
و [خرج] الإمام أحمد من حديث زهير بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد ابن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة! فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة [ (1) ] .
ولمسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ختم بي النبيون.
وله من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي [ (2) ] .
انفرد بإخراجه مسلم.
وله من حديث محمد بن المنكدر عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعلي رضي اللَّه عنه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث شبعة عن الحكم عن مصعب بن سعد [ (4) ] عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج إلى تبوك واستخلف عليا رضي اللَّه عنه فقال:
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 164، حديث الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (20737) .
[ (2) ] (جامع الأصول) : 10/ 36- 37، حديث رقم (7496) ، 11/ 316، حديث رقم (8879) .
[ (3) ] (صحيح مسلم) : كتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حديث رقم (30) .
[ (4) ] هو سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه.(3/336)
أتخلفني في النساء والصبيان؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي [ (1) ] ؟.
وخرجه مسلم وأبو داود مثله سواء. وفي لفظ لمسلم: خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عليا بن أبي طالب في غزاة تبوك فقال: يا رسول اللَّه! أتخلفني في النساء والصبيان؟
فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي [ (2) ] ؟.
وخرجه النسائي بإسناده ومتنه [ (3) ] . وفي لفظ لمسلم والترمذي [ (4) ] والنسائي: أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟
***
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري) : كتاب المغازي، باب (79) غزوة تبوك، وهي غزوة العسرة، حديث رقم (4416) ، وقال في آخره: «وقال أبو داود: حدثنا شعبة عن الحكم، سمعت مصعبا» ، قال الحافظ في (الفتح) : أراد بيان التصريح بالسماع في رواية الحكم عن مصعب، وطريق أبي داود هذه وصلها أبو نعيم في (المستخرج) ، والبيهقي في (الدلائل) من طريقه. (فتح الباري) : 8/ 141.
[ (2) ] (صحيح مسلم) : كتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، حديث رقم (31) .
[ (3) ] يشهد له ما قبله.
[ (4) ] أخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حديث رقم (3732) ، وهو حديث صحيح بشواهده، منها الّذي قبله.(3/337)
وأما أن أمته خير الأمم
قال اللَّه جل ذكره: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ (1) ] .
خرج الحاكم من حديث سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ (1) ] ، تجروهم بالسلاسل فتدخلونهم الإسلام. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة [ (2) ] ، [وشهدوا بدرا والحديبيّة] [ (3) ] .
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: من فعل فعلهم كان مثلهم، وقيل:
هم أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل، وهم الشهداء على الناس يوم القيامة.
وقال مجاهد [ (3) ] : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ (1) ] على الشرائط المذكورة في الآية، وقيل معناه: كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم مذ أنتم خير أمة، وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، فالمعنى: كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة.
وقال الأخفش [ (3) ] : أي خير أهل دين، وقيل: خلقتهم ووجدتهم خير أمة، وقيل: أنتم خير أمة، وقيل: كنتم للناس خير أمة.
وقيل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [ (1) ] إذا أنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
__________
[ (1) ] آل عمران: 110، (صحيح البخاري) : كتاب التفسير، باب (3) حديث رقم (4557) .
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 323، كتاب التفسير، باب (3) تفسير سورة آل عمران، حديث رقم (3160/ 277) . وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التخليص) : على شرط مسلم.
[ (3) ] (فتح البيان) : 2/ 114.(3/338)
وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، وقيل: هذا لأصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
كما قال صلى اللَّه عليه وسلّم: خير الناس قرني:
أي الذين بعث فيهم.
وقال الحافظ أبو نعيم: ومن إكرام اللَّه تعالى [لنبيه] [ (1) ] صلى اللَّه عليه وسلّم، أن فضل أمته.
على سائر الأمم، كما فضله على سائر الأنبياء، وكما أنه فاتح نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم بالعطية قبل المسألة، كذلك أعطى أمته أفضل العطية قبل المسألة إعظاما له وإكراما.
وخرج الحاكم من طريق عبد الرزاق [عن] معمر عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: أنتم متمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه.
قال الحاكم:
هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
ومن حديث يزيد بن هارون [عن] سعيد بن إياس الجريريّ عن حكيم بن معاوية عن أمية قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم أكرمهم على اللَّه وأفضلهم [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [ (4) ] ، ما كان النداء [ (5) ] ؟ وما كانت
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ]
(المستدرك) : 5/ 623، حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، حديث رقم (19525) ، ولفظه: «ألا إنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه عزّ وجلّ» .
[ (3) ]
المرجع السابق، حديث رقم (19645) ، ولفظه: «إنكم وفّيتم سبعين أمة، أنتم آخرها وأكرمها على اللَّه عزّ وجلّ» .
وما بين الحاصرتين في هذا الحديث والّذي قبله غير واضح في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (4) ] القصص: 46، وتمامها: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
[ (5) ] قال الطبري: إِذْ نادَيْنا بأن: سأكتبها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 157] ، وعن أبي هريرة: أنه نودي من السماء حينئذ: يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني، فحينئذ قال موسى عليه السلام: اللَّهمّ اجعلني من أمة محمد، فالمعنى: إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، (البحر المحيط) : 8/ 310.(3/339)
الرحمة [ (1) ] ؟ قال: كتاب كتبه اللَّه قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، وستمائة عام على وزن عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد، سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منهم يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبدي ورسولي أدخلته الجنة [ (2) ] .
وله من حديث أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد الواقدي، قال: حدثنا سفيان ابن عيينة عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [ (3) ] ، قال: نودوا يا أمة محمد، ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم [ (4) ] .
ومن حديث حمزة الزيات عن الأعمش عن علي بن مدرك عن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير عن أبي هريرة في قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، قال: نودي يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم
__________
[ (1) ] رحمة بالنصب، فقدّر: ولكن جعلناك رحمة، وقد أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى وأبو حيوة: رحمة بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنت رحمة لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ: أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى عليه السلام، وهو خمسمائة وخمسون عاما ونحوه. (المرجع السابق) .
[ (2) ] أخرج الفريابي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي معا في (الدلائل) ، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، قال: نودوا يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عنه من وجه آخر بنحوه، (فتح القدير) : 4/ 251- 252.
[ (3) ] القصص: 46.
[ (4) ]
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا مرفوعا قال:
نودوا: يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا: «إن اللَّه نادى: يا أمة محمد أجيبوا ربكم قال: فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة، فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا، ونحن عبيدك حقا، وقال صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقا، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا اللَّه دخل الجنة. (المرجع السابق) ، (تفسير ابن كثير) : 3/ 402.(3/340)
قبل أن تدعوني [ (1) ] .
وله من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جبارة بن المغلّس، حدثنا الربيع بن النعمان عن سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال: يا ربي، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون [ (2) ] فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال يا رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة أنا جيلهم في صدورهم يقرءونه [ (3) ] ظاهرا، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أمد، [قال يا رب إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء فاجعلها أمتي، قال تلك أمة أحمد] [ (4) ] ، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة [واحدة] [ (4) ] ، وإن عملها كتبت له عشر حسنات، فاجعلها أمتي، قال:
تلك أمة أحمد، قال يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة ولم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر فيقتلون [قرون الضلالة] [ (4) ] المسيح الدجال، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد،
__________
[ (1) ]
أخرجه ابن مردويه، وأبو نعيم في (الدلائل) ، وأبو نصر السجزيّ في (الإبانة) ، والديلميّ في (مسند الفردوس) [7402] ، عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم عن قول اللَّه تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: كتبه اللَّه قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد، سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت كم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
(المرجع السابق) .
[ (2) ] أي يأتون آخر الأمم في الترتيب التاريخي في الدنيا، ويكونون في مقدمة الأمم في دخول الجنة يوم القيامة.
[ (3) ] في (خ) : «يقرءونه» .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من أبي نعيم.(3/341)
قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، فقال:
يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [ (1) ] ، قال: قد رضيت يا رب.
قال أبو نعيم: وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذا الوجه، تفرّد به الربيع بن نعمان، وبغيره من الأحاديث عن سهيل، وفيه لين [ (2) ] .
[وخرّج البيهقي من حديث سلام بن مسكين، عن مقاتل بن حيّان قال:
وذكر وهب بن منبه في قصة داود النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وما أوحي إليه في الزبور: يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي يسمى: أحمد ومحمدا، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائص التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتون يوم القيامة نورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة، كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم] [ (3) ] .
[يا داود، فإنّي فضّلت محمدا وأمته على الأمم كلها: أعطيتهم ستة خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا أؤاخذهم بالخطإ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم في المدخور عندي أضعافا مضاعفة وأفضل من
__________
[ (1) ] الأعراف: 144.
[ (2) ] هذا الحديث تفرد به أبو نعيم، وفيه جبارة بن المغلّس، قال عنه ابن حجر في (التقريب) : ضعيف، وقال عنه الدار الدّارقطنيّ: متروك، وقال البخاري: حديثه مضطرب، وقال عنه ابن معين: كذاب، ترجمته في: (ميزان الاعتدال) ، (تهذيب التهذيب) . والحديث ذكره أبو نعيم في (الدلائل) :
1/ 68- 69، حديث رقم (31) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ، وأثبتناه من (دلائل البيهقي) : 1/ 380، وابن كثير في (البداية والنهاية) عن البيهقي أيضا.(3/342)
ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدّخره لهم في الآخرة] [ (1) ] .
[يا داود، من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي. ومن لقيني وقد كذّب محمدا، وكذّب بما جاء به، واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار] [ (1) ] .
وذكر من حديث شيبان عن قتادة قال: حدثنا رجال من أهل العلم أن موسى عليه السلام لما أخذ الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة- الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنة- فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد ... وذكره بطوله.
وله من حديث سفيان بن الحرث بن مضر عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: صفتي أحمد المتوكل، مولده مكة، ومهاجره طيبة، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ بالسيئة، وأمته الحمادون، يأتزرون على أنصافهم، ويوضئون أطرافهم، أنا جيلهم في صدورهم، يصفّون للصلاة كما يصفّون للقتال، قربانهم الّذي يتقربون به إليّ دماؤهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار.
وله من حديث شريك عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح عن كعب أنه قال: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم في التوراة مكتوب: محمد المختار، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون على أوساطهم، يصلون الصلاة لوقتها
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ، وأثبتناه من (دلائل البيهقي) : 1/ 381، وابن كثير في (البداية والنهاية) عن البيهقي أيضا.(3/343)
ولو على رأس كناسة، لهم دوي بالقرآن حول العرش كدوي النحل، مولده مكة، ومهاجره بالمدينة، وملكه بالشام.
وذكر أبو نعيم حديث كعب من طرق باختلاف ألفاظ وزيادة ونقصان.
وله من حديث موسى بن عقبة قال: أخبرني سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يقول: رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب، فدعى الأنبياء فجاء مع كل نبي أمته، ورأى لكل نبي نورين، ولكل من اتبعه نورا يمشي به، فدعى محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نورا، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما، فقال كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدثك هذا؟
فإنّي أنا واللَّه الّذي لا إله إلا هو رأيت هذا في المنام، فقال: باللَّه الّذي لا إله إلا هو رأيت هذا في منامك؟ قال: نعم، قال: والّذي نفس كعب بيده إنها لصفة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، وصفة الأنبياء وأممها في كتاب اللَّه، لكأنما قرأه من التوراة.
وذكر الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو الشيبانيّ قال: حدثني البكالي قال:
كان عمرو البكالي إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الّذي حضر غيبتكم، وأخذ سهمكم، وجعل وفادة القوم لكم، وذلك أن موسى عليه السلام وفد ببني إسرائيل فقال اللَّه لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيث ما صليتم منها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن، من صلى فيهن لم أقبل صلاته: المقبرة، والحمام، والمرحاض، قالوا: لا إلا في كنيسة، قال: وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء، قالوا: لا إلا بالماء، قال: وجعلت لكم حيث ما صلى الرجل مكان وجده تقبلت صلاته، قالوا: لا إلا في جماعة.
***(3/344)
وأما ذكره في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته
فقد قال اللَّه جل ذكره: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ (1) ] ، فقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، يخرج اليهود والنصارى من عموم قوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، ويخصها بأمة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم. قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وقوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ، أي يجدون نعته أو اسمه أو صفته، مكتوبا عندهم. وقوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، قال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، عبادة الأصنام وقطع الأرحام، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وهو ما كانت العرب تستطيبه، وقيل: هي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وهو ما كانت العرب تستخبثه، وما كانوا يستحلون من الميتة والدم ولحم الخنزير، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ، الإصر الثقل، قاله قتادة ومجاهد وسعيد ابن جبير، والإصر: العهد، قاله ابن عباس والضحاك والحسن، فجمعت الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك العهد، وثقل تلك الأعمال من تحريم السبت والشحوم والعروق، والتشديد في البول، ومجانبة الحائض في كل حال، وتحريق الغنائم بالنار.
وقال الزجاج: ذكر الأغلال تمثيل، فقد كان عليهم أن لا يقبل في القتل دية، ولا يعمل في يوم السبت عمل، وأن لا تقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم ... إلى غير ذلك.
__________
[ (1) ] 157: الأعراف.(3/345)
وقد ذكر صلى اللَّه عليه وسلّم في عدة مواضع من التوراة باسمه وصفته على ما سيرد إن شاء اللَّه.
وذكرت صفته في الإنجيل في فصل (الفارقليط) من إنجيل يوحنا [ (1) ] ، هذا مع ما لحق الكتابين من التحريف والتبديل، فبقي ذكره صلى اللَّه عليه وسلّم فيهما من قبيل المعجزة، لأن اجتهاد أمتين عظيمتين على إزالة ذكره من كتابين لطيفي الحجم ثم لا يستطيعون ذلك معجزة لا شك فيه، وتعجيز إلهي لا ريب فيه.
حدّث سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب قال: أوحى اللَّه تعالى إلى أشعياء [ (2) ] أن قم من قومك، أوح على لسانك، فقام أشعياء خطيبا، فلما قام أطلق اللَّه لسانه بالوحي، فحمد اللَّه وسبحه وقدسه وهلله، ثم قال: يا سماء اسمعي، ويا أرض أنصتي، ويا جبال أوبي، فإن اللَّه يريد أن [يفضّ] [ (3) ] شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته، واصطفاهم لنفسه، وخصهم بكرامته، فذكر معاتبة اللَّه إياهم، ثم قال: وزعموا أنهم [ (4) ] لو شاءوا أن يطلعوا على الغيب [بما] [ (5) ] توحي إليهم الشياطين والكهنة اطلعوا، وكلهم مستخف بالذي يقول ويسرّه، وهم يعلمون أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وأني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته، وحتما حتمته على نفسي، وجعلت دونه أجلا مؤجلا، لا بدّ أنه واقع. فإن صدّقوا بما ينتحلون من علم الغيب [فليخبروك] [ (6) ] متى هذه [المدة] [ (7) ] ، وفي أي زمان تكون، [وإن] [ (8) ] كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون [فليأتوا] [ (9) ] بمثل هذه القدرة التي بها أمضيته، فإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون [فيؤلفوا] [ (9) ] مثل هذه الحكمة التي بها أدبّر مثل ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قضيت يوم خلقت السموات
__________
[ (1) ] لعله في نسخة لم تمتد إليها يد التحريف، حيث لم أجد ذلك في النسخة التي عندي، وهي المترجمة من اللغة اليونانية.
[ (2) ] أشعياء: أحد أنبياء بني إسرائيل.
[ (3) ] (في دلائل أبي نعيم) : «يفضّ» ، وفي (خ) : «يقصّ» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «إن شاءوا» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «لما» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «فيخبرونك» .
[ (7) ] في المرجع السابق: «العدّة» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «فإن» .
[ (9) ] في المرجع السابق: «فلؤلفوا» .(3/346)
والأرض أن أجعل النبوة في غيرهم، وأن أحول الملك عنهم، وأجعله في الرعاء، والعز في الأذلاء، والقوة في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والكثرة في الأقلاء، والمدائن في الفلوات، والآجام [والمفاوز] [ (1) ] في الغيطان، والعلم في الجهلة، [والحكمة] [ (2) ] في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا [ (3) ] ، وعلى يدي من أثبته، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون؟ [ (4) ] .
وزاد وهب بن منبه في روايته [ (5) ] فإنّي [سأبعث] [ (6) ] لذلك نبيا أميا، أعمى من عميان، ضالا من ضالين، أفتح به آذانا صما، وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل، المصطفى المرفوع، الحبيب المتحبب المختار. لا يجزي [بالسيئة] [ (7) ] السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، بالمؤمنين رحيم [ (8) ] ، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، لا يتزيئ بالفحش، ولا قوال بالخنا [ (9) ] ، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى زاد ضميره، والحكمة معقولة، والصدق والوفاء طبيعته،
__________
[ (1) ] في (خ) : «والمعادن» .
[ (2) ] في (خ) : «والحكم» .
[ (3) ] في (خ) : «على هذا» .
[ (4) ] هذا الحديث لم أجده غير عند أبي نعيم، وسعيد بن بشير أربعة كلهم ضعفاء، وهم: [1] سعيد ابن بشير الأزدي، ويقال: البصري، مولاهم أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سلمة من البصرة، ويقال:
من واسط. [2] سعيد بن بشير الأنصاري النجاري أو البخاري. [3] سعيد بن بشير القرشيّ.
[4] سعيد بن بشير صاحب قتادة. ترجمتهم في: (المغني في الضعفاء الكبير) : 1/ 256، (الضعفاء المتروكين) : 1/ 314، 315، (الضعفاء الكبير) : 2/ 100، 101، (تهذيب التهذيب) :
4/ 10، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 3/ 369، 390، (لسان الميزان) : 3/ 30، (المجروحين) : 1/ 318، 319، (التاريخ الكبير) : 3/ 460، ولعل في بعض أسمائهم تشابه، واللَّه تعالى أعلم.
[ (5) ] [الآجام في الصحاري، والبراري في المفاوز والغيطان] ، هذه الزيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في المرجع السابق: «مبتعث» .
[ (7) ] زيادة للسياق من (خ) .
[ (8) ] في (دلائل أبي نعيم) : «رحيما بالمؤمنين» .
[ (9) ] الخنا: الفاحش من القول، وفي (الخصائص) بعد قوله: «بالخنا» : [لو يمر إلى جانب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو مشى على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا] .(3/347)
والعفو والمغفرة والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأسمّي به بعد النكرة، وأكثر به القلّة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلّف به بين قلوب وأهواء متشتتة، وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، آمرا [ (1) ] بالمعروف وناهيا [ (2) ] عن المنكر، وتوحيدا بي [ (3) ] ، وإيمانا بي، وإخلاصا وتصديقا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب والأرواح والوجوه [ (4) ] التي أخلصت إلي [ (5) ] الهمم، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم. يصفون في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان، يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجدا [ (6) ] ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألوفا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل في دينهم وشريعتهم فليس مني، وهو مني بريء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطا، [ليكونوا] [ (7) ] شهداء على الناس، إذا غضبوا هللوني، وإذا قبضوا كبروني، وإذا تنازعوا سبحوني، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويكبرون ويهللون على التلال والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبانا بالليل ليوثا بالنهار، ينادي مناديهم في جو السماء، لهم دوي كدوي النحل، طوبى لمن كان منهم وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم [ (8) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : أمرا.
[ (2) ] في (المرجع السابق) : ونهيا.
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «بي» في الموضعين، وما أثبتناه من (خ) ، فهو أجود للسياق.
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «الوجوه والأرواح» .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «لي» ، وفي (خ) «إلى الهمم» ، «ألهمتهم» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (الخصائص) ، لكن في (المرجع السابق) : «وركوعا وسجودا» .
[ (7) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (8) ] هذا الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وأبو نعيم، عن وهب بن منبه، وفيه عبد المنعم بن إدريس القصاص المشهور، قال الذهبي: ليس يعتمد عليه، وقال أحمد بن حنبل:
كان يكذب على وهب بن منبه، وقال ابن حبان: يضع الحديث على أبيه وعلى غيره، (انظر ميزان(3/348)
وفي رواية: ولا صخاب في الأسواق، ولو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا، وأستنقذ به قياما من الناس عظماء من الهلكة، أجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين، والشهداء والصالحين، وأمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون، أعزّ من نصرهم، وأؤيد من دعا إليهم، أجعل دائرة السوء على من خالفهم وبغى عليهم، وأراد أن ينزع شيئا مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الّذي بدأت به أوّلهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
وقال عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بخت نصّر عليهم، وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية، في قرية ذات نخل، ولما خرجوا من أرض الشام جعلوا يميزون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم ويرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه، حتى نزل من بني هارون من حمل التوراة بيثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم أنه [آت] [ (1) ] ، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أدركه من أبنائهم وكفروا به وهم يعرفونه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد [ (2) ] عن سلمة بن سلامة [ (3) ] قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته [- وذلك قبل مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ () ] الاعتدال) : 2/ 668، ترجمة رقم (5270) .
وفيه أيضا إدريس بن سنان، وقد ضعفه ابن عدي، وقال عنه الدار الدّارقطنيّ: متروك.
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] [أخى بنى عبد الأشهل] ، زيادة من رواية ابن إسحاق.
[ (3) ] [ابن وقش، وكان سلمة من أصحاب بدر] ، زيادة من رواية ابن إسحاق.(3/349)
بيسير-] [ (1) ] حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، عليّ بردة لي مضطجعا فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة، والحساب والميزان، والجنة والنار، قال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا: ويحك وتكون دارا فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم والّذي أحلف به، ولودّ أن حظه من تلك النار أعظم تنور في [هذه] [ (1) ] الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه [فيطبقونه] [ (2) ] عليه، [ثم] [ (3) ] ينجو من تلك النار غدا، [قالوا] [ (4) ] ويحك. وما آية ذلك؟ قال: نبي [يبعث] [ (5) ] من هذه البلاد- وأشار بيده نحو مكة واليمن- قالوا: [فمتى] [ (6) ] تراه؟ [فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي] [ (7) ] وأنا أحدث القوم سنا فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فو اللَّه ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللَّه نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو حيّ بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: [ويلك] [ (8) ] يا فلان، ألست الّذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال:
بلى ولكن ليس به. وذكر الواقدي أن اليهودي اسمه يوشع [ (9) ] .
وقال الخرائطي [ (10) ] : حدثنا عبد اللَّه بن أبي سعيد قال: حدثنا حازم بن عقال ابن حبيب بن المنذر بن أبي الحصن بن السموأل بن عاديا قال: حدثني جامع بن حيران ابن جميع بن عثمان بن سماك بن أبي الحصن بن السموأل بن عاديا قال: لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة، اجتمع إليه قومه من غسان فقال: إنه حضر من أمر اللَّه ما ترى، وقد كنا نأمرك في شبابك أن تتزوج فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمس بنين، وليس لك ولد غير مالك، فقال: لن يهلك هالك،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (خ) .
[ (2) ] رواية ابن إسحاق: «فيطينونه» .
[ (3) ] رواية ابن إسحاق: «بأن ينجو» .
[ (4) ] رواية ابن إسحاق: «فقالوا له: ويحك يا فلان، فما..» .
[ (5) ] رواية ابن إسحاق: «نبي مبعوث من نحو هذه البلاد..» .
[ (6) ] رواية ابن إسحاق: «ومتى» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي رواية ابن إسحاق: «قال فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنا» .
[ (8) ] في رواية ابن إسحاق: «ويحك»
[ (9) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 38.
[ (10) ] في (خ) : «الخوائطي» ، والخبر بتمامه وزيادة في (البداية والنهاية) : 2/ 404- 405.(3/350)
ترك مثل مالك، إن الّذي يخرج النار من [الورسة] [ (1) ] ، قادر [على] [ (2) ] أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا، وكل إلى موت، ثم أقبل على مالك وقال: أي بني، المنيّة ولا الدنيّة، العقاب ولا العتاب، التجلد ولا التلدد، القبر خير من الفقر، ومن قلّ ذلّ، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، إنه ليس ينفلت منها ملك متوج، ولا لئيم معلج، سلّم ليومك، حياك ربك، ثم أنشأ يقول:
شهدت السبايا يوم آل محرّق ... وأدرك عمري صيحة اللَّه في الحجر
فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... ولا سوقه إلا إلى الموت والقبر
فعلّ الّذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر
يقربهم من آل عمرو بن عامر ... عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر
فإن تكن الأيام أبلين جدّتي ... وشيّبن رأسي والمشيب مع العمر
فإن لنا فاعلا فوق عرشه ... عليما بما نأتي من الخير والشرّ
ألم يأت قومي أن للَّه دعوة ... يفوز بها أهل السعادة والبشر
إذا بعث المبعوث من آل غالب [ (3) ] ... بمكة فيما بين زمزم [ (4) ] والحجر
هنالك فابغوا نصرة ببلادكم ... بني عامر إن السعادة في النّصر
ثم قضى من ساعته.
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم [بن عبد الرحمن بن عوف] [ (5) ] ، عن يحيى بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن [سعد] [ (6) ] بن زرارة قال: حدثني من [شئت] من رجال قومي عن حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه قال: واللَّه إني
__________
[ (1) ] في (خ) : «الوسة» ، لعل الصواب ما أثبتناه، فهو يخدم المعنى، لأن «الورسة» من ورس النبت رءوسا: اخضرّ. (لسان العرب) : 6/ 254، قال محققه: وهذا من أبلغ الإعجاز، حيث تخرج النار من الورسة، وهذا ما لا يستطيعه إلا اللطيف الخبير جلّ وعلا.
[ (2) ] زيادة في السياق.
[ (3) ] إشارة إلى النبي محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] في (البداية والنهاية) : «بين مكة والحجر» .
[ (5) ] زيادة في النسب من رواية ابن إسحاق (2) في (خ) : «أسعد» .
[ (6) ] في (خ) : «تثبت» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.(3/351)
[لغلام] [ (1) ] [يفعه] [ (2) ] ابن [سبع سنين أو ثمان] [ (3) ] ، أعقل [كل] [ (4) ] ما سمعت، إذا سمعت يهوديا يصرخ [بأعلى صوته] [ (4) ] على أطمة بيثرب: يا معشر يهود! فلما اجتمعوا إليه [ (5) ] وقالوا له: ويلك، مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الّذي ولد به. وفي رواية: طلع الليلة نجم أحمد نبي هذه الأمة الّذي ولد به [ (6) ] .
وفي رواية الواقدي: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا بالنّبوّة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد. وفيه قصة. وفي رواية له: قال: لما صاح اليهودي من فوق الأطم: هذا كوكب أحمد قد طلع، وهو لا يطلع إلا بالنّبوّة، قال: وكان أبو قيس من بني عدي بن النجار قد ترهّب ولبس المسوح، فقالوا:
يا أبا قيس! انظر ما يقول هذا اليهودي، قال: فانتظاري الّذي صنع بي هذا، فأنا أنتظره حتى أصدقه وأتبعه.
وقال ابن إسحاق: عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، حدثنا محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحبّ ولد أبي [ (7) ] إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع [ولد لهما] [ (8) ] إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة [ونزل] [ (9) ] قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب [مغلّين] [ (10) ] ، قالت: فلم يرجعا حتى [كانا] [ (11) ] مع غروب الشمس فأتيا
__________
[ (1) ] في (خ) : «غلام» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] في (خ) : «يومئذ» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (3) ] في (خ) : «ابن ثمان سنين أو سبع» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (4) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (5) ] في المرجع السابق: «حتى إذا اجتمعوا إليه» .
[ (6) ] قال ابن إسحاق «فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة؟ فقال: ابن ستين، وقدمها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين» (سيرة ابن هشام) 1/ 295- 296.
[ (7) ] في (خ) : «والداي» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (8) ] في (خ) : «ولدهما» .
[ (9) ] في (خ) : «فنزل في قباء» .
[ (10) ] في (خ) : «مغليين» .
[ (11) ] في (خ) : «كان» .(3/352)
كالّين كسلانين [ساقطين] [ (1) ] ، يمشيان الهوينا، قالت: فمشيت إليهما كما كنت أصنع، فو اللَّه ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الهم [ (2) ] ، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حييّ بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم واللَّه قال [ (3) ] : أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال [ (3) ] : فما في نفسك منه؟ قال: عداوته واللَّه ما بقيت [أبدا] [ (4) ] .
قال ابن إسحاق: وكان من حديث مخيريق وكان حبرا عالما، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بصفته وما يجد في علمه [وغلب عليه إلف دينه] [ (5) ] ، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد- وكان يوم أحد يوم السبت- قال: يا معشر يهود! واللَّه إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت [لكم] [ (5) ] ، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم [فأموالي] [ (6) ] لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم يصنع [فيها] [ (7) ] ما أراه اللَّه، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل،
فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- فيما بلغني [ (8) ]- يقول: مخيريق خير يهود،
وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أمواله فعامة صدقات رسول [اللَّه] [ (9) ] صلى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة فيها.
وقال يونس بن بكير عن أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [ (9) ] : ذكر قصة المعراج وما أعطي الأنبياء، فقال له ربّه: قد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] في ابن إسحاق: «الفمّ» .
[ (3) ] في (خ) : «قالت» .
[ (4) ] زيادة من (خ) ، والأثر في (سيرة بن هشام) : 3/ 52.
[ (5) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق.
[ (6) ] في (خ) : «فمالي» .
[ (7) ] في (خ) : «فيه» .
[ (8) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق.
[ (9) ] سقط في (خ) ، وأثبتناه من رواية ابن إسحاق. (سيرة ابن هشام) : 3/ 51- 52.
(9) أول سورة الإسراء.(3/353)
اتخذتك خليلا فهو في التوراة مكتوب: محمد حبيب الرحمن، وأرسلتك إلى الناس كافة، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما، وشرحت صدرك، ورفعت ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك أمة وسطا، وأرسلتك رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وأنزلت عليك الفرقان فيه تبيان كل شيء، فقال إبراهيم عليه السلام للأنبياء: بهذا فضلكم محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال سموأل اليهودي لتبع- وهو يومئذ أضلهم-: أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي مولده مكة، واسمه أحمد، وهذه دار هجرته.
وقال عكرمة عن ابن عباس، قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر، يجدون صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عندهم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، فلما ولد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قالت أحبار يهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبأ قالوا: قد تنبأ أحمد، كانوا يعرفون ذلك ويقرون به ويصفونه.
وقال عاصم بن عمرو بن قتادة عن نملة بن أبي نملة عن أبيه أبي نملة قال:
كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في كتبهم، ويعلمون الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلى المدينة، فلما ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حسدوا، وبغوا، وأنكروا.
وقال عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ عن أبيه قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم- ونحن يومئذ في هدنة من الحرب- فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظلّ خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي- كالمستهزئ به-: ما صفته؟ قال:
رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره، قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة. وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟(3/354)
كل يهود يثرب تقول هذا. قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت قريظة فأجد جمعا فتذاكروا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الّذي لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة، أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لو أسلم الزبير وذووه من رؤساء يهود لأسلّم كلهم، إنما هم له تبع.
وقال عاصم بن عمرو بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة قال: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع فسمعته يقول:
وإني لغلام في إزار قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت اللَّه، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأسلمنا وهو بين أظهرنا، ولم يسلّم حسدا وبغيا.
وعن عبد اللَّه بن سلام قال: ما تمت سبع حتى صدق بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم أحمد لما كان يهود يثرب يخبرونه، وأن تبع مات مسلما. وعن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه:
كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبّئ، وأنه لا نبي بعده، اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة ونزلها أنكروه وحسدوا وبغوا.
وعن زياد بن لبيد أنه كان على أطم من آطام المدينة فسمع: يا أهل يثرب!! - ففزع عنا وفزع الناس-: قد ذهبت واللَّه نبوة بني إسرائيل، هذا نجم طلع بمولد أحمد، وهو نبي آخر الأنبياء، ومهاجره إلى يثرب.
وقال داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن عن الحرث بن خزمة قال: كان يهود المدينة ويهود خيبر ويهود فدك يخبرون بصفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأنه خارج [من نحو هذا البيت] [ (1) ] ، وأن مهاجره إلى يثرب واسمه أحمد، وأنه يقتلهم قتل الذّر حتى يدخلهم في دينه، وأنه ينزل عليه كتاب اللَّه كما نزل على موسى التوراة، ويخبرون بصفته، فلما نزل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة أنكروه وحسدوه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/355)
وقال مسلم بن يسار عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما كان في الأوس والخزرج رجل أوصف لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم منه- يعني من بني عامر- كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين، ويخبرونه بصفة رسول اللَّه، وأنّ هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه بمثل ذلك، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى، فأخبروه بصفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأن مهاجره يثرب.
فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا على دين الحنفية، فأقام مترهبا لبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم عليه السلام، وأنه ينتظر خروج النبي، فلما ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بمكة لم يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه.
فلما قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة حسد وبغى ونافق، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد! بم بعثت؟ فقال: بالحنفية، فقال: أنت تخلطها بغيرها، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم:
أتيت بها بيضاء، أين ما كان يخبرك الأحبار من اليهود والنصارى من صفتي؟ فقال:
لست بالذي وصفوا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: كذبت، فقال: ما كذبت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: الكاذب أمانة اللَّه وحيدا طريدا، قال: آمين،
ثم رجع إلى مكة فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك ما كان عليه [ (1) ] .
وذكر محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري علام كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية [ (2) ] ، وأسد بن
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 128.
[ (2) ] قال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن ابن إسحاق- وهو أحد رواه المغازي- عنه: أسيد بن سعية بضم الألف، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق- وهو قول الواقدي وغيره-: أسيد بفتحها، قال الدار الدّارقطنيّ: وهذا هو الصواب، ولا يصح ما قاله إبراهيم عن ابن إسحاق.
وبنو سعية هؤلاء، فيهم أنزل اللَّه عزّ وجلّ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [113- 115: آل عمران] ، وسعية أبوهم يقال له: ابن العريض، وهو بالسين المهملة، والياء المنقوطة باثنتين.
وأما سعنة بالنون، فزيد بن سعنة، حبر من أحبار اليهود، كان قد داين النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فجاءه يتقاضاه قبل الأجل، فقال: ألا تقضيني يا محمد؟! فإنكم يا بني عبد المطلب مطل، وما أردت إلا(3/356)
عبيد، نفر من بني [هدل] [ (1) ] ، [أو هذيل، أتوا بني قريظة، فكانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام، قال: قلت: لا، قال: فإن رجلا من يهود أهل الشام، يقال له: ابن الهيّبان] [ (2) ] ، قدم علينا قبيل الإسلام [بسنوات] [ (3) ] فحل بين أظهرنا [قال لي:] [ (4) ] واللَّه ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا أقحطنا [ (5) ] قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق، فيقول: لا واللَّه حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فيقولون [ (6) ] :
كم؟ فيقول: صاع [ (6) ] من تمر أو مدان [ (6) ] من شعير [عن كل إنسان حي] [ (7) ] ، قال: فنخرجها، فيخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا فيستسقي لنا، فو اللَّه ما يبرح مجلسه حتى تمرّ [السحاب الشراج سائله] [ (8) ] ونسقي [به] [ (9) ] ، فعل [ (10) ] ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث [ (11) ] ، قال: ثم حضرته الوفاة [عندنا] [ (12) ] ، فلما عرف أنه ميت قال: أيا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض الجوع والبؤس؟ قال: قلنا: إنك [ (13) ] أعلم، قال: فأني قدمت هذا [ (14) ] البلد
__________
[ () ] أعلم علمكم، فارتعد عمر، ودار، كأنه في فلك، وجعل يلحظ يمينا وشمالا، وقال: تقول هذا لرسول اللَّه يا عدوّ اللَّه؟!
فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا إلى غير هذا منك أحوك يا عمر: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التّبعة، قم فاقضه عني، فو اللَّه ما حلّ الأجل، وزده عشرين صاعا بما روعته.
وفي حديث آخر أنه قال: دعه، فإن لصاحب الحق مقالا، ويذكر أنه أسلم لما رأى من موافقة وصف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لما كان عنده في التوراة، وكان يجده موصوفا بالحلم، فلما رأى من حلمه ما رأى أسلم، وتوفي غازيا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك. ويقال في اسمه: سعية بالياء كما في الأول، ولم يذكره الدار الدّارقطنيّ إلا بالنون.
[ (1) ] في (خ) : «وهل» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] في (خ) : السياق مضطرب فيما يبين الحاصرتين، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق، والهيّبان: من المسمين بالصفات، يقال: قطن هيّبان: أي منتفش، والهيبان: أيضا الجبان.
[ (3) ] في رواية ابن إسحاق: «بسنين» .
[ (4) ] زيادة من رواية ابن إسحاق.
[ (5) ] في رواية ابن إسحاق: «فكنا إذا قحط عنا المطر» .
[ (6) ] في رواية ابن إسحاق: «فنقول» ، «صاعا» ، «مدّين» .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين ليس في رواية ابن إسحاق.
[ (8) ] ما بين الحاصرتين ليست في رواية ابن إسحاق.
[ (9) ] زيادة من (خ) .
[ (10) ] في رواية ابن إسحاق: «قد فعل» .
[ (11) ] في (خ) : «ثلاثا» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق، وهو حق اللغة.
[ (12) ] زيادة من رواية ابن إسحاق.
[ (13) ] في (خ) : «اللَّه أعلم» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق.
[ (14) ] في رواية ابن إسحاق: «هذه البلدة» .(3/357)
أتوكف [ (1) ] خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقنّ [ (2) ] إليه يا معاشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وحاصر بني قريظة، قال: هؤلاء الفتية- كانوا شبابا أحداثا-: يا بني قريظة، واللَّه إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، فأحرزوا دماءهم وأموالهم [وأهليهم] [ (3) ] .
وقال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ منهم [ (4) ] ، قال:
قالوا: فينا واللَّه وفيهم نزلت هذه القصة، كنا قد علوناهم ظهرا في الجاهلية- ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب- فكانوا يقولون: إن نبيا يبعث الآن نتبعه قد أظلّ زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث اللَّه رسوله من قريش واتّبعناه كفروا به، يقول اللَّه تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ، إلى قوله: عَذابٌ مُهِينٌ [ (5) ] .
وعن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس، أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللَّه قبل مبعثه، فلما بعثه اللَّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر يهود، اتقوا اللَّه وأسلموا، قد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وإنا أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم: ما هو بالذي كنا نذكر لكم، ما جاءنا بشيء نعرفه! فأنزل اللَّه تعالى في ذلك من قولهم ولما
__________
[ (1) ] التوكف: التوقع والانتظار، وفي حديث ابن عمير: أهل القبور يتوكفون الأخبار، أي ينتظرونها ويسألون عنها. وفي التهذيب: أي يتوقعونها، فإذا مات الميت سألوه: ما فعل فلان وما فعل فلان؟ يقال:
هو يتوكف الخبر أي يتوقعه، ونقول: ما زلت أتوكفه حتى لقيته. (لسان العرب) : 9/ 364.
[ (2) ] في (خ) : «يسبقنكم» .
[ (3) ] في (خ) «وأهاليهم» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق فهي أجود، وبها جاء التنزيل: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [6: التحريم] (سيرة ابن هشام) : 2/ 39- 40 وهامشهما، وفي آخر هذا الأثر قال ابن إسحاق: (فهذا ما بلغنا من أخبار يهود) .
[ (4) ] في رواية ابن إسحاق: «عن رجال من قومه» .
[ (5) ] هذا الأثر مختصر من رواية ابن إسحاق، (سيرة ابن هشام) : 2/ 37.(3/358)
جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [ (1) ] .
وقال عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: كانت يهود [بني] [ (2) ] قريظة و [بني] [ (2) ] النضير من قبل مبعث محمد صلى اللَّه عليه وسلّم يستفتحون- يدعون- على الذين كفروا يقولون: اللَّهمّ إنا نستنصرك بحق النبي الأمي ألا تنصرنا عليهم فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا- يريد محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم ولم يشكوا فيه- وكانوا يتمنونه ويقولون لجميع العرب: هذا محمد قد أظلنا، هذا أوان مجيئه، واللَّه لنقتلنكم معه قتل عاد وإرم، وكان الناس من لدن اليمن إلى الشام وجميع الدنيا قد عظموا شأن قريظة والنضير لخصال كثيرة: أنهم أهل كتاب وأحبار ورهبان وربانيون، لكثرة الأموال التي كانت لهم، ولأنهم كانوا من ولد هارون عليه السلام، وكان الناس يرغبون إليهم، ويسألونهم عن الدين، وكانوا إذا استنصروا على أحد من العرب استنصروا بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، ويذكرونه بالجميل.
عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان يهود أهل المدينة قبل قدوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون عليهم، يستنصرون يدعون عليهم باسم نبي اللَّه فيقولون: اللَّهمّ ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك، وبكتابك الّذي تنزل عليه، وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان، وكانوا يرجون أن يكون منهم، فكانوا إذا قالوا ذلك نصروا على عدوهم.
وعن قتادة قال: كانت اليهود تستفتح بمحمد على كفار العرب يقولون: اللَّهمّ ابعث النبي الّذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم، فلما بعث اللَّه نبيه محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم كفروا به حين رأوه بعث من غيرهم، حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول اللَّه.
وعن ابن أبي نجيح عن علي البارقيّ في قوله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أن اليهود كانوا يقولون: اللَّهمّ ابعث هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس، يستفتحون ويستكثرون على الناس.
__________
[ (1) ] 89: البقرة.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.(3/359)
وقال قتادة عن كعب الأحبار: كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل، رؤيا بخت نصّر، فإنه رأى رؤيا فزع منها، فدعا كهنته وسحرته فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه، وسألهم أن يعبروها له، فقالوا: قصّها علينا، قال: قد نسيتها! فأخبروني بتأويلها، قالوا: فإنا لا نقدر حتى تقصها علينا، فغضب وقال:
اخترتكم واصطفيتكم لمثل هذا، أذهبوا فقد أجلتكم ثلاثة أيام، فإن أتيتموني بتأويلها وإلا قتلتكم! وشاع ذلك في الناس، فبلغ دانيال وهو محبوس، فقال لصاحب السجن وهو إليه محسن: هل لك أن تذكرني للملك؟ فإن عندي [تأويل] [ (1) ] رؤياه، وإني أرجو أن تنال عنده بذلك منزلة، ويكون سبب عافيتي، قال له صاحب السجن: إني أخاف عليك سطوة الملك، لعل غم السجن حملك على أن تتروح بما ليس عندك فيه علم، مع أني أظن إن كان أحد عنده في هذه الرؤيا علم فأنت هو، قال دانيال: لا تخف عليّ فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي، فانطلق صاحب السجن فأخبر بخت نصّر بذلك، فدعا دانيال فأدخل عليه- وكان لا يدخل عليه أحد إلا سجد- فوقف دانيال فلم يسجد، فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا، فخرجوا، فقال بخت نصّر لدانيال: ما منعك أن تسجد لي؟ قال دانيال: إن لي ربا آتاني هذا العلم الّذي سمعت به على أن لا أسجد لغيره، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني هذا العلم، ثم أصير في يدك أميا لا ينتفع بي فتقتلني، فرأيت ترك سجدة أهون من القتل، وخطر سجدة أهون من الكرب والبلاء الّذي أنت فيه، فتركت السجود نظرا إلى ذلك، فقال بخت نصّر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حين وفيت لإلهك، أعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم العهود، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت، قال نعم عندي علمها وتفسيرها، رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب، ووسطه من فضة، وسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخار، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته، قذفه اللَّه بحجر من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/360)
السماء فوقع في قبة رابية فدقه حتى طحنه، فاختلط ذهبه وفضته، ونحاسه وحديدة وفخاره، حتى تخيل إليك أنه لو اجتمع جميع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك، ولو هبت ريح لأذرته، ونظرت إلى الحجر الّذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرض كلها، فصرت لا ترى إلا السماء والحجر، قال له بخت نصّر: صدقت! هذه الرؤيا التي رأيت، فما تأويلها؟ قال دانيال: أما الصنم فأمم مختلفة في أوّل الزمان وفي أوسطه وفي آخره، وأما الذهب فهذا الزمان وهذه الأمة التي أنت فيها وأنت ملكها، وأما الفضة فابنك يملكها من بعدك، وأما النحاس فإنه الروم، وأما الحديد ففارس، وأما الفخار فأمتان يملكها من بعدك امرأتان: إحداهما في مشرق اليمن والأخرى في غربي الشام، وأما الحجر الّذي قذف به الصنم فدين يقذف اللَّه به هذه الأمم في آخر الزمان ليظهره عليها، فيبعث اللَّه نبيا أميا من العرب فيدوّخ اللَّه به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوّخ أصناف الصنم، ويظهره على الأديان والأمم، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى يملأها، فيمحص اللَّه به الحق ويزهق الباطل، ويهدي [به] [ (1) ] أهل الضلالة، يعلم به الأميين، ويقوي به الضعيف ويعزّ به الأذلاء، وينصر به المستضعفين. قال بخت نصّر: ما أعلم أحدا استعنت منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك، ولا أحد له عندي يدا أعظم من يدك، وأنا جازيك بإحسانك.. وذكر القصة.
ورويت هذه القصة أيضا عن وهب بن منبه، وقال ابن إسحاق: كان فيما بلغني عما وضع عيسى ابن مريم عليه السلام فيما جاءه من اللَّه تعالى لأهل الإنجيل في الإنجيل من صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] : اللَّهمّ [ (3) ] من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتكم [ (4) ] صنائع ما كانت لكم [ (5) ] خطيئة، ولكن [من] [ (6) ] الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني ولكن لا بدّ أن تتم الكلمة [ (7) ] التي في الناموس أنهم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 83- 85، حديث رقم (44) تفرد به أبو نعيم.
[ (2) ] [مما أثبت يحنّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إليهم أنه قال: من أبغضني ... ] ما بين الحاصرتين تكملة من رواية ابن إسحاق.
[ (3) ] زيادة في (خ) .
[ (4) ] في رواية ابن إسحاق: «بحضرتهم لم يصنعها أحد قبلي ما كانت..» .
[ (5) ] «لهم»
[ (6) ] زيادة للسياق من رواية ابن إسحاق. في (خ) : «المملكة» .
[ (7) ] في (خ) : «فجاءوا» .(3/361)
أبغضوني [مجّانا] [ (1) ] ، أي باطلا، فلو قد جاء المنحمنّا [هذا] [ (2) ] الّذي أرسله اللَّه إليكم من عند الرب وروح القدس هذا الّذي من عند الرب خرج [ (3) ] ، فهو شهيد [ (4) ] عليّ وأنتم أيضا، لأنكم قديما كنتم معي [في] [ (2) ] هذا قلت لكم كي لا تشكوا. قالوا: والمنحمنّا بالسريانية محمد، وهو بالرومية البرقليطس [ (5) ] ، صلى اللَّه عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي بعض أهل العلم، أنه وجد عند حبر من أحبار يهود عهدا من كتاب إبراهيم خليل الرحمن فيه: (مود مود) ، فقلت له: أنشدك باللَّه ما هذان الحرفان؟ قال: اللَّهمّ عمّر من ذكر محمد. وحدثني علي بن نافع الجرشيّ قال: قرأت في بيت مجرش كتابا كتبه الحبشة حين ظهروا على اليمن- وكانوا نصارى أهل كتاب-: مصلحا محمدا رشيدا أمما. وقال زياد: سيد الأمم.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن سعيد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز ابن عبد اللَّه بن عثمان بن سهل بن حنيف، وعبد الملك بن عيسى الثقفي، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب الثقفي، ومحمد بن يعقوب بن عتبة عن أبيه وغيرهم، كل قد حدثني من هذا الحديث طائفة، قال: قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك أنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم: كيف خلصتم إليّ ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟ قالوا: لصقنا بالبحر وقد خضناه على ذلك، قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا: ما تبعه منا رجل واحد، قال: ولم ذاك؟ قالوا: جاءنا بدين مجدد لا يدين به الآباء ولا يدين به الملك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا، قال: فكيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم وقد لاقاه من خالفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن: مرة تكون عليهم الدبرة، ومرة تكون له.
قال: ألا تحدثونني وتصدقونني؟ إلى ماذا يدعو؟ قالوا: يدعو إلى أن يعبد اللَّه وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة، قال: وما الصلاة والزكاة؟ ألهما وقت يعرف وعدد ينتهى إليه؟ قال: يصلون
__________
[ (1) ] في (خ) : «فجاءوا» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) : «يخرج» .
[ (4) ] في (خ) : «وهو يشهد» .
[ (5) ] في (خ) : «البلقليطس» ، وما أثبتناه من رواية ابن إسحاق (سيرة ابن هشام) : 2/ 63- 64، باب صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الإنجيل.(3/362)
في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت، وعدد قد سموه له، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالا نصف دينار، وكل إبل بلغت خمسا شاة، قال: ثم أخبروه بصدقة الأموال كلها.
قال: أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها؟ قال: يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد وتحريم الزّنا والرّبا والخمر، ولا يأكل ما ذبح لغير اللَّه. قال:
هو نبي مرسل إلى الناس كافة، ولو أصاب القبط والروم تبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم، وهذا الّذي تصفون منه بعثت به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد فيظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومقطع النحور، ويوشك قومه أن يدافعونه بالراح.
قال: فقلنا لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا، قال: فأخفض رأسه وقال:
أنتم في اللعب!؟ قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبا، قال:
كذلك والمسيح، الأنبياء تبعث في نسب قومها، قال: فكيف صدق حديثه؟ قال:
قلنا: ما يسمى إلا الأمين من صدقه، قال: انظروا في أمركم، أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على اللَّه؟.
قال: فمن اتبعه؟ قلنا: الأحداث، قال: هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله، قال: فما فعلت يهود يثرب، فهم أهل التوراة؟ قلنا: خالفوه فأوقع بهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه، قال: هم قوم حسّد حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف.
قال المغيرة: فقمنا من عنده وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم وخضعنا وقلنا:
ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه، ونحن أقرباؤه وجيرانه لم ندخل معه وقد جاءنا داعيا إلى منازلنا؟.
قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها، وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.(3/363)
وكان أسقف من القبط هو رأس الكنيسة، أبى [يحسر] [ (1) ] كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر أحدا إلا يصلي الصلوات الخمس أشدّ اجتهادا منه، فقلت: أخبرني هل بقي أحد من الأنبياء؟ قال: نعم، وهو آخر الأنبياء ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد، وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأمي العربيّ، اسمه أحمد.
ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، ليس بالأبيض ولا بالآدم، يعفي شعره ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزئ بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه، ولا يبالي بمن لاقى، يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم، هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض القرظ، ومن حرم يأتي وإلى حرم يهاجر إلى أرض سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم عليه السلام.
قال المغيرة بن شعبة: زدني في صفته، قال: يأتزر على وسطه، يغسل أطرافه، ويحض بما لا يحض به الأنبياء قبله، كان النبي يبعث إلى قومه وبعث إلى الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبله مشدّدا عليهم، لا يصلون إلا في الكنائس والبيع، قال المغيرة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك.
فذكر الواقدي [ (2) ] حديثا طويلا في رجوعه من عند المقوقس ومجيئه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وقال: فأسلمت ثم أخبرته صلى اللَّه عليه وسلّم عن مخرجنا من الطائف وقدومنا الإسكندرية، وأخبرته بما قال الملك وما قال الأساقفة الّذي كنت أسائلهم وأسمع منهم ومن رؤساء القبط والروم فأعجب ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأحب أن يسمعه أصحابه، فكنت أحدثهم ذلك في اليومين والثلاثة.
وخرج الحسن بن سفيان من حديث ملازم بن عمرو، حدثنا عبد اللَّه بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه قال: خرجنا وفد إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا واستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فتوضأ منه
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] (المغازي) : 3/ 964- 965.(3/364)
ومضمض منه وصبّ لنا في إداوة ثم قال: اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعكم وانضحوا مكانها من هذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا، قلنا: إن البلد [بعيد] [ (1) ] والحر شديد والماء ينشف، قال: فأمدّوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبا،
قال: فخرجنا وتشاححنا على حمل الإداوة أينا يحملها؟ فجعلها نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بيننا نوبا، على كل رجل يوما وليلة، فخرجنا حتى قدمنا بلدنا، ففعلنا الّذي أمرنا به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- وراهبنا يومئذ من طيِّئ- فأذّنا، فقال الراهب لما سمع الأذان:
دعوة حق، ثم استقبل تلعة من تلاعنا [ (2) ] ثم هرب فلم ير بعد [ (3) ] .
وللطبراني من حديث يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب قال: حدثني أبي قال: أخبرني الفلتان بن عاصم قال: كنا قعودا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في المسجد فشخص بصره إلى رجل يمشي في المسجد فقال: أفلان، قال: لبيك يا رسول اللَّه- ولا ينادي الكلام إلا قال برسول اللَّه- فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أتشهد أني رسول اللَّه؟ قال: لا! قال: أتقرأ في التوراة؟
قال: نعم، قال: والإنجيل؟ قال: نعم، قال: والقرآن؟ قال: لا، قال: والّذي نفسي بيده لو تشاء لقرأته، قال: ثم ناشده: هل تجدني في التوراة والإنجيل؟ فقال:
سأحدثك مثلك ومثل هيئتك ومخرجك، وكنا نرجو أن تكون منّا، فلما خرجت تخوفنا أن تكون هو أنت، فنظرنا فإذا ليس هو أنت! قال: فلم ذاك، قال: إن معه من أمته سبعين ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب، وإنما معك نفر يسير، قال: فو الّذي نفسي بيده لأنا هو، إنهم لأمتي، وإنهم لأكثر من سبعين ألفا،
وقد بشر برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كعب بن لؤيّ بن غالب كما ستراه في أخباره.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن جدعان عن سعيد بن المسيب قال:
بينما العباس في زمزم إذ جاء كعب الأحبار فقال له العباس: ما منعك أن تسلم في عهد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر حتى أسلمت الآن في عهد عمر رضي اللَّه عنهم؟
__________
[ (1) ] في (خ) : «ببعد» .
[ (2) ] التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انخفض منها، فهي من أسماء الأضداد.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 90- 91، حديث رقم (47) قال في (الخصائص) : 1/ 217: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن سعد، والبيهقي، وأخرجه أيضا النسائي في كتاب المساجد من طريق رجاله ثقات.(3/365)
فقال: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إليّ وقال: اعمل بهذا واتبعه، وأخذ علي حق الوالد على الولد أن لا أفضّ هذا الخاتم، وختم على سائر كتبه، فلما رأيت الإسلام قد ظهر ولم أر إلا خيرا قالت لي نفسي: لعل أباك غيب عليك علما، ففضضت هذا الخاتم فإذا فيه صفة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وأمته، فجئت الآن وأسلمت. وقد تقدم في ذكر حلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وصفحه، حديث إسلام زيد بن سعنة، وفيه:
قال زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه محمد سوى آيتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
وخرّج ابن حبان من حديث أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد [ (1) ] قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لي حبر من أحبار الشام:
قد خرج نبي في بلدك أو هو خارج قد خرج نجمه، فارجع فصدّقه واتّبعه وآمن به.
ولأبي نعيم من حديث سلمة بن كهيل عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، عن دحية الكلبي قال: بعثني النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب، فاستأذنت فقلت: استأذنوا لرسول رسول اللَّه، فأتى قيصر فقيل: إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول اللَّه، ففزعوا لذلك وقال: أدخلوه، فدخلت عليه وعنده بطارقته، فأعطيته الكتاب فقرئ عليه فإذا فيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللَّه إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط الشعر فقال:
لا يقرأ الكتاب اليوم، لأنه بدأ بنفسه، وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم، قال: فقرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم قيصر فخرجوا من عنده ثم بعث إليّ فدخلت إليه فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف فدخل عليه وكان صاحب أمرهم يصدرون عن قوله ورأيه، فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: هو واللَّه الّذي بشرنا به عيسى وموسى الّذي كنا ننتظره، قال قيصر: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإنّي مصدقه ومتبعه، فقال قيصر: إني أعرف أنه كذلك، ولكن
__________
[ (1) ] مرويات أسامة بن زيد في (صحيح ابن حبان) (16) حديثا ليس من بينها هذا الحديث- ر:
(الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 18/ 97 (فهرس الرواة) .(3/366)
لا أستطيع أن أفعل، فإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم [ (1) ] .
وله من حديث العلاء بن الفضل بن أبي سوية بن خليفة قال: حدثني أبي عن جده أبي سوية بن خليفة- وكان خليفة مسلما- قال: سألت محمد بن عدي ابن ربيعة بن سوادة بن حبتم بن سعد فقلت كيف سماك أبوك محمدا؟ فضحك ثم قال: أخبرني- أي عدي بن ربيعة- قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع ويزيد ابن ربيعة وأسامة بن مسكة نريد ابن جفنة، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير فقلنا: لو اغتسلنا وادهنا ولبسنا ثيابنا من قشف السفر، فجعلنا نتحدث فأشرف علينا ديراني [ (2) ] من قائم له فقال: إني أسمع بلغة قوم ليس بلغة أهل هذه البلاد، قلنا: نحن قوم من مضر، قال: من أي المضريين؟ قلنا: من خندف [ (3) ] ، قال:
إنه سيبعث وشيكا نبي منكم فخذوا نصيبكم منه تسعدوا، قلنا: ما اسمه؟ قال:
محمد.
فأتينا ابن جفنة فقضينا حاجتنا ثم انصرفنا، فولد لكل رجل منا ابن فسماه محمدا يدور على ذلك الاسم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 101- 102، حديث رقم (53) ، وقال الحافظ في (الفتح) : «وأخرجه ابن إسحاق مرسلا عن بعض أهل العلم» ، (سيرة ابن هشام) : 6/ 14، هامش (1) ، (2) ، (مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة) : 35- 37، (المصباح المضيء) :
2/ 68- 71، (الاستيعاب) : 2/ 461 ترجمة دحية الكلبي رقم (701) .
[ (2) ] الديرانيّ: صاحب الدير، أو المقيم فيه، نسبة إلى الدّير، على غير قياس.
[ (3) ] خندف: هي ليلى بنت حلوان بن عمران، زوجة إلياس بن مضر والد مدركة، قال مجد الدين الفيروزآبادي في (القاموس المحيط) : 2/ 115: خرج إلياس في نجعة فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها ابنه عمرو فأدركها، وخرج عامر- ابنه الثاني- فتصيدها وطبخها، وانقمع عمير. ابنه الثالث في الخباء، وخرجت أمهم- تسرع، فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فقالت: ما زلت أخندف في أثركم، فلقبوا: مدركة، وطابخة، وقمعة، وخندف.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 93- 94، حديث رقم (49) ، والحديث أخرجه البيهقي والطبراني، والخرائطي في (الهواتف) - ر: (الخصائص) : 1/ 57، وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : رواه البغوي وابن سعد، وابن شاهين، وابن السكن وغيرهم. وقال في (الإصابة) :
هو من طريق العلاء بن الفضل بن أبي سويّة المنقري، حدثني أبو الفضل بن عبد الملك، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن أبيه أبي سوية، عن أبيه خليفة بن عبدة. قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 232: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.(3/367)
وسيأتي في التعريف لعبد المطلب ذكر اليهودي الّذي نظر في أنفه وقال له: أرى في إحدى يديك ملكا وفي أنفك نبوة، وذكر وفادته على سيف بن ذي يزن وإخباره إياه أنه يولد له ولد اسمه محمد، وبشّر بنبوته.
قال أبو بكر بن عبد اللَّه بن الجهم عن أبيه عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال: بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم كأن شجرة نبتت من ظهري قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها، أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا.
ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تختفي وساعة تزهر.
ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخّرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فقلت: لمن النصيب؟ فقال: لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها.
فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، يدين له الناس، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث، والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج، ويقول: كانت الشجرة أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن به فيقول: السبّة والعار [ (1) ] !!.
عن الحرث بن عبد اللَّه الأزدي قال: لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم فذكر أن ماهان صاحب جيش الروم بعث رجلا من كبارهم وعظمائهم يقال له: جرجير إلى أبي عبيدة بن الجراح، فأتى أبا عبيدة فقال:
إني رسول ماهان إليك، وهو عامل ملك الروم على الشام، وعلى هذه الحصون،
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 99- 100، حديث رقم (51) ، انفرد به أبو نعيم، وفيه خالد بن إلياس، متروك الحديث، (البداية والنهاية) : 2/ 387- 388.(3/368)
وهو يقول لك: أرسل إلى الرجل الّذي كان قبلك أميرا، قد ذكر لي أن ذلك الرجل له عقل وله فيكم حسب، وقد سمعنا أن ذوي الأحساب أفضل عقولا من غيرهم، فنخبره بما نريد، ونسأله عما تريدون، فإن وقع بيننا وبينكم أمر لنا فيه ولكم صلاح أخذنا الحظ من ذلك وحمدنا اللَّه عليه، وإن لم يتفق ذلك بيننا وبينكم فإن القتال من وراء ما هناك.
فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذي جاء فيه الروميّ وقال لخالد: ألقهم فادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا وإلا فافرض عليهم الجزية، فإن أبوا فأعلمهم أنا سنناجزهم حتى يحكم اللَّه بيننا وبينهم. قال: وجاءهم رسولهم الرومي عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون، فلما قضوا صلاتهم قال خالد للرومي: قد غشينا الليل، ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبك إن شاء اللَّه، فارجع إليه فأعلمه.
فجعل المسلمون ينتظرون الرومي أن يقوم إلى صاحبه فيرجع إليه ويخبره بما اتعدوا عليه، فأخذ الرومي لا يبرح وينظر إلى رجال من المسلمين وهم يصلون فيدعون اللَّه ويتضرعون إليه، ثم أقبل على أبي عبيدة فقال: أيها الرجل! متى دخلتم هذا الدين ومتى دعوتم الناس إليه؟ فقال: منذ بضع وعشرين سنة، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول، ومنا من أسلم بعد ذلك.
فقال: هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتي من بعده رسول؟ قال: لا، ولكن أخبرنا أنه لا نبي بعده، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه، قال الرومي، وأنا على ذلك من الشاهدين، وأن عيسى قد بشرنا براكب الجمل، وما أظنه إلا صاحبكم، فأخبرني هل قال صاحبكم في عيسى شيئا؟ وما قولكم أنتم فيه؟.
قال أبو عبيدة: قول صاحبنا هو قول اللَّه وهو أصدق القول وأبرّه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ (1) ] ، وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [ (2) ] إلى قوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ.
__________
[ (1) ] 59: آل عمران.
[ (2) ] 171: النساء.(3/369)
قال: ففسّر له الترجمان هذا بالرومية، فقال: أشهد أن هذا صفة عيسى نفسه، وأشهد أن نبيكم صادق، وأنه الّذي بشرنا به عيسى وأنكم قوم صدق، وقال لأبي عبيدة: أدع لي رجلين من أوائل أصحابك إسلاما هما فيما ترى أفضل.
فدعا له معاذ بن جبل وسعيد بن جبير وزيد بن عمرو بن نفيل، فقيل له:
هذا من أفضل المسلمين فضلا ومن أوائل المسلمين إسلاما، فقال لهم الرومي:
أتضمنون لي الجنة إن أنا أسلمت وجاهدت معكم؟ قالوا: نعم، إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغيّر حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة، قال: فإنّي أشهدكم أني من المسلمين، فأسلّم، ففرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعوا له بخير.
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بشر محمد بن عبيد اللَّه قال: حدثني عطاء بن عجلان عن بهز بن حوشب عن كعب بن ماتع الحميري أن إسلامه كان [عند] مقدم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الشام، وأخبرني كيف كان بدء أمره، قال:
إن أبي كان من أعلم الناس بما أنزل اللَّه على موسى عليه السلام، وكان لم يدخر عني شيئا مما كان يعلم.
فلما حضره الموت دعاني فقال لي: يا بني! إنك قد علمت أني لم أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني قد حبست عنك ورقتين فيهما نبي يبعث قد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك ولا آمن عليك أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه، وقد جعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، لا تعرض لهما ولا تنظرن فيهما حينك هذا، فإنّ اللَّه إن يرد بك خيرا ويخرج ذلك الّذي تتبعه.
قال: ثم إنه مات فدفناه، ولم يكن شيء أحب إلي من أن يكون المأتم قد انقضى حتى انظر ما في الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة، ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما: محمد رسول اللَّه، خاتم النبيين لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجرة بطيبة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ويجزئ بالسيئة الحسنة، ويعفو ويصفح.
أمته الحمادون الذين يحمدون اللَّه على كل حال، تذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم في(3/370)
صدورهم، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم.
قال: فلما قرأت ذلك قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئا هو خير لي من هذا؟ فمكثت ما شاء اللَّه، ثم بلغني أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج بمكة وهو يظهر مرة ويستخفي أخرى فقلت: هو ذا، فلم يزل كذلك حتى قيل لي: قد أتى المدينة، فقلت في نفسي إني لأرجو أن يكون إياه، وكانت تبلغني وقائعه: مرة له، ومرة عليه، ثم بلغني أنه توفى، فقلت في نفسي: لعله ليس بالذي كنت أظن حتى بلغني أن خليفته قد قام مقامه، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده، فقلت في نفسي:
لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أنهم هم الذين أرجو وانظر سيرتهم وأعمالهم.
فلم أزل أدافع ذلك وأؤخره لأستثبت حتى قدم علينا عمال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فلما رأيت وفاءهم بالعهد وما صنع اللَّه لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دينهم، فو اللَّه إني ذات ليلة فوق سطحي فإذا رجل من المسلمين يتلو قول اللَّه عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [ (1) ] ، قال:
فلما سمعت هذه الآية خشيت أن لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح فغدوت على المسلمين.
قال: وحدثني عطاء عن شهر بن حوشب عن كعب قال: قلت لعمر رضي اللَّه عنه بالشام عند انصرافه أنه مكتوب في الكتب: أن هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد سواء في الحق عنده، أتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواضعون متبارون، فقال عمر رضي اللَّه عنه: ثكلتك أمك! أهو ما تقول؟ فقال: إي والّذي يسمع ما أقول، فقال:
الحمد للَّه الّذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا بنبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] 47: النساء.(3/371)
وله من حديث المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد عن أبيه، عن جده سعيد بن زيد، أن زيد بن عمرو وورقة ابن نوفل خرجا يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو: من أين أقبلت يا صاحب البعير؟ قال: من بيت إبراهيم، قال: وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين، قال:
ارجع فإنه يوشك أن يظهر الّذي تطلب في أرضك، فرجع وهو يقول: لبيك حقا حقا، تعبّدا ورقّا، البرّ أبغي لا الحال، وهو كمن قال: آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: أبقي لك فإنّي واهم، مهما تجشمني فإنّي جاشم، ثم يخر فيسجد.
وله من حديث النضر بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن موسى أبو غزية، عن علي بن عيسى بن جعفر عن أبيه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن أبيه عامر ابن ربيعة العدوي قال: لقيت زيد بن عمرو بن نفيل وهو خارج من مكة يريد حراء يصلي فيها، وإذا هو قد كان بينه وبين قومه يوفي صدر النهار في ما أظهر من خلافهم، واعتزال آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم.
فقال زيد بن عمرو: يا عمر إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم خليل اللَّه وما كان يعبد وابنه إسماعيل من بعده، وما كانوا يصلون إلى هذه القبلة، وأنتظر نبيا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب اسمه أحمد، ولا أراني أدركه، فأنا يا عامر أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك يا عامر ما نعته حتى لا يخفى عليك، قلت: هلم.
قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليس يفارق عينيه حمره، وهو خاتم النبوة واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإنّي بلغت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم عليه السلام، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر: فوقع في نفسي الإسلام من يومئذ، فلما تنبأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كنت حليفا في قومي، وكان قومي أقل قريش عددا، فلم أقدر على اتباعه ظاهرا فأسلمت(3/372)
سرا، وكنت أخبرت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بما أخبرني به زيد بن عمرو فترحم عليه وقال:
قد رأيته في الجنة يسحب ذيلا له أو ذيولا له [ (1) ] .
وله من حديث أبي بكر الهذلي عن عكرمة بن عباس قال: قال العباس:
خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن، وكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان والنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثل ذلك، فقال لي في يومي الّذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إليّ غداك؟ قلت: نعم.
فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت [إليه] [ (2) ] الغداء، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول اللَّه؟ قلت أيّ بني أخي؟ قال: إياي تكتم؟ وأيّ بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد، قلت: وأيهم؟ هو محمد بن عبد اللَّه؟.
قلت: قد فعل؟ قال: قد فعل [ (3) ] ، وأخرج كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان: أخبرك أن محمدا أقام بالأبطح فقال: أنا رسول اللَّه أدعوكم إلى اللَّه، قال العباس: قلت: لعله يا أبا حنظلة صادق، فقال: مهلا يا أبا الفضل، فو اللَّه ما أحب أن تقول هذا، إني لأخشى أن تكون كنت على صبر من هذا الحديث، يا بني عبد المطلب إنه واللَّه ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة كل واحد منهما قامته، نشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟.
قلت: نعم قد سمعت، قال: فهذه واللَّه شؤمتكم، قلت: فلعلها يمنتنا، قال:
فما كان يبعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد اللَّه بن خرافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث وفيه حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر؟! بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الّذي قال ما قال.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 100- 101، حديث رقم (52) ، رواه ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 161، والفاكهي بإسناده ثم ذكر الحديث. وانظر الإصابة أيضا، ويظهر أن إسناده عنده مقبول، و (الخصائص) : 1/ 61.
[ (2) ] في (خ) : «إلى» ، وما أثبتناه أجود للسياق.
[ (3) ] في (خ) : «بلى قد فعل» ، وما أثبتناه حق اللغة.(3/373)
قال أبو سفيان: صدقوا، وأنا عمه، قال اليهودي: أخو أبيه؟ قال نعم، قال:
فحدثني عنه، قال: لا تسألني، ما كنت أحب أن يدعي هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه يغمص عليه ولا يحب أن يعيبه، فقال: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.
قال العباس: فنادى إلى الحبر فجئت وخرجت حتى جلست هذا المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا، زعم أنه رسول اللَّه فأخبرك أنه عمه وليس بعمه، ولكن ابن عمه، وأنا عمه وأخو أبيه، قال: أخو أبيه؟ قلت: أخو أبيه، فأقبل على أبي سفيان فقال:
صدق، قال نعم صدق، فقلت: سلني، فإن كذبت فيرده عليّ.
فقلت: نشدتك هل كانت لابن أخيك صبوة أو سفهة؟ قلت: لا، وإله عبد المطلب، ولا كذب ولا خان، وإن كان اسمه عند قريش الأمين، قال: هل كتب بيده؟ قال العباس: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه مكذّبي ورادّ عليّ، فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.
قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك، قلت: قد رأيت، فهل لك أيا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقتك، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك.
قال: لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كذا، قلت: ما تقول؟ قال: كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن اللَّه لا ينزل خيلا تطلع من كذا.
قال العباس: فلما استفتح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كذا، قلت: يا أبا سفيان! تذكر الكلمة؟ قال: إي واللَّه، إني أذكرها، والحمد للَّه الّذي هداني للإسلام.
وله من حديث إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي قال: حدثني أبي عن عمران بن الحكم عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال: خرجت أنا وأمية بن معاوية(3/374)
ابن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام، فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا، وكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاءوه وأكرموه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب نسأله؟ قلت: لا أرب لي فيه، واللَّه لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأرحل منه.
قال: فذهب وخالفه فتى من النصارى فدخل عليه فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟ قلت: لست على دينه، قال: وإن، فإنك تسمع منه عجبا وتراه، ثم قال لي الثقفيّ: أنت قلت: لا، ولكني قريشيّ، قال: فما يمنعك من الشيخ؟ فو اللَّه إنه ليحبكم ويوصي بكم، قال: وخرج من عندنا ومكث أمية حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انحذل إلى فراشه، فو اللَّه ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه [ (1) ] ، ما يكلمنا وما نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل؟ فرحلنا، فسرنا بذلك ليلتين من همه، ثم قال لي في الليلة الثالثة: ألا تحدث أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث؟ واللَّه ما رأيت مثل الّذي رجعت به من عند صاحبك، قال: أما إن ذلك شيء لست فيه، إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟ قال: على ماذا؟
قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، فضحك ثم قال: بلى واللَّه يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة وفريق النار، قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه.
قال: فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا على غوطة دمشق فبعنا متاعنا فأقمنا شهرين وارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاءوه أهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاء بعد ما انتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه، فو اللَّه ما نام ولا قام، وأصبح كئيبا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه.
__________
[ (1) ] الغبوق: شراب اللبن في المساء، والصبوح: شرابه في الصباح، والمقصود هنا كناية عن الاضطراب وعدم الاتزان.(3/375)
ثم قال: ألا نرحل؟ قلت: بلى إن شئت، فرحلنا لذلك [من بيته وحزبه] [ (1) ] ليالي ثم قال لي: يا أبا سفيان! هل لك في المسير فنقدم أصحابنا؟
فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر، قلت: ما تشاء، قال:
حدثني عن عتبة بن ربيعة، أيجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: إي واللَّه، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: أي واللَّه، قال: وكريم الطرفين وسيط في العشيرة؟
قلت: نعم، قال: فهل تعرف في قريش من هو أفضل منه؟ قلت: لا واللَّه ما أعلمه، قال: أمحوج؟ قلت: لا، بل هو ذو مالك كثير، قال: وكم أتى له من السن؟ قلت: قد زاد على المائة، قال: فالشرف والسن والمال أزرين به، قلت:
ولم ذلك يردى به؟ قال: لا واللَّه بل يزيده خيرا.
قال: هو ذاك، هل لك في المبيت؟ قلت: لي فيه، فاضطجعنا حتى مرّ الثقل، فسرنا على ناقتين نحيلتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر [ (2) ] [عن] [ (1) ] عتبة ابن ربيعة، قلت: هيا فيه، [] [ (3) ] قال: وذو مال؟ قلت: وذو مال، قال: أتعلم في قريش أسود [ (4) ] ؟ قلت: لا واللَّه ما أعلمه، قال: كم أتى له من السن؟ قلت قد زاد على المائة، قال: فإن الشرف والمال أزرين به، قلت: كلا واللَّه، ما أرى ذلك به وأنت قائل شيئا فقلته، قال: لا تذكر حديثي حتى يأتي منه ما هو آت، ثم قال: فإن الّذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت: أخبرني من هذا النبي الّذي ينتظر.
قال: هو رجل من العرب، قلت: قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو؟ قال: من أهل بيت تحجه العرب، قلت: وفينا بيت تحجه العرب؟ قال:
هو في إخوانكم من قريش، قال: فأصابني واللَّه شيء ما أصابني مثله قط، وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون إياه.
فقلت: فإذا كان فصفه لي، قال: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بدء
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ] في (خ) هيا فيه.
[ (3) ] في (خ) : تكرار من الناسخ لعبارة: «أيجتنب ... إلى ويفعل ذلك» .
[ (4) ] من السيادة.(3/376)
أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة، أكثر جنده الملائكة.
قلت: وما آية ذلك؟ قال: قد رجعت الشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثلاثين رجعة كلها مصيبة، وبقيت رجعة عامة فيها مصائب، قال أبو سفيان: فقلت له:
هذا واللَّه الباطل، لئن بعث اللَّه رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا.
قال أمية: والّذي أحلف به إن هذي لكذا يا أبا سفيان يقول: إن قول النصراني حق، هل لك في المبيت؟ قلت: لي فيه، فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كنا بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه، فإذا هو يقول:
أصاب أهل الشام بعدكم رجفة دمّرت أهلها، وأصابهم فيها مصائب عظيمة.
قال أبو سفيان: فأقبل على أمية فقال: كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان، قلت: أي واللَّه، وأظن أن ما حدّثك صاحبك حق، قال: وقدمنا مكة فقضيت ما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة، فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون ويسألون عن بضائعهم.
***(3/377)
[ثم جاءني محمد بن عبد اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] وهند عندي تلاعب صبيا لها، فسلم عليّ ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسألني عن بضاعته، ثم قام، فقلت لهند: واللَّه إن هذا ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته، فقالت: وما علمت شأنه؟ قلت: - وفزعت- ما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول اللَّه، فأيقظتني وذكرت قول النصراني ووجمت [ (2) ] حتى قالت هند:
مالك؟ فانتبهت وقلت: إن هذا لهو الباطل، هو أعقل من أن يقول هذا، قالت:
بلى، واللَّه إنه ليقول ذلك، فبوأنا عليه، وإن له لصاحبه على دينه، قلت: هذا الباطل، وخرجت، فبينا أنا أطوف بالبيت لقيته فقلت: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا، وكان فيها خير، فأرسل فخذها، ولست بآخذ منك فيها ما آخذ من قومك، فأبى عليّ وقال: إذا لا آخذها، قلت: فأرسل وخذها وأنا آخذ منك ما آخذ من قومك، فأرسل إلي بضاعته فأخذها، وأخذت منه ما كنت آخذ من قومه غيره.
ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف، فنزلت على أمية بن أبي الصلت فقلت له: أبا عثمان! هل تذكر حديث النصراني؟ قال: أذكره، قلت: قد كان، قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد اللَّه، قال: ابن عبد المطلب؟
قلت: ابن عبد المطلب، ثم قصصت عليه خبر هند، قال: فاللَّه يعلم يتصبب عرقا ثم قال: واللَّه يا أبا سفيان لعله، إنّ صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حيّ لأبلين اللَّه نصره عذرا.
قال: ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، فأقبلت حتى نزلت إلى أمية بن أبي الصلت بالطائف فقلت: يا أبا عثمان! قد كان من أمر الرجل
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين عنوان في (خ) ، إلا أنها بداية فقرة جديدة، وقد أثبتناها كما هي في (خ) .
[ (2) ] وجم: سكت على غيظ. (لسان العرب) 12/ 630.(3/378)
ما قد بلغك وسمعت، قال: قد كان لعمري، قلت: فأين أنت يا أبا عثمان عنه؟
قال: واللَّه ما كنت لأؤمن لرسول من غير ثقيف أبدا، قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة، فو اللَّه ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون ويعزفون، فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟ قال: فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة [ (1) ] .
وله من حديث الليث بن سعيد عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن معاوية ابن أبي سفيان، أن أمية بن أبي الصلت كان بعزة أو قال: بإيلياء، فلما قفلنا قال لي: يا أبا سفيان! هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث؟ قلت: نعم، ففعلنا، فقال لي: يا أبا سفيان، إيه عن عتبة بن ربيعة، قلت: إيه عن عتبة بن ربيعة، قال: كريم الطرفين، ويجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: نعم، قال: وشريف حسن، قال: السن والشرف أزريا به، فقلت له: كذبت، ما ازداد شيئا إلا ازداد شرفا، قال: يا أبا سفيان! إنها لكلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تنصرت، لا تعجل عليّ حتى أخبرك، قلت: هات.
قال إني أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن بل كنت لا أشك أني هو! فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة، فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه، قال أبو سفيان: فضرب الدهر من ضربه.
[وأوحي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية! قد خرج النبي الّذي كنت تنعته، قال: أما إنه حق فأتبعه، قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نسيات
__________
[ (1) ] نفست عليه بالشيء أنفسه نفاسة، إذا ضننت به ولم تحب أن يصل إليك. (القاموس المحيط) : 6/ 238.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين عنوان في (خ) ، إلا أنها بداية فقرة جديدة، وقد أثبتناها كما هي في (خ) .(3/379)
ثقيف، كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف، ثم قال ابن مية: فكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي، ثم يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد!.
وله من حديث ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان يهودي سكن مكة يتّجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال في مجلس: يا معشر قريش! هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قال القوم:
ما نعلمه، قال: اللَّه أكبر، أما إن أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا يا معشر قريش ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الآخر، بين كتفيه علامة فيها شعيرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذاك أن عفريتا من الجن أدخل إصبعه في فيه ومنعه من الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يعجبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منزلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا: ولد لعبد اللَّه بن عبد المطلب الليلة غلام وأسموه محمدا.
فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي وقد بلغكم مولد هذا الغلام؟
فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر فقال: اذهبوا بي حتى انظر إليه، فخرجوا به حتى دخلوا على آمنة بنت وهب فقالوا: أخرجي إلينا ابنك فأخرجته آمنة، فكشفوا له عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا له: ويلك! ما لك؟ قال: ذهبت واللَّه النبوة من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما واللَّه ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب.
وكان في النفر يومئذ هشام والوليد ابنا المغيرة، ومسافر بن أبي عمرو وعبيدة ابن الحرث بن عبد المطلب، وعتبة بن ربيعة في نفر من بني عبد مناف وغيرهم من قريش.
وله من حديث محمد بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى (عيصا) من أهل الشام، وكان متخفّرا [ (1) ] بالعاص بن وائل، وكان اللَّه قد أتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة
__________
[ (1) ] خفير القوم: مجيرهم، الّذي يكونون في ضمانه ما داموا في بلاده.(3/380)
لأهل مكة من طب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة في كل سنة فيلقي الناس ويقول: يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه فمن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته، وتاللَّه ما تركت الحمر والحمير [والأميّ] [ (1) ] ، ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه.
فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: ما جاء بعد، فيقال له:
فصفه، فيقول: لا، ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لا نبي من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يفضي إليه من الأذى يوما.
ولما كان ظهور اليوم الّذي ولد فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج عبد اللَّه بن عبد المطلب حتى أتى (عصيا) فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا (عصيا) ، فناداه:
من هذا؟ فقال: أنا عبد اللَّه، فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الّذي كنت أحدثكم عليه يوم الإثنين، ويبعث يوم الإثنين، ويموت يوم الإثنين.
قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدا، قال: واللَّه لقد كنت أشتهي أن يكون فيكم هذا المولود أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه، فقد أتى عليه منها أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمدا، انطلق إليه فإن الّذي كنت أحدثكم عنه ابنك.
قال: فما يمنعك أن تأتيني؟ ولعله لن يولد يومنا هذا مولودون عدة، قال:
قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن اللَّه يشبّه علمه على العلماء لأنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة، يظهر الوجع ثم يعافي، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد حسده أحد قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، وإن تعش حتى تبدو معالمه ثم يدعو يظهر لك من قومك ما لا يحتمله إلا على ذلّ، فاحفظ لسانك ودار عنه.
قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره أو قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتردونها من السنين، في إحدى وستين أو ثلاث وستين، أعمار جلّ أمته، قال:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .(3/381)
وحمل برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في عاشوراء المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشر ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
وله من حديث النضر بن سلمة قال: حدثنا يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده أسلم أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية أن يسرح نضلة بن معاوية الأنصاري وهو من أصحابه في ثلاثمائة فارس إلى حلوان فيغير على قراها، لعل اللَّه يفيدهم إبلا ورقيقا، فلما انتهى كتاب عمر إلى سعد دعا سعد نضلة فعقد له [لواء] [ (1) ] وقال: اخرج، فسار نضلة حتى إذا شارف حلوان فرّق أصحابه في ثلاث رساتق منها، فأغاروا فأصابوا إبلا ورقيقا وشاءا كثيرا، فانصرفوا فتبعهم المشركون، فكرّ عليهم نضلة وأصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم إن اللَّه صرف وجوه المشركين وولوا، وسار نضلة في أصحابه معهم الغنائم، وأرهق القوم صلاة العصر، فنادى نضلة أصحابه فقال لهم: سوقوا الغنائم إلى سفح الجبل وعليكم بالصلاة.
ثم نزل فأذّن فقال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، فأجابه كلام من الجبل: كبّرت كبيرا يا نضلة، فقال نضلة: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال: أخلصت للَّه إخلاصا حرمت جسدك على النار، قال: أشهد أن محمدا رسول اللَّه، قال: نبي بعث خاتم النبيين، وصاحب شفاعة يوم القيامة، قال: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قال: البقاء لأمة محمد وهو الفلاح، قال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، قال: كبّرت كبيرا، قال:
لا إله إلا اللَّه، قال أخلصت للَّه إخلاصا.
قال: فتعجب نضلة وأصحابه، فقال نضلة: من أنت يرحمك اللَّه؟ أهاتف من الجن؟ أم عبد صالح جعل اللَّه لك في هذا الجبل رزقا؟ حدثنا ما حالك؟ أرنا وجهك، قال: فانشق الجبل عن رأس كأن هامته رحى، شديد بياض الرأس واللحية، عليه ثياب الصوف، فقال: أنا زريب بن يرثلمي وصيّ العبد الصالح عيسى ابن مريم، سألته فطلب إلى ربه حين رفع، فوهب لي عمرا إلى أن يهبط عليّ. فإن لي في هذا الجبل رزقا، فأقرئ عمر بن الخطاب السلام وقل: سدّد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/382)
وقارب وأبشر، حضر الأمر ونعم العبد أنت.
ثم انسدّ الجبل فنادوا كثيرا فلا جواب، فأخبر نضلة سعدا فكتب بذلك سعد إلى عمر رضي اللَّه عنه فأجابه: يا سعد، ذاك رجل من أوصياء عيسى ابن مريم عليه السلام، أعطى فيها رزقا وعمرا فسل عنه، فركب سعد فأقام بفناء الجبل أربعين يوما فلم يجب بشيء، فكتب سعد بذلك إلى عمر رضي اللَّه عنه.
ورواه الواقدي: حدثني عبد العزيز بن عمر، حدثنا جعونة بن نضلة قال:
كنت في الجبل يوم فتح حلوان، فطلبنا المشركين في الشعب فأمعنّا فيه، فحضرت الصلاة فانتهيت إلى ماء فنزلت [عن فرسي] [ (1) ] فأخذت بعنانه، فتوضأت ثم صعدت صخرة فأذّنت، فلما قلت: اللَّه أكبر اللَّه أكبر.. فذكره.
وقد روى من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر تفرد [به] [ (2) ] عبد الرحمن الراسبي وفيه ضعف ولين.
وله من حديث إسحاق بن أبي إسحاق الشيبانيّ عن أبيه عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام عن أبيه قال: إني أجد فيما أقرأ من الكتب أنه ترفع راية بمكة، اللَّه مع صاحبها، وصاحبها مع اللَّه، يظهره اللَّه على جميع القرى.
وقال أبو محمد عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة: إعلام نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم الموجودة في كتب اللَّه المتقدمة، قول اللَّه عز وجل في السفر الأول من التوراة لإبراهيم عليه السلام:
قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وكثّرته وعظّمته جدا جدا، وسيلد اثنى عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة، ثم أخبر موسى عليه السلام مثل ذلك في السفر وزاد فقال: لما هربت من سارة تراءى لها ملك اللَّه وقال: يا هاجر أمة سارة! ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإنّي سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصوا كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه إسماعيل، لأن اللَّه قد سمع خشوعك، وتكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع. [ (3) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «عرفوسي» .
[ (2) ] في (خ) : «عنه» .
[ (3) ] (العهد القديم) : سفر التكوين، الإصحاح السادس عشر، وفيه: 7- فوجدها ملاك الرب على(3/383)
قال ابن قتيبة: فتدبّر هذا القول فإن فيه دليلا بينا على أن المراد به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، لأن إسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق، ولا كانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع، وكيف يكون ذلك والنبوة والملك في ولد إسرائيل والعيص، وهما ابنا إسحاق؟ فلما بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم انتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل، فدانت له الملوك وخضعت له الأمم، ونسخ اللَّه به كل شرعة، وختم به النبيين، وجعل الخلافة والملك في أهل بيته إلى آخر الزمان، فصارت أيديهم فوق أيدي الجميع، وأيدي الجميع مبسوطة بالخضوع، قال:
***
__________
[ () ] عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور* 8- وقال يا هاجر جارية ساراى من أين أتيت وإلى أين تذهبين. فقالت: أنا هاربة من وجه مولاتي ساراى* 9- فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يدها* 10- وقال لها ملاك الرب: تكثيرا أكثّر نسلك فلا يعد من الكثرة* 11- وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك* 12- وإنه يكون إنسانا وحشيا. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه. وأمام جميع إخوته يسكن» .(3/384)
ومن إعلامه في التوراة
قال: جاء اللَّه من سيناء، وأشرق من ساعير [ (1) ] ، واستعلن من جبال فاران [ (2) ] ، وليس بهذا خفاء على من يدبّره ولا غموض، لأن مجيء اللَّه من سيناء:
إنزاله التوراة على موسى عليه السلام بطور سيناء هو عند أهل الكتاب وعندنا، لذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح عليه السلام الإنجيل، وكان المسيح يسكن ساعير بأرض الجليل بقرية تدعى ناصرة وباسمها سمي من اتبعه نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران بإنزال القرآن على محمد صلى اللَّه عليه وسلّم في جبال فاران وهي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر من تحريفهم وإفكهم.
قلنا: ليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران، وقلنا: دلونا على الموضع الّذي استعلن اللَّه منه واسمه فاران والنبي الّذي أنزل اللَّه عليه كتابا بعد المسيح، أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد، وهما ظهر وانكشف؟ فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟
__________
[ (1) ] ساعير، سعير: كلمة عبرانية معناها «كثير الشعر» ، وهي اسم الأرض التي كان يسكنها الحواريون، ثم استولى عليها (عيسو) ونسله، وكانت تسمى أيضا جبل سعير، لأنها أرض جبلية على الجانب الشرقي من البرية العربية، ويصل ارتفاع أعلى قمة في هذه الأرض 1600 مترا، وهي قمة جبل هور.
وساعير أيضا جبل في أرض يهوذا، بين قرية يعاريم وبيت شمس، وربما كانت سلسلة الجبال التي تقع عليها قرية ساريس إلى الجنوب الغربي من قرية يعاريم، وإلى الشمال الغربي من أورشليم، ولا زالت آثار الغابات التي كانت تنمو فوقه موجودة إلى اليوم. (قاموس الكتاب المقدس) : 466- 467.
[ (2) ] جبال فاران: برية واقعة إلى جنوب جبل يهوذا وشرق برية بئر سبع وشور. (المرجع السابق) : 667.(3/385)
ومن إعلامه في التوراة أيضا
قال اللَّه لموسى في السفر الخامس: إني أقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي على فمه، فمن إخوة بني إسرائيل إلا بنو إسماعيل كما تقول بكر وتغلب أبناء وائل، ثم تقول: تغلب أخو بكر، وبنو تغلب إخوة بني بكر، ترجع في ذلك إلى إخوة الأبوين، فإن قالوا: إن هذا النبي الّذي وعد اللَّه نقيمه لهم هو أيضا من بني إسرائيل، لأن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل، كذبتهم التوراة وألد بهم النظر، لأن في التوراة أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى، وأما النظر:
فإنه لو أراد إني أقيم لهم نبيا من بني إسرائيل مثل موسى لقال: أقيم لهم من أنفسهم مثل موسى ولم يقل: من إخوتهم، كما أن رجلا لو قال لرسوله: ائتني برجل من إخوة بكر بن وائل لكان يجب أن يأتيه برجل من بني تغلب بن وائل، ولا يجب أن يأتيه برجل من بني بكر.
قال: ومن قول حبقوق [ (1) ] المتنبي في زمن دانيال قال حبقوق: وجاء اللَّه من [اليتير] [ (2) ] ، والتقديس من جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميده وتقديسه، وملك الأرض بيمينه ورقاب الأمم.
وقال أيضا: تضيء له الأرض، ومحمد خيله في البحر، قال: وزادني بعض أهل الكتاب أنه قيل في كلام حبقوق: وستنزع في قسيك إغراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، وهذا إفصاح باسمه وصفاته، فإن ادعوا غير نبينا وليس ينكر ذلك من جحودهم وتحريفهم، فمن أحمد هذا الّذي امتلأت الأرض من تحميده، والّذي جاء من جبال فاران فملك الأرض ورقاب الأمم؟ قال:
***
__________
[ (1) ] يبدو أن (حبقوق) تنبأ أثناء حكم يهويا قيم (607- 597 ق. م.) لكن من الصعب تعيين العصر بدقة، ويعتقد غالبية النقاد أن النبوة ترجع إلى زمن وقوع معركة كركميش (بين الكلدانيين والمصريين 605 ق. م.) ويعتقد آخرون أن تاريخ النبوة كان قبل تلك المعركة بزمن وجيز (قاموس الكتاب المقدس) : 288، وفيه أن حبقوق كان سبط لاوي.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه، ويتير: اسم عبري معناه «رفعه» وهي مدينة في جبال اليهودية خصصت للكهنة (المرجع السابق) : 1053.(3/386)
ومن ذكر شعيا له
قال شعيا عن اللَّه تعالى: عبدي الّذي سرت به نفسي، وفي ترجمه أخرى قال: عبدي خيرتي رضى نفسي أفيض عليه روحي، وفي ترجمة أخرى قال: أنزل عليه وحيي فيظهر في الأرض [وفي] [ (1) ] الأمم عدله، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، ويسمع الآذان الصم، ويحي القلوب الغلف، وما أعطيته لا أعطي غيره، أحمد يحمد اللَّه حمدا، حديثا يأتي من أقصى الأرض، يفرح البرية وسكانها، يهللون اللَّه على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية.
وزاد آخر في الترجمة: لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى، ولا يسمع في الأسواق صوته، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى به الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهم نور اللَّه الّذي لا يطفأ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجتي ويقطع به العذر، وإلى توراته تنقاد الجن، وهذا إيضاح باسمه وصفاته. فإن قالوا: أي توراة له؟ قلنا: أراد أنه يأتي بكتاب يقوم مقام التوراة لكم. ومنه قول كعب: شكا بيت المقدس إلى اللَّه عز وجل الخراب، فقيل له: لأبدلنّك توراة محدثة، وعمالا محدثين، يدفون بالليل دفيف النسور، ويتحنّنون عليك تحنّ الحمامة على بيضها، ويملئونك خدودا سجدا. قال ابن قتيبة:
***
__________
[ (1) ] زيادة للسياق..(3/387)
ومن ذكر شعيا له
قال: أنا اللَّه عظمتك بالحق وأيدتك، وجعلتك نور الأمم وعهد الشعوب، لتفتح أعين العميان وتنقذ الأسرى من الظلمات إلى النور، وقال في الفصل الخامس من إليا: إن سلطانه على كتفه- يريد علامة نبوته- هذا في التفسير السرياني، وأما في العبراني فإنه يقول: إن على كتفه علامة النبوة.
قال ابن قتيبة: ومن ذكر داود عليه السلام له في الزبور: سبحوا الرب تسبيحا حديثا، سبحوا الّذي هيكله الصالحون، ليفرح إسرائيل بخالقه، وبيوت صهيون من أجل أن اللَّه اصطفاه لكرامته، وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منهم بالكرامة، يسبحون على مضاجعهم، ويكبرون اللَّه بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقموا للَّه من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال، قال: فمن هذه الأمة التي سيوفها ذات شفرتين غير العرب؟ ومن المنتقم بها من الأمم الذين لا يعبدون اللَّه؟ ومن المبعوث بالسيف من الأنبياء غير نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم؟ ومن خرت الأمم تحته غيره؟ ومن قرنت شرائعه بالهيبة، فإما القبول أو الجزية أو السيف ونحوه، فقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: نصرت بالرعب.
قال: وفي مزمور آخر: أن اللَّه أظهر من صهيون إكليلا محمودا، قال:
ضرب الإكليل مثلا للرئاسة والأمانة، ومحمود هو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم. قال: وفي مزمور آخر: من صفته أنه يجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، أنه تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، ويلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين وتسجد له، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، وليخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الّذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وأنه يعطي من ذهب من بلاد سبإ، ويصلي عليه ويبارك في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد.
قال ابن قتيبة: فمن هذا الّذي ملك ما بين البحر والبحر، وما بين دجلة(3/388)
والفرات إلى منقطع الأرض، ومن ذا الّذي يصلي عليه ويبارك في كل وقت من الأنبياء غيره صلى اللَّه عليه وسلّم؟. قال: وفي موضع آخر من الزبور قال داود: اللَّهمّ ابعث صاحب إنه بشر، وهذا إخبار عن المسيح وعن محمد صلى اللَّه عليهما قبلهما بأحقاب، يريد: ابعث محمدا حتى يعلّم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أنهم سيدّعوا في المسيح ما ادّعوا.
قال: وفي كتاب أشعيا قيل: قم فانظر ترى فخبّر به، قلت: أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما للآخر: سقطت بابل وأصنامها المبخرة، قال: فصاحب الحمار عندنا وعند النصارى المسيح، فإذا كان صاحب الحمار المسيح فلم لا يكون محمد صلى اللَّه عليه وسلّم صاحب الجمل؟ أو ليس سقوط بابل والأصنام المبخرة به وعلى يديه لا بالمسيح؟ ولم يزل في إقليم بابل ملوك يعبدون الأوثان من لدن إبراهيم عليه السلام؟ أو ليس هو بركوب الجمل أشهر من المسيح بركوب الحمار؟.
قال ابن قتيبة: فأما ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في الإنجيل: فقد قال المسيح للحواريين:
أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط [ (1) ] روح الحق الّذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له وهو يشهد عليّ وأنتم تشهدون، لأنكم مع من قتل الناس، فكل شيء أعده اللَّه لكم يخبركم به. قال:
***
__________
[ (1) ] في بعض كتب النصارى: «البارقليط»(3/389)
وفي حكاية يوحنا عن المسيح
أنه قال: الفارقليط لا يجيئك ما لم أذهب، فإذا جاء سبح العالم من الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه مما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب.
وفي حكاية أخرى: أن الفارقليط [ (1) ] روح الحق الّذي يرسله أبي باسمي هو يعلمكم كل شيء، وقال: إني سائل أبي أن يبعث إليكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلمكم كل شيء.
وفي حكاية أخرى: أن البشر ذاهب والفارقليط من بعده، يجيء لكم الأسرار ويقر لكم [كل] شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإنّي أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل.
قال ابن قتيبة: وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة، وإنما اختلفت لأن من نقل الإنجيل عن المسيح عليه السلام عدة، فمن هذا الّذي هو روح الحق سبحانه، الّذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه؟ ومن العاقب للمسيح والشاهد له بأنه قد بلّغ؟
ومن الّذي أخبر بالحوادث في الأزمنة مثل خروج الدجال، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه هذا؟ وأخبر بالغيوب من أمر القيامة والحساب، والجنة والنار، وأشباه ذلك مما لم يذكر في التوراة والإنجيل غير نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم؟ وقال:
***
__________
[ (1) ] في بعض كتب النصارى: «البارقليط»(3/390)
وفي إنجيل متى
أنه لما حبس يحيى بن زكريا ليقتل، وبعث تلاميذه إلى المسيح وقال لهم: قولوا له: أنت هو الآتي، أو يتوقع غيرك؟ فأجابه المسيح وقال: الحق أقول لكم، أنه لم تقم النساء عن أفضل من يحيى بن زكريا، وأن التوراة وكتب الأنبياء يتلو بعضها بعضا بالنّبوّة والوحي حتى جاء يحيى، فأما الآن فإن شئتم فأقبلوا أن الياهو مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليستمع.
قال ابن قتيبة: وليس يخلو هذا الاسم من إحدى خلال: إما أن يكون قال:
إن أحمد مزمع أن يأتي، فغيروا الاسم كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [ (1) ] ، وجعلوه إلياهو، وإما أن يكون قال: إن إيل مزمع أن يأتي، وإيل هو اللَّه عز وجل، ومجيء اللَّه مجيء رسوله بكتابه، كما قال في التوراة: جاء اللَّه من سيناء، فمعناه: جاء موسى من سيناء بكتاب اللَّه، ولم يأت كتاب بعد المسيح إلا القرآن، وإما أن يكون أراد النبي المسمى بهذا الاسم، وهذا لا يجوز عندهم لأنهم مجمعون على أن لا نبي بعد المسيح.
قال ابن قتيبة: وقد وقع ذكر مكة والبيت والحرم في الكتب المتقدمة فقال في كتاب شعيا: أنه ستمتلي البادية والمدن من قصور قيدار يسبحون، ومن رءوس الجبال ينادون، هم الذين يحصلون للَّه الكرامة، ويبثون تسبيحه في البر والبحر، وقال: ارفع علما بجميع الأمم من بعيد، فيصفر بهم من أقاصي الأرض، فإذا هم سراع يأتون.
قال ابن قتيبة: وبنو قيدار هم العرب، لأن قيدار بن إسماعيل بإجماع الناس، والعلم الّذي يرفع هو النبوة، والصفير بهم: دعاؤهم من أقاصي الأرض للحج، فإذا هم سراع يأتون، وهو قول اللَّه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [ (2) ] ، وقال في موضع آخر من كتاب
__________
[ (1) ] 13: المائدة.
[ (2) ] 27: الحج.(3/391)
شعيا: سأبعث من الصبا قوما فيأتون من المشرق مجيبين بالتلبية أفواجا، كالصعيد كثرة، ومثل الطيان تدوس برجله الطين، والصبا تأتي من مطلع الشمس، يبعث عز وجل من هناك قوما من أهل خراسان وما صاقبها، وممن هو نازل بمهب الصبا فيأتون مجيبين بالتلبية أفواجا كالتراب كثرة ومثل الطيان يدوس برجله الطين، يريد أن منهم رجاله كالين، وقد يجوز أن يكون أراد الهرولة إذا طافوا بالبيت.
قال ابن قتيبة: وقال في ذكر الحجر المسلم: قال شعيا: قال الرب السيد:
ها أنا ذا مؤسس بصهيون، وهو بيت اللَّه حجرا في زاوية مكة، والحجر في زاوية البيت، والكرامة أن يستلم ويلثم.
وقال شعيا في ذكر مكة: سرّى واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد، وانطقي بالتسبيح وافرحي إن لم تحبلي، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي، يعني بأهله:
أهل بيت المقدس من بني إسرائيل، [أو] أراد أن أهل مكة يكون ممن يأتيهم من الحجاج والعمار أكثر من أهل بيت المقدس، فأشبه مكة بامرأة عاقر لم تلد، لأنه لم يكن فيها قبل نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم إلا إسماعيل وحده، ولم ينزل بها كتاب، ولا يجوز أن يكون أراد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت الأنبياء ومهبط الوحي، ولا يشبه بالعاقر من النساء.
وفي كتاب شعيا أيضا من ذكر مكة: قد أقسمت بنفسي كقسمي أيام نوح ألا أغرق الأرض بالطوفان كذلك أقسمت أن لا أسخط عليك ولا أرفضك، وأن الجبال تزول، والقلاع تنحط، ونعمتي عليك لا تزول، ثم قال: يا مسكينة يا مضطهدة، ها أنا ذا بان، بالحسن حجارتك ومزينك بالجوهر، ومكلل باللؤلؤ سقفك، وبالزبرجد أبوابك، وتبعدين من الظلم ولا تخافين، ومن الضعف لا تضعفي، وكل سلاح يصنع لا يعمل فيك، وكل لسان ولغة يقوم معك بالخصومة تفلحين معها.
ثم قال: وسيسميك اللَّه اسما جديدا- يريد أنه سمى المسجد الحرام وكان قبل ذلك يسمى الكعبة- فقومي فأشرقي، فإنه قد دنا نورك ووقار اللَّه عليك، انظري بعينك حولك، فإنهم مجتمعون، يأتوك بنوك وبناتك عدوا، فحينئذ تسرين(3/392)
ويخاف قدرك ويتبع قلبك، وكل غنم قيدار مجتمع إليك، وسادات نباوث يخدمونك (ونباوث هو ابن إسماعيل، وقيدار أبو النبي صلى اللَّه عليه وسلّم هو أخو نباوث) .
ثم قال: وتفتح أبوابك دائما الليل والنهار لا تغلق، وتتخذونك قبلة، وتدعون بعد ذلك مدينة الرب (أي بيت اللَّه تعالى) .
وقال أيضا: ارفعي إلى ما حولك بصرك تبتهجين وتفرحين من أجل أنه تميل إليك ذخائر البحر، ويحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك قطر الإبل الموبلة، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبإ، ويسير إليك بأغنام قاذار، ويخدمك رجالات نباوث (يعني سدنة البيت، أنهم من ولد نباوث بن إسماعيل) . قال ابن قتيبة:
***(3/393)
وذكر شعيا طريق مكة فقال:
عن اللَّه عز وجل: أني أعطي البادية كرامة وبها الكرمان، ولبنان وكرمان الشام وبيت المقدس، يعني أريد الكرامة التي كانت هناك بالوحي وظهور الأنبياء للبادية بالحج وبالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، ويشق في البادية مياه وسواقي أرض الفلاة، ويكون الفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياها، ويصير هناك محجة فطريق الحريم لا يمر به أنجاس الأمم، والجاهل به لا يصل هناك، ولا يكون به سباع ولا أسد، ويكون هناك ممر المخلصين.
وفي كتاب حزقيل أنه ذكر معاصي بني إسرائيل وشبههم بكرمة فقال: ما تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة، ورمى بها على الأرض فأحرقت السمائم ثمارها، فعند ذلك عرشها في البدو، وفي الأرض المهملة العطش، فخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت ثمار تلك حتى لم يوجد فيها عصى قوية ولا قضيب.
قال ابن قتيبة: وذكر الحرم في كتاب شعيا فقال: إن الذئب والحمل فيه يرعيان معا، وكذلك جميع السباع لا تؤذي ولا تفسد في كل حرمي، ثم ترى بذلك الوحش إذا خرجت من الحرم عاودت الذعر وهربت من السباع، وكان السبع في الطلب والحرص في الصيد كما كان قبل دخوله الحرم.
قال: وذكر أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وذكر يوم بدر فقال شعيا وذكر قصة العرب ويوم بدر: ويدوسون الأمم كدياس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب ويهزمون، ثم قال: ينهزمون بين يدي سيوف مسلولة، وقسيّ موتورة، ومن شدة الملحمة.
قال ابن قتيبة: فهذا ما في كتب اللَّه المتقدمة الباقية في أيدي أهل الكتاب، يتلونه ولا يجحدون ظاهره، ما خلا اسم نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فإنّهم لا يسمحون بالإقرار به تصريحا، ولن يخفى ذلك عنهم، لأن اسم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالسريانية عندهم مشفح، ومشفح هو محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون شفحا لإلاهيا إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد للَّه.(3/394)
فإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد، لأن الصفات التي أقروا أنها هي وفاق لأحواله وزمانه ومخرجه ومبعثه وشرعته فليدلونا على من له هذه الصفات، ومن خرت الأمم بين يديه وانقادت لطاعته، واستجابت لدعوته، ومن صاحب الجمل الّذي هلكت بابل وأصنامها به، وأن هذه الأمة من ولد قيدار بن إسماعيل الذين ينادون من رءوس الجبال بالتلبية والأذان، والذين نشروا تسبيحه في البر والبحر، هيهات أن يجدوا ذلك إلا في محمد وأمته.
قال ابن قتيبة: ولو لم تكن هذه الأخبار في كتبهم بدليل قوله تعالى الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [ (1) ] ، وقوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ (2) ] ، وقوله: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [ (3) ] ، وقوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [ (4) ] ، وكيف جاز لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن يحتج عليهم بما ليس عندهم ويقول: من علامة نبوتي أنكم تجدوني مكتوبا عندكم، ولا تجدونه وقد كان عيبا أن يدعوهم بما ينفرهم، ولما أيقن الحال عبد اللَّه بن سلام ومن أسلم أسلموا.
وقد ذكر يوحنا الإلهي الّذي كتب الإنجيل في كتاب اسمه الأبو علمسيس نبينا محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم وسماه: ماما ديوس، ومعنى ماما بالعبرية ميم، ومعنى ديوس ح م د، وقال ابن الجوزي: وما زال أهل الكتاب يعرفون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بصفاته ويقرون به ويعدون بظهوره، ويوصون أهاليهم بالايمان به، فلما ظهر آمن عقلاؤهم، وحمل الحسد آخرين على العناد كحيي بن أخطب، وأبو عامر الراهب، وأمية بن أبي الصلت، وقد أسلم جماعة من علماء متأخري أهل الكتاب، وصنفوا كتبا يذكرون فيها صفاته التي في التوراة والإنجيل، فالعجب ممن يتيقن وجود الحق ثم يحمله الحسد على الرضا بالخلود في النار.
***
__________
[ (1) ] 157: الأعراف.
[ (2) ] 70- 71: آل عمران.
[ (3) ] 146: البقرة.
[ (4) ] 43: الرعد.(3/395)
وأما سماع الأخبار بنبوّته من الجنّ وأجواف الأصنام ومن الكهّان
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث عبيد اللَّه بن عمرو بن محمد بن عقيل عن جابر رضي اللَّه عنه قال: أول خبر قدم المدينة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع فجاء في صورة طائر فوقع على حائط [ (1) ] دارها فقالت:
انزل بخبرنا وبخبرك، قال: إنه بعث بمكة نبي منع منا القرار وحرم علينا الزنا [ (2) ] .
وخرج من حديث الزهري عن علي بن الحسين قال: إن أول خبر قدم المدينة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من امرأة تدعى فاطمة بنت النعمان النجارية كان لها تابع فجاءها ذات يوم فقام على الجدار، فقالت: انزل، قال: لا، قد بعث الرسول الّذي حرم الزنا.
ومن حديث أشعث بن شعبة عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول:
كانت امرأة بالمدينة يغشاها جان، فكان يتكلم ويسمعون صوته، قال: فغاب [ (3) ] فلبث ما لبث فلم يأتها ولم يختلف إليها، فلما كان بعد إذ هو يطلع من كوة فنظرت إليه فقالت: يا ابن لوذان! ما كانت لك عادة تطلع من الكوة فما بالك؟ فقال:
إنه خرج نبي بمكة وإني سمعت ما جاء به فإذا هو يحرم الزنا، فعليك السلام [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «الحائط لهم» ، «ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك وتخبرنا ونخبرك؟ قال لها:
إنه قد بعث نبيّ بمكة حرم الزنا ومنع منا القرار» .
[ (2) ] المرجع السابق: 1/ 107، حديث رقم (56) ، أخرجه ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 189، وأحمد، والطبراني في الأوسط، والبيهقي، كلهم عن جابر، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 243: ورجاله وثقوا.
[ (3) ] ف (خ) : «فغاب بعد» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 107، حديث رقم (57) ، قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 285:
أخرجه أبو نعيم عن أرطاة بن المنذر(3/396)
ومن حديث الواقدي قال: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه: خرجنا في عير إلي الشام قبل [ (1) ] مبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما كنا بأفواه الشام وبها كاهنة، فتعرضنا لها فقالت: أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى ذلك، خرج أحمد بمكة [ (2) ] يدعو إلى اللَّه [ (3) ] .
قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد اللَّه عن الزهري قال: كان الوحي يسمع، فلما كان الإسلام منعوا، وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيدة، لها تابع من الجن، فلما رأى الوحي لا يستطاع أتاها فدخل في صدرها يصيح فذهب عقلها، فجعل يقول من صدرها: وضع العناق [ (4) ] ، ورفع الرفاق [ (5) ] ، وجاء أمر لا يطاق، أحمد حرم الزنا.
قال الواقدي: وحدثنا أبو داود سليمان بن سالم عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي، أن رجلا مر على مجلس بالمدينة فيه عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه فنظر إليه فقال: أكاهن أنت؟ قال: يا أمير المؤمنين! هدي بالإسلام كل جاهل، ودفع بالحق كل باطل، وأقيم بالقرآن كل مائل، وغني بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم كل عائل، فقال عمر: متى عهدك بها؟ - يعني صاحبته- قال: قبيل الإسلام، أتتني فصرخت: يا سلام يا سلام، الحق المبين والخير الدائم، خير حلم النائم، اللَّه أكبر.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين! أنا أحدثك مثل هذا، واللَّه إنا لنسير في «دويّة» [ (6) ] ملساء لا يسمع فيها إلا الصدى، إذ نظرنا فإذا راكب مقبل أسرع
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «قبل أن يبعث» .
[ (2) ] في المرجع السابق: «خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق، ثم انصرفت فرجعت إلى مكة، فوجدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج بمكة يدعو إلى اللَّه عزّ وجلّ» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 1/ 108، حديث رقم (58) ، قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 258:
أخرجه أبو نعيم، وفيه الواقدي، وهو متروك.
[ (4) ] العناق: الكذب الفاحش. (القاموس المحيط) : 10/ 276.
[ (5) ] الرفاق: النزع إلى الهوى (المرجع السابق) : 10/ 119.
[ (6) ] في (خ) : «دواية» . والدوية مؤنث الدّوّ، وهو الفلاة الواسعة، أو المستوية من الأرض. (المرجع السابق) : 14/ 276.(3/397)
من الفرس حتى كان منا على قدر ما يسمعنا صوته، قال: يا أحمد، يا أحمد، اللَّه أعلى وأمجد، أتاك ما وعدك من الخير يا أحمد، ثم ضرب راحلته حتى أتى من ورائنا، فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: الحمد للَّه الّذي هدانا بالإسلام وأكرمنا.
فقال رجل من الأنصار: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين مثل هذا وأعجب، قال عمر: حدّث، قال: انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام حتى إذا كنا بقفرة من الأرض نزلنا بها، فبينا نحن كذلك لحقنا راكب وكنا أربعة قد أصابنا سغب [ (1) ] شديد فالتفت فإذا أنا بظبية عضباء [ (2) ] ترتع قريبا مني، فوثبت إليها، فقال الرجل الّذي لحقنا: خلّ سبيلها لا أبا لك، واللَّه لقد رأيتها ونحن نسلك هذه الطرق ونحن عشرة أو أكثر من ذلك فيختطف بعضنا فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما هاج بها أحد فأبيت وقلت: لا لعمر اللَّه لا أخلها، فارتحلنا وقد شددتها حتى إذا ذهب سدف [ (3) ] من الليل إذا هاتف يقول:
يا أيها الركب السراع الأربعه ... خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعه ... لا تذبحن الظبية المروّعه
فيها لأيتام صغار منفعة
قال: فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام، فقضينا حوائجنا ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الّذي كنا فيه هتف هاتف من خلفنا:
إياك لا تعجل وخذها من ثقه ... فإن شر السير سير الحقحقة [ (4) ]
قد لاح نجم فأضاء مشرقه ... يخرج من ظلماء ضوق [ (5) ] موبقة [ (6) ]
ذاك رسول مفلح من صدّقه ... اللَّه أعلا أمره وحققه
__________
[ (1) ] السّغب: الجوع الشديد، وفي التنزيل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد: 14] .
[ (2) ] قال الزمخشريّ: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء: أي قصيرة اليد.
[ (3) ] السدف: ظلمة الليل، وهو بعد الجنح. (القاموس المحيط) : 19/ 146.
[ (4) ] الحقحقة: سير الليل في أوله، وقد نهي عنه (المرجع السابق) : 10/ 58.
[ (5) ] ضوق من الضيقة، وهي منزلة للقمر، وهو مكان نحس على ما تزعم العرب (المرجع السابق) :
10/ 209.
[ (6) ] موبقة: مهلكة: (المرجع السابق) : 10/ 370.(3/398)
وله من حديث القسم بن محمد بن بكر عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها:
أنها كانت تحدث عن عمر بن الخطاب، ومن حديث محمد بن عمران بن موسى ابن طلحة، عن أبيه طلحة قال: كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه يحدث قال: كنت جالسا مع أبي جهل وشيبة بن ربيعة، فقام أبو جهل فقال: يا معشر قريش! إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفه أحلامكم وزعم أنه من مضى من آبائكم يتهافتون في النار تهافت الحمير، ألا ومن قتل محمدا فله عليّ مائة ناقة حمراء وسوداء، وألف أوقية من فضة.
قال عمر فقمت فقلت: يا أبا الحكم، الضمان صحيح؟ قال: نعم، عاجل غير آجل، قال عمر: فقلت: واللات والعزى؟ قال أبو جهل: نعم يا عمر فأخذ أبو جهل بيدي فأدخلني الكعبة، فأشهد عليّ هبل- وكان هبل عظيم أصنامهم- وكانوا إذا أرادوا سفرا أو حربا أو سلما أو نكاحا، لم يفعلوا حتى حتى يأتوا هبل فيستأمروا، فأشهد عليه هبل وتلك الأصنام. قال عمر: فخرجت متقلدا السيف متنكبا [ (1) ] كنانتي أريد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فمررت على عجل وهم يريدون قتله، فقمت انظر إليهم فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه! فقلت إن هذا لشأن! ما يراد بهذا إلا لحالي، ثم مررت بغنم فإذا هاتف [يهتف وهو يقول] [ (2) ] :
يا أيها الناس ذوو [ (3) ] الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو [ (4) ] الحكم إلى الأصنام ... فكلكم أراه كالنعام
أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو لذي الظلام
أكرمه الرحمن من إمام ... قد جاء بعد الكفر بالإسلام
__________
[ (1) ] في (خ) : «كانتي» ، والكنانة: بالكسر كنانة السهام، جعبة من جلد. (ترتيب القاموس) :
4/ 91.
[ (2) ] السياق مضطرب في (خ) ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] في (خ) : «ذوي» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.
[ (4) ] في (خ) : «ومسند» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.(3/399)
وبالصلاة والزكاة والصيام ... والبر والصلوات للأرحام
ويزع [ (1) ] الناس عن الآثام ... [مستعلن في البلد الحرام] [ (2) ]
فقلت: واللَّه ما أراه إلا أن يرادني، ثم مررت بهاتف الضماد [ (3) ] وهو يهتف من جوفه فقال:
ترك الضماد [ (3) ] وكان يعبد وحده ... بعد الصلاة مع النبي محمد
إن الّذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد
سيقول من عبد الضماد ومثله ... ليت الضماد [ (3) ] ومثله لم يعبد
فاصبر أبا حفص فإنك لا مردّ ... يأتيك عزّ غير عزّ بني عدي
لا تعجلن فأنت ناصر دينه ... حقا يقينا باللسان وباليد
وتظهر دين اللَّه إن كنت مسلما ... وتسطح بالسيف الصقيل المهنّد
جماجم قوم لا يزال حلومها ... عكوفا على أصنامها بالمهنّد
قال عمر: فو اللَّه لقد علمت أنه أرادني، فجئت حتى دخلت على أختي، وإذا خبّاب بن الأرتّ عندها، وزوجها سعيد بن زيد، فلما رأوني ومعي السيف
__________
[ (1) ] في (خ) : «ويزعر» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.
[ (2) ] هذا العجز من (المرجع السابق) : 17/ 117، وهي مذكورة عقب قصة أخرى في الحديث رقم (64) ، وهي: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا المنجاب قال: حدثنا أبو عامر الأسدي عن ابن خرّبوذ المكيّ عن رجل من خثعم قال: كانت العرب لا تحرّم حلالا، ولا تحلّ حراما، وكانوا يعبدون الأوثان، ويتحاكمون إليها، فبينا نحن ذات ليلة عند وثن جلوس وقد تقاضينا إليه في شيء قد وقع بيننا أن يفرق بيننا، إذ هتف هاتف وهو يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو الحكم إلى الأصنام ... هذا نبيّ سيد الأنام
أعدل في الحكم من الحكام ... يصدع بالنور وبالإسلام
ويزع الناس عن الآثام ... مستعلن في البلد الحرام
قال: ففزعنا وتفرقنا من عنده، وصار ذلك الشعر حديثا، حتى بلغنا أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قد خرج بمكة، ثم قدم المدينة، فجئت فأسلمت.
قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 265: وأخرجه الخرائطي وابن عساكر.
[ (3) ] الضماد: كما في (القاموس) ، (أساس البلاغة) ، (اللسان) : هو أن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط، لتأكل عند هذا وهذا لتشبع، ولم أدر المقصود بها في سياق الباب، ولعله اسم لصنم كان يعبد من دون اللَّه قبل بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.(3/400)
أنكروا، فقلت لهم: لا بأس عليكم، فدخلت، فقال خباب: يا عمر! ويحك أسلم، فدعوت بالماء فأسبغت الوضوء، وسألتهم عن محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: في دار أرقم بن الأرقم، فأتيتهم فضربت عليهم الباب، فخرج حمزة بن عبد المطلب، فلما رآني والسيف صاح بي- وكان رجلا عبوبا [ (1) ]- فصحت به،
فخرج إليّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما رآني ورأى ما في وجهي عرف فقال: استجيب لي فيك يا عمر! أسلم،
[فقلت] : أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فسر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون، وكنت رابع أربعين رجلا ممن أسلم، ونزلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] ، فقلت: يا نبي اللَّه! اخرج، فو اللَّه لا يغلبنا المشركون أبدا، فخرجنا وكبّرنا حتى طاف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ورجعت معه، فلم أزل أقاتل واحدا واحدا حتى أظهر اللَّه الدين.
وله من حديث الواقدي عن ابن ذؤيب عن مسلم عن جندب عن النضر بن سفيان الهذلي عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقاء ومعان عرّسنا من الليل، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض:
أيها [النيام] [ (3) ] هبّوا فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد وطردت الجنّ كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزاورة [ (4) ] كلهم قد سمع بهذا، فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش لنبي خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد [ (5) ] .
وله من حديث خرّبوذ عن موسى بن عبد الملك بن عمير عن أبيه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: هتف هاتف من الجن على أبي قبيس [ (6) ] بمكة فقال:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، ولعلها «عبعابا» وهي صفة للرجل إذا كان واسع الحلق والجوف، جليل الكلام.
(لسان العرب) : 1/ 575.
[ (2) ] الأنفال: 64.
[ (3) ] في (خ) : «النيا» .
[ (4) ] جمع حزوّر، وهو الغلام إذا اشتدّ وقوى. (لسان العرب) : 4/ 187.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 108، حديث رقم (59) ، قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 259:
أخرجه ابن سعد: 1/ 161، وأبو نعيم وابن عساكر.
[ (6) ] جبل بمكة.(3/401)
قبّح اللَّه رأي كعب بن فهر ... ما أرق العقول والأحلام
دينها أنها يعنّف فيها ... دين آبائها الحماة الكرام
حالف الجن حين يقضى [ (1) ] عليكم ... ورجال النخيل والآطام
يوشك الخيل أن تراها [ (2) ] تهادى ... تقتل القوم في بلاد التهام [ (3) ]
هل كريم منكم له نفس حرّ ... ما جد الوالدين والأعمام؟
ضارب ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة واغتمام
قال [ابن عباس] [ (4) ] : فأصبح هذا الحديث قد شاع بمكة وأصبح [ (5) ] المشركون يتناشدونه بينهم، وهمّوا بالمؤمنين، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له: مسعر واللَّه يخزيه، قال: فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا مسعرا ... لما طغى واستكبرا
وسفه الحق وسنّ المنكرا ... قنّعته سيفا جروفا مبتّرا
بشتمه نبيّنا المطهّرا
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ذلكم عفريت من الجن يقال له سمحج سميته عبد اللَّه، آمن بي فأخبرني أنه في طلبه منذ أيام، فقال علي بن أبي طالب: جزاك اللَّه خيرا يا رسول اللَّه [ (6) ] .
وروى من حديث ابن شهاب وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمعا كلاهما حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف قال: لما ظهر
__________
[ (1) ] في (خ) : «بصرى» .
[ (2) ] في (خ) : «تردها» .
[ (3) ] في (الخصائص) : 1/ 261: «في البلاد العظام» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] في المرجع السابق: «فأصبح» .
[ (6) ] (المرجع السابق) : 1/ 109- 110، حديث رقم (60) ، قال السيوطي في (الخصائص) :
1/ 261: ذكره أبو نعيم عن ابن عباس، ثم قال: وأخرج الفاكهي في (أخبار مكة) من حديث ابن عباس عن عامر بن ربيعة، فذكر مثله، وفيه موسى بن عبد الملك بن عمير، ضعّفه أبو حاتم، وذكره البخاري في كتاب (الضعفاء) .(3/402)
- أي رسول اللَّه- صلى اللَّه عليه وسلّم قام رجل من الجن على أبي قبيس يقال له مسعر فقال:
قبّح اللَّه رأي كعب بن فهر ... ما أرقّ العقول والأحلاما
حالف الجن حين [يقضي] عليكم ... ورجال النخيل والآطاما
هل غلام منكم له نفس حرّ ... ما جد الوالدين والأعماما
فأصبحت قريش يتناشدونه بينهم، [فإذا رجل من الجن يقال له سمحج يقول:] [ (1) ]
نحن قتلنا مسعرا لما طغى واستكبرا ... بشتمه نبينا المطهرا
أوردته سيفا جروفا مبترا ... إنا نذود من أراد البطرا
فسماه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه.
ومن حديث ابن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال:
قال خزيم بن [ (2) ] فاتك لعمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه ألا أخبرك ببدء [ (3) ] إسلامي؟ بينا أنا في طلب نعم لي إذ جنّ الليل بأبرق العزاف [ (4) ] ، فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهائه، وإذا هاتف يهتف بي:
عذ يا فتى باللَّه ذي الجلال ... والمجد والنّعماء والإفضال
[واقرأ بآيات] [ (5) ] من الأنفال ... ووحد اللَّه ولا [تبال] [ (6) ]
[قال:] [ (7) ] فرعت من ذلك روعا شديدا، فلما رجعت إلى نفسي قلت:
يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل
بين لنا هديت ما السبيل [ (8) ]
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق حيث أن السياق مضطرب في (خ) .
[ (2) ] في (خ) : «خزيم فاتك» ، في (المستدرك) : «خريم» .
[ (3) ] في (خ) : «بيدو» .
[ (4) ] ماء لبني أسد.
[ (5) ] في (خ) : «واقتن آيات» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في (خ) : «تبالي» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.
[ (7) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (8) ] في المرجع السابق: «ما العويل» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.(3/403)
قال: فقال:
هذا رسول اللَّه ذو الخيرات ... يدعو إلى الخيرات والنجاة
يأمر بالصوم والصلاة ... ويزع الناس عن الهنات
قال فأتبعت راحلتي وقلت:
أرشدني رشدا بها هديت ... لا جعت يا هذا ولا عريت
ولا صبحت صاحبا مقيت ... لا يثوينّ الخير إن ثويت [ (1) ]
قال: فأتبعني وهو يقول:
صاحبك اللَّه وسلم نفسكا ... وبلغ الأهل [وسلّم] [ (2) ] رحلكا
آمن به أفلح ربي حقكا ... وانصر نبيا عزّ ربي نصركا
قال: فدخلت المدينة فاطلعت في المسجد، فخرج إليّ أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه فقال: ادخل رحمك اللَّه، قد بلغنا إسلامك، فقلت: لا أحسن الطهور فعلّمت ودخلت المسجد،
ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على المنبر كأنه البدر وهو يقول: ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى صلاة يعقلها ويحفظها إلا دخل الجنة.
فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه لتأتيني على هذا ببينة أو لأنكلنّ بك، قال: فشهد له شيوخ [ (3) ] قريش عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه فأجاز شهادته [ (4) ] .
***
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «هديتا» ، «عريتا» ، «مقيتا» ، «ثويتا» .
[ (2) ] في (خ) : «وأدى» .
[ (3) ] في (مجمع الزوائد) : 8/ 262: «شيخ من قريش» .
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 110- 111، حديث رقم (61) ، قال في (الخصائص) :
2/ 188: أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 720- 721، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر خريم ابن فاتك الأسدي رضي اللَّه عنه، حديث رقم (6606/ 2204) ، (6607/ 2205) ، وساق الحديث باختلاف يسير ... إلى أن قال: فإذا هاتف يهتف بي ويقول:(3/404)
__________
[ () ]
ويحك عذ باللَّه ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال
ووحّد اللَّه ولا تبال ... ما هو ذو الحزم من الأهوال
إذ يذكروا اللَّه على الأميال ... وفي سهول الأرض والجبال
وما وكيل الحق في سفال ... إلا التقى وصالح الأعمال
قال: فقلت:
يا أيها الداعي بما يحيل ... رشد يرى عندك أم تضليل؟
فقال:
هذا رسول اللَّه ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
في سور بعد مفصلات ... محرمات محلات
يأمر بالصوم والصلاة ... ويزجر الناس عن الهنات
قد كنّ في الأيام منكرات
قال: فقلت من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا مالك بن مالك، بعثني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من أرض أهل نجده، قال: فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أؤمن به، فقال: أنا أكفيكها حتى أؤديها إلى أهلك سالمة إن شاء اللَّه تعالى، فاعتقلت بعيرا منها ثم أتيت المدينة فوافقت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة، فقلت: يقضون صلاتهم ثم أدخل فإنّي لذاهب أنيخ راحلتي إذ
خرج أبو ذر رضي اللَّه تعالى عنه فقال: يقول لك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أدخل، فدخلت، فلما رآني قال: ما فعل الشيخ الّذي ضمن لك أن يؤدي إبلك إلى أهلك سالمة؟ أما أنه قد أدّاها إلى أهلك سالمة، قلت:
رحمه اللَّه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أجل رحمه اللَّه،
قال خريم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحسن إسلامه.
قال الذهبي في التخليص: «لا يصح» .(3/405)
[المجلد الرابع]
[تتمة الفصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
ومن حديث محمد بن كعب القرظيّ قال:
بينا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في المسجد إذ مرّ رجل في مؤخر المسجد فقال رجل: يا أمير المؤمنين، تعرف هذا المار؟ قال: لا، فمن هو؟ قال: هذا سواد بن قارب، وهو رجل من أهل اليمن له فيهم شرف وموضع، وهو الّذي أتاه رئيّه [ (1) ] بظهور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال [عمر] [ (2) ] :
عليّ به، فدعي، فقال [ (3) ] : أنت سواد بن قارب، قال: نعم، قال: فأنت [ (4) ] الّذي أتاك رئيّك بظهور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟ فغضب غضبا شديدا وقال: يا أمير المؤمنين! ما استقبلني أحد [ (5) ] بهذا منذ أسلمت، فقال عمر رضي اللَّه عنه: يا سبحان اللَّه! واللَّه ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني بإتيانك [ (6) ] رئيك بظهور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: نعم.
يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتانى رئيّي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فافهم [ (7) ] واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤيّ بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتجساسها [ (8) ] ... وشدها العيس [ (9) ] بأحلاسها [ (10) ]
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها [ (11) ]
__________
[ (1) ] الرَّئّيّ والرِّئّيّ: الجنّي يراه الإنسان، وقال اللحيانيّ: له رئيّ من الجن ورئيّ إذا كان يحبه ويؤالفه.
الليث: الرّئّي: جنّي يتعرض الرجل يريه كهانة وطبا. (لسان العرب) : 14/ 297.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] في (خ) : «قال» .
[ (4) ] في (خ) : «أنت» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «بهذا أحد» .
[ (6) ] في (خ) : «بإتيان» .
[ (7) ] في (خ) : «وافهم» .
[ (8) ] في (الفتح) 7/ 229: «وتحساسها» ، بفتح المثناة وبمهملات، أي أنها فقدت أمرا، فشرعت تفتش عليه.
[ (9) ] العيس: الإبل البيض، يخالط بياضها سواد خفيف.
[ (10) ] الأحلاس: جمع حلس، وهو كل ما يوضع على ظهر الدابة.
[ (11) ] في (فتح الباري) : 7/ 229: «ما مؤمنوها مثل أرجاسها» .(4/3)
فارحل [ (1) ] إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: فلم أرفع بقوله رأسا وقلت: دعني أنام [ (2) ] ، فإنّي أمسيت ناعسا، فلما أن كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب:
قم فافهم واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤيّ بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته، ثم أنشأ الجنّي وهو يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدّها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذّابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها [ (3) ] كأذنابها
قال: فلم أرفع بقوله رأسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب: افهم واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول من لؤيّ بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته، ثم أنشد [ (4) ] الجني يقول:
عجبت للجن وأخبارها ... وشدها العيس بأكوارها [ (5) ]
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو [ (6) ] الجن ككفارها
فادخل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها [ (7) ] وأحجارها
فوقع في نفسي حب الإسلام، ورغبت فيه، فلما أصبحت شددت على راحلتي فانطلقت متوجها إلى مكة، فلما كنت ببعض الطريق أخبرت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، فأتيت المدينة فسألت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقيل لي: في المسجد، فانتهيت إلى المسجد فعقلت ناقتي وإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والناس حوله، فقلت: اسمع مقالتي يا رسول اللَّه، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ادنه ادنه، فلم يزل بي حتى صرت بين يديه فقال: هات، فأخبرني بإتيانك رئيّك، فقلت:
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «فاسم» .
[ (2) ] في (خ) : «أنم» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) ، وفي (الخصائص) : «قدّامها» .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أنشأ» .
[ (5) ] أكوار: جمع كور، وهو ما يوضع على ظهر الدابة.
[ (6) ] في (خ) : «مؤمن» ، وما أثبتناه من «دلائل أبي نعيم» ، وهو حق اللغة.
[ (7) ] الروابي: جمع رابية، والرابية، والربوة، والرباة: ما ارتفع من الأرض. (ترتيب القاموس) :
2/ 298.(4/4)
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... فلم أك [ (1) ] قد تلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كلّ ليلة ... أتاك رسول [ (2) ] من لؤيّ بن غالب
فشمّرت من ذيل الازار ووسّطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب [ (3) ]
فأشهد أن اللَّه لا ربّ غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى اللَّه يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب [ (4) ]
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب [ (5) ]
قال: ففرح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه بإسلامي فرحا شديدا حتى رئي في وجوههم.
قال: فوثب إليه عمر رضي اللَّه عنه فالتزمه وقال: قد كنت أحبّ أن أسمع هذا منك [ (6) ] .
وقد رواه عبيد اللَّه بن الوليد الوصافي عن أبي جعفر عن سواد بن قارب، ورواه الحسن ابن عمارة عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن عن سواد، ورواه أبو معمر عياد بن عبد الصمد
__________
[ (1) ] في (خ) : «ولم يك فيما قد تلوت» ، وفي (الاستيعاب) : «ولم يك فيما قد بلوت» .
[ (2) ] في المرجع السابق: «أتاك نجيّ» .
[ (3) ] في المرجع السابق:
فرفعت أذيال الإزار وشمّرت ... بي الفرس الوجناء حول السباسب
[ (4) ] في المرجع السابق:
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا ... وإن كان فيما جئت سيب الذوائب
[ (5) ] في المرجع السابق:
«بمغن فتيلا عن سواد بن قارب» .
شرح المفردات:
الذعلب الوجناء: الفرس القوية الشديدة.
السباسب: الأراضي الممتدة البعيدة، مفردها سبسب.
الذوائب: مفردها «ذؤابة» ، وهي الناصية.
[ (6) ] رواه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 111- 114، حديث رقم (62) ، ابن عبد البر في (الاستيعاب) :
2/ 674، ترجمة رقم (1109) سواد بن قارب الدّوسيّ، الحاكم في (المستدرك) : 3/ 704- 706، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر سواد بن قارب الأزدي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (6558/ 2156) ، وقال عنه الذهبي في (التخليص) : «الإسناد منقطع» ، الإمام البخاري في (الصحاح) : كتاب مناقب الأنصار، باب (35) ، إسلام عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3866) ، وشرحه ابن حجر في (الفتح) : 7/ 227- 230، والبيهقي في (الدلائل) :
2/ 243- 254.(4/5)
عن سعيد بن جبير عن سواد.
وله من حديث علي بن حرب قال حدّثتا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن عبد اللَّه العماني [ (1) ] قال: كان منا رجل [ (2) ] يقال له: مازن بن الغضوبة [ (3) ] ، يسدن [ (4) ] صنما بقرية يقال لها: (سمايا) من عمان، وكانت تعظمه بنو الصامت وبنو خطامة ومهرة، وهم أخوان [ (5) ] مازن [لأمه زينب بنت عبد اللَّه ابن ربيعة بن حويص أحد بني نمران، قال مازن] [ (6) ] : فعترنا ذات يوم عند الصّنم عتيرة- وهي الذبيحة- فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن! اسمع تسرّ، فظهر خير وبطن شر، بعث نبي من بني مضر [ (7) ] ، بدين اللَّه الكبر [ (8) ] ، فدع نحيتا [ (9) ] من حجر، تسلم من حرّ سقر [ (10) ] .
قال: ففزعت لذلك، ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا من الصنم يقول: أقبل إليّ أقبل، تسمع ما لا تجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل، عن حرّ نار تشعل، وقودها الجندل [ (11) ] .
قال مازن: فقلت: إن هذا لعجب، وإنه لخير يراد بي.
وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟ قال: ظهر رجل يقال له: أحمد، يقول لمن أتاه: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ فقلت: هذا نبأ ما سمعت،
__________
[ (1) ] في (خ) ، و (الخصائص) : «العماني، وفي (دلائل أبي نعيم) : 1/ 114: «المعاني» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «كان رجل منا» .
[ (3) ] في المرجع السابق: «الغضوب» ، وفي «الإصابة» و (مجمع الزوائد) : «الغضوبة» ، وفي (الاستيعاب) : «المغضوبة» ، وهو مازن بن الغضوبة بن غراب بن بشر بن خطامة.
[ (4) ] يسدن: يخدم.
[ (5) ] في (خ) : «أخوال» ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «أخوان» .
[ (6) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (7) ] في المرجع السابق: «من مضر» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «الأكبر» .
[ (9) ] نحيت: بمعنى منحوت، كقتيل ومقتول.
[ (10) ] سقر: من أسماء جهنم، قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ المدثر: 26.
[ (11) ] في (دلائل أبي نعيم) : «بالجندل» ، والجندل: الحجر العظيم، إشارة إلى قوله تعالى: ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ التحريم: 6.(4/6)
فَسِرْتُ [ (1) ] إلى الصنم فكسرته جذاذا [ (2) ] ، وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فشرح لي الإسلام فأسلمت وقلت:
كسّرت باجر [ (3) ] أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف [ (4) ] به ضلا بتضلال
بالهاشميّ هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منّى على بال
يا راكبا بلغنا عمرا، وإخوته [ (5) ] ... أني لمن قال: ربي باجر [ (6) ] ، قالي [ (7) ]
يعني بعمرو: بني الصامت، وإخوته [ (5) ] : بني خطامة.
فقلت: يا رسول اللَّه! إني امرؤ مولع بالطرب وبالهلوك [ (8) ] من النساء وبشرب الخمر، فأتت [ (9) ] علينا السنون فاذهبن بالأموال وأهزلن الذراري [والعيال] [ (10) ] .
وليس لي ولد، فادع اللَّه أن يذهب عني ما أجد، ويأتينا بالحياء، ويهب لي ولدا.
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وبالإثم وبالعهر عفّة، وآته بالحياء، وهب له ولدا،
قال: فأذهب اللَّه عني ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، [وحفظت شطر القرآن] [ (11) ] ، ووهب اللَّه لي حيّان بن مازن، وأنشأت أقول:
إليك رسول اللَّه خبّت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
__________
[ (1) ] في (خ) : «فثرت» .
[ (2) ] في (خ) : «أجذاذا» ، وما أثبتناه من رواية أبي نعيم، وبها جاء التنزيل، قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ الأنبياء: 58. والجذاذ والأجذاذ بمعنى، وهي القطع الصغيرة.
[ (3) ] باجر: اسم الصنم الّذي خرج منه الصوت.
[ (4) ] لغة في «نطوف» .
[ (5) ] في (خ) : «وإخوتها» ، والتصويب من: (دلائل البيهقي) ، (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في «دلائل البيهقي» : «ناجر» .
[ (7) ] قالي: تارك، قال تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى الضحى: 3.
[ (8) ] الهلوك من النساء: الساقطة منهن.
[ (9) ] في (خ) : «فأتت» ، وفي (الحّت) : «والرجال» .
[ (10) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) ، وفي (البيهقي) : «والرجال» .
[ (11) ] ما بين الحاصرتين في (خ) ، و (أبي نعيم) ، وليست في (البيهقي) .(4/7)
لتشفع لي يا خير من وطئ الحصا ... فيغفر لي ربي وأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في اللَّه دينهم ... فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرأ بالعهر [ (1) ] والخمر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
[فبدلني بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا فحصّن لي فرجي] [ (2) ]
فأصبحت همّي في الجهاد ونيتي [ (3) ] ... فلله ما صومي وللَّه ما حجّي [ (4) ]
[قال مازن] [ (5) ] فلما أتيت [ (6) ] قومي أنّبوني وشتموني، وأمروا شاعرا [ (7) ] لهم فهجاني، فقلت: إن رددت [ (8) ] عليه فإنما أهجو نفسي [ (9) ] ، فرحلت عنهم فأتتني منهم أرفلة عظيمة، وكنت القيّم بأمورهم، فقالوا: يا ابن عم! عتبنا عليك أمرا وكرهنا ذلك، فإن أبيت فارجع فقم بأمورنا، وشأنك وما تدين به، فرجعت معهم وقلت [ (10) ] :
__________
[ (1) ] في (البيهقي) : «بالزّعب» .
[ (2) ] هذا البيت ساقط من (البيهقي) في سياق الأبيات، ثم استدركه بعد ذلك.
[ (3) ] في (خ) ، و (أبي نعيم) : «نيتي» ، وفي (البيهقي) : «نية» .
[ (4) ] بهذه الأبيات تنتهي رواية (أبي نعيم) : 1/ 114- 117، حديث رقم (63) ، قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) في ترجمة مازن بن الغضوبة: أخرجه الطبراني والفاكهي في كتاب (مكة) ، والبيهقي في (الدلائل) ، وابن السكن، وابن قانع، كلهم من طريق هشام بن الكلبي عن أبيه قال:
حدثني عبد اللَّه العماني. وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 248: رواه الطبراني من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وكلاهما متروك.
[ (5) ] من قوله: «قال مازن» حتى آخر هذا الأثر من (دلائل البيهقي) و (خ) ، وليس في (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في (دلائل البيهقي) : «فلما رجعت إلى قومي» .
[ (7) ] في (دلائل البيهقي) : «شاعرهم» .
[ (8) ] في (دلائل البيهقي) : «إن هجوتهم» .
[ (9) ] في (دلائل البيهقي) : «فتركتهم وأنشأت أقول:» .
[ (10) ] هذه الأبيات في (دلائل البيهقي) هكذا:
وشتمكم عندنا مرّ مذاقته ... وشتمنا عندكم يا قومنا لئن
لا ينشب الدهر أن يثبت معايبكم ... وكلكم أبدا في عيبنا فطن
قال أبو جعفر: إلى هنا حفظت وأخذته من أصل جدي، كأنه يريد الباقي:
فشاعرنا مفحم عنكم وشاعركم ... في حربنا مبلغ في شتمنا لسن
ما في الصدور عليكم فاعلموا وغر ... وفي صدوركم البغضاء والإحن(4/8)
لبغضكم عندنا مرّ مذاقته ... وبغضنا عندكم يا قومنا لئن
لا يفطن الدهر أن يثبت معايبكم ... وكلكم حين بتنا عيبنا فطن
شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم ... في حربنا مبلغ في شتمنا لسن
ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر ... وفي قلوبكم البغضاء والإحن
قال مازن: فهداهم اللَّه بعد إلى الإسلام فأسلموا جميعا.
وله من حديث أبي محمد عبد اللَّه بن داود [وعن دلهاب] [ (1) ] بن إسماعيل بن عبد اللَّه بن مسرع بن ياسر بن سويد قال: حدثنا أبي عن أبيه [دلهاب] [ (1) ] عن أبيه إسماعيل، أن أباه عبد اللَّه حدثه عن أبيه مسرع، أن أباه ياسر بن سويد حدثه عن عمرو بن مرة الجهنيّ أنه كان يحدث قال: خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء إلى جبل يثرب وأشعر جهينة، فسمعت صوتا في النور وهو يقول:
__________
[ () ] وباقي الأثر كما في (دلائل البيهقي) :
فحدثنا موادّنا من أهل عمان عن سلفهم أن مازنا لما تنحى عن قومه أتي موضعا فابتنى مسجدا يتعبد فيه، فهو لا يأتيه مظلوم يتعبد فيه ثلاثا، ثم يدعو محقا على من ظلمه، يعني إلا استجيب.
وفي أصل السماع فيكاد أن يعافي من البرص، فالمسجد يدعى مبرصا إلى اليوم. قال أبو المنذر:
قال مازن: ثم إن القوم ندموا، وكنت القيّم بأمورهم، فقالوا: ما عسانا أن نصنع به، فجاءني في منهم أرفلة عظيمة فقالوا: يا ابن العم، عبنا عليك أمرا فنهيناك عنه، فإذ أبيت فنحن تاركوك، ارجع معنا، فرجعت معهم فأسلموا بعد كلهم.
قال البيهقي: وقد روي في معنى ما روينا عن مازن أخبار كثيره، منها حديث عمرو بن جبلة فيما سمع من جوف الصنم: «يا عصام يا عصام، جاء الإسلام وذهبت الأصنام» .
ومنها حديث طارق من بني هند بن حرام: «يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق» .
ومنها حديث ابن دقشة فيما أخبر به رئيّه، فنظر إلى ذباب بن الحارث وقال: يا ذباب، اسمع العجب العجاب، بعث محمد بالكتاب، يدعو بمكة ولا يجاب» .
ومنها حديث عمرو بن مرة الغطفانيّ فيما رأى من النور الساطع في الكعبة في نومه، ثم ما سمع من الصوت: «أقبل حقّ فسطع، ودمّر باطل فانقمع» .
ومنها حديث العباس بن مرداس فيما سمع من الصوت.
ومنها حديث خالد بن سطيح حين أتته تابعته فقالت: «جاء الحق القائم والخير الدائم» ، وغير ذلك مما يطول بسياق جميعه الكتاب، وباللَّه التوفيق (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 257- 259.
[ (1) ] كذا في (خ) ، ولم أجده فيما بين يدي من كتب الرجال.(4/9)
انقشعت الظلماء ... وسطع الضياء
وبعث خاتم الأنبياء
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن، فسمعت صوتا في النور وهو يقول:
ظهر الإسلام ... وكسرت الأصنام
ووصلت الأرحام
فانتبهت فزعا فقلت لقومي: واللَّه ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت، فلما انتهينا إلى بلادنا
جاءنا رجل فقال: إن رجلا يقال له:
أحمد قد بعث فأتيته فأخبرته بما رأيت، فقال: يا عمرو بن مرة! إني المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام، وعبادة اللَّه ورفض الأصنام، وحج البيت وصيام شهر رمضان، شهر من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن باللَّه يا عمرو بن مرة يؤمنك اللَّه من هول جهنم.
فقلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، وأن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام، ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له، فقمت إليه فكسرته، ثم لحقت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا أقول:
شهدت بأنّ اللَّه حقّ وإنني ... لآلهة الأحجار أول تارك
وشمّرت [ (1) ] عن ساقي الإزار [ (2) ] مهاجرا ... إليك أجوب الوعث [ (3) ] بعد الدكادك [ (4) ]
لأصحب خير الناس نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك [ (5) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «فشمّرت» .
[ (2) ] في (خ) : «إزارا» .
[ (3) ] في (خ) : «أدب القور» ، وأيضا في (اللسان) : «أجوب القور» .
[ (4) ] الدكادك: جمع دكداك، وهو رمل ذو تراب يتلبد.
[ (5) ] الحبائك: الطرق، واحدتها حبيكه، يعني بها السماوات، لأن فيها طرق النجوم، في (خ) :
«الحبائك» ، وتصويبات هذه الأبيات من (لسان العرب) : 10/ 408، 426، (طبقات ابن سعد) : 1/ 333- 334، (وفد جهينة) .(4/10)
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: من حبابك يا عمرو بن مرة! فقلت: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي ابعثني على قومي لعل اللَّه أن يمن بي عليهم كما من بك عليّ.
فبعثني إليهم وقال: عليك بالرفق في القول السديد، ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا،
فأتيت قومي فقلت فقلت لهم: يا بني رفاعة ثم يا بني جهينة، إني رسول رسول اللَّه إليكم أدعوكم إلى الجنة وأحذركم النار، وآمركم بحق الدماء وصلة الأرحام، وعبادة اللَّه ورفض الأصنام، وحج البيت وصيام شهر رمضان، شهر من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، يا معشر جهينة! إن اللَّه- وله الحمد- جعلكم خيار من أنتم منه، وبغّض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث، إنهم كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل منهم على امرأة أبيه التراث في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤيّ ابن غالب تنالوا شرف الدنيا وكبير الأجر في الآخرة، فسارعوا في ذلك تكن [ (1) ] لكم فضيلة عند اللَّه.
فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال: يا عمرو بن مرة، أمرّ اللَّه عليك عيشك! أتأمرنا أن نرفض آلهتنا ونفارق جماعتنا، ونخالف ديننا إلى ما يدعو إليه هذا القرشيّ من أهل تهامة؟ لا، ولا حبا ولا كرامة، ثم أنشأ الخبيث يقول:
إن ابن مرة قد أتى بمقالة ... ليست مقالة من يريد صلاحا
إني لأحسب قوله وفعاله ... يوما وإن طال الزمان رياحا
أتسفّه الأشياخ ممن قد مضى؟ ... من رام ذلك لا أصاب ولاحا
فقال عمرو بن مرة: الكاذب مني ومنك أمرّ اللَّه عيشته، وأبكم لسانه وأكمه بصره، قال عمرو بن مرة: واللَّه ما مات حتى سقط فوه، وكان لا يجد طعم الطعام، وعمي وخرس، فخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فرحب بهم وحياهم، وكتب لهم كتابا نسخته:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من اللَّه على لسان رسول اللَّه، بكتاب
__________
[ (1) ] في (خ) : «تكون» .(4/11)
صادق، وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجهنيّ لجهينة بن زيد: أن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع الأودية وظهورها، تزرعون نباته، وتشربون صافيه، على أن تقروا بالخمس، وتصلوا الصلوات الخمس، وفي السعة والضرعة شاتان إن اجتمعتا، وإن تفرقتا فشاة، ليس على أهل [المثير] [ (1) ] صدقة، [ولا على الواردة لبقه] [ (2) ] ،
وشهد من حضر من المسلمين [ (3) ] بكتاب قيس بن شمّاس. فذلك حيث يقول عمرو بن مرة:
ألم تر أن اللَّه أظهر دينه ... وبيّن برهان القرآن لعامر
كتاب من الرحمن نور لجمعنا ... وأحلافنا في كل باد وحاضر
إلى خير من يمشي على الأرض كلها ... وأفضلها عند اعتكار الضرائر [ (4) ]
أطعنا رسول اللَّه لما تقطعت ... بطون الأعادي بالظبا والخواطر
فنحن قبيل قد بني المجد حولنا ... إذا اختليت في الحرب هام الأكابر
بنو نغزيها بأيد طويلة ... وبيض زلالا في أكف المغاور
ترى جولة الأنصار يحمي أميرهم ... بسمر العوالي والصفاح البواتر
إذا الحرب دارت عند كل عظيمة ... ودارت رحاها بالليوث الهواجر
يبلج منه اللون وازدان وجهه ... كمثل ضياء البدر بين الزواهر
وله من حديث ابن خرّبوذ عن رجل من خثعم قال: كانت العرب لا تحرم حراما ولا تحل حلالا، وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون إليها، فبينا نحن ذات ليلة عند وثن لنا جلوس، وقد تقاضينا إليه في شيء وقع بيننا [كاد] يفرق بيننا، إذ هتف هاتف يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو الحكم إلى الأصنام ... هذا نبي سيد الأنام
__________
[ (1) ] في (خ) : «الميرة» .
[ (2) ] في (خ) : «ليس الوردة اللبقة» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (مجموعة الوثائق السياسية) : 156: «واللَّه شهيد على ما بيننا ومن حضر من المسلمين» ، وباقي التصويبات منه.
[ (4) ] الاعتكار: الازدحام والكثرة، اعتكال الضرائر أي اختلاطها، والضرائر: الأمور المختلفة، أي عند اختلاط الأمور، ويروى: «عند اعتكار الضرائر» . (اللسان) : 4/ 600.(4/12)
أعدل ذي حكم من الحكام ... يصدع بالنور وبالإسلام
ويمنع الناس عن الآثام ... مستعلن في البلد الحرام
قال: ففزعنا وتفرقنا من عنده، وصار ذلك الشعر حديثا حتى بلغنا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قد خرج بمكة ثم قدم المدينة ثم جئت وأسلمت [ (1) ] .
ومن حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا جلوسا عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشهر وقد نحرنا جزرا، فإذا صائح يصيح من جوف واحدة منها يقول:
* اسمعوا إلى العجب* ذهب استراق السمع وترمى الشّهب* لنبي بمكة اسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب* قال: فأمسكنا وعجبنا، وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وله من حديث شهر بن حوشب، عن عبد اللَّه بن عباس، عن سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه، قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى حضر موت في حاجة قبل الهجرة، حتى إذا كنت في بعض الطريق عرست ساعة من الليل، فسمعت هاتفا يقول:
أبا عمرو ناوبني [ (2) ] السهود ... وراح النوم وامتنع الهجود [ (3) ]
لذكر عصابة سلفوا وبادوا ... وكل الخلق قصرهم يبيد
تولوا واردين إلى المنايا ... حياضا ليس سهلها الورود
مضت لسبيلهم وبقيت خلفا ... وحيدا ليس يستغني وحيد
سدى لا أستطيع علاج أمر ... إذا ما عولج الطفل الوليد
فلا يا ما بقيت إليّ أنا ... وقد ماتت بمهلكها ثمود
وعاد والقرون بذي شعوب ... سواء كلهم إرم حصيد
قال: ثم صاح به آخر: يا خرعب ذهب بك اللعب، إن أعجب العجب،
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ، 1/ 117، حديث رقم (64) ، وسبق الإشارة إليه وتصويب الأبيات.
[ (2) ] تناوبنا الخطب والأمر، نتناوبه: إذا قمنا به نوبة بعد نوبة، والمراد هنا كثرة السهر. (اللسان) : 1/ 775.
[ (3) ] الهجود: النوم. (اللسان) : 3/ 431.(4/13)
بين زهرة ويثرب، قال: وما ذاك يا شاحب؟ قال: نبي السلام، بعث بخير الكلام، إلى جميع الأنام، فاخرج [ (1) ] من البلد الحرام إلى نخيل وآطام.
قال: ما هذا النبي المرسل، والكلام المنزل، والآي المفصّل؟ قال: هذا رجل من لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، قال: هيهات، فات عن هذا سني، وذهب عنه زمني، لقد رأيتني والنضر بن كنانة نرمي غرضا واحدا، ونشرب حلبا باردا، ولقد خرجت معه من دومة في غداة شيمة، وطلع مع الشمس وغرب معها، نروي ما نسمع ونثبت ما ينضر، فلئن كان هذا من ولده فلقد سلّ السيف وذهب الحيف، ودحض الزنا وهلك الربا.
قال: فأخبرني ما تكون، قال: ذهبت الضراء والمجاعة، والشدة والشجاعة، إلا بقية من خزاعة، وذهبت الضراء والبؤس، والحلق المنفوس، إلا بقية في الخزرج والأوس، وذهبت الخيلاء والفقر والنميمة والغدر، إلا بقية في بني بكر، وذهب الفعال المندم، والعمل المؤثم، إلا بقية في خثعم.
قال أخبرني ما يكون، قال: إذا غلت البرة، وكظمت الجرة، فاخرج من بلاد الهجرة، وإذا كف السلام وقطعت الأرحام، فاخرج من بلاد التهام.
قال أخبرني ما يكون، قال: لولا أذن تسمع وعين تلمع، لأخبرتك بما تفزع، ثم صرصر وأضاء الفجر، فذهبت لأنظر، فإذا عصا وثعبان ميتان، قال: فما علمت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث.
وفي رواية عن سعد بن عبادة قال: لما بايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [بيعة] [ (2) ] العقبة، خرجت إلى حضر موت لبعض الحاجة، فقضيت حاجتي ثم أقبلت حتى إذا كنت ببعض الطريق نمت، ففزعت من الليل بصائح يقول: أبا عمرو ناوبني السهود، فذكر مثله بطوله.
وله من حديث العطاف بن خالد الوابصي عن خالد بن سعيد عن أبيه
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، ولعلها: «يخرج» ، إشارة إلى الهجرة من مكة إلى المدينة.
[ (2) ] في (خ) : «البيعة» .(4/14)
قال: سمعت تميم الداريّ يقول: كنت بالشام حين بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة، فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمناد ينادي لا أراه: عذ باللَّه فإن الجن لا تجير أحدا على اللَّه.
فقلت: أيم اللَّه يقول، فقال: قد خرج رسول الأميين رسول اللَّه وصلينا خلفه بالحجون، فأسلمنا واتبعناه وذهب كيد الجن، ورميت بالشهاب، فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين فأسلم.
قال: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبا وأخبرته الخبر فقال:
قد صدقوك، يخرج من الحرم [ (1) ] ومهاجره الحرم [ (2) ] ، وهو خير الأنبياء، ولا تسبق إليه، قال: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأسلمت.
ومن حديث سعد [ (3) ] بن عثمان بن سعيد الضمريّ عن أبيه قال: حدثني [أبي عن] [ (4) ] خويلد الضمريّ قال: كنا عند صنم جلوسا إذ سمعنا من جوفه صائحا يصيح: ذهب استراق [السمع] [ (5) ] بالشهب، لنبي بمكة اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب، يأمر بالصّلاة والصيام، والبر والصّلات للأرحام [ (6) ] ، فقمنا من عند الصنم فسألنا، فقالوا: خرج نبي بمكة اسمه أحمد [ (7) ] .
ومن حديث الأصمعي قال: حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر عن قبيصة ابن عمرو بن إسحاق الخزاعي عن العباس بن مرداس السلمي قال: كان أول إسلامي أن مرداسا [أبي] [ (8) ] لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له: [ضمار] [ (8) ] ، فجعلته في بيت وجعلت آتيه كل يوم مرة، فلما ظهر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [إذ] [ (8) ] سمعت
__________
[ (1) ] الحرم المكيّ.
[ (2) ] الحرم المدني.
[ (3) ] في (خ) : «سعيد» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وليست في (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (الخصائص) .
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «والبر وصلة الأرحام» .
[ (7) ] أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 117- 118، حديث رقم (65) وقال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 767: انفرد به أبو نعيم.
[ (8) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .(4/15)
صوتا في جوف الليل راعني، فوثبت إلى [ضمار] [ (1) ] مستغيثا، فإذا بالصوت من جوفه وهو يقول:
قل للقبيلة من سليم كلّها ... هلك الأنيس وعاش أهل المسجد
أودي [ضمار] [ (1) ] وكان يعبد مدة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد
إن الّذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى
فكتمته الناس، فلما رجع الناس من الأحزاب بينا أنا في إبلي بطرف العقيق من ذات عرق راقد، سمعت صوتا فإذا برجل على جناحي نعامة وهو يقول: النور الّذي وقع [ليلة الإثنين و] [ (2) ] ليلة الثلاثاء، مع صاحب الناقة العضباء، في ديار إخوان بني العنقاء.
فأجابه هاتف عن شماله وهو يقول: بشر الجن وإبلاسها، إن وضعت المطيّ أحلاسها، وكلأت السماء أحراسها، [قال:] [ (2) ] فوثبت مذعورا وعلمت أن محمدا مرسل.
فركبت فرسي وسرت حتى انتهيت إليه فبايعته، ثم انصرفت إلى [ضمار] [ (1) ] فأحرقته بالنار، ثم رجعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [فأنشدته شعرا أقول فيه] [ (3) ] :
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (خ) «ضماد» ، والتصويب من (ترتيب القاموس) : 3/ 37.
[ (3) ] في (خ) : «فأنشد شعرا فذكره» وما أثبتناه من رواية أبي نعيم في (الدلائل) ، وهذه الأبيات منه:
لعمرك إنّي يوم أجعل جاهلا ... ضمارا لرب العالمين مشاركا
وتركي رسول اللَّه والأوس حوله ... أولئك أنصار له ما أولئكا
كتارك سهل الأرض والحزن يبتغي ... ليسلك في وعث الأمور المسالكا
فآمنت باللَّه الّذي أنا عبده ... وخالفت من أمسى يريد المهالكا
ووجّهت وجهي نحو مكة قاصدا ... أبايع نبي الأكرمين المباركا
نبيّ أتى بعد عيسى بناطق ... من الحق فيه الفصل فيه كذلكا
أمين على الفرقان أول شافع ... وأول مبعوث يجيب الملائكا
تلافي عرى الإسلام بعد انتقاضها ... فأحكمها حتى أقام المناسكا
عنيتك يا خير البرية كلّها ... توسطت في الفرعين والمجد مالكا
وأنت المصفّى من قريش إذا سمت ... على ضمرها تبقي القرون المباركا
إذا انتسب الحيان كعب ومالك ... وجدناك محضا والنساء العواركا(4/16)
ومن حديث الزهري عن عبد الرحمن بن أنيس السلمي، عن العباس بن مرداس قال: كان إسلام العباس بن مرداس أنه كان بغمرة في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء مثل القطن، عليها راكب عليه ثياب بيض مثل القطن فقال:
يا عباس بن مرداس! ألم تر أن السماء حفّت أحراسها، وأن الحرب جوعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الّذي جاء بالبر ولد يوم الاثنين في ليلة الثلاثاء، صاحب الناقة القصواء.
فخرجت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت، حتى جئت وثنا لي يدعى الضماد، كنا نعبده ونكلّم من جوفه، فدخلت عليه وكنست ما حوله، ثم قمت فتمسّحت به وقبلته، فإذا صائح يصيح من جوفه: يا عباس بن مرداس!
قل للقبائل [ (1) ] من سليم كلها ... هلك الضمار [ (2) ] وفاز أهل المسجد
هلك الضمار [ (2) ] وكان يعبد مدة ... قبل الصلاة [ (3) ] على النبي محمد
إن الّذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى
قال: فخرجت مرعوبا حتى جئت قومي، فقصصت عليهم القصة وأخبرتهم الخبر، فخرجت في ثلاثمائة راكب من قومي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخلنا المسجد،
فلما رآني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تبسم وقال: يا عباس بن مرداس! كيف كان إسلامك؟
__________
[ () ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 118- 119، حديث رقم (66) قال في (الخصائص) 1/ 267:
أخرجه أيضا ابن جرير، والمعافي بن زكريا، وابن الطراح في كتاب (الشواعر) بأسانيدهم، وقال في هامشه: «كذا في الأصل، ولعلّ الصواب العواتكا» ، ونقول: أن العواتك والعوارك كل منهما تخدم المعنى، فإذا أراد الشاعر «العوارك» فمعناها النساء الشابات اللاتي في سنّ الحيض، قال في (ترتيب القاموس) : 3/ 207: عركت المرأة عركا وعروكا: حاضت.
وإذا أراد «العواتك» ، فالعواتك: في جدات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تسع: ثلاث من سليم: بنت هلال أم جدّ هاشم، وبنت مرّة بن هلال أم هاشم، وبنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب بن عبد مناف.
والبواقي من غير بني سليم.
والعواتك من الصحابيات: عاتكة بن أسيد، وبنت خالد، وبنت زيد بن عمرو، وبنت عبد المطلب، وبنت عوف، وبنت نعيم، وبنت الوليد. (المرجع السابق) : 3/ 150- 151.
[ (1) ] كذا في (خ) ، و (الخصائص) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «للقبيلة» .
[ (2) ] في (خ) : «الضماد» وصوابه في (القاموس) : «ضمار» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «قبل الكتاب» .(4/17)
فقصصت عليه القصة فقال: صدقت، وسرّ بذلك، فأسلمت أنا وقومي.
ومن حديث سعيد بن عمرو بن سعيد الهذالي عن أبيه عمرو بن سعيد، وكان شيخا كبيرا قد أدرك الجاهلية الأولى والإسلام، قال: حضرت مع رجال من قومي صنما بسواع وقد سقنا إليه الذبائح، فكنت أول من قرّب إليه هدية سمينة، فذبحتها على الصنم، فسمعنا صوتا من جوفها: العجب كل العجب، خروج نبي من بني عبد المطلب، يحرم الزنا ويحرم الذبح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب.
فتفرقنا فقدمنا مكة، فلم نجد أحدا يخبرنا بخروج محمد صلّى اللَّه عليه وسلم حتى لقينا أبا بكر الصديق [و] [ (1) ] عبد اللَّه بن عثمان رضي اللَّه عنهما فقلنا: يا أبا بكر! خرج أحد بمكة يدعو إلى اللَّه يقال له أحمد؟ فقال: وما ذاك؟ فأخبرت أبا بكر الخبر فقال:
نعم، خرج محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، وهو رسول اللَّه، فدعانا أبو بكر إلى الإسلام، فقلنا: حتى ننظر ما يصنع قومنا، وياليت كنا أسلمنا يومئذ.
وعن عبد اللَّه بن يزيد الهذلي، عن عبد اللَّه بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال:
كنا عند صنمنا بسواع، وقد جلبنا إليه غنما لنا مائتي شاة قد كان أصابها الجرب، فأدنيتها منه أطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد، فصرفت وجه غنمي منحدرا إلى أهلي، فلقيت رجلا فخبرني بظهور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وعن يحيى بن سليمان عن حكيم بن عطاء السلمي [ (2) ] من بني سليم من ولد راشد بن عبد ربه عن أبيه عن جده [ (3) ] راشد بن عبد ربه قال: كان الصنم الّذي يقال سواع بالمعلاة [ (4) ] من رهاط [ (5) ] تدين له هذيل وبنو ظفر من سليم، فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية من سليم إلى سواع، قال راشد: فألفيت مع الفجر إلى صنم قبل صنم سواع، وإذا صارخ يصرخ من جوفه: العجب كل العجب [من خروج نبي من بني عبد المطلب، يحرم الزنا والربا، والذبح للأصنام، وحرست
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) : «الظفري» .
[ (3) ] في (خ) : «جده عن راشد» .
[ (4) ] موضع قرب بدر.
[ (5) ] موضع على ثلاثة أميال من مكة.(4/18)
السماء ورمينا بالشهب، العجب كل العجب] [ (1) ] ثم هتف صنم آخر من جوفه:
[ترك الضمار وكان يعبد] [ (1) ] خرج أحمد، نبي يصلي الصلاة ويأمر بالزكاة والصيام، والبر والصّلات للأرحام [ (2) ] ثم هتف من [ (3) ] جوف صنم آخر هاتف:
إن الّذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى
نبيّ يخبر الناس بما سبق ... وبما يكون في غد
قال راشد: فألفيت سواعا مع الفجر، وثعلبان يلحسان ما حوله، ويأكلان ما يهدى إليه [ثم] [ (4) ] يعرجان عليه ببولهما، فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه:
أربّ يبول الثعلبان [ (5) ] برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وذلك عند مخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ومهاجره] [ (6) ] إلى المدينة وتسامع الناس به، فخرج راشد حتى أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة [ (7) ] ومعه كلب له- واسم راشد يومئذ (ظالم) ، واسم كله (راشد) -
فقال [له] [ (8) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما اسمك؟ قال: (ظالم) قال: فما اسم كلبك؟ قال: (راشد) ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اسمك راشد، واسم كلبك ظالم؟ وضحك النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، وبايع النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وأقام معه، ثم طلب من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قطيعة برهاط، فأقطعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمعلاة من رهاط شأو الفرس [ (9) ] ورمية ثلاث مرات بحجر، وأعطاه أداوة [ (10) ] مملوءة من ماء، وتفل فيها [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (11) ] وقال له: فرغها أعلى القطيعة ولا تمنع الناس فضولها،
ففعل، فجعل الماء معينا مجمّة [إلى اليوم] [ (11) ]
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (دلائل أبي نعيم) ، وهو سقط في (خ) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «وصلة الأرحام» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «في» .
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] الثّعلبان: ذكر الثعلب، والثعلب يطلق على الذكر والأنثى، والثّعلبان: مثنى ثعلب، وهو المراد هنا.
[ (6) ] في (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) : «ومجازه» ، ولعل الصواب ما أثبتناه فهو أجود للسياق.
[ (7) ] في المرجع السابق: «المدينة» .
[ (8) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (9) ] شأو الفرس: الشوط منه.
[ (10) ] إناء صغير يوضع فيه الماء.
[ (11) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .(4/19)
فغرس عليها النخل وصارت رهاطا كلها تشرب منه وسماها الناس ماء الرسول، وأهل رهاط يغتسلون منها ويستشفون بها، وغدا راشد على [ (1) ] سواع وكسّرة [ (2) ] .
وله من حديث إسماعيل بن عيّاش، عن يحيى بن أبي عمرو الشيبانيّ [ (3) ] عن عبد اللَّه بن الديلميّ قال: أتى رجل عبد اللَّه بن عبّاس [ (4) ] رضي اللَّه تعالى عنه فقال: بلغت أنك تذكر سطيحا [و] [ (5) ] تزعم أن اللَّه خلقه [و] [ (5) ] لم يخلق من ولد آدم شيئا يشبهه! قال: نعم، إن اللَّه خلق سطيحا الغسانيّ لحما على وضم- والوضم: شرائح النخل [ (6) ]- وكان يحمل على وضمه فيؤتي به حيث يشاء، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفان، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، فلم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه.
فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمه، فأتى به مكة، فخرج إليه أربعة من قريش: عبد شمس وهاشم ابنا عبد مناف بن قصيّ، والأحوص بن فهر، وعقيل ابن أبي وقاص، انتموا إلى غير نسبهم [فقالوا] [ (7) ] : نحن أناس من جمح، أتيناك [وقد] [ (8) ] بلغنا قدومك، فرأينا أن [إتياننا] [ (9) ] إياك حق لك، واجب علينا
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «إلى سواع فكسّره» .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 120- 122، حديث رقم (68) ، قال الدميري في (حياة الحيوان) :
1/ 221: وأخرجه البغوي في (المعجم) ، وابن شاهين وغيرهما، وذكره السيوطي في (الخصائص) : 1/ 193، وابن حجر في (الإصابة) : 2/ 434، ترجمة راشد بن عبد ربه السلمي، رقم (2519) وفيه: ورواه أبو حاتم بسند له، والبيت عنده هكذا:
أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب
و (مجموعة الوثاق السياسية) : 197، وثيقة رقم (213) لراشد السلمي: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم راشد بن عبد ربه السلمي، أعطاه: غلوتين بسهم وغلوة بحجر برهاط، فمن حاقه فلا حق له، وحقه حق، وكتب خالد بن سعيد» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) ، وصوابه (السيباني) بالمهملة (الجرح والتعديل) : 9/ 177، ترجمة رقم (735) بحي بن أبي عمرو السيباني أبو زرعة.
[ (4) ] كذا في (خ) «عياش» ، والتصويب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «شرائح من جريد النخل» .
[ (7) ] في (خ) : «وقالوا» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (8) ] زيادة للسياق.
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «زيارتنا» .(4/20)
وأهدى له عقيل صفيحة هندية [ (1) ] ، وصعدة [ (2) ] ، ردينية [ (3) ] فوضعت على باب البيت الحرام لينظروا هل يراها سطيح أم لا.
فقال: يا عقيل، ناولني يدك، فناوله يده، فقال: يا عقيل! والعالم الخفيّة، والغافر الخطيّه، والذمّة الوفية، والكعبة المبنيّة، إنك للجائي [ (4) ] بالهديّة، الصفيحة الهنديّة، والصعدة الردينيّة.
قالوا: صدقت يا سطيح، فقال: والآتي بالفرح، وقوس قزح، وسائر القرّح [ (5) ] ، واللطيم [ (6) ] المنبطح [ (7) ] ، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مرّ سنح [ (8) ] ، فأخبر أن القوم ليسوا من جمح، وأن نسبهم في قريش ذي البطح، قالوا: صدقت يا سطيح، نحن أهل البيت الحرام، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا وما يكون بعده، لعلّ [ (9) ] أن يكون عندك في ذلك علم.
قال: الآن صدقتم، خذوا مني إلهام اللَّه إياي: أنتم يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء [ (10) ] بصائركم وبصيرة العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، ويبلعون الردم [ (11) ] ، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.
__________
[ (1) ] الصفيحة: السيف العريض (لسان العرب) : 2/ 513.
[ (2) ] الصعدة: القناة المستقيمة (لسان العرب) : 3/ 255.
[ (3) ] ردينة: اسم امرأة، تنسب إليها الرماح (لسان العرب) : 13/ 178.
[ (4) ] في (خ) : «للجائي» ، وفي (أبي نعيم) : «الجائي» .
[ (5) ] القرّح: جمع قارح، وهي الناقة أول ما تحمل. (اللسان) : 2/ 559.
[ (6) ] اللطيم: صفة من صفات الخيل أو الإبل (المرجع السابق) : 12/ 543.
[ (7) ] المنبطح: الملقي على وجهه. (المرجع السابق) : 2/ 412.
[ (8) ] السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك، والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك (المرجع السابق) : 2/ 490.
[ (9) ] في (خ) : «بعد أن يكون» .
[ (10) ] كذا في (خ) ، و (الخصائص، وفي (أبي نعيم) : «فتبينوا»
[ (11) ] في (أبي نعيم) : «يتبعون الردم» ، والردم: ما يسقط من الجدار إذا انهدم، وكل ما لفق بعضه ببعض فهو ردم. (اللسان) : 12/ 236.(4/21)
قالوا: يا سطيح! ممن يكون أولئك؟ قال [ (1) ] : والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان، لينشؤن من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، وينكرون عبادة الشيطان، ويوحدون الرحمن، وينشرون دين الدّيان، يشرفون البنيان، ويقتنون القيان.
قالوا: يا سطيح! من نسل من يكون أولئك؟ قال: وأشرف الأشراف، والمفضي للإسراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف للأضعاف، لينشؤن الآلاف من بني عبد شمس وعبد مناف، نشوا يكون فيهم اختلاف.
قالوا: يا سوأتاه يا سطيح مما تخبر من العلم بأمرهم؟ ومن أي بلد يكون أولئك؟ قال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد، فتى يهدي إلى الرّشد، يرفض يغوث [ (2) ] والفند [ (3) ] ، يبرأ من عبادة الضدد [ (4) ] ، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه [اللَّه] [ (5) ] محمودا، من الأرض مفقودا، في السماء مشهودا [ (6) ] ، وذكر باقية في القوم الذين يلون أمر الأمة المحمدية.
ومن حديث ابن إسحاق قال: حدثني من أثق به من علمائنا، عن من حدثه من أهل اليمن [ (7) ] .
__________
[ (1) ] في (أبي نعيم) : «فقال لهم» .
[ (2) ] اسم صنم.
[ (3) ] الفند: الكذب.
[ (4) ] في (خ) ، و (الخصائص) ، بالصاد المهملة، والضدد: من أسماء الحجر.
[ (5) ] زيادة للسياق من (خ) .
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) ، بعد قوله «مشهودا» [ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرّب غطريف، ويترك القول العنيف، قد ضاف المضيف، وأكرم التحنيف، ثم يلي أمره داعيا لأمره مجربا، فيجتمع له جموعا وعصبا، فيقتلونه نقمة وغضبا، فيؤخذ الشيخ إربا، فيقوم به رجال خطباء، ثم يلي أمره الناصر، يخلط الرأي برأي الناكر، يظهر في الأرض الفساد، ثم يلي بعده ابنه، يأخذ جمعه ويقل حمده، ويأخذ المال ويأكله وحده، ويكنز المال لعقبه من بعده، ثم يلي من بعده عدة الملوك، لا شك، الدم فيهم مسفوك، وذكر القصة] .
(دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 122- 125، حديث رقم (69) ، أخرجه أيضا ابن عساكر، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 73. قال محقق (الدلائل) : وفيه سليمان بن عبد الرحمن، صدوق يخطئ، وآخر القصة يبدو فيها الوضع.
[ (7) ] السّند في (دلائل أبي نعيم) هكذا: «حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن فارس قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل قال: حدثني محمد بن إسحاق، وحدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم القرشيّ قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن بن بشير الشيبانيّ عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من أثق به من علمائنا، عمّن حدّثه من أهل اليمن ... » .(4/22)
أن ملكا من لخم [ (1) ] من أهل الملك الأول القديم قبل حسّان ذي نواس، يقال له:
ربيعة بن نصر، رأى رؤيا فظع بها حين رآها، وهالته وأنكرها، وبعث إلى الحزاق [ (2) ] من أهل الأرض، من كان في مملكته من الكهان والمنجمين والعرافين [ (3) ] ، فقال [ (4) ] لهم: قد رأيت رؤيا فظعت بها وهالتني، فأخبروني عنها.
قالوا: أيها الملك اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم [ (5) ] ، فقال رجل منهم إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشقّ، فإنّهما يخبران عما أراد [الملك] [ (6) ] من ذلك، فهما أعلم من ترى [ (7) ] ، وكان سطيح رجلا من غسّان-[وهو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذؤيب بن عدي بن مازن] [ (8) ]- وكان شق [رجلا] [ (8) ] ، من بجيلة، وقال سلمة بن الفضل في حديثه عن [ابن إسحاق] [ (8) ] : يقال له: سطيح الذئبيّ لنسبته إلى الذئب بن عدي، وشقّ بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير ابن قيس بن عبقر بن أنمار [ (9) ] .
فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق- ولم يك في زمانهما مثلهما من الكهان- فلما قدم سطيح عليه [ (10) ] قال له الملك: يا سطيح: إني قد
__________
[ (1) ] لخم: اسمه مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن غريب بن يزيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
ولخم وجذام قبيلتان من اليمن، ينسب إلى لخم خلق كثير. (اللباب في تهذيب الأنساب) :
3/ 130.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «الحزأة» ، وهم العالمون.
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «العراف» .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وقال» .
[ (5) ] في (سيرة ابن هشام) : «إلى خيركم عن تأويلها» .
[ (6) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (7) ] في المرجع السابق: «نراه» .
[ (8) ] زيادة من (خ) .
[ (9) ] في (سيرة ابن هشام) : «ابن رهم بن أفرك بن قسر بن عبقر بن أنمار بن نزار، وأنمار أبو بجيلة وخثعم» .
[ (10) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فلما قدم سطيح عليه قبل شق دخل عليه، قال الملك ... » ، وفي (سيرة ابن هشام» : «فقدم عليه سطيح قبل شق فقال له: إني رأيت ... » .(4/23)
رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها حين رأيتها، وإنك إن تصفها [لي] [ (1) ] قبل أن أخبرك تصب تأويلها [ (2) ] .
قال: أفعل، رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تعمة فأكلت منها كلّ ذات جمجمة [ (3) ] .
فقال الملك: واللَّه ما أخطأت من رؤياي [ (4) ] [وسمة] [ (5) ] ، فما عندك [من] [ (6) ] تأويلها يا سطيح؟.
قال: أحلف بما بين الحرّبين من حنش، لينزلن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرشّ [ (7) ] .
قال له الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى [ (8) ] هو كائن يا سطيح؟ أفي زماننا هذا؟ أم بعده؟ قال [ (9) ] : بعده بحين، خمسين إلى ستين أو سبعين تمضين من السنين [ (10) ] .
قال له الملك: أقيقيم ويدوم سلطانهم أم ينقطع [ (11) ] ؟.
قال: ينقطع بسبع وسبعين من السنين [ (12) ] ، ثم يقتلون أجمعين، ويخرجون هاربين.
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] في (سيرة ابن هشام) : «فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «كلّ ذات جمجمة من العشاء إلى العتمة، ونصب كلّ أفصح وأصحّ» .
[ (4) ] في (سيرة ابن هشام) : «ما أخطأت منها شيئا» .
[ (5) ] كذا في (خ) .
[ (6) ] في (سيرة ابن هشام) ، و (دلائل أبي نعيم) : «في تأويلها» .
[ (7) ] أبين وجرش: بلدان في اليمن.
[ (8) ] في المرجع السابق: «منى هو» .
[ (9) ] في (ابن هشام) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «بل بعده بحين» .
[ (10) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أكثر من سنتين إلى سبعين سنة يمضين» وفي (ابن هشام) : «أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين» .
[ (11) ] في (ابن هشام) : «أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟» ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «أفيقوم أو يدوم سلطانهم أم ينقطع» ، وفي (خ) : «أفيقيم» .
[ (12) ] في (ابن هشام) : «لبضع وسبعين» ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «لبضع وستين» ، وما أثبتناه من (خ) .(4/24)
قال له الملك: ومن الّذي يقتلهم ويلي إخراجهم؟.
قال: يليه إرم ذي يزن [ (1) ] ، يخرج عليهم من عدن، ولا يبقى منهم أحد باليمن [ (2) ] ، قال له الملك: أفيدوم ذلك من سلطانه أمن ينقطع؟
قال: بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه؟.
قال: نبي زكيّ، يأتيه الوحي من قبل [ (3) ] اللَّه العلي.
قال: وممن هذا النبي يا سطيح؟
قال: من [ (4) ] ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر؟.
قال: نعم يوم يجمع اللَّه فيه الأولين والآخرين، يشقى فيه المسيئون، ويسعد فيه المحسنون، قال: أحقّ ما تقول؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق [إذا اتّسق] [ (5) ] ، إن ما أنبأتك لحق.
فلما فرغ خرج من عنده. وقدم شق [ (6) ] فقال له الملك مثل ما قال لسطيح
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، و (ابن هشام) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «إنه ابن ذي يزن» ، والمعروف أنّ اسمه:
سيف بن ذي يزن، ولكن جعله «إرما» ، إما لأن الارم هو العلم ممدحه بذلك، وإما شبهه بعاد إرم في عظم الخلقة.
[ (2) ] كذا في (خ) ، (ابن هشام) ، وفي (أبي نعيم) : «في اليمن» .
[ (3) ] في (ابن هشام) : «من قبل العلي» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (ابن هشام) وفي (أبي نعيم) : «لؤيّ بن غالب» .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين في (خ) فقط.
[ (6) ] سمي «شقّ» لأنه كان شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد سطيح وشق في اليوم الّذي ماتت فيه «طريفة الكاهنة» ، امرأة عمرو بن عامر، وهي بنت الخير الحميرية، ودعت بسطيح قبل أن تموت، فأتيت به، فتفلت في فيه، وأخبرت أنه سيخلفها في علمها وكهانتها، ودعت بشق، ففعلت به مثل ما فعلت بسطيح، ثم ماتت، وقبرها بالجحفة.(4/25)
لينظر: أيتفقان أم يختلفان؟
فقال شقّ: نعم أيها الملك، رأيت حممة [ (1) ] خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة، بأرض بهمة، فأكلت منها كل ذات نسمة صحيحة مسلمة.
ثم قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران، فقال الملك: يا شق! وأبيك إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني، [ (2) ] أم بعده؟.
قال: بعده بزمان، يبيدهم عظيم ذو شان [ (3) ] ، فيذيقهم أشد الهوان.
قال له الملك: ومن هذا [ (4) ] العظيم الشان؟.
قال: غلام ليس بدنيّ ولا مدنّ، يخرج من بيت ذي يزن، قال: فهل يدوم سلطانهم أم ينقطع؟.
قال: لا بل ينقطع برسول يأتي بحقّ وعدل، ومن أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل يا شقّ؟.
قال: يوم تجزى فيه الولاة ويدعى فيه من السماء دعوات، فيسمع الأحياء والأموات، ويجتمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.
قال له الملك: ما تقول يا شق؟ [قال:] [ (5) ] ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض [ (6) ] ، فلما فرغ من مساءلتهما جهّز بنيه وأهل بيته إلى العراق، وكتب [لهما] [ (7) ] إلى ملك فارس [ (8) ] ، وهو
__________
[ (1) ] في (خ) : «جمجمة» .
[ (2) ] في (خ) ، و (ابن هشام) : «زماني» ، وفي (أبي نعيم) : «زماننا» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (ابن هشام) ، و (دلائل أبي نعيم) : «ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان» .
[ (4) ] كذا في (خ) و (ابن هشام) ، وفي (أبي نعيم) : «ومن هو هذا» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (6) ] أمض: شك أو باطل.
[ (7) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (8) ] في (ابن هشام) : «إلى ملك من ملوك فارس» .(4/26)
شابور [ (1) ] فأسكنهم الحيرة [ (2) ] .
فمن بقية ولد ربيعة بن نضر: النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعلمهم:
النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، [ذلك الملك] [ (3) ] .
وحدّث أبو علي قال: كان جنافر بن التوائم الحميري كاهنا، وكان قد أوتي بسطه في الجسم وسعة في المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وظهر الإسلام، أغار على إبل لمسواد فاكتسحها، وخرج بأهله ولحق بالشجر فخالف جودان بن يحي الفرصمي، وكان سيدا منيعا، وترك بواد من أودية الشجر مخصبا كثير الشجر من الأيك والعرين.
قال جنافر: وكان رئيّ في الجاهلية لا يكاد يتغيب عليّ، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي إذ هوى هويّ العقاب، قال جنافر: فقلت: شصار! فقال: اسمع أقل، قلت: اسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، فقلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتشحت النّحل ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك بيحبر
__________
[ (1) ] هو شابور بن خرزاد وهو في (ابن هشام) : بالسين المهملة.
[ (2) ] هذا الحديث ذكره كل من:
أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 125، حديث رقم (70) .
ابن عساكر من طريق ابن إسحاق عن بعض أهل الرواية.
ابن إسحاق في السيرة، (ابن هشام) : 1/ 124.
السيوطي في (الخصائص) : 1/ 87.
أحمد بن حديدة الأنصاري في (المصباح المضيء) : 2/ 206.
ابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 329، وفيه: «وأخبار سطيح كثيرة، وقد جمعها غير واحد من أهل العلم، والمشهور أنه كان كاهنا، وقد أخبر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وعن نعته ومبعثه،
وروى لنا بإسناد اللَّه أعلم به أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سئل عن سطيح فقال: «نبي ضيعه قومه» .
قال الحافظ ابن كثير: أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلا!!.
ابن الأثير في (الكامل) : 1/ 418.
ابن جرير الطبري في (التاريخ) : 2/ 112.
[ (3) ] زيادة في (خ) .(4/27)
موصول، والنصح لك مبذول، إني آنست بأرض الشام، نفرا من آل العذام، حكاما على الحكام، يتدبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، وعاودت فلطفت، فقلت: بم يهيمنون، وإلام يعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ قالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مضر من أهل المدار، ابتعث فظهر. فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألّف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر، قالوا: أحمد خير البشر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا جنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل نجس كافر، وشايع كل مؤمن ظاهر، وإلا فهو الفراق على تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الآخرين، والنفر الميامين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الفضل، والطول والبذل، ثم أملس عني فبت مذعورا أراعي الصباح، فلما برق لي النور، امتطيت راحلتي وأذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها، بحولها وسقائها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنه أميرا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فبايعته على الإسلام، وعلمني سورا من القرآن، فمن اللَّه عليّ بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة [ (1) ] ، وقلت في ذلك:
ألم تر أن اللَّه عاد بفضله ... فأنقذ من لفح الرحيج جنافرا
وكشفه لي جحمتي عما هما ... وأوضح لي نهجي وقد كان داثرا
دعاني شصار للتي لو رفضتها ... لأصليت جمرا من لظى الهوف واهرا
فأصبحت والإسلام حشو جوانحي ... وجانبت من أمسى عن الحق بائرا
وكان مضلي من هديت برشده ... فلله مغو عاد بالرشد آمرا
نجوت بحمد اللَّه من كل قحمة ... تورث هلكا يوم شايعت شاصرا
__________
[ (1) ] لم أجد هذا الخبر فيما بين يدي من المراجع.(4/28)
وقد أمنتني بعد ذاك بحائر ... بما كنت أغشى المندبات بحائرا
فمن مبلغ فتيان قومي ألوكة ... بأني من أقاتل من كان كافرا
عليكم سواء القصد لافلّ حدّكم ... فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا
ويروى أن تيم اللات بن ثعلبة عمّر ستمائة سنة وأدرك عيسى عليه السلام، وآمن به وكان على دينه، وأنه صوّر محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم وكتب تحتها: منعت وجّ الحجاز وتهائم مكة وديار ربيعة إلا من دولة اليتيم، فطوبى لمن أدركه واتبعه، وتيم اللات هذا كان [محاربا] [ (1) ] في حرب البسوس، وكان قائدهم، وكان أجمل الناس.
وقال الخرائطي في كتاب (الهواتف) : أخبرنا عبيد بن محمد البلوي، حدثنا عمادة بن زيد، حدثني عبيد اللَّه بن العلاء، عن هشام بن عروة عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة ابن نوفل يذكران [أنهما أتيا] [ (2) ] النجاشي بعد رجوع أبرهة عن مكة.
قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: أصدقاني أيها القرشيان، هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه؟ قلنا: نعم.
قال: فهل لكما علم بما فعل؟ قلنا: تزوج امرأة اسمها آمنة وتركها حاملا وخرج.
قال: فهل تعلمان ولد له أم لا؟ قال ورقة: أخبرك أيها الملك أنه لما ولد له كنت عند صنم لنا نطيف به ونعبده، إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول:
ولد النبي فذلّت الأملاك ... ونأى الضلال وأدبر الإشراك
ثم انتكس على رأسه، فقال زيد: عندي كخبره أيها الملك، قال: هات، قال: إني في هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه، خرجت من عند أهلي وهم يذكرون حمل آمنة، حتى أتيت جبل أبي قبيس أريد الخلوة فيه لأمر رابني، إذ رأيت رجلا نزل من السماء له جناحان أخضران، فوقف عليه [ (3) ] ثم أشرف على مكة وقال:
__________
[ (1) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] في (خ) : «أنها أتت» .
[ (3) ] في (خ) : «على» .(4/29)
ذل الشيطان، وبطلت الأوثان، وولد الأمين.
قال النجاشي: إني أخبركما عما أصابني: إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبتي وقت خلوتي، إذ خرج عليّ من الأرض عنق ورأس وهو يقول: حل الويل بأصحاب الفيل، رمتهم طير أبابيل، بحجارة من سجيل، هلك الأشرم، المعتدي المجرم، وولد النبي الأمي، الحرمي المكيّ، من أجابه سعد، ومن أتاه عند.
وقال عبد اللَّه البلوي: حدثنا عمارة، حدثنا عبيد اللَّه بن العلاء، حدثنا محمد ابن عكير [ (1) ] عن سعيد بن جبير، أن رجلا من بني تميم يقال له: رافع بن عمير، كان أهدى [ (2) ] الناس بطريق، وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، فكانت العرب تسميه: دعموص [ (3) ] الرمل لهدايته وجرأته، فذكر عن بدء إسلامه قال: إني لأسير برمل عالج [ (4) ] ذات ليلة، إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي وأنختها وتوسدت ذراعها وقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن، من أن أوذي أو أهاج.
فرأيت في النوم رجلا شابا يرصد ناقتي بحربة، يريد أن يضعها في نحرها، فانتبهت فزعا، فرأيت ناقتي تضطرب، وإذا برجل كالذي رأيت في منامي بيده حربة، وشيخ ممسك بيده بردة وهو يقول:
يا مالك بن مهلهل بن أثار ... مهلا فدا لك مئزري وإزاري
عن ناقة الإنس لا تعرض لها ... واختر بها ما شئت من أثواري
__________
[ (1) ] لم أجده فيمن روى عن سعيد بن جبير في (تهذيب التهذيب) .
[ (2) ] في (خ) : «أهدا» .
[ (3) ] الدعموص: دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء، وقيل: هي دويبة تغوص في الماء، والجمع الدعاميص والدعامص. والدعموص أيضا: الدّخال في الأمور، الزوّار للملوك. ودعيميص الرمل: اسم رجل كان داهيا يضرب به المثل، يقال: هو دعيميص هذا الأمر، أي عالم به. (اللسان) : 7/ 36.
[ (4) ] هو رملة بالبادية مسماة بهذا الاسم، قال أبو عبد اللَّه السكونيّ: عالج رمال بين فيد والقربات، ينزلها بنو بحتر من طيِّئ، وهي متصلة بالثعلبية عن طريق مكة، لا ماء بها، ولا يقدر أحد عليه فيه، وهو مسيرة أربع ليال، وفيه برك إذا سالت الأودية امتلأت، وعالج لها ذكر في شعر حسان بن ثابت بعد أحد، في غزوة بدر الآخرة يؤنب قريشا. (معجم البلدان) : 4/ 78، (سيرة ابن هشام) :
4/ 167.(4/30)
ولقد بدا لي منك ما لم أجب ... إلا دعيت قرابتي وذماري
تسمو إليه بحربة مسمومة ... تبا لفعلك يا أبا العفاري
لولا الحياء وأن أهلك جيرة ... لعلمت ما كشفت من أخباري
قال رافع: فأجابه الشاب:
أأردت أن تعلو وتخفض ذكرنا ... في غير مرزية أبا العيزار
ما كان فيكم سيد فيما مضى ... إن الخيار همو بنو الأخيار
فاقصد لقصدك ما معيكم إنما ... كان المجير مهلهل بن أثار
قال: فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى:
قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي، فأخذ منها ثورا ثم انصرف، فالتفت إلى الشيخ فقال: يا هذا! إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ برب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها.
قال: فقلت: ومن محمد؟ قال: نبي عربي لا شرقي ولا غربي، قلت: فأين مسكنه؟ قال: يثرب.
قال: فركبت راحلتي حتى دخلت المدينة، فنزلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فحدثني بحديثي قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت.
قال سعيد بن جبير فكنا نرى أنه هو الّذي أنزل اللَّه فيه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الجن: 6، قوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ، روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في واد، نادى بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيعتقد بذلك أن الجني الّذي بالوادي يمنعه ويحميه. فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك:
لا نملك لكم ولا لأنفسنا من اللَّه شيئا.
قال مقاتل: أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب. وقال قتادة: فَزادُوهُمْ، أي الجن زادت الإنس مخافة أن يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويعوذونهم لما رأوا من خفة أحلامهم، فازدروهم واحتقروهم. وقال ابن جبير: رهقا: كفرا. (البحر المحيط) :
10/ 295- 296 باختصار.(4/31)
وذكر ابن سعد في طبقاته عن الواقدي: حدثنا علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: إنا ننتظر [ (1) ] نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك، فقلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذه البلدة [ (2) ] مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها [ (3) ] ، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإنّي طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسلم [ (4) ] من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه بمثل نعتي [ (5) ] لك ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بقول [ (6) ] زيد وأقرأته منه السلام، فردّ عليه السلام ورحّم عليه وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا [ (7) ] .
وقال أبو عمر بن عبد البر: روينا من حديث واثلة بن الأسقع قال: كان إسلام الحجاج بن علاط [السلمي ثم] [ (8) ] البهزي أنه خرج في ركب من قومه إلى مكة، فلما جنّ عليه الليل وهو في واد مخوف [ (9) ] قعد فقال له أصحابه: يا أبا كلاب! قم فخذ لنفسك ولأصحابك أمانا، فقام الحجاج بن علاط يطوف حولهم يكلؤهم ويقول:
__________
[ (1) ] في (الطبقات) : «أنا أنتظر» .
[ (2) ] في (ابن سعد) : «وهذا البلد» .
[ (3) ] في (ابن سعد) : «منه» .
[ (4) ] في (ابن سعد) : «أسأل» .
[ (5) ] في (ابن سعد) : «ما نعته» .
[ (6) ] في (ابن سعد) : «قول» .
[ (7) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 161- 162.
[ (8) ] زيادة في النسب من (الاستيعاب) .
[ (9) ] في المرجع السابق: «وحش مخوف» .(4/32)
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب
حتى أؤوب سالما وركبي
فسمع قائلا يقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [ (1) ] ، فلما قدموا مكة خبّر [ (2) ] بذلك في نادي قريش فقالوا له: صبأت [ (3) ] يا أبا كلاب، إن هذا [ (4) ] مما يزعم محمد أنه أنزل عليه، قال: واللَّه لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي، ثم أسلم الحجاج فحسن إسلامه [ (5) ] .. الحديث [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الرحمن: 33.
[ (2) ] في المرجع السابق: «أخبر» .
[ (3) ] في المرجع السابق: «صبأت واللَّه يا أبا كلاب» .
[ (4) ] في المرجع السابق: «فيما» .
[ (5) ] (الاستيعاب) : 1/ 325- 326، ترجمة الحجاج بن علاط السلمي رقم (482) .
[ (6) ] قال أبو عمر بن عبد البر: وحديثه بذلك صحيح من رواية ثابت البناني وغيره عن أنس. (المرجع السابق) .(4/33)
فصل في ذكر ما كان من أعلام نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منذ حملت به أمه آمنة بنت وهب [ (1) ] إلى أن بعثه اللَّه برسالته
اعلم أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من أمارات النبوة آيات وأعلام يهتدى بها إلى ثبوت نبوته وصدق رسالته، قدمها اللَّه تعالى قبل بعثته برسالته ليكون دليلا واضحا وبرهانا صحيحا لائحا على نبوته وتحقيق رسالته.
فمن ذلك: إخبار الحبر لعبد المطلب بأن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة، وأن ذلك في بني زهرة، وأن عبد اللَّه بن عبد المطلب كان يرى بين عينيه نور النبوة، وأن أمة آمنة بنت وهب لما حملت به بشّرت بأنه خير البرية، ولما ضربها المخاض دنت منه نجوم السماء، وخرج منها لما وضعته نور أضاء له البيت، وانتشر حتى أضاءت له قصور الشام وغيرها، وطرحوا عليه بعد ولادته برمة فانفلقت، وولد مختونا مسرورا، وفتحت لولادته أبواب السماء، واستبشرت الملائكة، وتطاولت الجبال وارتفعت البحار، وقلّ الشيطان ومردته، وألبست الشمس نورا عظيما، ونكست الأصنام وحجبت الكهان، وارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، وغاضت بحيرة ساوي، ورأى المؤبذان
__________
[ (1) ] هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
ولا نعلم أنه كان لآمنة أخ فيكون خالا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، ولكن بنو زهرة يقولون: نحن أخوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن آمنة منهم، كانت أفضل امرأة في قريش نسبا وموطنا، ويؤخذ من اللهجة التي كانت تتكلم بها السيدة آمنة أن أصلها من المدينة.
وكانت السيدة آمنة وفية لزوجها عبد اللَّه والد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته، فكانت تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة ماتت بها. (معجم البلدان) :
1/ 101، موضع رقم (152) ، (الأبواء) وهي موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، (المعارف) : 1/ 129، (أعلام النساء) : 1/ 18.(4/34)
أن إبلا تقود خيلا وانتشرت في بلاد فارس.
وردّ اللَّه ببركته أصحاب الفيل عن مكة، ومنعهم من تخريب البيت الحرام الّذي جعل اللَّه حجّه أحد أركان الإسلام، تحقيقا لشريعته، وتأييدا لدعوته، وما ظهر لظئره حليمة من البركة حين أرضعته من إقبال لبنها، وكثرته بعد قلته، وحلبها اللبن من شاتها التي لم يكن بها قطرة لبن، وسبق أتانها حمر رفاقها بعد تخلفها عنهم لضعفها، وسمن أغنامها دون أغنام قومها، وشق صدره المقدس عندها، ومعرفة اليهود له وهو طفل مع أمه بالمدينة، وتوسم جده عبد المطلب فيه السيادة، وقول بني مدلج: إن قدمه أشبه بقدم إبراهيم الخليل، ومعرفة أسقف نجران وهو غلام، وإخبار اليهودي أنه يخرج من صلب عبد المطلب نبي يقتل يهود، وما كان عمه أبو طالب يرى من البركة منذ كفله، وتظليل الغمام له، واعتراف بحيرا الراهب بنبوته، وإخبار نسطور بذلك.(4/35)
وأما إخبار الحبر لعبد المطلب بأن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة، وأن ذلك في بني زهرة
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث أبي عون [ (1) ] مولى المسور بن مخرمة، عن المسور عن عبد اللَّه بن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تعالى عنهما قال: قال عبد المطلب: قدمت اليمن في رحلة الشتاء فنزلت على حبر من أحبار اليهود، فقال لي رجل من أهل الزبور- يعني من أهل الكتاب-: ممن الرجل؟
قلت: من قريش، قال: من أيهم؟ قلت: [من بني هاشم] [ (2) ] ، قال:
يا عبد المطلب! تأذن [ (3) ] لي أن انظر إلى بعضك؟ قلت: نعم، ما لم يكن عورة، قال: ففتح أحد منخريّ ثم فتح الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا وفي الأخرى نبوّة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة، فكيف ذلك؟ فقلت [ (4) ] لا أدري، قال: هل لك من شاعة؟ قلت: وما الشاعة؟ قال: الزوجة، قلت: أما اليوم فلا، قال: فإذا رجعت فتزوج منهم [ (5) ] ، فرجع عبد المطلب إلى مكة فتزوج بهالة [ (6) ] بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت له حمزة وصفية، وتزوج
__________
[ (1) ] سند هذا الحديث في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عمر الخلال المكيّ قال: حدثنا محمد بن منصور الجواز قال: حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك ابن حميد بن عبد الرحمن الزهري قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز قال: حدثنا عبد اللَّه ابن جعفر المخرميّ، عن أبي عون مولى المسور بن مخرمة، عن المسور عن ابن عباس عن أبيه العباس ابن عبد المطلب قال: ...
[ (2) ] في (خ) : «من أيهم شئت» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] في المرجع السابق: «أتأذن» .
[ (4) ] في المرجع السابق: «قلت» .
[ (5) ] في المرجع السابق: «فيهم» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «هالة» .(4/36)
عبد اللَّه بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ووهب ووهيب أخوان، فقالت قريش حين تزوج عبد اللَّه: فلج عبد اللَّه على أبيه [ (1) ] .
ورواه الزهري وعبد الرحمن بن حميد عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه، أن عبد المطلب ... فذكر نحوه.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 129- 130، حديث رقم (71) ، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 99، وابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 86 لكن بسياقه أخرى ضمن قصة طويلة، والحاكم في (المستدرك) : 2/ 656، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، باب ذكر أخبار سيد المرسلين وخاتم النبيين، محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، المصطفى صلوات اللَّه عليه وعلى آله الطاهرين من وقت ولادته إلى وقت وفاته ما يصح منها على ما رسمنا في الكتاب لا على ما جرينا عليه من أخبار الأنبياء قبله إذ لم نجد السبيل إليها إلا على الشرط في أول الكتاب، حديث رقم (4176/ 186) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : يعقوب وشيخه ضعيفان، (ميزان الاعتدال) : 2/ 632، ترجمة رقم (5119) عبد العزيز بن عمران الزهري المدني، وهو عبد العزيز بن أبي ثابت، قال البخاري: لا يكتب حديثه، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال عثمان بن سعيد:
قلت ليحيى: فابن أبي ثابت عبد العزيز بن عمران ما حاله؟ قال ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر، وهو من ولد عبد الرحمن بن عوف.
وابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 309، فصل تزويج عبد المطلب ابنه عبد اللَّه من آمنة بنت وهب الزهرية، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 106- 107.(4/37)
وأما رؤية النور بين عيني عبد اللَّه بن عبد المطلب
فخرج أبو نعيم من حديث ابن شهاب [ (1) ] عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة، وعامر بن سعد عن أبيه سعد، قال: أقبل عبد اللَّه بن عبد المطلب أبو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وكان في بناء له وعليه أثر الطين والغبار، فمرّ بامرأة من خثعم، وقال [ (2) ] عامر بن سعد [ (3) ] عن أبيه في حديثه فمرّ بليلى العدويّة، فلما رأته ورأت ما بين عينيه دعته إلى نفسها وقالت له: إن وقعت بي فلك مائة من الإبل، فقال لها [عبد اللَّه بن عبد المطلب] [ (4) ] : حتى أغسل عني هذا الطين الّذي عليّ وأرجع إليك، فدخل على آمنة بنت وهب فواقعها فحملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الطيب المبارك، ثم رجع إلى الخثعمية، وقال عامر في حديثه إلى ليلى العدويّة فقال لها: هل لك فيما قلت؟ فقالت: لا [يا عبد اللَّه] [ (5) ] ، قال: ولم؟ قالت: لأنك مررت بي وبين عينيك نور، ثم رجعت إليّ وقد انتزعته آمنة بنت [ (6) ] وهب منك. فولدت [ (7) ] آمنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وله من حديث النضر بن سلمة [ (8) ] قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه محمد عن أبيه عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت سعد ابن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه يقول: نحن أعظم خلق اللَّه بركة، وأكثر خلق
__________
[ (1) ] السّند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا عمر بن محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن مسلمة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه قال: حدثني ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة وعامر بن سعد عن أبيه سعد قال ...
[ (2) ] في المرجع السابق: «فقال» .
[ (3) ] في (خ) : «سعيد» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «ابنة» .
[ (7) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فحملت آمنة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (8) ] السند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عمر الخلال المكيّ قال:
حدثنا عبد العزيز بن عمران قال: حدثني محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه عن جده قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ...(4/38)
اللَّه ولدا، خرج عبد اللَّه بن عبد المطلب ذات يوم متخصّرا [ (1) ] مترجلا حتى جلس في البطحاء، فنظرت إليه ليلى العدوية، فدعته إلى نفسها، فقال عبد اللَّه [بن عبد المطلب] [ (2) ] : أرجع إليك، ودخل [عبد اللَّه] [ (2) ] على آمنة [بنت وهب] [ (2) ] فقال لها اخرجي فواقعها وخرج، فلما رأته ليلى قالت: ما فعلت؟ فقال [عبد اللَّه] [ (2) ] : قد رجعت إليك، قالت [ليلى] [ (2) ] : لقد دخلت بنور ما خرجت به، ولئن كنت ألممت بآمنة بنت وهب لتلدن ملكا [ (3) ] .
وله من حديث ابن جريج عن عطاء [ (4) ] عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال:
لما خرج عبد المطلب بابنه ليزوجه مرّ به على كاهنة من أهل تبالة [ (5) ] متهوّدة [ (6) ] قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مرّ الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد اللَّه، فقالت له: يا فتى! هل لك أن تقع عليّ الآن وأعطيك مائة من الإبل فقال [عبد اللَّه] [ (7) ] :
أما الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالأمر الّذي تبغينه؟
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عندها ثلاثا، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته [ (8) ] إليه الخثعمية فأتاها فقالت: يا فتى! ما صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب وأقمت عندها ثلاثا، قالت:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «متحضّرا» ، والحديث أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) 1/ 130، حديث رقم (72) ، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 100، عن أبي نعيم، وأخرج القصة ابن هشام في (السيرة) : 1/ 291- 292.
[ (2) ] زيادات للسياق والنسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 131، حديث رقم (73) وفيه عبد العزيز بن عمران، وهو متروك.
[ (4) ] السند في (دلائل النبوة لأبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا محمد بن عمارة القرشيّ، قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال: ...
[ (5) ] تبالة: بلد باليمن.
[ (6) ] في (خ) : «مشهورة» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (8) ] في (خ) : «دعت» .(4/39)
إي واللَّه ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورا وأردت أن يكون فيّ، وأبى اللَّه إلا أن يصيره حيث أحبّ، [ثم قالت فاطمة الخثعمية] [ (1) ] :
وله من حديث داود بن أبي هند [ (2) ] عن عكرمة قال: كانت امرأة من خثعم تعرض نفسها في [موسم الحج] [ (3) ] ، وكانت ذات جمال، ومعها أدم تطوف به كأنها تبيعه، فأتت على عبد اللَّه بن عبد المطلب، فلما رأته أعجبها [ (4) ] فقالت: إني واللَّه ما أطوف لبيع [ (5) ] الأدم، وما بي إلى ثمنه من حاجه، ولكني إنما أتوسم الرجال [ (6) ] ، انظر هل أجد كفؤا، فإن كانت لك إليّ حاجة فقم، فقال لها:
مكانك [حتى] [ (7) ] أرجع إليك، فانطلق إلى أهله [ (8) ] ، فبدا له [ (9) ] فواقع أهله، فحملت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رجع إليها قال: ألا أراك هاهنا؟ قالت: ومن أنت [ (10) ] ؟ قال: أنا الّذي وعدتك، قالت لا: ما أنت هو، ولئن كنت ذاك [ (11) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «وقالت شعرا فذكره» ، قالت:
إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر
فلمائها نور يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر
ورجوته فخرا أبوء به ... ما كل قادح زنده يورى
للَّه ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري
والحديث أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 131- 133، حديث رقم (74) ، وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 96- 97، وفيه صدر البيت الثالث هكذا:
فلمأتها نورا يضيء به
وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) ، و (طبقات ابن سعد) .
[ (2) ] السند في (دلائل البيهقي) ، هكذا: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا عبد الوارث بن إبراهيم العسكري، قال: حدثنا مسدّد، قال: حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ...
[ (3) ] في (خ) : «موسم من المواسم» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فأظن أنه أعجبها» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «ما أطوف بهذا الأدم وما لي إلى ثمنها حاجة» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «وإنما أتوسم الرجل هل أجد كفؤا» .
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «إلى رحلة» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فبدأ فواقع أهله» .
[ (10) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فمن كنت؟» .
[ (11) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «قال: الّذي واعدتك» .(4/40)
لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن [ (1) ] .
وله من حديث ابن وهب [ (2) ] قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري قال: كان عبد اللَّه بن عبد المطلب أحسن رجل رئي قط، فخرج [ (3) ] يوما على نساء قريش وهن مجتمعات، فقالت امرأة منهن: أيتكن تتزوج بهذا الفتى فتصطبّ النور الّذي أرى [ (4) ] بين عينيه؟ فإنّي أرى بين عينيه نورا، فتزوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة [ (5) ] ، فحملت بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم [ (6) ] .
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق [ (7) ] : ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد اللَّه، فمرّ به- فيما يزعمون- على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد اللَّه؟ فقال:
مع أبي، قالت: لك عندي من الإبل مثل الّذي نحرت عنك وقع عليّ الآن، فقال لها: إن معي أبي [الآن] [ (8) ] ، لا أستطيع خلافه ولا فراقه، ولا أريد أن أعصيه شيئا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 107- 108.
[ (2) ] السند في (دلائل أبي نعيم) هكذا: حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان، قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري، قال: ...
[ (3) ] كذا في (خ) وفي (أبي نعيم) : «خرج» .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «النور الّذي بين عينيه» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (أبي نعيم) : «بن زهرة فجأة فحملت» .
[ (6) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 133، حديث رقم (75) ، وهو حديث مرسل، أخرجه أيضا السيوطي في (الخصائص) : 1/ 104 قال الشيخ أبو نعيم رحمه اللَّه: ففي ابتغاء اليهود واليهودية وضع هذا النور الّذي انتقل إلى آمنة بنت وهب فيها، وذكرهم بني زهرة، وأن هذا الأمر لا يكون فيهم، دلالة واضحة على تقديم الخبر والبشارة بذلك في الكتب السالفة، وما يكون من أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وبعثته، كل ذلك آيات واضحة، وبراهين صحيحة لائحة، على نبوته وبعثته صلّى اللَّه عليه وسلم. (المرجع السابق) : 1/ 133.
[ (7) ] السند في (دلائل البيهقي) هكذا: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ... ، وفي (سيرة ابن هشام) بغير سند، وفي (تاريخ الطبري) بغير سند، بل قال: «فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد» وكذلك قال (البيهقي والمقريزي) .
[ (8) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(4/41)
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة- ووهب يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا- فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا [ (1) ] .
قال: وذكروا أنه دخل عليها حين أملكها [ (2) ] مكانه، فوقع عليها فحملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال: ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي قالت له ما قالت- وهي أخت ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى- وهي في مجلسها، فجلس إليها وقال: مالك لا تعرضين عليّ اليوم مثل الّذي عرضت أمس؟.
قالت [ (3) ] : فارقك [ (4) ] النور الّذي كان فيك، فليس لي بك اليوم حاجة، وكانت فيما زعموا تسمع من أخيها ورقة ابن نوفل- وكان قد تنصّر واتّبع الكتب- يقول: إنه لكائن في هذه الأمة نبي من بني إسماعيل [ (5) ] ، فقالت في ذلك شعرا فذكره [ (6) ] ، واسمها أم قتّال بنت نوفل بن أسد.
__________
[ (1) ] [وهي لبرّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصيّ. وأم برة: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصيّ. وأم حبيب بنت أسد: لبرّة بنت عوف بن عبيد بن عدي بن عدي بن كعب ابن لؤيّ بن غالب بن فهر] ما بين الحاصرتين زيادة من (دلائل البيهقي) ، و (ابن هشام) ، و (تاريخ الطبري) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (الطبري) ، و (ابن هشام) ، وفي (البيهقي) : «ملكها» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، و (ابن هشام) ، وفي (الطبري) ، و (البيهقي) : «فقالت» .
[ (4) ] في (البيهقي) : «قد فارقك» .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 102- 104، باب تزوج عبد اللَّه بن عبد المطلب: أبي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بآمنة بنت وهب، وحملها برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ووضعها إياه، (سيرة ابن هشام) . 1/ 292 باب ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد اللَّه بن عبد المطلب، (تاريخ الطبري) : 2/ 243- 244.
[ (6) ] هذا الشعر ذكره البيهقي في (الدلائل) ، حيث قالت أم قتّال بنت نوفل بن أسد:
الآن وقد ضيّعت ما كنت قادرا ... عليه وفارقك الّذي كان جاءك
غدوت عليّ حافلا قد بذلته ... هناك لغيري فالحقنّ بشانكا
ولا تحسبنّي اليوم خلوا وليتني ... أصبت جنينا منك يا عبد داركا
ولكن ذاكم صار في آل زهرة ... به يدعم اللَّه البرية ناسكا
وقالت أيضا:
عليك بآل زهرة حيث كانوا ... وآمنة التي حملت غلاما(4/42)
__________
[ () ]
ترى المهديّ حين ترى عليه ... ونورا قد تقدّمه إماما
وقالت أيضا:
فكل الخلق يرجوه جميعا ... يسود الناس مهتديا إماما
برأه اللَّه من نور صفاء ... فأذهب نوره عنا الظلاما
وذلك صنع ربك إذ حباه ... إذا ما سار يوما أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر ... ويفرض بعد ذلكم الصّياما
قال البيهقي: قلت: وهذا الشيء قد سمعته من أخيها في صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. ويحتمل أن كانت أيضا امرأة عبد اللَّه مع آمنة.
قال الدكتور عبد المعطي قلعجي محقق (دلائل البيهقي) تعليقا على هذا الخبر: خبر غريب موضوع، لا سند له، ولا منطق يؤيده، ويناقض الأحاديث الصحيحة، تناقلته كتب السيرة بما دسّه عليها أعداء الإسلام، من يهود، وسبيئة، وشانئين، ومنافقين.
1- فرغم ما عرف عن تمسك المؤرخين بالسند، وأن كل الأخبار الصحيحة وردت بالسند القوي المتواتر، فهذا الخبر ليس له سند، فلا هو بمتصل، ولا بمرفوع، لا، بل نقله (الطبري) :
2/ 243، [ابن هشام: 1/ 291] ، [البيهقي: 1/ 102] ، [المقريزي في النسخة (خ) من إمتاع الأسماع] ، [بقولهم جميعا] : «فيما يزعمون» .
2- إن متنه وما تضمنه من حكاية المرأة التي عرضت الزنا على عبد اللَّه وهو حديث عهد بزواج، تناقض الأحاديث الصحيحة، من طهارة وشرف نسب الأنبياء، وأن هذه الطهارة، وهذا الشرف من دلائل نبوتهم،
قال صلّى اللَّه عليه وسلم: «إن اللَّه اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وهذا الحديث في الترمذي ومسند أحمد،
وأن اللَّه طهره من عهر الجاهلية وأرجاسها، ووالده عبد اللَّه كان صورة طبق الأصل من عبد المطلب، ولو أمهله الزمن لتولى مناصب الشرف التي كانت بيد عبد المطلب، وكان شعاره الّذي التزمه طيلة حياته:
أما الحرام فالممات دونه
رجل هذا شأنه، هل نطمئن إلى هذه الروايات المزعومة، وأنه بعد أن دخل بزوجته آمنة، عاد فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: «مالك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالأمس؟» !!.
3- تخبطت الروايات في اسم المرأة، فهي مرة امرأة من خثعم، ومرة أم قتال أخت ورقة ابن نوفل، ومرة هي ليلى العدوية، ومرة كاهنة من أهل قبالة متهوّدة، ومرة أنه كان متزوجا بامرأة أخرى غير آمنة ... إلخ هذا التخبط الدال على الكذب، ولماذا اختار الرواة أخت ورقة ابن نوفل، أو امرأة كانت قد قرأت الكتب؟!.
4- إننا إذا نظرنا إلى الشعر الوارد في هذا الخبر على لسان المرأة، لوجدناه شعرا ركيكا، مزيفا، مصنوعا، ملفقا، مضطرب القافية، محشورة الكلمات فيه بشكل مصطنع واضح الدلالة على تلفيقه، وبهذا كله يسقط هذا الخبر الواهي، ويدل على هذا قول ابن إسحاق، والطبري،(4/43)
قال ابن إسحاق [ (1) ] : حدثني والدي إسحاق بن يسار قال: حدثت أنه كان لعبد اللَّه بن عبد المطلب امرأة مع آمنة بنت وهب [بن عبد مناف] [ (2) ] ، فمر بامرأته [تلك] [ (3) ] وقد أصابه أثر من طين عمل به، فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت من أثر الطين.
فدخل فغسل عنه أثر الطين، ثم دخل عامدا إلى آمنة، ثم دعته صاحبته التي كانت أرادته إلى نفسها، فأبى [ (4) ] للذي صنعت به أول مرة، فدخل على آمنة فأصابها ثم خرج، فدعاها إلى نفسه فقالت: لا حاجة لي بك، مررت بي وبين عينيك غرّة فرجوت أن أصيبها، فدخلت على آمنة فذهبت بها منك.
قال ابن إسحاق: فحدثت أن امرأته تلك كانت تقول: لمرّ بي وإن بين عينيه لنورا مثل الغرّة، ودعوته له رجاء أن يكون لي، فدخل على آمنة فأصابها فحملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (5) ] .
__________
[ () ] [والبيهقي] ، و [المقريزي] ، وغيرهم ممن نقلوا الخبر- فيما يزعمون- وهم زعم باطل. (دلائل البيهقي) 1/ 104- 105 «هامش» .
[ (1) ] السند في (دلائل البيهقي) : وأخبرنا أبو عبيد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس: أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني والدي: إسحاق بن يسار، قال: ...
[ (2) ] زيادة للنسب من (البيهقي) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (البيهقي) .
[ (4) ] في (خ) : «فأبا» والتصويب من (البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 105- 106، (سيرة ابن هشام) : 1/ 292، قصة حمل آمنة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، (تاريخ الطبري) : 2/ 244.(4/44)
وأما إخبار آمنة بأنها قد حملت بخير البرية وسيّد الأمة
فخرج أبو نعيم من حديث النضر بن سلمة، حدثنا أبو غزيّة محمد بن موسى [الأنصاري] [ (1) ] عن أبي عثمان سعيد بن زيد [الأنصاري] [ (1) ] عن ابن بريدة عن أبيه بريدة قال: رأت آمنة بنت وهب أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في منامها، فقيل لها: إنك قد حملت بخير البرية وسيد العالمين، فإذا ولدته فسميه أحمد ومحمدا، وعلقي عليه هذه، قال: فانتبهت وعند رأسها صحيفة من ذهب مكتوب فيها [ (2) ] : أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، من كل خلق زائد، من قائم أو قاعد، عن السبيل حائد [ (3) ] ، على الفساد جاهد، من نافث أو عاقد، وكل جن [ (4) ] مارد، يأخذ بالمراصد، في طرق الموارد، أنهاهم عنه باللَّه الأعلى، وأحوطه [منهم] [ (5) ] باليد العليا، والكف الّذي لا يرى [ (6) ] ، يد اللَّه فوق أيديهم، وحجاب اللَّه دون عاديهم، لا تطردوه ولا تضروه [ (7) ] ، في مقعد ولا منام، ولا مسير ولا مقام، أول الليالي وآخر الأيام [أربع مرات بهذا] [ (8) ] .
[قال سعيد بن زيد الأنصاري: فلقيت بريدة بن سفيان الأسلمي، فذكرت له هذا الحديث الّذي حدثنا ابن بريدة عن أبيه، فقال بريدة بن سفيان: حدثنيه بريدة بهذا، وحدثني محمد بن كعب عن ابن عباس بهذا] [ (9) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (أبي نعيم) .
[ (2) ] في (خ) : «فيها هذه» .
[ (3) ] في (خ) ، و (المواهب) : حائد، وفي (أبي نعيم) : «عاند» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المواهب) ، و (أبي نعيم) : «خلق مارد» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (6) ] في (خ) : «الّذي يدني» ، وما أثبتناه من (أبي نعيم) .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (أبي نعيم) : «لا يطردونه ولا يضرونه» .
[ (8) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (9) ] ما بين الحاصرتين من (خ) ، وغير موجود في رواية أبي نعيم، وهذا الحديث ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 136، حديث رقم (78) وقد انفرد به أبو نعيم، وفيه أبو غزية محمد بن موسى الأنصاري، وهو ضعيف كما في (ميزان الاعتدال) : 4/ 49، ترجمة رقم (8222) ،(4/45)
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وكانت آمنة بنت وهب أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، من كل بر عاهد، وكل عبد رائد، يذود عني ذائد، فإنه عند الحميد الماجد، حتى أراه قد أتى المشاهد.
وقال: فإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، واسمه في الفرقان محمد، فسمته بذلك.
فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها، وقد كان هلك أبوه عبد اللَّه وهي حبلى، ويقال: إن عبد اللَّه هلك والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهرا [فاللَّه أعلم أي ذلك كان] [ (1) ] .
فقالت: قد ولد لك الليلة غلام فانظر إليه، فلما جاءها خبرته خبره وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه.
فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو اللَّه ويتشكّر للَّه [عزّ وجلّ] [ (2) ] الّذي أعطاه إياه، فقال:
الحمد للَّه الّذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان [ (3) ]
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه باللَّه [ (4) ] ذي الأركان
__________
[ () ] قال البخاري: عنده مناكر، وقال ابن حبان كان يسرق الحديث، ويروي عن الثقات الموضوعات، وقال أبو حاتم: ضعيف، ووثّقه الحاكم. مات سنة سبع ومائتين.
ومن قوله: «أعيذه بالواحد ... إلى آخر الأبيات» كما في (المواهب) أو إلى قوله: «طرق الموارد» كما في (خ) ، قال عنه الحافظ عبد الرحيم العراقي: هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس، ولا أصل لها، قال الشامي: وسنده واه جدا، وإنما ذكرته لأنبه عليه لشهرته في كتب المواليد. (المواهب اللدنية) 1/ 120- 121.
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] الأردان: جمع ردن، وهو أصل الكم، وذلك كناية عن العفة والطهارة.
[ (4) ] في (البداية والنهاية) : «بالبيت ذي الأركان» ، وفي (خ) ، و (صفة الصفوة) ، و (ابن سعد) : «باللَّه ذي الأركان» .(4/46)
حتى يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنئان [ (1) ] ... من حاسد من مضطرب العنان
ذي همدة ليس له عينان ... حتى أراه رافع اللسان
أنت الّذي سميت في الفرقان ... في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على اللسان [ (2) ]
[ويقال: إنه أتاها في منامها حين مرّ بها من حملها ثلاثة أشهر] .
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عمرو الأنصاري عن أبيه عن كعب الأحبار في صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال ابن عباس: وكان من دلالات حمل محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت:
حمل برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها.
ولم يبق كاهنة في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهانة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، والملك مخرسا لا ينطق يومه ذلك، ومرت وحش المشرق إلى وحش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا في كل شهر من شهوره نداء [ (3) ] في الأرض ونداء [ (3) ] في السماء أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا.
قال: وبقي في بطن أمة تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا ريحا ولا مغصا ولا ما يعرض للنساء من أداء الحمل.
وهلك أبوه عبد اللَّه وهو في بطن أمة فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا! بقي
__________
[ (1) ] الشنآن: البغض.
[ (2) ] وردت هذه الأبيات بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير، وزيادة ونقصان، وما أثبتناه ما رواه ابن كثير في (البداية والنهاية) ، فهو أتم الروايات وأصحها، والخبر ورد في: (دلائل البيهقي) :
1/ 111- 112، و (صفة الصفوة) : 1/ 25- 26، و (سيرة ابن هشام) : 1/ 296، و (طبقات ابن سعد) : 1/ 103، و (البداية والنهاية) : 2/ 224، راجع (امتاع الأسماع) :
1/ 8، بتحقيقنا.
[ (3) ] في (خ) : «نداء» ، والتصويب من (المواهب اللدنية) .(4/47)
نبيك هذا يتيما، فقال اللَّه للملائكة: أنا له وليّ وحافظ ونصير، وتباركوا بمولده، فمولده ميمون مبارك، وفتح اللَّه تعالى لمولده أبواب السماء وجنانه.
فكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مرّ بي من حمله ستة أشهر، فوكزني برجله في المنام وقال لي: يا آمنة، إنك قد حملت بخير العالمين طرّا، فإذا ولدتيه فسميه محمدا، واكتمي شأنك.
قال: فكانت تحدث عن نفاسها وتقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم، ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل- وعبد المطلب في طوافه- قالت: فسمعت رجّة شديدة وأمرا عظيما فهالني، وذلك يوم الاثنين فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي، فذهب عني كل رعب وكل فزع ووجع كنت أجد.
ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا- وكنت عطشى- فتناولتها فشربتها، فأضاء مني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا [ (1) ] ، كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول: وا غوثاه، من أين علمن بي هؤلاء، واشتد الأمر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، فإذا أنا بديباج قد مدّ بين السماء والأرض وإذا قائل يقول: خذوه عن أعين الناس.
قالت: ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة، وأنا أرشح عرقا كالجمان، أطيب ريحا من المسك الأذفر وأقول: يا ليت عبد المطلب قد دخل عليّ وعبد المطلب نائي.
قالت: فرأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من اليواقيت، فكشف اللَّه لي عن بصري، فأبصرت ساعتي تلك مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات:
علما في المشرق وعلما في المغرب وعلما على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض واشتد بي الأمر جدا، فكنت كأني مستندة إلى أركان النساء، وكثرن عليّ حتى لا أرى
__________
[ (1) ] في (خ) : «الطول» ، وما أثبتناه من (المواهب اللدنية) .(4/48)
معي في البيت أحدا وأنا لا أرى شيئا، فولدت محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
فلما خرج من بطني نظرت إليه فإذا أنا به ساجدا قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء تنزل حتى غشيته، فغيب عن وجهي، فسمعت مناديا ينادي ويقول: طوفوا بمحمد شرق الأرض وغربها، وأدخلوه البحار كلها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمي الماحي لا يبقى شيء من الشرك إلا محي به في زمنه.
ثم تجلت عنه في أسرع وقت، فإذا به مدرج في ثوب صوف أبيض، أشد بياضا من اللبن، وتحته حبرة خضراء، قد قبض محمد صلّى اللَّه عليه وسلم على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصر ومفاتيح الريح ومفاتيح النبوة.
ثم أقبلت سحابة أخرى أعظم من الأولى ونور، يسمع منها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة من كل مكان، وكلام الرجال، حتى غشيته فغيب عني أطول وأكثر من المرة الأولى، فسمعت مناديا ينادي [و] يقول: طوفوا بمحمد الشرق والغرب على مواليد النبيين، واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والطير والسباع، وأعطوه صفاء آدم، ورقة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وصبر يعقوب، وجمال يوسف، وصوت داود، [وصبر أيوب] ، وزهد يحى، وكرم عيسى، واعمروه في أخلاق الأنبياء.
ثم تجلت عنه في أسرع من طرف العين، فإذا به قد قبض على حريرة خضراء، مطوية طيا شديدا، ينبع من تلك الحريرة ماء معين، وإذا قائل يقول: بخ بخ، قبض محمد على الدنيا كلها، لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته طائعا بإذن اللَّه تعالى، ولا قوة إلا باللَّه.
قالت آمنة: فبينا أنا أتعجب وإذا بثلاثة نفر- ظننت بأن الشمس تطلع من خلال وجوههم- في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي ذلك الإبريق ريح المسك، وفي يد الثاني طست من زمرد أخضر، عليها أربعة نواحي كل ناحية من نواحيها لؤلؤة بيضاء، وإذا قائل يقول: هذه الدنيا شرقها وغربها وبرها وبحرها، فاقبض(4/49)
يا حبيب اللَّه على [أية] ناحية شئت.
قالت: فدرت لأنظر أين قبض من الطست، فإذا هو قد قبض على وسطها، فسمعت القائل يقول: قبض على الكعبة ورب الكعبة، أما إن اللَّه قد جعلها له قبلة ومسكنا مباركا، ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية طيا شديدا فنشرها، فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه، ثم حمل ابني فناوله صاحب الطست وأنا انظر إليه، فغسله بذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ختما واحدا ولفه في الحريرة، واستدار عليه خطا من المسك الأذفر، ثم حمله فأدخله بين أجنحته ساعة.
قال ابن عباس: كان ذلك رضوان خازن الجنان، وقال في أذنه كلاما كثيرا لم أفهمه، وقبل بين عينيه وقال: أبشر يا محمد، فما بقي لنبي علم إلا أعطيته، فأنت أكثرهم علما وأشجعهم قلبا، معك مفاتيح النصر، وقد ألبست الخوف والرعب، ولا يسمع أحد بذكرك إلا وجل في فؤاده، وخاف قلبه، وإن لم يرك يا حبيب اللَّه.
قالت: ثم رأيت رجلا قد أقبل نحوه حتى وضع فاه على فيه، فجعل يزقه كما تزق الحمامة فرخها، فكنت انظر إلى ابني يشير بإصبعه يقول: زدني زدني، فزقه ساعة ثم قال: أبشر يا حبيبي، فما بقي لنبي حلم إلا وقد أوتيته.
ثم احتمله فغيبه عني، فجزع فؤادي وذهل قلبي، فقلت: ويح لقريش والويح لها! ماتت كلها، أنا في ليلتي وفي ولادتي، أرى ما أرى، ويصنع بي ما يصنع ولا يقربني أحد من قومي، إن هذا لهو أعجب العجب.
قالت: فبينا أنا كذلك إذ أنا به قد ردّ عليّ كالبدر، وريحه يسطح كالمسك وهو يقول: خذيه، فقد طافوا به الشرق والغرب على مواليد الأنبياء أجمعين، والساعة كان عند أبيه آدم فضمه إليه، وقبله بين عينيه، وقال: أبشر حبيبي، فأنت سيد الأولين والآخرين، ومضى، وجعل يلتفت ويقول: أبشر يا عزّ الدنيا وشرف الآخرة، فقد استمسكت بالعروة الوثقى، فمن قال بمقالتك وشهد بشهادتك حشر غدا يوم القيامة تحت لوائك وفي زمرتك، وناولنيه ومضى، ولم(4/50)
أره بعد تلك المرة.
قال كاتبة: هكذا أورد الحافظ أبو نعيم هذا الحديث، وأن الوضع يلوح عليه [ (1) ] !
__________
[ (1) ] وأورده القسطلاني في (المواهب) تحت عنوان: «حديث شديد الضعف في حمله صلّى اللَّه عليه وسلم» ، وتحت عنوان: «أحاديث مطعون فيها ومنكره في الموالد» . (المواهب اللدنية) : 1/ 121، 124- 126، وقال في آخره: ورواه أبو نعيم عن ابن عباس، وفيه نكارة.(4/51)
وأما دنوّ النجوم منها عند ولادته وخروج النور منها
فخرج الحافظ أبو نعيم [ (1) ] وأبو بكر البيهقي [ (2) ] من حديث يعقوب بن محمد الزهري قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني عبد العزيز بن عمر ابن عبد الرحمن بن عوف قال: أخبرني عبد اللَّه بن عثمان بن أبي سليمان عن ابن أبي سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص قال: أخبرتني أمي أنها حضرت آمنة أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما ضربها المخاض، [قالت] [ (3) ] : فجعلت انظر إلى النجوم [تدلى] [ (3) ] حتى قلت: لتقعن عليّ، فلما وضعت خرج منها نور أضاء له البيت والدار، حتى جعلت لا أرى إلا [نورا] [ (3) ] .
قال كاتبه: سند هذا الحديث واه جدا، فيعقوب [ (4) ] وإن كان حافظا فقد
__________
[ (1) ] سند (أبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن عمر الخلّال المكيّ، قال: حدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال:
حدثني عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أخبرني عبد اللَّه بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص، قال: ...
[ (2) ] وسند (البيهقي) : أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو بشر مبشر بن الحسن، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص، قال:....
[ (3) ] زيادات للسياق من (أبي نعيم) ، وأما رواية (البيهقي) :
حدثتني أمي: أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ليلة ولدته. قالت: فما شيء انظر إليه في البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعنّ عليّ.
والحديث ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 135، حديث رقم (76) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 111، رواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 220، وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد العزيز بن عمران وهو متروك، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 113.
[ (4) ] يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني نزيل بغداد. قال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه ليس بشيء، ليس يسوى شيئا. وقال أحمد بن سنان القطان عن ابن معين: ما حدثكم عن الثقات فاكتبوه، وما لا يعرف من الشيوخ فدعوه. وقال(4/52)
ضعّفه أحمد وأبو زرعة وابن معين وعبد العزيز بن عمران [ (1) ] ، قال ابن معين:
وتكلم فيه البخاري والنسائي.
ولأبي نعيم من حديث ابن لهيعة قال: حدثني عمارة بن غزية عن سعد بن عبيد بن إبراهيم مولى الزبير، أنه حدثه عن عطاء بن عياد عن آمنة بنت وهب- أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورا أضاء له قصور الشام حتى رأيتها.
ورواه عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ عن عمارة بن غزية عن سعيد بن عبيد عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة بمثله سواء، فجوده الدراوَرْديّ عن عمارة [ (2) ] .
ومن حديث أبي غزية محمد بن موسى عن أبي عثمان سعيد بن زيد الأنصاري عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مسترضعا في بني سعد بن بكر فقالت أمه آمنة لمرضعته: انظري ابني هذا! فسلي عنه، فإنّي رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب أضاءت له الأرض كلها حتى رأيت قصور الشام، فسلي عنه [ (3) ] .
__________
[ () ] الآجري: عن أبي داود سمعت الدقيقي يقول: سألت ابن معين عنه فقال: إذا حدثكم عن الثقات.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث. (تهذيب التهذيب) : 11/ 347- 348، ترجمة رقم (665) .
[ (1) ] عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني الأعرج، المعروف بابن أبي ثابت. قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: كان صاحب نسب، ولم يكن من أصحاب الحديث. وقال عثمان الدارميّ عن يحيى: ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر. وقال الحسين ابن حبان عن يحيى: قد رأيته ببغداد كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم، وليس حديثه بشيء.
وقال البخاري: منكر الحديث، لا يكتب حديثه.
وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: لا يكتب حديثه، وقال ابن حبان: يروى المناكر عن المشاهير. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا، قيل له: يكتب حديثه، قال: على الاعتبار وقال ابن أبي حاتم: امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه وترك الرواية عنه. وقال الترمذي والدار الدّارقطنيّ: ضعيف. وقال عمر بن شبة في (أخبار المدينة) : كان كثير الغلط في حديثه، لأنه احترقت كتبه، فكان يحدث منه حفظه. (المرجع السابق) : 6/ 312- 313، ترجمة رقم (674) .
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 102، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 137، حديث رقم (79) .
[ (3) ] المرجع السابق ضمن الحديث السابق رقم (79) ، وهو حديث طويل وقال فيه: «كأنه خرج مني» ، وفي (خ) «خرج من فرجي» .(4/53)
وله من حديث أبي اليمان الحكم بن نافع قال: حدثنا أبو بكر بن مريم عن سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إني عبد اللَّه في أم الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك أمهات النبيين يرين [ (1) ] .
ورواه معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين، وأن أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [رأت] حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام [ (1) ] .
ومن حديث الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا الفرج ابن فضالة عن لقمان بن عامر عن أبي أمامة رضي اللَّه تعالى عنه قال: قلت: يا نبي اللَّه! ما كان بدؤ أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج عنها نور أضاءت منه قصور الشام [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 127، (مسند أحمد) : 5/ 110- 111، من حديث العرباض بن سارية، حديث رقم (16700) ، حديث رقم (16701) ، (المستدرك) : 2/ 253، حديث رقم (2566/ 703) ، وقال في آخره: ثم تلا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] ، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (المرجع السابق) ، ص 656، حديث رقم (4174/ 184) ، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح. (سيرة ابن هشام) : 1/ 293، (الإحسان) : 14/ 312- 313، كتاب التاريخ، باب صفته صلّى اللَّه عليه وسلم وأخباره، حديث رقم (6404) ، (دلائل البيهقي) : 1/ 80- 82، باب ذكر مولد المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، والآيات التي ظهرت عند ولادته وقبلها وبعدها، (المرجع السابق) : 2/ 130، جماع أبواب المبعث، باب الوقت الّذي كتب فيه محمد نبيا.(4/54)
وأما انفلاق البرمة عنه
فخرج البيهقي من حديث أبي صالح عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني معاوية ابن صالح عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد من قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح فيكفين عليه برمة، فلما ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة يكفين عليه برمة، فلما أصبحن [أتين] [ (1) ] فوجدن [ (2) ] البرمة قد انفلقت فلقتين [ (3) ] ، ووجدنه [ (3) ] مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له: ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه [ (4) ] ، شاخصا ببصره إلى السماء فقال: احفظنه، فإنّي أرجو أن يصيب خيرا.
فلما كان يوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا:
يا عبد المطلب! أرأيت ابنك هذا الّذي أكرمتنا على وجهه، ما سمّيته؟ قال: سميته محمدا، قالوا: فلم رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده اللَّه في السماء وخلقه في الأرض [ (5) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث إسحاق بن عبد اللَّه بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان عهد الجاهلية إذا ولد لهم المولود من تحت الليل رموه تحت الإناء فلا ينظرون إليه حتى يصبحوا، فلما ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم طرحوه تحت البرمة، فلما أصبحوا اشتغلوا بأمه، فلما أتوا البرمة إذا هي قد انفلقت ثنتين، وعيناه إلى السماء، فعجبوا من ذلك، فأرسلوا إلى جده وهو حيّ فجاء فنظر
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية (البيهقي) .
[ (2) ] في (خ) : «وجدن» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (البيهقي) : «باثنتين» ، «فوجدنه» .
[ (4) ] في بعض النسخ: «مفتوح العينين» .
[ (5) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 113، ونقله ابن كثير في (البداية والنهاية) ، عن (تهذيب تاريخ ابن عساكر) ، وابن الجوزي في (صفة الصفوة) : 1/ 25 والبرمة: قدر من الحجر.(4/55)
فعجب منه وقال: ادفعوا ابني هذا فإنه منّا، ودفع إلى امرأة من بني بكر ترضعه، فلما أرضعته دخل عليها الخير من كل جانب، وكان لها شويهات [عجاف] فبارك اللَّه فيها فنمت وزادت زيادة حسنه.
ومن حديث الصلت بن محمد أبي همام قال: حدثنا مسلمة بن علقمة، حدثنا داود بن أبي هند قال: توفى أبو النبي عليه السلام وأمه حبلى به، فلما وضعته نارت الظراب [ (1) ] لوضعه، واتقى الأرض بكفيه حين وقع، وأصبح يتأمل السماء بعينيه، وكفئوا [ (2) ] عليه برمة ضخمة فانفلقت عنه فلقتين [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الظراب: الروابي.
[ (2) ] في (خ) : «وكفوا» .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 138، حديث رقم (80) .(4/56)
وأما ولادته مختونا مسرورا
فخرج البيهقي من حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تعالى عنه قال: ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مختونا مسروا، [قال] [ (1) ] فأعجب جده عبد المطلب، وحظي عنده وقال: ليكونن لا بني هذا شأن، فكان له شأن [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث الحسن بن عرفة قال: حدثنا هشيم [ (3) ] بن بشير عن يونس [ (4) ] بن عبيد عن الحسن [عن أنس بن مالك] [ (5) ] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي [ (6) ] .
وله من حديث علي بن محمد المدائني قال: حدثنا سلمة [ (7) ] بن محارب [بن سلم] [ (8) ] بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة، أن جبريل ختن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين طهّر قلبه [ (9) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية (البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 114، و (طبقات ابن سعد) : 1/ 103.
[ (3) ] في (خ) : «هيثم» .
[ (4) ] في (خ) : «موسى» .
[ (5) ] في (خ) : الحسن بن مالك.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 154، حديث رقم (91) ، بيان رضاعه وفصاله وأنه ولد مختونا مسرورا صلّى اللَّه عليه وسلم، والمسرور: مقطوع السّرّة.
[ (7) ] في (خ) : «مسلمة» .
[ (8) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (9) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 155/ حديث رقم (93) .
قال القسطلاني في (المواهب) : قال الحاكم في (المستدرك) : تواترات الأخبار أنه صلّى اللَّه عليه وسلم ولد مختونا. وتعقبه الحافظ الذهبي فقال: ما أعلم صحة لذلك، فكيف يكون متواترا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الاخبار اشتهارها وكثرتها في السير، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث.(4/57)
وأما استبشار الملائكة وتطاول الجبال وارتفاع البحار وتنكيس الأصنام وحجب الكهان ونحو ذلك
فخرج أبو نعيم من حديث أبي أحمد الزبيري قال: حدثنا سعيد بن محمد المدني عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبي وكان من أوعية العلم قال: لما حضرت الولادة آمنة قال اللَّه لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها، وأمر اللَّه الملائكة بالحضور، فنزلت تبشر بعضها بعضا، وتطاولت جبال الدنيا، وارتفعت البحار وتناثر أهلها، فلم يبق ملك إلا حضر.
__________
[ () ] وقد حكى الحافظ زين الدين العراقي، أن الكمال بن العديم ضعّف أحاديث كونه ولد مختونا، وقال إنه لا يثبت في هذا شيء من ذلك.
وأقرّه عليه، وبه صرّح ابن القيم في (الهدي النبوي) ثم قال: ليس من خصائصه، إن كثيرا من الناس ولد مختونا.
ويحكى الحافظ ابن حجر أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمر، فسحت قلفته- أي اتسعت- فيصير كالمختون.
وفي (الوشاح) لابن دريد: قال ابن الكلبي: بلغني أن آدم خلق مختونا، واثنى عشر نبيا من بعده خلقوا مختونين، آخرهم محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وهم: شيث، وإدريس، ونوح، وسام، ولوط، ويوسف، وموسى، وسليمان، وشعيب، ويحيى، وهود، وصالح صلوات اللَّه عليهم أجمعين.
وفي هذه العبارة تجوّز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن اللَّه تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتباره أنه على صفة المقطوع.
الخلاصة في ختانه صلّى اللَّه عليه وسلم: وقد حصل من الاختلاف في ختانه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ولد مختونا كما تقدم.
الثاني: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا. رواه الوليد ابن مسلم بسنده إلى ابن عباس، وحكاه ابن عبد البر في (التمهيد) .
الثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم، والدمياطيّ إن جبريل عليه السلام ختنه حين طهّر قلبه.
وكذا أخرجه الطبراني في (الأوسط) ، وأبو نعيم من حديث أبي بكرة. قال الذهبي وهذا منكر. (المواهب اللدنية) 1/ 133- 136. وللقسطلاني في المرجع السابق بحث في فقه الختان ص 136- 138 وهو بحث نفيس، فليراجع هناك.(4/58)
وأخذ الشيطان فغلّ سبعين غلا، وألقي منكوسا في لجة البحر الخضراء، وغلّت الشياطين والمردة، وألبست الشمس يومئذ نورا عظيما، وأقمن على رأسها سبعون ألف حوراء في الهواء ينتظرن ولاده محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
وكان قد أذن اللَّه ملك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لأحمد، وأن لا تبقي شجرة إلا حملت، ولا خوف إلا عاد أمنا.
فلما ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم امتلأت الدنيا كلها نورا، وتباشرت الملائكة وضرب في كل سماء عمود من زبرجد، وعمود من ياقوت، وقد استنار به، وهي معروفة في السماء، قد رآها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة أسرى به، قيل: ما ضرب استبشارا بولادتك.
وقد أنبت اللَّه ليلة ولد على شاطئ الكوثر سبعين ألف شجرة من المسك الأذفر، وجعلت ثمارها بخور أهل الجنة، وكل أهل السموات يدعون اللَّه بالسلامة.
ونكست الأصنام كلها، وأما اللات والعزى فإنّها أخرجا من خزانتهما وهما يقولان: ويح قريش، جاءهم الأمين، جاءهم الصديق، لا تعلم قريش ماذا أصابها.
وأما البيت: فسمعوا أياما من جوفه صوتا وهو يقول: الآن يرد عليّ نوري ... الآن يجيئني زوّاري ... الآن أطهر من أنجاس الجاهلية.. أيتها العزى هلكت.
قال: ولم تسكن زلزلة البيت ثلاثة أيام بلياليها، وهذه أول علامة رأت قريش من مولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال كاتبة: هكذا أورد الحافظ أبو نعيم هذا الحديث، وهو من تلفيق القصاص وتنميقهم، وحكى أبو الربيع بن سالم الكلاعي أن تقي بن مخلد ذكر في تفسيره أن إبليس رنّ أربع رنّات: رنّة حين لعن، ورنّة حين أهبط، ورنّة حين ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ورنّة حين أنزلت فاتحة الكتاب.(4/59)
وأما ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وخمود نار فارس ورؤيا الموبذان
فخرج الحافظ أبو نعيم وأبو بكر البيهقي- والسياق للبيهقي- من حديث علي ابن حرب قال: حدثنا أبو أيوب يعلي بن عمران البجلي، حدثنا مخزوم بن هانئ المخزومي [ (1) ] عن أبيه وأتت عليه خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة [ (2) ] التي ولد فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى-[هو كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز] [ (3) ]- وسقطت منه أربع عشرة شرفة [ (4) ] ، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى المؤبذان. إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها [ (5) ] ، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك [ (6) ] وتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يدخر [ (7) ] ذاك عن وزرائه ومرازبته [حين عيل صبره، فجمعهم] [ (8) ] لبس تاجه، وقعد على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما بعثت لكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك بذلك، فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما هاله، فقال الموبذان: وأنا- أصلح اللَّه الملك- قد رأيت في هذه الليلة، ثم قص عليه رؤياه في الإبل، قال: أي نبي [ (9) ] يكون هذا يا موبذان؟ وكان أعلمهم في أنفسهم، قال: يحدث من [ (10) ] ناحية العرب، فكتب كسرى عند ذلك:
__________
[ (1) ] في (خ) : «المخزوم» .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «لما كانت ليلة ولد فيها» ، وقال محقق (دلائل أبي نعيم) : «لعل الصواب «لما كانت الليلة التي....» ، وهي رواية النسخة (خ) ، وأيضا رواية (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «شرّافة» .
[ (5) ] في (أبي نعيم) : «في بلاده» .
[ (6) ] في أبي نعيم: «أفزعه ما رأى» .
[ (7) ] في (خ) : «يكتم» .
[ (8) ] ما بين الحاصرتين في (خ) ، و (دلائل البيهقي) وليس في دلائل أبي نعيم، والمرازبة: جمع مرزبان، وهو دون الملك في المرتبة.
[ (9) ] في (دلائل البيهقي) : «أي شيء» .
[ (10) ] في (دلائل البيهقي) : «حدث يكون» .(4/60)
«من ملك الملوك كسرى إلى النعمان بن المنذر، أما بعد فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه» ، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه قال الملك: ألك علم أخبرته، وإلا دللته على من يعلمه، قال: فأخبره بما رأى. قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال: فاذهب إليه فاسأله وائتني بتأويل ما عنده، فنهض عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه، فلم يجد جوابا، فأنشد عبد المسيح يقول:
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فازلمّ به شأو العنن
يا فأصل الخطة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه غضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن حجن
أزرق بهم الناب صوّار الأذن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسرى بالرّسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
تجوب بي الأرض علنداة شزن ... ترفعني وجنا [ (1) ] وتهوي بي وجن
حتى أتى عاري الجآجي والقطن ... تلفه في الريح بوعاء الدّمن
كأنما حثحث من حضني ثكن
[قال] [ (2) ] : ففتح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مسيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، [يا] [ (2) ] عبد المسيح! إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
__________
[ (1) ] في (خ) : «وجن» ، وفي سائر النسخ: «وجنا» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .(4/61)
شمّر فإنك ماضي الهم شمّير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير [ (1) ]
فربّما ربّما أضحوا بمنزلة ... يهاب صولهم [ (2) ] الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشّرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشّرّ محذور
فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، والباقون إلى أن قتل عثمان رضي اللَّه عنه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «فإن ذلك أطوار دهارير» .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «صولتها» .
[ (3) ] هذا الخبر أورده كل من:
الطبري في (التاريخ) : 2/ 166- 168.
الذهبي في (تاريخ الإسلام) : 2/ 35- 38، وقال: هذا حديث منكر غريب.
البيهقي في (الدلائل) : 1/ 126- 129.
ابن سيد الناس في (عيون الأثر) : 1/ 28- 29.
ابن عبد ربه في (العقد الفريد) : 1/ 293- 295.
أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 139- 141، حديث رقم (82) .
ابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 327- 329، وقال: أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلا.
معاني مفردات الأبيات:
شأو العنن: يريد الموت وما عنّ منه.
وفاد: مات، يقال منه: فاد يفود.
صرار الأذن: صرّها: نصبها وسوّاها.
قيل: ملك.
علنداة: القوية من النوق.
شزن: تمشي من نشاطها على جانب.
الوجن: الأرض الصلبة ذات الحجارة.
ثكن: اسم جبل بالحجاز.
الجآجي: جمع جؤجؤ، وهو الصدر.(4/62)
وأما صرف أصحاب الفيل عن مكة المكرمة
فقد قال اللَّه جل جلاله في كتابه لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلم- وقريش بأجمعها تسمعه، والعرب شاهدة له، والحرب بينهم راكدة، والتكذيب منهم ظاهر-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [ (1) ] ، فلولا أن قصة الفيل كانت عندهم كالعيان، وكان العهد قريبا، والأمر مشهورا مستفيضا، لاحتجوا فيه بغاية الاحتجاج، والقوم في غاية العداوة والإرصاد، وفي غاية المباينة والتكذيب، وهم الذين عناهم اللَّه تعالى بقوله: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [ (2) ] ، وقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [ (3) ] ، وقال: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [ (4) ] ، وقال: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [ (5) ] .
قوله: أَلَمْ تَرَ: قال الفراء: ألم تخبر، وقال ابن عباس: ألم تسمع، وهو استفهام معناه التقرير، والخطاب للرسول ولكنه عام، ومعناه: ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ وكيدهم: هو ما أرادوا من تخريب الكعبة، في تضليل: أي في ذهاب.
والمعنى: أنّ كيدهم ضل عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً: أي وأرسل الرب عليهم، وهذا عطف على معنى أَلَمْ يَجْعَلْ لا على لفظه.
__________
[ () ] القطن: أصل ذنب الطائر، وأسفل الظهر من الإنسان، ومنه: [الفقرات القطنية] .
البوغاء: التراب الناعم.
الدّمن: ما تدمّن منه، أي: تجمّع وتلبّد.
وقد ورد هذا الخبر في المراجع السابقة بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير واختلاف يسير في عدد الأبيات.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، محقق كتاب (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) ، في المقدمة ص 18: «فهذا الحديث ليس بصحيح، ولا يجوز قوله ولا إنشاده، ويزيده منعا أنه يتعلق بشأن من شئون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وبأمور خارقة للعادة، ولا يغرنّك ذكر بعض العلماء له في كتب السيرة أو التاريخ» ، وله في ذلك بحث طويل فليراجع هناك.
[ (1) ] سورة الفيل كلها.
[ (2) ] مريم: 97.
[ (3) ] الزخرف: 58.
[ (4) ] الأحزاب: 19.
[ (5) ] إبراهيم: 46.(4/63)
وقال ابن مسعود: الأبابيل: المتفرقة من هاهنا وهاهنا، وتبعه عليه الأخفش.
وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هي التي يتبع بعضها بعضا.
وقال الحسن وطاووس: هي الكثيرة.
وقال عطاء وأبو صالح وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج: إنها الجمع بعد الجمع، والأبابيل: جماعات في تفرقة.
وقال زيد بن أسلم: هي المختلفة الألوان.
وقوله: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، قيل: حجارة من طين، وقال عبد الرحمن بن أبزي [ (1) ] : من سجيل، من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل: من الجحيم، وهي سجين. وقال الزجاج: من سجيل، أي مما يكتب عليهم أن يعذبوا به، وهو مشتق من السجل الّذي هو الكتاب، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ: أي فجعل اللَّه أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل ويبس وتفرقت أجزاؤه.
وقال عكرمة: فصاروا كالحب إذا أكله الدود فصار أجوف.
وقال ابن عباس: المراد به قشر البر، يعني الغلاف الّذي يكون فوق حبة البر.
ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما [في] جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة.
ثم قال تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [ (2) ] ، أي فعل ذلك ليؤلف قريشا رحلتي
__________
[ (1) ] هو عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي، له صحبه، ورواية، وفقه، وعلم.
قال صلّى اللَّه عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم (817) ، في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه: «إن هذا القرآن يرفع اللَّه به أقواما، ويضع به آخرين» ،
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ابن أبزي رفعه اللَّه بالقرآن.
(طبقات ابن سعد) : 6/ 63، (الجرح والتعديل) : 5/ 209، (التاريخ الكبير) : 5/ 245، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 1/ 293، (الاستيعاب) : 2/ 822، ترجمة رقم (1388) ، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 201- 202، (تهذيب التهذيب) : 6/ 121، ترجمة رقم (277) .
[ (2) ] قريش: 1.(4/64)
الشتاء والصيف اللتين بهما تعيّشهم ومقامهم بمكة، تقول: ألفت موضع كذا إذا لزمته وآلفنيه كما تقول: لزمت موضع كذا وألزمنيه اللَّه.
وكرر لإيلاف كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانته عن كل الناس، فيكرر الكلام للتوكيد.
ثم أمرهم بالشكر فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ [ (1) ] في هذا الموضع الجدب من الجوع، وَآمَنَهُمْ فيه والناس يتخطفون حوله مِنْ خَوْفٍ وقال أبو نعيم: وقصة أصحاب الفيل من أشهر القصص، قد نطق القرآن بها [ (2) ] ، ورويت الأشعار فيها [ (3) ] ، ولم يختلف أحد فيها، لا مشرك ولا موحد، وصارت هذه القصة في جملة القصص التي لا يمكن إنكارها، وذلك في العام الّذي ولد فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
فدل ظاهر الحال على أن صرف اللَّه تعالى أصحاب الفيل عن قصدهم في تخريب الكعبة دلالة على تقوية أمر الحج، وتأييد لمن [هو] قائم به، ويدعي أنه شريعة له، فصار أمر الفيل لهذا المعنى بشارة بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، وتحقيقا لشريعته، وتأييدا لدعوته وللَّه الحمد.
__________
[ (1) ] قريش: 3- 4.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 143: «نطق بها القرآن» .
[ (3) ] هؤلاء الشعراء هم:
[1] عبد اللَّه بن الزّبعرى بن عدي بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، وله خمسة أبيات.
[2] أبو قيس: صيفي بن الأسلت بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس، وله ستة أبيات ثم خمسة أبيات أخر.
[3] طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب، وله بيتان.
[4] أبو الصلت بن ربيعة بن وهب بن علاج، وله ثمانية أبيات.
[5] الفرزدق، واسمه همام بن غالب، أحد بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم، وله خمسة أبيات.
[6] عبد اللَّه بن قيس الرقيات، أحد بني عامر بن لؤيّ بن غالب، وله ثلاثة أبيات.
وهذه الأشعار ذكرها ابن إسحاق في السيرة، انظر: (سيرة ابن هشام) : 1/ 176- 181، «ما قيل في قصة الفيل من الشعر» ، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 586- 591، تفسير سورة الفيل.(4/65)
وكان مولده صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل
وكان مبعثه بعد الفيل بأربعين سنة، حتى أن قباث بن أشيم [ (1) ] وعائشة رضي اللَّه تعالى عنهم يذكرون من أمر الفيل وسائقه وقائده، فذكروا من أمر حديث محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا زكريا بن يحيى الكنائي، حدثنا محمد بن فضيل عن عبد اللَّه بن سعيد بن أبي سعيد عن جده قال: دخل قباث بن أشيم أخو بني المليح على مروان بن الحكم- وقباث يومئذ أكبر العرب- فقال له مروان: أنت أكبر أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه بعشرين سنة، قال: فما أبعد ذكرك؟ قال: أذكر حتى الفيل [ (2) ] .
ومن حديث أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الليثي: يا قباث! أنت أكبر أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: رسول اللَّه أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل، وتنبأ على رأس أربعين من الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله [ (2) ] .
ومن طريق محمد بن إسحاق عن عبد المطلب بن عبد اللَّه بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قال: ولدت أنا ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل، وسأل عثمان بن عفان
__________
[ (1) ] هو قباث بن أشيم بن عامر بن الملوّح بن يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة الليثي، هذا هو المشهور في نسبه، وقيل: هو تميمي، وقيل: كندي، وقال ابن حبان: يعمري ليثي من بني كنانة، له صحبة، وحديثه عند أهل الشام. شهد بدرا مع المشركين، وكان له فيها ذكر، ثم أسلم بعد ذلك، وشهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعض المشاهد، وكان على مجنبة أبي عبيده بن الجراح يوم اليرموك (طبقات ابن سعد) : 7/ 411، (الإصابة) : 5/ 407- 408، ترجمة رقم (7061 ز) ، (الاستيعاب) : 3/ 1303- 1304، ترجمة رقم (2165) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) 1/ 143، حديث رقم (84) ، (المستدرك) : 3/ 2724، حديث رقم (6624/ 2222) ، (الإصابة) : 5/ 407، (الإستيعاب) : 3/ 303، (دلائل البيهقي) :
1/ 78، (سنن الترمذي) : برقم (3623) ، وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق، (البداية والنهاية) : 2/ 321.(4/66)
رضي اللَّه عنه قباث بن أشيم أخا بني عمرو بن ليث: أنت أكبر أم رسول اللَّه؟
قال: رسول اللَّه أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد، ورأيت خذق [ (1) ] الفيل أخضر محيلا [ (2) ] [بعده بعام، ورأيت أمية بن عبد شمس شيخا كبيرا يقوده- إما قال ابنه أو قال غلام له- فقال: يا قباث، أنت أعلم وما تقول] [ (3) ] .
ومن حديث محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يزيد بن الهاد عن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت:
رأيت قائد الفيل [وسائسه] [ (4) ] بمكة أعميين مقعدين يستطعمان [الناس] [ (5) ] .
ومن حديث جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى لما أن دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ما عناك إلينا؟ ألا بعثت إلينا فنأتيك بكل ما أردت، فقال: أخبرت بهذا البيت الّذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله، فقال:
إنا نأتيك بكل شيء تريده فارجع، فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه.
وتخلف عبد المطلب، وقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال: اللَّهمّ إن لكل إله حلالا فامنع حلالك، لا يغلبن غدا محالهم محالك، اللَّهمّ إن فعلت فأمر ما بدا لك.
فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل، التي قال اللَّه تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال: فجعل الفيل يعج عجيجا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.
ومن حديث عبد اللَّه بن وهب [ (6) ] قال: أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد
__________
[ (1) ] الخذق: الروث.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 77 وقال: ورواه محمد بن بشّار عن وهب بن جرير فقال: «خذق الطير أخضر محيلا» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (تاريخ الطبري) : 2/ 155- 156، باختلاف يسير.
[ (4) ] في (خ) : «وسائقه» والتصويب من رواية ابن إسحاق.
[ (5) ] زيادة من رواية ابن إسحاق. (سيرة ابن هشام) : 1/ 176.
[ (6) ] السند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن(4/67)
عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس أنه قال: كان من حديث أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم الحبشي كان ملك اليمن، وأن ابن ابنته أكشوم بن الصباح الحميري خرج حاجا.
فلما انصرف من مكة نزل بكنيسة بنجران فعدا [ (1) ] عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي، وأخذوا متاع أكشوم، فانصرف إلى جده الحبشي مغضبا، فلما ذكر له ما لقي بمكة من أهلها تألّي [ (2) ] أن يهدم البيت، فبعث رجلا من أصحابه يقال له: شمر بن مصفود على عشرين ألفا من خولان ونفرا من الأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم، فتنحت خثعم عن طريقهم، فكلمهم التّقتال [الخثعميّ] [ (3) ]- وكان يعرف كلام الحبشة- فقال: [هذان على شمران قوسي، على أكلت وسهمي، قحافة] [ (4) ] وأنا جار لك.
فسار معهم وأحبه، فقال له تقتال: إني أعلم الناس بأرض العرب، وأهداه بطريقهم، فطفق في مسيرهم بجيشها الأرض ذات المهمة [ (5) ] حتى تقطعت أعناقهم عطشا، فلما دنا من الطائف خرج إليهم ناس من بني جشم ونصر وثقيف، فقالوا:
ما حاجتك إلى طريقنا، وإنما هي قرية صغيرة، ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد، وهو حرز لمن لجأ إليه من ملكه، ثم له ملك العرب، فعليك به ودعنا عنك.
فأتاه حتى إذا بلغ المغمّس [ (6) ] ، وجد إبلا لعبد المطلب بن هاشم، مائة ناقة مقلدة فأنهبها بين أصحابه، فلما بلغ ذلك عبد المطلب جاءه- وكان جميلا وكان
__________
[ () ] سليمان، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد اللَّه بن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد، عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس أنه قال: ...
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فغدا» وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.
[ (2) ] تألّي: آلى على نفسه بيمين حلفه.
[ (3) ] زيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وسياقها مضطرب، ولعلها «هاتان يداي لك على شهران وناعس» ، كما في (الروض الأنف) ، وشهران وناعس: قبيلي خثعم.
[ (5) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فطفق يجبهم في مسيرهم الأرض ذات المهمة» ، والمهمة: المفازة، الأرض المقفرة.
[ (6) ] المغمّس: موضع قرب مكة في طريق الطائف.(4/68)
له صديق من أهل اليمن يقال له ذو عمير [ (1) ]- فسأله أن يرد إليه إبله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتك على الملك، فقال عبد المطلب: فافعل، فأدخله عليه فقال: إن لي إليك حاجة، قال: قضيت كل حاجة جئت تطلبها، قال: أنا في بلد حرام، وفي سبيل بين أرض العرب وبين أرض العجم، وكانت لي مائة ناقة مقلدة ترعى هذا الوادي بين مكة وتهامة، عليها نمير [ (2) ] أهلنا ونخرج إلى تجارتنا ونتحمل من عدونا، عدا عليها جيشك فأخذوها، وليس مثلك يظلم من جاوره، فالتفت الحبشيّ إلى ذي عمرو ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجبا، فقال: لو سألني كل شيء أحرزه أعطيته إياه أما إبلك فقد رددتها عليك، ومثلها، فما يمنعك أن تكلمني في بيتكم هذا وبلدكم هذا؟ فقال له عبد المطلب:
أما بيتنا هذا وبلدنا هذا فإن لهما ربا إن شاء أن يمنعهما منعهما، ولكني [إنما] [ (3) ] أكلمك في مالي، فأمر عند ذلك بالرحيل، وتألّى ليهدمنّ الكعبة مكة [ (4) ] ، فانصرف عبد المطلب وقد سمع تأليّه في مكة وقد هرب أهلها، فليس بها إلا عبد المطلب وأهل بيته، فأخبرهم بذلك واندفع يرتجز وهو يطوف حول الكعبة:
لاهم [ (5) ] إن المرء يمنع أهله فامنع حلالك [ (6) ] ... لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا [ (7) ] محالك [ (8) ]
فإن فعلت فربما أولا فأمر ما بدا لك ... فإن فعلت فإنه أمر يتم به فعالك
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «ذو عمرو» ، وفي ابن هشام: «ذو نفر» .
[ (2) ] الميرة: المؤنة، قال تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا [يوسف: 65] .
[ (3) ] زيادة في (خ) .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «ليهدمن مكة» .
[ (5) ] لاهمّ: أصلها: اللَّهمّ، والعرب تحذف منها الألف واللام، وكذلك تقول في «واللَّه إنك» :
«لاهنك» ، وذلك لكثرة دوران هذا الاسم على الألسنة. بل قالوا فيما هو دونه- في الاستعمال:
«أجنك» في «من أجل أنك» . (سيرة ابن هشام) : 1/ 170 هـ.
[ (6) ] الحلال في هذا البيت: الحلول في المكان، والحلال: مركب من مراكب النساء، والحلال أيضا:
متاع البيت، وجائز أن يستعيره هاهنا. (المرجع السابق) .
[ (7) ] في (خ) و (دلائل أبي نعيم) : «عدوا» وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) ، وغدوا: غدا.
[ (8) ] المحال: القوة والشدة.(4/69)
غدوا بجموعهم والفيل كي يبتزوا عيالك ... فإن تركتهم وكعبتنا فوا حزنا هنالك
فانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك [ (1) ]
وقال [عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ [ (2) ] :
لاهمّ أخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة ذات التقليد [ (3) ]
بين حراء وثبير فالبيد ... أخفر به رب وأنت المحمود [ (4) ]
قد أجمعوا على أن لا يكون عيد ... ويهدموا البيت الحرام المعمود
والمروتين والمشاعر السود ... فضحها إلى طماطم سود [ (5) ]
فلما توجه شمر [ (6) ] وأصحابه بالفيل- وقد أجمعوا ما أجمعوا- طفق كلما وجهوه أناخ وبرك، وإذا صرفوه عنها من حيث أتى أسرع المسير، فلم يزل كذلك حتى غشيهم الليل.
وخرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس [ (7) ] ، شبيهة بالوطاويط حمر وسود، فلما رأوها أشفقوا منها وسقط في أذرعهم، فقال شمر: ما يعجبكم من طير خمال جنبها الليل إلى مساكنها، فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، تقع في [ (8) ] رأس الرجل فتخرج من جوفه.
__________
[ (1) ] وردت هذه الأبيات في (خ) ، (سيرة ابن هشام) ، (دلائل أبي نعيم) ، (تاريخ الطبري) ، (سبل الهدى والرشاد) ، (الروض الأنف) ، بزيادة ونقص، وتقديم وتأخير. وروى ابن هشام هذه الأبيات الثلاثة:
لاهم إن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم و ... قبلتنا فأمر ما بدا لك
ثم قال: هذا ما صحّ له منها. (سيرة ابن هشام) : 1/ 170.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] الهجمة: ما بين التسعين إلى المائة من الإبل.
[ (4) ] حراء وثبير: جبلان بالحجاز، أخفره: أي انقض عزمه وعهده فلا تؤمنه.
[ (5) ] طماطم سود: يعني العلوج، ويقال لكل أعجمي كافر: طمطمان، والأعلاج: جمع علج.
[ (6) ] هو الأسود بن مفصود.
[ (7) ] البلس: الزرازير.
[ (8) ] في (خ) : «على» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) ، وهو أجود للسياق.(4/70)
وكان فيهم أخوان من كندة، أما أحدهما ففارق القوم قبل ذلك، وأما الآخر فلحق بأخيه حين رأى ما رأى، فبينا هو يحدثه عنها إذ رأى طيرا منها فقال: كان هذا منها، فدنا منه الطائر فقذفه بحجر فمات، فقال أخوه الناجي منها:
إنك لو رأيت ولن ترانا ... لدى جنب المغمس ما لقينا
خشيت اللَّه لمّا بثّ طيرا ... بظل سحابة مرت علينا
وما تواكلهم يدعو بحق ... كأن قد كان للحبشان دينا
فلما أصبحوا الغد أصبح عبد المطلب ومن معه على جبالهم فلم يروا أحدا غشيهم، فبعث ابنه عبد اللَّه على فرس له سريع ينظر ما لقوا، فإذا القوم مشدّخون [ (1) ] جميعا فرجع يرفع فرسه كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال:
إن ابني أفرس العرب، وما كشف عن فخذه إلا بشيرا ونذيرا.
فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا، فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم، فكانت أموال بني عبد المطلب من ذلك المال. وقال عبد المطلب:
أأنت منعت الجيش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأجبالا؟
وقد خشينا منهم القتالا ... وكلّ أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
وقال عكرمة بن عامر العبدري:
اللَّه ربي وولي الأنفس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس
فانصرف شمر بن مفصود هاربا وحده، وكان أول منزل نزله سقطت يده اليمنى، ثم نزل منزلا آخر فسقطت رجله [ (2) ] اليسرى، فأتى منزله وقومه وهو حينئذ لا أعضاء له، فأخبرهم بالخبر وقصّ عليهم ما لقيت جيوشه، ثم فاضت نفسه وهم ينظرون.
__________
[ (1) ] الشّدخ: الشّج.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «يده» في الموضعين.(4/71)
قال أبو نعيم [ (1) ] : رويت قصة أصحاب الفيل من وجوه، وسياق عثمان بن المغيرة أتمها وأحسنها شرحا، وما ذكر أن عبد المطلب بعث بابنه عبد اللَّه فهو وهم من بعض النقلة، لأن الزهري ذكر أن عبد اللَّه بن عبد المطلب كان موته عام الفيل، وأن الحرث بن عبد المطلب كان أكبر ولد عبد المطلب، وكان هو الّذي بعثه على فرسه لينظر ما لقي القوم [ (2) ] .
وخرج من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: كان من شأن الفيل أن أبرهة الأشرم ملك الحبشة بعث مع أبي يكسوم [ (3) ] فبعث فيهم يريد أن يغزو الكعبة فيهدمها، وساكنها يومئذ قريش، وإن أبا يكسوم أقبل بالفيل ومن معه، حتى إذا أبصر الحرم ودنوا منه، حبس اللَّه الفيل بذي المغمّس [ (4) ] ، فكان إذا ضربوه ليدخل مكة أبي عليهم، وإذا تركوه وجّه راجعا إلى وجهه الّذي جاء منه، فرجعوا ذلك العام، حتى إذا كان [بعد ذلك بعامين خرج رجال من] العرب حتى قدموا على أبرهة فعجزوه في إرساله أول مرة، وأمروه أن يبعث الثانية، فبعث الأسود بن مفصود، وبعث معه بكتيبة عظيمة معها الفيل، حتى إذا دنوا من الحرم ونظروا إليه، بعث اللَّه عليهم بقدرته طيرا أبابيل خرجت من البحر. والأبابيل: من أفواج الطير، وزعموا- واللَّه أعلم- أن لها خراطيم أمثال البلس [ (5) ] ، فلما بلغ ذلك قريشا قام رجال منهم فاستقبلوا الكعبة يدعون اللَّه على الفيل ومن معه، فكان ممن قام في ذلك اليوم عبد المطلب بن هاشم، وعكرمة بن عامر العبدري، فقال عبد المطلب: لاهم فأخز الأسود بن مفصود ... ،
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «قال الشيخ» .
[ (2) ] هذا الحديث أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 144- 148، حديث رقم (86) ، وابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 90 من طرق متعددة جمع رواياتها، والحاكم في (المستدرك) :
2/ 583- 584، حديث رقم (3974/ 1112) وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 587- 591، تفسير سورة الفيل.
[ (3) ] في هذه العبارة نظر، فأبو يكسوم هو أبرهة، قال ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق ابن أبرهة [سيرة ابن هشام] : 1/ 182، تحت عنوان: «ولدا أبرهة» .
[ (4) ] المغمّس: موضع على ثلث فرسخ من مكة.
[ (5) ] وزاد ابن كثير في (التفسير) : «وأكفّ كأكفّ الكلاب» .(4/72)
الأبيات [ (1) ] ، وقال أيضا:
فلم أسمع بأرض من رجال ... أرادوا الغزو ينتهكوا حرامك
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك ... لا يغلبن صليبهم ومحالهم فيه محالك
وإن تركتهم وكعبتنا فشأ ما بدا لك
وقال عكرمة بن عامر حين أهلكوا:
أنت منعت الحبش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا ... كل كريم ماجد بطالا [ (2) ]
يمشي يجر المجد والأذيالا ... ولا يبالي جنة المختالا
ثم قلبتهم بشر حالا ... وقد لقوا أمرا له مفصالا
وكان بين غزوة أصحاب الفيل الأخيرة وبين الفجار أربعون سنة، وإنما سمي الفجار لحرب كانت بين بني كنانة وقيس استحلوا فيها الحرمات وفجروا فيها، وكان بين الفجار وبين بنيان الكعبة خمس عشرة سنة [ (3) ] .
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد اللَّه بن كعب مولى آل عثمان قال في حديث ذكره: خرج أبرهة وهو يكسوم وهو الأشرم، فخرج بمن أراد الحبشة، وقوم من أهل اليمن كثير، وكان فيمن خرج من أهل اليمن ملك حمير ذو نفر، واستعمل على اليمن ابنه يكسوم، فجعل لا يمر بحيّ من العرب إلا استتبعهم فتبعوه، فأقبل في جمع كثير من الحبشة، وحمير، ومن كندة، حتى مرّ ببلاد خثعم، فخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعميّ فقال: يميني على شهران وشمالي على ناهس (بطنين من خثعم) .
قال الواقدي: فحدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرج أبرهة
__________
[ (1) ] سبق ذكرها وشرحها ضمن أحاديث هذا الباب.
[ (2) ] هذه الأبيات في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 148.
وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
[ (3) ] (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 1/ 16، هامش (5) .(4/73)
حتى انتهى إلى بلاد خثعم، فخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعميّ في شهران وناهس، ومن أفناء العرب، فاعترضوا ليقاتلوهم فهزمهم أبرهة، وقتل من قتل، وأخذ نفيل أسيرا فأمر أن يضرب عنقه، فقال نفيل: أيها الملك! لا تقتلني، فإنّي أدلّ العرب، وعلى شهران وناهس بالطاعة، فاستحياه، وخرج معه نفيل دليلا ومعه ذو نفر دليلا.
فلما افترقت الطريقان، طريق إلى مكة وطريق إلى الطائف تآمر العربيان ومن معهما فقالوا: يذهبون إلى بيت اللَّه الّذي ليس له في الأرض بيت غيره لهدمه؟! ألفتوه واشغلوه بثقيف عسى أن يجد عندهم ما يكره، فمالا به إلى الطائف.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن أبي سعد الثقفي، عن يعلي عن عطاء عن وكيع بن عدس، عن عمير أبي رزين [ (1) ] قال: كنا نرعى غنما بين دجنا إلى الطائف، فأتى بالطائف مع الشمس ما شعرنا ولا شعر من بها إلا بالأشرم أبرهة قد جاءهم ضحى، معهم الفيلة والدّهم من الناس.
فخرج إليه أبو مسعود في رجال من ثقيف فقالوا: أيها الملك! خرجت لأمر تريده، فامض الّذي تريد، أمامك ما عندك مكان يحج إليه، إنما البيت الّذي تحج إليه العرب بمكة، وإنما أتيت من الذين معك، فدعا ذا نفر ونفيلا فقال: قدمتما بي إلى هاهنا؟ فقالا: هؤلاء عدو وأولئك عدو، فقال: إني لم أرد هؤلاء، إنما أردت أن أهدم البيت الّذي يحج إليه العرب وأغيظهم مما صنعوا بكنيستي.
قال: فحدثني زيد بن أسلم عن أبيه، قال: خرج إليه مسعود بن معتب.
قال الواقدي: هذا أثبت من الّذي يقول: أبو مسعود، قال: ما أنت؟ قال:
مسعود منك، ونحن ندلك على البيت الّذي تعبده العرب، فأرشده إلى مكة، وبعث أبا رغال يدله على طريق مكة، فأنزله أبو رغال بالمغمّس، فمات أبو رغال:
بالمغمّس، فقبره هناك ترجمه العرب [ (2) ] .
قال الواقدي: فحدثني عبد اللَّه بن عثمان عن أبي سليمان عن أبيه قال: خرج
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 1/ 166، تحت عنوان: «أبو رغال ورجم قبره» .(4/74)
أبرهة من اليمن بذي نفر ونفيل بن حبيب فعدلا به إلى الطائف وقالا: لو أتينا مكة هؤلاء وراء ظهورنا فخشينا أن نؤتي من خلفك، فأردنا أن تبدأ بهم حتى لا يكون من ورائك أحد، فصدقهما ثم انصرف عن الطائف.
قال الواقدي: وأقبل أبرهة حتى إذا كان عن يسار عرفة، ودنا من الحرم عسكر هناك، وكان أبرهة قد بعث على مقدمته رجلا من الحبشة يقال له: الأسود [ (1) ] ، على خيل يحشر عليه أموال أهل مكة، فدخل الحرم فجمع سوائم ترعى في الحرم فضمها إليه، فأصاب لعبد المطلب مائتي بعير ثم انصرف إلى معسكره فأخبره الخبر، وأنه لم يصدّه أحد عن أخذها.
فبعث أبرهة حناطة الحميريّ فقال: سل عن أشرف أهلها فأخبره بأني لم آت لقتال أحد، إنما جئت لهدم هذا البيت لما نذرت وأوحيت على نفسي لما صنعت العرب بكنيستي ثم أنصرف، فإن صددتمونا عنه قاتلناكم، وإن تركتمونا هدمناه وأنصرف عنكم.
فقال عبد المطلب: ما عندنا له قتال، وما لنا به طاقة ولا يدان، وسنخلي بينه وبين ما يريد، فإن لهذا البيت ربا مانعه.
قال له حناطة: انطلق معي إليه، فركب عبد المطلب على فرس وركب معه ابنه الحرث، فلما دخل عسكره جاء حناطة إلى أبرهة فأخبره بما قال عبد المطلب، وأنه دخل عسكره، فقال له أبرهة: أخبرني عن بيتهم، أي شيء بناؤه؟ قال:
حجارة منضودة، فعجب أبرهة من ذلك.
وكان عبد المطلب حين دخل العسكر سأل عن ذي نفر الحميري- وكان له صديقا- فدخل عليه فقال: هل عندك من غنى؟ قال: فيما ذا؟ قال: في إبلي التي أخذت، قال: وما عندي من الغنى وأنا أسير في يد رجل عجمي لا أدري
__________
[ (1) ] هو الأسود بن مفصود بن الحارث بن منبه بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مذحج، بعثه النجاشيّ مع الفيلة والجيش، وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلا، هلكت كلها إلا [محمود] فيل النجاشي لامتناعه عن التوجه إلى الكعبة.(4/75)
متى هو قاتلي، ولكن سأكلم لك أنيسا سائس الفيل محمود وإنه صديقي، قال عبد المطلب: فذلك.
فقال: هذا سيد قريش الّذي يحمل على الجياد ويهب الأموال ويطعم في السهل، ما هبّت الريح والوحش والطير، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فأحب أن تكلمه حتى يردها عليه.
قال: فذكر ذلك أنيس لأبرهة فقال له: قد أتاك سيد قريش الّذي يحمل على الجياد، وقد طلبه الملك قبل ذلك فأرسل إليه حناطة، فوافى عبد المطلب باب الملك وعنده حناطة وأنيس فقال أنيس: هذا صاحب عير مكة، وهو يطعم في السهل والجبل، [ما هبت الريح] والوحش والطير، وقال حناطة: هو سيد أهل مكة فأذن له، فدخل- وكان عبد المطلب من أوسم الناس وجها وأجلهم- فلما رآه أبرهة أجلّه واستبشر برؤيته، وأبرهة على سرير فنزل عنه، وكره أن يكون تحته، وكره أن يجلسه على السرير فيراه الحبشة جالسا معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة فجلس على بساط وأجلسه إلى جنبه ورحّب به وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟
فقال: حاجتي أن تردّ عليّ مائتي بعير أصابوها إليّ، فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد عجبت حين رأيتك لهيبتك مع ما ذكر لي من شرفك وفعالك وتقدمك على أهل بيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير قد غصبنا [منك] ، وتترك ما هو دينك ودين آبائك وعزك وشرفك، وقد جئت لأهدمه [و] لا تكلمني فيه.
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت الّذي تريد ربّا سيمنعه.
فقال أبرهة: ما كان سيمتنع مني.
قال عبد المطلب: أنت وذاك.
قال: ما أرى القوم يصدقون أنّا نصل إليه، وسيرون نصل إليه أم لا، فإنّي لا أرى أحدا همّ بشيء من هذا قبلي فيقولون قد حيل بينه وبين ذلك.
قال أنت وذاك، قد خرجنا عنه وما دونه أحد يصدك عنه، فأمر بإبله فردت عليه.(4/76)
قال: ولما نزل المغمّس جاء مكة أول من جاء بنزوله ابو قحافة ومعمر بن عثمان وعمير بن جدعان، كانوا في إبل عبد اللَّه بن جدعان هناك، فأخبروا الناس، فحف الناس ولحقوا برءوس الجبال وبالشعاب وبطون الأودية.
قال الواقدي: وحدثني سيف بن سليمان قال: سمعت مجاهدا يقول: لما ولّى عبد المطلب من عند أبرهة منصرفا، أمر أبرهة أصحابه بالتهيؤ والتعبئة لإقحامهم الحرم، فعبئوا كتيبة القتال، وصفوا الصفوف، وقدّموا الفيلة كما كانوا يصنعون في الحروب، وقدم صاحب مقدمته الأسود بن مفصود، ووقف أبرهة كما كان يقوم في الحروب، معه وجوه أصحابه قد حفوا به من وجوه الحبشة والعرب ممن قد سار به، وقد أخذت صفوف أقطار الأرض بعضها خلف بعض.
وكان الفيل إذا حملوا لم يسر ويحرن كحران الدابة ويكرّ كرّ الناس، حتى بلغ أبرهة ذلك، فجاء وهو في أصحابه حتى وقف على دابته فجعل يصيح بسائس الفيل فيضربه، فإذا ألح عليه ربض وصخّ [ (1) ] ، فينخس بالرمح ولا ينثني.
قال: وحدثني عبد اللَّه بن عمرو بن زهير عن أبيه، عن عبد اللَّه بن خراش الكعبي عن أبيه قال: أقبل عبد المطلب يومئذ وأقبل أصحاب الفيل، فلما رأى عبد المطلب ما هموا به سار سريعا على فرسه حتى أوفى على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومسعود بن عمرو الثقفي، ينظرون كلما حمل الحبشة الفيل على الحرم ربض، فيقبل الحبشة بحرابهم ورماحهم وعصيهم يطعنونه بها فيقوم، فإذا حملوه على الحرم برك وصاح، وإذا وجهوه من حيث جاء ولّى وله وجيف [ (2) ] ، وأي وجه شاءوا طاوعهم ما لم يحملوه على الحرم.
قالوا: فبينا عبد المطلب وأصحابه على حراء- وهم يحملون الفيل على الحرم-
__________
[ (1) ] صخّ الصوت الأذن يصخّها صخّا، وفي حديث ابن الزبير وبناء الكعبة: فخاف الناس أن تصيبهم صاخّة من السماء، هي الصيحة التي تصخّ الأسماع، أي تقرعها وتصمها. قال ابن سيده: الصاخة صيحة تصخّ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدّتها، ومنه سميت القيامة الصاخة. (لسان العرب) :
3/ 33، (النهاية) : 3/ 14، وفي (دلائل أبي نعيم) : «برك وصاح» .
[ (2) ] وجيف: اضطراب من سرعة المشي.(4/77)
ويأبى، إذ قال عمرو بن عائذ لعبد المطلب: انظر! هل ترى شيئا؟ قال: إني لأرى طيرا يأتي من قبل البحر قطعا قطعا، وهي أصغر من الحمام، سود الرءوس، حمر الأرجل والمناقير.
قال عمرو: فأقبلت حتى حلقت على القوم، مع كل طائر ثلاثة أحجار:
في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، وقال عبد المطلب لمسعود: هل ترى شيئا؟
قال: نعم، أرى سوادا كثيرا من قبل البحر كثيفا، قال عبد المطلب: هو طائر، قال مسعود: صدقت، قد واللَّه عرفت حين حلوا بنا أن لو أرادوا الدية لقدروا عليها، فلم أزل أبعث الأشرم وأصرفه حتى ولى إلى ما هاهنا، وعرفت أنه لا يصل إلى البيت حتى لا يعذب، وهذا واللَّه عذابه.
قال الواقدي: وحدثني قيس بن الربيع عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد ابن عمير قال: لما أراد اللَّه أن يهلك أصحاب الفيل، أرسل عليهم طيرا أنشئت من البحر كأنها الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار مجزعة [ (1) ] : حجر في منقارة وحجران في رجليه، فجاءت حتى صفّت على رءوسهم، فصاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما وقع [ (2) ] حجر على رجل منهم إلا خرج من الجانب الآخر، إذا وقع على رأسه خرج من دبره [ (3) ] [وإذا وقع على جسده خرج من الجانب الآخر، وبعث اللَّه ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادت شدة فأهلكوا] .
__________
[ (1) ] مجزعة: مقطعة.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فما على الأرض حجر وقع على رجل» .
[ (3) ] هذا آخر الحديث رقم (88) في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 149- 150، وفيه الواقدي وعبد اللَّه ابن خراش متروكان، وما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 590، وقال ابن كثير: وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) : من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة، قصة أصحاب الفيل، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له شمر بن مفصود، وكان الجيش عشرين ألفا، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى، وهذا السياق غريب جدا، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره، والصحيح أن أبرهة الأشرم قدم من مكة، كما دلّ على ذلك السياقات والأشعار.
وهكذا روى عن ابن لهيعة عن الأسود عن عروة، أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه، والصحيح قدومه، ولعل ابن مفصود كان على مقدمة الجيش. واللَّه تعالى أعلم. (تفسير ابن كثير) : 4/ 590.(4/78)
وذكر عمر بن شيبة في كتاب (أخبار مكة) : عن أبي عاصم أخبرنا عمرو ابن سعيد قال: سمعت مشيختنا يقولون: حمام مكة من بقية طير أبابيل.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: الحجارة مثل البندق، وبها نضح حمرة مختمه، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت تلك الحجارة عليهم فلم تعد عسكرهم.
وحدثني عمر بن طلحة عن جونة بن عبد عن أمية بن عبد الرحمن قال: سمعت نوفل بن معاوية الديليّ يقول: رأيت الحصا الّذي رمى به أصحاب الفيل، حصا مثل الحمص وأكبر من العدس، حمر مختمة، كأنها جزع ظفار [ (1) ] .
وحدثني ابن أبي سبرة عن عمر بن عبد اللَّه العبسيّ قال: قال حكيم بن حزام:
كان في المقدار بين الحمصة والعدسة، حصاته نضح أحمر، مختم كالجزع، فلولا أنه عذب به قوم [لأخذت] منه ما أتخذه في مسجدي، أسلمت وهو بمكة كثير في بيوتكم.
وحدثنا سعيد بن حسان عن عطاء بن أبي رباح عن حبيب بن ميسرة، عن أم كرز الخزاعية قالت: رأيت الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل حمرا مختمة كأنها جزع ظفار، وحدثني ابن أبي سبرة عن عمر بن عبد اللَّه العيشي عن ابن كعب القرظي قال: جاءوا بفيلين، فأما محمود فربض، وأما الآخر فجثع فحصب.
وحدثني رباح بن مسلم عن من سمع وهب بن منبه قال: كانت الفيلة معهم، فكان محمود- وهو فيل الملك- إذا تقدم يربض لتقتدي به الفيلة فجثع منها فيل فحصب فرجعت الفيلة.
وحدثني سيف بن سليمان عن مجاهد قال: كان فيل حصب بالمغمّس.
وحدثني عبد اللَّه بن عمرو بن زهير الكعبي عن أبي مالك الحميري عن عطاء
__________
[ (1) ] جزع: خرز، وظفار: بلد باليمن قرب صنعاء، ينسب إليها هذا الخرز، وأن به سوادا وبياضا.(4/79)
ابن يسار قال: حدثني من كلّم قائد الفيل وسائسه قال لهما: أخبراني خبر الفيل.
قالا: أقبلنا وهو فيل الملك النجاشي الأكبر، لم يسر به قط إلى جمع إلا هزمهم، فاخترت أنا وصاحبي هذا لجلدنا وحرفتنا بسياسة الفيل، قال: فلما دنونا من الحرم جعلنا كلما وجهناه إلى الحرم يربض، فتارة نضربه فينهض، وتارة نضربه حين برك ثم نتركه، فلما أتينا إلى المغمّس ربض فلم يقم، وطلع العذاب.
فقلت: نجا غيركما؟ قالا: نعم، ليس كلهم أصاب العذاب، وولى أبرهة ومن تبعه يريد بلاده، كلما دخلوا أرضا وقع منه عضو، حتى انتهى إلى بلاد خثعم وليس عليه غير رأسه فمات.
وحدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: أفلت نفيل والحميري. قال الواقدي: وسمعت أنه لما ولى أبرهة مدبرا جعل نفيل يقول:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب [ (1) ]
وذكر ابن الكلبي في (الجمهرة) أن ضبّة وعمرا وحميسا أبناء أدّ بن طائحة ابن إلياس بن مضر شهدوا الفيل فهلكوا، وأفلت منهم ستون رجلا، إذا ولد مولود مات منهم رجل.
قال الواقدي: وحدثني حزام بن هشام عن أبيه قال: لما رد اللَّه الحبشة عن البيت أعظمت قريشا وقالوا: هؤلاء أهل اللَّه لما كفاهم مؤنة عددهم، وجعلوا يقولون في ذلك الأشعار، وخرجت الحبشة يسقطون في كل طريق ويهلكون في كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة ودم وقيح، حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ طير، فمات حين انصدع صدره عن قلبه فيما يقولون [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 150، (سيرة ابن هشام) : 1/ 172، وقال ابن هشام: قوله: «ليس الغالب» عن غير ابن إسحاق.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 173.(4/80)
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث قال: دخلت مع أبي على فاطمة بنت المنذر فحدثتنا أحاديث، وكان فيما حدثت أن قالت أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها تقول: لما قدم أصحاب الفيل بالفيل وأصابهم ما أصابهم، دخل سائقه وقائده مكة، فلم يزالا بها حتى رأيتهما قبل أن ينبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعميين مقعدين يستطعمان الناس، يكونان حيث يذبح المشركون ذبائحهم، فقال لها: أي أين كانوا يذبحون؟ قالت: على إساف ونائله [ (1) ] .
وقد ذكر محمد بن إسحاق أن سبب غزو أبرهة البيت أنه بني القلّيس بصنعاء، فبني كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبق مثلها لمن كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة غضب رجل [من] [ (2) ] النّسأة (أحد بني فقيم بن علي بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن مالك ابن كنانة بن خزيمة) فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها (يعني سلح) [ (3) ] ، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب أهل هذا البيت الّذي يحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك: «أصرف إليه حاج العرب» ، غضب فجاء فقعد فيها، أي لست لذلك بأهل.
فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وتجهزت ثم أمر الحبشة فتهيأت ثم ساروا، وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم لما رأوا أنه يريد هدم الكعبة بيت اللَّه الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت اللَّه، فأجابه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 176، (تفسير ابن كثير) : 4/ 590، وقال: كان اسم قائد الفيل [أنيسا] .
[ (2) ] زيادة للسياق، والنسأة: جمع ناسئ، وهم الذين كانوا ينسئون الشهور، أي يؤخرون حرمة أحد الأشهر الحرم، وقد سبق شرح ذلك.
[ (3) ] سلح: من السّلاح، وهو النّجو، [وهو الغائط] ، (ترتيب القاموس) : 2/ 592، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 151، قال أبو نعيم: «فقعد فيها أي تغوّط فيها) .(4/81)
من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ فأتي به أسيرا، فلما أراد قتله قال له: لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي خيرا لك.
فتركه وحبسه عنده، ثم مضى حتى كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب في قتلى خثعم شهران وناهس [ (1) ] ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له أسيرا، فخلى سبيله وخرج معه يدله حتى [إذا] [ (2) ] مرّ بالطائف خرج ابنه مسعود بن معتب [ (3) ] فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة حتى أنزله المغمّس مات أبو رغال، وبعث أبرهة الأسود بن مسعود على خيل إلى مكة، فساق أموال أهل تهامة، وذكر القصة بمعنى ما تقدم.
وخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما أرسل اللَّه على أصحاب الفيل جعل لا يقع حجر على واحد منهم إلا تفطّر جسده، فذلك أول ما كان الجدري، فأرسل اللَّه سيلا فذهب بهم [ (4) ] فألقاهم في البحر.
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصّفاح [ (5) ] ، فأتاهم عبد المطلب جد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إن هذا بيت اللَّه لم يسلط عليه أحد، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر.
فدعا اللَّه بالطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلما حاذتهم صفّت عليهم ثم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه.
وقال قيس عن حصين بن عبد الرحمن في قوله: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً
__________
[ (1) ] يقال: إن خثعم ثلاث: شهران، وناهس، وأكلب، غير أن أكلب عند أهل النسب هو: ابن ربيعة ابن نزار، ولكنهم دخلوا في خثعم وانتسبوا إليهم. (ابن هشام) : 1/ 164.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] هو مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف.
[ (4) ] في (خ) : «بها» .
[ (5) ] الصّفاح بكسر الصاد: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش. (معجم البلدان) : 3/ 467، موضع رقم (7558) .(4/82)
أبابيل [ (1) ] قال: طير خرجت من قبل البحر، لها رءوس مثل رءوس السباع ترميهم، فمن أصابت جدر [ (2) ] ، وذلك أول ما كان الجدري، لم ير قبله.
وقد روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عليهم السلام: أن قدوم الفيل للنصف من المحرم، وبين الفيل وبين مولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمس وخمسون ليلة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الفيل: 3.
[ (2) ] أصابه داء الجدري.
[ (3) ] ذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلم ولد بعد مجيء الفيل بخمسين يوما، وهو الأكثر والأشهر، وأهل الحساب يقولون: وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان (أبريل) ، فكانت لعشرين مضت منه، وولد بالغفر من المنازل «منازل القمر» . (ابن هشام) : 1/ 394، فصل ولادة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم (هامش) .(4/83)
وأما الآيات التي ظهرت في مدة رضاعته صلّى اللَّه عليه وسلم
فقد روى محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي الجهم [ (1) ] ، عن عبد اللَّه بن جعفر [بن أبي طالب] [ (2) ] عن حليمة بنت الحرث السعدية [ (3) ] قالت: أصابتنا سنة شهباء [ (4) ] لم تبق لنا شيئا، فخرجت مع نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء [ (5) ] بمكة على أتان [ (6) ] لي قمراء [ (7) ] ، فلم تبق منا امرأة إلا عرض عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فتأباه، وعرض عليّ فأبيته، ذلك أن الظؤورة [ (8) ] إنما كانوا يرجون الخير من قبل الآباء ويقولون: لا أب له وما عسى أن تفعل أمه، فلم تبق منهن امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، وحان انصرافهن إلى بلادهن.
فقلت لزوجي: لو أخذت ذلك الغلام اليتيم كان أمثل من أن أرجع بغير رضيع، فأتيت أمه فأخذته ثم جئت بعد ذلك، إلى منزلي، فكان لي ابن صغير واللَّه لن ينام من الجوع، فلما ألقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ثدي أقبلا عليه بما شاء من
__________
[ (1) ] هو جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحيّ.
[ (2) ] زيادة في النسب من (ابن هشام) .
[ (3) ] هي حليمة ابنة أبي ذؤيب، وأبو ذؤيب: عبد اللَّه بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة ابن فصيّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ابن مضر، قدمت عليه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد تزوج خديجة فشكت إليه جدب البلاد، فكلم خديجة فأعطتها أربعين شاة، وأعطتها بعيرا، ثم قدمت عليه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد النبوة فأسلمت وبايعت، وأسلم زوجها الحارث بن عبد العزى.
[ (4) ] سنة شهباء: يعني سنة قحط، لأن الأرض فيها تكون بيضاء.
[ (5) ] الرضعاء: جمع رضيع، وهم الأطفال حديثو الولادة.
[ (6) ] الأتان: أنثى الحمار.
[ (7) ] قمراء: أي يميل لونها إلى الخضرة.
[ (8) ] الظؤورة: جمع ظئر، وهي العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له، في الناس وغيرهم، للذكر والأنثى، وتجمع على: أظؤر، وأظآر، وظؤور، وظؤورة، وظؤار، وظؤرة. (ترتيب القاموس) :
3/ 119.(4/84)
اللبن حتى روي وروي أخوه وناما، وقام زوجي إلى شارف [ (1) ] لنا واللَّه ما أن تبضّ [ (2) ] بقطرة، فلما وقعت يده على ضرعها فإذا هي حافل [ (3) ] ، فحلب ثم أتاني فقال: واللَّه يا ابنة أبي ذؤيب ما أظن هذه النسمة التي أخذتها إلا مباركة! وأخبرني بخبر الشارف وأخبرته بخبر ثديي وما رأيت منهما.
ثم أصبحنا فغدونا، فكنت على أتان قمراء، واللَّه ما أن تلحق الحمر ضعفا، فلما أن وضعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عليها جعلت تتقدم الركب فيقولون: واللَّه إن لأتانك هذه لشأنا.
قالت: فقدمنا بلادنا- بلاد سعد بن بكر- لا نتعرف من اللَّه إلا البركة، حتى إن كان راعينا لينصرف بأغنامنا حفلا وتأتي أغنام قومنا ما أن تبضّ بقطرة، فيقولون لرعيانهم: ويحكم! ارعوا حيث يرعى راعي ابنة أبي ذؤيب، فلم يزل كذلك.
فبينما هما يوما يلعبان في بهم لنا وراء بيوتنا، إذ جاء أخوه يسعى فقال: ذاك أخي القرشي قد قتل، فانطلقت وأبوه فاستقبلنا وهو منتقع اللون، فجعلت أضمه إليّ مرة وأبوه مرة ويقول: ما شأنك؟ فيقول: لا أدري، إلا أنه أتاني رجلان فشقّا بطني وساطها [ (4) ] ، فقال أبوه: ما أظن هذا الغلام إلا قد أصيب، فبادرى به أهله من قبل أن يتفاقم به الأمر.
عند ذلك لم يكن له همة إلا أن أتيت مكة [فأتيت به أمه، فقلت: أنا ظئر ابني هذا، وقد فصلته، وخشيت أن تقع عليه العاهة فاقبليه، فقالت: مالك زاهدة فيه؟ وقد كنت قبل اليوم تسأليني أن أتركه عندك لعلك خفت على [ابني] [ (5) ] الشيطان- أو كلام هذا معناه- ألا أخبرك عني وعنه؟ إني رأيت حيث ولدته
__________
[ (1) ] الشارف: الناقة المسنة.
[ (2) ] تبضّ: ترشح.
[ (3) ] الحافل: الممتلئة الضرع من اللبن، والحفل: اجتماع اللبن في الضرع.
[ (4) ] في (خ) : «وساطا» ، وفي (ابن هشام) : «يسوطانه» ولعل ما قد أثبتناه يناسب المعنى، يقال:
سطت اللبن أو الدم أسوطه، إذا ضربت بعضه ببعض، والمسوط: عود يضرب به.
[ (5) ] السياق مضطرب في (خ) فيما بين الحاصرتين، وقد صوبناه من كتب السيرة.(4/85)
أنه خرج مني نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام [ (1) ] . هذا لفظ زياد ابن عبد اللَّه البكائي عن ابن إسحاق.
وفي رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ابن إسحاق، قالت أمه: إن لابني هذا لشأنا! ألا أحدثك عنه؟ فما زالت بنا حتى أخبرتنا خبره، قالت: إني حملت به، فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة منه، إني لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته، فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا يده بالأرض رافعا رأسه إلى السماء، وألحقا بشأنكما [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هذا آخر حديث آمنة في (خ) ، لكنه ليس آخر لفظ زياد بن عبد اللَّه البكائي عن ابن إسحاق، وتمامه:
«ثم حملت به، فو اللَّه ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة» .
[ (2) ] حديث حليمة السعدية ورد في كتب السيرة بسياقات مختلفة، بعضها مطول، وبعضها مختصر، وبروايات مختلفة، عن ابن إسحاق، وابن راهويه، وأبو يعلي، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، فذكره كل من:
* ابن الجوزي في (صفة الصفوة) : 1/ 28- 30، وقال في آخره. وظاهر هذا الحديث يدل [على] أن آمنة حملت غير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال الواقدي: لا يعرف عند أهل العلم أن آمنة وعبد اللَّه ولدا غير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
* القسطلاني في (المواهب اللدنية) : 1/ 150- 153، وقال في آخره: كانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول:
هذا أخ لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فديته من مخول معمي ... فأنمه اللَّهمّ فيما تنمي
وذكر من شعر حليمة ما كانت ترقّص به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
يا رب إذا أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه
وأدحض أباطيل العدا بحقّه
* ابن هشام في (السيرة النبويّة) : 1/ 297- 303.
* البيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 133- 136.
* الطبري في (التاريخ) : 2/ 158- 160.
* ابن سيد الناس في (عيون الأثر) : 1/ 31- 35.
* أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة) : 1/ 155- 157.
* ابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 333- 335.
* ابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 110- 112.
* الدّيار بكري في (تاريخ الخميس) : 1/ 222- 223.
* ابن حجر في (الإصابة) : 7/ 722- 733، في ترجمة الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ابن رفاعة، رقم (11384) ، قال: وذكر محمد بن المعلى الأزدي في كتاب (الترقيص) ، قال:
وقالت الشيماء ترقّص النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو صغير:
يا ربنا أبق لنا محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيد مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسّدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
قال: فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب اللَّه دعاءها!.(4/86)
وقال الواقدي: وقدم مكة عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضعاء، وخرجت حليمة بنت عبد اللَّه بن الحرث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة ابن فصية بن نصر بن بكر بن هوازن، واسم أبيه الّذي أرضعه: الحرث بن العزى ابن رفاعة بن ملان [بن ناصرة] [ (1) ] بن فصية بن سعد بن بكر بن هوازن، وإخوته عبد اللَّه بن الحرث، وحذافة بنت الحرث- وهي الشيماء- وكانت الشيماء هي تحضنه مع أمها وتوركه.
وخرجوا في سنة حمراء [ (2) ] ، وخرجت بابنها عبد اللَّه ترضعه، وأتان قمراء تدعى سدرة، وشارف دلقاء لا سنّ لها، يقال لها السمراء، لقوح قد مات سقبها [ (3) ] بالأمس، ليس في ضرعها قطرة لبن قد يبس من العجف [ (4) ] ، وقالت أمه آمنة لظئره حليمة: يا ظئر! سلي عن ابنك فإنه يكون له شأن، فإنه لم يزل يذكر أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبي، ولقد حملت فما وجدت له ما تجد النساء من المشقة في الحمل، ولقد أتيت فقيل لي: قد حملت بسيد الأنام، ولقد قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد ثم في آل أبي ذؤيب.
قالت حليمة: فإن أبا هذا الغلام الّذي في حجري أبو ذؤيب وهو زوجي، فطابت نفس حليمة وسرت بكل ما سمعت، ثم قالت: واللَّه إني لأرجو أن يكون مباركا، فخرجت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى منزلها، فتجد حمارها قد قطعت رسنها فهي
__________
[ () ] * ابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 110- 112.
* الدّيار بكري في (تاريخ الخميس) : 1/ 222- 223.
* ابن حجر في (الإصابة) : 7/ 722- 733، في ترجمة الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ابن رفاعة، رقم (11384) ، قال: وذكر محمد بن المعلى الأزدي في كتاب (الترقيص) ، قال:
وقالت الشيماء ترقّص النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو صغير:
يا ربنا أبق لنا محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيد مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسّدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
قال: فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب اللَّه دعاءها!.
[ (1) ] زيادة للنسب.
[ (2) ] سنة حمراء: شديدة الجدب.
[ (3) ] سقبها: ما قاربها من العمر.
[ (4) ] العجف: الضعف.(4/87)
تجول في الدار، وتجد شارفها قائمة تقصع بجرّتها [ (1) ] ، فقالت لزوجها: إن هذا المولود لمبارك! فقال أبوه: قد رأينا بعض بركته.
قال: ثم عمد إلى شاتها فحلبها قعبا فسقى حليمة، ثم حلبها قعبا آخر فشرب حتى روى، ولمس ضرعها فإذا هي بعد حافل، فحلب قعبا آخر فحقنه في سقاء [ (2) ] له ثم حدجوا [ (3) ] أتانها فركبتها حليمة، وركب الحرث شارفهم، وحملت حليمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين يديها على الأتان فطلعا على صواحبها بوادي السّرر مرتعات وهما يتواهقان في السير، فقلن: هي حليمة وزوجها، ثم قلن: هذا حمار أنجى من حمارتها، وهذا بعير أنجى من بعيرها، وما يقدران على أن يضبطا رءوسهما حتى نزلت معهن فقلن: يا حليمة! ماذا صنعت؟ قالت: أخذت واللَّه خير مولود رأيته قط وأعظمه بركة، فقالت النسوة: أهو ابن عبد المطلب؟ قالت: نعم، وأخبرتهن بما قالت آمنة في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما أمرتها أن تسأل عنه، وما رأت حليمة من إقبال درّها ودرّ لقوحها وما رأوا من نجاء الأتان واللقحة، فقالت حليمة: فما رحلنا من منزلنا حتى رأيت الحسد في بعض نسائنا [فيمرون بسنح [ (4) ] من هذيل على عراف كبير، فقالت النسوة: سلي هذا، فجاءت حليمة إليه برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخبرته خبره وما قالت فيه آمنة، فصاح الهذلي: يا آل هذيل! اقتلوه.. اقتلوه، وآلهته ليمكن في الأرض وإنه لينتظر من السماء أمرا، فرحن إلى بلادهن، وإنما اعتاف العائف في قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلم التراب حين ولد] [ (5) ] .
قالت: فقدمنا على عشرة أعنز ما يرمن البيت هزالا فإن كنا لتريح الإبل وإنها لحفل، فنحلب ونشرب، ونحلب شارفنا غبوقا وصبوحا [ (6) ] ، وإني لأنظر إلى الشارف قد نضبت في سنامها، وانظر إلى عجز الأتان فكأن فيها
__________
[ (1) ] تقصع بجرتها: تجتر، وذلك يعني أنها كانت قد أكلت فامتلأت.
[ (2) ] في (خ) : «سقاية» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] حدجوا: شدوا عليه الحدج، وهو الحمل.
[ (4) ] سنح: موضع في طرق من أطراق المدينة وهي منازل بني الحارث بن الخزرج.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وليس في رواية أبي نعيم.
[ (6) ] الغبوق: ما يشرب في المساء، والصبوح: ما يشرب في الصباح.(4/88)
الأفهار [ (1) ] وإن كان عجزها لدبراء [ (2) ] مما ننخسها، وجعل أهل الحاضر يقولون لرعيانهم: ابلغوا حيث تبلغ غنم حليمة، فيبلغون، فلا تأتي مواشيهم إلا كما كانت تأتي قبل ذلك، ولقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يمس ضرع شاة لهم يقال لها «أطلال» ، فما يطلب منها ساعة من الساعات إلا حلبت غبوقا وصبوحا، وما على الأرض شيء تأكله دابة [ (3) ] .
فحدثني عبد الصمد بن محمد السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني بعض من كان يرعى غنم حليمة أنهم كانوا يرون غنمها ما ترفع رءوسها، ويرى الخضر في أفواهها وأبعارها، وما تزيد غنمنا على أن تربض [ (4) ] ، ما تجد عودا تأكله، فتروح الغنم أغرث [ (5) ] منها حين غدت، وتروح غنم حليمة يخاف عليها الحبط [ (6) ] .
قالوا: فمكث سنتين صلّى اللَّه عليه وسلم حتى فطم، فكأنه ابن أربع سنين، فقدموا به على أمه زائرين لها، وهم أحرص شيء على رده مكانه، لما رأوا من عظيم بركته، فلما كانوا بوادي السّرر لقيت نفرا من الحبشة وهم خارجون منها، فرافقتهم، فسألوها، فنظروا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نظرا شديدا، ثم نظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه، وإلى حمرة في عينيه، فقالوا: يشتكي أبدا عينيه للحمرة التي فيها؟ قالت:
لا، ولكن هذه الحمرة لا تفارقه، فقالوا: هذا واللَّه نبي، فغالبوها عليه، فخافتهم أن يغلبوها، فمنعه اللَّه عزّ وجلّ، فدخلت به على أمه، وأخبرتها بخبره، وما رأوا من بركته، وخبر الحبشة، فقالت أمه: ارجعي بابني فإنّي أخاف عليه وباء مكة، فو اللَّه ليكونن له شأن، فرجعت به.
__________
[ (1) ] أي أن لحمها قد تكتل كتلا من السّمن.
[ (2) ] الدبراء: التي بها قرحة.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 157- 159، حديث رقم (96) ، أخرجه ابن سعد في (الطبقات) :
1/ 110 مختصرا.
[ (4) ] تربض: تطوي قوائمها وتقيم.
[ (5) ] أغرث: أكثر جوعا، وفي شعر حسان يعتذر لعائشة رضي اللَّه تعالى عنها:
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
[ (6) ] الحبط: الانتفاخ من كثرة الأكل.(4/89)
وقام سوق ذي المجاز فحضرت به وبها يومئذ عراف يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم من هوازن، فلما نظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وإلى الحمرة التي في عينيه وإلى خاتم النبوة صاح: يا معشر العرب! فاجتمع إليه أهل الموسم فقال: اقتلوا هذا الصبي ولا يرون شيئا قد انطلقت به أمه، فيقال له: ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما وآلهته ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم.
فطلب بذي المجاز [ (1) ] فلم يوجد، ورجعت به حليمة إلى منزلها، فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس، ولقد نزل بهم عراف، فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر وأبت حليمة أن تخرجه إليه، إلى أن غفلت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه، فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ودخل الخيمة، فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت، فقال: هذا نبي [هذا نبي] [ (2) ] ، قالوا: فلما بلغ أربع سنين كان يغدو مع أخيه وأخته في البهم قريبا من الحي.
فبينا هو يوما مع أخيه في البهم، إذ رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أخذته غمية، فجعل يكلم رسول اللَّه فلا يجيبه، فخرج الغلام يصيح بأمه: أدركي أخي القرشي! فخرجت أمه تعدو، ومعها أبوه فيجدان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قاعدا منتقع اللون، فسألت أمه أخاه: ما رأيت؟ قال: رأيت طائرين أبيضين وقعا [ (3) ] ، فقال أحدهما: أهو هو؟ فقال: نعم، فأخذاه فاستلقياه على ظهره فشقا بطنه فأخرجا ما كان في بطنه، ثم قال أحدهما: ائتني بماء ثلج، فجاء به فغسل بطنه، ثم قال:
ائتني بماء برد [ (4) ] ، فجاء به فغسل بطنه ثم أعاده كما هو.
قال: فلما رأى أبواه [ (5) ] ما أصابه شاورت أمه أباه وقالت: نرى أن نرده على [ (6) ] أمه، إنا نخاف أن يصيبه عندنا ما هو أشد من هذا فنرده إلى أمه فيعالج،
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فطلب بعكاظ» .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] في المرجع السابق: «فوقنا» .
[ (4) ] في المرجع السابق: «بماء ورد» .
[ (5) ] في المرجع السابق: «أبوه» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «إلى أمه» .(4/90)
فإنّي أخاف أن يكون به لمم [ (1) ] ، [فقال أبوه: لا واللَّه ما به لمم] [ (2) ] إن هذا أعظم مولود رآه أحد بركة، واللَّه إن أصابه [ما أصابه] [ (2) ] إلا حسد من آل فلان، لما يرون من عظم بركته منذ كان بين أظهرنا [يا حليمة] [ (2) ] .
قال أبوه: يا حليمة! أخذناه ولنا عشر أعنز عجاف فغنمنا اليوم ثلاثمائة، قالت: إني أخاف عليه، فنزلت به إلى أمه فذكرت من بركته وخيره، ولكنه قد كان من شأنه فأخبرتها [ (3) ] خبره.
قال الواقدي: فحدثني معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قالت حليمة: إنا لا نرده إلا على جدع أنفنا، ما رأينا مولودا أعظم بركة منه، ولكنا كرهنا أن نحدث به عند ما حدث.
قال ابن عباس: فرجعت فكان عندنا سنة أو نحوها، لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا، فغفلت عنه، فجاءتها أخته الشيماء في وقت الظهيرة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في البهم وقد ردت البهم، فخرجت أمه تطلبه حتى وجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه! ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع، تقول أمها: أحقا يا بنية؟ قالت: إي واللَّه.
قال: تقول حليمة: أعوذ باللَّه من شرّ ما نحذر على ابني، فكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين، وكان غيره يقول: ردّ على أمه وهو ابن أربع سنين، فكان معها إلى أن بلغ ست سنين.
وخرّج أبو محمد بن حبان من حديث الصلت بن محمد أبي همام قال: حدثنا
__________
[ (1) ] اللمم: ضرب من الجنون.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 159- 162، حديث رقم (97) ، وقال في آخره زيادة عن (خ) :
قال ابن عباس: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين. وكان غيره يقول: ردّ إلى أمه وهو ابن أربع سنين، وكان معها إلى أن بلغ ست سنين، (الخصائص الكبرى) : 1/ 144 وقال: أخرجه أبو نعيم من طريق الواقدي، عن عبد الصمد بن محمد السعدي عن أبيه عن جده، والواقدي متروك.(4/91)
سلمة بن علقمة، أخبرنا داود بن أبي هند قال: لما ولدت آمنة ذهب عبد المطلب يطلب ظئرا، فوافق امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت الحرث فجاء بها فدفعه إليها وشيعها وهو يقول:
يا رب هذا الراكب المسافر ... محمد فاقلب بخير طائر
وازجره عن طريقة الفواجر ... واخل عنه كل خلق فاجر
أخنس ليس قلبه بطاهر ... وجنّة تصيد بالهواجر
إني أراه مكرمي وناصري [ (1) ]
فانطلقت به الظّئر، فذكر نحو حديث الجهم.
__________
[ (1) ] هذه الأبيات مضطربة السياق والوزن في (خ) ، وصوبناها من (دلائل أبي نعيم) .(4/92)
وأما معرفة اليهود له وهو غلام مع أمه بالمدينة، واعترافهم إذ ذاك بنبوته
فقد قال اللَّه جل جلاله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ (1) ] ، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس، وإن كانت ألصق، لأن الإنسان يمر عليه في زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه، وقد روى أن عمر رضي اللَّه عنه قال لعبد اللَّه بن سلام: أتعرف محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ قال:
نعم وأكثر، بعث اللَّه أمينه في السماء إلى أمينه في الأرض فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ: يعني اليهود الذين أوتوا الكتاب ليكتمون الحق يعني محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم. قال مجاهد وقتادة وخصيف، وهم يعلمون ظاهر كفرهم عنادا. ومثله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [ (2) ] ، وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [ (3) ] .
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث، وعبد اللَّه بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأبو بكر بن عبد اللَّه بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم العامري، وربيعة بن عبد اللَّه بن الهدير التيمي، وموسى بن يعقوب الزمعي في عدة [ (4) ] ، كل قد حدثه من هذا الحديث بطائفة، قالوا: [وغير هؤلاء المسمين قد حدثوني أيضا أهل ثقة وقناعة] [ (5) ] كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يكون مع أمه، فلما بلغ ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار
__________
[ (1) ] البقرة: 146.
[ (2) ] النمل: 14.
[ (3) ] البقرة: 89.
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «عن عدة من شيوخه» .
[ (5) ] زيادة في السّند من المرجع السابق.(4/93)
بالمدينة تزور أخواله، ومعه أم أيمن [ (1) ] ، فنزلت به في دار النابغة- رجل من بني عدي بن النجار- فأقامت به شهرا، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكر أمورا كانت في مقامه، ذلك لما نظر إلى أطم بني عدي بن النجار عرفها،
قال صلّى اللَّه عليه وسلم: نظرت إلى رجل من يهود يختلف إليّ، ينظر إليّ ثم ينصرف عني، فلقيني يوما خاليا فقال:
يا غلام، ما اسمك؟ قلت: محمد، ونظر إلى ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فخبرهم الخبر، فأخبروا أمي فخافت عليّ وخرجنا من المدينة،
وكانت أم أيمن تحدث تقول: أتاني رجلان من يهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا: أخرجي لنا أحمد. فأخرجته فنظر إليه وقلّباه مليا، حتى أنهما لينظران إلى سوأته، ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم، قالت أم أيمن: فوعيت ذلك كله من كلامهما [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وهي بركة، أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 163- 164، حديث رقم (99) ، وفيه الواقدي، متروك، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، منكر الحديث، وأبو بكر بن عبد اللَّه بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم العامري، رموه بالوضع، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 118 من طريق الواقدي أيضا.(4/94)
وأما توسم جده فيه السيادة لما كان يشاهد منه في صباه من مخايل [ (1) ] الرّباء [ (2) ]
فقال الواقدي: فرجعت به أمه إلى مكة، فلما كان بالأبواء توفيت آمنة، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدما عليهما إلى مكة وكانت تحضنه. قالوا:
فلما توفيت آمنة قبضه عبد المطلب وضمه إليه، فرق له [عبد المطلب] [ (3) ] رقة لم يرقها على ولد، وكان يقربه ويدنيه، وكان عبد المطلب إذا نام لا يدخل عليه أحد إعظاما له، وإذا خلا كذلك أيضا، وكان له مجلس لا يجلس عليه غيره، وكان يفرش له في ظل الكعبة فراش، ويأتي بنو عبد المطلب فيجلسون حول ذلك الفراش ينتظرون عبد المطلب [ (4) ] ، ويأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [حتى] [ (3) ] يرقى على الفراش فيجلس عليه، فيقول له أعمامه: مهلا يا محمد عن فراش أبيك، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني، إنه ليؤنس ملكا. ويقال: إنه قال: إن ابني ليحدث نفسه بذلك [ (5) ] .
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني العباس بن عبد اللَّه بن سعيد ابن العباس بن عبد المطلب قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول عبد المطلب: دعوا ابني، ويمسح على ظهره ويقول: إن لابني هذا لشأنا، وإنه ليحس من نفسه بخير، فتوفى عبد المطلب ورسول اللَّه ابن ثماني سنين.
__________
[ (1) ] تفرّس الخير فيه صلّى اللَّه عليه وسلم، (ترتيب القاموس) : 2/ 138.
[ (2) ] الربا: الزيادة والنماء، المرجع السابق: 297.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] في المرجع السابق: «ينظرون إلى عبد المطلب» .
[ (5) ] هذا الحديث امتداد للحديث رقم (99) من (دلائل أبي نعيم) ولعل إسنادهما واحد.(4/95)
وروى الأزرقي أحمد بن محمد بن الوليد عن سعيد بن سالم القداح، حدثني ابن جريج قال: كنا جلوسا مع عطاء بن أبي رباح في المسجد الحرام فتذاكرنا ابن عباس وفضله.
وقال عطاء: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسن الناس وجها، ما يراه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه أحد غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندى من قريش حرم بن أمية فمن دونه يجلسون دون المفرش، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما وهو غلام فجلس على المفرش فجبذه رجل فبكى، فقال عبد المطلب: ما لابني قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال: دعوا ابني أن يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه بشيء، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه غيره قبله ولا بعده.
قال: ومات عبد المطلب والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابن ثماني سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
وروى النضر بن سلمة عن محمد بن موسى أبي غزية، عن أبي عثمان سعيد ابن زيد عن ابن بريدة عن أبيه، وعن بريدة بن سفيان الأسلمي قال: لما ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عقّ [ (1) ] عبد المطلب عنه يوم السابع بكبش وسماه محمدا، ولم يسمه بأسماء آبائه، وقال: أردت أن يحمده اللَّه في السماء ويحمده الناس في الأرض. وقد فعل اللَّه تعالى ذلك، واللَّه خير الحامدين.
__________
[ (1) ] عقّ عنه: صنع له عقيقة، وقد سبق شرحها.(4/96)
وأما إلحاق القافّة [ (1) ] قدمه بقدم إبراهيم عليه السلام وتحدّث يهود بخروج نبي من ضئضئ [ (2) ] عبد المطّلب
فقال الواقدي: وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يلعب مع الصبيان حتى بلغ الردم، فرآه قوم من بني مدلج، فدعوه فنظروا إلى قدميه وإلى أثره، ثم خرجوا في إثره فصادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه، وقالوا لعبد المطلب: ما هذا منك؟ قال:
ابني، قالوا: احتفظ به، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الّذي في المقام منه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول، فكان أبو طالب يحتفظ به [ (3) ] .
وقالوا: بينا يوما عبد المطلب جالس في الحجر وعنده أسقف نجران- وكان صديقا له- وهو يحادثه ويقول: إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل هذا [البلد] [ (4) ] مولده، من صفته كذا وكذا، وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على بقية الحديث، فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال: هو هذا! ما هذا منك؟ قال: ابني، قال الأسقف: لا، ما نجد أباه حيا، قال عبد المطلب:
هو ابن ابني، وقد مات أبوه وأمّه حبلى [به] [ (5) ] ، قال: صدقت، فقال عبد المطلب [لبنيه] [ (5) ] : تحفظوا بابن أخيكم، ألا تسمعون ما يقال فيه [ (6) ] ؟
قال: فحدثني موسى بن شيبة عن خارجة، بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال: حدثني شيوخ من قومي أنهم خرجوا عمارا وعبد المطلب يومئذ حي
__________
[ (1) ] القافّة: جمع قافّ، وهو الّذي يقتفي الأثر.
[ (2) ] الضئضئ: الأصل والمعدن، أو كثرة النسل وبركته. (ترتيب القاموس) : 3/ 3.
[ (3) ] جزء من الحديث رقم (92) من (دلائل أبي نعيم) : 1/ 165.
[ (4) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 165، حديث رقم (100) ، وهو بإسناد الحديث رقم (99) .(4/97)
بمكة، ومعهم رجل من يهود تيماء [ (1) ] صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن، فنظر إلى عبد المطلب فقال: إنا نجد في كتابنا الّذي لم يبدّل أنه يخرج من ضئضئي هذا نبي يقتلنا وقومه قتل عاد [ (2) ] .
ولأبي داود من حديث إسرائيل عن سماك بن [حرب] عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتى نفر من قريش امرأة كاهنة فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبها من صاحب هذا المقام، قالت إن جردتم على السّهلة عباءة ومشيتم عليها، أنبئكم بأقربكم شبها، فجردوا عليها عباءة ثم مشوا عليها، فرأت أثر قدم محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: هذا واللَّه أقربكم شبها به.
قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة، ثم بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، قلت: ويؤيد هذا
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: ورأيت إبراهيم فإذا أقربكم شبها به أنا.
وذكر هشام بن الكلبي أن الّذي نظر قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: هذه القدم من تلك القدم التي في المقام- يعني قدم إبراهيم عليه السلام- هو كرز بن علقمة ابن هلال [ (3) ] ، الّذي قفا أثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر حين خرجا إلى الغار.
__________
[ (1) ] تيماء: قرية في أطراف بلاد الشام بين الشام ووادي القرى.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 165- 166، حديث رقم (101) ، وهو من طريق الواقدي وهو متروك، وفيه أيضا موسى بن شيبة لين الحديث.
[ (3) ] هو كرز بن علقمة بن هلال بن جريبة بن عبد نهم بن حليل بن حبشيّة بن سلول الخزاعي. أسلم يوم الفتح، وعمّر طويلا، وعمي في آخر عمره، وكان ممن جدّد أنصاب الحرم في زمن معاوية، فهي إلى اليوم. وذكر ابن الكلبي هذه القصة فقال: عمي على الناس بعض أعلام الحرم، وكتب مروان إلى معاوية بذلك، فكتب إليه: إن كان كرز حيا فله أن يقيمك على معالم الحرم، ففعل.
وقال أبو سعد في (شرف المصطفى) : أن المشركين كانوا استأجروه لما خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مهاجرا، فقفى أثره حتى انتهى إلى غار ثور، فرأى نسج العنكبوت على باب الغار، فقال: إلى هنا انتهى أثره، ثم لا أدري أخذ يمينا أو شمالا أو صعد الجبل.
وهو الّذي قال حين نظر إلى قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هذه القدم من تلك القدم التي في المقام. (الإصابة) :
/ 583- 584، ترجمة كرز بن علقمة بن هلال، رقم (7402) .(4/98)
وأما رؤية عمه أبي طالب منذ كفله ومعرفته بنبوته
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن نافع بن جبير قال: سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم وأنا ابن ثماني سنين [ (1) ] .
قالوا: فلما توفي عبد المطلب ضم أبو طالب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليه وهو يومئذ ابن ثماني سنين، وكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان له قطيعة من إبل تكون بعرنة [ (2) ] فيبدو إليها، فيكون [ينشأ فيها] [ (3) ] ويؤتي بلبنها إذا كان حاضرا بمكة.
وكان أبو طالب قد رق عليه وأحبه، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شبعوا، وكان إذا أراد أن يعشّيهم أو يغدّيهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيأكل معهم، وكانوا يفضلون من طعامهم.
وإن كان لبنا شرب رسول اللَّه أولهم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه، فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك، وكان الصبيان يصبحون شعثا رمصا، ويصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دهينا كحيلا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 161، حديث رقم (103) حديث مرسل، وهو من رواية الواقدي، وهو متروك.
[ (2) ] عرنة: وادي عرفة، والفقهاء يقولون: عرنة بضم الراء، وذلك خطأ. (معجم ما استعجم) :
2/ 935.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 166- 167، حديث رقم (104) ، وهو بإسناد الحديث رقم(4/99)
قال: فحدثني على بن عمر بن [ (1) ] الحسين عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية، عن عقيل بن أبي طالب قال: سمعته يقول: كنا إذا أصبحنا وليس عندنا طعام لصبوحنا يقول أبو طالب: [أي بني] [ (2) ] ائتوا زمزم، [فنأتي زمزم] [ (2) ] فنشرب منها فنجتزئ به [ (3) ] .
قال: فحدثني محمد بن الحسن بن أسامة بن زيد عن أهله عن أم أيمن قالت:
ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شكا جوعا قط ولا عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغداء
فيقول: لا أريد، أنا شبعان [ (4) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث الحسين بن سفيان قال: حدثنا زهير بن سلام قال:
قال عمرو بن محمد: حدثنا طلحة بن عمرو بن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في حجر أبي طالب بعد جده عبد المطلب فيصبح ولد عبد المطلب غمصا [ (5) ] ويصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دهينا صقيلا [ (6) ] .
قال أبو نعيم: ورواه محمد بن حميد عن سلمة بن الفضل عن طلحة مثله، وبسند الحسن بن سفيان المذكور عن ابن عباس أن أبا طالب كان يقرب للصبيان يصبحهم فيضعون أيديهم فينتهبون، ويكف محمد صلّى اللَّه عليه وسلم يده، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه.
__________
[ () ] (99) ، (طبقات ابن سعد) : 1/ 119، باب ذكر أبي طالب وضمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليه، وخروجه معه إلى الشام في المرة الأولى، (الخصائص الكبرى) : 1/ 205، وقال: أخرجه ابن سعد وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس، ومن طريق مجاهد وغيره، [قال: وحدثنا محمد ابن صالح، وعبد اللَّه بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، دخل بعضهم في حديث بعض، قالوا: لما توفي عبد المطلب ... ] وذكر الحديث باختلاف يسير.
[ (1) ] في (خ) : «عمر بن علي بن الحسين» ، «عن ابن الحنفية» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 167، حديث رقم (105) وسنده كالحديث رقم (99) .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 167، حديث رقم (106) ، وهو من طريق الواقدي.
[ (5) ] الغمص في العين: ما سال منها من رمص.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 167، حديث رقم (107) ، وهو من طريق طلحة بن عمرو، متروك، (طبقات ابن سعد) : 1/ 119.(4/100)
وروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال يوما لعمه أبي طالب: إني أرى في المنام رجلا يأتيني معه رجلان فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به والرجل لا يتكلم، فوصف أبو طالب مقالته هذه لبعض أهل العلم، فلما نظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: هذه الروح الطيبة، هذا واللَّه النبي المنتظر؟
فقال أبو طالب: فأكتم على ابن أخي لا تغري به قومه، فو اللَّه إن قلت ما قلت، لعلّي ما قلت، ولقد أنبأني عبد المطلب أنه النبي المبعوث، وأمرني أن أستر ذلك كيلا تغرى به الأعادي.(4/101)
وأما تظليل الغمام له في صغره واعتراف بحيرى ونسطورا بنبوته
فقد أوردت ذلك بطرقه في ذكر الأماكن التي حلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. قال الحافظ أبو نعيم: وما تضمن هذا الفصل من أحواله صلّى اللَّه عليه وسلم حين تزوجت آمنة وحملها به، ووضعها له [ (1) ] ، واسترضاعه وحضانته [ (2) ] هي وحليمة ظئره إلى أن بلغ خمسا وعشرين سنة، المقرونة بالآيات دالة على نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم، لخروجها عن التعارف والمعتاد، مع توسّم أهل الكتاب وغيرهم الأمارات التي دوّنت في الكتب المتقدمة والأخبار السالفة بالبشارات به وترقبهم لمبعثه ومخرجه، علامات ودلائل لمن منّ اللَّه عليه بالإيمان، وصار به موقنا، ولنبوته محققا صلّى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وحملها ووضعها به» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.
[ (2) ] في المرجع السابق: «وحضانة حليمة ظئره» .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 174.(4/102)
فصل في رعاية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الغنم قبل النبوة
اعلم أن في رعي البهائم العجم التي لا تعقل ولا تعرب عن نفسها، رياضة لحمل أعباء النبوة، فإن راعيها يسوسها ويحوطها من المتالف المخوفة، كالجوع والعطش والسباع، ويكف عادية قويها عن ضعيفها في منعها الرعي في مراتعها، وشرب الماء من مواردها، وإن القيام بذلك لسياسة يصعب معاناتها، ويشق على النفوس ملازمتها.
فإذا مرّن الإنسان عليها وتهذبت بها أخلاقه، وصارت سيرة العدل والإحسان ملكة له، تأهل لسياسة العقلاء من البشر بحسن التدبير لهم، وإرشادهم إلى مصالحهم والأخذ بحجزاتهم عما يؤذيهم، والصبر على أذاهم، واحتمال الأفعال عنهم.
ولهذا- واللَّه أعلم- كانت الأنبياء صلوات اللَّه عليهم رعاة البهائم أولا، حكمة من اللَّه سبحانه لتتهذب أخلاقهم برعايتها، وتتهذب نفوسهم بسياستها، رياضة لقيامهم بأعباء النبوة، وصبرهم على ما يلقون فيها من مصاعب تكذيب المكذبين، ومشقات أذى المخالفين، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
خرج البخاري من حديث عمرو بن يحيى عن جده عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟
قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة،
ترجم عليه باب رعي الغنم على قراريط [ (1) ] .
وخرج النسائي من حديث خالد عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن حزن
__________
[ (1) ] (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 1/ 16.(4/103)
وخرج النسائي من حديث خالد عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن حزن قال: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنما لأهلي بأجياد [ (1) ] . ذكره في [تفسير] سورة طه [ (2) ] .
وخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق شعبة به مثله.
وخرج أبو نعيم من حديث زمعة بن صالح عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر ابن عبد اللَّه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ما من نبي إلا وقد رعاها [ (3) ] .
ومن حديث موسى بن يزيد عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نجتني الكباث [ (4) ] فقال: عليكم بما اسود منه فإنه أطيبه، فقلنا: وكنت ترعى الغنم؟ قال: نعم، وهل من نبي إلا وقد رعاها [ (5) ] .
قال ابن عبد البر: وهذا الحديث لا أعلمه يروى إلا من حديث أبي سلمة ابن عبد الرحمن، وبعضهم يجعله عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وبعضهم يجعله عن أبي سلمة مرسلا، وبعضهم يجعله عن أبي سلمة عن أبيه، وبعضهم يجعله عن جابر.
وخرج من حديث ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن قيس بن مخرمة عن الحسن
__________
[ (1) ] في (خ) : «بجياد» وما أثبتناه من (طبقات ابن سعد) .
[ (2) ] هذا الحديث في (طبقات ابن سعد) : 1/ 126 ولفظه: كان بين أصحاب الغنم وأصحاب الإبل تنازع، فاستطال عليهم أصحاب الإبل، قال: فبلغنا- واللَّه أعلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ... وذكر الحديث.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 175، حديث رقم (112) ، وأخرجه أيضا البخاري في (الصحيح) من طريق ابن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده عن أبي هريرة، ومالك في (الموطأ) : 689، باب ما جاء في أمر الغنم، حديث رقم (1770) ، وابن ماجة في (السنن) : 2/ 727، كتاب التجارات باب (5) الصناعات، حديث رقم (249) .
[ (4) ] الكباث: النضيج من ثمر الأراك.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 174- 175، حديث رقم (111) ، وقد أخرجه أيضا البخاري في (الصحيح) ، ومسلم في (الصحيح) : 13/ 248- 249، كتاب الأشربة، باب (29) فضيلة ما اسود من الكباث، حديث رقم 163- (2050) ، (طبقات ابن سعد) : 1/ 125- 126.(4/104)
ابن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني اللَّه منها، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلها نرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة كما يسمر الفتيان [ (1) ] .
ومن حديث مسعر قال: حدثنا سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبيه قال: مرّ بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ونحن نجتني ثمر الأراك فقال: عليكم بما اسود منه، فإنّي كنت أجتنيه وأنا أرعى الغنم، قالوا: يا رسول اللَّه! أو كنت ترعاها؟ قال: ما من نبي إلا وقد رعاها [ (2) ] .
وروى مرسلا.
__________
[ (1) ] وهو حديث طويل سبق الإشارة إليه، وقد أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 186، حديث رقم (128) ، قال في هامشه: أخرجه إسحاق بن راهويه في مسندة، وابن إسحاق، والبزار، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عساكر، كلهم عن على بن أبي طالب، وقال ابن حجر: إسناده حسن، ورجاله ثقات.
[ (2) ] سبق توثيقه.(4/105)
فصل في ذكر اشتهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة قبل بعثته بالرسالة من اللَّه تعالى إلى العباد
خرج البخاري ومسلم في حديث بدء الوحي أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لما أتاه الوحي قال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، وأخبرها الخبر
فقالت له: كلا، أبشر! فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، فو اللَّه إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وفي رواية لغيرهما:
إنك لتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتؤدي الأمانة [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث ابن إسحاق عن وهب مولى الزبير، سمعت عبد اللَّه بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدأ اللَّه به رسوله من النبوة حين جاءه جبريل، فذكره وفيه: فرجع إلى خديجة فقالت: أين كنت؟ قال: قلت: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت:
أعيذك باللَّه من ذاك، ما كان اللَّه ليصنع ذلك بك مع صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلتك رحمك [ (1) ] .
وله من حديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق [ (2) ] عن محمد بن مسلم ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة
__________
[ (1) ] (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 2/ 361، فصل في ذكر بدء الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكيف تراءى الملك له، وإلقاؤه الوحي إليه، وتقريره له أنه يأتيه من عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه قد صار يوحى إليه نبيا ورسولا إلى الناس جميعا.
[ (2) ] سنده في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا محمد بن أحمد أبو أحمد، قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن شيرويه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قالت ...(4/106)
رضي اللَّه تعالى عنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا [بها] [ (1) ] خير جار:
النجاشيّ، آمننا على [ (2) ] ديننا، وعبدنا اللَّه لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه.
فأرسل إلى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فدعاهم، وكان الّذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فقال له: أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القويّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث اللَّه إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللَّه لنعبده ونوحده، ونخلع ما كان يعبده نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفحش وقول الزور، وأكل ما اليتيم، وقذف المحصنة.
وأمرنا أن نعبد اللَّه ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من اللَّه، فعبدنا اللَّه وحده فلم نشرك به شيئا، فقال النجاشي: إن هذا والّذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة [ (3) ] .
ولعظم مقدار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في نفوس قومه كان هو الّذي وضع الحجر الأسود موضعه بيده لما اختلفت قريش في وضعه،
فخرج غير واحد من الأئمة
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «جاونا خير جار» .
[ (2) ] في المرجع السابق: «أمنّا» .
[ (3) ] أخرجه أبو نعيم مطوّلا في (دلائل النبوة) : 1/ 246- 250، حديث رقم (194) ، وفي (الحلية) : 1/ 115- 117 في ترجمة جعفر بن أبي طالب، ترجمة رقم (17) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 285- 307، باب: الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية، وما ظهر فيها من الآيات وتصديق النجاشيّ ومن تبعه من القسيسين والرهبان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والإمام أحمد في (المسند) :
1/ 332- 334، حديث رقم (1742) ، حديث جعفر بن أبي طالب وهو حديث الهجرة، وابن هشام في (السيرة) : 2/ 176- 182، فصل إرسال قريش إلى الحبشة في طلب المهاجرين إليها.(4/107)
حديث حماد بن سلمة وقيس وسلام كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد عن عرعرة عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما بنت قريش البيت فبلغوا موضع الحجر اختلفوا في وضعه.
فقالوا: إن أول من يطلع من الباب، قال: فطلع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: قد طلع الأمين، فبسط ثوبا ووضع الحجر وسطه، وأمر بطون قريش فأخذ كل بطن منهم طرفا من الثوب، ووضعه بيده صلّى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] .
وقد روى من طرق كثيرة عن ابن جريج ومجاهد و [معمر] [ (2) ] بن سليمان، ومحمد بن جبير بن مطعم،
وقال: هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين جعلت قريش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حكما:
لما تشاجرت قريش الأحياء في فصل خطة ... جرت طيرهم بالنحس من سعد أسعد
فلاقوا لها بالبغض بعد مودة ... وأوقدوا نارا بينهم شرّ موقد
فلما رأينا الأمر قد جد جده ... ولم يبق شيء غير سل المهند
رضينا وقلنا العدل أول طالع ... يجيء من البطحاء على غير موعد
فلم يفجئنا إلا الأمين محمد ... فقلنا رضينا بالأمين محمد
بخير قريش كلها أمسى شيمة ... وفي اليوم مع ما يحدث اللَّه في غد
فجاء بأمر لم ير الناس مثله ... أعم وأرضى في العواقب والبدي
أخذنا بأكناف الرداء وكلنا ... له حصة من رفعه قبضة اليد
فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به ... أكف إليه قرّ في خير مسند
فكان رضانا ذاك عنه بعينه ... وأعظم به من رأى هاد ومهتد
فتلك يد منه علينا عظيمة ... يروح بها ركب العراق ويغتدي
__________
[ (1) ] قال الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 175: ومما يدخل في هذا الباب مما خصّ اللَّه به نبيه في الجاهلية الجهلاء، أن وفقه لوضع الحجر الأسود موضعه بيده، لما اختلفت قريش في وضعه، دلالة بصحة نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد سبق تخريج وشرح هذا الحديث.
[ (2) ] في (خ) : «سليمان بن سليمان» ، وصوابه: «معمر بن سليمان النخعي أبو عبد اللَّه الرقى» ، (تهذيب التهذيب) : 10/ 223.(4/108)
وخرج الأئمة أيضا من طريق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (1) ] ، نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قريش بطنا بطنا، فقال: أرأيتم لو قلت لكم إن خيلا تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك من كذب قط، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟
تبا لك سائر اليوم، فأنزل اللَّه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ (2) ] .
ولأبي نعيم وغيره من حديث إسرائيل [ (3) ] عن أبي إسحاق عن عمير وابن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا، فنزل على [أبي صوان] [ (4) ] أمية بن خلف- وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد- فقال أمية لسعد: انتظر حتى [إذا] [ (4) ] انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت.
فبينا سعد يطوف بالكعبة آمنا، أتاه أبو جهل- خزاه اللَّه تعالى- فقال: من هذا الّذي يطوف بالبيت أمنا؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالبيت آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟ فكان بينهما، حتى قال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.
فقال له سعد: واللَّه لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام، فجعل أميه يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، يسكنه، فغضب سعد وقال: دعني عنك، فإنّي سمعت محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟
قال: نعم، قال: واللَّه ما يكذب محمد.
__________
[ (1) ] الشعراء: 214.
[ (2) ] المسد: 1، تبّ: خاب وخسر.
[ (3) ] السند في (دلائل أبي نعيم) في تعليقه على الحديث رقم (116) : فمما يقارب هذا الحديث ويوافقه، ما حدثناه سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد اللَّه بن رجاء، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: ...
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .(4/109)
فلما خرجوا رجع إلى امرأته فقال: ما علمت ما قال لي أخي اليثربي؟ فأخبرها الخبر فقالت امرأة أمية: ما يدعنا محمد.
فلما جاء الصريخ وخرجوا إلى بدر، قالت له امرأته: أما تذكر ما قال لك أخوك اليثربي؟ فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف أهل الوادي فسر معنا يوما أو يومين، فسار معهم فقتله اللَّه [ببدر] [ (1) ] .
ومن حديث الأعمش عن مجاهد قال: حدثني مولاي عبد اللَّه بن السائب قال:
كنت شريك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في الجاهلية، فلما قدمت المدينة قال: تعرفني؟ قلت:
نعم، كنت شريكي، فنعم الشريك لا تداري ولا تماري [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الحديث أخرجه البخاري من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق بهذا الإسناد، ومن طريق يوسف بن إسحاق عن أبي إسحاق بهذا الإسناد أيضا، (فتح الباري) : 7/ 357- 358، كتاب المغازي، باب (2) ذكر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من يقتل ببدر، حديث رقم (3950) . وأخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) :
1/ 178- 179.
[ (2) ] قال ابن هشام في (السيرة) : السائب بن أبي السائب شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الّذي جاء
في الحديث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «نعم الشريك السائب لا يشاري ولا يماري» ،
وكان أسلم فحسن إسلامه فيما بلغنا واللَّه تعالى أعلم (سيرة ابن هشام) : 3/ 268، وفي هامشه: وذكر فيمن قتل من المشركين: السائب بن أبي السائب، واسم أبي السائب: صيفي بن عابد، وأنكر ابن هشام أن يكون السائب قتل كافرا، قال: وقد أسلم وحسن إسلامه، وفي الموضوع اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة، واللَّه تعالى أعلم.(4/110)
فصل في ذكر عصمة اللَّه تعالى للرسول صلّى اللَّه عليه وسلم من الجن والإنس والهوام
[ (1) ]
خرج مسلم من حديث جرير عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما منكم [ (2) ] من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟ قال: وإياي إلا أن اللَّه أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير [ (3) ] .
ومن حديث سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة [ (4) ] الحديث.
ومن حديث ابن وهب قال: أخبرني أبو صخر عن ابن قسيط، حدثه أن عروة حدثه أن عائشة رضي اللَّه عنها حدثته أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج من عندها ليلا، [قالت] [ (5) ] : فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع فقال: مالك يا عائشة؟
أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟.
__________
[ (1) ] الهوامّ: ما كان من خشاش الأرض، نحو العقارب وما أشبهها، الواحدة: هامّة، لأنها تهمّ، أي تدبّ، وهميمها دبيبها،
وروى ابن عباس رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات اللَّه التامة، من شر كل شيطان وهامّة، ومن شرّ عين لامّة، ويقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق عليهم السلام.
والهوامّ: الحيّات، وكل ذي سمّ يقتل سمّه، وأما ما لا يقتل: فهو السوامّ مشدّدة الميم، لأنها تسمّ ولا تبلغ أن تقتل، مثل: الزّنبور والعقرب وأشباهها.
والقوامّ: هي أمثال القنافذ، والفأر، واليراسيع، والخنافس، فهذه ليست بهوامّ ولا سوامّ، والواحدة من هذه كلها: هامّة، وسامّة، وقامّه. (لسان العرب) : 12/ 661- 662.
[ (2) ] في (خ) : «ما فيكم» .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 163، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- باب (16) تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قرينا، حديث رقم (69) من أحاديث الباب، وأخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 185، حديث رقم (127) .
[ (4) ] المرجع السابق: 163- 164.
[ (5) ] زيادة في السياق من المرجع السابق.(4/111)
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟ قلت: يا رسول اللَّه! أو معي شيطان؟ قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول اللَّه؟ قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم [ (1) ] .
وقال الترمذي: وسمعت علي بن خشرم يقول: قال سفيان بن عيينة في تفسير قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ولكن اللَّه أعانني عليه فأسلم، يعني أسلم أنا منه [ (2) ] . قال سفيان: الشيطان لا يسلم.
وقال أبو نعيم: وقوله فأسلم، يعني استسلم وانقاد، فليس بأمر بشر، وقيل:
أسلم: أي آمن، فيكون عليه السلام مختصا بإسلام قرينه وإيمانه [ (3) ] .
وذكر [من] حديث إبراهيم بن صدقة قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فضلت على آدم بخصلتين:
كان شيطاني كافرا فأعانني اللَّه عليه حتى أسلم، وكن أزواجي عونا لي، وكان شيطان آدم كافرا وزوجته عونا له على خطيئته [ (4) ] .
وله من حديث الصلت بن مسعود قال: حدثنا عثمان بن مطر عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان ساجدا بمكة، فجاء إبليس فأراد أن يطأ [على] [ (5) ] عنقه، فنفخه جبريل عليه السلام نفخة بجناحيه، فما استقرت
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 164، حديث رقم (70) ،
قوله: «إلا أن اللَّه أعانني عليه فأسلم» ،
«فأسلم» برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شرّه وفتنته، ومن فتح قال: أن القرين أسلم من الإسلام، وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير ... وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان. (مسلم بشرح النووي) : 17/ 163- 164 مختصرا.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 185، الفصل الثالث عشر، ذكر ما خصه اللَّه به عزّ وجلّ من العصمة، وحماه من التدين بدين الجاهلية، وحراسته إياه عن مكائد الجن والإنس، واحتيالهم عليه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (127) . وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 662، حديث رقم (3792) .
[ (4) ] أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 488 وهو من رواية محمد الوليد بن أبان القلانسيّ البغدادي، مولى بني هاشم، عن يزيد بن هارون. قال ابن عديّ: كان يضع الحديث. وقال أبو عرّوبة: كذاب. وقال الدار الدّارقطنيّ: ضعيف، وله أباطيل ذكرها الذهبي في (ميزان الاعتدال) : 4/ 59، ترجمة رقم (8293) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .(4/112)
قدماه على الأرض حتى بلغ الأردن [ (1) ] . قال: ورواه حجاج الصواف عن ثابت.
وله من حديث الحسن بن سفيان قال: حدثنا عبيد اللَّه بن عمر بن ميسرة، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو التّيّاح [ (2) ] ، قال: سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش [ (2) ] : كيف صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال: تحدّرت عليه الشياطين من الجبال والأودية يريدونه [ (3) ] ، [قال:] [ (4) ] وفيهم شيطان بيده مشعلة من نار، يريد أن يحرق بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رآهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فزع منهم.
فجاءه [ (5) ] جبريل فقال له: يا محمد، قل: أعوذ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرّ فتنة الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا [ (6) ] يطرق بخير يا رحمان، فقالهن فطفئت نار الشيطان وهزمهم.
قال: حدث به أحمد بن حنبل عن سيار بن حاتم عن جعفر مثله، وقال: ابن حبيش [ (7) ] .
ولأبي نعيم من حديث الأوزاعي قال: حدثني إبراهيم بن طريف قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني عبد اللَّه بن مسعود قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة صرف إليه نفر من الجن، فأتى رجل من الجن بشعلة من نار إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال جبريل: يا محمد، ألا أعلمك
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) 1/ 190- 191، باب: أما حراسة اللَّه عزّ وجلّ إياه صلّى اللَّه عليه وسلم من كيد إبليس وجنوده، حديث رقم (136) ، وأخرجه الطبراني في (الأوسط) ، وفيه عثمان بن مطر، وهو ضعيف.
[ (2) ] في (خ) : «أبو السياج» ، «خنيس» ، وفي (مسند أحمد) : «خنيش» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «يريدون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم» .
[ (4) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (5) ] في المرجع السابق: «فجاء» .
[ (6) ] في (خ) : «طارق» ، وما أثبتناه حق اللغة.
[ (7) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 191، حديث رقم (137) ، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 431، من حديث عبد الرحمن بن خنيش رضي اللَّه تعالى عنه. حديث رقم (15034) قال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا سيار بن حاتم أبو سلمة العنزي، قال: حدثنا جعفر- يعني ابن سليمان- قال: حدثنا أبو التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنيش وكان كبيرا:
أدركت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: قلت: كيف صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة كادته الشياطين؟
فقال.. وذكر الحديث. وهذا الحديث رجاله ثقات.(4/113)
كلمات إذا قلتهن طفئت [ (1) ] شعلته وانكب إلى منخره [ (2) ] ؟.
قل: أعوذ بوجه اللَّه الكريم وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير يا رحمان [ (3) ] .
وله من حديث عبد الأعلى بن حماد قال: حدثنا يحيى بن سليم عن ابن خثم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف، لو قد رأينا محمدا لقمنا [ (4) ] إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله.
فأقبلت ابنته فاطمة عليها السلام حتى دخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من ديتك [ (5) ] .
قال: يا بنية، ائتني بوضوئي [ (6) ] ، فتوضأ ثم دخل المسجد، فلما رأوه قالوا:
ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم وعقروا [ (7) ] في مجالسهم، فلم [ (8) ] يرفعوا إليه أبصارهم [ (9) ] ، ولم يقم منهم إليه رجل، وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى قام على رءوسهم فأخذ كفا [ (10) ] من تراب فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم [بها] [ (11) ] ، فما أصاب رجل منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر [كافرا] [ (11) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «كفيت» .
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «لمنخره» .
[ (3) ] هذا الحديث انفرد به أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 192، حديث رقم (138) وكذا أشار إليه السيوطي في (الخصائص) : 1/ 313، وله شاهد من أحاديث الباب.
[ (4) ] في (خ) : «لقد قمنا» .
[ (5) ] في (خ) و (المسند) «من دمك» .
[ (6) ] في (خ) : «بوضوء» .
[ (7) ] في (خ) : «وعرقوا» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) ، (مسند الإمام أحمد) .
[ (8) ] في (خ) : «ولم» .
[ (9) ] في (المسند) : «بصرا» .
[ (10) ] في (المسند) : «قبضة من تراب» وفي (دلائل أبي نعيم) «حفنة من تراب» .
[ (11) ] زيادة للسياق من (المسند) .
هذا الحديث أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 192- 193، باب عصمة اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم(4/114)
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الأعلى، وله من حديث يحيى ابن عبد الحميد قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [ (1) ] جاءت امرأة أبي لهب [ (2) ] إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه: لو تنحيت عنها لا تسمعك شيئا يؤذيك، فإنّها امرأة بذيئة، فقال [صلّى اللَّه عليه وسلم] : سيحال بيني وبينها، فلم تره.
فقالت لأبي بكر: هجانا صاحبك، فقال [أبو بكر] [ (3) ] : واللَّه ما ينطق بالشعر ولا يقوله، قالت، إنك لمصدق، فاندفعت راجعة فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول اللَّه؟ قال: كان بيني وبينها ملك يسترني حتى ذهبت [ (4) ] .
قال أبو نعيم: كذا رواه ابن فضيل مرسلا، ورواه عبد السلام بن حرب وغيره متصلا عن ابن عباس.
وله من حديث سفيان بن عيينة قال: حدثنا الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها قالت: لما نزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وبيدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا ... ودينه قلينا
وأمره عصينا
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلما رآها
__________
[ () ] حين تعاقد المشركون على قتله، حديث رقم (139) . وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 1/ 498- 499، حديث رقم (2757) ، 1/ 607، حديث رقم (3475) ، وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 3/ 170، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (2742/ 340) ، عن ابن عباس عن فاطمة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: اجتمع مشركو قريش في الحجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
يا بنية اسكني، ثم خرج فدخل عليهم المسجد فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا، فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلا منهم إلا قتل يوم بدر.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي هامشه: حذفه الذهبي في التلخيص لضعفه.
[ (1) ] المسد: 1.
[ (2) ] هي العوراء واسمها أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، تكنى بأم جميل.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 193- 194، حديث رقم (140) ، والبخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة المسد، باب (4) قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، حديث رقم (4973) (فتح الباري) 8/ 957- 958، (تفسير ابن كثير) : 4/ 604 عند تفسير سورة المسد، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 14/ 440، كتاب التاريخ، باب المعجزات، حديث رقم (6511) .(4/115)
أبو بكر قال يا رسول اللَّه قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
إنها لن تراني وقرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال [تعالى] [ (1) ] : وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [ (2) ] .
فأقبلت وقفت على أبي بكر ولم تر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت: يا أبا بكر، إني خبّرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها [ (3) ] .
قال: وعثرت أم جميل وهي تطوف بالبيت في مرطها [فقالت] : تعس مذمم، فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب: إني حصان فما أكلّم، وثقاف فما أعلم، وكلتانا من بني العم، ثم قريش بعد أعلم [ (4) ] .
وله من حديث إبراهيم بن سعد وبريد بن أبي حبيب، وشعيب ومعاوية ويحيى وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبيد اللَّه بن زياد، كلهم عن محمد بن شهاب الزهري عن سنان بن أبي سنان الدّؤليّ عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوة نجد، فأدركنا القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها.
قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: اللَّه، قال: فشام السيف، ها هو ذا [جالس] [ (5) ] لم يعرض [له] [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] في (المستدرك) : «كما قال وقرأ» .
[ (2) ] الإسراء: 54.
[ (3) ] أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 393، كتاب التفسير تفسير سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3376/ 513) ، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: (صحيح) ، والحميدي في (المسند) : 1/ 153- 154، أحاديث أسماء بن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنها، حديث رقم (323) ، ابن كثير في (التفسير) : تفسير سورة المسد، 4/ 604، والفهر: الحجر، والولولة: العويل.
[ (4) ] هذه الفقرة ضمن الحديث رقم (323) من (مسند الحميدي) ، وأولها: قال: فقال الوليد في حديثه، أو قال غيره تعثرت ...
[ (5) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .(4/116)
ورواه أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهري، حدثني سنان [ (1) ] بن أبي سنان [الدؤلي] [ (2) ] وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري أخبرهما أنه غزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غزوة قبل نجد، فلما قفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة يوما في واد كثير العضاة، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحت ظل [شجرة] فعلق بها سيفه فنمنا تحته كذا، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدعونا فأجبناه، فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: اللَّه، فشام السيف فجلس فسلم بعافية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد فعل ذلك [ (3) ] .
قال أبو نعيم: ورواه الحسن عن جابر، ورواه معمر والنعمان بن راشد عن الزهري عن أبي سلمة دون سنان.
ومن حديث شعبة عن أبي إسرائيل عن جعدة قال: شهدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأتى برجل فقيل: يا رسول اللَّه! هذا أراد أن يقتلك، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لم ترع لم ترع، لو أردت ذلك لم يسلطك اللَّه على قتلي [ (4) ] . وخرجه الإمام أحمد به نحوه.
ولأبي نعيم من حديث عبد اللَّه بن المبارك عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 49- 50، كتاب الفضائل، باب (4) توكله على اللَّه تعالى وعصمة اللَّه تعالى له من الناس، حديث رقم (843) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (14) من أحاديث الباب.
والعضاة: كل شجرة ذات شوك. صلتا: مسلولا. شام السيف: غمده ورده في غمده، فهو من الأضداد، والمراد هنا: أغمده.
وأخرجه أيضا البخاري في كتاب المغازي، باب (32) غزوة ذات الرقاع حديث رقم (4134) ، (4135) ، واسم الرجل: غورث بن الحارث (فتح الباري) : 7/ 541- 542، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 3/ 373 باب عصمة اللَّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم عما همّ به غورث بن الحارث من قتله وكيفية صلاة الخوف.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 194، حديث رقم (143) ، (مسند الإمام أحمد) : 4/ 514، من حديث جعدة رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (15441) ، وأخرجه ابن هشام في (السيرة) : 4/ 159 تحت عنوان: غورث يهم بقتل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وما نزل فيه من القرآن، وقال في آخره: فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.(4/117)
قال: قال شيبة بن عثمان: لمّا غزا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حنينا تذكرت أبي وعمي قتلهما عليّ وحمزة رضي اللَّه عنهما، فقلت: اليوم أدرك ثأري في محمد، فجئته من خلفه فدنوت منه ودنوت، حتى لم يبق إلا أن أسوره بالسيف، رفع لي شواظ من نار [كأنه] البرق، فخفت أن يحبسني، فنكصت القهقرى فالتفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: تعالى يا شيبة، قال: فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده على صدري فاستخرج اللَّه الشيطان من قلبي، فرفعت إليه بصري وهو أحب إليّ من سمعي وبصري ومن كذا [ (1) ]
فذكر الحديث.
ومن حديث ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحرث قال لقومه: أقتل لكم محمدا، قالوا: كيف تقتله؟ فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- وهو جالس وسيفه في حجره- فقال: يا محمد! انظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم، [وكان محلى بالفضّة] [ (2) ] ، فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم فيكبته اللَّه، فقال: يا محمد! ألا تخافني؟ [ (3) ] قال: لا، وما أخاف منك، قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟
قال: لا، يمنعني اللَّه منك، ثم غمد السيف ورده إلى رسول اللَّه [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلم فأنزل اللَّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ (5) ]
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 195، حديث رقم (144) ، (الإصابة) : 3/ 371، وقد أورد هذا الحديث بنحوه ضمن ترجمة شيبة بن عثمان، وهو الأوقص بن أبي طلحة بن عبد اللَّه بن عبد العزى ابن عبد الدار القرشي العبدري الحجبيّ، أبو عثمان، قال البخاري وغير واحد: له صحبة، أسلم يوم الفتح، وكان أبوه ممن قتل بأحد كافرا، وكان شيبة ممن ثبت يوم حنين بعد أن كان أراد أن يغتال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقذف اللَّه تعالى في قلبه الرعب. فوضع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يده على صدره فثبت الإيمان في قلبه، وقاتل بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلم. رواه ابن أبي خيثمة عن مصعب النميري، وذكره ابن إسحاق في (المغازي) بمعناه. (الإصابة) : 3/ 371، ترجمة رقم (3949) .
أخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 5/ 128، عن ابن إسحاق والواقدي في (المغازي) :
3/ 910، وقال فيه: فرفعت إليه رأسي وهو أحب إليّ من سمعي وبصري وقلبي ثم قال: يا شيب، قاتل الكفار، فقال: فتقدمت بين يديه أحبّ واللَّه أقيمه بنفسي وبكل شيء، فلما انهزمت هوازن رجع إلى منزله، ودخلت عليه صلّى اللَّه عليه وسلم
فقال: الحمد للَّه الّذي أراد بك خيرا مما أردت، ثم حدثني بما هممت به.
[ (2) ] زيادة للسياق من (ابن هشام) .
[ (3) ] في ابن إسحاق: «أما» .
[ (4) ] في (ابن هشام) : «ثم عمد إلى سيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فرده عليه» .
[ (5) ] المائدة: 11، والحديث في (سيرة ابن هشام) : 4/ 159، وفي (دلائل أبي نعيم) : 1/ 195، حديث رقم (145) ، وفيه عمرو بن عبيد، وهو معتزلي مشهور، كان داعية إلى بدعة، اتهمه جماعة مع أنه كان عابدا.(4/118)
ومن حديث سعيد بن سلمة بن أبي الحسام قال: حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر رضي اللَّه عنه قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى سفر فجاء إلى شجرة فقال تحتها وعلق سيفه بها، فجاء أعرابي فسلّ السيف فقام به على رأسه فقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فاستيقظ فقال: اللَّه، فأخذه راجف فوضع السيف وانطلق [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث عفان قال: حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: أقبلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول اللَّه، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم معلق بالشجرة، فأخذ سيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاخترطه، فقال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: اللَّه يمنعني منك،
قال: فتهدده أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث آدم بن أبي إياس قال: حدثنا حبان بن علي، حدثنا سعد بن طريف الإسكاف عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا أراد الحاجة أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته ثم توضأ ولبس أحد خفيه، فجاء طائر أخضر، فأخذ الخف الآخر فارتفع بها ثم ألقاه، فخرج منه أسود [ (3) ] سالخ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هذه كرامة أكرمني اللَّه بها، ثم قال: اللَّهمّ إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، وشر من يمشي على رجلين، وشر من يمشي على أربع [ (4) ] .
__________
[ (1) ] ما قبله وما بعده يشهدان على صحته.
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 339، حديث رقم (14512) وتمامه: فنودي بالصلاة، فصلّى بطائفة ركعتين وتأخروا، وصلّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان، وأخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 196، حديث رقم (146) ، وأخرجه الإمام أحمد أيضا في (المسند) : 4/ 248، حديث رقم (23925) من حديث جابر أيضا لكن بسياقة أخرى.
[ (3) ] السالخ: الأسود من الحيّات شديد السّواد، وأقتل ما يكون من الحيات إذا سلخت جلدها. (لسان العرب) : 3/ 25.
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 198، حديث رقم (150) ، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 277، وابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 167 عن البيهقي من طريق أخرى غير طريق أبي نعيم عن عكرمة عن ابن عباس أيضا، وانتهى حديثه عن
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «على بطنه» .(4/119)
ومن حديث إسماعيل بن عباس عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه قال: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بخفيه يلبسهما، فلبس أحدهما ثم جاء غراب فاحتمل الآخر فرمى به، فخرجت منه حية، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما [ (1) ] .
ومن حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه، أن رجلا من بني مخزوم قام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وفي يده فهر ليرمي به رسول اللَّه، فلما أتاه وهو ساجد رفع يده وفيها الفهر ليدفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيبست يده على الحجر فلم يستطع إرسال الفهر من يده.
فرجع إلى أصحابه فقالوا: أجبنت عن الرجل؟ قال: لم أفعل، ولكن هذا في يدي لا أستطيع إرساله، فعجبوا من ذلك، فوجدوا أصابعه قد يبست على الفهر، فعالجوا أصابعه حتى خلصوها، وقالوا: هذا شيء يراد [ (2) ] .
ومن حديث علي بن عبيد عن النضر [بن عبد الرحمن أبي] [ (3) ] أبي عمرو الخزاز، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذّى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه، فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمي لا يبصرون.
فجاءوا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: ننشدك اللَّه والرّحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم فيهم قرابة- فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [ (4) ] إلى قوله:
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [ (5) ] ، قال: فلم يؤمن من أولئك النفر أحد [ (6) ] .
ومن حديث أبي شيبة الواسطي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أن رجلا من آل المغيرة قال: لأقتلن محمدا فأوثب فرسه في الخندق، فوقع فاندقت رقبته وقالوا:
يا محمد، ادفعه إلينا نواريه وندفع إليك ديته، فقال: ذروة، فإنه خبيث، خبيث الدية.
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 15/ 410- 411، حديث رقم (41612) وعزاه إلى الطبراني عن أبي أمامة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 199، حديث رقم (152) ، انفرد به أبو نعيم كما في (الخصائص) : 1/ 320، وهو مرسل.
[ (3) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعيم) ، (تهذيب التهذيب) .
[ (4) ] يس: 1- 3.
[ (5) ] يس: 10.
[ (6) ] انفرد به أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 199- 200، حديث رقم (153) ، وفيه النضر بن عبد الرحمن أبو عمر، وهو متروك.(4/120)
ومن حديث ابن إسحاق قال: وحدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما عرفت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا أصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة- وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا [إلا] فيها، يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين خافوه.
فلما اجتمعوا لذلك في ذلك اليوم [ (1) ] الّذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة، اعترض لهم إبليس في هيئة [رجل] [ (2) ] شيخ جليل عليه بت له، فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابهم قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم [له] [ (2) ] فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأي ونصح، قالوا: أجل، فادخل فدخل معهم.
فذكر الحديث إلى [أن] قال: اجتمعوا له وفيهم أبو جهل، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخذ حفنة من تراب في يده، قال: وأخذ اللَّه على أبصارهم فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (3) ] إلى قوله: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (4) ] ، حتى فرغ من هؤلاء فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما ينتظر هؤلاء؟ قالوا: محمدا، قال:
خيبكم اللَّه!! قد واللَّه خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفلا ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب [ (5) ] ، الحديث، وسيأتي مبسوطا في ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مكة وهجرته إلى المدينة ونزوله على الأنصار.
وقال الواقدي: حدثني قدامة بن موسى عن عبد العزيز بن رمانة عن عروة
__________
[ (1) ] في (خ) : «فلما اجتمعوا في ذلك لذلك اليوم» ، وما أثبتناه (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] يس: 1- 2.
[ (4) ] يس: 9.
[ (5) ] هذا الحديث جزء من حديث طويل ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 201- 204، حديث رقم (154) ، وأخرجه أيضا ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 227- 228.(4/121)
ابن الزبير قال: كان النضر بن الحرث يؤذي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ويتعرض له، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما يريد حاجته نصف النهار وفي حر شديد، فبلغ أسفل ثنية الحجون [ (1) ] ، فرآه النضر بن الحرث فقال: لا أجده أبدا أخلا منه الساعة فأغتاله.
قال: فدنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم انصرف راجعا مرعوبا إلى منزله، فلقى أبا جهل [ (2) ] فقال: من أين الآن؟ قال النضر: اتبعت محمدا رجاء أن أغتاله وهو وحده ليس معه أحد، فإذا أساود [ (3) ] تضرب بأنيابها على رأسه، فاتحة أفواهها فهالتني، فذعرت منها ووليت راجعا، فقال أبو جهل: هذا بعض سحره [ (4) ] .
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه، أن عتبة وشيبة وأبا سفيان بن [حرب] ، والنضر بن الحرث، وأبا البختري والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد اللَّه بن أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، اجتمعوا ومن اجتمع منهم بعد غروب الشمس على ظهر الكعبة فقال بعضهم [إلى بعض] [ (5) ] : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه.
فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سريعا وهو يظن أن قد بدا لقومه في أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، وذكر القصة.
فلما قام عنهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال أبو جهل يا معشر قريش! إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد اللَّه لأجلسنّ له غدا بحجر ما أطيق حمله- أو كما قال- فإذا سجد [في صلاته] [ (5) ] رضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.
__________
[ (1) ] الحجون: جبل بأعلى مكة.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فلقيه أبو جهل فقال:» .
[ (3) ] أساود: أشباح.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 204- 205، حديث رقم (155) ، وفيه الواقدي، وهو متروك، وهو حديث مرسل، لأنه عروة بن الزبير من التابعين.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .(4/122)
قالوا: واللَّه لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف، وجلس لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلّى صلّى بين الركنين اليماني والأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد قعدت قريش في أنديتها ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا، قد يبست يداه على الحجر، فقذف الحجر من يده.
وقامت إليه رجال قريش فقالوا: مالك يا أبا الحكم؟! قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض دونه فحل من الإبل! لا واللَّه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته [ (1) ] ولا أنيابه لفحل قط، فهم بأن يأكلني، فذكر لي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
ذاك جبريل، لو دنا منه لأخذه.
فلما قال لهم أبو جهل ذلك، قام النضر بن الحرث فقال: يا معشر قريش! إنه واللَّه لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله قط [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثنا بن عمران قال:
حدثني عبد اللَّه وعبد الرحمن ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما، عن عطاء بن يسار عن ابن عباس، أن أربد بن قيس بن جزع بن جعفر بن خالد بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فانتهيا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو جالس فجلسا بين يديه، فقال عامر بن الطفيل: يا محمد! ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل، قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، اجعل لي الوبر ولك المدر [ (3) ] ، قال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (4) ] : لا، فلما قفا من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال [عامر] [ (4) ] : أما واللَّه لأملأنها عليك خيلا ورجالا، فقال
__________
[ (1) ] قصرته: أصل عنقه.
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 205- 206، حديث رقم (156) ، وابن إسحاق في (السيرة) : 1/ 294، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 310، ورجاله كلهم ثقات إلا أنه منقطع، (هامش 205 من دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] الوبر: كناية عن أمر البادية، والمدر: كناية عن الحاضرة.
[ (4) ] زيادة للسياق.(4/123)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يمنعك اللَّه،
فلما خرج أربد وعامر، قال عامر: إني أشغل عنك محمدا بالحديث فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدية، قال أربد: أفعل.
فأقبلا راجعين إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال عامر: يا محمد! قم معي أكلمك، فقام معه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يكلمه، وسلّ أربد السيف فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلم يستطع سلّه، وأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما.
فلما خرج عامر وأربد من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة- حرة وأقم [ (1) ]- نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا: اشخصا يا عدوي اللَّه، لعنكما اللَّه، فقال عامر: من هذا يا سعد؟ قال: هذا أسيد بن حضير الكتائب، [قال] [ (2) ] فخرجا حتى إذا كانا بالرقم [ (3) ] أرسل اللَّه على أربد صاعقة فقتلته.
وخرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل اللَّه عليه قرحة فأخذته، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول يرغب أن يموت في بيتها ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا، فأنزل اللَّه فيهما: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ [ (4) ] إلى قوله: وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [ (5) ] ، قال: المعقبات من أمر اللَّه: يحفطون محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم ثم ذكر أربد وما هم به فقال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [ (6) ] الآية إلى قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [ (7) ] .
قال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: قدم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد توافقا على ما توافقا عليه من الغدر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما قدما قال عامر: خالني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يأبى اللَّه ذلك، وأينا قتله، فلما ولى عامر قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اكفني عامر بن الطفيل.
__________
[ (1) ] حرة واقم: إحدى قرى المدينة المنورة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الرقم: موضع بالمدينة المنورة.
[ (4) ] الرعد: 8.
[ (5) ] الرعد: 11.
[ (6) ] الرعد: 12.
[ (7) ] الرعد: 13. والحديث ذكر أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 107- 108، حديث رقم (157) بزيادة ونقصان، لكن رواية (خ) أتم، وفيه عبد العزيز بن عمران وهو متروك، وأخرجه ابن هشام في (السيرة) بدون إسناد، والبخاري في صحيحه، كتاب المغازي- باب غزوة الرجيع.(4/124)
فلما خرجا قال عامر لأربد: أين ما كنت أوصيتك ووعدتني؟ قال: واللَّه ما كان على الأرض أحد أخوف عندي [على نفسي] [ (1) ] منك، وأيم اللَّه لا أخافك بعد اليوم، قال أربد: لا أبا لك، لا تعجل فو اللَّه ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت [ (2) ] بيني وبينه، حتى لو ضربته بالسيف ما ضربت غيرك، فترى أني كنت ضاربك، لا أبا لك!.
قال: فخرجا راجعين إلى بلادهما، حتى إذا كانا ببعض الطريق أصاب عامر الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من سلول، ثم خرج أربد ومن معه من أصحابه حين رأوا عامرا قد مات، فقدموا أرض بني عامر فقالت بنو عامر: يا أربد! ما وراءك؟
قال: لا شيء، واللَّه لقد دعاني إلى عبادة شيء ليته الآن عندي فأرميه بمثل هذه- وأشار إلى مكان قريب- حتى أقبله، فخرج أربد بعد ذلك بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل اللَّه صاعقة فاحترق هو وجمله، فبكاه لبيد فقال: أخشى على أربد الحتوف ولا..
القصيدة، وذكر القصة أيضا باختصار، وذكرها ابن إسحاق مطولة [ (3) ] .
ومن حديث الليث بن سعد عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة، عن أبان ابن صالح عن علي بن عبد اللَّه بن عباس عن أبيه عن العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: للَّه عليّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبان حتى جاء المسجد، وعجل أن يدخل من الباب، فاقتحم الحائط فقلت: هذا شر! فائتزرت ثم اتبعته.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (ابن هشام) .
[ (2) ] في (خ) : «إلّا حلت» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) .
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 260- 266، قصة عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس في الوفادة على بني عامر، وذكر شعرا كثيرا في بكاء لبيد أربد منه:
ما إن تعدّى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام النساء في كبد
وأخرجه البخاري في (الصحيح) ، حديث رقم (4091) ، انظر (فتح الباري) : 7/ 490- 491- كتاب المغازي باب (29) غزوة الرجيع.(4/125)
فدخل يقرأ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [ (1) ] ، فلما بلغ شأن أبي جهل: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [ (2) ] ، قال إنسان لأبي جهل: هذا محمد، فقال [أبو جهل] : ما ترون ما أرى! واللَّه لقد سدّ أفق السماء عليّ، فلما بلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم آخر السورة سجد [ (3) ] .
ومن حديث محمد بن عثمان عن أبي شيبة قال: حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يذكر عن نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال أبو جهل: أيعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
قالوا: نعم، قال: واللَّه لئن رأيته يفعل لأطأن رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب.
فأتاه وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما علم به إلا وهو ينكص على عقبيه ويرجع إلى خلفه ويتقي بيده، فقيل له: مالك؟ قال: رأيت بيني وبينه خندقا من نار وهولا، ورأيت ملائكة ذوي أجنحة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أما لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، وأنزل اللَّه تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [ (4) ] ، إلى قوله: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [ (5) ] يعني أبا جهل فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [ (6) ] : قومه سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [ (7) ] : الملائكة [ (8) ] . وقد رويت من طرق عن ابن عباس [ (8) ] .
وقال الزبير بن بكار: حدثنا أبو يحيى هارون وخرج الترمذي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [ (7) ] ، قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لو فعل لأخذته الملائكة عيانا [ (9) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
__________
[ (1) ] العلق: 1- 2.
[ (2) ] العلق: 6- 7.
[ (3) ] (فتح الباري) : 8/ 938، كتاب التفسير، باب (4) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ حديث رقم (4958) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 191.
[ (4) ] العلق: 6- 7.
[ (5) ] العلق: 13.
[ (6) ] العلق: 17.
[ (7) ] العلق: 18.
[ (8) ] أخرجه مسلم في (الصحيح) ، كتاب صفة القيامة، باب إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، والبخاري في (الصحيح) ، كتاب التفسير، باب كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، حديث رقم (4958) ، وأبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 208، حديث رقم (185) ، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 565، في تفسير سورة العلق، والبيهقي في (الدلائل) : 2/ 1899.
[ (9) ] (صحيح الترمذي) : 3/ 132، حديث رقم (2667- 3586) .(4/126)
وقال الزبير بن بكار: حدثنا أبو يحيى هارون بن عبد اللَّه الزبيري عن عبد اللَّه بن سلمة عن عبد اللَّه بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير قال: حدثني عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه قال: أكثر ما نالت قريش من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أني رأيته يوما- قال عمرو: ورأيت عيني عثمان ذرفتا حين ذكر ذلك.
قال عثمان: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر رضي اللَّه عنه، وفي الحجر ثلاثة جلوس: عتبة بن أبي معيط، وأبو جهل، وأمية بن خلف، فمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعرف ذلك في وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدنوت منه حتى وسطته، فكان بيني وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا،
فلما حاذاهم قالوا: واللَّه ما نصالحك ما بلّ بحر صوفة وأنت تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا.
فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إنا على ذلك، ثم مضى، فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجمع ثوبه فدفعته في صدره فوقع على استه، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول اللَّه وهو واقف، ثم قال لهم: أما واللَّه لا تنتهون حتى يحلكم اللَّه عقابه عاجلا.
قال عثمان رضي اللَّه عنه: فو اللَّه ما منهم رجل إلا وقد أخذه أفكل وهو يرتعد، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: بئس أنتم لنبيكم، ثم انصرف إلى بيته وتبعناه فقال: أبشروا فإن اللَّه مظهر دينه ومتم كلمته وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون ممن يذبح اللَّه بأيديكم عاجلا، ثم انصرفنا إلى بيوتنا، قال: فو اللَّه لقد رأيتهم ذبحهم اللَّه بأيدينا [ (1) ] .
ومن حديث علي بن مسهر وعبد الأعلى بن عبد الأعلى قالا: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه قال: ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [إلا] [ (2) ] يوم [ (3) ] ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة،
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 112، (الجامع الكبير المخطوط) : 2/ 16.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] في (خ) وابن حبان: «يوما» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو حق اللغة.(4/127)
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطا، وتصايح الناس فظنوا أنه مقتول، فأقبل أبو بكر رضي اللَّه عنه يشتد حتى أخذ بضبعي [ (1) ] رسول اللَّه من ورائه وهو يقول:
أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه؟ ثم انصرفوا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقام فصلّى.
فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال: يا معشر قريش! أما والّذي نفسي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح- وأشار بيده إلى حلقه- فقال أبو جهل: يا محمد، ما كنت جهولا، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنت منهم.
قال أبو نعيم: ورواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عمرو ابن العاص نحوه، ورواه محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص نحوه وقال: يا معشر قريش! أما والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح.
قال: فأخذت القوم كلهم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، حتى إنّ أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفأه [ (2) ] بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف [يا] [ (3) ] أبا القاسم راشدا، فو اللَّه ما كنت جهولا [ (4) ] .
ومن حديث داود بن أبي هند عن قيس بن حبتر قال: قالت ابنة الحكم:
قلت لجدي الحكم: ما رأيت قوما أعجز منكم ولا أسوأ رأيا يا بني أمية في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: لا تلومينا يا بنية، إني لا أحدثك إلا ما رأيت بعيني هاتين، قلنا: واللَّه لا نزال نسمع قريشا تعلى أصواتها على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في هذا المسجد، تواعدوا له حتى يأخذوه.
__________
[ (1) ] الضبع: ما بين الإبط إلى نصف الفخذ.
[ (2) ] رفأ فلانا: أزال فزعه وسكنه من الرعب ونحوه.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 208- 209، حديث رقم (159) من طريقين: عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن عمرو بن العاص بهذا الإسناد، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 14/ 529، كتاب التاريخ، باب كتب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فصل ذكر جعل المشركين رداء المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم في عنقه عند تبليغه إياهم رسالة ربه جلّ وعلا، حديث رقم (6569) .(4/128)
قال: فتواعدنا فجئنا إليه لنأخذه فسمعنا صوتا ما ظننا أنه بقي جبل بتهامة إلا تفتت.
قال: فغشى علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا له ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه فجاء الصفا والمروة حتى التقتا [إحداهما] بالأخرى فحالتا بيننا وبينه، فو اللَّه ما نفعنا ذلك حتى رزقنا اللَّه الإسلام وأذن لنا فيه.
ومن حديث محمد بن إسحاق عن عبد اللَّه بن عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي- وكان راعية- قال: قدم رجل من إراش [ (1) ] بإبل له مكة، فابتاعها أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، وأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالس في ناحية المسجد- فقال: يا معشر قريش! من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام، فإنّي رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي، قال: فقال أهل المجلس: ترى ذلك الرجل؟ - لرسول اللَّه وهم يهزءون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فهو يعينك عليه.
فأقبل الإراشيّ [ (2) ] حتى وقف على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا عبد اللَّه، إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله، وأنا غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يعينني عليه يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه رحمك اللَّه.
قال: انطلق إليه، وقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن كان معهم: اتبعه وانظر ماذا يصنع.
قال: وخرج رسول اللَّه حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال:
محمد، فاخرج إليّ، فخرج إليه وما في وجهه رائحة كذا قد انتقع لونه، فقال
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 209- 210، باب دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم على مشيخة قريش، حديث رقم (160) ، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 227: وأخرجه الطبراني ورجاله ثقات، غير ابنة الحكم ولم أعرفها. وقال السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 321: أخرجه الطبراني وابن منك.
[ (2) ] قال الشيخ طه عبد الرءوف سعد في تعليقاته على (سيرة ابن هشام) : هو ابن الغوث أو ابن عمرو ابن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ، وهو والد أنمار ولد بجيلة وخثعم. قال ابن هشام: ويقال إراشة. وإراشة: بطن من خثعم، وإراشة مذكورة في العماليق، في نسب فرعون صاحب مصر، وفي بلى أيضا: بنو إراشة.(4/129)
له: أعط هذا الرجل حقه، قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الّذي له، فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال للإراشيّ: ألحق بشأنك.
فأقبل الإراشيّ حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه اللَّه خيرا، فقد واللَّه أخذ لي الّذي لي. قال: وجاء الرجل الّذي بعثوا معه فقالوا: ويحك! ماذا رأيت.
قال: رأيت عجبا من العجب، واللَّه إن هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال: أعط هذا حقه، قال نعم، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل، فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه.
قال: ثم لم يلبثوا أن جاءهم أبو جهل فقالوا له: ويلك! مالك؟ واللَّه ما رأينا مثل ما صنعت، فقال: ويحكم! إن هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت منه رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، واللَّه لو أبيت لأكلني [ (1) ] .
ورواه أبو يزيد المدني وأبو قزعة الباهلي، أن رجلا كان له على أبي جهل دين فلم يعطه [له] ، فقيل له: ألا ندلك على من يستخرج لك حقك؟ قال: بلى، قالوا: عليك بمحمد بن عبد اللَّه، فأتاه فجاء معه إلى أبي جهل فقال: أعط حقه، قال: نعم، فدخل البيت فأخرج دراهمه فأعطاه إياه، فقالوا لأبي جهل: فرقت من محمد كل هذا؟ قال: والّذي نفسي بيده لقد رأيت معه رجالا معهم حراب تلألأ.
وقال أبو قزعة في حديثه: حرابا تلمع، لو لم أعطه لخفت أن تنفخ بها بطني.
ورواه ابن حبان عن الحسن بن محمد قال: قال أبو زرعة الرازيّ عن شيبان بن فروخ وقال: حدثنا سلام بن مسكين، حدثنا أبو يزيد المدني وأبو قزعة مثله وقد تقدم قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا تعجبون كيف يصرف اللَّه عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 210- 212، باب ذكر خبر آخر فيما اللَّه تعالى حجّ به أمر نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم لما كلم أبا جهل أن يؤدي غريمه حقه لما تقاعد به، حديث رقم (161) ، (سيرة ابن هشام) :
2/ 233- 235، باب أبو جهل والأراشي، (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 192- 194.(4/130)
مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمدا [ (1) ] !
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب (17) ما جاء في أسماء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقول اللَّه عزّ وجلّ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، حديث رقم (3533) ، قال الحافظ في (الفتح) :
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «يشتمون مذمما» ،
كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا:
فعل اللَّه بمذمم، ومذمم ليس الاسم الدال على المدح، فيعدلون إلى ذكر ضده فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل اللَّه بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه، ولا يعرف به، فكان الّذي يقع منهم في ذلك مصروفا إلى غيره. قال ابن التين: استدل بهذا الحديث من أسقط حدّ القذف بالتعريض، وهم الأكثر خلافا لمالك، وأجاب بأنه لم يقع في الحديث أنه لا شيء عليهم في ذلك، بل الواقع أنهم عوقبوا على ذلك بالقتل وغيره. (فتح الباري) : 6/ 688- 692. وأخرجه أيضا أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 194، باب عصمة اللَّه رسوله اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين تقاعد المشركون على قتله، حديث رقم (142) .(4/131)
فصل في ذكر حراسة السماء من استراق الشياطين السمع [ (1) ] عند بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم برسالات اللَّه تعالى لعباده
خرج الائمة من حديث أبي عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: ما قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول اللَّه في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خير السماء، وأرسل عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا:
ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من أمر حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا واللَّه الّذي خال بينكم وبين خبر السماء.
الحديث خرجه البخاري. وسيأتي في إسلام الجن [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فتكون باطلا، فلما بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكر ذلك لإبليس- ولم يكن النجوم يرمى بها قبل ذلك- فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده،
فوجدوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه فقال: هذا الأمر الّذي قد حدث في الأرض [ (3) ] .
__________
[ (1) ] قال تعالى، حكاية عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ: أصل اللمس المسّ، ثم استعير للتطلب، والمعنى: طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها، فوجدناها ملئت.
وقوله: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ: يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت.
مقاعد جمع مقعد، وقد فسّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صورة قعود الجن أنها كانوا واحدا فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الّذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة. (البحر المحيط) : 10/ 296.
[ (2) ] سيأتي تخريجه وشرحه في مناسبته إن شاء اللَّه تعالى.
[ (3) ] ونحوه باختلاف يسير في (تفسير ابن كثير) : 4/ 175- 176 تفسير سورة الأحقاف. قال ابن كثير: ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما من حديث إسرائيل به، وقال الترمذي:
حسن صحيح، وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما(4/132)
ومن حديث محمد بن فضيل عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقعد [للسمع] [ (1) ] ، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا [ (2) ] ، قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا، فلم يرفعوا رءوسهم حتى ينزل، فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا: الحق وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب أو موت أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به، قالوا: يكون كذا كذا، فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلم دحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذو الإبل ينحر كل يوم بعيرا، فأسرع الناس في أموالهم فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فإن كان النجوم التي تهتدون بها [وإلا] [ (3) ] فإنه أمر حدث، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدى بها كما هي لم يزل من منها شيء، فكفوا، وصرف اللَّه الجن فسمعوا القرآن، فلما حضروه [ (4) ] قالوا:
أنصتوا، وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه فقال: هذا حدث حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة تهامة فقال: ها هنا الحدث [ (5) ] .
ومن حديث الواقدي قال: فحدثني محمد بن صالح عن ابن أبي حكيم- يعني إسماعيل- عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: لما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ () ] وكذا رواه العوفيّ عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضا بمثل هذا السياق بطوله.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 239- 240 باختلاف يسير أيضا.
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] أي كصوت الحديدة إذا ألقيتها على الصفا، والصفا: الحجر الأملس، قال تعالى: كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ [البقرة: 264] والصفوان: جمع الصفا.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] في المرجع السابق: «فلما حضروا» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهي كما في التنزيل.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 225- 226، باب حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثته وعلوّ دعوته صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (177) وأخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 240- 241، وقال في آخره: فأتوني من كل تربة أرض، فأتوه بها، فجعل يشمّها فلما شم تربة مكة قال: من هاهنا جاء الحدث، فنصتوا، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد بعث. ورواه ابن كثير في (التفسير) : 4/ 458 تفسير سورة الجن باختلاف يسير.(4/133)
أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين إبليس فقالت له: ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا، قال: هذا نبي قد بعث، فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه فقالوا: لم نجده، قال: أنا صاحبه، فخرج يلتمس فنودي: عليك بحبة القلب- يعني مكة- فالتمسه بها، فوجده عند قرن الثعالب [ (1) ] ، فخرج إلى الشياطين فقال: قد وجدته معه جبريل، فما عندكم؟ قالوا: نزين الشهوات في أعين أصحابه، ونحببها إليهم، قال: فلا [شيء] [ (2) ] إذا [ (3) ] .
وحدثني طلحة بن عمرو عن ابن أبي مليكة عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه قال: لما كان اليوم الّذي [تنبأ] [ (4) ] فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منعت الشياطين من السماء، ورموا بالشهب، فجاءوا إلى إبليس فذكروا له ذلك فقال: أمر قد حدث، هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج بني إسرائيل قال: فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا إليه فقالوا: ليس بها أحد، فقال إبليس، أنا صاحبه، فخرج في طلبه بمكة فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بحراء منحدرا ومعه جبريل عليه السلام، فرجع إلى أصحابه فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم؟ قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس [ (5) ] ، قال: فذاك إذا [ (6) ] .
وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن عمر بن عبد اللَّه العنسيّ عن ابن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى ابن مريم عليه السلام حتى [تنبأ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما [تنبأ] رمي بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه، جعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون أرقّاءهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف،
__________
[ (1) ] قرن الثعالب: هو قرن المنازل، ميقات أهل نجد، وهو يبعد عن مكة مسيرة يوم وليلة (معجم البلدان) : 4/ 377. موضع رقم (9560) .
[ (2) ] في (خ) : «فلا أساء» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 226- 227، حديث رقم (178) ، وأخرجه السيوطي في (الخصائص) : 1/ 273.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] في (خ) : «نحببها للناس» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وهو أجود للسياق.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 227، حديث رقم (179) ، و (الخصائص الكبرى) : 1/ 275، وفيه الواقدي وهو متروك.(4/134)
ففعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف فقال: ولم فعلتم ما أرى؟ قالوا: رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء، قال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد، فلا تعجلوا، وانظروا: فإن تكن نجوما تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو عند أمر حدث، فنظروا، فإذا هن لا تعرف، فأخبروه فقال: الأمر فيه مهلة بعد، هذا عند ظهور نبي، فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد اللَّه يدعى أنه نبي مرسل، قال عبد ياليل: فعند ذلك رمي بها.
وحدثني طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي، فلما بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر فرمى فوق أبي قبيس- وهو أول جبل وضع على الأرض- فرأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلّى خلف المقام، فقال: أذهب فأكسر عنقه، فجاء يخطر وجبريل عنده فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا، فولى الشيطان هاربا [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث يعقوب الدورقي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن حجاج بن أبي عثمان الصواف، عن ثابت [البناني] [ (2) ] عن أنس رضي اللَّه عنه قال: إن إبليس ما بين قدميه [ (3) ] إلى كعبيه [ (3) ] مسيرة كذا وكذا، وإن عرشه لعلى البحر، ولو ظهر للناس لعبد، قال: فلما بعث اللَّه محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أتاه وهو يجمع بكيده فانقض عليه جبريل فدفعه بمنكبه فألقاه بوادي الأردن [ (4) ] .
[وقال الواقدي: فحدثني عمر بن إسحاق أخو محمد بن إسحاق قال: سمعت نافع بن جبير يقول: كانت الشياطين في الفترة تسمع ولا ترى، فلما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم رميت بالشهب] [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 227- 228، حديث رقم (180) ، (الخصائص الكبرى) : 1/ 278، وفيه الواقدي وهو متروك.
[ (2) ] زيادة في النسب من (دلائل أبي نعيم) وكتب الرجال.
[ (3) ] في (خ) : «قدمه» ، «كعبه» .
[ (4) ] هذا الحديث انفرد به أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 228، حديث رقم (181) ، ونقله عنه السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 287.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .(4/135)
فصل في ذكر بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
اعلم أن الناس قد اختلفوا في بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأنكرها قوم وأقرّ بها قوم، ثم اختلف المعترفون بها فجوزها البراهمة وجعلوا العقل كافيا، وأنكر قوم كون الشرائع من عند اللَّه، وأنكر اليهود والنصارى والمجوس رسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم واعترف بعضهم برسالته إلى العرب فقط، ولكل فريق منهم شبهة زينها الشيطان لأوليائه من قدمائهم، وتبعهم مقلدوهم.(4/136)
فأمّا شبهة منكري التكليف
فقالوا: التكليف باطل، فالبعثة باطلة، أما الأولى: فلأن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى، فلا تكون مقدورة لهم، فلا يكلفون بها.
وأما الثانية: فلأنه لا فائدة في البعثة إلا توجيه التكاليف على الخلق، فإذا كان المقصود باطلا كان المتبع أولى بالبطلان.
وأجيب: أولا: بأن أفعالهم لا تخلو عن قدرتهم واختيارهم كما يعدد في مسألة خلق الأفعال، ولذلك يقولون: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وإنما يلزم من عدم القدرة من جعل الخلق نفس المخلوق، وهم المعتزلة.
وأجيب: ثانيا: بمنع انحصار فائدة البعثة في توحيد التكليف كما سيأتي عند ذكر جواز بعثة الرسل.
وأما شبهة البراهمة
فقالوا: كل ما كان حسنا فعلناه، وكل ما كان قبيحا تركناه، وما لا ندرك حسنه ولا قبحه فإن كنا مضطرين أو محتاجين إليه اكتفينا بالقدر الرافع للضرورة والحاجة، وإن لم يكن بنا حاجة إليه امتنعنا منه احترازا من الخطر.
وأجيب: بعد تسليم أن العقل كاف في التعريف، لكن لم لا يجوز أن يكون فائدة البعثة تأكيد ذلك التعريف، ولهذا السبب أكثر اللَّه تعالى من الدلائل على التوحيد، مع أن الواحد منها كاف.(4/137)
وأما شبهة منكري كون الشرائع من عند اللَّه
قالوا: نرى الشرائع من عند اللَّه مشتملة على أشياء لا فائدة فيها، فإن الصلاة والصوم والحج أفعال لا منفعة فيها للمعبود، وهي مصادر متاعب في حق العابد، فكان ذلك عبثا بل سفها، وذلك لا يليق بالحكيم، فوجب أن لا تكون هذه الشرائع من عند اللَّه تعالى، وإنما هي مكر من القدماء.
وأجيب: بمنع أنها خالية عن الحكمة والمنفعة، ولا يلزم من عدم اطلاعكم على الحكمة عدمها.
وأما شبهة اليهود
فهي أن موسى عليه السلام لما بلّغ شرعه إلى أمته لا يخلو في تبليغه من أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون قد بين أنه دائم، أو بين أنه مؤقت، أو لا هذا ولا هذا.
والثاني باطل، لأنه لو بيّن أنه منقطع وشرح ذلك لأمته لكان معلوما عندهم على سبيل التواتر، ولو كان نقل متواترا كأصل دينه ولم يمكنهم إخفاؤه، لأن ما علم تواترا لا يمكن إنكاره، ومعلوم أن اليهود متفقون في مشارق الأرض ومغاربها على إنكاره.
والثالث: باطل أيضا، لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يجب بمقتضى شرعة موسى من الأعمال إلا مرة واحدة، لأن مقتضى الأمر المطلق الفعل مرة واحدة لا التكرار.
وبالإجماع هذا باطل، وإذا بين لأمته أن شرعه دائم وجب أن يكون دائما، وإلا لزم نسبته إلى الكذب وزوال البينة عن جميع الشرائع.
وأجيب: بجواز أنه بيّن أنه منقطع محدود، وكان ذلك معلوما بالتواتر من دينه، إلا أن قومه هلكوا بالكلية في بخت نصّر، وصار الباقي أقل من عدد التواتر، ولا جرم انقطع هذا النقل، وسنقيم الأدلة بالحجج الواضحة على صحة دين الإسلام وصدق محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.(4/138)
وأما بعثة الرسل هل هي جائزة أو واجبة؟
فاعلم أن المؤمنين بالرسل اختلفوا: هل البعثة جائزة أو واجبة؟ فقال عامة المتكلمين بعثة الرسل جائزة، وعند المحققين أنها واجبة، ولا يعنون أنها تجب على اللَّه تعالى بإيجاب أحد ولا بإيجابه على نفسه، بل يعنون أنها متأكدة الوجود لأنها من مقتضيات الحكمة، فيكون عدمها من باب السفه، وهو محال على الحكيم، وهذا كما أن علم اللَّه وجوده يجب لكون عدمه يوجب الجهل، وهو محال على العليم.
ودليل الجواز أن ورود التكليف بالإيجاب والحظر والإطلاق والمنع ممن له الملك في مماليكه ليس مما يأباه العقل أو ندفعه الدلائل، فله أن يتصرف في كل شخص من أشخاص بني آدم بأي شيء شاء من وجوه التصرف، منعا كان أو إطلاقا، حظرا كان أو إيجابا، ثم يعلمهم ذلك إما بتخليق العلم فيهم أو بتخصيص بعض عباده بالعلم من جنسهم أو من خلاف جنسهم، بإفهام صحيح أو بوحي صريح.
ودليل الواجب أن في بعثة الأنبياء من الفوائد والحكم ما لا يفى:
فمنها: تأكيد دليل العقل بدليل النقل، ومنها قطع عذر المكلف على ما قال اللَّه تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ (1) ] ، وقال: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا [ (2) ] .
ومنها: أن اللَّه عز وجل خلق الخلق محتاجين إلى الغذاء للبقاء، وإلى الدواء للسقام ولحفظ الصحة وإزالة العلل العارضة، وخلق السموم القاتلة، والعقل لا يقف عليها، والتجربة لا تفي بمعرفتها إلا بعد الأدواء، ومع ذلك فيها خطر، وفي بعثة الأنبياء معرفة طبائعها من غير خطر.
ومنها: لو فوض كيفية العبادة إلى الخلق لجاز أن تأتي كل طائفة بوضع خاص، ثم أخذوا يتعصبون لها، فيقضي إلى الفتن.
ومنها: أن ما يفعله الإنسان بمقتضى عقله يكون كالفعل المعتاد، والمعتاد لا يكون عبادة بخلاف ما يفعله امتثالا فإنه يكون محض العبادة، ولذلك ورد الأمر بالأفعال الغريبة كالحج، والمقادير التي لا تفعل في غير ذلك.
__________
[ (1) ] النساء: 165.
[ (2) ] طه: 134، وتمامها لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى.(4/139)
وأما الأدلة على صحة دين الإسلام وصدق نبينا محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
فأحدهما:
أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم ادعى النبوة وظهرت المعجزة على وفق دعواه، وكل من كان كذلك كان رسول اللَّه حقا، فمحمد رسول اللَّه حقا، أما دعواه النبوة فمتواترة أيضا لو لم يدّع النبوة لما كان لنزاع الخصم فائدة، وأما ظهور المعجزة فلأنه أتى بالقرآن وهذا متواتر أيضا.
وأما أن القرآن معجزة فلأنه تحدى البلغاء، بل الجن والإنس بمعارضته على أبلغ الوجوه فقال: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (1) ] ، ثم زاد في التحدي فقال:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [ (2) ] ، ثم بالغ فقال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] ، وعجزوا عن معارضته وإلا لم يقابلوه، لأنه المعارضة أسهل.
وأما أن كل من أتى بالمعجزة كان صادقا فلا نعلم يقينا أن اللَّه تعالى سامع لدعواه، وأن ما ظهر على يده خارج عن مقدور البشر، فإذا ادّعى الرسالة ثم قال: إلهي، إن كنت صادقا في دعواي الرسالة فأفلق البحر وشق القمر أو غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا اللَّه عز وجل ففعل ذلك عقيب سؤاله فعلمنا بالضرورة أنّه صدّقه في دعواه.
كما أنّا نقطع بأن رجلا لو قال لقوم: أنا رسول فلان الملك إليكم، ودليل صدقي أنه يخرق على عادته الفلانية لأجلي، مثل أن يقوم عن سريره أو ينزل عن مركبه فيمشي لأجلي، أو ينزع تاجه فيجعله على رأسي، فوجد ذلك من الملك دلّ على صدق مدعي الرسالة.
واعترض عليه بوجوه: أحدهما: لم لا يجوز إظهار المعجزة على يد المتنبئ؟
وأجيب: بأنه لا فائدة فيه إلا تكليف اللَّه الخلق بما يخبرهم الكاذب به، ولا شك أنه تعالى قادر على أن يكلفهم بذلك على يد صادق، فعدوله عن تكليف الخلق على يد رسول من عنده إلى تكليفهم على يد الكذاب خال عن الحكمة بالضرورة.
__________
[ (1) ] الإسراء: 88.
[ (2) ] هود: 13.
[ (3) ] البقرة: 23.(4/140)
وأجاب بعضهم بأن في إظهار المعجزة على يد الكاذب إضلال [الخلق] وترك [مصلحتهم] ، ورد هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو فرض جواز إظهار المعجزة على يد المتنبئ لم يكن فيه إضلال الخلق بل هدايتهم، لأن إظهار المعجزة والحالة هذه تكون أمرا لهم بما جاءهم به المتنبئ، وأمر اللَّه هداية لا إضلال.
والثاني: أن إضلال الخلق وترك [مصلحتهم] إنما لا يجوز إذا لم يكن فيه حكمة، وعدم الحكمة غير معلوم.
الاعتراض الثاني: أن المعجزة تشتبه بالسحر، فلا تدل على الصدق، ورد بالفرق بأن التعليم يدخل السحر دون المعجزة.
وبأن المعجز هو الّذي لا يأتي أحد من المبارزين والمنازعين بمثله، [إما] لأنه ليس في قوته وإما بمنع اللَّه له عزّ وجلّ، والسحر ليس كذلك.
وبأن السحر لا يكون إلا باقتراح المقترحين، بل بحسب ما يعرفه الساحر بخلاف معجزات الأنبياء.
وبأن آثار المعجزات حقيقية، كشبع الجماعة من الطعام اليسير، وريهم بالماء القليل، والتزود منها للمستقبل من الزمان، بخلاف السحر فإنه تخييلات لا تروج إلا في أوقات مخصوصة وأمكنة مخصوصة، على أن أحدا من العقلاء لم يجوز انتهاء السحر إلى الموتى، وقلب العصا ثعبانا، وفلق البحر، وشق القمر، وإبراء الأكمه والأبرص ونحوها، ولهم اعتراضات كلها [افتراضات] [ (1) ] بنوها على نفي الفاعل المختار، فلذلك أعرضت عنها.
__________
[ (1) ] هذه الكلمة لم أجد لها توجيها في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.(4/141)
الحجة الثانية
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم إما ملك ما حق أو نبي صادق، ولكنه ليس ملكا ماحقا، فهو نبي صادق، وإنما قلنا: إما ملك أو نبي لأنه لا قائل بقول ثالث، إذ الخصم وهو اليهود والنصارى- خزاهم اللَّه- يزعمون أن رب العالمين- تعالى عن قولهم- أرسل ملكا ظالما فادعى النبوة وكذب على اللَّه، ومكث زمنا طويلا يقول: أمرني بكذا ونهاني عن كذا، ويستبيح دماء أولياء اللَّه وأبنائه وأحبائه، والرب تعالى يظهره ويؤيده، ويقيم الأدلة والمعجزات على صدقه، ويقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة، ويذل أعداؤه أكثر من ثماني مائة سنة، وهذا منهم غاية القدح في الرب- تعالى عن قولهم-.
ونحن نقول: إن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم كان نبيا صادقا مؤيدا من اللَّه تعالى، فقام ناموسه بالتأييد الإلهي. وإنما قلنا: أنه ليس ملكا بل نبي صادق لأنا علمنا بالاستقراء التام والتواتر القاطع أن ملكا من ملوك الدنيا لم يبق ناموسه بعده بل سيفنى بموته، وإنما تبقى نواميس الأنبياء بعدهم، ثم رأينا ناموس محمد صلّى اللَّه عليه وسلم باقيا بعده زيادة عن ثماني مائة سنة، فعلمنا أنه من الأنبياء لا من الملوك.(4/142)
الحجة الثالثة
نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لازمة لنبوة من قبله من الأنبياء جميعهم، ثم قد وجد الملزوم الّذي هو نبوة الأنبياء قبله، فيجب أن يوجد اللازم وهو نبوته، وإنما قلنا: إن نبوته لازمة لنبوة من قبله لأنا أجمعنا وإياكم على أن المقتضى لنبوتهم إرادة اللَّه تعالى، والدليل عليها ظهور المعجز.
لكن إرادة اللَّه تعالى خفية عن البشر، لا سبيل إلى معرفتها، فبقي الطريق إلى ثبوت النبوة منحصرا في ظهور المعجز، والعجز مشترك بينه وبينهم بما حققناه، وإنما قلنا: إن وجود الملزوم موجب لوجود اللازم للقطع بأن ملزوما لا لازم له محال الوجود.(4/143)
الحجة الرابعة
محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أقرّ اليهود والنصارى في شريعته بالجزية مع علمه بأنهم يكذبونه ويقدحون في صدقه، وما كان ذلك منه إلا مراعاة لحرمة كتابهم وأنبيائهم، إنما علم أنهم وإن تصرّفوا فيها بالتبديل والتحريف، فإنّهم لم يحرفوا الجميع، وإنما حرفوا ما كان تحريفه مهما عندهم، فهم على بقايا من شرائعهم، فراعاهم لذلك وجعل عقوبة كفرهم إيقاع الجزية والصّغار عليهم.
ومن المعلوم أنه لو كان ملكا محضا لا نبوة له لأخلى الأرض منهم على تكذيبهم له وعدم طاعتهم، لأن هذا من شأن الملوك لا يستبقون من خشوا عاقبته، خصوصا ولم يكن يخفى عليه أنه جنس الملتين يبقى بعده، ويتطرق منهما تشكيك أمته بالشبهات والترهات، وذلك مما يضعف الناموس الملوكي.
فلما تركهم بالجزية دل ذلك على أنه مأمور فيهم من اللَّه تعالى بما لا تصبر عليه نفوس البشر، ولا يتجه على هذه الحجة إلا أن يقال: لعله تركهم ليستنبط له من تركهم هذه الشبهة وليحب الناس العدل وأخلاق النبوة.
لكن الجواب: أنه لو كان قصده ذلك لكان ذلك يحصل له بأن يقف، عنهم في حياته فقط ولا كان يوصي بهم كما أوصى بأمته حتى قال: أنا بريء ممن وافاني يوم القيامة ولذمي عليه مظلمة، وقال: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلولا أنه مأمور فيهم من اللَّه تعالى لما أبقاهم، ولو كان ملكا محضا يحب الرئاسة وإقامة الناموس لكان استبقاهم حال حياته وسكت عن الوصية فيهم بعد موته، حتى كان المسلمون أخلوا منهم الأرض.(4/144)
الحجة الخامسة
أنه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا:
آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.
الحديث [ (1) ] ، وإنما قال ذلك لأنه علم أنهم حرفوا بعض كتبهم لا كلها، فمنع تصديقهم خشية أن يكون ما قالوه مما حرّفوه.
ومن تكذيبهم خشية أن يكون [ما قالوه] [ (2) ] مما لم يحرفوه، فالأول في غاية الحزم والثاني في غاية العدل، ولو لم يكن نبيا مأمورا فيهم بذلك كما في القرآن: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ (3) ] ، لأغري الناس بتكذيب [كل ما] [ (4) ] عندهم، وكان ذلك أتم لناموسه، وأذل لأعدائه، لأنا علمنا بالاستقراء من ملوك الدنيا أجمعين أن أحدا منهم لم يترك من آثار من قبله من الملوك ما يحذر منه على ملكه إلا عجزا.
__________
[ (1) ]
(ميزان الاعتدال) : 3/ 470، ترجمة رقم (7197) ، محمد بن إسحاق بن يسار، وقال في آخرها: فهذا إذن نبوي في جواز سماع ما تأثرونه في الجملة كما سمع منهم ما ينقلونه من الطب، ولا حجة في شيء من ذلك، إنما الحجة في الكتاب والسنة، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 124، حديث رقم (16774) : عن أبي نملة الأنصاري أخبره: أنه بينما هو جالس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّه أعلم، قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا باللَّه وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (3) ] النجم: 3- 4.
[ (4) ] زيادة يقتضيها السياق.(4/145)
الحجة السادسة
تختص [بالنصارى] [ (1) ] وتقريرها أنكم زعمتم أن المسيح هو اللَّه أو ابن اللَّه، وأنه ظهر إلى العالم لينقذ أهل الإثم من إثمهم وخطاياهم وفداهم بنفسه، ثم بعد ذلك صعد إلى أبيه فهو جالس عن يمينه، فإن كان هذا حقا فقد كان يجب عليه وينبغي له أن يقول لأبيه حين ظهر محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بدعوته: أهلك هذا ولا تدعه يفتن الناس ويضلهم، حتى إذا احتاج أن أنزل إليهم واستنقذهم من فتنته، وأقتل وأصلب مرة ثانية، لأن عندكم أن المسيح كامل العلم والقدرة ولا يخفي عنه شيء في ملكه أو ملك أبيه. فبالضرورة أنه علم بظهور محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فسكوته عن الإنكار والتغيير بحضرة أبيه توجب إما التقصير والرضى بالضلال، والراضي بالضلال ضال، أو أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم على طريق الرّشد والكمال، وقد خيرناكم بين الأمرين، ولا واسطة بين القسمين، فاختاروا لآلهتكم ما شئتم.
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.(4/146)
الحجة السابعة
جرت عادة اللَّه تعالى في خلقه أن يتداركهم على كل فترة برسول يرشدهم إلى الهدى، ويصدهم عن الردى، ولا خلاف أن العرب في جاهليتها عند أوان ظهور محمد صلّى اللَّه عليه وسلم كانت أحوج الخلق إلى ذلك، لما كانت عليه من الظلم والبغي والغارات والبغي بغير حق، وسبي الحريم وظلم الغريم، فالعناية الإلهية يستحيل منها عادة إهمالهم على ذلك من غير معلم يرشدهم ويسددهم، وما رأينا [أحدا] ظهر بناموس قمع تلك الجاهلية وما كانت عليه من المنكرات إلا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فدل على أنه النبي المبعوث فيها، وإذا ثبتت نبوته بهذا الطريق إلى العرب فالنبي لا يكذب،
وقد صح عنه بالتواتر أنه قال: بعثت إلى الناس كافة، وبعثت إلى الأحمر والأسود [ (1) ] ،
وبهذا يظهر تغفيل من سلّم من اليهود أنه أرسل إلى العرب خاصة، لا إلى غيرهم.
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذا الحديث وشرحه.(4/147)
الحجة الثامنة
لا خلاف عند كل عاقل أن محمّدا صلّى اللَّه عليه وسلم كان من أعلى الناس همة، وأوفرهم حكمة، ولولا ذلك ما انتظم له أمر هذا الناموس [هكذا] [ (1) ] بعد مدة طويلة، مع أنه عند الخصم دعي لا حجة معه، ولا خلاف أن من كان بهذه المثابة من علو الهمة ووفور الحكمة، وهمته تعلو إلى تقدير منصب دائم ورئاسة باقية، فإنه يحتاط بنتاج فكره حتى لا يتوجه عليه ما يفسد حاله ويبخس مآله.
ومن المعلوم عند كل حكيم فطن لبيب أن الكذب ينكشف ويستحيل رونقه، ويعود تدبيره تدميرا، خصوصا والمسيح إله النصارى- بزعمهم- يقول: ما من مكتوم إلا سيعلن، ولا خفي إلا سيظهر. فلو لم يكن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم على يقين من صدق نفسه لما أقدم على دعواه خشية أن ينكشف أمره في تضاعيف الأزمان، فيعود عليه سوء الذكر مدى الدهر.
وكلامنا في عالي الهمة وافر الحكمة يخشى معرة المآل كما يخشى معرة الحال، ولا يرد علينا من يؤسس رئاسة في حياته بما أمكنه من كذبه وترهاته، ثم لا يبالي ما كان بعد مماته، فإنه ذلك في غاية الخساسة، ويحصل مقصوده برئاسة الملك دون دعوى هذه الرئاسة.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/148)
الحجة التاسعة
لو لم يكن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم صادقا لكان المسيح كاذبا، لكن المسيح ليس بكاذب، فمحمد صادق، [و] [ (1) ] بيان الملازمة أن المسيح عليه السلام قال في الإنجيل: ما من خفي إلا سيظهر، ولا مكتوما إلا سيعلن.
وهذه نكتة في سياق النفي فتقتضي العموم، وإن كل خفي لا بد أن سيظهر بعد صدق محمد صلّى اللَّه عليه وسلم في دعواه، إما إن كان ظاهرا أو خفيا، فإن كان ظاهرا كان يجب أن لا يتابعه أحد، وإن تابعه لرهبة أو رغبة فبالظاهر دون الباطن، حتى إذا زالت رغبته أو رهبته بزوال رجع عنه، لأن عاقلا لا يختار الباطل على الحق، ولا الكذب على الصدق، فكيف بهذا الجمع الكثير والجم الغفير في أقطار الأرض يختارون ذلك؟ هذا محال.
وإن كان خفيا وجب أن يظهر، لا سيما مع دهاء العرب وذكائهم وفطنتهم وصحة طبعهم وفصاحتهم، فقد كان فيهم الكهنة والمنجمون، والزيارج [ (2) ] والمتطيرون، وأكثرهم يصيبون ولا يخطئون، وأذكياؤهم كثير لا يحصرهم عدد، وقد كانوا يستخرجون بأذهانهم ما يشبه السحر كما هو معروف في أخبارهم، وكفاهم أن ابن المقفع فيلسوف الفرس شهد لهم بالفضيلة على الفرس والروم وسائر الأمم، فمن المحال عادة أن يخفى عليهم أمر محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لو كان باطلا.
فدل على أنهم ما هرعوا إليه مع كونه أول الإسلام كان في نفر قليل مستضعف إلا وقد علموا صدقه، فصح قولنا: لو لم يكن محمد صادقا لكان المسيح كاذبا، فبالاتفاق منا ومنكم، ولو تورعنا في صدقه لما وافقنا، لأنّا نحن أحق به منكم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) «الزجازج» ولعل الصواب ما أثبتناه، والزيارج: ضرب من السحر.(4/149)
الحجة العاشرة
من نظر في دين الإسلام فإنه يجده معظما لعيسى وموسى وغيرهما من الرسل، بحيث أن من سب أحدا منهم أو [انتقصه] [ (1) ] قتل، ونرى اليهود [ينتقصون] [ (1) ] من المسيح، وهم [والنصارى] ينتقصون محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
[واعلم] [ (1) ] أن المسلمين أهل حق لا يشوبه تحامل، وأن اليهود والنصارى أهل عناد وتجاهل، فإن قالت اليهود: إنما غضضنا [ (2) ] من المسيح ومحمد لأنهما كاذبان، قلنا: فالذي يثبت به صدق موسى عليه السلام قد أتى المسيح بما هو أعظم منه، فمقتضى التصديق مشترك، فإما أن تصدقوا الاثنين أو تكذبوهما، أما الفرق فهوى وتحامل.
وإن قالت [النصارى] [ (1) ] إنما انتقصنا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم لأنه ليس بصادق، قلنا:
يلزمكم مقالة اليهود في أنهم إنما انتقصوا المسيح لأنه ليس بصادق، فإن قالوا: اليهود كفار عاندوا، قلنا: كذلك أنتم بالنسبة إلى [من] [ (1) ] ينتقص محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
فإن قيل: اليهود عاندوا بعد قيام الحجة بإظهار المعجز، ونحن لم يأتنا محمد بمعجز، قلنا: قد جاءكم بمعجزات سبق تقريرها، ولكن عاندتم أو جهلتم، ولهذا سمي اللَّه تعالى اليهود الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [ (3) ] والنصارى الضالين [ (3) ] ، لأن تكذيب اليهود عناد، وتكذيب النصارى يغلب عليه الجهل، ولو أعطيتم النظر حقه لوفقتم ورشدتم، فثبت بثبوت هذه الأدلة أن محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم المكيّ الهاشمي صلّى اللَّه عليه وسلم [رسول] [ (1) ] حق ونبي صدق.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] غضضنا: أنقصنا.
[ (3) ] آخر سورة الفاتحة.(4/150)
وأما تقرير نسخ الملة المحمدية لسائر الملل
فإنا نقول: أكبر خصومنا في ذلك اليهود، فلنجعل كلامنا معهم فنقول: إن من أعظم تلاعب الشيطان باليهود إصرارهم على الكفر بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وحجرهم على اللَّه تعالى في نسخ الشرائع، فحجروا عليه سبحانه أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية تراسا لهم في جحد نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم وقرروا ذلك أن النسخ يستلزم البداء [ (1) ] ، وذلك يقتضي الجهل بعواقب الأمور، وهو على اللَّه تعالى محال، وردّ بمنع لزوم البداء من النسخ، وإنما هو بحسب اختلاف مصالح الخلق متعلقا ذلك كله بالعلم الأزلي- كما يأتي تقريره-.
__________
[ (1) ] «البداء» في اللغة: مصدر الفعل الثلاثي الماضي «بدا» بمعنى ظهر، يقال: بدا الشيء يبدو، إذا ظهر، فهو باد. أورده ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) : 212. ونقله الأزهري في (تهذيب اللغة) :
4/ 202 عن الليث. وحكاه الزبيدي في (تاج العروس) ، وقد نصّ الفيومي على نفس المعنى في (المصباح المنير) : 1/ 55 إلا أنه قال: ويتعدى بالهمزة، فيقال: أبديته، وبدا الشيء يبدو بدوا وبدوّا [بضم الباء والدال وتشديد الواو] وبداء وبدا- الأخيرة عن سيبويه- ظهر، وأبديته أنا، أظهرته.
وتدور بقية معاجم اللغة حول نفس المعنى الّذي أثبته هؤلاء بأن كلمة «بداء» تعني الظهور، ودلّلوا على ذلك باشتقاقات لغوية، تشير إلى المعنى المذكور.
وإذا أرادت العرب أن ترفع من قيمة الرجل، فهي تصفه بأنه ذو «بدوات» أي ذو آراء تظهر له، فيختار بعضها ويسقط بعضا، ويبدو أن الدلالة تشير إلى تطور فكر المرء في مواقفه إزاء موارد الحياة العامة التي تخضع دائما للتغيير والتباين. يقول أبو دريد: قولهم أبو البدوات، معناه: أبو الآراء التي تظهر له، واحدها: بدأة. وفي القرآن الكريم ورد المعنى إحدى وثلاثين مرة، موزعا على ستة عشرة سورة، يفيد معنى الظهور حسب مدلولات الآيات.
أما «البداء» في الاصطلاح: فقد انسحب على الأمور الممكنة التي تقع في عالم «التكوّن» والتي تمتاز بظاهرة «التغيّر» بحيث تبدو هذه الأمور ثابتة أولا، كأنها تسير وفق سنّة واحدة، ولكن سرعان ما يظهر فيها «التبدّل» ، ولهذا اتخذت الحال التي تجري بمقتضاها هذه الحوادث صفة «البداء» ، بحيث يظهر منها خلاف ما كانت عليه أولا.
ومن هنا ظهرت مشكلة في غاية التعقيد في تطور الجانب الاصطلاحي للكلمة، فمن المتعارف عليه أن الحياة تسير وفق عناية إلهية تامة، وإن اللَّه لا يجوز عليه التّغيّر أو التبدّل، وهو أمر ثابت لكل من تكلم على الظاهرة نفسها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد يلمس أن هناك تغييرا ملموسا يحدث في دائرة معينة، فهناك تغيّر واضح تسلك بمقتضاه بعض حوادث عالم التكون، ولهذا يتطلب الأمر حلا للمشكلة القائمة بين عدم تغيّر الموقف الإلهي من جانب، وطبيعة التغير الملموس في حوادث عالم التكوين المشمول بالإرادة الإلهية من جانب آخر.(4/151)
ولنا في جواز النسخ أنه إما بيان أنها مدة الحكم أو رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي، وكلاهما لا يلزم منه محال فوجب القول بجوازه، ولأن الشرع للأديان كالطبيب للأبدان، فجاز أن ينهي اليوم عن ما أمر به أمس، كما يصف الطبيب اليوم للمريض ما نهاه عنه أمس، وذلك بحسب المصالح أو إرادة المكلّف- وهو الشارع- ولأنه قد وقع في التوراة في عدة صور، فالقول بجوازه لازم.
هذا، وقد أكذبهم اللَّه تعالى في نص التوراة، كما أكذبهم القرآن بقوله: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (1) ] .
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم في إبطال النسخ، فإنه سبحانه أخبر أن الطعام كله كان حلالا قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه، ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الّذي كان حلالا لهم إنما هو بإحلال اللَّه لهم على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، وهي التي كانت حلالا لبني إسرائيل، وهذا محض النسخ.
__________
[ () ] وقد تبلور عن هذا الموقف اتجاهات ثلاثة حددت من خلالها طبيعة اللفظة في جانبها الاصطلاحي:
الاتجاه الأول: هذا الاتجاه الّذي يجعل التغيّر في المعلوم دون العلم، فالعلم الإلهي ثابت أزلا وأبدا، وأما التغيّر الملموس فهو في طبيعة المعلوم، وإن هذا التغيّر معلوم به أزلها.
الاتجاه الثاني: هذا الاتجاه يرى حدوث التغيّر في ذات العلم لا في ذات المعلوم، أي على عكس الاتجاه الأول، إلا أن هذا الاتجاه يستخدم ظاهرة التأويل في العلم نفسه.
الاتجاه الثالث: وهذا الاتجاه يذهب إلى أن البداء هو تغيير في العلم دون تأويل لطبيعة العلم، ولكن من هو الّذي يتغيّر علمه؟ وهل التغيّر هنا بالنسبة للخالق أو للمخلوقين؟ يرى هذا الاتجاه أن العلم المتغيّر ليس علم الخالق، بل هو ما دونه.
ولمن أراد الاستزادة في هذا الموضوع بشكل تفصيليّ موسّع فليرجع إلى: (نظرية البداء عند صدر الدين الشيرازي) (979- 1050 هـ) وأما النسخ فسيأتي الكلام عنه إن شاء اللَّه تعالى في فصل (الناسخ والمنسوخ) .
[ (1) ] آل عمران: 93- 95.(4/152)
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ متعلق بقوله: كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، أي كان حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك، ثم قال تعالى:
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهو لحوم الإبل وألبانها خاصة، وإذا كان إنما حرم هذا وحده وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا من المحلل ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على اللَّه تعالى نسخها، ثم يقال لهم: أتعرفون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟
وهم لا ينكرون أن قبل التوراة شريعة، فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة؟ فقد جاهروا بالكذب.
وإن قالوا: رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ، ويقال لهم: أليس اللَّه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نهاه عنه؟ وهذا نسخ، أليس أن الأرض لما قسمت بين الأسباط كان غربيّ الشريعة لتسعة أسباط ونصف سبط، وشرقيّه لسبطين ونصف سبط؟ فذلك من قبل الجميع وقسم الجميع، وهذا نسخ، أو ما تزوج إبراهيم بأخته لأبيه فمنع التوراة منه، وتزوج عمران بعمته، وجمع يعقوب بين الأختين وقد منع التوراة منه، وهذا نسخ.
ويقال لهم أيضا: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: أليس في التوراة أن من مسّ عظم ميت أو وطئ قبرا أو حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها؟ ولا يمكنهم إنكار ذلك! فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟.
فإن قالوا: لا نقدر عليه، قيل لهم: فلم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة، والّذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة- وهي رماد البقرة-، وعدمنا الإمام المستغفر، قيل لهم: فهل أغناكم عدمه عن فعله أو لم يغنكم؟.(4/153)
فإن قالوا أغنانا عدمه عن فعله قيل لهم: قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر، وكذلك يتبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر بنسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء قد يكون مصلحة في وقت دون وقت، وفي شريعة دون أخرى، كما كان تزوج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة في سائر الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت، كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله، ومفسدة في شريعة آدم عليه السلام، وأمثال ذلك ذلك كثيرة.
وبالجملة فالتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئة اللَّه الّذي لا يسأل عما يفعل، فإن قالوا: لا نستغني في الطهارة عن الطهور الّذي كان عليه أسلافنا، فقد أقروا بأنهم الأنجاس أبدا، ولا سبيل لهم إلى حصول الطهارة، فإن أقروا بذلك قيل لهم:
فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه عن الحدّ بحيث أن أحدكم إذا لمس ثوبه ثوب المرأة تجنبتموه مع ثوبه؟.
فإن قالوا: كل ذلك من أحكام التوراة، قيل لهم: أليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة؟ فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض، ثم إنكم ترون أن الحائض طاهرا إذا كانت من غير ملّتكم ولا تنجسون من لمسها ولا الثوب الّذي لمسته، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة منه شيء، وهذا الفصل ممّا يحتاج إليه.
فافرض أن يهوديا رام مناظرتك أو رمت مناظرته فإنك لم تعلم حقيقة ما هو عليه وما تبطل به قوله من كتابه، وإلا تسلط عليك وتوجهت الملامة من اللَّه ورسوله إليك، فإن قال بعض اليهود: التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من قبل ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الّذي ننكره ونمنع منه هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمة كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها، فإذا جاء من إباحة علمنا بإباحته المفسدة أنه غير نبي، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه وشريعتكم وردت بإباحة أشياء كثيرة مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرمه اللَّه لما فيه من المفسدة قيل له:(4/154)
لا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيّر الإباحة بالتحريم أو التحريم بالإباحة، والشبهة التي عرضت في أحد الموضعين، هي بعينها في الموضع الآخر، فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته، إذ لو كانت هناك مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته، فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجبت قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في الشريعة الأولى هي المصلحة، فإن تضمن إباحة المحرم في الشريعة الآخرة إباحة المفسدة- وحاش للَّه- تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح، وكلاهما باطل قطعا.
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم تقدمه يستبيحه، فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا، وهذه الشبهة هي التي ردت بها اليهود نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، هي بعينها التي رد بها أسلافهم نبوة المسيح عليه السلام، لا تقر بنبوة من غير التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى عليه السلام بالنّبوّة، وقد جاء بتغيير بعض الشرائع [التي] تقدمته، فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد صلوات اللَّه عليهما قدح في موسى، فلا [تكون] في نبوتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد ليس برسول.
ويقال لليهود أيضا: لا تحلوا المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث لم يعهد في زمان من الأزمنة إباحته، وإما أن يكون تحريمه لما يتضمنه من المفسدة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال، وإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء صلّى اللَّه عليه وسلم.
وإن كان الثاني، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصلحة، وإنما يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما من ملة دون ملة، ووقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل عليهم السلام، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.(4/155)
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان حراما على نوح وإبراهيم وسائر النبيين، وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها، لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة، وإذا كان اللَّه تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ويبتلى عباده بما شاء، ويحكم ولا يحكم عليه، فما الّذي يحمل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهي أمة أخرى عنه، أو يحرم على أمة شيئا ويبيحه لأمة أخرى، بل أي شيء يمنعه تعالى؟.
ذلك بقوله: ما ننسخ من آية أو [ننساها] [ (1) ] نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (2) ] ، فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء، كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت، فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم أن يعارض الرسول الّذي جاء بالبينات والهدى، ويدفع نبوته ويجحد رسالته بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو بتحريم بعض ما كان مباحا لهم، ومن العجب أن اليهود تحجر على اللَّه تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وفي توراتهم أن اللَّه- تعالى عن قولهم- يأسف على خلقه الإنسان لأفكارهم الخبيثة، فخلقه أن يبيدهم فأبادهم.
ثم لما أرسل الطوفان أسف وندم وقال: ما عدت أهلك الخلق به مرة أخرى، فمن يندم ويتأسف كيف يمتنع عليه البداء على قولهم؟ وهم قد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم، فمن ذلك: أنهم يقولون في صلواتهم ما هذه ترجمته: اللَّهمّ اضرب ببوق عظيم لعتقنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات قومة إسرائيل.
ويقولون كل يوم ما ترجمته: أردد حكامنا كالأولين، وسيرتنا كالابتداء، وابن أورشليم قرية قدسك وعزنا ببناها، سبحانك يا باني يورشليم. فهذه أقوالهم في صلواتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك، ولكنها فصول لفقت بعد زوال دولتهم.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وهي رواية ورش عن نافع.
[ (2) ] البقرة: 106.(4/156)
وكذلك صيامهم: كصوم احتراق بيت المقدس، وصوم كدليا وصوم صلب هامان، ليس شيء منها في التوراة، ولا صامها موسى ولا يوشع، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت عندهم وضعها- كما بينته في موضعه من كتاب (المواعظ والاعتبار) [ (1) ] .
وهذا مع أنه في التوراة ما ترجمته: لا [تزيدوا] على الأمر الّذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا. وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، وهم مجمعون على تعطيلها وإلغائها، فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة، أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد علمائهم وأحبارهم، وعلى التّقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكثر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها، إنما يستندون فيها إلى قول علمائهم وآرائهم، وقد اتفقوا على تعطيل رجم الزاني- وهو نص التوراة- ومن مذهبهم: أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه!!.
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، فأشبهوا إبليس في أنه تكبر في أن يسجد لآدم، ورأى ذلك نقيصة له، ثم رضى أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق من أولاد آدم.
وأشبهوا أيضا [عبّاد] الأصنام في أنهم أنفوا أن يكون النبي المرسل من اللَّه تعالى إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا نحتوه بأيديهم، وأشبهوا أيضا النصارى فإنّهم نزهوا [بطارقتهم] عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى اللَّه رب العالمين سبحانه وتعالى.
ولم يبق لليهود إلا أن يقولوا: إن موسى عليه السلام نص على دوام شريعته وتأبدها ما دامت السموات والأرض، وهو يقتضي أن لا ناسخ لها، فأحد الأمرين لازم: إما كذب خبر موسى، أو بطلان شرع من بعده.
__________
[ (1) ] كتاب (المواعظ والاعتبار) أحد مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.(4/157)
وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن هذا من موضوعات ابن الراونديّ وضعه لليهود فتمسكوا به، وهذا جواب ضعيف، لأن النص [عنده] موجود في التوراة، ولا حاجة لهم إلى وضع ابن الراونديّ.
الثاني: القدح في تواتر هذا الخبر بأن بخت نصّر لما فتح بيت المقدس حرق التوراة وقتل اليهود حتى أفناهم إلا يسيرا منهم لا تحصل التوراة بخبره، فصار هذا الخبر آحادا لا يقبل في العمليات.
وهذا الجواب قريب غير أنه ليس بشاف لأنهم يدّعون أن تواتره تواتر التوراة جميعا ويمنعون ما ذكر من سبب انقطاع التواتر بأن بخت نصّر أسر نحو عشرة آلاف من بني إسرائيل منهم أربعة آلاف من أولاد الأنبياء مثل دانيال ونحوه، وكلهم يحفظ التوراة عن ظهر قلب، وهم منازعون في تصحيح هذه الدعوى، ولا معول لهم في تصحيحها إلا على أنقال [ (1) ] موجودة في كتب لا يقدرون من تصحيحها إلا على مجرد الدعوى.
وهب أن ما ادعوه كما قالوا، فقد وقع بهم بعد ذلك عدة ملوك منهم ملك مصر، واستبعدهم سبع سنين ونصب الأوثان والأصنام في محاريبهم ببيت المقدس، فأمر غابيوس قيصر ملك الروم أن تنصب أصنامه هو في محاريب اليهود ومعابدهم، فنصبت، وأحاطت باليهود بلايا كثيرة ووقع فيهم الاختلاف حتى كان بعضهم يقتل بعضا في الأسواق.
وفرّ ملكهم أعربماس بن أسربلوس من هردوس من القدس إلى رومية، وأخبر قيصر بما هم عليه من الشر، فبعث عسكرا كثيفا قتل منهم وأسر ملا يحصى كثرة، ونقل أكثرهم إلى أنطاكية ورومية وخربت القدس، ثم بعث قيصر قائدا على جيش كبير لتخريب القدس وقتل جميع اليهود وقد عمروا القدس فحصرهم سنة وخرّب معاملات اليهود وقتلهم ثم سار عنهم، وقدم طيطش فحصر القدس سنتين حتى مات أكثر أهلها جوعا، ووقع بينهم مع ذلك الاختلاف فاقتتلوا وهم محصورون حتى فنى أكثرهم، ثم أخذهم طيطش عنوة وقتل من اليهود ما يجل عن الوصف، حتى
__________
[ (1) ] أنقال ونقول: جمع نقل.(4/158)
أن عدد من مات منهم في الحصار ألف ألف ومائة ألف.
وخرّب المدينة والهيكل وأحرق الجميع بالنار، وسار معه منهم نحو مائة ألف نفس، فأفنى الجميع بأنواع القتل، ولم يبق أحد منهم في بيت المقدس، واشتد الأمر على من بقي منهم برومية ونحوها، حتى لم يكن أحد منهم يظهر إلا قتل، وتراجع منهم أناس إلى بيت المقدس فبعث إليهم ملك الروم جيشا قتل معظمهم، ولم يبق منهم إلا من فرّ.
ثم في سنة سبع وأربعين وأربع مائة للإسكندر أخرب ملك الروم ما بقي بالقدس من العمارة، وقتل عامة من به من يهود، و [بنى] عمودا على باب مدينة القدس ونقش عليه: هذه مدينة إلياء، ويعرف اليوم موضع هذا العمود بمحراب داود.
ثم عمّر القدس فقدم إليها عدة من اليهود فبعث إليهم ملك الروم عسكرا حصرهم حتى مات أكثرهم جوعا، ثم أخذ المدينة وقتل معظم اليهود، وخرّبها حتى بقيت صحراء.
وتبع اليهود فاستأصل شأفتهم وأنزل اليونان بالقدس وذلك بعد تخريب طيطش بثلاث وخمسين سنة. ثم جمع اليهود رجل منهم فبعث ملك الروم جيشا فقتلوا أكثرهم.
وفي سنة خمس وعشرون وخمسمائة للإسكندر وقعت حروب بين اليهود والسّامرة قتل فيها من الفريقيين ما يجل عن الوصف، وفي قسطنطين الأكبر أمر أن لا يسكن يهودي الفرس وأدخل الجميع في دين النصرانية، ثم امتحنهم يوم [الفصح] بأكل الخنزير فلم يأكلوه فقتلهم عن آخرهم.
وما برحت ملوك النصارى بقتلهم أبرح قتل إلى أن كانت أيام هرقل وقد ظهر دين الإسلام فأوقع باليهود في سائر مملكته ببلاد الشام وأرض مصر وإفريقية وقسطنطينية وأعمالها، وقتل جميعهم حتى لم يبق منهم إلا من اختفى أو فرّ.
وقد أفردت في محن اليهود وما أنزل اللَّه بهم من البلاء الّذي تأذّن في كتابه العزيز أن يكون عليهم إلى يوم القيامة جزاء جمعته من كتبهم وكتب النصارى، ليكون أعظم حجة عليهم، فليت شعري، أي تواتر يبقى مع هذه الرزايا المجيحة، والدواهي المبيرة، والمحن التي لا تبقي ولا تذر، إلا أن القوم بهت، وأكثر أصحابنا من الفقهاء(4/159)
والمحدثين، والنظار والمتكلمين، لا يلمون بأخبار اليهود، فينصبون الكلام معهم جدلا، وإلا فاليهود إذا نوظروا بما في كتبهم من محنهم تبين لمناظرهم أنه ليس معهم خبر يصح، فكيف يدعى فيه التواتر؟ ومع ذلك ففي توراتهم نصوص كثيرة وردت مؤبدة، ثم تبين أن المراد بها التوقيت بمدة مقدرة، كقوله: إذا خربت صور لا تعمر أبدا، ثم عمرت بعد خمسين عاما.
ومنها إذا خدم العبد سبع سنين أعتق، فإن لم يقبل العتق استخدم أبدا، ثم أمر بعتقه بعد مدة معينة سبعين سنة، فإذا جاز في هذه النصوص المؤبدة أن يراد بها التوقيت فلم لا يجوز في نص موسى على تأييد شريعته بتقدير صحته؟ وإلا فما الفرق؟.
فإن قيل: إذا جاز أن يكون نصّ موسى المؤبد مؤقتا حتى جاز نسخ شرعته، جاز أن يكون نص محمد صلّى اللَّه عليه وسلم على تأبيد شريعته مؤقتا فيجوز نسخها بعده بغيره، وأنتم أيها المسلمون تأبون ذلك؟.
قلنا: لا يلزم ذلك، والفرق بين النّصّين أن كتاب موسى الّذي بيدكم الآن قد بينا أنه غير متواتر، بخلاف كتاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم الّذي هو القرآن، فتواتره عندنا وعندكم غير خاف على علمائكم.
ونشترك معكم فنقول: قد ورد في توراتكم نصوص بلفظ التأبيد والمراد بها التوقيت كما بينا طرفا منها، بخلاف القرآن فإنه لم يرد بذلك، فلم يرد مثله في نصه- بحمد اللَّه- وها هو قد طبق الأرض، واجتهدتهم أنتم وغيركم في نقضه، فلم تطيقوا ذلك، فإن اللَّه قد حفظه من التحريف والتبديل والتغيير فيه بزيادة أو نقصان، بخلاف توراتكم، وها أنا أبين حقيقة توراتكم وأنها ليست بالتوراة التي أنزلها اللَّه على موسى عليه السلام واللَّه المعين الموفق.(4/160)
وأمّا أنّ التّوراة التي هي الآن بأيدي اليهود ليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى عليه السلام
فاعلم أن توراة اليهود: بيد اليهود نسخة، وبيد السامرية نسخة، وبيد النصارى نسخة، والنّسخ الثلاث مختلفة في كثير من الأمور غير متوافقة، وكل فرقة تحيل التحريف على غيرها، فالتغيير لازم، ويظهر عند التأمل أن التوراة التي بأيديهم الآن في مشارق الأرض ومغاربها قد زيد فيها وغيرت ألفاظ منها وبدلت، وليست هي التوراة التي أنزلت على موسى، لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بني إسرائيل خوفا من اختلافهم من بعده في تأويلها المؤدي إلى تفرقهم أحزابا وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي.
والدليل على ذلك قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [ (1) ] ، قيل:
حرفوه بالتبديل، وقيل: بالتأويل، والحق: أنهم حرفوه بالأمرين، ولعل اختلاف العبارتين في قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ومِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [ (2) ] إشارة إلى ذلك، ويشبه أن تحريفه من بعد مواضعه بالتبديل، وعن مواضعه بالتأويل، لأن التبديل أخص التحريفين، ومن بعد مواضعه أخص العبارتين، فيجعل الأخص للأخص عملا بموجب المناسبة.
وقد قال في التوراة: وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى الأئمة من بني لاوي وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين والبيت المقدس كانت موقوفة عليهم، ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة إلا نصف سورة، وهي التي قال فيها: وكتب موسى هذه السورة وعلمها بني إسرائيل- هذا نص التوراة عندهم.
قال: وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل، وفيها: قال اللَّه:
لأن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، وهذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، ويخرب ديارهم، ويشتتون في البلاد.
__________
[ (1) ] المائدة: 13.
[ (2) ] المائدة: 41.(4/161)
فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم كالشاهد عليهم، الموقف لهم على صحة ما قيل لهم، فلما نصت التوراة على أن هذه السورة لا تنسي من أفواه أولادهم دلّ على أن غيرها من السور ليس [كذلك] . وأنه يجوز أن ينسي من أفواههم.
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة، وأما التوراة نفسها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم.
وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها قتلهم بخت نصّر يوم فتح بيت المقدس، وحرق التوراة والمزامير كما حرقها نردوش اليوناني لما استولى على القدس.
ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنّة بل كان كل أحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة، فلما رأى عزرا أن القوم قد احترق هيكلهم، وزالت دولتهم، ورفع كتابهم، جمع من مخطوطاته ومن الفصول التي تحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم، وذلك بعد حين من السنين، ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة، وزعموا أن النور الآن يظهر على قبره- وهو على بطائح العراق- لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم، وغلا بعضهم فيه حتى قالوا: هو ابن اللَّه، ولذلك نسب اللَّه تعالى ذلك إلى اليهود بقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [ (1) ] نسبة إلى جنسهم لا إلى كل فرد منهم.
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عزير، وفيها من التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى، وأول دليل على أنها ليست التوراة التي أنزلها اللَّه أنه قال في آخرها:
وتوفي هناك موسى عبد اللَّه في أرض موآب بقول الرب، ودفنه في الوادي في عربات موآب [ (2) ] ، ولم يعرف إنسان موضع قبره إلى اليوم، وكان قد أتى على موسى يوم
__________
[ (1) ] التوبة: 30.
[ (2) ] موآب أرض للموآبيين، ويقابلها اليوم القسم الشرقي من البحر الميت لمملكة الأردن اليوم، وكان طولها 50 ميلا وعرضها 20 ميلا، وتنقسم إلى قسمين: 1- أرض موآب، وهي ما وقع شرقي البحر الميت وتسمى أيضا بلاد موآب، 2- عربات موآب، وهي ما كان في وادي الأردن مقابل أريحا.
(قاموس الكتاب المقدس) : 827- 828.(4/162)
توفى مائة وعشرون سنة، ولم يضعف بصره، ولم يتسخ وجهه، [وبكى] على موسى بنو إسرائيل ثلاثين يوما في عربة موآب [ (1) ] .
فلما تمت أيام حزنهم على موسى امتلأ يوشع بن نون من روح الحكمة، لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه في حياته، وكان بنو إسرائيل يطيعونه ويعملون بأمره، كما أمر الرب موسى.
ولم يقم أيضا نبي في بني إسرائيل مثل موسى الّذي عرفه الرب وجها قبل وجهه، وعمل جميع الآيات التي أمره اللَّه أن يعملها بأرض مصر لفرعون، وجميع عبيده وكل أرضه، وأكمل كل البيداء العزيزة مع المنظر العظيم الّذي عاين بنو إسرائيل من فعال موسى.
هذا نص التوراة! فتأملوا يا عقلاء بني آدم هذا الفصل، هل يجوز أن يكون منزلا من عند اللَّه على موسى؟ أو هو أخبار مخبر منهم عما جرى بعد وفاة موسى، تجدوه حكايتهم لما جرى، وقد أوردت هذا على حبر من أحبار يهود فانقطع ولم يجر جوابا.
ثم إن هذه التوراة تداولتها أمة قد مزّقها اللَّه كل ممزّق، وشتت شملها، وقطّعها في الأرض أمما- أي فرقا متباينين في الأقطار جميعا- فقلّ أرض لا يكون فيها منهم شرذمة، وتأذّن ربك أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وهذا حالهم، وهم في كل مكان تحت الصّغار والذّل، سواء كان أهل الأرض مسلمين أو نصارى.
__________
[ (1) ] انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.(4/163)
فلحقها ثلاثة أمور [ (1) ] :
أحدها: الزيادة والنقصان، والثاني: اختلاف الترجمة، والثالث: اختلاف التأويل والتفسير، ففيها: بالحبشة نهرا يقال له: جيحون محيط بجبالها، وليس بالحبشة نهر يقال له: جيحون أو جيحان، بل النهران أحدهما في أقصى بلاد العجم، والآخر ينزل من جبال الروم وينصب في بحر الروم، فالواقع والرواية متناقضان، والغلط في كتاب اللَّه ممتنع، فالتوراة مغيّرة.
ومنها: أن نوحا أخبر أن حاما يكون عبدا لأخويه، ثم ذكروا أن نمروذ بن كنعان من أولاد حام كان ملكا جبارا، وهو أول ملك ضرب المثل بشدته وشجاعته، وأن مصر وقبطها من أولاده وأنهم استعبدوا بني إسرائيل مائتين من السنين، وهم من بني سام، وهذا تناقض.
ومنها: أن إسحاق قال لولده عيص: قد صيرت يعقوب عليك سلطانا، وجعلت كل اخوته له عبيدا، ثم ذكر أن يعقوب لما انصرف من عند أخواله لقي عيص وسجد له سبع سجدات، وأسجد أهله له، وخاطبه يعقوب بالعبودية، وأهدى إليه، وهذا تناقض.
ومنها: أن يعقوب قال عند وفاته: لا ينقطع من يهود القضيب ولا من نسله قائد، وقد انقطع القضيب والقائد من نسله مرة ست مرات وسنتين، ومرة سبعا وسبعين سنة، وهذه المرة الثالثة، وما اجتمع بعدها شملهم، ولا يجتمع لقوله تعالى:
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [ (2) ] ، والمراد القدرة والسلطة.
وعن لوط أنه خرج من المدينة وسكن كهف الجبل ومعه ابنتاه، فقالت الصغرى للكبرى: قد شاخ أبونا فارقدي بنا معه لنأخذ منه نسلا، فرقدت معه الكبرى ثم الصغرى- وهو سكران- ثم فعلتا ذلك في الليلة الثانية وحملتا منه
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ] المائدة: 64.(4/164)
بولدين! فهل يستجير أحد من الناس [أن يصدق] أن يوقع نبيا كريما في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره ثم يذيعها عنه، ويجعل ذلك وحيا يتلى في المحاريب آلافا من السنين في أقطار الأرض؟ فهذا ما لا يجوّزه أحد له عقل.(4/165)
ومنها أن اللَّه تجلى لموسى في سيناء
وقال له بعض كلام كثير: أدخل يدك في [حجرتك] وأخرجها مبروصة كالثلج! وهذا من النمط الأول، واللَّه لم يتجل لموسى، وإنما أمره أن يدخل يده في جيبه، وأخبره أنها تخرج بيضاء من غير سوء، أي برص.
ومنها: أن هارون هو الّذي صاغ لهم العجل حتى عبدوه، وهذا إن لم يكن من افترائهم فهو اسم للسامري لا أخو موسى.
ومنها: أن اللَّه رأى كثرة فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم وقال كلاما في آخره: وإني نادم على خلقهم جدا! تعالى اللَّه وتنزه عن ذلك.
ومنها: أن اللَّه- سبحانه وتعالى علوا كبيرا- تصارع مع يعقوب فضرب به يعقوب الأرض، ومنها: أن يهوذا بن يعقوب زوج ابنه الأكبر من امرأة يقال لها: يا مارا، فكان يأتيها مستدبرا فغضب اللَّه من فعله فأماته، فزوج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض، علما بأن [ولدها] كان أول أولاده مدعوا باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه، فكره اللَّه ذلك من فعله فأماته، فأمر بها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر شيلا ولده ويتم عقله، ثم ماتت زوجة يهوذا وذهب إلى منزل له ليجز غنمه.
فلما أخبرت يامارا ولبست زي الزواني وجلست له على طريقه، فلما مر بها خالها زانية فراودها عن نفسها فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدي ورمى عندها عصاه وخاتمه، فدخل بها فعلقت منه، ومن ولده هذا داود النبي! فانظر كيف اشتمل هذا الافتراء القبيح على طامتين عظيمتين، إحداهما: أم يهوذا هذا أحد الأسباط الاثني عشر، وقد أثنى اللَّه تعالى عليهم، وذكرهم مع كرام الرسل، فقال اللَّه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ (1) ] ، وقوله تعالى:
__________
[ (1) ] البقرة: 136.(4/166)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [ (1) ] ، فكيف يجوز أن يخبر اللَّه تعالى عن من أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليه وأخبر أنه أوحى إليه بأنه زنى ثم يفضحه أشد الفضيحة بأن يجعل الخبر عنه بزنائه وحيا يتلى آلافا من السنين؟ هذا ما لا يشك من له [أدنى] تأمل بأنه إفك مفترى.
والثاني: أنهم جعلوا داود عليه السلام ابن زنا، كما جعلوا المسيح [ابن] مريم- رسول اللَّه وكلمته- ابن زنا! ثم كفاهم ذلك حتى نسبوه إلى التوراة، وليس هذا ببدع من شأنهم فقد نسبوا إلى اللَّه العلي الكبير عظائم منها: أنه استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض! فأنزل اللَّه تكذيبهم على لسان رسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلم في قوله [تعالى] : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ (2) ] .
فقد تبين أن التوراة وقع فيها التحريف والتبديل، والزيادة والنقص في عدة مواضع.
__________
[ (1) ] النساء: 163.
[ (2) ] ق: 38.(4/167)
وهذه نبذة من مقتضيات غضب اللَّه تعالى عليهم
واعلم أن مقتضيات غضب اللَّه على اليهود كثيرة:
* منها أن اللَّه تعالى فلق البحر لأسلافهم، وأغرق فرعون عدوّهم، وأنجاهم، فما جفّت أقدامهم حتى قالوا لموسى عليه السلام: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [ (1) ] .
* ومنها أن موسى عليه السلام لما ذهب لميقات ربه، لم يمهلوه حتى عبدوا العجل المصنوع بحضورهم.
* ومنها أنهم مع مشاهدتهم الآيات والعجائب، كانوا يهمون برجم موسى وهارون- عليهما السلام- في كثير من الأوقات، والوحي بين أظهرهم.
* ومنها أن موسى لما ندبهم إلى الجهاد قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (2) ] .
* ومنها أنهم آذوا موسى بأنواع الأذى، حتى قالوا: أنه آدر [ (3) ] ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [ (4) ] .
* ومنها أن هارون لما مات قالوا لموسى: أنت الّذي قتلته وغيبته، فرفعت الملائكة تابوته بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا.
* ومنها أنهم آثروا العودة إلى مصر ليشبعوا من أكل اللحم والبصل، والقثاء والعدس [ (5) ] ، هكذا عندهم، والّذي حكاه عنهم- وهو أصدق القائلين- أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى.
__________
[ (1) ] الأعراف: 138.
[ (2) ] المائدة: 124.
[ (3) ] الأدرة، بالضم: نفخة في الخصية، ورجل آدر: بيّن الأدرة، ومنها الحديث: إن بني إسرائيل كانوا يقولون إن موسى آدر، من أجل أنه كان يغتسل وحده، وفيه نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب: 69] .
[ (4) ] الأحزاب: 69.
[ (5) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها [البقرة: 61] .(4/168)
* ومنها انهماكهم على الزنا وموسى بين أظهرهم، وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم، ولم يظفروا بهم كما هو معروف عندهم.
* ومنها أن يوشع تزوج زانية مشهورة بالزنا، وأن داود زنا بالمرأة، أو زنا وابنه سليمان منها وأن أمنون بن داود افتضّ أخته من أبيه فقتله شقيقها، وأنه أخذ سراري أبيه داود وفسق بهن، وأن سليمان بن داود بنى لنسائه بيوت الأوثان وأباح لهن عبادتها.
* ومنها عبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون عليه السلام.
* ومنها تحايلهم على صيد الحيتان يوم السبت، حتى مسخوا قردة خاسئين، واقتدى بهم إلى الآن خلفهم في الوفود ليلة السبت، وغير ذلك من الأعمال المحرمة عليهم في السبت.
* ومنها قتلهم كل يوم سبعين نبيا ثم يقيمون سوقهم كأنهم جزور وأغنام.
* ومنها قتلهم يحيى بن زكريا ونشرهم أباه زكريا بالمنشار.
* ومنها اتفاقهم على تغيير كثير من أحكام التوراة.
* ومنها رميهم لوطا عليه السلام بأنه زنا بابنتيه وهو سكران.
* ومنها رميهم يوسف عليه السلام بأنه حل سراويله وجلس من امرأة العزيز مجلس القابلة من المرأة، فقام وهرب، وهذا لعمري لو رآه أفسق الناس وأفجرهم لقام عن المرأة ولم يقض وطرا.
* ومنها طاعتهم للخارج على ولد سليمان بن [داود] [ (1) ] ، لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتها إلى أن جرت حروب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان، قتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة- كما ذكر في كتاب (المواعظ والاعتبار) [ (2) ] ، وفي كتاب (عقد جواهر الأسفاط) [ (2) ] .
ثم هم مع ذلك يزرون على أهل الإسلام ويقولون: أنها ترى أكثر الفواحش تقع في المسلمين، إلا ممن هو أعلم وأفقه في دينكم، كالزنا واللواط، والخيانة والحسد، والقتل والغدر، والتكبر والخيلاء، وقلة الورع، وقلة اليقين، وقلة الرحمة والمروءة والحمية، وكثرة الهلع، والتكالب على الدنيا، والكسل في الحسنات، وهذا الحال يكذب لسان المقال.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] من مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.(4/169)
فيقال لهم: ألا تستحيون من يقين المسلمين الموحدين بذنوبهم؟ أو لا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من يقين المجاهدين لأعداء اللَّه وذريتهم؟ فأين ذريته من سيوف آبائهم تقطر من دماء أنبياء اللَّه إلى ذرية من سيوفهم تقطر من دماء أعداء اللَّه الذين كفروا باللَّه وأشركوا به؟.
أولا يستحي من يقول لربه في صلاته: انتبه! كم تنام! استيقظ من رقدتك أن يعير من يقول في صلاته: أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ (1) ] فيا اللَّه، لو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال، والتراب والأنفاس، ما بلغت قتل نبي واحد، ولا بلغت قول اليهود: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [ (2) ] ، وقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا [ (3) ] ، وقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [ (4) ] ، وقولهم: إن اللَّه بكى على الطوفان حتى رقد من البكاء وعادته الملائكة!، وقولهم:
إنه تعالى عضّ على أنامله على ذلك، وقولهم: أنه ندم على خلق البشر، وشقّ عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم.
وأعظم من هذا كله نسبة هذه العظائم إلى التوراة التي أنزلها اللَّه تعالى على كليمه، وفيها هدى ونور، فو الّذي تقوم السماء بأمره، لو بلغت ذنوب المسلمين ما بلغت، ما كانت في جنب ذلك إلا كقطرة في بحر، أو ذرة في قفر. واللَّه الموفق بمنه.
__________
[ (1) ] الآيات من أول سورة الفاتحة.
[ (2) ] آل عمران: 181.
[ (3) ] المائدة: 64.
[ (4) ] التوبة: 30.(4/170)
بحث تاريخي عن الأناجيل التي بين يدي النصارى
إن النصارى كلهم: أريوسييهم، وملكانييهم، ونسطورييهم، ويعقوبييهم، ومارونييهم، ويونانييهم، لا يختلفون في أن الأناجيل أربعة، ألفها أربعة رجال في أزمان مختلفة.
فأولها: ألّفه متّى [ (1) ] اليوناني تلميذ المسيح عليه السلام، بعد ثماني سنين من رفع المسيح، وكتبه بالسريانية في بلد يهوذا بالشام، وهو نحو ثمان وعشرين ورقة بخط متوسط.
__________
[ (1) ] متّى: من الاسم العبري «مثتيا» ، الّذي معناه «عطية يهوه» وهو أحد الاثني عشر رسولا، وكاتب الإنجيل الأول المنسوب إليه.
وكان متّى في الأصل جابيا في كفر ناحوم، ودعي من موضع وظيفته، وكانت وظيفة الجباية محتقرة بين اليهود، إلا أنها أفادت متى خبرة بمعرفة الأشغال، ولم يذكر شيء من أتعابه في العهد الجديد إلا أنه كان من جملة الذين اجتمعوا في العلية بعد صعود المسيح، وزعم يوسيبيوس أنه بشر اليهود، ويرجّح أن مؤلف هذا الإنجيل هو متى نفسه، وذلك للأسباب الآتية:
1- يذكر لوقا أن متى صنع للسيد المسيح وليمة كبيرة في أول عهده بالتلمذة، أما متى فيذكرها بكل اختصار تواضعا.
2- الشواهد والبينات الواضحة من نهج الكتابة بأن المؤلف يهودي متنصّر.
3- لا يعقل أن إنجيلا (خطيرا) كهذا هو في مقدمة الأناجيل، ينسب إلى شخص مجهول، وبالأحرى أن ينسب إلى أحد تلاميذ المسيح.
4- يذكر بابياس- في القرن الثاني الميلادي- أن متى قد جمع أقوال المسيح.
5- من المسلم به أن الجابي عادة يحتفظ بالسجلات، لأن هذا من أهم واجباته لتقديم الحسابات، وكذلك فإن هذا الإنجيليّ قد احتفظ بأقوال المسيح بكل دقة.
ويرجع أن هذا الإنجيل كتب في فلسطين لأجل المؤمنين من بين اليهود الذين اعتنقوا الديانة المسيحية.
واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل الأصلية، فذهب بعضهم إلى أنه كتب أولا في العبرانية، أو الأرامية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام.
وذهب آخرون إلى أنه كتب في اليونانية كما هو الآن. أما الرأي الأول فمستند إلى شهادة الكنيسة القديمة، فإن آباء الكنيسة قالوا: أنه ترجم إلى اليونانية ويستشهدون بهذه الترجمة، فإذا سلمنا بهذا الرأى، التزمنا بأن نسلم بأن متى نفسه ترجم إنجيله، أو أمر بترجمته.
أما الرأي بأن متى نفسه ترجم إنجيله العبراني، فيفسّر سبب استشهاد الآباء بالإنجيل اليوناني نفسه، فإن متى يوافق مرقس ولوقا في العظات، ويختلف عنهما أكثر ما يكون في القصة، ثم إن الآيات المقتطفة في العظات، هي من الترجمة السبعينية، وفي بقية القصة هي ترجمات من العبرانية.
ولا بد أن هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم، وذهب بعض القدماء إلى أنه كتب في السنة الثامنة بعد الصعود، وآخرون إلى أنه كتب في الخامسة عشرة، ويظن (البعض) أن إنجيلنا الحالي(4/171)
والثاني: [ (1) ] ألفه مارقس الهاروني، ويقال له: مرقس [ (2) ] ، وهو من السبعين، وهو تلميذ شمعون بن يونا، بعد اثنتي عشرة سنة من رفع المسيح، وكتبه باليونانية في بلد إيطاليا من بلاد الروم، وهي أنطاكية، ويقال: كتبه بمدينة رومية، وزعموا أن شمعون هذا هو الّذي ألّفه، ثم محا اسمه من أوله، ونسبه إلى تلميذه مارقس، وهو نحو أربع عشرة ورقة بخط متوسط.
__________
[ () ] كتب بين سنة 60 وسنة 65 م، وأن إنجيل مرقس ولوقا كتبا في تلك المدة نفسها (قاموس الكتاب المقدس) : 832- 833.
[ (1) ] في (خ) : «الآخر» .
[ (2) ] مرقس: اسم لاتيني، معناه مطرقة، وهو ابن امرأة تقيّة من أورشليم، كانت أختا لبرنابا، وهي التي كان الرسل والمسيحيون الأولون يجتمعون مرارا في دارها للصلاة. وقيل: أنه آمن بواسطة إنذار بطرس الرسول لأنه كان يدعوه ابنا له، وكان مرافقا لبولس وبرنابا في سفرهما الأول للتبشير، حتى وصل إلى برجة، ففارقهما هناك، ورجع إلى أورشليم، ولذلك أبى بولس أن يقبله رفيقا له في سفره الثاني، فانطلق مع برنابا إلى قبرس، وكان حينئذ في أنطاكية، ويحتمل أنه كان قد أرسل إلى هناك من أورشليم من قبل الرسل، غير أنه تصالح مع بولس فيما بعد، وصار رفيقا له، وكان يمدحه بأنه كان نافعا، وأخيرا صحب تيماثاوس إلى رومية وكتب الإنجيل المدعو باسمه.
وقيل: إن بطرس أرسله إلى مصر ليبشر فيها باسم يسوع المسيح، وكانت أتعابه ناجحة في ليبية، ومرموريكا، وبنتا بوليس، ثم عاد إلى الاسكندرية وهاج عليه فيها اضطهادات شديدة من جمهور الوثنيين في موسم عيد إله لهم يسمى سيرابيس. ثم مات لشدة ما أنهكه من آلام العذابات الكثيرة، بعد أن حبس ليلة. (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) 2/ 216.
وإنجيل مرقس هو الثاني من ترتيب الأناجيل الأربعة، مع أن هذا لا يعني بالضرورة أنه كتب بعد إنجيل متى. وهو أقصر الأناجيل الأربعة، والمادة التي يقدمها مرقس في إنجيله يقدمها في تفصيل كثير.
فيتقدم قصة حياة المسيح، وأعماله ... بسرعة، وفي تصوير رائع، وفي مناظر متعاقبة، الواحد تلو الآخر، وتسير هذه المناظر في ترتيب تاريخي متسلسل، ويوجه مرقس عناية خاصة إلى ما عمله المسيح، أكثر مما يوجهه إلى تعليم المسيح.
وكان الاعتقاد السائد في أواخر القرن الأول الميلادي، أن هذا الإنجيل كتب في روما، ووجّه إلى المسيحيين الرومانيين ... وقد ذكر إيريليوس أحد آباء الكنيسة الأولين، أن مرقس كتب البشارة التي تحمل اسمه قائلا: «بعد أن نادى بطرس وبولس بالإنجيل في روما، بعد انتقالهم- أو خروجهما- سلم لنا مرقس كتابة مضمون ما نادى به بطرس» .
وإذا كان الأمر كذلك، فربما كتب هذا الإنجيل بين عام 65 وعام 68 م، ويلاحظ أن الجزء الأخير من الإنجيل- وهو ص 16: 9- 20- وجد في بعض المخطوطات القديمة، ولم يوجد في (بعضها) الآخر، مثل المخطوطة السينائية، ومخطوطة الفاتيكان، ولكن يجب أن لا يغرب عن بالنا أن حوادث الظهور الواردة في هذه الأعداد، وكذلك أقوال المسيح المقام المذكورة فيها حقائق دامغة يؤيدها ورودها في الأناجيل الأخرى. (قاموس الكتاب المقدس) : 853- 855 باختصار.(4/172)
والثالث: ألفه لوقا [ (1) ]- الطبيب الأنطاكي، تلميذ شمعون المذكور- وكتبه باليونانية في بلد [] [ (2) ] وهي الاسكندرية بعد تأليف مارقس، وهو نحو إنجيل متى.
والرابع: ألفه يوحنا ابن زبدي [ (3) ] تلميذ المسيح بعد رفعه بثلاثين سنة، وكتبه باليونانية في بلد آسية، وهو نحو أربع وعشرين ورقة، ويوحنا هذا هو الّذي ترجم إنجيل متى من العبرانية إلى اليونانية.
__________
[ (1) ] لوقا: اسم لاتيني ربما كان اختصار «لوقانوس» أو «لوكيوس» وهو صديق بولس ورفيقه، وقد اشترك معه في إرسال التحية والسلام إلى أهل كولوسي، حيث وصفه بالقول «الطبيب الحبيب» .
وقيل: إن لوقا البشير كان يهوديا دخيلا من أنطاكية، وزعم بعضهم أنه كان من تلاميذ المسيح السبعين، وليس ذلك بصحيح كما يظهر من مقدمة إنجيله، وكان هذا الرجل صاحبا أمينا لبولس الرسول في أسفاره الكثيرة، وإتعابه وآلامه، كما يتضح من سفر أعمال الرسل، وكانت صناعته الطب.
وقيل: إن لوقا استشهد في حكم نيرون الملك الروماني، وهو لا يبعد عن الصواب، لأنه كان غالبا مصاحبا لبولس الّذي قضى نحبه هناك.
وهناك رأي آخر يقول: على أن زمن موته وكيفيته لا يعرف أحد منها شيئا، إلا أن هناك تقليدا يذكر أنه مات في بثينية في سن متقدمة، وبثينيّة مقاطعة في الشمال الغربي من آسيا الصغرى، يحدّها شرقا يافلاغونيا، وشمالا البحر الأسود، وجنوبا فريجية وغلاطية، وغربا بحر مرمرة.
وإنجيل لوقا هو الإنجيل الثالث، وقد وجّه إلى شخص شريف يدعى ثاوفيلس، يرجح أنه أحد المسيحيين من أصل أممي، وكل الدلائل تشير إلى أن هذه البشارة كتبت حوالي عام 60 ميلادي. (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) : 2/ 216، (قاموس الكتاب المقدس) : 822- 823.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين كلمة غير واضحة في (خ) ، وما بعدها فسّرها.
[ (3) ] هو يوحنا ابن زبدي، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، وهو المعروف بيوحنا الحبيب، وقد كان في البداية يعمل صيادا للسمك، ويبدو أنه لم يكن صيادا بسيطا، بل كان على قدر من اليسار، إذا ذكر عنه أنه عند ما دعاه السيد المسيح ترك السفينة والشّباك والأجراء.
كتب يوحنا هذا الإنجيل بعد كتابة البشائر الثلاثة الأولى بزمن طويل، والغالب أنه كتب بعد سنة 90 ميلادية، أي بعد رفع السيد المسيح بحوالي 60 عاما، وكانت المسيحية في ذلك الوقت قد بدأت في الانتشار، وبدأت أيضا تقاسي ليس من اضطهاد اليهود فقط، بل أيضا من اضطهاد الدولة الرومانية.
وقد كانت اللغة اليونانية هي السائدة في ذلك العصر، وهي لغة المثقفين في كل البلاد، وكان كثير من اليونانيين قد آمنوا بالمسيح، والآخرون يريدون أن يعرفوا هذه الديانة، ولذلك كتب يوحنا إنجيله باللغة اليونانية ليسهل على الجميع قراءته ... ولم يتعرض يوحنا لذكر نسب السيد المسيح لأنه كتب إنجيله لليونانيين، ولا شك أنه كان صعبا على الفكر اليوناني أن يتقبل مسألة الأنساب التي كان اليهود يهتمون بها جدا.
(دراسات في الكتاب المقدس) : 1/ إنجيل يوحنا، 6- 11.(4/173)
وعدة هذه الأناجيل الأربعة تسعة آلاف واثنان وستون آية، وليس أحد من النصارى يزعم أن هذه الأناجيل الأربعة منزلة من عند اللَّه على المسيح، ولا أن المسيح أتى بها، بل كلهم يرى فيها ما قلنا.
ولا يستريب عالم في أن التبديل والتحريف تطرق إلى لفظها وإلى معناها، وهذه الأناجيل الأربعة يخالف بعضها بعضا ومتناقضة، كما ذكر فيها قصة صلب عيسى، وكيف تكون في الإنجيل الّذي أنزل اللَّه على المسيح قصة صلبه وما جرى له، وأنه أصابه كذا وكذا، وصلب يوم كذا وكذا، وقام من القبر، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى.
والإنجيل على قولهم نزل على المسيح قبل صلبه بزعمهم، وغايته أن يكون من كلام الحواريين ثلاثة أناجيل، وسمّوا الجميع إنجيلا وفيها ذكر القول ونقيضه، فمنها أنه قال: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق غير مقبولة، ولكن غيري يشهد لي.
وقال في موضع آخر: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين جئت، وإلى أين أذهب. ومنها أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: جزعت نفسي الآن فماذا أقول يا أبتاه، سلمني من هذا الموقف.
ومنها أنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما وقال: يا إلهي! لم أسلمتني؟ فكيف تجمع هذا مع قولهم: إنه هو الّذي اختار نفسه إلى اليهود يصلبوه ويقتلوه، رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء عليهم السلام، من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس.
وكيف يبتلى إله العالم بذلك، وكيف يسأل السلامة منه، وهو الّذي اختاره ورضيه، وكيف يشتد صياحه ويقول: يا إلهي! لم اسلمتني؟ وهو الّذي أسلم نفسه، وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب وأهله؟ أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود؟ جلّ اللَّه عن قولهم.
ولو أتينا بما حرفوه في الإنجيل لأتينا به أو غالبة، غير أن اللَّه تعالى صرفهم عن بضع وثلاثين موضعا فيها بشارات بنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وإنما إليه ليكون حجة عليهم.(4/174)
ولهم إنجيل خامس يسمى إنجيل الصبوة، فيه الأشياء التي صدرت من المسيح عليه السلام في حال طفولته، وهو يحكي عن بطرس عن مريم عليها السلام، وفيه زيادات ونقصان، وذكر فيه قدوم المسيح وأمه، ويوسف النجار إلى صعيد مصر ثم عودتهم إلى الناصرة.
فقد تبين أن الإنجيل إنما نقله أربعة رجال، منهم اثنان [فقط] [ (1) ] من أصحاب المسيح بل من التابعين لهم، ولا جرم لما نقل هذا الكتاب بلفظ الآحاد وقع فيه الغلط. واللَّه الموفق للصواب وإليه المرجع [والمآب] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/175)
[المعجزة في رأي المتكلمين]
وأما المعجزة، فإنّها على طريقة المتكلمين أمر يظهر بخلاف العادة في دار التكليف، لإظهار صدق [مدعي النبوة] ، مع نكول من يتحدى به عن معارضته بمثله، وقيد بدار التكليف، لأن ما كان في الآخرة من خلاف العادة لا يكون معجزة، وبإظهار صدق مدّعى النبوة احترازا عما يظهر على يد الولي والمتألّه، إذ في ظهور إخلاف العادة على يد المتأله جائز دون المتنبي، والفرق أن ظهوره على يد المتنبي يوجب انسداد باب معرفة النبي، وأما ظهوره على يد المتأله [لا يوجب] [ (1) ] انسداد باب معرفة الإله، لأن كل عاقل يعرف أن الآدمي لاشتماله على أمارات القصور، لا يكون إلها، ولو رئي منه [أيّ خارق] [ (1) ] للعادة.
وقيد بإظهار صدقه لأنه لو ظهر لإظهار كذبه لا يكون معجزة، كما لو ادعى المتنبي أن معجزتي نطق هذه الشجرة فأنطقها اللَّه تعالى بتكذيبه لا تكون معجزة، وقيد بنكول من يتحدى به عن معارضته، لأنها تخرج عند المعارضة عن الدلالة، ووجه دلالة المعجزة ما سبق من العلم، فإن اللَّه سامع لدعواه، وأن ما ظهر على يده لا يقدر عليه إلا اللَّه ... إلى آخره.
وقال بعضهم: المعجز هو الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي الخالي عن المعارض، وقال آخر: المعجزة فعل يظهر على يد من يدعي النبوة بخلاف العادة في زمان التكليف موافقا لدعواه، وهو يدعو الخلق إلى معارضته ويتحداهم أن يأتوا بمثله فيعجزون عنه، فيتبين به صدق من ظهر على يده.
وقال آخر: المعجزة أفعال تعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة، وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم. وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف:
فقال المتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار: هي واقعة بقدرة اللَّه [تعالى] [ (1) ]
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/176)
لا بفعل النبي، وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم، إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم، وليس للنّبيّ فيها عند الجميع إلا التحدي بها بإذن اللَّه، وهو أن يستدل بها النبي قبل وقوعها على صدقة في مدعاه، فتنزل منزلة القول الصريح من اللَّه بأنه صادق، وتكون دلالتها على الصدق قطعية، فالمعجزة الدالة مجموع الخارق والتحدي، ولذلك كان التحدي جزءا منها، والتحدي هو الفارق بينهما وبين الكرامة والسحر، إذ لا حاجة إلى التصديق، ولا وجود للتحدي، إلا أن وجد اتفاقا.
وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة، فإنما هي على الولاية، وهي غير النبوة، ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحاق وغيره وقوع الخوارق كرامة فرارا من الالتباس بالنّبوّة عند التحدي بالولاية.
ومنع المعتزلة أيضا من وقوع الكرامة، لأن الخوارق عندهم ليست من أفعال العباد، وأفعالهم لهم معادة، ولا خارق.
وعند الحكماء: أن الخارق من فعل النبي، ولو كان في غير محل القدرة، وبنوا ذلك على مذهبهم في الإنجاب الذاتي، ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على الشروط والأسباب الحادثة، مستندة أخيرا إلى الواجب بالذات [الفاعل] [ (1) ] لا بالاختيار، وأن النفس النبويّة عندهم لها خواص ذاتية، منها:
صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين، والنبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان، متى توجه إليها واستجمع لها بما جعل اللَّه له من ذلك.
والخارق عندهم يقع للنّبيّ، كان التحدي أو لم يكن، وهو شاهد بصدقة من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان، الّذي هو من خواص النفس النبويّة عندهم، لا تنزل منزلة القول الصريح بالتصديق، فلذلك لا تكون دلالتها قطعية كما هي عند المتكلمين، ولا يكون التحدي جزءا من المعجزة، ولم يصبح فارقا لها عن السحر والكرامة.
وفارقها عندهم عن السحر: أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر، ولا يلم الشر بخوارقه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/177)
والساحر أفعاله كلها شر، وفي مقاصد الشر، وفارقها عن الكرامة: أن خوارق النبي مخصوصة كصعود السماء، والنفوذ في الأجسام الكثيفة، وإحياء الموتى، وتكليم الملائكة، والطيران في الهواء.
وخوارق الولي دون ذلك، كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل، ونحو ذلك مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء، ويأتي النبي بمثل خوارقه، ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء. وقد قرر ذلك المتصوفة، فيما كتبوه في طريقهم وفعلوه عن مواجدهم.(4/178)
[الآية]
وأما الآية: فإنّها العلامة، والمعجبة، والخارقة للعادة، فهي أعم من المعجزة، لأن من شرط المعجزة التحدي بها، بخلاف الآية، فقد لا يتحدى بها، بل تظهر خارقة للعادة على يد النبي، وإن لم يتحد بها في الحال، فعلى هذا يقال لما تقدم من ذلك البعثة النبويّة، بل وجوده عليه السلام آية، ولا تقال له: معجزة، إلا بنوع من المجاز بنا، على أن المعجزة بمعنى الخارقة في الجملة، ولذلك لما وقع من ذلك بعد وفاته عليه السلام آية، لأن الآية تشمل المعجزة وغيرها.
وقد تغلغل بنا الكلام في هذه المهمات، وفيها فوائد تعود بخير لمن وفقه اللَّه إلى سواء السبيل، وهذا حين أشرع في إيراد ما أمكن من معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأقول:
اعلم أن معجزات الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم كثيرة جدا، وقد ذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفا [ (1) ] ، وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ [ (2) ] : والنبي إذا عظم قدره عظمت أسماؤه، وأما معجزاته فقد بينا في كتاب- (الأصول والإملاء لأنوار الفجر) [ (3) ] ألف معجزة جمعناها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، منها ما هو في القرآن قد تواتر، ومنها ما نقل آحادا، ومجموعها خرق للعادة على يديه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وكانت صورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهيئته وسمته وشمائله، تدل العقلاء على صدقه، ولهذا قال عبد اللَّه بن سلام: فلما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ولذا كان من سمع كلامه، ورأى آدابه، لم يدخله شك، وقد كان في صغر سنه وبدء [ (4) ] أمره، يعرف بالأمانة والصدق وجميل الأخلاق، كما تقدم ذكره.
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 5/ 499- 500.
[ (2) ] هو محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللَّه بن أحمد، شيخ القاضي عياض (468- 543 هـ) .
[ (3) ] من مؤلفات المقريزي رحمه اللَّه.
[ (4) ] في (خ) : «وبدو» .(4/179)
وما أحسن فهم قيصر ملك الروم حيث يقول: ما كان ليترك الكذب على الخلق ويكذب على اللَّه. ومع ذلك فقد أيده اللَّه تعالى بالآيات المعجزات، وما يمتنع عن قدر المخلوقين من براهين النبوة وأعلامها، كسجود الإبل له، وتسليم الصخور عليه، وسعي الأشجار إليه، وكلام الذئاب إياه، وحنين الخشب الموات إلى قربه، وانشقاق القمر حتى رئي الجبل بين فلقتيه، وإخباره بالأمور قبل وقوعها، إلى غير ذلك مما سنورده إن شاء اللَّه من الأحاديث التي تولّاها أهل العدالة والصدق على روايتها، خلفا عن سلف، حتى ينتهي إلى من عاين المعجزات وشاهدها.
فجرت عندنا لذلك معجزات رسول الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم مجرى ما شاهدناه ورأيناه، لتوفر دواعي الكافة ننقلها، وكان من أجل أعلام نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم ما قصم به أعداءه في حياته، وأبقاه اللَّه حجة على معاندي الحق بعد وفاته، وهو القرآن الّذي تحدى العرب بأن يعارضوه في سورة أو سور فعجزوا.
وذلك أن اللَّه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى قوم جل علمهم السحر، أعطاه من جنس ما يدعون الحذق به: إلقاء العصا حتى تصير ثعبانا، وإخراجه يده من جيبه بيضاء من غير برص، فعارضوا ذلك بسحرهم فبطل عليهم، ولم يصلوا به إلى إقامة الحجة على موسى.
ولما بعث بعيسى عليه السلام إلى قوم عظم عملهم الطب، أعطاه من جنس ما يدعون الحذق به: إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، فانقطعوا عن مقاومته.
ولما بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم إلى العرب، كان جل علمهم الشعر والسجع والرجز والنثر، والافتنان في القول، أعطاه من جنس ما يدعون الحذق به، القرآن، وقال لهم صلّى اللَّه عليه وسلم بلسان الإشارة: أنتم أرباب الفصاحة والبيان، وأعلم الناس بأفانين المنطق، وأجناس القول: شعره وسجعه، ورجزه ونثره، فعارضوني بمثل سورة من القرآن الّذي نزل بألفاظكم، موفقا للسانكم، لا يخالف لغتكم، ولا يخرج عن معنى(4/180)
من كلامكم، فرموه بحزوق شعرهم، ومؤلف سجعهم، وبديع نثرهم، فما أحاطوا به تشبيها، ولا قاربوه تأليفا، حتى إنهم جعلوا يستروحون إلى أن يقولوا لصغارهم وأغبيائهم: هذا القرآن شعر! وتقول طائفة أخرى: هو سحر! ليعذروا في تأخرهم عن الجواب والمعارضة.
هذا وقد علموا بأنه مخالف للسحر، ومباين للشعر، كما سنورده إن شاء اللَّه بالأسانيد، فهم ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يزل يقرعهم ويوبخهم بانقطاعهم وعجزهم، فيقرأ عليهم قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (1) ] ، وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (2) ] ، وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (3) ] ، وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (4) ] .
وهم يألمون لما يسمعون من التوبيخ، وقلقون لما يعلمون من وقوع الحجة بهم عند الاعتراف بالعجز، فلما أبوا إلا عناد الحق، دعاهم ذلك إلى القتال، ولو وصلوا إلى أن يعارضوا لخصموا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وظهروا عليه، واستغنوا عن قتاله، فلما صبروا للحروب وبذل النفوس، والجلاء عن الديار، وذهاب الأموال والأولاد، كان في ذلك أعظم دليل وأوضح برهان على إعجاز القرآن للعالمين، وامتناعه عن قدر المخلوقين.
__________
[ (1) ] يونس: 38.
[ (2) ] هود: 13.
[ (3) ] البقرة: 23.
[ (4) ] الإسراء: 88.(4/181)
تنبيه وإرشاد لأهل التوفيق والرشاد
اعلم أن اللَّه جلت قدرته، خص كل نبي من أنبيائه، ورسول من رسله، بما شاء من فضله، وأيدهم بمعجزات تدل على صدقهم فيما ادعوه من رسالة ربهم، وما من فضيلة كانت لنبي، أو معجزة أيد اللَّه تعالى بها رسولا من رسله، إلا وقد أعطى سبحانه نبيه ورسوله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثلها وشبهها، ونحوا منها وأفضل وأجلّ منها، يعرف ذلك من منحه اللَّه تعالى العلم، وورثه التوفيق في الفهم، فكان أول الأنبياء بعثه اللَّه تعالى إلى أهل الأرض، نوح عليه السلام، وكانت آيته التي أوتيها، شفاء غيظه، وإجابة دعوته، في تعجيل نقمة اللَّه تعالى لمن كذبه، حتى هلك من على وجه الأرض من صامت وناطق، إلا من آمن به وركب معه السفينة.(4/182)
فصل في [ذكر موازاة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي عليه السلام]
وقد أتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما كذبوه وبالغوا في أذاه وإهانته، دعا عليهم، فاستجاب ربه دعاءه فيهم وقبله، كما خرجه عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل عن إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش ينظرون، فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلائها، حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانطلق أشقاهم فجاء به، حتى إذا سجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي اللَّه عنها- وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ساجدا حتى نحّت عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم.
فلما قضى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم صلاته استقبل الكعبة فقال: اللَّهمّ عليك بقريش، ثم سماهم فقال: اللَّهمّ عليك بعمرو بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، قال عبد اللَّه: والّذي توفّى نفسه، لقد رأيتهم صرعى يسحبون إلى القليب قليب بدر، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ أتبع أهل هذا القليب لعنة:
وسيأتي هذا بطرقه.
فانظر لمشابهة هذا الخبر ما أوتيه نوح من إجابة دعائه في هلاك قومه، وتأمل ما ميز اللَّه تعالى به محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك، فإن نوحا عليه السلام لما امتلأ غيظا من أذى المكذبين له، وعيل صبره، ابتهل إلى ربه تعالى يسأله أن ينصره، فقال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ (1) ] ، فهطلت السماء بماء منهمر، فكانت دعوته دعوة انتقام وانتصار.
__________
[ (1) ] القمر: 10.(4/183)
ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم دعا ربه لما قحطت الأرض فهطلت السماء بدعائه بما منهمر، أغاث اللَّه به العباد والبلاد، فكانت دعوته رحمة وغوثا للأنام، كما كان صلّى اللَّه عليه وسلم رحمة للعالمين وسيأتي خبر استسقائه بطرقه.
وقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم ليلا ونهارا، فلم يؤمن به إلا دون المائة، ما بين رجل وامرأة [ (1) ] ، وهم الذين ركبوا معه السفينة، ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم كانت مدة دعائه الناس عشرين سنة، فآمن به أمم لا يحصون، ودانت له جبابرة [الأرض] ، خافت ملوكها ككسرى ملك فارس، وقيصر ملك الروم، والنجاشيّ ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وإقبال اليمن وملوك البحرين، وحضر موت، وهجر، وعمان، وغيرهم.
ودانت له بحمل الإتاوة والجزية: أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأكيدر، ودومة، لما أيده اللَّه تعالى به من الرعب الّذي ينزله بقلوب أعدائه، حتى فتح الفتوح الجليلة، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا، فأتوا طائعين راغبين، مصدقين له، مؤمنين بما جاء به، فأي كرامة أعظم، وأي منزلة أرفع من هذا؟
وقد خصّ نوحا عليه السلام بأن نحلة اسما من أسمائه تعالى فقال: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [ (2) ] ، وخصّ محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم باسمين من أسمائه الحسنى، جمعهما له، ولم يشركه فيهما [ (3) ] أحد، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (4) ] .
هذا مع ما خصه به تعالى من مزيد التشريف والتكريم، حيث خاطبه بصفة من صفات الرفعة والشرف، تقوم مقام الكنية، إذا يقول تعالى مخاطبا له صلّى اللَّه عليه وسلم في كتابه العزيز: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [ (5) ] ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [ (6) ] ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (7) ] ،
__________
[ (1) ] قال تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] .
[ (2) ] الإسراء: 3.
[ (3) ] هما: رءوف، رحيم.
[ (4) ] التوبة: 128.
[ (5) ] الأنفال: 64، 65، 70، التوبة: 73، الأحزاب: 1، 28، 45، 50، 59، الممتحنة:
12، الطلاق: 1، التحريم: 1، 9.
[ (6) ] المائدة: 41، 67.
[ (7) ] المدثر: 1.(4/184)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (1) ] .
ولم يخاطب سبحانه غيره من الرسل إلا باسمه، فقال تعالى: يا آدَمُ [ (2) ] ، يا نُوحُ [ (3) ] ، يا إِبْراهِيمُ [ (4) ] ، يا مُوسى [ (5) ] ، يا يَحْيى [ (6) ] ، يا داوُدُ [ (7) ] ، يا عِيسى [ (8) ] ، وكل ذي عقل سليم يرى أن الخطاب للرجل بكنية أجل وأعظم من دعائه وخطابه به [من] [ (9) ] ندائه باسمه.
ولما رماه صلّى اللَّه عليه وسلم المشركون بما رموا به من قبله من رسل اللَّه تعالى منذ عهد نوح فقالوا: مجنون، وساحر، وشاعر، ونحو ذلك من افترائهم الّذي نزه اللَّه عنه رسله عليهم السلام، احتمل صلّى اللَّه عليه وسلم أذاهم، وصبر على تكذيبهم له، ثقة منه بأن اللَّه تعالى تولى نصرته، وأنه وليه وظهيره، ولم يسلك مسلك من تقدمه من الرسل، في انتصارهم لأنفسهم، كقول نوح لما قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (10) ] ، فقال مجيبا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ [ (11) ] ، وكقول هود لما قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [ (12) ] فقال دفعا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ [ (13) ] ، [و] [ (14) ] كما قال [فرعون] [ (15) ] لموسى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [ (16) ] ، فنصر نفسه بنفسه فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [ (17) ] ، ولما قال المشركون لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم: أَإِنَّا لَتارِكُوا [ (18) ] آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [ (19) ] ، وقالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [ (20) ] ، سكت صلّى اللَّه عليه وسلم صابرا محتسبا.
فتولى اللَّه تعالى نصرته بوحي يتلى على مر الأيام إذا يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ
__________
[ (1) ] المزمل: 1.
[ (2) ] البقرة: 33، 35، الأعراف: 19، طه: 117.
[ (3) ] هود: 46، 48.
[ (4) ] هود: 76، الصافات: 104.
[ (5) ] طه: 11، 17، 19، 36، 40، 83، النمل: 9، 10، القصص: 30، 31.
[ (6) ] مريم: 12.
[ (7) ] ص: 26.
[ (8) ] آل عمران: 55، المائدة: 110، 116.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] الأعراف: 60.
[ (11) ] الأعراف: 61.
[ (12) ] الأعراف: 66.
[ (13) ] الأعراف: 67.
[ (14) ] زيادة للسياق.
[ (15) ] زيادة للسياق.
[ (16) ] الإسراء: 101.
[ (17) ] الإسراء: 102.
[ (18) ] في (خ) : «لتاركوا» .
[ (19) ] الصافات: 36.
[ (20) ] الحجر: 6.(4/185)
وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] ، وإذ يقول اللَّه تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [ (2) ] ، وكذلك لما قالت قريش: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [ (3) ] ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [ (4) ] ، أعرض عنهم امتثالا لأمر ربه تعالى، إذ قال: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [ (5) ] ، فأنزل اللَّه تعالى براءته من ذلك، ودافع عنه ونصره، إذ يقول سبحانه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (6) ] ، وإذ يقول: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ (7) ] ، في آيات أخر، ولهذا المعنى مزيد بيان فيما يأتي.
__________
[ (1) ] يس: 69.
[ (2) ] القلم: 2.
[ (3) ] النحل: 103.
[ (4) ] الفرقان: 4، وفي (خ) . «وقالوا إن هذا» .
[ (5) ] النجم: 29.
[ (6) ] الفرقان: 6.
[ (7) ] الشعراء: 193.(4/186)
وأما إبراهيم عليه السلام
فإن اللَّه تعالى اختصه بمقام الخلّة، فقال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [ (1) ] ، وكسّر عليه السلام أصنام قومه التي كانت آلهتم التي يعبدونها من دون اللَّه غضبا لربه تعالى، وحجبه من نمروذ بحجب ثلاثة، وقصم عليه السلام نمروذ ببرهان نبوته فبهته، وبنى عليه السلام البيت.
وقد آتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك كله بمزيد شرف وأجل تكريم، فالخلة مقامه صلّى اللَّه عليه وسلم، فيها أكمل مقام،
ثبت من طرق عديدة عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل اللَّه.
وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة، ومن طريق أبي مالك عن ربعي بن خراش، عن حذيفة قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يجمع اللَّه الناس فيقوم المؤمنون حتى يزلف لهم الجنة، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى أبيكم إبراهيم خليل اللَّه، قال: فيقول إبراهيم عليه السلام: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الّذي كلمه اللَّه تكليما، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة اللَّه وروحه، فيقول عيسى عليه السلام: لست [بصاحب] [ (2) ] ذلك، فيأتون محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم فيقوم، فيؤذن له [ (3) ] ...
وهذا يدل على أنه صلّى اللَّه عليه وسلم أعطى [أعلى من] مقام الخلة، لأنه رفع له الحجاب، وكشف له الغطاء، ولو كان خليلا من وراء وراء، لاعتذر كما اعتذر إبراهيم عليه السلام، فإذا منصب المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم هو [الأعلى] ، من مفهوم قول إبراهيم عليه السلام: إنما كنت خليلا من وراء وراء ولم يشفع، فدلّ [على] أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، مع الكشف والعيان، وقرب المكانة من حضرة القدس لا المكان، وذلك مقام المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] النساء: 125.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] سبق تخريجه وشرحه.(4/187)
وقد تقدم في بعض طرق الإسراء، أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى قيل له: اسأل، فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا، إلى أن قال له ربه عز وجلّ: قد اتخذتك حبيبا،
ولذلك كسّر الأصنام، فإن الّذي أعطاه اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك، أفضل مما أعطاه إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلم رمى هبل من [أعلى] الكعبة، وأشار يوم فتح مكة إلى ثلاثمائة وستين صنما فوقعت وكسرت بأسرها بمحضر أهل نصرها، وذلك بإشارته صلّى اللَّه عليه وسلم بقضيب ليس مما يكسر مثله عادة، وكان كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام بمعول يكسر مثله عادة.
وكان كسره عليه السلام لتلك الأصنام التي كسرها بمعوله عند غيبة قومه عن أصنامهم، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم إنما كسرها وقريش الحماة الأبطال، تراها وهي تتساقط على وجوهها، وقد كانوا أمس يرونها آلهة تجلب لهم النفع وتردّ عنهم الضّرّ، فما انتطح في كسرها عنزان، ولا نطق بنصرها ذو لسان.
قال عبد اللَّه بن عمر العمري، عن نافع [عن ابن] عمر رضي اللَّه [عنهما] قال: وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزمها الشيطان بالرصاص والنحاس، فكان كلما دنا منها مخصرته، تهوى من غير أن يمسها ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ (1) ]
فتساقط لوجوهها، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسبل.
وقد حجب اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم عمن أرادوا قتله بخمسة حجب: ثلاثة منها في قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (2) ] ، وواحد في قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [ (3) ] ، والخامس في قوله تعالى:
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [ (4) ] ، ويتبين لك معنى كون هذه الحجب إذا نظرت في الهجرة النبويّة، ومكر الذين كفروا به صلّى اللَّه عليه وسلم وخروجه من منزله وهم قيام يريدونه فلم يروه.
__________
[ (1) ] الإسراء: 81.
[ (2) ] يس: 9.
[ (3) ] الإسراء: 45.
[ (4) ] يس: 8.(4/188)
وقد قصم صلّى اللَّه عليه وسلم ببرهان نبوته الّذي أتاه مكذبا بالبعث بعد الموت- وهو أبي ابن خلف- وقد حمل عظاما باليا، وفركه ثم قال: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (1) ] ، فانصرف عدو اللَّه مبهورا.
كما بهت الّذي كفر- وهو نمروذ- إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [ (2) ] .
وقد اختلف في هذا القائل، فقال مجاهد وقتادة: هو أبي بن خلف، وقال سعيد بن جبير [عن ابن] [ (3) ] عباس: هو العاص بن وائل، وصححه الحاكم، وروى [عن أبيه] عباس: أنه عبد اللَّه بن أبي [ابن] [ (4) ] سلول.
وإبراهيم عليه السلام، وإن كان له في بناية البيت الحرام شرفا يميز به على من عداه، فإن أعظم ما في البيت: الحجر الأسود، وقد أعطى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما بنت البيت في جاهليتها، اختلفت فيمن يضع الحجر، حتى أشير عليهم بتحكيم أول من يطلع عليهم، فطلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحكموه، فوضع الحجر في رداء، وأمر كل قبيلة أن ترفع منه شيئا، ثم وضعه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده، كما تقدم ذلك بطرقه.
ثم انظر قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ (5) ] ، يظهر لك أن الخليل عليه السلام كان وصوله بواسطة، وأين ذلك من قوله تعالى في حق محمد صلّى اللَّه عليه وسلم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [ (6) ] .
وانظر قوله تعالى عن الخليل [عليه السلام] : وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [ (7) ] ، تجد بينه وبين قوله تعالى لنبينا محمد [صلّى اللَّه عليه وسلم] :
__________
[ (1) ] يس: 79.
[ (2) ] البقرة: 258.
[ (3) ] ، (4) زيادة للسياق.
[ (5) ] الأنعام: 75.
[ (6) ] النجم: 8- 10.
[ (7) ] الشعراء: 82.(4/189)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [ (1) ] بونا كبيرا: ذلك طمع في المغفرة، وهذا غفر له بيقين.
وكذا قوله [تعالى عن الخليل عليه السلام] [ (2) ] : وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [ (3) ] ، مع قوله [تعالى عن نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] : يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [ (4) ] ، تجده ابتدأ محمدا [صلّى اللَّه عليه وسلم] بالبشارة قبل السؤال.
وكذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [ (5) ] والخليل قال: حَسْبِيَ اللَّهُ [ (6) ] ، تجد بين المقامين بونا كبيرا.
وكذلك قول الخليل: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ (7) ] ، مع قوله تعالى لمحمد [صلّى اللَّه عليه وسلم] : وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (8) ] ، يظهر لك شرف مقامه، لأنه أعطي بلا سؤال.
[وكذا] [ (9) ] قول الخليل: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [ (10) ] ، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم قيل له: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (11) ] وفي ذلك تنبيه على علوّ مقام المصطفى ورفيع مكانته صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأما الذبيح: فإن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم حصل له من شق صدره المقدس ما هو من جنس ما أوتيه الذبيح، فإن الذبيح إسماعيل عليه السلام، صبر على مقدمات الذبح:
شد وثاقه، وتله للجبين، وإهواء أبيه بالمدية إلى منحره، [فوفى] [ (12) ] بما وعد به من قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ (13) ] .
وكان لنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك أوفى مقام من الصبر وأجلّ، لأن الّذي حصل من الذبيح إنما هو الصبر على مقدمات الذبح فقط، والمصطفى [صلّى اللَّه عليه وسلم صبر] [ (14) ] على شق صدره، واستخراج قلبه، ثم شقه، ثم استخراج العلقة، ثم غسله، ثم إطباقه، ثم وضعه، ثم إحاطة صدره.
__________
[ (1) ] الفتح: 2.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] الشعراء: 87.
[ (4) ] التحريم: 8.
[ (5) ] الأنفال.
[ (6) ] الزمر: 38.
[ (7) ] الشعراء: 84.
[ (8) ] الشرح: 4.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] إبراهيم: 35.
[ (11) ] الأحزاب: 33.
[ (12) ] زيادة للسياق.
[ (13) ] الصافات: 102.
[ (14) ] زيادة للسياق والبيان.(4/190)
وأين الصبر على مقدمات جز المنحر بالمدية، من الصبر على شق الصدر وإخراج القلب وشقه، فإن صبر الذبيح إنما كان على ما أصابه من صورة القتل لا على فعله، وصبر المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم إنما كان على مقاتل عدوه، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، وأدل دليل على مقاساته صلّى اللَّه عليه وسلم الألم في شق صدره قوله: فأقبل وهو ممتقع اللون أو منتقع اللون، ومعناه أنه صار كلون النقع، وهو الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، هذا يدل على غاية المشقة، فكان ابتلاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم بشق الصدر وما معه أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر عنه باعتبارين:
أحدهما: أنه ابتلي بذلك فصبر عليه وهو طفل صغير منفرد عن أمه ويتيم من أبيه.
والآخر: مقاساة حقيقة الشق للصدر والقلب، وغاية ما ابتلى به الذبيح التعريض بذبحه وبين المقامين في الصبر بون بعيد فتأمله.
وأمر آخر: وهو أن الذبيح توطنت نفسه على ما انتابه بقوله أبيه: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [ (1) ] ، والرسول صلّى اللَّه عليه وسلم فجئه ذلك البلاء العظيم على غفلة، فإنه أختطف من الأطفال وفعل به ما فعل، وأين حال من هو مع أبيه وقد أنذره بما يفعل به، ممن يختطفه من لا يعرفه، وينزل به ذلك البلاء العظيم، فإن البغتة أشد على النفس، والفجاءة أقوى رعبا.
__________
[ (1) ] الصافات: 102.(4/191)
وأما هود عليه السلام
فإن اللَّه تعالى نصره على قومه الذين عادوه إذ كذبوه بالريح العقيم، وقد أعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم أفضل من ذلك، فانتصر من أعدائه بالريح يوم الخندق، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (1) ] ، فكانت ريح هود ريح سخط وانتقام: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ (2) ] ، وريح محمد صلّى اللَّه عليه وسلم ريح رحمة، قال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (3) ] ، وقال حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه [عنهما] [ (4) ] ، قال: لما كان يوم الأحزاب، انطلقت الجنوب إلى الشمال، فقالت: انطلقي بنا ننصر محمدا رسول اللَّه، فقالت الشمال للجنوب: إن الحرة لا تسري بليل، فأرسل اللَّه عليهم الصّبا، فذلك قوله تعالى: [فَأَرْسَلْنا] [ (4) ] عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] الأحزاب: 9.
[ (2) ] الذاريات: 42.
[ (3) ] الأحزاب: 9.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] الأحزاب: 9.(4/192)
وأما صالح عليه السلام
فإن اللَّه تعالى أخرج له ناقة لتكون حجة له على قومه، وآية لنبوته، لها شرب ولقومه شرب يوم معلوم، وقد أعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك ما لم يؤت صالحا، وذلك أن ناقة صالح عليه السلام لم تكلمه ولا شهدت له بالنّبوّة، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم أتاه البعير الناد شاكيا إليه ما همّ به صاحبه من نحره.
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبيري عن جابر رضي اللَّه عنه قال: سرنا ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين أظهرنا كأن على رءوسنا الطير، فأتاه جمل ناد، حتى إذا كان بين السماطين خرّ ساجدا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: من صاحب هذا الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار قالوا: هو لنا يا رسول اللَّه، قال فما شأنه؟ قالوا: سقينا عليه منذ عشرين سنة وكانت به مشيخة، فأردنا أن ننحره فنقسمه بين علمائنا فانفلت منا، قال:
تبيعونه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، قال: أما فأحسنوا إليه حتى يأتي أجله.
وسيأتي هذا الحديث بطرقه إن شاء اللَّه تعالى.(4/193)
وأما إدريس عليه السلام
فإن اللَّه تعالى قال في حقه: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا، والعلوّ من الأمور النسبية، فتارة يكون علوّ مكان، وتارة وتارة يكون علوّ مكانة، فعلوّ المكان:
مقام إدريس عليه السلام، وهو على ما روى الفلك الرابع، رفعه اللَّه إليه.
وأما علو المكانة: فهو الّذي خص اللَّه تعالى به المقام المحمدي، قال تعالى:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [ (1) ] ، فهو سبحانه وتعالى [منّزه] عن المكان لا عن المكانة، وعلو المكانة أجلّ من علو [المكان] [ (2) ] ، وقد خصّ اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من علو المكانة بما لم ينله أحد غيره، قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (3) ] ، فرفع اللَّه تعالى ذكره صلّى اللَّه عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا صاحب صلاة إلا ينادي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فقرن تعالى اسمه الكريم باسمه صلّى اللَّه عليه وسلم في توحيده والشهادة بربوبيته، في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل ذلك مفتاحا للصلوات المفروضات.
روى [عن] [ (4) ] ابن لهيعة، عن دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (5) ] قال: قال لي جبريل عليه السلام: قال اللَّه: إذا ذكرت ذكرت معي.
وقال عثمان بن عطاء الزهري، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما فرغت مما أمرني اللَّه به من أمر السموات والأرض قلت: يا رب، إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد كرّمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله؟ أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون ظاهرا، ولم أعطها أمة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي (لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم) .
__________
[ (1) ] محمد: 35.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] الشرح: 4.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] الشرح: 4.(4/194)
وأما يعقوب عليه السلام
فإن اللَّه تعالى قال: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [ (1) ] ، فكانت الأسباط من سلالة يعقوب ومريم ابنة عمران من ذريته، والهداة منه كانوا، فعظم من الخير نصيبه، حتى قال تعالى في أولاده: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ [ (2) ] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [ (3) ] .
وقد أعطى اللَّه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من الخير أوفر الحظّ وأرفع الذكر، وأجزل النصيب، فجعل ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، وجعل من ذريته الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة،
روي عن محمد بن حجادة عن عمران بن كثير عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: حسبك من نساء العالمين أربع: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم.
وجاء من عدة طرق عن ابن عباس وأبي سعيد الخدريّ مرفوعا: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
وعن الشعبي عن أبي جحيفة عن علي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجنة غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتمر وعليها ريطتان خضراوان.
وقال حفص بن غياث عن العرزميّ عن عطاء عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة [نادى] [ (4) ] مناد من وراء الحجب: يا أيها الناس غضوا أبصاركم ونكسوا، فإن فاطمة بنت محمد تجوز الصراط إلى الجنة [ (5) ] .
__________
[ (1) ] العنكبوت: 27.
[ (2) ] الجاثية: 16- 17.
[ (3) ] السجدة: 23- 24.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 605، باب غضّ البصر حين اجتياز فاطمة على الصراط، حديث رقم (550) .(4/195)
وقال بشر بن إبراهيم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إنما سميت فاطمة لأن اللَّه فطم من أحبها من النار.
وقال علي بن عمر بن علي: إن اللَّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك- وقال عمر ابن غياث عن عاصم عن عبد اللَّه يرفعه: أن فاطمة أحصنت فرجها، فحرمها اللَّه وذريتها على النار.(4/196)
وأما ذرية يعقوب عليه السلام الذين هم بنو إسرائيل
فإن اللَّه تعالى سخط عليهم بسوء أعمالهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، وأنزل فيهم الكتاب، وجعل منهم القردة والخنازير، وقطعهم في الأرض أمما، وجعل الذين اتبعوا الحق فوقهم إلى يوم القيامة، فبان بهذا أن الّذي آتاه اللَّه تعالى من الخير لنبيا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أجل وأعظم مما أوتيه يعقوب عليه السلام، وكذلك تميز نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم على يعقوب في محنته، وذلك أن كلا منهما ابتلى بفقد ولده.
فأما يعقوب فإنه حزن على فقد يوسف حتى كاد يكون حرضا من الحزن، فإن حزنه كان حزن إيلاف ومضض واشتياق ووجد، بدليل قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [ (1) ] ، فأصابه بفقد ولد واحد من جملة اثنى عشر ولدا هذا الأسف، ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فجع بوحيده من الدنيا، وقرّة عينه في حياته، فلم يجزع بل صبر واحتسب، ووفى بصدق الاختيار، مسلّما إلى ما سبقت به الأقدار،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلم وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون.
فكان سلوكه صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك وفي جميع أحواله منهج الرضا عن اللَّه تعالى، والاستسلام له فيما يقضي ويحكم، ولم يتأسف، بل رضى واستسلم، ففاق صبره صلّى اللَّه عليه وسلم على صبر يعقوب عليه السلام، لفضل قوته وعلو مقداره ومكانته صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] يوسف: 84.(4/197)
وأما يوسف عليه السلام
فإنه فاق في الحسن على جميع الخلق، وقد بلغ نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك ما لا غاية فوقه، وذلك أن يوسف عليه السلام قد ثبت أنه أوتي شطر الحسن، فزعم زاعم أنه عليه السلام اختص بالشطر من الحسن، واشترك الناس جميعا في [الشطر] الآخر، وليس كذلك، بل إنما أوتي شطر الحسن الّذي أوتيه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم بلغ الغاية، وهو عليه السلام بلغ شطر الغاية، بدليل ما خرجه الترمذي من طريق قتادة، عن أنس رضي اللَّه عنه قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصّوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا.
ويؤيد ذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلم وصف بأنه كالشمس الطالعة، وكالقمر ليلة البدر، وأحسن من القمر، ووجهه كأن مذهبة يستنير كاستنارة القمر، وكان عرقه صلّى اللَّه عليه وسلم له رائحة كرائحة المسك الإذخر، وقد تقدم ذلك بطرقه.
وقد قاسي يوسف عليه السلام مرارة الغربة، وامتحن بمفارقة أبويه، والخروج عن وطنه، وكان الّذي قاسي نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك أعظم، فإنه اغترب وفارق أهله وولده، وعشيرته وأحبته، كما هاجر من حرم اللَّه وأمنه، حيث مسقط رأسه مضطرا لا مختارا، فاستقبل البيت مستعبرا متلهفا حزينا، وقال: إني أعلم أنك أحب البلاد إلى اللَّه، ولولا أني أخرجت منك ما [خرجت] [ (1) ] ، وخرج ليتأوّلها، فلما بلغ الجحفة أنزل اللَّه عليه: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [ (2) ] وأراه اللَّه تعالى رؤيا أزال بها الحزن عنه، كما أري يوسف عليه السلام رؤيا صدق تأويلها.
قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ [ (3) ] ، فدخل صلّى اللَّه عليه وسلم مكة آمنا، وصدق وعد اللَّه له، كما جاء تعالى بأبوي يوسف تأويلا لرؤياه من قبل.
وقد ابتلى يوسف عليه السلام بالسجن توقيا للمعصية، إذ قال: رب
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] القصص: 85.
[ (3) ] الفتح: 27.(4/198)
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ (1) ] ، وكذلك ابتلى نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بالسجن في الشّعب وضيق عليه فيه أشد الضيق مدة ثلاث سنين، حتى صنع اللَّه بكيد أضعف خلقه وتسليطها على صحيفة مكر قريش التي عقدوها في قطيعته صلّى اللَّه عليه وسلم، فكان لنبينا من ذلك ما لم يكن ليوسف عليه السلام، لأن يوسف كانت محنته بالسجن من أجل أن امرأة العزيز دعته إلى نفسها فاستعصم، وكانت محنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالإلجاء إلى الشّعب قطيعة من ذوي رحمه، لأنه دعاهم إلى توحيد اللَّه تعالى، وترك عبادتهم الأصنام، وشتان بين هذين المقامين من البون.
وعلّم اللَّه يوسف من تأويل الأحاديث- يعني عبارة الرؤيا- ولم يقص تعالى عنه سوى تعبير ثلاث منامات، ونقل عن نبينا من ذلك شيء كثير جدا، مما رآه ومما عبّره لغيره فجاء كفلق الصبح.
ومكن تعالى ليوسف في الأرض- يعني أرض مصر خاصة- ونبينا مكّن اللَّه له ولأمته في الأرض كلها، وملك يوسف أهل مصر في زمن الغلاء، وقد ملك نبينا [صلّى اللَّه عليه وسلم] يوم الفتح جلة العرب وصناديد الحجاز وسمّاهم الطلقاء، فأحرز صلّى اللَّه عليه وسلم خصائص يوسف عليه السلام وزاد عليها، ولهذا ترقى عليه ليلة الإسراء ما شاء اللَّه.
__________
[ (1) ] يوسف: 33.(4/199)
وأما موسى عليه السلام
فإن اللَّه تعالى أيده بالعصا، واليد البيضاء، وتفجير الماء من الحجر، وقال تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [ (1) ] ، ومقام المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم في المناجاة أرفع، فإن موسى عليه السلام، إنما سمع الكلام والمناجاة على الطور، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم سمع الكلام وقد أسرى به، والملأ الأعلى فضله على الأرض.
فأما العصي الخشب الموات فإنّها تصير بإذن اللَّه تعالى ثعبانا تتلقف إفك سحرة فرعون، ثم تعود إلى معناها، وخاصتها من مآرب موسى عليه السلام، وقد أتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم أعجب من ذلك، فإنه أشار بقضيب في يده يوم الفتح إلى الأصنام المشدودة بالرصاص شدا محكما إلى الكعبة فيما حولها، وعدتها ثلاثمائة وستون صنما، فكان إذا أشار إليها بالقضيب وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [ (2) ] سقط الصنم وتكسر جذاذا، فكانت عصا موسى مسلطة على آلة آل فرعون، وقضيب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم سلّط على ما اتخذته قريش آلهة، وأين التسليط على الآلة، من التسلط على الآلهة؟
وأيضا فإن اللَّه تعالى قال عن موسى عليه السلام: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [ (3) ] فسلط عصاه على ذلك التخيل، وقضيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تسلط على أمر حقيقي، وأين الخيال من الحقيقة؟
وقد حنّ لنبينا [محمد] [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلم الجذع اليابس، وخار، وهذا أعجب من حالات عصا موسى عليه السلام، فإن موسى إنما جعل النّبات حيوانا غير ناطق، ونبينا [محمد] [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلم جعل النبات حيوانا ناطقا، فشارك موسى في قلب الأعيان على وجه أتم، لأن الناطق أتم من غير الناطق، وأبلغ في الأعجوبة إجابة الأشجار واجتماعها لدعوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما دعاها، ورجوعها إلى أمكنتها بعد أن أمرها.
وكان من معجزات موسى عليه السلام، أن يضرب بعصاه الحجر فينفجر منها اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط الاثنا عشر، وقد أيد اللَّه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك
__________
[ (1) ] مريم: 52.
[ (2) ] الإسراء: 81.
[ (3) ] طه: 66.
[ (4) ] زيادة للسياق.(4/200)
بأعجب وأبدع وأغرب، فإنه بعث سهما ليوضع في عين كانت تبض بماء قليل، فلما وضع السهم فيها استخرج الماء بإذن اللَّه تعالى من تخوم الأرض، وصارت معينا غرس عليها جنان، واشتق منها أنهار.
ونبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهذا أعجب من العجب، فإن نبع الماء من الحجر لم يزل معهودا مشهورا في العالم، بخلاف نبع الماء من بين أنامل ركبت من عظم ولحم ودم، فإن هذا لم يعط قط مثله إلا لنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فإنه كان يفرج بين أصابعه في مخضب فينبع من بين أصابعه الماء، فيشرب منها الناس ويستقون، وهم يعاينون ماء عذبا جاريا، يروي الأعداد الكثيرة من النّاس والخيل والإبل، ويملئون منه قربهم وأدواتهم، كما سيرد بطرقه إن شاء اللَّه.(4/201)
وأما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق وجازه بأصحابه
فقد ورد أن بين السماء والأرض بحرا مكفوفا، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط، فعلى هذا يكون ذلك البحر قد انفلق لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جاوزه ليلة الإسراء، وذلك أعظم وأفخم من انفلاق بحر القلزم لموسى عليه السلام.
وقد أوتي نظير ما أوتى موسى من ذلك: أن العلاء بن الحضرميّ رضي اللَّه عنه، لما كان بالبحرين واضطر إلى عبور البحر، فعبر هو ومن معه من المسلمين، ولم يبتل لهم ثوب ببركة اتباعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كما سيأتي ذكره إن شاء اللَّه بطرقه.
وأما بياض يد موسى عليه السلام من غير سوء- وهو النور- فنظيره لنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أنه نور ينقل في الأصلاب، كما مرّ أنه كان نورا في جبهة أبيه عبد اللَّه ابن عبد المطلب.
ولما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسيّ يدعو قومه إلى الإسلام، دعي له فسطع نور بين عينيه فقال: يا رسول اللَّه! أخاف أن يقولوا مثله؟ فتحول النور إلى رأس سوطه، وكان كأنه شمعة [مضيئة] [ (1) ] آية للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، فكانت كاليد البيضاء، وصارت كعصا موسى التي ذكر في الأخبار أنها كانت تضيء.
وأما تفجير الماء من يده صلّى اللَّه عليه وسلم فهو بياض معنوي، فأيّ يد بيضاء أغنى غناء وأبيض ماء من يد كان البحر في الإحسان دونها، والسحب تضاهي معينها؟
وقد ذكر أيضا أن عصا موسى عليه السلام هزم بها الألوف من قوم فرعون، وقد أتى اللَّه تعالى نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أعجب من ذلك،
إذ تناول يوم حنين كفا من تراب أو حصى، ورمى به في وجوه هوازن، وقال: شاهت الوجوه،
فلم يبق أحد منهم إلا أصاب عينه شيء من ذلك، وولوا منهزمين.
وكان من كرامة موسى المناجاة، ولكنها عن ميعاد واستعداد، وكرامة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم بالمناجاة كانت على سبيل المفاجأة، بدليل
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: (بينا أنا) [ (2) ] .
وأما
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] بداية كثير من الأحاديث النبويّة.(4/202)
قوله: فرج سقف بيتي، ولا أبلغ في المناجاة من ذلك، فقد حمل عنه صلّى اللَّه عليه وسلم ألم الانتظار كما حمل عنه ألم الاعتذار في قول موسى عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [ (1) ] . ولا شك أن في منحه هاتين الكرامتين مزيد اختصاص وأجل كرامة.
وقد أتى موسى إلى فرعون بالعذاب الأليم، من الجراد والقمل والضفادع والدم، فقد أرسل اللَّه سبحانه على قريش بتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الدخان، فكان آية بينة، ونعمة بالغة، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [ (2) ] . ودعا رسول اللَّه على قريش فابتلوا بالسنين، وسيأتي ذلك إن شاء اللَّه بطرقه.
وقد أنزل اللَّه تعالى على موسى وقومه المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، وقد أتى اللَّه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أعظم من ذلك، فإن المن والسلوى رزق رزقهم اللَّه كفاهم به السعي والاكتساب له، وقد أحل اللَّه لنبينا وأمته الغنائم التي [كانت] [ (3) ] محرمة على من قبلهم، وجعلها منة باقية لهم إلى يوم القيامة، وأي قدر للمنّ والسلوى في جنب غنائم كسرى وقيصر، والجلالقة والقوط والقبط وغيرهم ممن غنم المسلمون أموالهم وديارهم، وسبوا نساءهم وذراريهم، ومع هذا كله فإن اللَّه تعالى أعطى أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من جنس ما أعطى موسى وقومه من ذلك، فقذف لهم البحر لما كانوا مع أبي عبيدة في سرية- وقد أصابتهم المجاعة- حوتا يقال له: العنبر، أكلوا منه، وائتدموه نصف شهر بلا سعي ولا طلب.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلم يشبع النّفر الكثير من الطعام القليل واللبن اليسير، حتى يصيرون شباعا رواء. وكان موسى عليه السلام تنقلب له عصاه ثعبانا تتلقف ما صنعت السحرة، حتى استغاث فرعون بموسى وأخيه رهبة منه وفرقا. وقد أعطى نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أخت هذه الآية بعينها، [وهي] [ (4) ] أن جعل أبا جهل فرعون هذه الأمة احتمل حجرا، وأقبل يريد أن يرضخ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة، وقد عدت قريش ينتظرون ما يصنع، فلما سجد صلّى اللَّه عليه وسلم، احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه،
__________
[ (1) ] طه: 84.
[ (2) ] الدخان: 10- 11.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.(4/203)
حتى إذا دنا منه رجع مبهوتا منتقعا لونه من [هول] ما قد يبست يداه على حجره، فلما سأله قومه ما له قال: لما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل. لا واللَّه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
وقد اختار موسى عليه السلام سبعين رجلا من قومه لينفذوا معه إلى ربه تعالى، فلما صاروا في البرية غلب عليه- عليه السلام- روح القرب، فأسرع إلى ربه وترك قومه، فقال له تعالى:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى * قالَ هُمْ [أُولاءِ] [ (1) ] عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [ (2) ] ، فعبّر عليه السلام عن قصده في العجلة بطلب رضى اللَّه تعالى.
ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، أعظم اللَّه شأنه في آيتين، أعلمه فيهما رضاه عنه، وأعطاه سؤله ومناه من غير سؤال منه في ذلك ولا رغبة تقدمت منه، فقال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [ (3) ] ، وقال تعالى:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [ (4) ] ، فمنحه اللَّه رضاه، وأعطاه مناه، في جميع ما يهواه ويتمناه، وغيره من الأنبياء سألوا وطلبوا رضا مولاهم، ومع ذلك فقد خصه اللَّه تعالى مع الرضا بالرحمة والرأفة، فقال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [ (5) ] ، وكان رقيق القلب صلّى اللَّه عليه وسلم فأمر اللَّه تعالى موسى بالملاينة لفرعون لما كان عليه من الغلظة، فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [ (6) ] ، فذكر تعالى الملاينة، وأمر محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بضدّ ذلك فقال تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ (7) ] ، لما خصّه به من الرحمة والرأفة واللين، كما قال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (8) ] .
وقد أكرم اللَّه تعالى موسى بأن قال له: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [ (9) ] ، قال بعضهم: أحببت إليك عبادتي. وقال آخر: جعل اللَّه بين عينيه نورا لا ينظر إليه أحد إلا أحبه. وقيل: أسكنت بين عينيك ملاحة تسبى بها من رأيته. وقد أوتي نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من نظائر هذه الكرامة أشياء منها: أن اللَّه تعالى أقسم بالضحى والليل إذا سجى، أنه ما ودعه وما قلاه.
__________
[ (1) ] تكملة سياق الآية.
[ (2) ] طه: 83- 84.
[ (3) ] البقرة: 144.
[ (4) ] الضحى: 5.
[ (5) ] آل عمران: 159.
[ (6) ] طه: 44.
[ (7) ] التوبة: 73، التحريم: 9.
[ (8) ] التوبة: 128.
[ (9) ] طه: 39.(4/204)
ومنها أنه تعالى افترض على خلقه اعتقاد محبته صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جعل ذلك منهاجا إلى طاعته تعالى، ومفتاحا للقربة إليه، وسبيلا إلى الفوز بغفرانه ورحمته. قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ (1) ] ، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [ (2) ] ، وكيف لا يكون معظما مفضلا على جميع أنبياء اللَّه ورسله، وقد أقسم تعالى بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (3) ] .
قال أبو نعيم: حدثنا سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن جندب قال:
«اشتكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل اللَّه تعالى: وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [ (4) ] ، أي لم أتركك ولم أبغضك، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [ (5) ] .
وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثني هارون قال: حدثنا جعفر، حدثنا ثابت قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: موسى صفيّ اللَّه وأنا حبيب اللَّه.
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] النور: 54.
[ (3) ] الحجر: 72.
[ (4) ] الضحى: 1- 3.
[ (5) ] الضحى: 4- 5.(4/205)
وأما هارون عليه السلام
فإن اللَّه تعالى وصفه بفصاحة اللسان فقال: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً [ (1) ] ، وقد علم أن لغة العرب أفصح اللغات، ولنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم من الفصاحة ما يعرف من مارس كلامه، أنه أوتي فيها [أعلى] مقام، لم يصل إليه أحد من قبله وقد شارك هارون مع ذلك فيما ناله من بني إسرائيل، فإنه لما خلف موسى عليه السلام فيهم عند ما توجه لميقات ربه، افترقوا وتحزّبوا ونقضوا العهد، واستضعفوه وهمّوا بقتله، وعبدوا العجل فلم يقبل توبتهم حتى قتلوا بعضهم بعضا، كما قصّ اللَّه تعالى ذلك في كتابه العزيز [ (2) ] ، فلقى نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم نظير ذلك من بني قريظة والنضير وقينقاع، فإنّهم نقضوا العهد وحزّبوا الأحزاب، وجمعوا وحشدوا، وأظهروا له العداوة بعد ما هموا بإلقاء الرحى عليه، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه، فقام صلّى اللَّه عليه وسلم بحربهم، وقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وقسم أموالهم، فكان نظير استضعافهم لهارون استضعافهم للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الأحزاب، حتى لقد قال قائلهم: محمد يخندق على نفسه وأصحابه، ولا يستطيع أحدهم الخروج إلى الغائط، وهو يعدهم بملك كسرى وقيصر، فكان المسلمون كما قال تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [ (3) ] ، حتى أيده اللَّه بجنوده، وجعل العاقبة له على اليهود والأحزاب، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب [ (4) ] .
__________
[ (1) ] القصص: 34.
[ (2) ] في سورتي الأعراف وطه.
[ (3) ] الأحزاب: 10.
[ (4) ] راجع أبواب المغازي.(4/206)
وأما داود عليه السلام
فخصه اللَّه تعالى بتسبيح الجبال معه، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [ (1) ] ، وقال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ (2) ] ، فسخر اللَّه تعالى الجبال والطير له بالتسبيح، وقد أعطى اللَّه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك من جنسه وزيادة، فسبّح الحصا في كفه، وفي يد من صدّقه واتبعه رفعة لشأنه وشأن مصدقيه، وقد سخرت الطير والبهائم العظيمة كالإبل والسباع العادية الضارية لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم، كسجود البعير الشارد له، والذئب الّذي نطق بنبوته، وقد همهم الأسد لسفينة مولاه لما مرّ به ودله على الطريق، وأخذ الطائر خفه صلّى اللَّه عليه وسلم وارتفع به ثم ألقاه، فخرج منه أسود سالخ!! وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
وألين لداود عليه السلام الحديد، حتى سرد منه الدروع السوابغ، وقد لانت الحجارة وصمّ الصخور للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، فعادت له غارا استتر به من المشركين يوم أحد [و] [ (3) ] ، مال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم، فليّن اللَّه تعالى له الجبل حتى أدخل [رأسه] [ (3) ] ، وهذا أعجب، لأن الحديد تلينه النار، ولم نر النار تلين الحجر.
قال أبو نعيم: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس، وكذلك في بعض شعاب مكة حجر أصم استروح صلّى اللَّه عليه وسلم في صلاته إليه، فلان له الحجر حتى أثّر فيه بذراعيه وساعديه، قال أبو نعيم: وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه، ولانت الصخرة ببيت المقدس ليله أسري به كهيئة العجين، فربط [بها] [ (3) ] دابته البراق، ويلمسونه الناس إلى يومنا هذا باق. قاله أبو نعيم.
وكان داود عليه السلام حسن الصوت، بحيث بات عدة ممن سمعه وهو يقرأ الزبور على ذكر، وقد شبه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري رضي اللَّه تعالى
__________
[ (1) ] سبأ: 10.
[ (2) ] ص: 17- 19.
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان.(4/207)
عنه بمزامير داود، فقال: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود، هذا، وما بلغ أبو موسى الحد، فإنه قال: لو علمت أنك تسمع لحبرته تحبيرا، فدل على أنه كان يقدر أن يتلو بنجي من ذلك.
وأما الموت من موعظة داود عليه السلام، فإن القوة في الأمة المحمدية أعظم منها في بني إسرائيل، فلهذا تفاوت حالها عند سماع الموعظة وعند تركها، ولذلك لم يمت داود لأنه كان قويا وهو الواعظ. وقد قال بعض الأمة المحمدية: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا [أعلى] [ (1) ] ما بقوة مقامه.
وأمر آخر، وهو أن خلقا من هذه الأمة ماتوا في مجالس الوعظ كما هو معروف في كتب الأخبار، وقد تقرر أن كل كرامة لولي في علم أو عمل، فهي بالنسبة إليه كرامة، وإلى الرسول معجزة، وقد جاء في الحديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.(4/208)
وأما سليمان عليه السلام
فإن اللَّه تعالى وهب له ملكا لا ينبغي لأحد من [بعده] [ (1) ] ، وقد أعطى اللَّه نبيّنا صلّى اللَّه عليه وسلم خزائن الأرض، فأباها وردّها اختيارا للنقل من الدنيا، واستصغارا لها بحذافيرها، وآثر مرتبته ورفعته عند ربه تعالى على ما يغني، ورضي بالقوت اليسير، فكان له من ذلك أعظم ما لسليمان لعلوّ مقامه.
وقد سخر اللَّه تعالى لسليمان الريح، فسارت به في بلاد اللَّه، وكان غدوّها شهرا ورواحها شهرا، فأعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم أعظم من ذلك فأكثر، لأنه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وخرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء، ورأى عجائبها ووقف على الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته صلّى اللَّه عليه وسلم، وصلّى بالأنبياء وبملائكة السموات، وخرق الحجب، ودلى له الرفرف الأخضر، وأوحى إليه ربه تعالى ما أوحى، وأعطاه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، وعهد إليه أن يظهر دينه على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها إلا دينه، أو يؤدون إليه وإلى أهل دينه الجزية عن صغار، وفرض عليه الصلوات الخمس.
ولقي موسى عليه السلام وما له [من] [ (1) ] مراجعة ربه في التخفيف عن أمته، وهذا كله في ليلة واحدة، فأيما أعجب وأكثر من هذا، أو الريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك فإن الصّبا سخّرت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم وكانت من جملة أجناده، ولهذا قال: نصرت بالصّبا، ومع ذلك فإن سليمان سأل ذلك فقال: رَبِّ [اغْفِرْ لِي وَ] [ (2) ] هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ (3) ] ، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم حباه اللَّه تعالى بذلك من غير تعرض منه له، وأين مقام من [يعطي] [ (1) ] حسب سؤاله، من مقام من تأتيه المنح الإلهية مخطوبا لها ومسئولا بها؟
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] زيادة للسياق لتصويب النّص.
[ (3) ] ص: 35.(4/209)
وقد خص اللَّه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم بأن جعل الرعب يسير بين يديه مسيرة شهر، وأين غدو الريح بسليمان شهرا من تقدم الرعب بين يدي المصطفى شهرا، وقد سخر اللَّه تعالى لسليمان الجن، لكنها كانت تعتاص عليه حتى يصفدها ويعذبها بالأعمال الشاقة وغيرها، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أتته الجن راغبة فيه، طائعة له، معظّمة لشأنه، مصدقة بما جاءه من ربه، مؤمنة به، متبعة له، ضارعة خاضعة، مستمدة مستمنحة منه زادها ومأكلها، فجعل لها كل روثة تصيبها تعود علفا لدوابها، وكل عظم يعود طعاما لها.
وسخرت له صلّى اللَّه عليه وسلم عظماء الجن وأشرافها التسعة، الذين قال تعالى فيهم: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [ (1) ] ، وقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [ (2) ] ، وأقبلت إليه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة الجن الألوف منها مبايعين له على الصوم والصلاة والنصح للمسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على اللَّه شططا.
فشملت بعثته ورسالته الإنس والجن، وهم لا يحصون عددا، وأين ما أعطيه سليمان من هذا، وما قدر ملكه في جنب هذا الأمر العظيم، وأين تصفيد سليمان الجن من أسر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العفريت من الجن لما تفلّت عليه، وأين المقام السليماني من المقام المحمدي، فإن سليمان كانت تخدمه الجن، ونبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم كانت الملائكة المقربون أعوانه، يقاتلون أعداءه بين يديه، ويدفعون عنه من يريده بسوء، وقد قبض أبو أسيد على الغول لما خالفته إلى سيره بسوق نمرة، حتى علمته آية الكرسي، وقبض أيضا أبو أيوب الأنصاري على الغول، وأسر معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه جنّيّا من جن نصيبين، وصارع عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه الجن لما التقيا على الماء، ومع هذا فقد ضرب جبريل عليه السلام بجناحه لما توفي النجاشي بالحبشة الجبال، حتى قام المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم هو وأصحابه فصلّى عليه وهو صلّى اللَّه عليه وسلم ينظر إليه من المدينة.
وكذلك لما توفي معاوية بن معاوية، ضرب جبريل بجناحه، ورفع له صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] الأحقاف: 29.
[ (2) ] الجن: 1- 2.(4/210)
جنازة معاوية حتى نظر إليه وصلّى عليه، وأين تسخير سليمان عليه السلام الجن يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [ (1) ] ، من تسخير اللَّه سبحانه جبريل الروح الأمين، الرسول الكريم، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [ (2) ] ، لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم حين نزل على قريش يقاتل يوم بدر، فكان عمل الجن المردة والقردة الكفرة الفسقة لسليمان في أمور الدنيا، وعمل الملائكة المقربين الكرام البررة لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم من غير استقصاء، قال تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [ (3) ] ، وقال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (4) ] ، ولم يؤيد اللَّه تعالى نبيا قبل محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بالملائكة تقاتل معه كما قاتلت يوم بدر كفاحا كقتال الناس.
قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [ (5) ] ، فلما نزلت الملائكة يوم بدر للقتال،
قال صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي بكر رضي اللَّه عنه وهو معه في العريش: أبشر يا أبا بكر، أتاك اللَّه بالنصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه ...
إلى غير ذلك مما قد أوردته بطرقه في أبوابه.
وقد كان سليمان عليه السلام يفهم كلام الطير كما في قصة الهدهد، ويفهم كلام النملة، قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [ (6) ] ، وقال تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ [ (7) ] ، وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [ (8) ] ، وقد أعطى نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك بزيادات، فكلمته البهائم والسباع، وحنّ له الجذع، ورغا له البعير، وكلمته الشجر، وسبّح الحصا في كفه، وسلم عليه الحجر والشجر، وأقر الذئب بنبوته، [ونطقت] [ (9) ] له ذراع الشاة المسمومة، وسخر الطير لطاعته، وشكت إليه الظبية، وكلمه الضّب، وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
__________
[ (1) ] سبأ: 13.
[ (2) ] التكوير: 20.
[ (3) ] آل عمران: 124.
[ (4) ] الأنفال: 9.
[ (5) ] الأنفال: 12.
[ (6) ] النمل: 20.
[ (7) ] النمل: 18.
[ (8) ] النمل: 16.
[ (9) ] زيادة للسياق.(4/211)
وأما يحيى بن زكريا عليهما السلام
فإنه أوتي الحكم صبيا، وكان يبكي من غير ذنب، ويواصل الصيام، وقد أعطى اللَّه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أفضل من هذا، فإن يحيى لم يكن في قوم يعبدون الأوثان والأصنام من دون اللَّه، ولا كان في عصر الجاهلية، بل كان في بني إسرائيل أهل الكتاب، وبيت النبوة، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلم كان في عصر الجاهلية، ما جاءهم قبله من نذير، يعبدون الأوثان والأصنام والطواغيت، فأوتي من بينهم الفهم والحكم صبيا بين حزب الشيطان وعبدة الأوثان، فلم يرغب لهم في صنم قط، ولا شهد معهم عيدا، ولم يسمع منه كذب قط، وكانوا يعدونه صدوقا أمينا حليما رءوفا، وكان يواصل الأسبوع صوما ويقول: إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني، وكان يبكي حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وقد أثنى اللَّه تعالى على يحيى فقال:
وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [ (1) ] ، والحصور الّذي لا يأتي النساء، وذلك أن يحيى كان نبيا ولم يكن مبعوثا إلى قومه، وكان منفردا [بمراعاة] [ (2) ] ، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم كان رسولا إلى كافة الناس ليقودهم [ويقربهم] [ (3) ] إلى اللَّه تعالى، قولا وفعلا، [فأقام] [ (4) ] اللَّه تعالى به الأحوال المختلفة، والمقامات الغالبة المتفاوتة في تصرفاته، ليقتدي الخلق كلهم بأفعاله وأوصافه.
فاقتدى به الصديقون في حالاتهم، والشهداء في مراتبهم، والصالحون في اختلاف أحوالهم، ليأخذ العالي والداني والمتوسط من أفعاله قسطا وحظا، إذ النكاح من أعظم حظوظ النفس وأبلغ الشهوات، فأمر به صلّى اللَّه عليه وسلم وحث عليه لما جبل اللَّه تعالى عليه النفوس البشرية من توقان النفس وهيج الشهوة المطبوع عليها النفس.
وأباح ذلك ليتحصّنوا به من السفاح، فشاركوه صلّى اللَّه عليه وسلم في ظاهره، وشملهم الاسم معه، وانفرد صلّى اللَّه عليه وسلم عن مساواته معهم،
فقال: تزوجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم،
فإذا غلب عليه وعلى قلبه ما أفرده ألحق به من
قوله: وجعلت قرة عيني
__________
[ (1) ] آل عمران: 39.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (4) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.(4/212)
في الصلاة،
[و] [ (1) ]
تلطف صلّى اللَّه عليه وسلم في مرضاتهن فقال لعائشة: ائذني لي أتعبد في هذه الليلة،
فقالت: إني لأحب قربك، وهواك أحب إليّ.
فقام إلى مصلاه إلى الصباح راكعا وساجدا باكيا، وربما خرج إلى البقيع فتعبد فيه وزار أهله، وربما قام ليلة ثانية إلى الصباح يرددها، فكانت نسبته عن أحكام البشرية ودواعي النفس ممحوة عند انشقاق صدره، لما حشوه بالإيمان والحكمة الّذي وزن أمته فرجحهم، هذا مع ما أنزل اللَّه تعالى من السكينة عليه وعلى قلبه المقدس صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/213)
وأما عيسى عليه السلام
فإن اللَّه تعالى خصه بإرسال الروح الأمين إلى أمه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[ (1) ] ، ليهب لها غلاما زكيا، فحملت به، وأنه نطق في المهد، وقد أعطى اللَّه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم ضروبا من هذه الآيات، فبشرت به أمه آمنة وهي حامل به، وظهرت لها الآيات عند وضعها كما تقدم ذكره، وقد قال تعالى عن عيسى: وَرَحْمَةً مِنَّا [ (2) ] .
ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم وصفه اللَّه بأعم الرحمة وأكملها، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (3) ] ، فمن صدقه وآمن به فاز برحمته في الدارين، ومن لم يصدقه أمن في حياته مما عوقب به المكذبون للرسل من الأمم من الخسف والمسخ والقذف، [وأنقذ] [ (4) ] اللَّه ببعثته من آمن من الضلال، وانتعشوا بالإيمان من الدمار، وأمنوا به من البوار، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [ (5) ] ، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [ (6) ] ، فكان صلّى اللَّه عليه وسلم رحمة مهداة. وقال تعالى عن عيسى. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [ (7) ] وقد أوتي نبينا ما يجانس ذلك وأكثر منه وأفضل.
قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [ (8) ] ، وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [ (9) ] ، وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ (10) ] يعني القرآن شرف لك ولهم، وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [ (11) ] ، ويقول تعالى للأنبياء: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [ (12) ] ، إلى غير ذلك من الآيات، وكان عيسى يخلق من الطين كهيئة الطير
__________
[ (1) ] مريم: 17.
[ (2) ] مريم: 21.
[ (3) ] الأنبياء: 107.
[ (4) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (5) ] آل عمران: 164.
[ (6) ] الأحزاب: 45.
[ (7) ] آل عمران: 48.
[ (8) ] الحجر: 87.
[ (9) ] النحل: 44.
[ (10) ] الزخرف: 44.
[ (11) ] سبأ: 28.
[ (12) ] إبراهيم: 41.(4/214)
فيكون طيرا بإذن اللَّه، وكان لنبينا [صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] نظير ذلك.
فإن عكاشة انقطع سيفه يوم بدر، فدفع له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قضيبا من حطب، قال: قاتل بهذا، فعادل سيفا في يده شديد المتن أبيض الحديدة طويل القامة فقاتل به، حتى فتح اللَّه على المسلمين، ثم لم يزل يشهد به المشاهد إلى أيام الردّة.
فالمعنى الّذي أمكن به نبينا أن تصير الخشبة حديدا يبقى على الأيام، هو المعنى الّذي خلق به عيسى من الطين كهيئة الطير، بل ذلك أعظم وأبدع، فإنه لم يعهد قط أن الحديد يخرج من الخشب، وقد عهد أن الحيوان يتكون من الطين.
وأيضا فإن هذا الحديد القاطع الّذي تولد من الخشب بقي أعواما كثيرة، ولم ينقل أن الطير الّذي خلقه عيسى من الطين بقي لذلك، ومع هذا فقد سمع التسبيح من الحجارة الصم في يد نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم، وشهدت الأشجار والأحجار له بالنّبوّة، واجتمعت الأشجار والتزمت ثم افترقت عن أمره لها، وكل هذا يجانس إحياء الموتى، وطيران الطيور من الطين كهيئة الطير.
وقد كان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص، ولنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، فقد ردّ عين قتادة بعد ما ندرت وسالت على خده، ونفث في عيني رجل قد ابيضتا فأبصر، وبصق في عين رفاعة بن رافع وقد فقئت عينه بسهم فلم يؤده منها شيء، وتفل في عين على رضي اللَّه عنه وهو أرمد فبرئ من ساعته وما اشتكى عينيه بعد، ومسح صلّى اللَّه عليه وسلم بيده على عدة من المصابين والمرضى فبرءوا.
وقد كان عيسى يحي الموتى بإذن اللَّه، ولنبينا من هذا المعنى ما هو أعجب وأغرب، فقد أحيا شاة جابر، وأحيا اللَّه تعالى لامرأة ولدها ببركته، [وكلمته] [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلم ذراع الشاة [المسمومة] [ (2) ] ، وتكليم الذراع أغرب، لأن حياة العضو المبان وتكليمه أعجب من حياة الذات الكاملة، لأن الحياة عهدت منها، وقد تكلم جماعة بعد الموت بخلاف العضو من الحيوان، لا سيما بعد طبخه بالنار.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.(4/215)
وقد كان عيسى يخبر بالغيوب، وينبئ قومه بما يأكلون في بيوتهم ويدخرونه، ونبينا صلّى اللَّه عليه وسلم له في هذا المقام الّذي لا فوقه: فإن عيسى إنما كان يخبر بما كان من وراء جدار، ونبينا كان يخبر بما كان منه بمسيرة شهر وأكثر، كإخباره بموت النجاشي، وبقتل زيد وجعفر وابن رواحة في مؤتة،
وكان يأتيه السائل ليسأله عن شيء فيقول له: إن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه أو تسأل فأخبرك؟ فيقول:
لا، بل أخبرني فيخبره بما في نفسه.
وأخبر عمير بن وهب الجمحي بما تواطأ عليه هو وصفوان بن أمية لما قعدا بمكة في الحجر في الفتك به صلّى اللَّه عليه وسلم بعد مصاب أهل بدر.
وأخبر عمه العباس لما أسر ببدر وأراد أن يفاديه فقال: ليس لي مال، فقال:
أين مالك الّذي أودعته أم الفضل لما أردت الخروج وعهدت إليها فيه؟
وبعث عليا والزبير إلى سارة، وقد حملت كتاب حاطب إلى أهل مكة فأخرجاه منها، وقال لعبد اللَّه بن أنيس لما بعثه إلى الهذلي بوادي عرفة: إذا رأيته هبته، وأطلعه اللَّه في منصرفه من تبوك على موضع ناقته وقد ضلت.
وأخبر بموت كسرى في وقت قتله، وأخبر صلّى اللَّه عليه وسلم بأشياء قبل كونها فوقعت كما قال، وبشّر بما يجري على أمته بعد موته، فكان مثل ما وعد به، فمما أخبر بكونه:
قول اللَّه تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [ (1) ] ، فكفاه اللَّه ووفاه ما وعده من نصره، وأباد المستهزءين.
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [ (2) ] ، فكان كما وعده اللَّه، غلبوا وقتلوا، ويحشرون إلى النار.
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [ (3) ] ، فكان كما وعده.
__________
[ (1) ] البقرة: 137.
[ (2) ] آل عمران: 12.
[ (3) ] آل عمران: 139.(4/216)
وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [ (1) ] ، فهزم اللَّه المشركين يوم بدر.
وقوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [ (2) ] ، وقواه بلا مال ولا عشيرة، حتى ملكت أمته المشرق والمغرب.
وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [ (3) ] ، فدخلوا مكة آمنين.
وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (4) ] ، فكان كذلك.
وقوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [ (5) ] فلعلمه بكونه ووقوعه، حدّد الوقت فقال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (6) ] ، وأكده بقوله: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [ (7) ] .
وقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (8) ] ، يعني فتح مكة، يبشر بفتح مكة لعظم قدرها مثل كونه، وبدخول الناس في دينه أفواجا، فكان [كذلك] [ (9) ] .
وقدمت وفود العرب بإسلام قومهم وانقيادهم لدينه، فلم يمت صلّى اللَّه عليه وسلم حتى طبق الإسلام اليمن إلى شجر العمان وأقصى نجد العراق، بعد تمكنه بالحجاز، وبسط رواقه بالغور مجرى حكم الرسول على أهل مكة والطائف وعمان والبحرين واليمن واليمامة.
وقوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [ (10) ] ، يعني:
العجم وفارس، لقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [ (11) ] ، يعني فارس والروم، وكان كذلك ملكها اللَّه أمته صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [ (12) ] ،
__________
[ (1) ] الأنفال: 7.
[ (2) ] الحج: 40.
[ (3) ] الحج: 59.
[ (4) ] النور: 55.
[ (5) ] الروم: 1- 3.
[ (6) ] الروم: 3- 4.
[ (7) ] الروم: 6.
[ (8) ] النصر: 1.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] الفتح: 21.
[ (11) ] الأحزاب: 27.
[ (12) ] الفتح: 16.(4/217)
هم أهل فارس والروم، وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة فقاتلهم أبو بكر ثم عمر رضي اللَّه عنهما.
ولم يختلف أحد من أهل القبلة في أن المخلفين من الأعراب لم يدعوا إلى شيء من الحروب بعد توليهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى دعوا في زمن أبي بكر إلى قتال أصحاب مسيلمة، ووعد صلّى اللَّه عليه وسلم بفتح بيضاء المدائن وأخذ كنوز كسرى،
وقال لعديّ بن حاتم: لا يمنعنك ما ترى بأصحابي من الخصاصة، فليوشكن أن تخرج الظعينة من الحيرة بغير جوار، فأبصر ذلك عدي بعينه.
وتزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بأم حبيبة، وأسلم أبوها أبو سفيان، فزالت العداوة وآلت إلى مودة وصلة، وأطلعه اللَّه تعالى على ما أكنه في الصدور، وأضمر به القلوب، فقال تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [ (1) ] .
وقال: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [ (2) ] ، يعني من بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [ (3) ] ، فأعلم اللَّه نبيه بذلك، وقال: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [ (4) ] .
وقال تعالى: وَيُحِبُّونَ [أَنْ يُحْمَدُوا] [ (5) ] بِما لَمْ يَفْعَلُوا [ (6) ] ، وذلك أن اليهود كتموا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما سألهم عنه، وأخبروه بغير الحق، وأوهموه صدقهم ليستحمدوه بذلك، فأعلمه اللَّه بخبرهم.
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [ (7) ] ، وذلك أن اليهود قالوا: لإخوانهم المنافقين في السير يوم الخندق: على ما تقتلون أنفسكم؟ [هلم] [ (8) ] إلينا، ما ترجون من محمد؟ واللَّه ما تجدون عنده خيرا.
__________
[ (1) ] المائدة: 13.
[ (2) ] البقرة: 76.
[ (3) ] البقرة: 76.
[ (4) ] البقرة: 77.
[ (5) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.
[ (6) ] آل عمران: 88.
[ (7) ] الأحزاب: 18.
[ (8) ] زيادة للسياق.(4/218)
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ [ (1) ] ذلك بأنهم قالوا لبني قريظة والنضير:
سنطيعكم في بعض الأمر، فأخرج اللَّه أسرارهم لنبيه. ونظائر ذلك مما أطلع اللَّه عليه نبيه مما أسرّه اليهود والمنافقون في القرآن كثير.
وهذا مما لا يجوز أن يكون وقوعه بطريق الاتفاق، ولا هو مما لا تصل قدر البشر إلى معرفته، فلم يبق إلا أن يكون أطلع اللَّه نبيه عليه، مما أسره اليهود والمنافقون وأعلمه به، وأين إعلام المسيح أصحابه بما يأكلون، وإخباره لهم بما [يدخرون] [ (2) ] ، من إعلام الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم هذه الحوادث العظيمة، والغيوب البديعة قبل كونها؟
قال الحافظ أبو نعيم: ووجه الدلالة في إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم بالغيوب على صدق نبوته، وثبوت رسالته، أن مولده ومنشأه في قوم أميين، لم يتعاظموا علما بالنجوم، ولا حكما بالطوالع والكواكب، حسب ما يستنبطه المنجمون، ولا عرف هو بطلب شيء من ذلك في بلده ولا في أسفاره، وكانت الكهانة بطلت بمبعثه، ولم يكن له علم بالغيوب، إلا بوحي يأتيه به جبريل عن اللَّه تعالى.
ولو كان في قومه وبلده المنجمون والمستنبطون وهو لم يخالطهم، ولا عرف بالأخذ عنهم، وأخبر ما أخبر به من الغيوب لكان ذلك دلالة على نبوته ومعجزة له إذا أخفى ذلك على عشيرته وخلطائه لمفارقة تلك العادات، وليس بجائز أن يكون إخباره مأخوذا عن الشياطين مع ما جاء به من سبّهم ولعنهم، فثبت بهذا أن الإخبار فيما أخبر به من الغيوب عن اللَّه تعالى.
وأما ما اعترض به بعض الملاحدة والكفرة بأنه لم يأت بآية قاطعة محتجا بقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [ (3) ] ، وما أشبهه من الآي، فكيف وقد ورد القرآن بقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
__________
[ (1) ] محمد: 25- 26.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الإسراء: 59.(4/219)
[ (1) ] ، وقوله: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [ (2) ] ، وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [ (4) ] الآية، وقال لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً [ (5) ] .
وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (6) ] الآية، وقال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [ (7) ] ، وقال: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [ (8) ] ، وقال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى [ (9) ] ، وقال:
الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (10) ] ، وما في معناه من الآي.
وإنما منعوا الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بأن تأتهم الملائكة عيانا فيقولون: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ (11) ] ، فأنزل اللَّه تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [ (12) ] ، وقولهم:
لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذير* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [ (13) ] ، وما في معناه.
وأنزل اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (14) ] ، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يعرفهم إنما الآيات عند اللَّه، ولا يرسلها إلا بما يعلم فيه الصلاح، وأن شهوات الكفار والجهال لا نهاية لها، وفيما أنزله من الكتاب المبني على الغيوب كفاية مع ما كان اللَّه تعالى يظهره عليه من الآيات سفرا وحضرا.
__________
[ (1) ] القمر: 1.
[ (2) ] الجن: 9.
[ (3) ] البقرة: 23.
[ (4) ] البقرة: 24.
[ (5) ] الجمعة: 6- 7.
[ (6) ] النور: 55.
[ (7) ] الأنفال: 9.
[ (8) ] الشعراء: 197.
[ (9) ] طه: 133.
[ (10) ] الروم: 1- 4.
[ (11) ] الحجر: 7.
[ (12) ] الحجر: 8.
[ (13) ] الفرقان: 7- 8.
[ (14) ] العنكبوت: 51.(4/220)
واستفاضت الأخبار به بنقل الأمناء العدول من جهات كثيرة مختلفة، يستحيل فيها على مضي السنين وتطاول المدة، واختلاف همم النقلة ودواعيهم [التواطؤ] [ (1) ] عليها، فحصلت بحمد اللَّه الدلائل خاصا وعاما.
والقرآن هو الحجة الباقية بقاء الدهر، التي عجزت العرب مع خصاصتهم وبلاغتهم عن معارضته، مع ما يرجعون إليه من العقول الراجحة، [والافهام] [ (2) ] الكاملة، فليس يخلو تركهم معارضته من أحد أمرين: إما عجزا عنها أو قدرة عليها، فإن كان عجزا فهو ما يقوله، وإن كانوا قادرين على معارضته فلم يعارضوا لصرفة، صرفهم اللَّه عنها، فهي أيضا معجزة، كما لو أن مدعيا ادّعى النبوّة فقال:
[آيتي] [ (3) ] أنكم لو أردتم الكلام يومكم هذا لم يمكنكم، فلم يمكنهم الكلام، كان ذلك معجزة له، وآية للصرف التي صرفهم اللَّه عن النطق والكلام، وقد كان أمره صلّى اللَّه عليه وسلم في الانتفاء عن علم الغيب، و [براءته] [ (4) ] من ادعائه ظاهرا منتشرا، وأنه لا يعلم منه إلا ما علمه اللَّه وأنبأه.
وذكر من حديث مسدد قال: أخبرنا بشر بن المفضل، أخبرنا خالد بن ذكوان، حدّثتنا الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدخل عليّ صبيحة بني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلن جويرات لنا يضربن بالدف من أمامي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في الغد؟ فقال: دعي هذه وقولي [الّذي] [ (5) ] كنت تقولين.
ومن حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مرّ بناس من الأنصار في عرس لهن يتغنين:
وأهدى لها [كبشا] [ (6) ] تبجح في المربد ... وزوجك في النادي يعلم ما في غد
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يعلم ما في غد إلا اللَّه عزّ وجلّ،
فكانوا أنصاره وأعوانه،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] زيادة للسياق.(4/221)
فمدحهم اللَّه بذلك في كتابه، فقد كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عدة حواريين، منهم الزبير.
وقال: لكل نبي حواري، وحواري الزبير،
على أن حواري عيسى كان مبلغهم في طاعته أن قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [ (1) ] ؟
وكان لحواري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في خلوص الطاعة وصحة النية وحسن المؤازرة، ومجاهدة النفوس في نصر نبيهم، وتبجيلهم وتعظيمهم له، ومعرفتهم بجلالته ما تقدم ذكره، وسيأتي إن شاء اللَّه، لأن اللَّه تعالى امتحن قلوبهم للتقوى، فكانوا لا يحدّون النظر إليه إعظاما له، ولا يرفعون أصواتهم عليه إجلالا له، ولا يتنخم نخامة إلا ابتدروها يتمسحون بها، ولا سقطت شعرة إلا تنافسوا فيها، حتى إن معاوية أوصى أن يدفن معه شعر من شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وشرب عبد اللَّه بن الزبير محجمة من دمه، وكان إذا حضر من [جفاة] الأعراب من لا يوقره استأذنوه في قتله، وقد ذكرت ذلك كله بطرقه.
وقد كان عيسى عليه السلام كثير السياحة، جوابا للقفار والبراري فقد كان لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك ما هو أعظم وأفخم، فإنه ساح في الأرض بأصحابه مجاهدا أعداء اللَّه، فاستنقذ في عشر سنين ما لا يعدّ من حاضر وباد، وافتتح القبائل الكثيرة، فأين سياحة عيسى ليخلو بعبادة ربه، من سياحة محمد المبعوث بالسيف المصلت على أعداء اللَّه لإقامة دين اللَّه؟ فكان لا يداري لغيره بالكلام، ويجاهد في اللَّه ولا ينام إلا على دم، ولا يستقر إلا متجهزا لقتال الأعداء، أو باعثا إليهم سرية في إقامة الدين وإعلاء الدعوة وإبلاغ الرسالة صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقد كان عيسى زاهدا يتقنّع من دنياه باليسير، ويرضيه منها القليل، فخرج من الدنيا كفافا لا له ولا عليه، وقد كان لنبينا من مقام الزهد ما لا فوقه، فإنه كانت له ثلاث عشرة زوجة سوى سراريه، فما رفعت مائدته قط وعليها طعام، ولا شبع من خبزين ثلاث ليال متتابعة، وكان يربط الحجر على بطنه.
__________
[ (1) ] المائدة: 112.(4/222)
وكان لباسه الصوف، وفراشه إهاب شاة، ووسادته من أدم، حشوها ليف، فيأتي عليه الشهران والثلاثة فلا توقد في بيته نار لمصباح، وتوفي ودرعه مرهونة، ولم يترك صفراء ولا بيضاء، هذا وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض، ووطئت له البلاد، ومنح الغنائم الكثيرة، فقسمها حتى أنه فرّق في يوم واحد ثلاثمائة ألف، وأعطى جماعة كل رجل مائتين من الإبل، وأعطى ما بين جبلين من الغنم،
وكان يأتيه السائل فيقول: والّذي بعثني بالحق ما أمس في آل محمد صاع من شعير ولا من تمر،
وكان يقول: أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت، وإذا شبعت حمدت.
وقد كان عيسى يتقلب في حياطة اللَّه له، ومدافعته عنه المكر والغوائل بحيث كان يمسي ويصبح آمنا ساكن النفس، قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ [ (1) ] الآية.
وكذلك نبينا عصمه اللَّه، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (2) ] ، فكان يبرز وحده في سواد الليل وبالأسحار إلى البقيع والأودية، ومعه اليهود أعداؤه المجاهرون بعداوته في بلد واحد، فلم يصلوا منه إلى أي شيء، وهو يقتلهم ويسبي ذراريهم ونساءهم.
ودفع اللَّه تعالى عنه كيد قريش وهو بمكة، وأنبت على الغار له شجرة وأقام الحمام فعشش عليه، والعنكبوت فنسج على بابه، وقد رفع اللَّه عيسى إلى السماء، ولنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك [أعلى] [ (3) ] مقام فإنه عرض عليه عند وفاته البقاء فاختار ما عند اللَّه وقربه تعالى على البقاء في الدنيا، فقبضه اللَّه تعالى ورفع روحه، ولو اختار البقاء، لكان كعيسى والخضر وإلياس عند اللَّه في سماواته، وفي عالمه في أرضه، لأن عيسى عليه السلام مقيم في السماء والخضر وإلياس يتجولان في السموات والأرض على ما قيل.
ومع هذا فإن جماعة من أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم رفعوا كما رفع المسيح، وذلك أعجب،
__________
[ (1) ] المائدة: 110.
[ (2) ] المائدة: 67.
[ (3) ] زيادة للسياق.(4/223)
فرفع اللَّه عامر بن فهيرة والناس ينظرون، ودفن العلاء بن الحضرميّ لما مات في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه بأرض اليمن في أرض العدو، فخافوا أن ينبش قبره ويستخرج، فذهبوا يطلبونه لينقل من أرض العدو في يومهم الّذي دفنوه فيه، فلم يقدروا عليه ولا دروا أين ذهب به.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أخبرنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن الزهري قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العين، فرقيت فيها فحللت خبيبا، فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد، ثم التفت فلم أر خبيبا، كأنما ابتلعته الأرض، فما رئي خبيب إلى الساعة، قال أبو بكر بن أبي شيبة: وقد كان جعفر بن عون قال: عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه عن جدة.(4/224)
أمّا القرآن الكريم
فقال ابن الأنباري: سمي قرآنا لأنه جمع السور وضمّها من قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[ (1) ] ، أي إذا [ألّفنا] منه شيئا فاعمل به.
وقيل: سمي قرآنا لأن القارئ يلقنه من فيه من قولهم: ما قرأت هذه الناقة علي قط، أي ما رمت. وقال أبو زيد: قرئت القرآن فهو مقريء. وقال اللحياني:
قرأت القرآن قرءا مثل قرعا، وقراءة وقرآنا وهو الاسم.
وقال ابن دريد: من قال قران (بلا همز) جعله من قريت الشيء بعضه إلى بعض، فالقرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بوصف النكرة فهو الوصف، وإن شئت قلت: هما يجريان مجرى واحد كالعباس وابن العباس، فهو في الحالين اسم العلم.
فالقرآن الكريم حجة على الملحدين، وبيان للموحدين، قائم بالحلال المنزل، والحرام المفصل، وفصل بين الحق والباطل، يرجع إليه العالم والجاهل، وإمام تقام به الفروض والنوافل، وسراج لا يخبو ضياؤه، ومصباح لا يخمد ذكاؤه، وشهاب لا يطفأ نوره، وبحر لا يدرك غوره، ومعجز لا يزال يظفر رموزه، ومعقل يمنع من الهلكة والبوار، ومرشد يدل على طريق الجنة والنار، وهاد يدل على المكارم، وزاجر يصد عن المحارم.
ظاهره أنيق، وباطنه عميق، وهو حبل اللَّه الممدود، وعهده المعهود، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوسطى، وهو الواضح سبيله، الراشد دليله، الّذي من استضاء بصباحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنه زلّ وهوى.
وفضائل القرآن لا تستقصي في ألف قرآن، حجة اللَّه ووعده ووعيده، به
__________
[ (1) ] القيامة: 18.(4/225)
يعلم الجاهل، ويعمل به العامل، وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، بشير الثواب ونذير العقاب، وشفاء الصدور وجلاء الأمور، ومن فضائله أنه يقرأ دائما ويكتب، ويمل ولا يمل، يتجدد على الابتذال، ويزكو على الإنفاق.
والقرآن حجة اللَّه على خلقه لما اشتمل عليه من حجج التوحيد والنبوات، وغير ذلك، وهو برهان لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم، على رسالته، إذ القرآن معجز، فهو برهان على صدق من جاء به، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فالقرآن من حيث هو حجة، حجة للَّه ولرسوله، يسمى برهانا، ومن حيث هو مرشد الخلق إلى مصالح معاشهم ومعادهم، كاشف عنهم العمى، قائد لهم إلى الهدى يسمى نورا.
والقرآن أعظم معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأشرفها وأوضحها دلالة، لأن المعجزات تقع في الغالب مغايرة للوحي [المدعي] [ (1) ] ، وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه، ولا يفتقر إلى دليل أجنبي عنه كسائر الخوارق مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه.
واعلم أن المعجزات على قسمين.
أحدهما: ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
والثاني: ما تواردت الأخبار بصحته وحصوله، واستفاضت بثبوته ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة، ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا [كثيرا] وجما غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا، وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن الأمة لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والمعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلة والمعجزات.
والرسول صلّى اللَّه عليه وسلم أخذه عن جبريل عليه السلام، عن رب العزة جلّت قدرته،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/226)
فنقل القرآن الكريم في الأصل رسولان كريمان معصومان من الزيادة والنقصان، ونقله إلينا بعدهما أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه لكثرة العدد، فلذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ومن وجود ظهور القرآن على يديه، وتحديه به، ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان التي لم يرها، كالبصرة والعراق وخراسان والهند، ونحو ذلك من الأخبار الكثيرة المتواترة.
ولنورد هنا وجه إعجاز القرآن، وكيفية نزوله، والمدة التي أنزل فيها، وجمعه، والأحرف التي أنزل عليها، فالقرآن معجزة نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغيير، كالتوراة والإنجيل.(4/227)
أمّا إعجاز القرآن الكريم
فقد اختلف فيه، هل هو من جهة البلاغة أو الصرفة؟ ثم اختلف القائلون بأنه من جهة البلاغة، فقال قوم: الإعجاز باعتبار أسلوب البلاغة، وقال آخرون:
بل بشرف البلاغة.
والفرق بين الأسلوب والشرف، أن الأسلوب هو النمط الخارج عن الأنماط المألوفة عندهم، كالخطابة، والمناظرة، والقصيد، والرجز، والخصومة، والرقي، والعوذ.
وشرف البلاغة يدخل منه المعنى الّذي هو سبق الكلام له، ومن ذهب إلى هذا جعل وجوه الإعجاز عشرة:
أحدها: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، ولذلك قال اللَّه تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ] .
وفي صحيح مسلم: أن أنيسا أخا أبا ذر رضي اللَّه عنه قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللَّه أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر [و] كاهن [و] ساحر، - وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على [إقراض] الشعر فلم يلتئم على [قول] [ (2) ] أحد بعدي أنه شعر، واللَّه إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
[وكذلك] [ (2) ] أخبر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر، لما قرأ عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حم [ (3) ] فصّلت، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان والفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط، كان في هذا القول مقرا بإعجاز
__________
[ (1) ] يس: 69.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] فصّلت: 1.(4/228)
القرآن له ولغرمانة من المتحققين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ثانيها: غرابة الأسلوب العجيب، والاتّساق الغريب، الخارج عن أعارض النظم، وقوانين النثر، وأسجاع الخطب، وأنماط الأراجيز.
ثالثها: حسن التركيب، وبديع ترتيب الألفاظ، وعذوبة مساقها وجزالتها، وفخامتها وفصل خطابها.
وهذه الوجوه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة، لازمة بكل سورة، بكل آية، وبهذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، فكل سورة تنفرد بهذه الثلاث من غير أن يضاف إليها أمر إلا من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر، بثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، قد تضمنت الإخبار عن معنيين:
أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وهذا يدلك على أن المصدقين به أكثر من أتباع الرسل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، فأهلك اللَّه ماله وولده وانقطع نسله.
رابعها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق بل جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف في موضعه.
خامسها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمّيّ ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه [ (1) ] ، فأخبرنا بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الحالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر [ (2) ] ، وحال ذي
__________
[ (1) ] إشارة إلى قوله تعالى في سورة العنكبوت: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ آية: (48) .
[ (2) ] شأن موسى والخضر عليهما السلام: راجع سورة الكهف: 60- 82.(4/229)
القرنين، فجاءهم وهو أمّيّ من أمّة أميّة، ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صدقه.
وهذا دليل على صحة نبوته، وتقريره أن محمدا قد أخبر بغيب لم يحضره، ولم يخبره به مخبر سوى اللَّه تعالى، وكل من أخبر بغيب [كذلك] [ (1) ] فهو نبي صادق، فمحمد نبيّ صادق.
أما الأول فلأنه أخبرهم بما كان ولم يحضره قطعا، ولم يخبره به سوى اللَّه، إذ لم يكن كاتبا ولا مؤرخا، ولا خالط أحدا ممن هو كذلك حتى يخبره.
وأما [الثاني] [ (2) ] فلأن من كان [كذلك] [ (3) ] يعلم قطعا أنه علم ذلك الغيب بوحي، وكل من أوحي إليه الوحي الحقيقي فهو نبي.
قال القاضي أبو الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم، إنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
سادسها: الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد اللَّه تعالى، وهي تنقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيد بشرط لقوله وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ (4) ] ، ووَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [ (5) ] ووَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [ (6) ] وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [ (7) ] ، وشبه ذلك.
سابعها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل، التي لا يطلع عليها إلا بوحي، فمن ذلك: ما وعد اللَّه نبيه أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (8) ] ، ففعل ذلك، فكان
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] الطلاق: 3.
[ (5) ] التغابن: 11.
[ (6) ] الطلاق: 2.
[ (7) ] الأنفال: 65.
[ (8) ] التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9.(4/230)
أبو بكر ثم عمر رضي اللَّه عنهما إذا [غزا] [ (1) ] واحد منهما بجيوشه عرّفهم ما وعد اللَّه من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، وبرا وبحرا.
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ (2) ] ، وقال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [ (3) ] ، وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [ (4) ] ، وقال: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [ (5) ] ، فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا ربّ العالمين، أو من أوقفه اللَّه رب العالمين عليها، فدل على أن اللَّه تعالى قد أوقف عليها رسوله، ليكون دلالة على صدقه.
ثامنها: ما تضمنه القرآن من العلم الّذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وسائر الأحكام.
تاسعها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من أمّيّ.
عاشرها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف، قال اللَّه تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [ (6) ] ، وذلك أن الكفار لما طعنوا في القرآن وقالوا: ليس هو من عند اللَّه، وإنما هو من كلام محمد أو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [ (7) ] [ولما] [ (8) ] لم يكن لهم على ذلك برهان أكثر من التهمة المجردة، بيّن اللَّه بطلان دعواهم بهذه الملازمة المذكورة وتقديرها:
لو كان القرآن من عند غير اللَّه لوقع الاختلاف فيه، لكن لم يقع الاختلاف فيه فليس من عند غير اللَّه، فوقوع الاختلاف فيه لازم لكونه من عند غير اللَّه،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] النور: 55.
[ (3) ] الفتح: 27.
[ (4) ] الأنفال: 7.
[ (5) ] الروم: 1- 3.
[ (6) ] النساء: 82.
[ (7) ] الفرقان: 5.
[ (8) ] زيادة للسياق.(4/231)
وقد [انتفى] [ (1) ] فيبقى ملزومه.
وقد اعترض الملاحدة على هذا بوجهين.
أحدهما: منع الملازمة، قالوا: لا نسلّم أنه لو كان من عند غير اللَّه لاختلف [فيه] [ (1) ] ، لأن كثيرا من الناس تكلموا فلم يختلف كلامهم لتحرزهم عن المتناقض فيما يقولونه، فجاز أن يكون محمد [كذلك] [ (1) ] أنشأ القرآن وتحرز من اختلافه، ولا جرم [جاء متسقا] [ (1) ] غير مختلف.
الثاني: منع انتفاء اللازم، قالوا: لا نسلم أن الاختلاف لم يقع فيه، بل فيه اختلاف كثير قد قرره الطاعنون.
والجواب عن الأول: أن مراد الكفار يعني اللَّه في قولهم: القرآن من عند غير اللَّه هو محمد، ومن أملى عليه القرآن كرحمان اليمامة ونحوه فيما زعموا، وهذان الرجلان كانا أميين، لا أنسة لهما بالكتب، ولا بدراسة الحكمة، وخلوّ كلام مثلهما عن الاختلاف.
وإن لم يكن محالا لذاته فهو محال في العادة أن أميا يأتي بمثل هذه المعاني المفحمة، في مثل هذه الألفاظ الجزلة، والجمل الكثيرة، ولا يقع الاختلاف في كلامه، وقلّ في العالم متكلم لم يستند إلى تأييد إلهي تكلم فلم يختلف كلامه، فلما رأينا هذا الكلام على قرب تناوله، وبعد مغزاة، وكثرته في نفسه غير مختلف، استدللنا بحكم العادة على أنه ليس من عند غير اللَّه.
والجواب عن الثاني: أن ما ظنه الطاعنون اختلافا في القرآن ليس اختلافا في نفس الأمر، لأن شرط الاختلاف والتناقض بين كل قضيتين، أن يتفقا في الزمان، والمكان، والموضوع، والشرط، والجزاء، والكل، والقوة، والفعل، ونحو ذلك من شروط التقابل إن وجد، وليس في القرآن قضيتان تقابلتا [كذلك] [ (1) ] ، بل لا بدّ من اختلافهما بزمان أو مكان أو غيره من الشروط.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/232)
نعم، فيه العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ولا تناقض في شيء من ذلك، ولكن الطاعنون في القرآن أخطأ ظنهم لجهلهم، وقد ذكر مطاعنهم والجواب عنها جماعة من علماء الأمة، كالإمام أحمد ابن حنبل في كتاب مفرد، وأبي عبد اللَّه محمد بن [مسلم] [ (1) ] بن قتيبة في أول [كتاب] [ (1) ] (مشكل القرآن) ، وغيرهما.
وذهب النظّام وبعض القدرية وطائفة أخرى، إلى أن وجه الإعجاز هو المنع عن معارضته، والصرفة عند التحدي بمثله، وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أن اللَّه تعالى [صرف] [ (2) ] هممهم عن معارضته مع تحديهم أن يأتوا بسورة مثله بأن سلبوا العلوم التي كانوا بها يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك.
وردّ هذا المذهب بإجماع الأمة قبل حدوث هذا القول، على أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا أن المنع والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم، دلّ ذلك على أن مجرد المنع والصرفة لم يكن معجزا، واختلف [في] [ (2) ] من قال بالصرفة على قولين.
أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه.
الثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
وأنت إذا تأملت قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] وجدت فيها إثبات نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم بتقرير معجزة وهو القرآن، وتقرير الدليل أن محمدا لو لم يكن صادقا في دعوى النبوة لأمكنكم أن تعارضوا معجزة وهو القرآن، ولو بسورة مثله، لكن لا يمكنكم معارضته، فيلزم أنه ليس بكاذب، فهو إذا صادق.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] البقرة: 23.(4/233)
وقوله بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل محمد صلّى اللَّه عليه وسلم تنبيه على وجه صدقه، وهو أن صدور مثل هذا الكلام المعجز للخلق عن أمّي لا يقرأ ولا يكتب، يدل على صدقه قطعا، كما أن قلب العصا حيّة، وإحياء الموتى ممن لم يشتغل بعلم السحر ولا الطب يدل على صدقه.
وقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا [ (1) ] : معجز معترض في هذا الاستدلال، لأنه إخبار عن غيب، فإنّهم لا يعارضون القرآن، وكان كما قال. ولقد كان هذا مما يقوي دواعيهم في تعاطيهم المعارضة، فلو قدروا عليها لفعلوها ثم يكذبوه في خبره، وقالوا:
زعمت أنّا لن نفعل، وها نحن قد فعلنا، فلما لم يعارضوه مع توفر الدواعي على المعارضة، دلّ ذلك على العجز والإعجاز، فقد تبين أن الإعجاز في القرآن بذاته، ويكون أهل البلاغة من العرب صرفوا عن معارضته.
وقد ذهب إلى هذا بعض المتأخرين فقال: الإعجاز بالأمرين، إذ لا مناقضة في الجميع، ألا ترى أن القائل بالصرف يقول: صرف اللَّه دواعي الفصحاء عن الفكر في المعارضة لا مع أفكارها؟
وقال ابن عطية: وجه الإعجاز في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه، وتوالى فصاحة ألفاظه، ووجه إعجازه أن اللَّه قد أحاط بكل شيء علما، فأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته [أية] [ (2) ] لفظة تصلح أن تلي الأولى، ويتبين المعنى بعد المعنى، عم [ذلك] [ (2) ] من أول القرآن إلى آخره.
والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن، فلما جاء محمد صلّى اللَّه عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه.
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/234)
ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة، يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم [يعطي] [ (1) ] لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامة فيبذل فيها جهده، وينقح، ثم لا يزال [كذلك] [ (1) ] وفيها مواضع للنظر والبدل، وكتاب اللَّه تعالى لو نزعت منه لفظه ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد (انتهى) .
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم تقوّله، أنزل اللَّه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [ (2) ] ، ثم أنزل تعجيزا لهم أبلغ من ذلك فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [ (3) ] ، فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار فقال:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (4) ] ، فأفحموا عن الجواب، وعدلوا إلى المحاربة [ (5) ] ، حتى أظهر اللَّه دينه.
ولو قدروا على المعارضة لكان أهون وأبلغ في الحجة، هذا مع كونهم أرباب البلاغة والفصاحة [والبيان] [ (6) ] ، فبلاغة القرآن في [أعلى] [ (1) ] طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإعجاز والبيان، وبها قامت الحجة على العرب، وقامت الحجة على العالم، فالعرب إذا كانوا أرباب الفصاحة [وأقاموا] [ (6) ] المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإن اللَّه تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الّذي أراد إظهاره، وكان السحر في زمن موسى قد انتهى إلى غايته، [وكذلك] [ (7) ] الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الطور: 23- 24.
[ (3) ] هود: 13.
[ (4) ] البقرة: 23.
[ (5) ] في (خ) بعد قوله: «وعدلوا إلى المحاربة» ، وبعدها: «وآثروا» ثم كلمة غير واضحة، ثم «حربهم وأولادهم» ، ولم نجد لها توجيها، وبدونها يستقيم السياق.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين مطموسة في (خ) ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (7) ] زيادة للسياق.(4/235)
وقال القاضي عياض: ومعجزات نبينا أظهر من معجزات الرسل بوجهين:
أحدهما: [كثرتها] [ (1) ] ، وأنه لم يؤت نبي معجزة إلا وعند نبينا مثلها أو ما هو أبلغ منها، أما كونها كثيرة فهذا القرآن وكله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] ، أو آية في قدرها، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] فهو أقل ما تحداهم به، وإذا كان هذا ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف، وعدد كلمات إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] عشر كلمات، فتجزأ القرآن على نسبة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [ (2) ] أزيد من سبعة آلاف جزء، وكل واحد منها معجز في نفسه.
ثم إعجازه بوجهين: طريق بلاغته، وطريق نظمه، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان، فتضاعف العدد من هذا الوجه، ثم فيه وجوه إعجاز أخر من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة، الجزء عن أشياء من الغيب، كل جزء منها بنفسه معجز، فتضاعف العدد كرة أخرى.
ثم وجوه الإعجاز الأخرى توجب التضعيف، هذا في حق القرآن، ولا يكاد يأخذ العدد معجزاته، ولا يحوي الحصر ماهيته. ثم الأحاديث الواردة، والأخبار الصادرة عنه صلّى اللَّه عليه وسلم في هذه الأبواب، وعما دلّ على أمره بتبليغ [نحو] [ (1) ] من هذا.
الوجه الثاني: في وضوح معجزاته صلّى اللَّه عليه وسلم، فإن معجزات الرسل كانت بقدر همم أهل زمانهم، وبحسب الفن الّذي سما فيه قرنه، ثم بين ذلك بمعنى ما تقدم ذكره، من غلبة السحر في زمان موسى، والطب في أيام عيسى، والبلاغة في العرب الذين بعث اللَّه فيهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الكوثر: 1.
[ (3) ] البقرة: 23.(4/236)
وأما كيفية نزوله والمدة التي أنزل فيها
فإن اللَّه تعالى أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم فرّقه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل، [ويوقف] [ (1) ] جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتسقت سور القرآن كما اتسقت آياته وحروفه عن محمد صلّى اللَّه عليه وسلم عن اللَّه رب العالمين، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أخذ ترتيب القرآن عن جبريل عليه السلام، يقف على مكان الآيات.
خرج النسائي [ (2) ] من حديث جرير عن منصور عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه، قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ (3) ] ، قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم كان اللَّه تبارك وتعالى ينزل على رسوله بعضه في إثر بعض، قال: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [كَذلِكَ] [ (4) ] لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وخرجه الحاكم [ (5) ] وقال: صحيح على شرطهما.
وللحاكم من حديث عبد [الأعلى] بن عبد [الأعلى] قال: حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وكان اللَّه إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو يحدث في الأرض منه شيئا أحدثه.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] لم أجده في (سنن النسائي) ، ولعله في الكبرى.
[ (3) ] القدر: 1.
[ (4) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.
[ (5) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2878/ 7) ، وقال فيه: «إلى السماء الدنيا بموقع النجوم» ، والآية رقم 32 من سورة الفرقان. قال الحاكم: ... على شرطها ولم يخرجاه.
[ (6) ] المرجع السابق، حديث رقم (2877/ 6) .(4/237)
وله من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [ (1) ] ووَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [ (2) ] ، قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (3) ] .
وله من حديث سفيان عن الأعمش، عن حسان بن حريث، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ويرتله ترتيلا. قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (4) ] .
وله من حديث عبد الوهاب بن عطاء قال، حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وقال عز وجل: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [ (5) ] ، وقال: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [ (6) ] . قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (7) ] .
وله من حديث هيثم عن حصين عن [حكيم] [ (8) ] بن حزام، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، قال: [وتلا] [ (9) ] هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [ (10) ] . قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ (11) ] .
__________
[ (1) ] الفرقان: 33.
[ (2) ] الإسراء: 106.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2879/ 8) .
[ (4) ] المرجع السابق: حديث رقم 2881/ 10، ونحوه باختلاف يسير حديث رقم (4216/ 226) ، وقال في آخره: «قال سفيان: خمس آيات ونحوها» .
[ (5) ] الفرقان: 33.
[ (6) ] الإسراء: 106.
[ (7) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2879/ 8) .
[ (8) ] زيادة للبيان وفي (المستدرك) : حكيم بن جبير.
[ (9) ] زيادة للبيان.
[ (10) ] الواقعة: 75.
[ (11) ] (المستدرك) : 2/ 578، حديث رقم (3959/ 1097) .(4/238)
وأمّا جمع القرآن الكريم فقد وقع ثلاث مرات
الأولى: عند ما أنزله اللَّه تعالى على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم فكان يمليه في كتّابه فيكتبون في العظام وغيرها، حتى اجتمعت سور القرآن وآياته.
والجمع الثاني: في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه، جمعه من العظام وغيرها في صحف،
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي، عن ابن عبد خير، قال: قال علي رضي اللَّه عنه يرحم اللَّه أبا بكر، هو أول من جمع من اللوحين.
حدثنا قبيصة، حدثنا ابن عيينة، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن صعصعة قال: أول من جمع من اللوحين وورّث الكلالة [ (1) ] أبو بكر رضي اللَّه عنه.
والجمع الثالث: في خلافة عثمان رضي اللَّه عنه، نسخ الصحف المذكورة وما أجمع عليه الصحابة في مصحف، وجعله خمس نسخ: أقر مصحفا بالمدينة، وبعث مصحفا إلى مكة، ومصحفا إلى الكوفة، ومصحفا إلى البصرة، ومصحفا إلى الشام، وحرّق ما عدا ذلك. فأجمع الصحابة رضي اللَّه عنهم على أن ما في مصحف عثمان رضي اللَّه عنه هو كلام اللَّه الّذي نزل به جبريل عليه السلام من رب العالمين على محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وصار كل ما يخالف المصحف العثماني لا يعتد به.
قال ابن عائذ في كتاب (المغازي) : حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد اللَّه بن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: لما أصيب المسلمون من المهاجرين
__________
[ (1) ] الكلالة: الرجل لا والد له ولا ولد. وقيل: ما لم يكن من النسب لحما، وقيل: الورثة كلهم سوى الوالدين والأولاد، وقيل: من تكلل نسبه بنسبك كإبن العم وشبهه، وقيل: هي الإخوة لأمّ، وقيل:
هي من العصبة من ورث معه الإخوة للأمّ، وقيل: هم بنو العمّ الأباعد، وقال ابن عباس: هي اسم لما عدا الوالد.
وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سئل عن الكلالة فقال: «من مات وليس له ولد ولا والد» ،
فجعله اسم الميّت، وهو صحيح أيضا، فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا، وقيل:
اسم لكل وارث. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 4/ 373- 374.(4/239)
والأنصار باليمامة، وقتل عامة المسلمين وفقهاؤهم، فزع أبو بكر رضي اللَّه عنه إلى القرآن فدعا به الناس، وخاف أن يهلك منه، وإنما هو في العسب والرقاع، وكان رجال قد قرءوه كله، منهم أبي بن كعب، وسالم مولى حذيفة، وكان أول من جمع القرآن في مصحف خلف [] [ (1) ] حتى يكتبه أجمع في مصحف وأشفقوا منه أن يزاد فيه أو ينقص منه، فجمعوه على رجل أبي بكر رضي اللَّه عنه وبأمره.
فلما أخرجوه للناس ولا يسمونه يومئذ المصحف، قال أبو بكر رضي اللَّه عنه:
التمسوا له اسما، فقال بعضهم. إنجيلا، فكرهوا ذلك لما ذكر اللَّه تعالى في الإنجيل، وقال بعضهم: سموه سفرا، فقالوا: اسما يدعوه اليهود كتابهم الأسفار، فقال عتبة ابن مسعود- وهو أخو عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، وكان في مهاجرة الحبشة-: إني سمعت الحبشة يدعون المصحف، فرضوا به.
فكان أبو بكر رضي اللَّه عنه أول من جمع القرآن في مصحف، وسماها المصاحف، وذكر هشام عن أبيه محمد بن السائب في كتاب. (الجامع لأنساب العرب) ومنه نقلت أن نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن قصي هو الّذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، وكذا ذكر الزبير بن بكار في كتاب: (نسب قريش) فقال: حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب، قال نافع بن ظريب الّذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب، وهو نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
وخرج النّسائي والترمذي من حديث يحيى بن سعيد، قال في رواية النسائي:
حدثنا يزيد الفارسيّ قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان، وقال الترمذي حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عذي، وسهل ابن يوسف، حدثنا عوف بن أبي جميلة، حدثنا يزيد الفارسيّ، حدثنا ابن عباس قال: قلت لعثمان رضي اللَّه عنهما: ما حملكم أن عهدتم إلى الأنفال وهي من المثاني،
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين كلمة مطموسه في (خ) .(4/240)
وإلى بَراءَةٌ [ (1) ] ، وهي من المئين [فقرنتم] بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ (2) ] ، ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي اللَّه عنه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت بَراءَةٌ [ (3) ] من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [ (4) ] ، فوضعتها في السبع الطّول. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسيّ [ (5) ] . وخرّجه الحاكم [ (6) ] وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وللحاكم من حديث يحيى بن أيوب قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه قال: كنا حول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلف القرآن إذ قال: طوبى للشام، فقيل له: ولم؟ قال: إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم [ (7) ] . وفي رواية: كنا عند رسول اللَّه نؤلّف القرآن وفي رواية: كنا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع [ (8) ] .
قال: هذا
__________
[ (1) ] أول سورة التوبة.
[ (2) ] أول سورة الفاتحة.
[ (3) ] أول سورة التوبة.
[ (4) ] أول سورة الفاتحة.
[ (5) ] يزيد الفارسيّ من التابعين من أهل البصرة، (تحفة الأحوذي) : 8/ 379، حديث رقم (3282) .
[ (6) ] (المستدرك) : 2/ 241، حديث رقم (2875/ 4) ، ص 260، حديث رقم (3272/ 389) .
وعن علي بن عبد اللَّه بن عباس قال: سمعت أبي يقول: سألت عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: لم لم تكتب في بَراءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان، وبَراءَةٌ نزلت بالسيف ليس فيها أمان (المرجع السابق) ، حديث رقم (3273/ 390) .
[ (7) ] (المستدرك) : 2/ 249، حديث رقم (2900/ 29) .
[ (8) ] (المستدرك) : 2/ 249، حديث رقم (2901/ 30) .(4/241)
حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وخرجه الإمام أحمد بهذا السّند، ولفظه: بينما نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع [ (1) ] .
الحديث.
قال الحاكم: وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم جمع بحضرة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، والجمع الثالث هو ترتيب السور، كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه [ (2) ] .
وقال الشعبي: أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه أول من جمع المصحف، وقال مجالد الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال: أبو بكر أول من جمع المصحف،
وقال سفيان عن [من حدثه] [ (3) ] ، عن عبد خير عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال: رحم اللَّه أبا بكر، أول من جمع المصحف. وفي رواية: أول من جمع من اللوحين.
وخرج الحاكم من حديث شريك، عن عبد اللَّه بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي ذر رضي اللَّه عنه أنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة- والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب- فجلست قريبا من أبي بن كعب، فقرأ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سورة بَراءَةٌ [ (4) ] ، فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني. [قال وذكر] [ (5) ] الحديث [ (6) ] .
وله من حديث إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن [ابن] عباس رضي اللَّه عنه قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد، قال:
لا، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يعرض القراءة كل سنة على جبريل عليه السلام،
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 6/ 236، حديث رقم (21096) ، وحديث رقم (21097) ، كلاهما عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 249، تعقيبا على الحديث رقم (2901/ 30) .
[ (3) ] زيادة ليستقيم السياق حيث لم أتبين اسم الراويّ.
[ (4) ] أول سورة التوبة.
[ (5) ] زيادة من (المستدرك) .
[ (6) ] (المستدرك) : 2/ 250، حديث رقم (2902/ 31) .(4/242)
فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عرضتين، فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن [ (1) ] . قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وفائدة الحديث ذكر عبد اللَّه بن مسعود.
وله من حديث حجاج بن المنهال [ (2) ] قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة عن الحسن، عن سمرة قال: عرض القرآن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الآخرة [ (3) ] . قال: هذا حديث صحيح، على شرط البخاري بعضه، وبعضه على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وخرج البخاري من حديث إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب عن عبيد ابن السبّاق، أن زيد بن ثابت قال، أرسل إليّ أبو بكر رضي اللَّه عنه مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحّرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر، كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال عمر: هذا واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري لذلك، ورأيت في ذلك الّذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إنك رجل شابّ عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فتتبّع القرآن فأجمعه، فو اللَّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن! قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: هو واللَّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر [رضي اللَّه عنهما] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 250، حديث رقم (2903/ 32) .
[ (2) ] في (خ) : «محتاج بن منهال» ، وما أثبتناه من (المستدرك) .
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 250، حديث رقم (2904/ 33) .
[ (4) ] زيادة من رواية البخاري.(4/243)
فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره، لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ] [ (1) ] حتى خاتمة بَراءَةٌ [ (2) ] ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللَّه تعالى، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر [رضي اللَّه عنه] [ (1) ] . ذكره في كتاب فضائل القرآن، وترجم عليه جمع القرآن [ (3) ] ، وفي كتاب الأحكام [ (4) ] ، وفي كتاب التفسير [ (5) ] ، وخرجه الترمذي في التفسير [ (6) ] .
وللبخاريّ من حديث هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم قال: وأخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة [أم المؤمنين] [ (7) ] رضي اللَّه عنها، إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت ويحك! وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: [لعلي] [ (7) ] أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيّه قرأت، قيل: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [ (8) ] ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له الصحف وأملت عليه-
__________
[ (1) ] زيادة من رواية البخاري.
[ (2) ] أول سورة التوبة.
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 12- 13، حديث رقم (4986) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 13/ 227، باب (37) يستحبّ للكاتب أن يكون أمينا عاقلا، حديث رقم (7191) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 8/ 437، باب (20) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ من الرأفة، حديث رقم (4679) .
[ (6) ] (تحفة الأحوذي) : 8/ 405، باب تفسير سورة التوبة، حديث رقم (3302) ، وقال في آخره:
هذا حديث حسن صحيح.
[ (7) ] زيادة للسياق من البخاري.
[ (8) ] القمر: 46.(4/244)
أي السور [ (1) ] .
وله من حديث شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد، سمعت ابن مسعود رضي اللَّه عنه يقول في بني إسرائيل [ (2) ] ، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، أنهن من العتاق [ (3) ] الأول، وهي من تلادي [ (4) ] . وذكره في تفسير سورة بني إسرائيل [ (2) ] ، ولم يذكر فيه طه والأنبياء [ (5) ] . وذكر في تفسير سورة الأنبياء من حديث غندر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه قال: بني إسرائيل [ (2) ] ، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي [ (6) ] .
وذكر في باب تأليف القرآن من حديث الوليد قال: حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمع البراء قال: تعلمت سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الْأَعْلَى] قبل أن يقدم النبي [ (7) ] .
وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: ولقد قرأت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعا وسبعين سورة [ (8) ] وفي رواية: واللَّه لقد قرأت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعا وسبعين سورة [ (9) ] وصح أنه جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 46- 47، كتاب فضائل القرآن، باب رقم (6) تأليف القرآن، حديث رقم (4993) .
[ (2) ] سورة بني إسرائيل، وهي سورة الإسراء.
[ (3) ] العتاق: جمع عتيق، وهو القديم، أو هو كل ما بلغ الغاية في الجودة.
[ (4) ] التلاد: قديم الملك، أي مما حفظ قديما، ومراد ابن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص، وأخبار الأنبياء والأمم، مختصرا من (فتح الباري) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 8/ 495، كتاب التفسير، باب (17) سورة بني إسرائيل، حديث رقم (4708) .
[ (6) ] (فتح الباري) : 8/ 556، كتاب التفسير، باب (21) سورة الأنبياء حديث رقم (4739) ، 9/ 47، كتاب فضائل القرآن، باب (6) تأليف القرآن، حديث رقم (4994) . وتأليف القرآن:
أي جمع آيات السورة الواحدة، أو جمع السور مرتبة في المصحف.
[ (7) ] (فتح الباري) : 9/ 47، كتاب فضائل القرآن، باب (6) تأليف القرآن، حديث رقم (4995) .
[ (8) ] (المستدرك) : 2/ 247- 248، حديث رقم (2896/ 25) ، (2898/ 27) .
[ (9) ] المرجع السابق، حديث رقم (2897/ 26) ، وفي (خ) : «لقد أخذت» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.(4/245)
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان عن السدي، عن عبد خير قال: سمعت عليا رضي اللَّه عنه يقول: [رحمة] اللَّه على أبي بكر، كان أول من جمع ما بين اللوحين. وحدثنا ابن مهدي عن سفيان به فذكره.
وللبخاريّ من حديث إبراهيم، حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي اللَّه عنه- وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق- فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث ابن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان رضي اللَّه عنه للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصّحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق مصحفا مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق [ (1) ] .
قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، سمع زيد بن ثابت قال:
فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة [بن ثابت] [ (2) ] الأنصاري: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [ (3) ] ، فألحقناها في سورتها من المصحف [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 13، كتاب فضائل القرآن، باب (3) جمع القرآن، حديث رقم (4987) .
[ (2) ] زيادة في النسب من المرجع السابق.
[ (3) ] الأحزاب: 23.
[ (4) ] (فتح الباري) : 9/ 13، كتاب فضائل القرآن، باب (3) جمع القرآن، حديث رقم (4988) .
و (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 260 أبواب تفسير القرآن، حديث رقم (2480- 3315) تفسير سورة التوبة.(4/246)
وأخرجه الترمذي في التفسير بنحوه وقال: قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه [ (1) ] ، فقال: التابوت، وقال زيد:
التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه التابوت، فإنه نزل بلسان قريش، قال الزهري: فأخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، واللَّه لقد أسلمت وإنه [ (2) ] لفي صلب رجل كافر، يريد زيد بن ثابت.
[ولذلك] [ (3) ] قال عبد اللَّه بن مسعود: يا أهل العراق، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن اللَّه يقول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ [ (4) ] ، فالقوا [ (5) ] اللَّه بالمصاحف.
قال الزهريّ: فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة [ابن] [ (6) ] مسعود رجال من أفاضل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. قال هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث إبراهيم ابن سعد عن الزهري، لا نعرفه إلا من حديثه [ (7) ] .
وأخذ خالد بن عرفطة مصاحف ابن مسعود، فأغلى الزيت وطرحها فيه، وكان عثمان بن عفان قد [بعثه] [ (8) ] إلى الكوفة، وكانت له صحبه، وقاتل مع معاوية، فلما كانت أيام المختار بن أبي عبيد، أخذه فأغلى له زيتا وطرحه فيه.
وقال البخاري في باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: وأخبرني أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: فأمر عثمان زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن
__________
[ (1) ] التابوه: قراءة في التابوت.
[ (2) ] في (خ) : «وإني» والتصويب من (صحيح سنن الترمذي) .
[ (3) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (4) ] آل عمران: 161.
[ (5) ] في (خ) : «فاتقوا» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (6) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (7) ] (تحفة الأحوذي) : 8/ 409، حديث رقم (3303) .
[ (8) ] زيادة للسياق.(4/247)
الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم، ففعلوا. هكذا ذكره مختصرا [ (1) ] .
وذكر ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب، عن سالم وخارجة، أن أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه كان قد جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك، فأبى عليه حتى استعان عليه بعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ففعل، وكانت تلك الكتب عند أبي بكر، ثم كانت عند عمر حتى توفي، ثم كانت عند حفصة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأرسل إليها عثمان رضي اللَّه عنه فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردها إليه، فبعثت بها إليه فنسخها ثم ردّها إليها، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها.
وقيل: لما تولى مروان المدينة أرسل إلى حفصة في الصحف ليمزقها فمنعته، فلما ماتت [أعطاها] [ (2) ] عبد اللَّه أخوها فمزقها.
وقال مسعد بن سعد: أدركت الناس وقت جمع عثمان المصحف، فما رأيت المهاجرين والأنصار اختلفوا في تصويبه.
وقد روى من طريق حسن الجعني، عن زائدة، عن حجاج، عن عمير بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الّذي فعل عثمان.
ومن طريق عفان قال: حدثنا محمد بن أبان، حدثنا علقمة عن سويد [ (3) ] بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الّذي فعل.
وفيه قصة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 10، كتاب فضائل القرآن باب (2) نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قُرْآناً عَرَبِيًّا- بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. حديث رقم (4984) .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] السياق مضطرب في (خ) فيما بين «علقمة وسويد» .(4/248)
وأما الأحرف التي أنزل عليها القرآن الكريم
فقد صح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف [ (1) ] ، من رواية أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب وأبي بن كعب. وفي الباب عن عبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبي جهيم الأنصاري، وأبي بكرة، وسمرة، وغيره.
فأما حديث عمر رضي اللَّه عنه فرواه مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن عن عبد الأعلى، ورواه معمر ويونس عن عقيل وشعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن عبد اللَّه بن مسلم- وهو ابن أخي محمد بن شهاب الزهري-، عن عروة بن الزبير، عن المسور وعبد الرحمن بن عبد القاري، جميعا عن عمر رضي اللَّه عنه [ (2) ] .
وخرج حديث مالك هذا، البخاري [ (3) ] ...
__________
[ (1) ] على سبعة أحرف: أي على سبعة أوجه، يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة سبعة. (فتح الباري) : 9/ 28 كتاب فضائل القرآن، شرح الحديث رقم (4992) :
«إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» ،
وبسط القول في القراءات السبعة، في (النشر في القراءات العشر) : 1/ 19- 54.
[ (2) ] (فتح الباري) : 9/ 27، كتاب فضائل القرآن، باب (5) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (4991) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 9/ 28، كتاب فضائل القرآن، باب (5) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (4992) ، 5/ 92، كتاب الخصومات باب (4) كلام الخصوم بعضهم في بعض، حديث رقم (2419) ، 9/ 107، كتاب فضائل القرآن، باب (27) من لم ير بأسا أن يقول: سورة البقرة وسورة كذا وكذا، حديث رقم (5041) ، 12/ 375، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب (9) ما جاء في المتأولين، حديث رقم (6936) ، 13/ 636، كتاب التوحيد، باب (53) قول اللَّه تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، حديث رقم (7550) .(4/249)
ومسلم [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] والنسائي [ (3) ] وغيرهم من الحفاظ، فخرجه البخاري في كتاب الخصومات عن عبد اللَّه بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأخرجه أبو داود عن القعنبي، وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة، والحرث بن مسكين عن أبي القثم عن مالك، وقد رواه مالك في الموطأ [ (4) ] عن محمد بن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، ثم جئت به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
أرسله. ثم قال: اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ، فقرأتها، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.
وخرج البخاري ومسلم والنسائي حديث المسور، وعبد الرحمن بن عبد القاري فقال البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، في باب ما جاء في المنافقين [ (5) ] .
وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاري، أخبراه أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 346، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، حديث رقم (270- 818) .
[ (2) ] (صحيح سنن أبي داود) : 1/ 276، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1308- 1475) .
[ (3) ] (سنن النسائي بشرح السيوطي) : 2/ 487- 489، باب (37) جامع ما جاء في القرآن، حديث رقم (935) ، (936) ، (937) .
[ (4) ] (شرح الزرقاني على الموطأ) : 2/ 14، كتاب الصلاة، باب (133) ما جاء في القرآن، حديث رقم (474) .
[ (5) ] سبق الإشارة إليه.(4/250)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [كذلك] ، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، فلما سلم لببته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت له: كذبت، فو اللَّه إن رسول اللَّه أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرأها، فانطلقت أقوده إلى رسول اللَّه، فقلت: يا رسول اللَّه! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأها، قال رسول اللَّه: هكذا أنزلت، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، ثم قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.
وخرجه أيضا في آخر كتاب التوحيد في باب فاقرءوا ما تيسر من القرآن [ (1) ] .
وخرجه في فضائل القرآن [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال:
أخبرني عروة بن الزبير أن المسوّر بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد أخبراه أنهما سمعا عمر يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فذكره.
وخرجه أيضا من حديث إسحاق بن إبراهيم، وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، كرواية يونس بإسناده. وخرجه النسائي من حديث يونس عن ابن شهاب بإسناد الليث.
قال الحافظ أبو عمر عبد اللَّه بن عبد البر: في رواية معمر تفسير لرواية مالك في قوله: يقرأ سورة الفرقان، لأن ظاهر السورة كلها أو جملتها، فبان في رواية معمر أن ذلك في حروف منها بقوله: على حروف كثيرة.
وقوله: يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرئنيها، وهذا مجمع عليه أن القرآن [وآياته كلها] [ (2) ] لا يجوز في حروفه وكلماته أن يقرأ على سبعة أحرف ولا شيء
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليه.
[ (2) ] زيادة للبيان.(4/251)
منها، ولا يمكن ذلك فيها، بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن يقرأ على سبعة أحرف إلا قليلا، مثل: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [ (1) ] وتَشابَهَ عَلَيْنا [ (2) ] وبِعَذابٍ بَئِيسٍ [ (3) ] ونحو ذلك، وذلك يسير جدا، وهذا بين واضح يغني عن الإكثار منه.
وأما حديث أبي بن كعب رضي اللَّه عنه فخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي، وقاسم بن أصبغ، وعدة من الحفاظ. فلمسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده عن أبيّ ابن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا [جميعا] [ (4) ] على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقرءا، فحسّن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية.
فلما رأى رسول اللَّه ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما انظر إلى اللَّه عز وجل فرقا، فقال لي: يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فردّ إليّ الثانية أن اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فردّ إليّ الثالثة أن اقرأه سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللَّهمّ اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم ترغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم [ (5) ] .
وله من حديث شعبة، عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبيّ بن كعب، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان عند أضاة [ (6) ] بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه
__________
[ (1) ] المائدة: 60.
[ (2) ] البقرة: 70.
[ (3) ] الأعراف: 165.
[ (4) ] زيادة من صحيح مسلم.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 350، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، حديث رقم (273) - (820) .
[ (6) ] هي الماء المستنقع كالغدير.(4/252)
السلام فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، قال: أسأل اللَّه عز وجل معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم أتاه الثانية فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال:
أسأل اللَّه معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاءه الثالثة فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال:
أسأل اللَّه معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاءه الرابعة فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا [ (1) ] .
وخرج أبو داود [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث شعبة بنحو ذلك، وقال النسائي بعد إيراده هذا الحديث: منصور خالف الحكم في هذا الحديث، رواه عن مجاهد عن عبيد بن عمير مرسلا. وخرجه قاسم بن أصبغ من حديث أبي معمر عن عبد الوارث عن محمد بن جحاده، عن الحكم بن عيينة إلى آخره بمعناه.
وخرجه النسائي أيضا من حديث يحيى عن حميد عن أنس عن أبيّ قال: ما حاك في صدري منذ أسلمت أني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال الآخر: أقرأنيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا نبيّ اللَّه، أقرأتني آية كذا وكذا، قال: نعم وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: نعم، إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده، حتى بلغ
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 6/ 352، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، حديث رقم (274- 821) ، قال الإمام النووي: معناه لا يتجاوز أمتك سبعة أحرف، ولهم الخيار في السبعة، ويجب عليهم نقل السبعة إلى من بعدهم بالتخير فيها، وأنها لا تتجاوز واللَّه أعلم.
[ (2) ] (سنن أبي داود) : 2/ 160، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1478) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 2/ 490، كتاب (11) الافتتاح، باب (37) جامع ما جاء في القرآن، حديث رقم (938) .(4/253)
سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث شيبان عن عاصم عن زرّ بن حبيش، عن أبيّ ابن كعب قال: لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جبريل، فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمّيين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الّذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف [ (2) ] .
قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وحذيفة بن اليمان، وأم أيوب- وهي امرأة أبي أيوب، وسمرة، وابن عباس، وأبي جهيم بن الحرث بن الصمة، وعمرو بن العاص وأبي بكرة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قد روى من غير وجه عن أبيّ بن كعب.
وقال ابن عبد البر: وأما حديث عاصم عن زرّ عن أبيّ، فاختلف على عاصم فيه، وقد جاء بيان الرجل الّذي رآه أبيّ يقرأ في رواية همام بن يحيى عن قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب قال: قرأ أبيّ آية، وقرأ ابن مسعود خلافها، وقرأ رجل آخر خلافها، فأتينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: ألم تقرأ آية كذا وكذا، وكذا وكذا؟ وقال ابن مسعود: ألم تقرأ آية كذا وكذا؟
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: كلكم محسن مجمل، قال: ما كلنا أحسن ولا أجمل! قال:
فضرب صدري وقال: يا أبي، إني أقرئت القرآن فقلت: على حرف أو حرفين؟
فقال لي الملك الّذي عندي: على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الّذي [عندي] [ (3) ] : على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، قلت: غفورا رحيما، أو قلت: سميعا حكيما، أو قلت: عليما حكيما، أو عزيزا حكيما، أي ذلك قلت فإنه [كذلك] [ما لم تختم آية عذاب
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (940) ، قوله: «ما حاك في صدري» . أي ما أثّر، أي أثر شك في صدري، ولا وقع، وقد جاء صريحا أنه وقع في صدره يومئذ شك عصمه اللَّه تعالى منه ببركة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 178، كتاب القراءات (47) ، باب (11) .
[ (3) ] زيادة للبيان والسياق.(4/254)
برحمة، أو آية رحمة بعذاب] [ (1) ] .
وزاد بعضهم في هذا الحديث: ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإذا ثبتت هذه الرواية، حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء اللَّه تعالى في موضع بغيره، مما يوافق معناه أو يخالف.
وقال ابن عبد البر: أما قوله في هذا الحديث: قلت سميعا عليما أو غفورا رحيما، أو عليما حكيما، فإنما أراد به ضرب المثل للحروف التي يقرأ القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا تكون في شيء معنى وضده، ولا وجه وخلاف معناه، خلاف بنفسه ومضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده، والسورة التي أنكر فيها- أي القراءة- سورة النحل.
وذكر ذلك الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن عبيد اللَّه بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب قال ... ، الحديث.
وأما
حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه، فخرجه مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أن ابن عباس حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيد فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف، قال ابن شهاب:
بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الّذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام [ (2) ] .
وأما
حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه فخرجه أبو داود وقاسم بن أصبغ من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال:
__________
[ (1) ] تكملة من (سنن أبي داود) : 2/ 160، كتاب الصلاة، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1477) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 348، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (48) بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه، حديث رقم (272- 819) ، (سنن أبي داود) : 2/ 160 كتاب الصلاة، باب (357) أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم (1476) .(4/255)
أنزل القرآن على سبعة أحرف، غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما [ (1) ] ، وربما قال: سميعا بصيرا.
وخرجه قاسم بن أصبغ من حديث ابن أبي أويس قال: حدثني أخي سليمان ابن بلال عن محمد بن عجلان عن [ابن جرير] [ (2) ] ، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة [ (3) ] .
وأما
حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، فروى جرير بن عبد الحميد عن مغيرة، عن واصل ابن حبان عن عبد اللَّه بن أبي الهذيل عن أبي الأحوص عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع [ (4) ] .
وأما
حديث أبي جهيم، فخرج ابن وهب من حديث سليمان بن بلال بن يزيد بن عبد اللَّه بن حضيعة، عن بشر بن سعيد أن أبا جهيم الأنصاري رضي اللَّه عنه أخبره بأن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال: هذا تلقيتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال الآخر: لقّنتها من رسول اللَّه، فسئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عنها فقال:
إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ولا تماروا في القرآن، فإن المراء [ (5) ] فيه كفر [ (6) ] .
وأما
حديث أبي بكرة، فخرجه الطحاوي من حديث حماد قال: أخبرني علي ابن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال:
__________
[ (1) ] وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 2/ 635، مسند أبي هريرة، حديث رقم (8190) .
[ (2) ] تكملة من (كنز العمال) .
[ (3) ] (كنز العمال) : 2/ 56، حديث رقم (3102) ، وقال فيه: «ولكن لا تجمعوا» ، وقال في آخره: (ابن جرير عن أبي هريرة) .
[ (4) ] (كنز العمال) : 2/ 53، حديث رقم (3086) وقال فيه: «لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع» وقال في آخره: (طب عن ابن مسعود) .
[ (5) ] المراء: المجادلة والخصام الشديد الّذي يولد الحقد والبغضاء.
[ (6) ] (كنز العمال) : 2/ 52، حديث رقم (3082) وقال فيه: «فإنّ مراء في القرآن كفر» ، وقال في آخره: (حم عن أبي جهيم) .(4/256)
[أتي] [ (1) ] جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، قال: فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأه فكل شاف كاف إلا أن يخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو: هلم، ويقال: وأقبل واذهب وأسرع وعجّل [ (2) ] .
وأما
حديث سمرة، فخرج الحاكم من حديث عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد ابن سلمة، حدثنا قتادة عن الحسن، عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنزل القرآن على ثلاثة أحرف [ (3) ] ،
قال الحاكم [ (4) ] : وهذا حديث صحيح وليس له علة.
وقد اختلف الناس في معنى ذلك اختلافا كثيرا، فقال بعضهم: هي سبعة أحرف أودعها اللَّه تعالى في كتابه، قام بها إعجازه، وقال قوم: هي زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
وقيل: هي حلال، وحرام، وأمر، ونهي، وزجر، وخبر ما كان قبل، وخبر ما هو كائن بعد، وأمثال.
وقيل: هي وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج.
وقيل: هي أمر، ونهي، وبشير، ونذير، وإخبار، وأمثال.
وقيل: هي محكم، ومتشابه، وناسخ، ومنسوخ، وخصوص، وعموم، وقصص.
__________
[ (1) ]
في (كنز العمال) : «أتاني جبريل وميكائيل» .
[ (2) ] (كنز العمال) : 2/ 50، حديث رقم (3075) باختلاف يسير، حتى
«كلها كاف شاف» .
وقال في آخره (حم وعبد بن حميد عن أبي بن كعب) ، (حم طب عن أبي بكرة) ، (ابن الضريس عن عبادة بن الصامت) .
[ (3) ] (كنز العمال) : 2/ 53، حديث رقم (3087) ، وقال في آخره: (حم طب ك عن سمرة) .
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 243، حديث رقم (2884/ 13) ، قال الحاكم: قد احتجّ البخاري برواية الحسن عن سمرة، واحتجّ مسلم بأحاديث حماد بن سلمة، وهذا الحديث صحيح، وليس له علة.(4/257)
وقيل: هي أمر، ونهي، وحد، وعلم، وسر، وظهر، وبطن.
وقيل: ناسخ، ومنسوخ، ووعد، ووعيد، ورجم، وتأديب، وإنذار.
وقيل: حلال، وحرام، وافتتاح، وإضمار، وفضائل، وعقوبات.
وقيل: أوامر، وزواجر، وأمثال، وأنباء، وعتب، ووعظ، وقصص.
وقيل: الحلال، والحرام، والمنصوص، والقصص، والإباحات.
وقيل: الظهر، والبطن، والفرض، والندب، والخصوص، والعموم، والأمثال.
وقيل: الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والإباحة، والإرشاد، والاعتبار.
وقيل: هي مقدم، ومؤخر، وفرائض، وحدود، ومواعظ، ومتشابه، وأمثال.
وقيل: هي تفسير، ومجمل، ومقتضى، وندب، وحتم، وأمثال.
وقيل: هي أمر حتم، وأمر ندب، ونهي حتم، ونهي ندب، وأخبار، وإباحات.
وقيل: الفرض، والنهي الحتم، والأمر الندب، والنهي المرشد، والوعد، والوعيد، والقصص.
وقيل: هي سبع جهات لا يتعداها الكلام، إذ العرب تسمي الحرف جهة.
وقيل: هي لفظ خاص أريد به العام، ولفظ يغني تنزيله عن تأويله، ولفظ لا يعلم فقهه إلا العلماء، ولفظ لا يعلم معناه إلا الراسخون في العلم.
وقيل: هي سبع لغات متفرقة لجميع العرب، فكل حرف منها لقبيلة مشهورة، وبعض الأحياء أسعد من بعض، مثل قريش، لأن القرآن أنزل بلغتها.
وقيل: هي سبع لغات: أربع منها لعجز هوازن، وثلاثة لقريش، وعجز هوازن: سعد بن بكر، وجثم بن بكر، ومضر بن معاوية.
وقيل: قال [ابن] عباس: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب قريش وكعب(4/258)
خزاعة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كانت دارهم واحدة، قال أبو عبيدة:
يعني أن خزاعة جيران قريش.
وقال صالح بن نضر بن مالك الخزاعي: مرّ بي شعبة بن الحجاج فقال لي:
يا خزاعيّ، ألا أحدثك حديثا في قومك؟ حدثنا قتادة عن أبي الأسود الدّؤليّ قال:
نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤيّ.
وقال قتادة عن [ابن] عباس: نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار واحدة، هي سبع لغات: لقريش لغة، ولليمن لغة، ولجرهم لغة، ولهوازن لغة، ولقضاعة لغة، ولتميم لغة، ولطىّ لغة.
وقيل: هي لغة الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤيّ ولها سبع لغات.
وقيل: هي اللغات المختلفة لأحياء العرب في معنى الواحد، مثل قولك: هلم، هات، تعال، أقبل، هاهنا، عندي، اعطف عليّ.
وقيل: هي قراءات سبعة من الصحابة هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عباس، وأبي بن كعب رضي اللَّه عنهم.
وقيل: هي ما في اللغة مثل: الهمز، والفتح، والكسر، والإمالة، والتفخيم، والمد، والقصر.
وقيل: هي تصريف، ومصادر، وعروض غريب، وسجع، ولغات مختلفة في شيء واحد، كلها لغة العرب.
وقيل: هي كلمة واحدة تعرب بسبعة أوجه حتى يكون المعنى واحدا وإن اختلف اللفظ فيها.
وقيل: هي أمهات الهجاء: الألف، والباء، والجيم، والدال، والراء، والسين، والعين، لأن عليها يدور جميع كلام العرب.
وقيل: هي أسماء الرب تعالى مثل: الغفور، الرحيم، السميع، البصير، العليم، الحكيم.(4/259)
وقيل: هي آية في الذات، وآية تفسيرها في آية أخرى، وآية بيانها في السنة الصحيحة، وآية في وصف الأنبياء والرسل، وآية في خلق اللَّه تعالى الأشياء، وآية في وصف الجنة، وآية في وصف النار.
وقيل: هي آية في وصف الصانع سبحانه، وآية في إثبات الوحدانية للصانع تعالى، وآية في إثبات صفاته، وآية في إثبات رسله، وآية في إثبات كتبه، وآية في إثبات الإسلام، وآية في إثبات الكفر.
وقيل: هي سبع جهات من صفات الذات للَّه تعالى التي لا يقع عليها التكييف.
وقيل: هي إثبات الإيمان باللَّه ومباينة الشرك، وإثبات الأوامر ومجانبة الزواجر والثبات على الإيمان، وتحريم ما حرّم اللَّه، وطاعة رسوله.
وقيل: هي إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية، وتعظيم الألوهية، والتعبد للَّه تعالى، ومجانبة الشرك بغير اللَّه، والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب.
وقد ذكر هذه الأقوال كلها- ما عدا القول الأول- أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ثم قال: هذه آخر خمسة وثلاثين قولا لأهل العلم واللغة في معنى
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ،
وهي أقاويل يشبه بعضها بعضا وهي كلها محتملة وتحتمل غيرها.
قال: والّذي عندي أن لقوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف معنيين:
أحدهما: علم القراءات للقرآن، والآخر: علم تأويله بصحة البيان، فأما المعنى الّذي هو وجه [القراءات] [ (1) ] للقرآن: فإنه يؤدي إلى سبعة أحرف على ما قاله المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم:
أولها: التأنيث والتذكير: مثل قوله: لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [ (2) ] ، ولا تقبل منها، ولا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ [ (3) ] ، ولا تحل لك.
وثانيها: الجمع والوحدان: كقوله: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] البقرة: 48.
[ (3) ] الأحزاب: 52.(4/260)
وكتبه [ (1) ] ، وو كتابه، وكقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ [ (2) ] ، وشهادتهم [ (3) ] ، وما أشبه ذلك.
وثالثها: الخفض والرفع: مثل قوله تعالى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ (4) ] ، محفوظ، وهَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [ (5) ] ، وغير اللَّه، وما أشبه ذلك.
ورابعها: الأدوات والآلات، مثل النون إذا شددتها، والألف إذا كسرتها أو فتحتها ونصبت ما بعدها، مثل قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [ (6) ] ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (7) ] ، وما أشبه ذلك.
وخامسها: الإعراب والتصريف: كقوله: يَعْرِشُونَ [ (8) ] ، ويَعْرِشُونَ، ويَعْكُفُونَ [ (9) ] ، ويَعْكُفُونَ، وما أشبه ذلك.
وسادسها: تغيير اللفظ واللفظ: كقوله تعالى: نُنْشِزُها [ (10) ] ، ونُنْشِزُها (بالراي والزاي) ، وما أشبه ذلك.
وسابعها: ما يدخل في اللفظ وحورته اللغة، مثل القصر والمد، والتفخيم والإمالة، والكسر والفتح، لأن هذه الأشياء عليها يدور جوامع كلام العرب، وهذا المعنى الّذي ذكرناه هو وجه القراءات للقرآن، أعني
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وقال أبو عبد اللَّه محمد بن أبي الفضل عبد اللَّه المرسي، في كتاب (ري الظمآن) : وهذه الوجوه أكثرها متداخلة، ولا أدري مسندها ولا عمّن نقلت، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر، مع أن كلها موجود في القرآن، ولا أدري معنى التخصيص، وفيها أشياء لا أفهم معناها على
__________
[ (1) ] التحريم: 12.
[ (2) ] المعارج: 32.
[ (3) ] المعارج: 33.
[ (4) ] البروج: 22.
[ (5) ] فاطر: 3.
[ (6) ] البقرة: 189.
[ (7) ] الأنفال: 17.
[ (8) ] الأعراف: 137، النحل: 68.
[ (9) ] الأعراف: 138.
[ (10) ] البقرة: 259.(4/261)
الحقيقة، وأكثرها يعارضها حديث عمر رضي اللَّه عنه، فذكره ثم قال: وهذا يقتضي أن الحروف السبعة ليس كما ذكروا: زاجر، وآمر، وحلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، [وكذلك] [ (1) ] أكثر الوجوه التي ذكروها في معنى: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وهذا لا يقتضي أن يخالف بعضهم بعضا فيه، لأن الخلاف لا يتصوّر فيه، فإنّهم يقرءون ما في القرآن من هذه الوجوه وهي لا [تختلف] [ (1) ] ، فكيف يخالف بعضهم بعضا؟ هذا لا أدري معناه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وقد اختلف الناس في معنى هذا الحديث اختلافا كثيرا، فقال الخليل بن أحمد: معنى قوله: سبعة أحرف: سبع قراءات، والحرف هاهنا القراءة.
وقال غيره: هي سبعة، إنما كل نحو منها جزء، ومن أجزاء القرآن خلاف [كثير في] [ (2) ] غيرها، وقد ذهبوا إلى أن كل حرف منها هو صنف من الأصناف، نحو قول اللَّه عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [ (3) ] ، وكان معنى الحرف الّذي يعبد اللَّه عليه هو صنف من الأصناف، ونوع من الأنواع التي يعبد اللَّه عليها، فمنها ما هو محمود عنده تبارك وتعالى، ومنها ما هو خلاف ذلك، فذهب هؤلاء في
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف،
إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف منها: زاجر، وآمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها محكم، ومنها متشابه، ومنها أمثال.
واحتجوا
بحديث يرويه سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أوجه: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في «خ» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] الحج: 11.(4/262)
حرامه، واعتبروا بأمثاله، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [ (1) ] .
وهذا حديث لا يثبت لأنه يرويه حيوة بن شريح، عن عقيل بن خالد عن سلمة هكذا، ويرويه الليث عن عقيل، عن ابن شهاب عن سلمة بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مرسلا، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس ممن يحتج به، وهذا الحديث [مجمع] [ (2) ] على ضعفه من جهة إسناده، وقد رده قوم من أهل النظر، منهم: أحمد بن أبي عمران قال: من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه، أو يكون حلالا لا ما سواه، لأنه يجوز أن تكون القراءة تقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله. ذكره الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران، سمعه منه، وهو كما قال ابن أبي عمران.
قال: واحتج ابن أبي عمران بحديث أبيّ بن كعب، أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف فاستزاده حتى بلغ سبعة أحرف، الحديث.
وقال قوم: هي سبع لغات في القرآن مفرقات على لغات العرب كلها، يمنها وبرارها، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وإلى هذا ذهب أبو عبيد في تأويل هذا الحديث.
قال: ليس معناه أن يقرأ الحرف على سبعة أوجه، هذا معنى غير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات مفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فيكون الحرف منها بلغة قبيلة أخرى سوى الأولى، والثالثة سواهما، كذلك إلى السبعة.
قال: وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب عن أنس، أن عثمان رضي اللَّه عنه قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم. وذكر
__________
[ (1) ] آل عمران: 7.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/263)
حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم، وذكر أخبارا قد ذكرنا أكثرها في هذا الباب.
وقال آخرون: هذه اللغات كلها السبعة، إنما تكون لمضر، واحتجوا بقوله:
نزل القرآن بلسان مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لطيّئ، ومنها لقيس، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب.
وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يحب الذين يكتبون المصاحف من مضر، وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر، وقالوا: مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها، مثل كشكشة قيس، وعنعنة تميم، فأما كشكشة قيس: فإنّهم يجعلون كاف المؤنث شيئا، فيقولون في [قوله تعالى] [ (1) ] : قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [ (2) ] ، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وأما عنعنة تميم: فيقولون في أن:
عن، فيقرءون في قوله تعالى: [فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ] [ (3) ] ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وبعضهم يبدل السين تاءا، فيقول في الناس: النات، وفي أكياس: أكيات، وهذه لغات يرغب بالقرآن عنها، ولا يحفظ عن السلف شيء منها.
وقال آخرون: أما بدل الهمزة عينا، وبدل حروف الحلق [ (4) ] بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد فسروا به [العنعنة] [ (5) ] ، واحتجوا بقراءة ابن مسعود: لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [ (6) ] ، وبقول ذي الرمة:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا عنّها غير طائل
يريد «إلا أنها» .
__________
[ (1) ] زيادة للبيان والسياق.
[ (2) ] مريم: 24.
[ (3) ] المائدة: 52.
[ (4) ] حروف الحلق سبعة يجمعها قول الناظم:
همز فهاء ثم عين حاء ... مهملتين ثم غين خاء
[ (5) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (6) ] يوسف: 35.(4/264)
وذكر من طريق أبي داود حديث هيثم عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن كعب الأنصاري، عن أبيه عن جده: أنه كان عند عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فقرأ رجل بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ، فقال عمر: من أقرأكها؟ قال: أقرأنيها ابن مسعود، فقال له عمر. حتى حين، وكتب إلى ابن مسعود: أما بعد، فإن اللَّه أنزل القرآن بلسان قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل. والسلام.
قال ابن عبد البر: ويحتمل أن يكون هذا من عمر رضي اللَّه عنه على سبيل الاختيار، لأن ما قرأ به ابن مسعود لا يجوز أن يمنع منه، وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل. واللَّه أعلم.
وقد روي عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه مثل قول عمر هذا، أن القرآن نزل بلغة قريش بخلاف الرواية الأولى، وهذا أثبت عنه لأنه من رواية ثقات المدينة، وذكر حديث ابن شهاب عن أنس، أن حذيفة قدم على عثمان، وقول عثمان رضي اللَّه عنه: فإن اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم.
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: معنى قول عثمان: فإنه نزل بلغة قريش، يريد معظمة وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره نزل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات وحروف بخلاف لغة قريش، وقد قال تعالى: جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [ (1) ] ، ولم يقل قرشيا، وهذا يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول: أنه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر، لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا.
وقال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش، معناه عندي الأغلب، واللَّه أعلم، لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القرآن من تحقيق
__________
[ (1) ] الزخرف: 3.(4/265)
الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز.
وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، صار في عجز هوازن منها خمسة، قال أبو حاتم: عجز هوازن: ثقيف، وبنو سعد بن بكر، وبنو جثم، وبنو نضر بن معاوية. قال أبو حاتم: خصّ هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان.
قال: وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش، أدناهم من بطون مضر. قال ابن عبد البر: هو حديث لا يثبت من جهة النقل، وقد روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: أنزل القرآن على لغة هذا الحي من ولد هوازن وثقيف.
وإسناد حديث سعيد هذا غير صحيح.
وقال الكلبي في قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف قال: خمسة منها لهوازن، وحرفان لسائر الناس، وأنكر أهل العلم [معنى] [ (1) ]
حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف:
سبع لغات، وقالوا: هذا لا [معنى] [ (1) ] له، لأنه لو كان [كذلك] [ (1) ] لم ينكر القوم في أول الأمر بعضهم على بعض، لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل عليه وفطر لم ينكر عليه.
وفي حديث مالك عن ابن شهاب المذكور في هذا الباب، ردّ قول من قال:
سبع لغات، لأن عمر رضي اللَّه عنه قرشي عدوي، وهشام بن حكيم بن حزام قرشيّ أسديّ، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما محال أن [يقرئ] [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واحدا منهما بغير ما يعرفه من لغته، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا.
وقال قوم: إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل، وتعال، وهلم. وعلى هذا أكثر أهل العلم، وذكر حديث أبي جهيم وحديث ابن مسعود، وحديث أبيّ بن كعب ثم قال: وهذا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.(4/266)
كله يعضد قول من قال: إن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه، نحو: هلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وانظر، واجر، ونحو ذلك.
وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يبين لك به أن ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء اللَّه، وأنه أصح من قول من قال: سبع لغات متفرقات، كما قدمنا ذكره، وكما هو موجود في القرآن بإجماع من كثرة اللغات المختلفات المتفرقات فيه، حتى لو تقصيت لكثير عددها.
وللعلماء في لغات القرآن مؤلفات تشهد لما قلنا،
وذكر من طريق أبي داود حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف: غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما.
ومن طريق النسائي: حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن شقير العبديّ [ (1) ] ، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب قال: سمعت رجلا يقرأ فقلت: من أقرأك فقال: رسول اللَّه، فقال: انطلق إليه، فانطلقنا إليه فقلت: أستقرئه يا رسول اللَّه، قال: اقرأ، فقرأ، فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أحسنت، فقلت: أو لم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى، وأنت قد أحسنت، فقلت: [تقول] [ (2) ] : قد أحسنت قد أحسنت؟ قال: فضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده في صدري ثم قال: اللَّهمّ أذهب عن أبيّ الشك، قال: نقضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا، قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
يا أبي: إن ملكين أتياني فقال أحدهما: اقرأ على حرف، قال الآخر: زده، قلت:
زدني، قال: اقرأ على حرفين، قال الآخر: زده، قلت زدني، قال: اقرأ على ثلاثة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأه على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال اقرأه على ستة أحرف، قال الآخر: زده، قلت زدني، قال اقرأه على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف.
وذكر طرقا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لم أجده فيمن روى عن سليمان بن صرد.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (3) ] سبق الإشارة إلى هذه الأحاديث.(4/267)
ثم قال: وهذه الآثار كلها تدل على أنه لم يقرئه على سبع لغات على ما تقدم ذكرنا له، وإنما هي أوجه تتفق معانيها، وتتسع ضروب الألفاظ فيها، إلا أنه ليس منها ما يخالف معنى إلى ضده، كالرحمة بالعذاب، وشبهه.
وذكر يعقوب بن شيبة قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: أتيت المسجد فجلست إلى ناس وجلسوا إليّ، فاستقرأت رجلا منهم سورة ما هي إلا ثلاثون آية [ (1) ] وهي حم [ (2) ] ، الأحقاف، فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها، فقلت من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قلت: وأنا الّذي أقرأني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وما أنا بمفارقكما حتى أذهب بكما إلى رسول اللَّه، فانطلقت بهما حتى أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعنده علي رضي اللَّه عنه فقلت:
يا رسول اللَّه! إنا اختلفنا في قراءتنا، قال: فتغير وجهه حين ذكرت الاختلاف وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، وقال عليّ: إن رسول اللَّه يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علّم، ولا أدري أسرّ إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما لم يسمع، أو علم الّذي كان في نفسه فتكلم به.
وكذلك رواه الأعمش وأبو بكر بن عياش وإسرائيل وحماد بن سلمة وأبان العطار، عن عاصم بإسناده ومعناه، ولم يذكر [الأعمش] [ (3) ] حماد وأبان وعليا، وقالا: رجل. وقال الأعمش في حديثه: ثم أسرّ إلي عليّ في حديثه فقال عليّ: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم.
وقال أبو جعفر الطحاوي في حديث عمر وهشام بن حكيم المذكور في هذا الباب: قد علمنا أن كل واحد منهما إنما أنكر على صاحبه ألفاظا قرأها الآخر، ليس في ذلك حلال ولا حرام، ولا زجر ولا أمر، وعلمنا بقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
هكذا أنزلت، أن السبعة الأحرف التي نزل القرآن بها لا تختلف في أمر ولا نهي،
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، لكن سورة الأحقاف خمسة وثلاثون آية.
[ (2) ] أول سورة الأحقاف.
[ (3) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.(4/268)
ولا حلال ولا حرام، وإنما هي كمثل قول الرجل للرجل: أقبل، وتعال، وادن، وهلم، ونحو هذا.
وأكثر أحاديث هذا الباب حجة لهذا المذهب، وذكر حديث أبي بكرة الّذي تقدم ذكره.
ومن طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال: قال الزهري: إنما هذه الأحرف السبعة هي في الأمر الواحد الّذي لا اختلاف فيه. وروي الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: إني سمعت القراءة فرأيتهم متقاربين، فاقرءوا كما علّمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم: هلم، وتعال.
وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا [ (1) ] . للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخرونا، للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الإسناد عن أبيّ أنه كان يقرأ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [ (2) ] مروا فيه، سعوا فيه، كل هذه الحروف كان يقرأها أبيّ بن كعب، فهذا معنى الحروف المراد بها الحديث. واللَّه أعلم، إلا أن مصحف عثمان الّذي هو بأيدي الناس اليوم، هو منها حرف واحد، وعلى هذا أهل العلم، فاعلم.
وذكر ابن وهب في كتاب (الترغيب والترهيب) قال: قيل لمالك رحمه اللَّه:
[أترى] أن تقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: ذلك جائز،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا منه ما تيسر، ومثل تعلمون، ويعلمون،
وقال: مالك: لا أرى باختلافهم في مثل هذا الباب بأسا.
قال: وقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كانت لهم مصاحف، قال ابن وهب: وسألت مالكا رحمه اللَّه عن مصحف عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، قال: وأخبرني مالك بن أنس قال: أقرأ عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه رجلا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ
__________
[ (1) ] الحديد: 13.
[ (2) ] البقرة: 20.(4/269)
طَعامُ الْأَثِيمِ [ (1) ] ، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له عبد اللَّه بن مسعود: طعام الفاجر، فقلت لمالك: أترى أن تقرأ كذلك؟ قال: نعم أرى ذلك واسعا.
قال ابن عبد البر: معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة، وإنما ذكرنا ذلك عن مالك تفسيرا لمعنى الحديث، وإنما لم تجز القراءة في الصلاة لأن ما عدا مصحف عثمان رضي اللَّه عنه لا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد، لا يقدم أحد على القطع في رده.
وقد روى عيسى عن ابن القاسم في المصحف بقراءة ابن مسعود قال: أرى أن يمنع الإمام من تبعه، ويضرب من قرأ به، ويمنع من ذلك. وقد قال مالك:
إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود وغيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصلّ وراءه، وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوما شذوا لا [يتابع] [ (2) ] عليهم، منهم: الأعمش سليمان بن بهزان. وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلا حرف زيد ابن ثابت الّذي جمع عليه عثمان المصاحف.
وذكر من حديث محمد بن عبد اللَّه الأصبهاني المقرئ، حدثنا أبو علي الحسن ابن صافي الصفّار، أن عبد اللَّه بن سليمان قال: حدثنا أبو الظاهر قال: سألت سفيان بن عيينة عن الاختلاف في قراءة المدنيين والعراقيين، هل تدخل في السبعة الأحرف فقال: لا، وإنما السبعة الأحرف: كقولهم: أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزأك، قال أبو الطاهر: وقاله ابن وهب.
قال أبو بكر بن عبد اللَّه الأصبهاني المقرئ: ومعنى سفيان هذا: إن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري. وقال أبو جعفر الطحاوي: كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القراءة على غيرها، لأنهم كانوا أميين لا يكتبون إلا القليل منهم،
__________
[ (1) ] الدخان: 43.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.(4/270)
فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو دام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسّع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كبر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها.
وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد. واحتج بحديث أبي بن كعب المذكور في هذا الباب من
رواية ابن أبي ليلى عنه، قوله فيه: إن أمتي لا تطيق ذلك في الحرف والحرفين والثلاثة، حتى بلغ السبعة،
واحتج بحديث عمر مع هشام بن حكيم، واحتج بجمع أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه للقرآن في جماعة الصحابة، ثم كتاب عثمان رضي اللَّه عنه لذلك، وكلاهما عول فيه على زيد بن ثابت. فأما أبو بكر رضي اللَّه عنه فأمر زيدا بالنظر فيما جمع منه، وأما عثمان رضي اللَّه عنه فأمره بإملائه من تلك الصحف التي كتبها أبو بكر، وكانت عند حفصة رضي اللَّه عنها.
وقال بعض المتأخرين من أهل العلم بالقرآن: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة، منها ما يتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل:
أَطْهَرُ لَكُمْ [ (1) ] ، وأطهر لكم، ووَ يَضِيقُ صَدْرِي [ (2) ] ، وو يضيق صدري، ونحو هذا.
ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا يتغير صورته، مثل قوله: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [ (3) ] ، وربنا باعد بين أسفارنا.
ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها بالإعراب ولا يتغير صورته، مثل قوله: إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [ (4) ] ، وننشرها.
__________
[ (1) ] هود: 78.
[ (2) ] الشعراء: 13.
[ (3) ] سبأ: 19.
[ (4) ] البقرة: 259.(4/271)
ومنها ما يتغير صورته ولا يتغير معناه، كقوله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ (1) ] ، وكالصوف المنقوش.
ومنها ما يتغير صورته ومعناه، مثل قوله: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [ (2) ] ، وو طلع منضود.
ومنها بالتقديم والتأخير، مثل: وجاءت سكرة الحق بالموت [ (3) ] ، ووَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ.
ومنها بالزيادة والنقصان، مثل: [لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً] [ (4) ] ، وتسع وتسعون نعجة أنثى.
قال ابن عبد البر: وهذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث، وفي كل وجه منها حروف كثيرة لا تحصى عددا، فمثل قوله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ (1) ] ، والصوف المنفوش، قراءة عمر رضي اللَّه عنه، فامضوا إلى ذكر اللَّه [ (5) ] وهو كثير. ومثل قوله: نعجة أنثى [ (6) ] ، قراءة ابن مسعود وغيره، فلا جناح عليه ألا يطوف بهما [ (7) ] ، وقراءة أبي بن كعب: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها [ (8) ] ، وهذا كثير أيضا.
وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلا حرف واحد، وهو صورة مصحف عثمان، وما دخل فيه بما يوافق صورته من الحركات واختلاف اللفظ من سائر الحروف.
ثم ذكر أبو [عمرو] [ (9) ] عدة قراءات من الشواذ بأسانيدها وقال: وقد أجاز
__________
[ (1) ] القارعة: 5.
[ (2) ] الواقعة: 29.
[ (3) ] ق: 19.
[ (4) ] ص: 23.
[ (5) ] وهي في قراءة حفص عن عاصم: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] .
[ (6) ] زيادة على قراءة حفص عن عاصم [ص: 23] .
[ (7) ] وهي في قراءة حفص عن عاصم: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] .
[ (8) ] وهي في قراءة حفص عن عاصم: بدون قوله: وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها [يونس: 24] .
[ (9) ] زيادة للسياق والبيان.(4/272)
مالك القراءة بهذا ومثله، وذلك محمول عند أهل العلم اليوم على القراءة في غير الصلاة على وجه التعليم، والوقوف على ما روى في ذلك من علم الخاصة.
وأما حرف زيد: فهو الّذي عليه الناس في مصاحفهم اليوم، وقراءتهم من بين سائر الحروف، لأن عثمان رضي اللَّه عنه جمع المصاحف بمحضر جمهور الصحابة. قال: وقد تقدم عن الطحاوي أن أبا بكر وعثمان رضي اللَّه عنهما عوّلا على زيد بن ثابت في ذلك، وأن الأمر عاد فيما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد، وهو الّذي عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه، وتجوز الصلاة به.
وقال القاضي أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن عطية: اختلف الناس في معنى هذا الحديث اختلافا شديدا، فذهب فريق من العلماء إلى أن تلك الحروف السبعة هي فيما يتفق أن يقال على سبعة أوجه فما دونه، كتعال، وأقبل، وإليّ، ونحوي، وقصدي، أقرب، وجيء، وكاللغات التي في أب، والحروف التي هي في كتاب اللَّه فيها قراءات كثيرة، وهذا قول ضعيف.
قال ابن شهاب في كتاب (مسلم) : بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الّذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام، وهذا كلام محتمل.
قال فريق من العلماء: أن المراد بالسبعة الأحرف: معاني كتاب اللَّه، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، وعبادات، وأمثال. وهذا أيضا ضعيف لأن هذه لا تسمى أحرفا، وأيضا [فالإجماع] [ (1) ] أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا في تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.
وحكى صاحب (الدلائل) عن بعض العلماء، وقد حكى نحوه القاضي أبو بكر الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة، فذكر ما تقدم،
قال: وذكر القاضي أبو بكر الطيب في معنى هذه السبعة الأحرف: حدثنا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن هذا القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: نهي، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلّوا حلاله وحرموا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/273)
حرامه. الحديث.
قال القاضي: فهذا تفسير منه صلّى اللَّه عليه وسلم للأحرف السبعة ولكن ليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها على اختلافها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [ (1) ] ، أي على وجه وطريقة، هي شك وريب، فكذلك يعني هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك.
وذكر القاضي أيضا أن أبيّا رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: إني قرأت القرآن على حرف أو حرفين، ثم زادني الملك حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفور رحيم، سميع عليم، أو عليم حكيم. وكذلك ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب.
وقد أسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وذكر من كلام ابن مسعود نحو قول القاضي ابن الطيب: وهذه سبعة غير السبعة التي هي قراءات، ووسع فيها، وإنما هي سبعة أوجه أسماء اللَّه تعالى، وإذا ثبتت هذه الرواية حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، ولا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء اللَّه تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه.
قال القاضي: وزعم قوم أن كل كلمة تختلف القراءة بها فإنّها على سبعة أوجه، وإلا بطل معنى الحديث. قالوا: ونعرف بعض الوجوه لمجيء [الخبر به] [ (2) ] ، ولا يعرف بعضها إذ لم يأت به خبر. قال: وقال قوم: ظاهر الحديث يوجب تواجد في القرآن كلمة أو كلمتان تقرءان على سبعة أوجه، فإذا حصل ذلك تم معنى الحديث.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد زعم قوم أن معنى هذا الحديث أنه أنزل على سبع لغات مختلفات، وهذا باطل إلا أن يريد الوجوه المختلفة التي تستعمل في القصة الواحدة، والدليل على ذلك أن لغة عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب،
__________
[ (1) ] الحج: 11.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/274)
وهشام بن حكيم وابن مسعود واحدة، وقراءتهم مختلفة، وخرجوا فيها إلى المناكرة.
فأما الأحرف التي صوّب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم القراءة بجميعها، وهي التي راجع فيها قراءته، وسهل عليه بعلمه تعالى بما هم عليه من اختلافهم في اللغات، فإنّها سبعة أوجه وسبع قراءات مختلفات بطرائق يقرأ بها على اختلافها في جميع القرآن، ومعظمه حسب ما تقتضيه القراءة.
[و] [ (1) ] العبارة في قوله: أنزل القرآن: فإنما أريد به الجميع أو المعظم، فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها، ويدل على ذلك قول الناس: حرف أبي، وحرف [ابن] [ (1) ] مسعود، ويقول في الجملة: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف من اللغات والإعراب، وتغيير الأسماء والصور، وأن ذلك متفرق في كتاب اللَّه تعالى ليس موجودا في حرف واحد وسورة واحدة يقطع على اجتماع ذلك فيها.
قال ابن عطية: انتهى ما جمعت من كلام القاضي أبي بكر، وإطلاقه البطلان على القول الّذي حكاه فيه نظر، لأن المذهب الصحيح الّذي قرره أجزاء من قوله، ونقول في الجملة: إنما فتح وترتب من جهة الاختلاف ليس بشديد التباين، حتى يجهل بعضهم ما عند بعض في الأكثر، وإنما هو أن قريشا استعملت في عبارتها شيئا، واستعملت هذيل في ذلك المعنى شيئا غيره، وسعد بن بكر غيره، والجميع كلامهم في الجملة ولغتهم.
واستدلال القاضي بأن لغة عمرو، وأبي، وهشام، وابن مسعود واحدة، فيه نظر، لأن ما استعملته قريش في عبارتها، ومنه عمر وهشام، وما استعملته الأنصار ومنهم أبي، وما استعملته هذيل ومنهم ابن مسعود قد تختلف، ومن ذلك النحو من الاختلاف هو الاختلاف في كتاب اللَّه تعالى، فليست لغتهم واحدة في كل شيء.
وأيضا فلو كانت لغتهم واحدة، بأن نفرضهم جميعا من قبيلة واحدة، لما كان اختلافهم حجة على من قال: إن القرآن أنزل على سبع لغات، لأن مناكرتهم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/275)
لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس فيه لغته فأنكره، وإنما كانت لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وعساه قرأ قراءة ما ليس من لغته واستعمال قبيلته.
فقال القاضي رحمه اللَّه: إنما أبطل أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قصد في قوله: على سبعة أحرف بعدد اللغات التي تختلف بجملتها، وأن تكون سبعا متباينة لسبع قبائل، تقرأ كل قبيلة القرآن كله بحرفها، ولا تدخل عليها لغة غيرها، بل قصد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، عنده عدّ الوجوه والطرائق المختلفة في كتاب اللَّه، مرة من جهة لغة، ومرة من جهة إعراب، وغير ذلك.
ولا مرية أن هذه الوجوه إنما اختلفت لاختلاف في العبارات بين الجملة التي نزل القرآن بلسانها، وذلك يقال فيه اختلاف لغات.
وصحيح أن يقصد عليه السلام عدّ الأنحاء والوجوه التي اختلفت في القرآن بسبب اختلاف عبارات اللغات، وصحيح أن يقصد عدّ الجماهير والرءوس من الجملة التي نزل القرآن بلسانها، وهي قبائل مضر، فجعلها سبعة، وهذا القول أكثر توسعة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم لأن الأنحاء تبقى غير محصورة، فعسى أن الملك قد أقرأه بأكثر من سبعة طرائق ووجوه. قال القاضي أبو بكر في كلامه المتقدم: فجائز أن يقرأ بهذه الوجوه على اختلافها.
قال ابن عطية: والشرط الّذي يصح به هذا القول: هو أن يروى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال كثير من أهل العلم، كأبي عبيد وغيره: إن معنى الحديث أنه أنزل على سبع لغات لسبع قبائل، أتيت فيها كل لغة منها. وهذا القول المتقرر من كلام القاضي أبي بكر.
وقد ذكر بعضهم قبائل من العرب روما منهم أن يعينوا السبع التي يحسن أن تكون مراده عليه السلام، نظروا في ذلك بحسب القطر ومن جاور منشأ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. واختلفوا في التسمية، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قرشيّ واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم ثم ترعرع، [] [ (1) ] وهو يخالط في اللسان كنانة وهذيلا وثقيفا،
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين كلمتان غير واضحتين في (خ) .(4/276)
وخزاعة وأسدا وضبّة وألفافها لقربهم من مكة، وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما وقيسا ومن انضاف إليهم وسط الجزيرة.
فلما بعثه اللَّه تعالى ويسّر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي التي قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهي اختلافات في العبارات حسب ما تقدم.
قال ثابت بن قيس: لو قلنا من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفافها، ومنها لقيس، لكان قد أتى على قبائل مضر في سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها القرآن، وهذا نحو ما ذكرناه.
وهذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدّخل، ويسّرها اللَّه لذلك، لتظهر آيات نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها: أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز، ونجد، وتهامة، لم تطرقها الأمم، فأما اليمن وهو جنوب الجزيرة، فأفسدت كلام عربه خلطه الحبشة والهنود، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها.
قال ابن عطية: وذلك عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن، كالعرم والفتاح، فأما ما انفرد به كالرجيح، والغلوب ونحوه، فليس في كتاب اللَّه منه شيء، وأما ما [والى] [ (1) ] العراق من جزيرة العرب، وهي بلاد ربيعة وشرقيّ الجزيرة، فأفسدت لغتها مخالطة الفرس والنّبط، ونصارى الحيرة وغير ذلك، وأما الّذي يلي الشام وهو شمال الجزيرة وغيرهم فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بني إسرائيل، وأما غربي الجزيرة، فهو جبال سكن بعضها هذيل وغيرهم، وأكثرها غير معمور، فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللغات، لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم.
ويقوي هذا النوع أنه لما اتسع نطاق الإسلام، وداخلت الأمم العرب وتجرد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.(4/277)
أهل المصرين: البصرة والكوفة لحفظ لسان العرب وكتب لغتها، لم يأخذوا إلا عن هذه القبائل الوسيطة المذكورة ومن كان معها، وتجنبوا اليمن والعراق والشام، فلم يكتب عنهم حرف واحد، ولذلك تجنبوا حواضر الحجاز: مكة والمدينة والطائف، لأن السبي والتجار من الأمم كثروا فيها وأفسدوا اللغة، وكانت هذه الحواضر في مدة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم سليمة لقلة المخالطة.
فمعنى قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف، أي فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها، فنزل القرآن فيعبّر عن المعنى فيه بعبارة قريش [مرة] ، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة، ألا ترى أن «فطر» معناها عند غير قريش ابتدأ خلق الشيء وعمله، فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس رضي اللَّه عنه حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (1) ] ، وقال أيضا: ما كنت أدري معنى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا [ (2) ] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك [ (3) ] .
وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وكان لا يفهم معنى قوله تعالى:
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [ (4) ] فوقف به فتى فقال: إن أبي يتخوفني حقي، فقال عمر: اللَّه أكبر، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، أي على تنقص [ (5) ] لهم.
وكذلك اتفق لقطبة بن مالك، إذ سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في الصلاة:
__________
[ (1) ] فاطر: 1.
[ (2) ] الأعراف: 89.
[ (3) ] وقال الفرّاء: أهل عمان يسمون القاضي: الفاتح. (البحر المحيط) : 5/ 115، تفسير سورة الأعراف: 89.
[ (4) ] النحل: 47.
[ (5) ] قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقال ابن قتيبة: يقال: خوّفته وتخوّفته، إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه، وقال الهيثم بن عديّ: هو النقص بلغة أزد شنوءة. وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ: بأنه التنقص في لغة هذيل. (المرجع السابق) : 6/ 535، تفسير سورة النحل: 47.(4/278)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ (1) ] ، ذكره مسلم [ (2) ] في باب: القراءة في صلاة الفجر. إلى غير ذلك من الأمثلة.
خرج مسلم [ (2) ] من حديث أبي عوانة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلّى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقرأ ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ (3) ] ، حتى قرأ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ (1) ] ، قال: فجعلت أرددها ولا أدري ما قال.
فأباح اللَّه تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الّذي فيه الإعجاز وجودة الوصف، ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: فاقرءوا بما تيسر منه بأن يكون كل أحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات، جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، وكان معرضا أن يبدّل هذا وهذا، حتى يكون غير الّذي نزل من عند اللَّه، وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم ليوسّع بها على أمّته، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضة به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضة به أيضا.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى بي إلى سبعة أحرف.
وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه لسورة الفرقان، وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في كل قراءة منها وقد اختلفتا: هكذا أقرأني جبريل، هل ذلك إلا أنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة.
وعلى هذا يحمل قول أنس بن مالك حين قرأ: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا [ (4) ] ، فقيل له: إنما تقرأ: وَأَقْوَمُ قِيلًا [ (4) ] ، فقال:
أصوب وأقوم واحد، فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وإلا فلو كان
__________
[ (1) ] ق: 10.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 422، كتاب الصلاة باب (35) القراءة في الصبح، حديث رقم (165- (457)) .
[ (3) ] ق: 1- 2.
[ (4) ] المزمل: 6.(4/279)
هذا لأحد من الناس أن يضعه، لبطل معنى قول اللَّه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (1) ] ، ثم إن هذه الرواية الكثيرة لما انتشرت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وافترق الصحابة في البلدان، وجاء الخلف، وقراء القرآن كثير من غير العرب، ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه.
وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روى لها، فاختلفوا وتنازعوا حتى قال بعضهم لبعض: أنا كافر بما تقرأ به، فأشفق حذيفة بما رأى منهم.
فلما قدم حذيفة المدينة- فيما ذكر البخاري وغيره- دخل إلى عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه قبل أن يدخل بيته فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال:
[في ماذا] ؟ قال: في كتاب اللَّه، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق ومن الحجاز، ومن الشام، فوصف له ما تقدم، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى، قال عثمان: أفعل، فتجرد الأمر واستناب الكفاءة من العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن، ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأفصح اللغات، وقال لهم: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش.
فمعنى هذا: إذا اختلفتم فيما روي وإلّا فمحال أن يحملهم على اختلافهم من قبلهم، فكتبوا في القرآن من كل اللغات السبع، مرة من هذه، ومرة من هذه، وذلك مقيد بأن الجميع مما روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقرئ عليه، واستمر الصحابة رضي اللَّه عنهم على هذا المصحف المتخيّر، وترك ما سواه ممّا كان كتب تفسيرا ونحوه، سدا للذريعة، وتغليبا لمصلحة الألفة، وهي المصاحف التي أمر عثمان رضي اللَّه عنه أن تحرق أن تمزق.
ألا ترى أن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أبى أن يزال مصحفه؟ فترك، ولكن أبى العلماء قراءته سدا للذريعة، ولأنه روي أنه كتب فيه [سورة] [ (2) ] النساء على
__________
[ (1) ] الحجر: 9.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/280)
جهة التفسير، فظنها قوم من التلاوة، فاختلط الأمر فيه، ولم يسقط مما ترك معنى من معاني القرآن، لأن المعنى جزء من الشريعة، وإنما تركت ألفاظ معانيها موجودة في الّذي أثبت.
ثم إن القراء في الأمصار تتبّعوا ما روي لهم من اختلاف لا يخالف خط المصحف المتميز، فقرءوا بذلك حسب اجتهاداتهم، فلذلك ترتب أمر القراء السبعة وغيرهم، ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة، وبها يصلي لأنها ثبتت بالإجماع.
وأما شاذ القراءات فلا يصلي به، وذلك لأنه لم يجمع الناس عليه، فأما المروي منه عن الصحابة وعن علماء التابعين، فلا نعتقد منهم إلا أنهم رووه، وأما ما يؤثر عن [غيرهم] [ (1) ] فلا يوثق به.
وقال أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره: قال كثير من علمائنا:
هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست إلا هي حرف السبعة التي اتسعت القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الّذي جمع عليه عثمان رضي اللَّه عنه المصحف.
وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روي وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، فالتزمه طريقة ورواه، وأقرأ به فاشتهر عنه وعرف به ونسب إليه، فقيل: حرف نافع، وحرف ابن كثير ... ، ولم يمنع واحدا منهم اختيار الآخر ولا أنكره، بل سوّغه، وجوّزه، وكل واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران وأكثر، وكل صحيح.
وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيما رووه ورواه من القرآن، وكتبوا ذلك في مصنفات، فاستمر الإجماع على الصواب، وحصل ما وعد اللَّه تعالى به من حفظ الكتاب، وعلى هذه الأئمة المتقدمون والقضاة، والمحققون، كالقاضي أبي بكر بن الطيب، والطبري وغيرهما.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ولعلّ ما أثبتناه يناسب السياق.(4/281)
[الناسخ والمنسوخ]
وأما النسخ فإنه إذا أطلق يراد به شيئان:
أحدهما: بمعنى التحويل والنقل، ومنه نسخ الكتاب، وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب، فعلى هذا الوجه جميع القرآن منسوخ، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ، وأنزل إلى بيت العزة في سماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ [نُنْسِها] [ (1) ] الآية، ومنه قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ (2) ] ، أي نأمر بنسخة وإثباته.
والثاني: يكون بمعنى الرفع والإزالة، وهو على ضربين: أحدهما: رفع الشيء وزواله، ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل، وانتسخته: أي أزالته وذهبت به وأبطلته، [و] [ (3) ] [نسخت الريح آثار الدار، ومن هذا المعنى قوله تعالى:] [ (3) ] فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [ (4) ] ، أي يزيله بلا شيء، ولا يثبت في المصحف بدله، وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني كان ينزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم السورة فترفع ولا تتلى ولا تكتب، فعلى القسم الأول يكون بعض القرآن ناسخا، وبعضه منسوخا، وهو المراد من قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ [نُنْسِها] [ (3) ] نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [ (1) ] .
وقد اختلف في القرآن، هل نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم أو لا؟ فمن قال نسخ منه شيء جعل النسخ على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما نسخ خطه وحكمه وحفظه، فنسي: يعنى رفع خطه من المصحف وليس حفظه على وجه التلاوة، ولا يقطع بصحته على اللَّه تعالى، ولا يحكم به اليوم أحد، وذلك نحو ما روي أنه كان يقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ومنها قوله: لو أن لابن آدم واديا من ذهب [لا بتغى] [ (5) ] إليه ثانيا ولو أن له ثانيا [لا بتغى] [ (5) ] إليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم
__________
[ (1) ] البقرة: 106.
[ (2) ] الجاثية: 29.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] الحج: 25.
[ (5) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .(4/282)
إلا التراب ويتوب اللَّه على من تاب [ (1) ] ، ويقال: إن هذا كان في سورة ص [ (2) ] .
ومنها قوله: بلّغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا. وهذا من حديث مالك عن إسحاق عن أنس أنه قال: أنزل اللَّه في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا ثم نسخ بعد: بلغوا قومنا ... ، وذكره.
ومنها قول عائشة رضي اللَّه عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهن مما يقرأ، إلى أشياء في مصحف أبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين، وغيرهم مما يطول- ذكره.
ومن هذا الباب قول من قال: أن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة أو الأعراف. روى سفيان وحماد عن عاصم، عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب كانت تقرأ سورة الأحزاب أو كانت نعدها قلت: ثلاثة وسبعين آية، قال: قط؟ لقد رأيتها وإنها لتعدل البقرة. ولقد كان فيما قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم.
وقال مسلم بن خالد، عن عمرو بن دينار قال: كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة. وروي أبو نعيم من حديث الفضل بن دكين قال: حدثنا سيف (هو ابن أبي سليمان، أو ابن سليمان) عن مجاهد قال: كانت الأحزاب مثل سورة البقرة وأطول، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآنا. حدثنا عبد اللَّه بن الأجلح عن أبيه عن عدي بن عدي بن عميرة بن بردة عن أبيه عن جده عميرة بن بردة، أن عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه قال لأبيّ بن كعب- وهو إلى جنبه-: أو ليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه: الولد للفراش وللعاهر الحجر فيما فقدنا من كتاب اللَّه؟ فقال أبي: بلى [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 7/ 146، كتاب الزكاة، باب (39) لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا، حديث رقم (119- (1050)) . وفيه ذم الحرص على الدنيا وجب المكاثرة بها، والرغبة فيها، ومعنى لا يملأ جوفه إلا التراب: أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت، ويمتلئ جوفه من تراب قبره. (المرجع السابق) .
[ (2) ] ص: 1.
[ (3) ] هذه الفقرة مختصرة من (خ) لعدم وضوح بعض الكلمات.(4/283)
الوجه الثاني: أن ينسخ خطه [ويبقى] [ (1) ] حكمه، وذلك نحو قول عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لولا أن يقول قوم: زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها بيدي، الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللذة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم [ (2) ] ، لقد قرأناها على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فهذا مما نسخ ورفع خطه من المصحف، وحكمه باق في الثيب من الزنا إلى يوم القيامة إن شاء اللَّه تعالى عند أهل السنة.
ومن هذا ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قال: أمرتني عائشة رضي اللَّه عنها أن أكتب لها مصحفا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [وصلاة العصر] وقوموا للَّه قانتين [ (3) ] ثم قالت: سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقد تأول قوم في قول عمر رضي اللَّه عنه: قرأنا على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، أي تلوناها، والحكمة تتلى، بدليل قول اللَّه تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
[ (4) ] ، وبين أهل العلم في هذا تنازع يطول ذكره.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من صحيح مسلم.
[ (2) ] (روائع البيان بتفسير آيات الأحكام) : 2/ 25، وقال فيه: إن اللَّه بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، يعني بها قوله تعالى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم، فقرأناها ووعينا، ورجم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ورجمنا بعده، وأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب اللَّه تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه عزّ وجلّ في كتابه، ألا وإن الرجم حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال أو النساء وقامت البينة، أو كان حمل أو اعتراف واللَّه لولا أن يقول الناس: زاد في كتاب اللَّه لكتبتها، (تفسير التحرير والتنوير) : 18/ 194.
[ (3) ] (شرح الزرقاني على الموطأ) : 1/ 402، كتاب الصلاة، باب (83) الصلاة الوسطى، حديث رقم (311) : حدثني يحيى عن مالك، عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ:
حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وحديث رقم (312) : وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.
والآية من سورة البقرة: 238.
[ (4) ] الأحزاب: 34.(4/284)
والوجه الثالث: أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف، وهذا كثير نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [ (1) ] الآية، نسختها: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [ (2) ] الآية، وهذا من الناسخ والمنسوخ [المجمع] عليه، ومن هذا الباب: آية الوصية للأقارب، وآية التخفيف في القتال، وهو نسخ الثبات لعشرة بالثبات لاثنين، وهو نسخ الأثقل إلى الأخف، وعكسه: نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل، كصدقة النجوى [ (3) ] ، والصلاة إلى بيت المقدس لم تكن في القرآن، وإنما كانت في السنة.
ومنه أيضا: آية الممتحنة، وهي قوله تعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [ (4) ] ، فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لقريش، وقد أبت طائفة أن يكون شيء من القرآن إلا ما بين الوحي مصحف عثمان رضي اللَّه عنه، واحتجوا بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (5) ] ، وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان بن عفان، وهو الّذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا، هو القرآن المحفوظ الّذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه. قالوا: قوله في حديث عائشة: والصلاة الوسطى وصلاة العصر، ليس في شيء من معنى الناسخ والمنسوخ [ (6) ] ، وإنما هو من معنى السبعة الأحرف التي أنزل اللَّه القرآن عليها، نحو قراءة عمر، وابن مسعود: فامضوا إلى ذكر اللَّه، وقراءة ابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وقراءة أبي وابن عباس:
وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين [ (7) ] ، وقراءة ابن مسعود وابن عباس:
__________
[ (1) ] البقرة: 240.
[ (2) ] البقرة: 234.
[ (3) ] المجادلة: 8، 10، 12.
[ (4) ] الممتحنة: 10.
[ (5) ] الحجر: 9.
[ (6) ] قوله: «سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم» : قال الباجي: يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء، فلعل عائشة لم تعلم بنسخها، أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلّى اللَّه عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها، فظنتها قرآنا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك، أو أنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن معه، على ما روي عن أبي وغيره من الصحابة، أنهم جوزوا إثبات القنوت وبعض التفسير في المصحف وإن لم يعتقدوه قرآنا. (الزرقاني على الموطأ) : 2/ 403.
[ (7) ] وهي في قراءة حفص: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف: 80] .(4/285)
فلما خرّ تبينت الإنس أن لو كانت الجن يعلمون الغيب [ (1) ] ، ونحو ذلك من القراءات المضافة إلى الأحرف السبعة.
قالوا: فكل ما روي من القراءات في الآثار عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة مما يخالف مصحف عثمان لا يقطع بشيء من ذلك على اللَّه، ولكن ذلك في الأحكام يجري في العمل مجرى خبر الواحد، وإنما حلّ مصحف عثمان هذا المحل لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه، ولم يجمعوا على ما سواه، وبيان ذلك أن من أنكر شيئا مما في مصحف عثمان كفر، ومن أنكر أن يكون التسليم من الصلاة، أو قراءة أم القرآن، أو تكبيرة الإحرام فرضا لم يكفر [] [ (2) ] ، فإن بان له في الحجة وإلا عذر إذا قام له دليله، وإن لم يقم له على ما [ادعى] [ (3) ] ، دليل محتمل هجر ويدع، وكذلك ما جاء من الآيات المضافات إلى القرآن في الآثار. فقف على هذا الأصل فإنه أصل عظيم في معناه، واللَّه الموفق لا رب سواه.
وصلى اللَّه على سيدنا محمد وسلم.
__________
[ (1) ] وهي في قراءة حفص: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ [سبأ: 14] .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين كلمة مطموسة في (خ) .
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان.(4/286)
[القراءات التي يقرأ بها القرآن]
وأما القراءات التي يقرأ بها القرآن، فإن الّذي استقر عليه العمل، أنها ثلاثة أقسام: متواترة، ومشهورة، وشاذة، فالقراءات المتواترة: هي القراءات السبع وما يفرع منها، وهي التي نقلت عن الأئمة القراء السبعة. والقراءات المشهورة: هي قراءة يعقوب ويزيد القاري وابن محيصن. والقراءات الشاذة: ما نقلت بطريق الآحاد، وفيها للناس مقالات سنورد منها ما تيسر إن شاء اللَّه تعالى، وقد عني جماعة من الصحابة رضي اللَّه عنهم بجمع القرآن وحفظه كله، حتى عرفوا به، فجمع القرآن منهم مع كثرتهم اثنا عشر رجلا، وهم: أمير المؤمنين أبو عمرو، وأبو عبد اللَّه عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقرأ عليه المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، ويقال: قرأ عليه ابن عامر، وليس بشيء، إنما قرأ علي المغيرة عنه.
وأمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، رضي اللَّه عنه، جمع القرآن بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال الشعبي: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء الأربعة إلا عثمان.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم قال: ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وكان قد قرأ على عليّ رضي اللَّه عنه، فكنت أرجع من عنده، فأعرض على زرّ وكان زرّ قد قرأ على عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، وهذا يرد على الشعبي قوله، إلا أن يريد: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء الأربعة إلا عثمان، أي في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإنه صحيح.
وقال علي بن رباح: جمع القرآن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أربعة: علي، وعثمان، وأبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود.
وقال حماد بن زيد: أخبرنا أيوب عن [ابن] سيرين قال: مات أبو بكر رضي اللَّه عنه ولم يختم القرآن.
وقال ابن علية، عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي: قبض أبو بكر وعمر وعلي، رضي اللَّه عنهم ولم يجمعوا القرآن.(4/287)
وقال يحيى بن آدم: قلت لأبي بكر بن عياش: إن عليا لم يقرأ القرآن؟ قال:
أبطل من قال هذا.
وروي عن عاصم بن أبي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدا كان أقرأ من علي رضي اللَّه عنه، وقال ابن سرين: يزعمون أن عليا كتب القرآن على تنزيله، فلو أصيب ذلك الكتاب لكان فيه علم كثير.
وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن أبي النجار أبو المنذر الأنصاري رضي اللَّه عنه أقرأ الأمة، عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم القرآن، وأخذ عنه القراءة عبد اللَّه بن عباس، وأبو هريرة، وعبد اللَّه بن السائب، وعبد اللَّه بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو عبد الرحمن السلميّ.
وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأقرأه، وكان يقول: حفظت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبعين سورة، قرأ عليه علقمة، ومسروق، والأسود، وزرّ بن حبيش، وأبو عبد الرحمن السّلمي.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد،
قال: استقرءوا القرآن من أربعة:
عبد اللَّه بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب.
وقال عبد اللَّه بن مسعود: ولقد [كان] أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أقرأهم لكتاب اللَّه، وقال ابن الأنباري: الشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل:
أن عبد اللَّه بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال بعض الأئمة: مات قبل أن يختم القرآن كله.
قال يحيى بن آدم عن أبي بكر، عن أبي إسحاق قال: قال عبد اللَّه بن مسعود:
قرأت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثنتين وسبعين سورة، أو ثلاثا وسبعين سورة، وقرأت عليه من البقرة إلى: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [ (1) ] .
قال أبو إسحاق: وتعلم عبد اللَّه بقية القرآن من مجمع بن جارية الأنصاري، وقال زكريا عن أبي إسحاق عن معديكرب قال: أتيت عبد اللَّه ليعلمني:
طسم [ (2) ] المبين، فقال: لست أقرأها، وأمرني أن آتي [] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 222.
[ (2) ] أول سورة القصص.
[ (3) ] بياض في (خ) .(4/288)
وقال زهير عن أبي إسحاق قال: سألت الأسود ما كان عبد اللَّه يصنع في سورة الأعراف فقال: ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة.
وقال أبو عثمان سعيد بن عيسى صاحب الجيش: سمعت يزيد بن هارون يقول:
المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران، من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر باللَّه العظيم، فقيل له: يقول عبد اللَّه بن مسعود فيهما، فقال: لا خلاف بين المسلمين في أن عبد اللَّه بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله.
وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري، جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وجمعه في مصحف لأبي بكر رضي اللَّه عنه، ثم تولى كتابة مصحف عثمان رضي اللَّه عنه، الّذي بعث به عثمان نسخا إلى الأمصار، وقرأ عليه أبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس في قول.
وقال سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: افتخر الحيان- الأوس والخزرج- فقالت الأوس: منا عسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من حمت له الدبر، ومنا من اهتز لموته عرش الرحمن- سعد بن معاذ-، ومنّا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين- خزيمة بن ثابت، فقال الخزرج: منا الأربعة الذين جمعوا القرآن- لم يجمعه غيرهم- زيد، وأبو زيد، ومعاذ، وأبي، رضي اللَّه عنهم.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر- يعني الواقدي- حدثني الضحاك ابن عثمان عن الزهري قال: قال ثعلبة بن أبي مالك: سمعت عثمان رضي اللَّه عنه يقول:
من يعذرني من ابن مسعود؟ أغضب إذ لم أوّله نسخ القرآن، فهلا غضب علي أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما وهما عزلاه عن ذلك ووليا زيدا فاتبعت أمرهما؟
وقال الشعبي: غلب زيد الناس على القرآن والفرائض.
وقال داود بن أبي هند عن الشعبي: لم يجمع القرآن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غير ستة، كلهم من الأنصار: زيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، ونسي السادس، فرواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، فسمى السادس، سعد بن عبيد، وزاد آخر، وهو مجمع بن جارية، فقال:
قرأ أيضا القرآن إلا سورة أو سورتين أو ثلاثا.(4/289)
وقال أبو عمر البزار حفص بن سليمان بن المغيرة، عن عاصم بن أبي النجود، وعطاء بن السائب، ومحمد بن أيوب الثقفي، وابن أبي ليلى، عن عبد الرحمن السلمي أنه قال: كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، والمهاجرين، والأنصار رضي اللَّه عنهم جميعا واحدة. وأبو موسى الأشعري رضي اللَّه عنه حفظ القرآن والعلم، قرأ عليه أبو رجاء العطاردي، وحطان الرقاش.
قال مسلم بن إبراهيم: حدثنا قرة عن أبي رجاء قال: كان أبو موسى يطوف علينا في هذا المسجد- مسجد البصرة- فيقعدنا خلفا فيقرئنا القرآن، فكأني انظر إليه بين ثوبين له أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (1) ] ، وكانت أول سورة أنزلها اللَّه عزّ وجلّ على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
وأبو الدرداء رضي اللَّه عنه قرأ القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يقال أن عبد اللَّه بن عامر قرأ عليه. قال سويد بن عبد العزيز: كان أبو الدرداء إذا صلّى الغداة في جامع دمشق، اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فيسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفا على عشرة، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر.
وعن مسلم بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء: أعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفا وستمائة ونيفا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائما، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء، فهؤلاء الذين روى الحفاظ أنهم حفظوا القرآن في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخذ عنهم القرآن عرضا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة.
وقد جمع القرآن من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غير من سمينا، وهم: معاذ بن جبل، وأبو زيد، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد اللَّه بن عمر، وعقبة بن عامر، ولكن لم يتصل بنا قراءتهم.
وقال ابن الكلبي: وقيس بن سكن بن قيس بن زيد بن حزام، [يكنى] أبا زيد، وقتل يوم [جسر أبي عبيد] [ (2) ] ، وهو أحد القراء الذين جمعوا القرآن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] أول سورة العلق.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين غير واضح في (خ) ، وأثبتناه من (الإصابة) : 5/ 471 ترجمة قيس بن السكن رقم (7186) .(4/290)
وبعد هؤلاء طبقة ثانية عرضوا القرآن على بعض المذكورين، وهم: أبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس، وقرأ على أبي بن كعب، وقرأ عليه مجاهد، وسعيد ابن جبير، والأعرج، وعكرمة بن خالد، وسليمان بن منية شيخ عاصم الجحدري، وأبو جعفر وغيرهم. قال ابن عباس: جمعت المفصل على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعبد اللَّه بن السائب بن أبي السائب، صيفي بن عائذ بن عمر بن مخزوم المخزومي، قارئ أهل مكة، له صحبة، قرأ على أبي بن كعب، وعرض عليه القرآن مجاهد، وعبد اللَّه بن كثير فيما قيل، والمغيرة بن شهاب المخزومي قرأ على أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه، وقرأ عليه عبد اللَّه بن عامر، وكان يقرئ أهل الشام في أيام معاوية، ولا يكاد يعرف إلا من قراءة ابن عامر عليه.
وحطان بن عبد العزيز بن المغيرة بن ربيعة بن عمر بن مخزوم الرقاشيّ- ويقال السدوس البصري- قرأ على أبي موسى الأشعري، وقرأ عليه الحسن البصري وعلقمة ابن قيس بن عبد اللَّه النّخعيّ، أبو شبل، قرأ على ابن مسعود، قرأ عليه يحيى ابن وثاب، وعبيد بن نضلة، وأبو إسحاق، وطائفة.
وأبو عبد الرحمن السلمي واسمه: عبد اللَّه بن حبيب، عرض على عثمان، وعليّ وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب.
وأخد القراءة عنه عرضا: عاصم بن أبي النجود، ويحيى بن وثاب، وعطاء ابن السائب، وعبد اللَّه بن عيس بن أبي ليلى، ومحمد بن أيوب أبو عون الثقفي، وعامر الشعبي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعرض عليه الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، وأقرأ الناس بالمسجد الأعظم بالكوفة أربعين سنة.
وعبد اللَّه بن عياش بن ربيعة المخزومي أبو الحرث، قرأ على أبي بن كعب، وقرأ عليه مولاه أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ويزيد بن رومان، وشيبة بن نصاح، ومسلم بن جندب وغيرهم، وكان أقرأ أهل المدينة في زمانه.
وأبو رجاء العطاردي، واسمه: عمران بن تيم البصري، أخذ القراءة عرضا عن عبد اللَّه بن عباس، وتلقن القرآن من أبي موسى الأشعري، وقرأ عليه أبو الأشهب العطاردي.(4/291)
وأبو الأسود الدؤلي، واسمه: ظالم بن عمر، وقرأ على عليّ بن أبي طالب، وأبو العالية رفيع بن مهران الرباحيّ، قرأ على أبيّ بن كعب، أخذ القراءة عليه عرضا، وعرض على زيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عباس، ويقال قرأه على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
قرأ عليه شعيب بن الحبحاب، والربيع بن أنس، وسليمان بن مهران الأعمش، ويقال: قرأ عليه أبو عمر، فهؤلاء الذين دارت عليهم أسانيد القراءات العشرة، ممن أدرك حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ثم بعد هؤلاء طبقة ثالثة من التابعين، ثم بعدهم [تابعو] التابعين، ثم من بعدهم قرنا بعد قرن، وكانت المدن التي سكنها هؤلاء القراء الذين أخذ عنهم القراءات: المدينة النبويّة، ومكة، والبصرة، ودمشق، والشام، والكوفة.(4/292)
[التابعون بالمدينة المنوّرة من القراء]
فأما التابعون بالمدينة الذين كثرت عنايتهم بقراءة القرآن والعلم بقراءاته: فسعيد ابن المسيب [ (1) ] ، وأبان بن عثمان [ (2) ] ، وعروة بن الزبير [ (3) ] ، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر [ (4) ] ، وسليمان بن يسار [ (5) ] ، ومحمد بن كعب القرظي [ (6) ] .
__________
[ (1) ] هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، سيد التابعين، ولد لسنتين مضتا- وقيل لأربع- من خلافة عمر، ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة. مات سنة أربع وتسعين وقيل: ثلاث وتسعين. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
4/ 74، ترجمة رقم (145) ، (طبقات الحفاظ) : 25، ترجمة رقم (37) ، (تذكرة الحفاظ) : 1/ 54، (طبقات ابن سعد) : 5/ 88.
[ (2) ] هو أبان بن عثمان بن عفان، الإمام الفقيه، الأمير، أبو سعد بن أمير المؤمنين أبي عمرو الأموي، المدنيّ.
سمع أباه، وزيد بن ثابت، حدّث عنه الزهريّ، وأبو الزناد، وجماعة وله أحاديث قليلة، ووفادة على عبد الملك. قال ابن سعد: ثقة، له أحاديث عن أبيه، توفي سنة خمس ومائة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 151، (تاريخ البخاري) : 1/ 450، (المعارف) : 201، (الجرح والتعديل) :
القسم الأول من المجلد الأول 295، (تهذيب الأسماء واللغات) : القسم الأول من الجزء الأول 97، (شذرات الذهب) ، 1/ 131، (سير أعلام النبلاء) ، 4/ 351، ترجمة رقم (133) .
[ (3) ] هو عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد اللَّه المدني، فقيه عالم، كثير الحديث، صالح، لم يدخل في شيء من الفتن. قال هشام: ما تعلمنا جزءا من ألف جزء من أحاديثه، وهو أحد الفقهاء السبعة.
وقال الزهريّ: أربعة من قريش وجدتهم بحورا: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه. وقال ابن عيينة: إن أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة، القاسم ابن محمد، وعروة، وعمرة بنت عبد الرحمن، ولد سنة ثلاث أو تسع وعشرين، ومات سنة إحدى وتسعين أو بعدها، على خلاف بين أهل التاريخ. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ) : 29 ترجمة رقم (49) ، (طبقات ابن سعد) : 5/ 132، (شذرات الذهب) : 1/ 103، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 421.
[ (4) ] هو سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه، أو أبو عبيد اللَّه المدني الفقيه، أشبه ولد أبيه به، أحد الفقهاء السبعة، من أفضل زمانه، مات في ذي القعدة أو الحجة سنة ستة ومائة أو سبع أو ثمان. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ) : 40 ترجمة رقم (75) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 207، (حلية الأولياء) : 2/ 193، (شذرات الذهب) : 1/ 133، (طبقات ابن سعد) : 5/ 144، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 457.
[ (5) ] هو سليمان بن يسار أبو أيوب، أو أبو عبد الرحمن، أو أبو عبد اللَّه، من فقهاء المدينة وعلمائهم وصلحائهم، كثير الحديث، مات سنة سبع ومائة. له ترجمة في (طبقات الحفاظ) : 1/ 91، (طبقات ابن سعد) 5/ 130، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 444.
[ (6) ] هو محمد بن كعب القرظيّ، وقال ابن سعد: محمد بن كعب بن حيّان بن سليم، الإمام العلامة الصادق أبو حمزة، وقيل: أبو عبد القرظيّ المدنيّ، من حلفاء الأوس، وكان أبوه كعب من سبي بني قريظة،(4/293)
ودونهم في الرتبة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع [ (1) ] ، وشيبة بن نصاح [ (2) ] ، وعمر بن عبد العزيز [ (3) ] ، ومعاذ بن الحرث القاري [ (4) ] ، وعبد اللَّه بن عياش [ (5) ] ،
__________
[ () ] سكن الكوفة، ثم المدينة، كان من أوعية العلم، ثقة، مدني تابعي، رجل صالح، عالم بالقرآن.
له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 264، (التاريخ الكبير) : 1/ 216، (الجرح والتعديل) :
8/ 67، (حلية الأولياء) : 3/ 212، (شذرات الذهب) : 1/ 136.
[ (1) ] هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ، مولى عبد اللَّه بن عياش، ويعرف أبو جعفر المذكور بالمدني، أخذ القراءة عرضا عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه. قال سليمان بن مسلم: أخبرني أبو جعفر يزيد بن القعقاع أنه كان يقرئ الناس في مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل الحرة، وكانت الحرة على رأس ثلاث وستين سنة من مقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة، وقال نافع بن أبي نعيم: لما غسّل أبو جعفر يزيد ابن القعقاع القارئ بعد وفاته، نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك أحد ممن حضره أنه نور القرآن. مات سنة ثمان وعشرون ومائة، له ترجمة في: (المعارف) : 528، (ميزان الاعتدال) : 4/ 511، (تاريخ خليفة) : 614، (شذرات الذهب) : 1/ 176، (وفيات الأعيان) : 6/ 274- 276.
[ (2) ] هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني القارئ، مولى أم سلمة، أتي به إليها وهو صغير فمسحت رأسه وكان ختن يزيد بن القعقاع، قال الدراوَرْديّ: كان قاضيا بالمدينة، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الواقدي: كان ثقة قليل الحديث: مات زمن مروان ابن محمد سنة ثلاثين ومائة. له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 4/ 330، ترجمة رقم (644) ، (الثقات لابن حبان) : 4/ 368.
[ (3) ] هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقا، أبو حفص القرشيّ الأموي، المدني، ثم المصري، مات سنة إحدى ومائة له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) :
5/ 114- 148، ترجمة رقم (48) ، (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم) ، (سيرة عمر بن عبد العزيز للآجري) ، (تاريخ الخلفاء) : 228، (شذرات الذهب) : 1/ 119.
[ (4) ] هو معاذ بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاريّ النجاريّ، أخو عوف، ورافع، ورفاعة، وأمهم عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك النجار. كان شهد بدرا، وشهد العقبتين جميعا، وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينه وبين معمر بن الحارث الجمحيّ، أحد البدريين، ومات معاذ بعد مقتل عثمان، وله عقب. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 2/ 491، (طبقات خليفة) : 90، (تاريخ خليفة) : 202، (شذرات الذهب) : 1/ 71، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 358، ترجمة رقم (72) .
[ (5) ] هو عبد اللَّه بن عياش بن عباس، الإمام العالم الصدوق، أبو حفص القتباني المصريّ، حدّث عن عبد الرحمن بن هرمز عن الأعرج، وأبي عشّاشة المعافري، ويزيد بن أبي حبيب، ووالده، وجماعة.
وعنه ابن وهب، وزيد بن الحباب، وأبو عبد الرحمن المقرئ وآخرون، احتج به مسلم والنسائي، توفي سنة سبعين ومائة. له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 5/ 151، (المعارف) : 539،(4/294)
ومسلم بن جندب [ (1) ] ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج [ (2) ] ، ومحمد بن شهاب الزهري [ (3) ] ، وزيد بن أسلم [ (4) ] ، وأبو الزناد [ (5) ] .
__________
[ () ] (الجرح والتعديل) : 5/ 126، (خلاصة تذهيب الكمال) : 209، (تهذيب التهذيب) : 5/ 307، ترجمة رقم (603) .
[ (1) ] هو مسلم بن جندب الهذلي أبو عبد اللَّه القاضي. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات سنة ست ومائة. وقال ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة: مات في خلافة هشام، وكان يقضي بغير رزق. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وقال ابن مجاهد: كان من فصحاء الناس، وكان معلم عمر بن عبد العزيز، وكان عمر يثني عليه وعلى فصاحته بالقرآن، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 10/ 112، ترجمة رقم (224) ، (ثقات ابن حبان) : 5/ 393.
[ (2) ] هو الأعرج عبد الرحمن بن هرمز أبو داود المدني، كثير الحديث، وقال ابن المديني: أعلى أصحاب أبي هريرة سعيد بن المسيب، وبعده أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو صالح السمان، وابن سيرين، قيل: فالأعرج، قال: ثقة، وهو دون هؤلاء، مات سنة سبع عشرة ومائة. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 45، ترجمة رقم (87) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 305، (شذرات الذهب) : 1/ 153، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 69 ترجمة رقم (25) ، (مرآة الجنان) :
1/ 350.
[ (3) ] هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهري المدني، أحد الأعلام. قال ابن منجويه: رأى عشرة من الصحابة، وكان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، فقيها فاضلا. وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب ولا أكثر علما منه. مات سنة أربع وعشرين ومائة. له ترجمة في: (شذرات الذهب) : 2/ 122، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 326.
[ (4) ] هو الإمام الحجة القدوة أبو عبد اللَّه، العدوي، العمري، المدني، الفقيه. حدث عن والده أسلم مولى عمر، وعن عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وسلمة بن الأكوع، وأنس بن مالك، وعن عطاء بن يسار، وعلي بن الحسين، وابن المسيب، وخلق، حدث عنه مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وخلق كثير. وكان له حلقة للعلم في مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وهو من العلماء العاملين. وفاته في ذي الحجة من سنة ست وثلاثين ومائة، ظهر لزيد من المسند أكثر من مائتي حديث.
له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 263، (التاريخ الكبير) : 3/ 287، (التاريخ الصغير) : 2/ 32، (الجرح والتعديل) : 3/ 554، (حلية الأولياء) : 3/ 221، (شذرات الذهب) : 1/ 194، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 316- 317 ترجمة رقم (153) .
[ (5) ] هو عبد اللَّه بن ذكوان، الإمام الفقيه، الحافظ المفتي، أبو عبد الرحمن القرشي المدني، ويلقب بأبي الزناد، مولده في نحو سنة خمس وستين في حياة ابن عباس، وثقه أحمد وابن معين، وقال الذهبي:
انعقد الإجماع على أن أبا الزناد ثقة رضي. مات لسبع عشر خلت من رمضان، وهو ابن ست وستين سنة، في سنة ثلاثين ومائة. له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 259، (التاريخ الكبير) : 5/ 83، (التاريخ الصغير) : 2/ 72، (الجرح والتعديل) : 5/ 49، (ميزان الاعتدال) : 2/ 418، (شذرات الذهب) : 1/ 182، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 445، ترجمة رقم (199) .(4/295)
وأخذ هؤلاء عن نافع أبو عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم، مولى جعونة ابن شعوب الليثي، أبو رويم، على الأشهر، إمام أهل المدينة في القراءات، وأحد الأئمة قراء السبعة، قرأ على سبعين من تابعي أهل المدينة، فيهم من سمينا، وأقرأ الناس [سنة عشرين ومائة] [ (1) ] فقرأ عليه الإمام مالك بن أنس وقال: قراءة نافع سنّة، وقرأ عليه إسماعيل بن جعفر، وعيسى بن وردان الحذاء، وقالون، وورش [وإسحاق بن محمد المسيبي] وقال: تركت من قراءة أبي جعفر سبعين حرفا، وفي رواية: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءة. وتوفي سنة تسع وستين ومائة على الأشهر [قبل مالك بعشر سنين] [ (1) ] ، وعلى قراءته تعول أهل المدينة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان من كتب التراجم.
[ (2) ] له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 8/ 87، (ميزان الاعتدال) : 4/ 242، (شذرات الذهب) :
1/ 270، (سراج القارئ) : 9.(4/296)
[التابعون بمكة المشرّفة من القراء]
أما التابعون بمكة الذين اعتنوا بعلم القراءات حتى فاقوا أقرانهم، فعطاء بن أبي رباح [ (1) ] ، ومجاهد بن جبير [ (2) ] ، وسعيد بن جبير [ (3) ] ، وعكرمة [ (4) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو عطاء بن أبي رباح، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي، مولاهم المكيّ، نشأ بمكة، ولد في خلافة عثمان، حدّث عن عائشة، وأم سلمة، وأم هاني، وأبي هريرة، وابن عباس، وطائفة، كان من أوعية العلم، حدّث عنه الزهري، وقتادة، والأعمش، وأمم سواهم، مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة أو خمس وعشرة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 467، (طبقات خليفة) : 280، (تاريخ البخاري) : 6/ 463، (التاريخ الصغير) : 1/ 277، (الجرح والتعديل) : 6/ 330، (وفيات الأعيان) : 3/ 261، (ميزان الاعتدال) : 3/ 70، (شذرات الذهب) :
1/ 147، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 78.
[ (2) ] هو مجاهد بن جبير، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المكيّ، الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال: مولى عبد اللَّه بن السائب القارئ. روي عن ابن عباس، فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وعن أبي هريرة، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمرو، وابن عمر، وعدة. قال يحيى بن معين وطائفة: مجاهد ثقة. مات وهو ساجد سنة ثنتين ومائة، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 5/ 466، (طبقات خليفة) : ت 2535، (تاريخ البخاري) : 7/ 411، (المعارف) : 444، (حلية الأولياء) :
3/ 279، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 83، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 42 ت (81) ، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 449، ترجمة رقم (175) .
[ (3) ] هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي أبو محمد أو أبو عبد اللَّه الكوفي، كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعنيه، وقال عمرو بن ميمون عن أبيه:
لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. قتله الحجاج- لعنه اللَّه- في شعبان سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين سنة. له ترجمة في (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 38 ترجمة رقم (71) ، (حلية الأولياء) : 4/ 272، (شذرات الذهب) : 1/ 108، (طبقات ابن سعد) : 6/ 178، (المعارف) : 445، (وفيات الأعيان) : 1/ 204، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 321.
[ (4) ] هو العلامة، الحافظ، المفسر، أبو عبد اللَّه، القرشيّ، مولاهم، المدني، البربري الأصل، مكيّ، تابعيّ، ثقة، كان من أهل العلم، قال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة، مات عكرمة بالمدينة سنة أربعة ومائة، وقيل: غير ذلك. له ترجمة مطولة في: (سير أعلام النبلاء) :
5/ 12- 36، ترجمة رقم (9) ، (طبقات ابن سعد) : 5/ 287، (طبقات خليفة) : 280، (التاريخ الصغير) : 1/ 257، 258، (حلية الأولياء) : 3/ 326، 346، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 340، (وفيات الأعيان) : 3/ 265، (ميزان الاعتدال) : 3/ 93، (شذرات الذهب) : 1/ 130، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 43، ترجمة رقم (85) .(4/297)
وعبيد بن عمير [ (1) ] ، وعبد الرحمن بن [أبزي] [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن أبي مليكة [ (3) ] .
وأخذ عن هؤلاء القراءات بمكة: عبد اللَّه بن كثير [ (4) ] ، وحميد بن قيس [ (5) ]
__________
[ (1) ] هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي المكيّ، الواعظ المفسّر، قاضي أهل مكة، ولد في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وحدّث عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب، وعلي، وأبي ذرّ، وعائشة، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس. حدث عنه: ابنه عبد اللَّه بن عبيد، وأبو الزبير، وجماعة، وكان من ثقات التابعين وأئمتهم بمكة، توفي سنة أربع وسبعين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 156، (طبقات ابن سعد) : 5/ 463، (طبقات خليفة) : ت (2524) ، (تاريخ البخاري) : 5/ 455، (المعارف) : 434، (الجرح والتعديل) : 2/ 409، (حلية الأولياء) : 3/ 266، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 22، ترجمة رقم (28) .
[ (2) ] هو عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي، له صحبة ورواية، وفقه وعلم، وهو مولى نافع بن عبد الحارث، كان نافع مولاه استنابه على مكة حين تلقى عمر بن الخطاب إلى عسفان، فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ يعني مكة، قال، ابن أبزي، قال: ومن ابن أبزي، قال: إنه عالم بالفرائض، قارئ لكتاب اللَّه،
قال: أما إن نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن هذا القرآن يرفع اللَّه به أقواما ويضع به آخرين،
عاش إلى سنة نيف وسبعين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 3/ 201- 203، ترجمة رقم (43) ، (طبقات ابن سعد) : 5/ 462، (طبقات خليفة) : ت (677) ، (945) ، (2527) ، (التاريخ الكبير) : 5/ 245، (الجرح والتعديل) : 5/ 209، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 293.
[ (3) ] هو عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي مليكة بن عبد اللَّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. أمه ميمونة بنت الوليد بن أبي حسين بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، واسم أبي مليكة: زهير ولم يكن لعبد اللَّه بن عبيد اللَّه عقب. نافع ابن عمر قال: قال لي ابن أبي مليكة، وسمع أناسا يستثقلون قراءة قرائهم فقال: قد كنت أقوم بسورة الملائكة في ركعة واحدة فما شكا ذلك أحد. قال محمد ابن عمر: وكان ابن أبي مليكة يقوم بالناس في شهر رمضان بمكة بعد عبد اللَّه بن السائب. وتوفي عبد اللَّه ابن أبي مليكة بمكة سنة سبع عشرة ومائة، وكان قد روى عن ابن عباس، وعائشة، وابن الزبير، وعقبة ابن الحارث، وكان ثقة كثير الحديث. (طبقات ابن سعد) : 5/ 472- 473.
[ (4) ] هو عبد اللَّه بن كثير بن عمر بن عبد اللَّه بن زاذان بن فيروزان، بن هرمز، الإمام العلم، مقرئ مكة، وأحد القراء السبعة أبو معبد الكناني الداريّ المكيّ مولى عمرو بن علقمة الكناني، وقيل: يكنى أبا عباد، وقيل: أبا بكر، فارسيّ الأصل. قرأ على مجاهد ودرباس مولى ابن عباس، وقد حدّث عن ابن الزبير وأبي المنهال عبد الرحمن بن مطعم وغيرهم. وهو قليل الحديث. روى عنه أيوب وابن جريج وآخرون. وثّقه علي بن المديني وغيره، ولد بمكة سنة (48) ومات سنة عشرين ومائة. له ترجمة في:
(طبقات خليفة) : 2282، (التاريخ الكبير) : 5/ 181، (التاريخ الصغير) : 1/ 304، 305، (الجرح والتعديل) : 5/ 144، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 318- 322، ترجمة رقم (155) .
[ (5) ] هو حميد بن قيس الأعرج المكيّ أبو صفوان القارئ الأسدي مولاهم، وقيل: مولى عفراء. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان قارئ أهل مكة، وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه فقال:
هو ثقة وقال الدوري وغيره عن ابن معين: حميد بن قيس الأعرج ثقة. قال ابن حبان:(4/298)
ومحمد بن عبد الرحمن بن محيصن [ (1) ] ، وشبل بن عباد [ (2) ] ، وأخذ عن هؤلاء إسماعيل ابن عبد اللَّه بن قسطنطين، وعليه قرأ الإمام الشافعيّ-[رحمة] اللَّه عليه- القرآن، فصار مرجع [قراءة] أهل مكة إلى عبد اللَّه بن كثير بن المطلب، إلى معبد مولى عمرو بن علقمة الكناني، الداريّ المكيّ، إمام أهل مكة في القراءات، وأحد الأئمة السبعة، قرأ عليه عبد اللَّه بن السائب المخزومي، وعلي مجاهد ودرباس، مولى عبد اللَّه بن عباس، وتصدر للإفتاء، وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل بن عباد، ومعروف بن مشكان، وإسماعيل ابن قسطنطين، وطائفة. وتوفي سنة عشرين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين.
__________
[ () ] مات سنة (130) ، وقال ابن سعد: توفي في خلافة أبي العباس. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
5/ 486، (ثقات ابن حبان) : 6/ 189.
[ (1) ] هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي المكيّ المقرئ، قارئ أهل مكة مع ابن كثير، ولكن قراءته شاذة، فيها ما ينكر وسنده غريب، وقد اختلف في اسمه على عدة أقوال. قرأ على مجاهد، وسعيد بن جبير، ودرباس مولى ابن عباس، وعنه ابن جريج، وشبل بن عباد، وعبد اللَّه بن المؤمل المخزومي، وهشيم، وابن عيينة وآخرون، وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل، وعيسى بن عمر.
توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة. له ترجمة في: (الوافي بالوفيات) : 3/ 223، (تاريخ الإسلام) :
4/ 220- 221 (شذرات الذهب) : 1/ 162.
[ (2) ] هو شبل بن عباد المكيّ، روى عن عمرو بن دينار وقيس بن سعد، وعبد اللَّه بن كثير، وابن أبي نجيح. روى عنه ابن عيينة، وابن المبارك، وأبو أسامة، وأبو نعيم. وشبل بن عباد المكيّ ثقة، مات سنة ثمان وأربعين ومائة. له ترجمة في: (الجرح والتعديل) : 4/ 380، ترجمة رقم (1659) ، (ثقات ابن حبان) : 8/ 312، (تهذيب التهذيب) : 4/ 268، ترجمة رقم (532) .(4/299)
[التابعون بالبصرة من القراء]
وأما التابعون بالبصرة الذين اعتنوا بالقراءات، واجتهدوا في تعلم الأحرف، فهم: أبو رجاء العطاردي [ (1) ] ، والحسن بن أبي الحسن [ (2) ] ، وأبو العالية [ (3) ] ، وغيرهم.
__________
[ (1) ] هو أبو رجاء العطاردي، الإمام الكبير، شيخ الإسلام، عمران بن ملحان التميمي البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حدّث عن عمر، وعليّ، وعمران بن حصين، وعبد اللَّه بن عباس، وسمرة بن جندب، وأبي موسى الأشعري، وتلقن عليه القرآن، ثم عرضه على ابن عباس، وهو أسنّ من ابن عباس، قرأ عليه أبو الأشهب العطاردي وغيره، وحدث عنه أيوب، وابن عون، وخلق كثير. قال ابن عبد البر وغيره: مات أبو رجاء سنة خمس ومائة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 7/ 138، (طبقات خليفة) : ت 1564، (تاريخ البخاري) : 6/ 410، (المعارف) : 427، (الجرح والتعديل) : 3/ 303، (حلية الأولياء) : 2/ 304، (الاستيعاب) : 4/ 1657، ت 2949، (طبقات الحفاظ للسيوطي) :
32، ت 55، (شذرات الذهب) : 1/ 130، (تهذيب التهذيب) : 8/ 124، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 253- 257، ترجمة رقم (93) .
[ (2) ] هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت، وقيل: جابر بن عبد اللَّه، وقيل: أبو اليسر، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، قال أبو بردة: أدركت الصحابة فما رأيت أحدا أشبه بهم من الحسن. وقال خالد بن رباح الهذلي: سئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، فقيل له في ذلك، فقال: إنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا، وقال سليمان التيمي:
الحسن شيخ أهل البصرة، مات في رجب سنة عشر ومائة، له ترجمة مطولة في: (طبقات ابن سعد) :
7/ 128، (تهذيب التهذيب) : 2/ 231- 236، ترجمة رقم (488) ، (حلية الأولياء) :
2/ 131، (شذرات الذهب) : 1/ 136، (ميزان الاعتدال) : 1/ 527، (وفيات الأعيان) : 2/ 69- 73، ترجمة رقم (156) .
[ (3) ] هو أبو العالية رفيع بن مهران، الإمام المقرئ، الحافظ المفسّر، أبو العالية الرياحيّ البصري، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو شاب، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق، ودخل عليه، وسمع من عمر، وعلي، وأبيّ، وأبي ذرّ، وابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى، وأبي أيوب، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعدّة. وحفظ القرآن، وقرأه على أبيّ بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، مات أبو العالية في شوال سنة تسعين، وقال البخاري وغيره: مات سنة ثلاث وتسعين. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 29 ت (49) ، (شذرات الذهب) : 1/ 102، (طبقات ابن سعد) :
7/ 112- 117، (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 483، (الزهد للإمام أحمد) : 302، (طبقات خليفة) : ت (1634) ، (تاريخ البخاري) : 3/ 326، (تهذيب الأسماء واللغات) :
2/ 251، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 207- 213، ت (85) .(4/300)
وأخذ عنهم جماعة مثل: قتادة [ (1) ] ، وجابر بن زيد [ (2) ] ، [وهو] أبو الشعثاء [ (3) ] في آخرين.
وأخذ عن هذه الطبقة: أبو عمرو بن العلاء [ (4) ] ، وأيوب السّختياني [ (5) ] ،
__________
[ (1) ] هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب الأكمه، أحد الأعلام. روى عن أنس، وعبد اللَّه بن سرجس، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وخلق. وعنه أبو حنيفة وأيوب، وشعبة، ومسعر، والأوزاعي، وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، وخلق. قال سعيد بن المسيب: ما أتاني عراقيّ أحفظ من قتادة. وقال أحمد: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئا إلا حفظه، وكان من العلماء، ولد سنة ستين، ومات سنة سبع عشرة ومائة. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 54، ت (104) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 229، (طبقات خليفة) 213، (تاريخ الخليفة) : 332 و 348، (التاريخ الكبير) : 7/ 185، (التاريخ الصغير) : 1/ 282، (المعارف) : 462، (الجرح والتعديل) : 7/ 133، (جمهرة الأنساب) : 318، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 57، (وفيات الأعيان) : 4/ 85- 86، (تهذيب التهذيب) :
8/ 315، (ميزان الاعتدال) : 3/ 385، (شذرات الذهب) : 1/ 153، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 269- 283، ترجمة رقم (132) .
[ (2) ] هو جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي الجوفيّ. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما من كتاب اللَّه. وقال الزيات: سألت ابن عباس عن شيء فقال: تسألوني وفيكم جابر بن زيد، وهو أحد العلماء؟ مات سنة ثلاث وتسعين، أو ثلاث ومائة أو أربع ومائة. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 35، ت (65) ، (تهذيب التهذيب) : 2/ 38، (شذرات الذهب) : 1/ 101، (طبقات ابن سعد) : 7/ 130، (اللباب) : 1/ 254، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 481- 483، ت (184) .
[ (3) ] في (خ) : «وأبو الشعثاء» .
[ (4) ] هو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي، ثم المازني البصري، شيخ القراء والعربية، وأمه من بني حنيفة. اختلف في اسمه على أقوال: أشهرها زبّان، وقيل العريان، مولده في نحو سنة سبعين، وكان من أشراف العرب، ومن أهل السنة، قال يحيي بن معين: ثقة. توفي في سنة أربع وخمسين ومائة، وقيل سنة سبع وخمسين ومائة. له ترجمة في: (تاريخ البخاري) : 9/ 55، (وفيات الأعيان) : 1/ 466- 470، (فوات الوفيات) : 1/ 231، (تهذيب التهذيب) : 12/ 197، (طبقات القراء لابن الجزري) : 1/ 288، (سير أعلام النبلاء) : 6/ 407- 410، ترجمة رقم (167) .
[ (5) ] أيوب السّختياني، الإمام الحافظ، سيد العلماء، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي، عداده في صغار التابعين، سمع من أبي بريد عمرو بن سلمة الجرميّ، وأبي عثمان النهدي، وسعيد بن جبير، وخلق سواهم. حدّث عنه الزهري وقتادة- وهم من شيوخه- وشعبة، وسفيان، ومالك، وأمم سواهم.
مولده عام توفي ابن عباس سنة ثمان وستين، قال محمد بن سعد: كان أيوب ثقة، ثبتا في الحديث، جامعا، كثير العلم، حجّة، عدلا، وقال الذهبي: إليه المنتهى في الإتقان. توفي سنة إحدى(4/301)
وعمرو بن عبيد [ (1) ] ، ورجع أهل البصرة إلى حاتم سهل بن محمد السجستاني [ (2) ] ، غير أن الاعتماد في القراءة على أبي عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحويّ البصري، واسمه على الأصح: زبان بن العلاء بن عمار، وأخذ القراءة عن أهل الحجاز وأهل البصرة، فعرض بمكة على مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة بن خالد وابن كثير، وقيل: أنه قرأ على أبي العالية ولم يصح، وقيل: أنه عرض بالمدينة على أبي جعفر يزيد بن القعقاع، وعلى يزيد بن رومان، وشيبة بن نصاح، وعرض بالبصرة على يحيى بن يعمر، ونصر ابن عاصم، والحسن البصري وغيرهم.
قرأ عليه خلق كثير منهم: يحيى بن المبارك اليزيدي، وعبد الوارث بن سعيد السوري، وعبد اللَّه بن المبارك، وجماعات. وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة، وكان قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة مما استحسنه وتختار العرب، وما بلغة من لغة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب اللَّه تعالى. قال يونس: لو كان ينبغي لأحد أن يؤخذ قوله كله، لكان ينبغي أن يؤخذ قول أبي عمرو، ولكن ليس من أحد إلا وأنت تأخذ من قوله وتترك. وأخافه الحجاج، فاستتر لأن عمه كان عاملا له فهرب، فطلب الحجاج أبا عمرو فاختفى وقال: ما رأيت أعلم مني. مات سنة أربع وخمسين ومائة.
__________
[ () ] وثلاثين ومائة بالبصرة، زمن الطاعون، وله ثلاث وستون سنة، وآخر من روي حديثه عاليا: أبو الحسن ابن البخاري. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 6/ 15- 26، ترجمة رقم (15) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 246، (حلية الأولياء) : 3/ 2- 14، (تهذيب التهذيب) : 1/ 397، (شذرات الذهب) : 1/ 181، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 59، ترجمة رقم (115) .
[ (1) ] هو عمرو بن عبيد الزاهد، العابد، القدريّ، كبير المعتزلة وأولهم، أبو عثمان البصري، وعنه الحمادان وابن عيينة وآخرون. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن المبارك: دعا إلى القدر فتركوه. اغترّ بزهده وإخلاصه، وأغفل بدعته. مات بطريق مكة سنة ثلاث. وقيل سنة أربع وأربعين ومائة. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 6/ 104- 106، ترجمة رقم (27) ، (ثقات ابن حبان) : 3/ 147، (تاريخ بغداد) : 12/ 166- 188، ترجمة رقم (6652) ، (وفيات الأعيان) : 3/ 460- 462، (ميزان الاعتدال) : 3/ 273، (البداية والنهاية) : 8/ 19، 10/ 131- 133، (تهذيب التهذيب) : 8/ 30، (شذرات الذهب) : 1/ 210.
[ (2) ] هو أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشميّ السّجستاني النحويّ اللغوي المقرئ، نزيل(4/302)
[التابعون بالشام من القراء]
وأما التابعون بالشام الذين عنوا بالقراءات ومعرفة اللغات، فمنهم: المغيرة بن أبي شهاب [ (1) ] ، ويعلي بن شداد بن أوس [ (2) ] ، وميمون بن مهران [ (3) ] ، وشهر بن حوشب [ (4) ] ، وأخذ عنهم القراءات عبد اللَّه بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة، أبي عمران على الأصح، أدرك [صحبة] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقرأ على معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، ومعاوية بن أبي سفيان، ووائلة بن الأصبغ، وقرأ على المغيرة بن أبي شهاب
__________
[ () ] البصرة وعالمها، كان إماما في علوم الآداب، وعنه أخذ علماء عصره. قال المبرّد: سمعته يقول:
قرأت كتاب سيبويه على الأخفش مرتين، وكان كثير الرواية عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة والأصمعي، عالما باللغة والشعر، وكان صالحا عفيفا، يتصدق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع، وكانت وفاته في المحرم، وقيل رجب ما بين سنة ثمان وأربعين وخمس وخمسين ومائتين، على خلاف بين أهل التواريخ. له ترجمة في: (وفيات الأعيان) : 2/ 430- 433، ترجمة رقم (282) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 257، (شذرات الذهب) : 2/ 121.
[ (1) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (2) ] هو يعلي بن شداد بن أوس، شيخ مستور محلّه الصدق، بعض الأئمة توقف في الاحتجاج بخبره، يروي عن أبيه شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، حدث عنه سليمان بن يسير، وأبو سنان عيسى بن سنان، وجماعة، وقد وثق. له ترجمة في: (ميزان الاعتدال) : 4/ 457 ترجمة رقم (9835) .
[ (3) ] هو ميمون بن مهران، الإمام الحجة، عالم الجزيرة ومفتيها، أبو أيوب الجزري الرّقي، أعتقته امرأة من بني نصر بن معاوية بالكوفة فنشأ بها، ثم سكن الرّقة. حدّث عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعدة. روى عنه ابنه عمرو، وحميد الطويل، وسليمان الأعمش، وخلق سواهم، كان ولى خراج الجزيرة وقضاءها، وكان من العابدين، قال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث، وقال العجليّ والنسائي: ميمون ثقة.
توفي سنة سبع عشر ومائة، له ترجمة في (تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 175، ترجمة رقم (654) ، (حلية الأولياء) : 4/ 82- 97، ترجمة رقم (251) ، (شذرات الذهب) : 1/ 154، (تهذيب التهذيب) : 10/ 349، ترجمة رقم (703) ، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 46.
[ (4) ] هو شهر بن حوشب، أبو سعيد الأشعري الشامي، مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية، كان من كبار علماء التابعين، حدّث عن مولاته أسماء، وعن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وأم سلمة، وأبي سعيد الخدريّ، وعدة، حدّث عنه: قتادة، ومعاوية بن مرة، وعبد الحميد بن بهرام، توفي سنة مائة، وقيل: غير ذلك. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 372- 378، ترجمة رقم (151) ، (طبقات ابن سعد) : 7/ 449، (طبقات خليفة) :
ترجمة رقم (2931) ، (تاريخ البخاري) : 4/ 258، (المعارف) : 448، (حلية الأولياء) :
6/ 59، (شذرات الذهب) : 1/ 119.(4/303)
صاحب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، وقيل: عرض على عثمان، وقرأ على فضالة بن عبيد، وروى عنه القراءة عرضا يحيى بن الحرث الذّماريّ.
مات سنة ثمان وعشر ومائة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة مستوفاة في: (طبقات القراء) ، 1/ 423، (طبقات خليفة) : 235، (التاريخ الصغير) : 1/ 100، 164، (ميزان الاعتدال) : 2/ 499، (تهذيب التهذيب) : 5/ 240، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 292- 293، ترجمة رقم (138) .(4/304)
[التابعون بالكوفة من القراء]
وأما التابعون بالكوفة، الذين اجتهدوا في علم القراءات، فجماعة منهم:
علقمة بن قيس [ (1) ] ، والربيع بن خثيم [ (2) ] ، ومسروق بن الأجدع [ (3) ] ، والأسود بن يزيد [ (4) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل، وقيل: ابن كهيل بن بكر ابن عوف، ويقال: ابن المنتشر بن النخع، النخعي، الكوفي، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، عم الأسود بن يزيد، وأخيه عبد الرحمن، وخال فقيه العراق إبراهيم النخعي، ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، وتصدى للإمامة والفتيا بعد عليّ وابن مسعود، وكان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون. مات علقمة في خلافة يزيد سنة إحدى وستين، وقيل غير ذلك. وقد عاش تسعين سنة. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 53- 61، ترجمة رقم (14) ، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1054) ، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 20، ترجمة رقم (24) ، (تاريخ البخاري) : 7/ 41، (المعارف) : 431، (الجرح والتعديل) : 3/ 404، (حلية الأولياء) :
2/ 98، (تاريخ بغداد) : 12/ 296، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 324، (مرآة الجنان) : 1/ 137، (شذرات الذهب) : 1/ 70.
[ (2) ] هو الربيع بن خثيم بن عائذ، الإمام القدوة العابد، أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد الأعلام. أدرك زمان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأرسل عنه، وروى عن عبد اللَّه بن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري، وعمرو ابن ميمون، وهو قليل الرواية إلا أنه كبير الشأن، حدث عنه الشعبي وآخرون، وكان يعد من عقلاء الرجال، توفي قبل سنة خمس وستين. له ترجمة في (طبقات ابن سعد) : 6/ 118، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم 992، (تاريخ البخاري) : 3/ 269، (المعارف) : 497، (الجرح والتعديل) : 2/ 459، (حلية الأولياء) : 2/ 105، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 258- 262، ترجمة رقم (95) ، (تهذيب التهذيب) : 3/ 210.
[ (3) ] هو مسروق بن الأجدع، الإمام القدوة، العلم، أبو عائشة الوداعيّ، الهمدانيّ، الكوفي، وهو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد اللَّه بن مرة بن سليمان بن معمر، ويقال: سلامان ابن معمر بن الحارث بن سعد بن عبد اللَّه بن وداعة بن عمر بن ناشح بن دافع بن مالك بن جشم ابن حاشد بن جشم بن حيوان بن نوف بن همدان. وعداده في كبار التابعين وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، مات سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ثلاث وستين، له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 63- 69، ترجمة رقم (17) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 76، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1066) ، (تاريخ البخاري) : 8/ 35، (المعارف) : 432، (الجرح والتعديل) : 4/ 396، (حلية الأولياء) : 2/ 95، (تاريخ بغداد) : 13/ 232، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 88، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 21، ترجمة رقم (206) .
[ (4) ] هو الأسود بن يزيد بن قيس، الإمام، القدوة، أبو عمرو النخعيّ الكوفيّ، وقيل: يكنى أبا عبد الرحمن(4/305)
وأبو وائل شقيق بن سلمة [ (1) ] ، وعامر بن شراحبيل الشعبي [ (2) ] ، وأبو عبد الرحمن السّلمي [ (3) ] ،
__________
[ () ] وهو أخو عبد الرحمن بن يزيد، ووالد عبد الرحمن بن الأسود، وابن أخي علقمة بن قيس، وخال إبراهيم النخعي، فهؤلاء أهل بيت من رءوس العلم والعمل. وكان الأسود مخضرما، أدرك الجاهلية والإسلام. وحدّث عن معاذ بن جبل، وبلال، وابن مسعود، وعائشة، وحذيفة بن اليمان، وطائفة سواهم. حدّث عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي وآخرون، وهو نظير مسروق في الجلالة، والعلم، والثقة، والسنّ، يضرب بعبادتهما المثل. نقل العلماء في وفاة الأسود أقوالا أرجحها سنة خمس وسبعين. له ترجمة في: (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1255) ، (تاريخ البخاري) : 1/ 449، (المعارف) : 432، (الجرح والتعديل) : 1/ 291، (حلية الأولياء) : 2/ 102، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 122، (تهذيب التهذيب) : 1/ 299، (شذرات الذهب) : 1/ 82، (الاستيعاب) : 1/ 92، ترجمة رقم (53) ، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 22، ترجمة رقم (29) .
[ (1) ] هو شقيق بن سلمة، الإمام الكبير شيخ الكوفة، أبو وائل الأسديّ، أسد خزيمة الكوفي، مخضرم أدرك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما رآه. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: أبو وائل ثقة، لا يسأل عن مثله.
مات سنة اثنتين وثمانين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 161- 166، ترجمة رقم (59) ، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1114) ، (تاريخ البخاري) : 4/ 245، (المعارف) : 449، (الجرح والتعديل) : 2/ 371، (حلية الأولياء) : 4/ 101، (الاستيعاب) : ترجمة رقم (1201) ، (تاريخ بغداد) : 9/ 268، (تهذيب الأسماء واللغات) :
1/ 247، (وفيات الأعيان) : 2/ 476، ترجمة رقم (296) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 317، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 28، ترجمة رقم (44) .
[ (2) ] هو الشعبي عامر بن شراحبيل بن عبد بن ذي كبار- وذو كبار: قيل من أقيال اليمن- الإمام العلامة، أبو عمرو الهمدانيّ ثم الشعبي، ويقال: هو عامر بن عبد اللَّه، وكانت أمه من سبى جلولاء. مولده في إمرة عمر بن الخطاب لستّ سنين خلت منها، وقيل: ولد سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة ثمان وعشرين، رأى عليا رضي اللَّه تعالى عنه وصلّى خلفه، وسمع من عدة من كبراء الصحابة. قال ابن عيينة: علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. وقال الواقدي: مات سنة خمس ومائة عن سبع وسبعين سنة، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 247، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1144) ، (تاريخ البخاري) : 6/ 450، (المعارف) :
449، (الجرح والتعديل) : 3/ 322، (حلية الأولياء) : 4/ 310، (تاريخ بغداد) : 12/ 227، (وفيات الأعيان) : 3/ 12، ترجمة رقم (317) ، (اللباب) : 2/ 21، (تهذيب التهذيب) :
5/ 57، (شذرات الذهب) : 1/ 26، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 40، ترجمة رقم (74) .
[ (3) ] هو أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة، الإمام العلم، عبد اللَّه بن حبيب بن ربيّعة الكوفي، من أولاد الصحابة، مولده في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. قرأ القرآن وجوّده ومهر فيه، وعرض على عثمان، وعلى عليّ، وابن مسعود، وقد كان ثبتا في القراءة، وفي الحديث، حديثه مخرّج في الكتب الستة، توفي سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 27، ترجمة رقم (41)(4/306)
وزر بن حبيش [ (1) ] ، وأخذ عنهم طبقة دونهم: كإبراهيم النخعي [ (2) ] ، وسماك بن حرب [ (3) ] ،
__________
[ () ] (تهذيب التهذيب) : 5/ 161، (طبقات ابن سعد) : 6/ 172، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1102) ، (تاريخ البخاري) : 5/ 72، (المعارف) : 528، (الجرح والتعديل) : 2/ 37، (حلية الأولياء) : 4/ 191، (تاريخ بغداد) : 9/ 430، (تهذيب التهذيب) : 5/ 161 ترجمة رقم (317) ، (سير أعلام النبلاء) : 4/ 267- 272، ترجمة رقم (97) .
[ (1) ] هو زرّ بن حبيش بن حباشة بن أوس، الإمام القدوة، مقرئ الكوفة مع السّلمي، أبو مريم الأسدي الكوفي، ويكنى أيضا أبا مطرف، أدرك أيام الجاهلية، وقرأ على ابن مسعود وعليّ، وتصدّر للإقراء، فقرأ عليه يحيى بن وثاب، وأبو إسحاق والأعمش، وغيرهم وحدّثوا عنه. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال عاصم: من أعرب الناس، كان ابن مسعود يسأله عن العربية، مات سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وله ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 166- 170، ترجمة رقم (60) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 104، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (983) ، (تاريخ البخاري) :
3/ 447، (المعارف) : 427، (الجرح والتعديل) : 2/ 622، (حلية الأولياء) : 4/ 181، (الاستيعاب) : ترجمة رقم (869) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 196، (تهذيب التهذيب) : 3/ 277، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 26، ترجمة رقم (39) ، (شذرات الذهب) : 1/ 91.
[ (2) ] هو إبراهيم النّخعيّ، الإمام الحافظ، فقيه العراق، أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود ابن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك النخعي، اليماني ثم الكوفي، أحد الأعلام، وهو ابن مليكة أخت الأسود بن يزيد، ولم نجد له سماعا من الصحابة المتأخرين الذين كانوا معه بالكوفة، وكان بصيرا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن، كان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما، وكان رجلا صالحا، متوقيا، قليل التكلف وهو مختف من الحجاج، مات سنة ست وتسعين. له ترجمة في: (سير أعلام النبلاء) : 4/ 520- 529، ترجمة رقم (213) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 270، (طبقات خليفة) : ترجمة رقم (1140) ، (تاريخ البخاري) : 1/ 333، (المعارف) : 463، (الجرح والتعديل) : 1/ 144، (حلية الأولياء) : 4/ 219، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 104، (وفيات الأعيان) : 1/ 25، (تهذيب التهذيب) : 1/ 110، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 36: ترجمة رقم (68) .
[ (3) ] هو سماك بن حرب بن أوس بن خالد بن نزار بن معاوية بن حارثة، الحافظ، الإمام الكبير، أبو المغيرة الذهلي، البكري الكوفي، أخو محمد وإبراهيم، له نحو مائتي حديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء، وقال عبد الرحمن بن خراش: في حديثه لين، وقال آخر، كان فصيحا مفوها، يزين الحديث منطقه. مات سنة ثلاث وعشرين ومائة. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) :
4/ 204، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 245- 248، ترجمة رقم (109) ، (طبقات ابن سعد) : 6/ 323، (طبقات خليفة) : 161، (تاريخ خليفة) : 363، (التاريخ الكبير) : 4/ 173، (الجرح والتعديل) : 4/ 279، (المجروحين والضعفاء) : 2/ 249، (ميزان(4/307)
وطلحة بن مصرف [ (1) ] ، وأبي إسحاق السبيعي [ (2) ] في آخرين.
وعنهم أخذ عاصم بن أبي النجود [ (3) ] ، ويحيى بن وثاب [ (4) ] ، وأبان بن تغلب [ (5) ]
__________
[ () ] (الاعتدال) : 2/ 232، (الثقات) : 3/ 103، (خلاصة تذهيب الكمال) : 155، (شذرات الذهب) : 1/ 161.
[ (1) ] هو طلحة بن مصرّف بن عمرو بن كعب، الإمام الحافظ المقرئ، المجوّد، شيخ الإسلام، أبو محمد اليامي الهمدانيّ الكوفي، تلا على يحيى بن وثّاب وغيره، وحدث عن أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، ومرّة الطيب، وزيد بن وهب، ومجاهد، وخيثمة بن عبد الرحمن، وذرّ الهمدانيّ، وأبي صالح السمان وطائفة. حدّث عنه ابنه محمد بن طلحة، ومنصور، والأعمش، وشعبة، وخلق كثير، توفي طلحة في آخر سنة اثنتي عشرة ومائة، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 9/ 308، (طبقات خليفة) : 162، (التاريخ الكبير) :
4/ 346، (التاريخ الصغير) : 1/ 271، (الجرح والتعديل) : 4/ 473، (حلية الأولياء) : 5/ 14، (تهذيب التهذيب) : 5/ 23، (خلاصة تذهيب الكمال) : 180، (شذرات الذهب) : 1/ 145، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 191- 192، ترجمة رقم (70) .
[ (2) ] هو أبو إسحاق السبيعي، عمرو بن عبد اللَّه بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبد اللَّه بن على الهمدانيّ الكوفي الحافظ، شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها، كان رحمه اللَّه من العلماء العاملين، ومن جلة التابعين، قال: ولدت لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأيت علي بن أبي طالب يخطب، كان طلّابة للعلم، كبير القدر، وهو ثقة حجة بلا نزاع، وقد كبر وتغير حفظه تغيّر السّنّ، ولم يختلط، وحديثه محتج به في دواوين الإسلام. قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: ثقة. توفي أبو إسحاق في سنة سبع وعشرين ومائة. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 313، - 315، (طبقات خليفة) : 162، (التاريخ الكبير) : 6/ 347، (التاريخ الصغير) : 1/ 326، (الجرح والتعديل) : 6/ 242- 243، (ميزان الاعتدال) : 3/ 270، (تهذيب التهذيب) : 8/ 56، (خلاصة تذهيب الكمال) : 291، (شذرات الذهب) : 1/ 174، (طبقات الحفاظ للسيوطي) : 50، ترجمة رقم (97) .
[ (3) ] له ترجمة في: (طبقات خليفة) : 159، (التاريخ الكبير) : 6/ 487، (التاريخ الصغير) : 912، (الجرح والتعديل) : 6/ 340، (وفيات الأعيان) : 3/ 9، (ميزان الاعتدال) : 2/ 357، (تهذيب التهذيب) : 5/ 35، (خلاصة تذهيب الكمال) : 182، (سراج القارئ المبتدي) : 11.
[ (4) ] هو يحيى بن وثّاب الإمام القدوة، المقرئ الفقيه، شيخ القراء، الأسديّ الكاهلي، مولاهم الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، وتلا على أصحاب عليّ وابن مسعود، حتى صار أقرأ أهل زمانه. حدّث عن ابن عباس، وابن عمر، وروى مرسلا عن عائشة، وأبي هريرة وابن مسعود، قرأ عليه الأعمش وطائفة، وحدّث عنه عاصم، وقتادة، والأعمش، وعدة. قال العجليّ: هو تابعيّ ثقة، مقرئ يؤمّ قومه. مات سنة ثلاث ومائة. له ترجمة في (طبقات ابن سعد) : 6/ 299، (طبقات خليفة) ترجمة رقم 1116، (تاريخ البخاري) : 8/ 308، (المعارف) : 529، (الجرح والتعديل) : 4/ 193، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 159، (تهذيب التهذيب) : 11/ 258، (شذرات الذهب) : 1/ 125.
[ (5) ] هو أبان بن تغلب، الإمام المقرئ أبو سعد، وقيل: أبو أمية الرّبعيّ، الكوفيّ، الشّيعيّ، لم يعدّ في التابعين، حدّث عنه عدد كثير، وهو صدوق في نفسه، عالم كبير، وبدعته خفيفة، لا يتعرض للكبار، وحديثه يكون(4/308)
ومنصور بن المعتمر [ (1) ] ، وسليمان بن مهران الأعمش [ (2) ] ، وعنهم أخذ القراءات بالكوفة: حمزة، والكسائي، فصار مرجع علم القراءات بالكوفة إلى ثلاثة منهم هم: عاصم، وحمزة، والكسائي.
فأما عاصم بن أبي النجود [ (3) ]- واسمه بهدلة على الصحيح- فإنه أسديّ بالولاء، مولى بني جذيمة بن مالك بن نضر بن معين بن أسد، [يكنى] أبا بكر، قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وتصدر للإقراء، فقرأ عليه خلق كثير، منهم الأعمش، والمفضل بن محمد الضبي، وحماد بن شعيب، وأبو بكر بن عياش، وحفص بن سليمان، ونعيم بن ميسرة، وانتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، بعد شيخه أبي عبد الرحمن السلمي، وذلك لما مات أبو عبد
__________
[ () ] نحو المائة، لم يخرج له البخاري، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة. له ترجمة في: (طبقات خليفة) :
(166) ، (تاريخ البخاري) : 1/ 453، (الجرح والتعديل) : 2/ 396، (الكامل في التاريخ) : 5/ 508، (الوافي بالوفيات) : 5/ 330، (تهذيب التهذيب) : 1/ 81، (خلاصة تذهيب الكمال) : 14- 15، (سير أعلام النبلاء) : 6/ 308.
[ (1) ] هو منصور بن المعتمر، الحافظ الثبت القدوة، أبو عتاب السّلمي الكوفي أحد الأعلام، قال أبو عبيد القاسم ابن سلام: هو من بني بهثة بن سليم، من رهط العباس بن مرداس السّلميّ. كان من أوعية العلم، صاحب إتقان وتألّه وخير، حدّث عنه خلق كثير، منهم شعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة. مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة. له ترجمة في (طبقات ابن سعد) : 6/ 2337، (طبقات خليفة) : 164، (تاريخ خليفة) : 404، (التاريخ الكبير) : 7/ 346، (الجرح والتعديل) : 8/ 177، (حلية الأولياء) : 5/ 40، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 114- 115، (خلاصة تذهيب الكمال) : 388، (شذرات الذهب) : 1/ 189، (سير أعلام النبلاء) : 5/ 402.
[ (2) ] هو سليمان بن مهران الأعمش، الإمام شيخ الإسلام، شيخ المقرءين والمحدثين، أبو محمد الأسدي، الكاهلي، مولاهم الكوفي الحافظ، أصله من نواحي الري، ولد في سنة إحدى وستين، فقد رأى أنس بن مالك وحكى عنه، وروى عنه، وعن عبد اللَّه بن أبي أوفى، وهو علامة الإسلام، كان صاحب ليل وتعبّد، عزيز النفس، قنوعا. وعن ابن عيينة: سبق الأعمش الناس بأربع: كان أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى. قال ابن معين: ثقة، وقال النّسائي: ثقة ثبت. مات الأعمش سنة سبع وأربعين ومائة وقيل: سنة ثمان وأربعين. له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 342، (تاريخ خليفة) :
232، 424، (طبقات خليفة) : 164، (التاريخ الصغير) : 2/ 91، (الجرح والتعديل) : 4/ 146، (حلية الأولياء) : 5/ 46، (تاريخ بغداد) : 9/ 3، (الكامل في التاريخ) : 5/ 589، (وفيات الأعيان) : 2/ 400- 403، (ميزان الاعتدال) : 2/ 224، (تهذيب التهذيب) : 4/ 195، (خلاصة تذهيب الكمال) : 155، (شذرات الذهب) : 1/ 220- 223.
[ (3) ] انظر هامش رقم (3) بالصفحة السابقة.(4/309)
الرحمن، جلس عاصم يقرئ الناس، قال أبو عمرو حفص بن سليمان الدوري:
قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها، فهي القراءة التي [أقرئت] [ (1) ] بها على أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وما كان من القراءة التي أقرأت بها أبا بكر بن عياش، فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: قال شهر بن عطية: في مسجدنا رجلان، أحدهما أقرأ الناس بقراءة عبد اللَّه بن مسعود، والآخر أقرأ الناس بقراءة زيد بن ثابت، فالذي أقرأ الناس بقراءة ابن مسعود: الأعمش، والّذي هو أقرأ الناس بقراءة زيد: هو عاصم بن أبي النجود.
وقال أبو عمر البزار حفص بن سليمان، عن عاصم بن أبي النجود، وعطاء ابن السائب، وشهر بن أيوب الثقفي، وابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلميّ:
أنه قرأ عامة القرآن على عثمان بن عفان، وكان عثمان والي أمر الأمة، فقال: إنك تشغلني عن النظر في أمور الناس، فامض إلى زيد بن ثابت فإنه فارغ لهذا الأمر، يجلس فيه للناس فاقرأ عليه، فإن قراءتي وقراءته واحدة، ليس بيني وبينه فيها خلاف، فمضيت إلى زيد فقرأت عليه.
وكنت ألقى عليّ بن أبي طالب فأسأله فيخبرني ويقول لي: عليك بزيد بن ثابت،
فأقمت على زيد ثلاث عشرة سنة أقرأ عليه فيها القرآن.
قال أبو عمر البزار: وكان عطاء بن السائب، ومحمد بن أيوب الثقفي، وابن أبي ليلى يذكرون لعاصم في القراءة، ويعترفون بتقدمه عليهم، وإذا غيّر شيئا قبلوه وأخذوه عنه. توفي عاصم آخر سنة سبع، وقيل أول سنة ثمان وعشرين ومائة.
وأما حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل، أبو عمارة الكوفي الزيات [ (2) ] ، مولى آل عكرمة بن زنجي التميمي، كوفي، فإنه قرأ القرآن عرضا على الأعمش، وحمران ابن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومنصور، وأبي إسحاق وغيرهم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 6/ 358، (التاريخ الكبير) :
3/ 52، (المعارف) : 529، (الجرح والتعديل) : 3/ 209- 210، (وفيات الأعيان) : 2/ 216، (ميزان الاعتدال) : 1/ 605- 606، (تهذيب التهذيب) : 3/ 24، (خلاصة تذهيب الكمال) : 93، (شذرات الذهب) : 1/ 240، (سراج القارئ المبتدي) : 12، (سير أعلام النبلاء) : 7/ 90- 92.(4/310)
وقرأ أيضا على طلحة بن مطرف، وجعفر بن محمد الصادق، وتصدّر للإقراء مدة، وقرأ عليه عدد كثير منهم: الكسائي، وسليم بن عيسى، وهما أجل الصحابة، وقرأ عليه عبد الرحمن بن أبي حماد، وعائذ بن أبي عائذ، والحسن بن عطية في آخرين.
وكان إماما حجة قيما بكتاب اللَّه، له عدة فضائل، وصار [أعظم] [ (1) ] أهل الكوفة إلى قراءته. وقال: ما قرأت حرفا إلا بأثر، وقال عبد اللَّه بن موسى: قرأ حمزة على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على علقمة بن قيس، وقرأ علقمة على عبد اللَّه بن مسعود، وقرأ عبد اللَّه بن مسعود على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وقال خلف بن هشام عن سليم: قرأ حمزة على الأعمش وابن أبي ليلى، فما كان من قراءة الأعمش فهي عن ابن مسعود، وما كان عن ابن أبي ليلى فهي عن علي بن أبي طالب.
وقال هارون بن حاتم: حدثنا الكسائي قال: قلت لحمزة: على من قرأت؟
قال: على ابن أبي ليلى وحمران بن أعين، قلت: فحمران على من قرأ؟ قال: [قرأ على] [ (1) ] عبيد بن نضلة، وقرأ عبيد على علقمة عن ابن مسعود، وقرأ ابن أبي ليلى على المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب.
وقال عبد اللَّه بن موسى والحسن بن عطية وغيرهما: قرأنا على حمزة، وقرأ حمزة على حمران بن أعين، وعلي بن أبي ليلى، والأعمش، وأبي إسحاق، فأما حمران فقرأ على يحيى بن وثاب، وأما الأعمش فقرأ على زر وزيد بن وهب، والمنهال ابن عمرو، وقرأ زر على عبد اللَّه بن مسعود. وقال الأعمش: قرأ يحيى بن وثاب على علقمة، والأسود وعبيد بن فضيلة، ومسروق وعبيدة، وكان الأعمش يقول: يحيى أقرأ الناس، قالوا: قرأ الأعمش على إبراهيم النخعي، فأما أبو إسحاق، فقرأ على أصحاب علي وابن مسعود، وأما ابن أبي ليلى فقرأ على الشعبي، وجاءت أخبار تؤذن بقراءته على الأعمش أيضا، ثم جاءت أخبار بخلاف ذلك، قال محمد بن يحيى الأزدي: قلت لداود:
قرأ حمزة على الأعمش؟ قال: من أين قرأ عليه؟ إنما سأله عن حروف.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/311)
وقال أحمد بن جبير: حدثنا حجاج بن محمد، قلت لحمزة، قرأت على الأعمش؟ قال: لا، ولكني سألته عن هذه الحروف حرفا حرفا. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني عدة من أهل العلم، عن حمزة أنه قرأ على حمران، وكانت هذه الحروف التي يرويها حمزة عن الأعمش، إنما أخذها [من] [ (1) ] الأعمش أخذا، ولم يبلغنا أنه قرأ عليه القرآن من أول النهار إلى آخره. وقال يوسف بن موسى: قلت لجرير بن عبد الحميد: كيف أخذتم هذه الحروف عن الأعمش؟
قال: كان إذا جاء شهر رمضان، جاء أبو حيان التميمي، وحمزة الزيات، مع كل واحد منهما مصحف، فيمسكان على الأعمش، ويقرأ فيسمعون قراءته، فأخذنا الحروف من قراءته. توفي حمزة آخر سنة ست وخمسين ومائة على الصحيح، فرأى أعرابي كثرة الناس على جنازته فقال: ما رأيت أرفع لخسيس من عمل صالح.
وأما علي بن حمزة بن عبد اللَّه بن مهران بن فيروز الكسائي [ (2) ] ، أبو الحسن الأسدي مولاهم، أحد الأعلام، فإنه قرأ القرآن وجوّده على حمزة الزيات، وعيسى ابن عمر الهمذاني، وقرأ على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، واختار لنفسه قراءة، ورحل إلى البصرة، وأخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وأخذ الحروف أيضا عن أبي بكر بن عياش وغيره، وقرأ عليه أبو عمرو الدوري، وأبو الحرث الليثي، ونصير ابن يوسف الرازيّ، وقتيبة بن مهران الأصبهاني، وأبو عبيدة القاسم بن سلام، وخلائق، وانتهت إليه الإمامة في القراءة والعربية، وكان يتخير القراءات، وأخذ من قراءة حمزة وترك. ومات في سنة تسع وثمانين ومائة.
فهؤلاء الأئمة القراء السبعة [ (3) ] ، هم الذين اشتهرت بالآفاق قراءتهم، واعتمد
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 6/ 268، (التاريخ الصغير) : 2/ 247، (المعارف) : 545، (الجرح والتعديل) : 6/ 182، (تاريخ بغداد) : 11/ 403، (وفيات الأعيان) : 3/ 3995، (مرآة الجنان) : 1/ 421، (تهذيب التهذيب) : 7/ 275 (شذرات الذهب) : 1/ 321، (سراج القارئ المبتدي) : 12، (معجم مصنفي الكتب العربية) : 345، (سير أعلام النبلاء) : 9/ 131- 134، ترجمة رقم (44) .
[ (3) ] جمعهم الإمام العالم أبو محمد قاسم بن فيرة بن أبي القاسم، خلف بن أحمد الرعينيّ الشاطبي، في قصيدته اللامية المنظومة من الضرب الثاني من بحر الطويل، المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني) ،(4/312)
عليها الناس في صلاتهم وتلاوتهم، وردّوا ما عداها من القرآن، وكفّروا من زاد فيها حرفا أو أسقط منها حرفا متعمدا لذلك، لأنها تواترت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وعلم كل أحد أنها صحت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ () ] المشهورة (بمتن الشاطبية) ، وهي أسهل ما يتوصل به إلى علم القراءات من التصانيف والمنظومات، وعدة أبياتها كما يقول ناظمها:
وقد وفّق اللَّه الكريم بمنّه ... لإكمالها حسناء ميمونة الجلا
وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ... ومع مائة سبعين زهرا وكمّلا
يقول رحمه اللَّه عن القراء السبعة:
جزى اللَّه بالخيرات عنّا أئمّة ... لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا
فمنهم بدور سبعة قد توسّطت ... سماء العلاء والعدل زهرا وكمّلا
لها شهب عنها استنارت فنوّرت ... سواد الدّجى حتى تفرّق وانجلى
وسوف تراهم واحدا بعد واحد ... مع اثنين من أصحابه متمثّلا
تخيرهم نقادهم كلّ بارع ... وليس على قرآنه متأكّلا
فأما الكريم السّرّ في الطيب نافع ... فذاك الّذي اختار المدينة منزلا
وقالون عيسى ثم عثمان ورشهم ... بصحبته المجد الرّفيع تأثّلا
ومكّة عبد اللَّه فيها مقامه ... هو ابن كثير كاثر القوم معتلا
وروى أحمد البزّي له ومحمد ... على سند وهو الملقّب قنبلا
وأمّا الإمام المازنيّ صريحهم ... أبو عمرو البصريّ فوالده العلا
أفاض على يحيي اليزيديّ سيبه ... فأصبح بالعذب الفرات معلّلا
أبو عمر الدّوريّ وصالحهم أبو ... شعيب هو السّوسيّ عنه تقبّلا
وأمّا دمشق الشام دار ابن عامر ... فتلك بعبد اللَّه طابت محلّلا
هشام وعبد اللَّه وهو انتسابه ... لذكوان بالإسناد عنه تنقّلا
وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة ... أذاعوا فقد ضاعت شذا وقرنفلا
فأمّا أبو بكر وعاصم اسمه ... فشعبة راويه المبرّز أفضلا
وذاك ابن عيّاش أبو بكر الرّضا ... وحفص وبالإتقان كان مفضّلا
وحمزة ما أزكاه من متورّع ... إماما صبورا للقران مرتّلا
روى خلف عنه وخلّاد الّذي ... رواه سليم متقنا ومحصّلا
وأما عليّ فالكسائيّ نعته ... لما كان في الإحرام فيه تسربلا
روى ليثهم عنه أبو الحارث الرضا ... وحفص هو الدّوريّ وفي الذّكر قد خلا
أبو عمرهم واليحصبيّ ابن عامر ... صريح وباقيهم أحاط به الولا
لهم طرق يهدي بها كلّ طارق ... ولا طارق يخشى بها متمحّلا
ومتن الشاطبية هذا، له شروح كثيرة، أحسنها الشرح المعروف باسم (سراج القارئ المبتدئ، وتذكار المقرئ المنتهي) للإمام أبي القاسم على بن عثمان بن محمد بن أحمد بن الحسن، القاصح، العذري، البغدادي، من علماء القرن الثامن الهجريّ، وقد أشرف على طبعه ومراجعته فضيلة الشيخ علي محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية الأسبق.(4/313)
قال حسين بن علي الجعفي: حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: قراءتنا التي جمع عثمان رضي اللَّه عنه الناس عليها، هي على العرضة الآخرة. وقال إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار، وعن محمد ابن المنكدر قال: القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول. وقال أبو الزناد عن خارجة ابن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت قال: القراءة سنّة من السنن فاقرءوا القرآن كما أقرأتموه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [ (1) ] فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (2) ] .
وقال ابن وهب عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة بن الزبير، قال: القراءة سنة يأخذها آخر عن أول.
وقال سفيان عن حصين، قال: سمعت أبا عبد اللَّه السلمي يقول: كنت أقرئ الحسن والحسين فمر بي أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه وأنا أقرئهما: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (3) ] ، فقال لي: يا عبد اللَّه بن حبيب، قلت: لبيك، قال: أقرئهما: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (3) ] بفتح التاء، واللَّه الموفق للصواب.
__________
[ (1) ] طه: 63.
[ (2) ] المنافقون: 10.
[ (3) ] الأحزاب: 40.(4/314)
[القراءات المشهورة]
وأما القراءات المشهورة، فإنّها أربع قراءات غير هذه القراءات السبعة، منسوبة لثلاثة من الأئمة وهم: أبو جعفر، وابن محيصن، ويعقوب، وخلف. وقد اختلف في قراءة أبي جعفر وابن محيصن ويعقوب وخلف وشبههم، هل هي من الشواذ أم من المتواتر أم قسم ثالث؟ فذهب أبو عمر بن أبي بكر بن يونس بن الحاجب، والشيخ محيي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن مري النووي، وأبو عمرو عثمان ابن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح، وغيرهم إلى تحريم القراءة بالشواذ، وهي عندهم ما عدا القراءات السبع.
وهذه مسألة تكلم فيها أهل الكلام والفقهاء، فتكلم أهل الكلام فيها من جهة كونها قرآنا، وأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وتكلم فيها الفقهاء من جهة أنه إن كان قرآنا صحت به الصلاة وتعليق الإيمان وغير ذلك، وإلا فلا. ولقائل أن يقول:
لا ريب أن أبا جعفر يزيد بن القعقاع أحد العشرة، وشيخ نافع، كان من سادات التابعين، وأخذ قراءته عن ابن عباس وأبي هريرة، وصلّى بعبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه، ولم يكن من هو بهذه المثابة ليقرأ كتاب اللَّه تعالى بشيء محرم قراءته، وكيف وقد تلقن القرآن بمدينة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم غضا رطبا، قبل أن تطول الأسانيد، ويدخل فيها النقلة غير الضابطين، هذا، وهم عرب آمنون من اللحن.
ولم تزل قراءة الأئمة متداولة في أمصار الإسلام، حتى اختار أبو بكر بن مجاهد هؤلاء السبعة وسمّاهم، فغلب الكسل، وقصرت الهمم على بعض الناس، وأراد اللَّه تعالى نقص العلم، فاقتصروا على السبعة، ثم اقتصروا من السبعة في هذه البلاد على السبعة المعينة، ثم اقتصروا من السبعة المعينة على الطريقة المشهورة اليوم التي ذكرناها.
وقد كان شيخ شيوخنا العلامة [جمال] [ (1) ] الدين أبو حيان رحمه اللَّه يقول: دخلت هذا البلد- يعني مصر- وغالب من فيها يظن أن السبعة ما في الشاطبية [ (2) ] فقط، حتى أخبرته بما صنف الناس في السبعة، وأن في كتبهم أشياء تخالف ما في الشاطبية فرجع عن ذلك.
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموسة في (خ) ، وأثبتناها من (المقفى الكبير) : 7/ 426، ترجمة رقم (3630) .
[ (2) ] هي المنظومة التي سبق الإشارة إليها نسبة إلى الإمام الشاطبي المعروفة باسم (حرز الأماني ووجه التهاني) وقد سبق أن أشرنا إليها تفصيلا.(4/315)
وأما ابن محيصن فلم تشتهر الرواة عنه اشتهارهم عن يعقوب، لأن يعقوب اشتهر عنه تسعة رجال، رويس، وروح، والوليد بن حسان، وأبو الوليد بن حسان، وأبو أيوب الذهبي، ومحمد بن عبد الخالق، وأبو حاتم السجستاني، وفضل بن أحمد، وأبو المهلب عامر بن عبد [الأعلى] [ (1) ] الدلالة. وأبو علي يزيد بن أحمد ابن إسحاق الحضرميّ هو ابن أخي يعقوب. وهكذا اشتهر عن كل واحد من هؤلاء الرواة عن يعقوب جماعة، فقراءته أقرب للسبعة.
وأما قتيبة بن مهران الأذاذاني الأصبهاني- صاحب الإمالة- فإن له إمالات عجيبة، من أجلها عرف بالممال، فإنه انتهت إليه رئاسة الإقراء بأصبهان، وكان رفيق الدوري، وأبي الحرث، وقرأ على الكسائي، ونقل عنه، وربما قال: حدثنا فلان عنه، فحكمه حكم محيصن وأضرابه، وإنما جرى في هؤلاء السبعة نوع مما جرى في الفقهاء الأربعة أرباب المذاهب، فقد غلب على أكثر الناس اعتقاد أن لا مذهب إلا لهؤلاء الأربعة فقط، وقياس قول هؤلاء أن يكون ما قرأه على بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، ومن بعدهم مثل الحسن البصري، والأعمش، وغيرهم، ممن يطول تعداده، ليس بقرآن، والشأن إنما هو فيما صح الاستناد به، وتواتر سليما من معرة اللحن والخطأ والتصحيف ونحو ذلك.
وليس لنا فتح باب نطعن به على سادات السلف من الصحابة والتابعين، وإن كنا نقول: أنه يحرم القراءة بالشواذ التي هي ليست من متن القرآن، ولا تواترت تواتره، وإنما يوجد في كتب القراءات والتفاسير أن فلانا قرأ بها بتلك الأسانيد المفصلة، التي لا نظم لها ولا أزمّة [ (2) ] ، وهذه بواطيل وتحرم القراءة بها، وليست من قبيل ما كنا فيه، أولا، كما سيأتي ذكره إن شاء اللَّه تعالى.
والبلية كلها غلبة الجهل، وتقليد الآباء والمشيخة، والاكتفاء بما حضر وعرف عند أهل البلد فقط، ولذلك ظن غالب الناس أن لا سبعة إلا هذه التي في الشاطبية ونحوها، كما هو ظن الغالب أن الفقهاء الأربعة ما عدا مذهبهم باطل، ويلزم القول بذلك: إبطال ديانة سفيان [الثوري] ، والأوزاعي، وعبد اللَّه بن المبارك،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] أزمّة: جمع زمام.(4/316)
وإسحاق بن راهويه، ومن كان بالشام والأندلس على مذهب الأوزاعي، حتى اشتهر مذهب مالك وغيره، وإبطال ديانة من كان ببلاد المشرق على مذهب سفيان وغيره من الأئمة، ومن كان على مذهب أهل الحديث الذين لا يتعدونه، كأتباع داود ابن علي، ومن خالف أتباع داود في بعض المسائل، وبناء مذهبهم على وجوب الاجتهاد على من تأهّل لوجه استخراج الحكم الشرعي من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلم، وأوتي أهلية النظر في الأسانيد، بمراجعته لكتب النقل وتواريخ الرواة، والنظر في التعديل والتجريح، وإن كلا عليه الاجتهاد بحسب ما بلغ من ذلك.
وأما الذين حرموا القراءة بما بالسبعة التي في المختصرات، فإنّهم كانوا في قرن السبع مائة، وما زال المسلمون يقرءون بما عدا ذلك شرقا وغربا، ينقلها خلف الأمة عن سلفها، إلى أن ضاعت من المتأخرين، وصنفت في ذلك كتب، وعللت في كتب، علم ذلك من له اطلاع على هذا الفن علم اليقين، وقد كان المسلمون يصلون خلف أصحاب هذه القراءات كالحسن البصري، ويعقوب، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن، والأعمش، وأضرابهم، فلم ينكر ذلك أحد من فقهاء الأمصار وأئمة الإسلام من أهل الفتوى، حتى كان زمن أحمد بن محمد بن شنبوذ، فإنه في منقولاته أشياء تخالف رسم مصحف أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه مخالفة كثيرة، وكان بينه وبين أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد شيخنا [عداوة] [ (1) ] يعرفها جهابذة أهل النقل، وكانت لابن مجاهد رئاسة وتمكن في الدولة العباسية ببغداد، وله مع ذلك شهرة عند الكافة، [فألّب] [ (2) ] على ابن شنبوذ فيمن ألب عليه، حتى جرى من ضربه وهو حاضر مجلس الوزير أبي علي بن مقلة ما جرى، وذلك بضع وعشرين وثلاثمائة، كما ذكرت في كتاب التاريخ الكبير: (المقفى) [ (3) ] وابن مجاهد، هذا الّذي قصر الناس على السبعة وصنف فيها، وإليه كانت رحلة الناس في القراءات فاشتهرت السبعة بالتمييز عن غيرها من عهده، إلى أن صارت عند الناس هي القرآن.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (3) ] كتاب (المقفى الكبير) من مؤلفات المقريزي.(4/317)
[تحريم الصلاة بالقراءة الشاذة]
وأما تحريم الصلاة بالشاذ [من القراءات] [ (1) ] ، فهو المعروف في كتب المتقدمين [من أن علم هذه المسألة] [ (1) ] عند الفقهاء الفروعية أجدر بها، لأنها تحتاج إلى مواد: من حديث، وفقه قديم، واطلاع على عمل السلف، وتحقيق قول أئمة التفسير، ومعرفة بما صحت أسانيده من القراءات وما اختلف من ذلك، ولا ريب أن فقهاء زماننا عن هذا بمعزل إلا القليل منهم.
وأما الشواذ، فإنّها مأخوذة من: شذّ الشيء، ويشذّ شذا وشذوذا، أي ندر عن جمهوره، فسميت [القراءة] [ (1) ] شاذة لأنها فارقت ما عليه القراءات وانفردت عن ذلك، وهي على قسمين:
أحدهما: ما روى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة رضي اللَّه عنهم بإسناد صحيح.
والثاني: ما لم يصح سنده، وللناس في هذه الشواذ مذهبان:
أحدهما: أنه يقرأ في غير الصلاة.
والثاني: أنه لا يجوز أن يقال له قرآن.
فأما من جوّز تلاوته، فقد تقدم ما نقله عن ابن وهب، عن الإمام مالك رحمه اللَّه أنه قيل له: أترى أن تقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه:
«فامضوا إلى ذكر اللَّه» [ (2) ] ؟ فقال: ذلك جائز، وأنه قال: لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا، قد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى إليهم عمر رضي اللَّه عنهم كانت لهم مصاحف، وأنه قال في قراءة ابن مسعود: «طعام الفاجر» [ (2) ] ، فقلت لمالك: أترى أن تقرأ كذلك؟ قال: نعم أرى ذلك واسعا، وأن ابن عبد البر قال: معناه عندي: أن تقرأ به في غير الصلاة، لأن ما عدا مصحف عثمان رضي اللَّه عنه [لا] [ (1) ] يقطع عليه بالصحة، وإنما يجري مجرى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] صوابهما في القراءة المعتمدة: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، طَعامُ الْأَثِيمِ.(4/318)
السنة التي نقلها بطريق الآحاد، لكنه لا يقدم أحد على القطع في ردّه، وأن ابن القثم قال في مصحف ابن مسعود: أرى أن الإمام يمنع من تبعه، ويصرف من قرأ به، ويمنع من ذلك. وقد قال مالك: إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة ممن خالف المصحف [ (1) ] لم يصلّ وراءه.
قال ابن عبد البر: وعلماء [المسلمين] [ (2) ] مجمعون على ذلك، إلا قوما شذوا، لا [يعول] [ (2) ] عليهم، منهم الأعمش سليمان بن مهران، وأما من منع أن يكون الشواذ قرآنا فإنّهم قالوا: لا ينطلق اسم القرآن إلا على ما بين دافتي مصحف عثمان رضي اللَّه عنه.
وأما آحاد القراءات فإنّها غير متواترة، ولهذا قيل لها شاذة لخروجها عما عليه الجمهور.
وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، وقال خلاد بن يزيد الباهلي: قلت ليحيى بن عبد اللَّه بن أبي مليكة بن عبد اللَّه: إن نافعا حدثني عن أبيك عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنها كانت تقرأ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [ (3) ] وتقول: إنما هو من ولق الكذب، فقال يحيى: ما يضرك أن لا تكون سمعته عائشة؟ نافع ثقة عن أبي، وأبي ثقة عن عائشة، وما [يضرني] [ (2) ] أن قرأتها هكذا، ولو كذا وكذا، قلت: ولم أنت تزعم أنها قد قالت؟ قال:
لأنه غير قراءة الناس، ونحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين، ما كان بيننا وبينه إلا التوبة أو نضرب عنقه، نجيء به عن الأئمة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن جبريل عن اللَّه، وتقولون أنتم: حدثنا فلان عن فلان الأعمش؟ ما أدري ماذا أن ابن مسعود قرأ غير ما بين اللوحين؟ إنما هو واللَّه ضرب العنق والتوبة.
وقال هارون بن موسى: ذكرت ذلك لأبي عمرو- يعني القراءة عن عائشة رضي اللَّه عنها- فقال: سمعت هذا قبل أن تولد ولكنا لا نأخذ به. وقال محمد ابن صالح: سمعت رجلا يقول لأبي عمرو: وكيف تقرأ: لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [ (4) ] ؟ قال: لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ [ (4) ] ، فقال له الرجل: كيف وقد جاء عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ [ (4) ] ؟ فقال
__________
[ (1) ] يعني مصحف عثمان رضي اللَّه تعالى عنه.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (3) ] النور: 15.
[ (4) ] الفجر: 25- 26.(4/319)
له أبو عمرو: لقد سمعت الرجل الّذي قال سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما أخذته عنه، وتدري لم ذلك؟ لأني أتهم الواحد بالشاذ، وإذا كان على خلاف ما جاءت به العامة.
قال كاتبه: هذا الحديث خرجه الحاكم من حديث علي بن الحسن [ (1) ] بن شقيق قال: حدثنا عبد اللَّه بن المبارك، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عمن أقرأه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ، وقال [الحاكم] [ (2) ] : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، والصحابي الّذي لم يسمه قد سماه غيره، وهو مالك بن الحويرث، وهذه القراءة إنما أنكرها أبو عمر، لأنها لم تبلغه على وجه التواتر، وإن كانت تثبت عند غيره.
وقال أبو حاتم السجستاني: أول من تتبع بالبصرة من وجوه القرآن [وألّفها] [ (2) ] ، وتتبع الشاذ منها، فبحث عن إسناد: هارون بن موسى الأعور، وكان من العتيك مولى، وكان من القراء، فكره الناس ذلك وقالوا: قد أساء حين ألّفها، وذلك أن القراءة إنما يأخذها قرن وأمة عن أفواه أمة، ولا يلتفت منها إلى ما جاء من وراء وراء.
وقال الأصمعي عن هارون هذا: كان ثقة مأمونا، قال: وكنت أشتهي أن يضرب لمكان تأليفه الحروف، وكان الأصمعي لا يذكر أحدا بسوء إلا من عرف ببدعة. وقال الأصمعي: سمعت نافعا يقرأ: يَقُصُّ الْحَقَّ [ (3) ] ، فقلت له: إن أبا عمر يقرأ يقضي الحق، وقال: القضاء مع الفضل، فقال نافع: وي [ (4) ] يا أهل العراق! [تعبثون] [ (2) ] في القرآن؟. قال يزيد بن هاشم: إياكم أن تأخذوا القراءة [ (5) ] على قياس العربية، إنما أخذناها بالرواية.
وقال بعض أصحاب سليم: قلت لسليم في حرف من القرآن: من أي وجه كان كذا وكذا؟ فرفع كمه وضربني به، وغضب وقال: اتّق اللَّه، لا تأخذون في شيء من هذا، إنما يقرأ القرآن على الثقات من الرجال الذين قرءوه على الثقات.
__________
[ (1) ] في (خ) : «الحسين» ، وصوبناه من (المستدرك) .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الأنعام: 57.
[ (4) ] كلمة تعجب.
[ (5) ] في (خ) : «القرآن» . وما أثبتناه أجود للسياق.(4/320)
وقال الكسائي: لو قرأت على قياس العربية لقرأت كبره [ (1) ] برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، لكنني قرأت على الأثر. وقال يحيى بن آدم: أخبرنا أبو بكر بن عياش بحروف عاصم في القراءات وقال: سألته عنها حرفا حرفا، فحدثني بها ثم قال: أقرأنيها عاصم كما حدثتك بها حرفا حرفا، فتعلمتها منه بعد أن اختلفت إليه نحوا من ثلاث سنين، كل غداة في البرد والأمطار، حتى إني لأستحيي من أهل مسجد بني كاهل في الصيف والشتاء، وأعملت نفسي [فيه] [ (2) ] سنة بعد سنة، فلما قرأت عليه قال لي: احمد اللَّه فإنك قد جئت وما تحسن شيئا، فتعلمت القرآن من عاصم كما يتعلم الغلام في الكتّاب ما أحسن غير قراءته.
وقال أبو عبيد بن القاسم بن سلام: ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الّذي عليه الإجماع من الحروف التي تعرف أسانيدها الخاصة دون العامة، مما نقلوا فيه عن أبيّ بن كعب: «وما كان ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، وعن ابن عباس:
«ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» .
ومما يحكون عن عمر رضي اللَّه عنه: أنه قرأ: «غير المغضوب عليهم وضرّ الضالين» ، مع نظائر لهذه الحروف كثيرة لم ينقلها أهل العلم، على أن الصلاة بها تحل، ولا على أنها معارض بها مصحف عثمان رضي اللَّه عنه، لأنها حروف، لو جحد جاحد ألفا من القرآن لم يكن كافرا. والقرآن الّذي جمعه عثمان بموافقة أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم له، لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري- وقد ذكر ما ينقل عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنه قرأ: «والعصر* ونوائب الدهر* إن الإنسان لفي خسر»
-: قول أبي بكر بن عياش، قال لي عاصم بن أبي النجود: ما أقرأني أحد من الناس حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عبد الرحمن قرأ على عليّ رضي اللَّه عنه، وكنت أرجع من عند أبي عبد الرحمن فأعرض على زرّ بن حبيش، وزرّ بن حبيش قرأ على عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] النور: 11.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/321)
قال ابن الأنباري: وإذا روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي رضي اللَّه عنه:
وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [ (1) ] ، كما يقرأ المسلمون جميعا بشهادة عاصم على أبي عبد الرحمن، فرواية أبي عبد الرحمن تنسخ كل رواية في القراءة عن علي، لموضع أبي عبد الرحمن بن علي، وضبطه عنه، وأنه كان يقرئ الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما،
فهذه جهة تبطل رواية من روى عن علي رضي اللَّه عنه: «والعصر* ونوائب الدهر» .
الجهة الثانية: أن عليا لما أفضت الخلافة إليه بعد عثمان رضي اللَّه عنه، وكان إمام المسلمين وقدوتهم، لو علم أن «والعصر» في مصحف عثمان الّذي أجمع عليه المسلمون تنقص «ونوائب الدهر» ، لم يستحل ترك خلل في المصحف، ونقص ألفاظ تنقص بها من ثواب القارئ حسنات، ويزول من جهتها معنى أراده اللَّه وقصد له، فترك عليّ وَالْعَصْرِ [ (2) ] في مصاحف المسلمين على ما لا يعرف غيره، هو الدليل على أن من روى: «والعصر* ونوائب الدهر» كذب أو نسي.
والجهة الثالثة: أن المسلمين أجمعوا على أن هذا هو القرآن الّذي أنزله رب العالمين على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، لا زيادة فيه ولا نقصان، فمن ادعى زيادة أو نقصانا منه فقد أبطل الإجماع، وبهّت الناس وردّ ما قد صح عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوّج تسع من النساء؟
حلال، وفرض اللَّه أياما فصام مع شهر رمضان، فإذا ردّ جميع هذا الإجماع، كان الإجماع على القرآن أثبت وأوكد، والبناء عليه أولى. وعليّ رضي اللَّه عنه داخل في الإجماع غير خارج منه.
وأيضا فقد كان علي يصلي بالمسلمين صلاة المغرب، وصلاة العشاء الآخرة، وصلاة الصبح، فيقرأ والناس وراءه يستمعون قراءته. فلو خالف عثمان وأبا بكر وعمر في حرف واحد أو أكثر، لسارع الناس إلى سؤاله عنه، وقبوله منه، وتغييره من المصاحف بمحضر منه، فلما سمعوا قراءته طول خلافته، فلم ينكروا حرفا ولم يغيروا مما سمعوا منه شيئا من المصحف، كان هذا هو الدليل على أن قراءة عليّ هي قراءة أبي بكر وعمر وعثمان، والحجة واضحة برواية أبي عبد الرحمن السلمي، عنه ما يوافق قراءتنا ولا يخالفها
__________
[ (1) ] العصر: 1- 2.
[ (2) ] العصر: 1.(4/322)
فالقرآن الّذي حصّله عنه أبو عبد الرحمن، هو الّذي كان يؤم الناس به في صلاته، فيجدونه موافقا قرآن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر المسلمين، ولو وقفوا فيه على زيادة كلمة أو نقصان لفظة، لوافقوا [عليا] [ (1) ] عليها وأثبتوها في المصاحف على قوله، وما يأمر به من رسمه لعلو درجته وارتفاع منزلته، فقد حصّلوا في كلامه المنثور ضمة في حرف وياء في كلمة، فتابعوا حكايتهما عنه، ونسبتهما إليه، فأحد الحرفين الدّهقان [ (2) ] بضم الدال، والآخر نيرز من النيروز.
قال عياش بن القدح الرياشي: حدثنا أبو عاصم عن معاذ بن العلاء- أخي أبي عمرو بن العلاء- عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أصبت من فيئكم إلا هذه القارورة، أهداها إليّ الدّهقان بضم الدال، ثم أتى بيت المال فقال: خذ خذ، وأنشأ يقول:
[أفلح] [ (3) ] من كانت له قوصرّة [ (4) ] ... يأكل منها كل يوم مرة
وقال سليمان بن حرب: حدثني حماد بن مسلمة بن زيد عن التميمي قال: أهدى إلى عليّ فالوذج [ (5) ] في جام [ (6) ] يوم النيروز، فقال: ما هذا؟ قال: هذا يوم النيروز، فقال: نيرز، وأكل.
يوم بالياء، قال: فمن ضبط من لفظ عليّ وحصّل من كلامه ضمة نادرة، وياء نادرة، فهو صفيق بأن لا يغفل من قراءته كلمة تنبت، ولفظة تسقط، وحركة تغير، فمن ادعى أن ألفاظه في منثور كلامه ضبطت، وكلماته في قراءته القرآن أضيعت، فقد أخبر بمحال لا يقبله عليم، ولا يشهد بصحته حكيم.
وذكر ابن الأنباري ما ينقل عن أبي بن كعب رضي اللَّه عنه، أنه قرأ كأن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] الدّهقان، والدّهقان: التاجر، فارسىّ معرّب. (لسان العرب) : 10/ 107.
[ (3) ] زيادة للسياق والبيان من المرجع السابق.
[ (4) ] القوصرّة: وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البوادي. قال ابن الأعرابي: العرب تكني عن المرأة بالقارورة والقوصرّة قال ابن بري: وهذا الرجز ينسب إلى الإمام علي عليه السلام، وقالوا: أراد بالقوصرة المرأة، وبالأكل النكاح. (المرجع السابق) : 5/ 104.
[ (5) ] نوع من الحلوى.
[ (6) ] الجام: هو إناء من فضة، عربي صحيح، قاله ابن سيده. (اللسان) : 12/ 112.(4/323)
لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [ (1) ] ، «وما كان اللَّه ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، ثم إن الحسن ابن الحيان حدثنا قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد القاسم بن نافع ابن أبي برة قال: قرأت القرآن على عكرمة بن سليمان أنه قرأ على شبل بن عباد، وإسماعيل بن عبد اللَّه بن قسطنطين، وأنهما أخبراه أنهما قرءا على عبد اللَّه بن كثير، وأن عبد اللَّه بن كثير أخبره أنه قرأ على مجاهد [وأن مجاهد] [ (2) ] أخبره أنه قرأ على عبد اللَّه بن عياش، وأن ابن عياش قرأ القرآن على أبيّ بن كعب، فقرأه ابن كثير بهذا الإسناد عن أبي بن كعب: حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [ (1) ] ، كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [ (3) ] ، فهذا الإسناد يبطل الإسناد الضعيف الّذي نقل به عن أبيّ.
وحدثنا حسن بن الحباب، حدثنا محمد بن عبد الحكم، حدثنا الشافعيّ قال:
قرأت على ابن قسطنطين، وأخبرني ابن قسطنطين أنه قرأ على ابن شبل بن عباد، وأخبر شبل بن عباد أنه قرأ على عبد اللَّه بن كثير، وأخبر ابن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عياش، وأخبر ابن عياش أنه قرأ على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ بن كعب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فهذا السند الّذي نقلته أهل العدالة والصيانة، ما يثبت ما عليه الجماعة في البناء على مصحف عثمان، ويوجب على من خالفه خلاف الرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن هذا السند متصل بالرسول، ولذا صح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه.
وحدثنا الحسن بن الحباب، حدثنا الطيب بن إسماعيل المقرئ، حدثنا يحيى ابن المبارك اليزيدي قال: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبو عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عياش، وقرأ ابن عياش على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فتصحيح هذا الخبر قراءة العامة كتصحيح الخبر الّذي قبله، وكلاهما يوجب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يقرأ: «وما كان اللَّه ليهلكها إلا بذنوب أهلها» ، فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها اللَّه تعالى على نبيه فليس بكافر ولا آثم.
__________
[ (1) ] يونس: 24.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الأعراف: 58.(4/324)
وذكر ما نقل عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قرأ: «وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم» ، وأنه قرأ: «في جيدها حبل من ليف» ، ثم قال: وما نعلم أن سندا يتصل بعبد اللَّه بن مسعود في أنه قرأ ذلك، ولا يصح من هذا في مصحف مكتوب، إذا لم يصحّحه إجماع أو أسانيد معروفة الأهل، مشهورون بصحة النقل، فلو أن حديثا للرسول صلّى اللَّه عليه وسلم أورده مورد في مصحف بسند لا يعرف، لم يحكم على الرسول به، ولم يقبله عليه، فكيف يقبل على اللَّه رب العالمين أنه قال في القرآن: «من عين تجري من تحت الجحيم» ، والصحابة متفقون على إبطال ذلك، وروايتهم عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم ما يخالفه، وفيهم من أتقن القرآن من أوله إلى آخره، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيّ، فلو أسقط عثمان حرفا لعارضه الحفاظ الذين حفظوا جميع القرآن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما وافقوه كان في هذا أوضح برهان على أن جميع ما يخالف ما مع المسلمين من القرآن، من كلام الشياطين ووضع إبليس.
وما
لعبد اللَّه بن مسعود مما دخل فيه على بن أبي طالب، فذكر من طريق الحسن ابن عرفة قال: حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عبد، قال: قرأت عند عليّ أو قرئت عند على شك مجالد: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [ (1) ] ، فقال علي رضي اللَّه عنه: ما قال الطلح، أما يقرأ وطلع؟ ثم قال: وطلع نضيد، فقيل له:
يا أمير المؤمنين أتحكها من المصحف؟ فقال: لا، لا يهاج القرآن اليوم.
قال: ومعنى هذا: أنه رجع إلى ما في المصحف، وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الّذي كان فرط من قوله، فما يلحق عبد اللَّه بن مسعود نقص برجوعه عما كان يقرأ به إلى قراءة عثمان كما رجع إليها عليّ، وعثمان مشهود له بحفظ جميع القرآن وإتقانه.
قالت نائلة بنت العرائض: لما دخل المضريون على عثمان [قالوا] [ (2) ] إن شئتم فاقتلوه وإن شئتم فاتركوه، فقد كان يقرأ القرآن من أوله إلى آخره في ركعة.
وقال يحيى بن زكريا الأنصاري، عن يعلي عن عمر بن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: ما رأيت قرشيا كان أقرأ لكتاب اللَّه عزّ وجل منك يا ابن أبي طالب.
__________
[ (1) ] الواقعة: 29.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.(4/325)
وقال يحيى بن آدم عن ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:
ما رأيت أحدا أقرأ لكتاب اللَّه عزّ وجلّ من علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ولا يجوز أن يحكم على عبد اللَّه بن مسعود بكتاب في رق، يدعي مدعي أنه مصحف عبد اللَّه، لأن الخط ليس بشاهد عدل، ما رأينا نقلة الأنساب وأصحاب الأخبار صححوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما يرى مكتوبا في صحيفة، حتى يشهد على الصحيفة عدول، فما [ينفي] [ (1) ] عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعف مذهب، فنفيه عن رب العالمين أولى، إذ الإجماع من أهل الإسلام كافة على صحة ما بأيدينا من مصحف عثمان، وكل ما يرد أنه في مصحف ابن مسعود مما يخالف ما عليه الكافة، ليس معه إجماع ولا له شهود ورواة فهو مردود، ولإبطال إجماع الأمة له، وإن حمزة وعاصما يرويان عن عبد اللَّه بن مسعود، ما عليه جماعة من المسلمين، وإلينا على سندين [موافقين] [ (1) ] الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه إجماع الأمة.
فإن قيل: إن عبد اللَّه بن مسعود طالبه عثمان لما جمع المصحف بدفع مصحفه إليه فامتنع، ولم يكن امتناعه إلا لخلاف بين المصحفين، فكره عبد اللَّه أن يحمل مصحفه على مصحف عثمان، [فأبى] [ (1) ] إلا احتجابه والإقامة عليه وأن لا يخرجه، وقد قال خلاد القارئ، عن قيس بن الربيع عن الأعمش قال: ليس بين مصحف عبد اللَّه وبين ثابت خلاف في حلال وحرام إلا في حرفين: في سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [من] المهاجرين في سبيل اللَّه [ (2) ] ، وفي سورة الحشر: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [والمهاجرين في سبيل اللَّه] [ (3) ] .
وقد قال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عمر بن قيس، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: جاءني جاء وأنا أصلي فقال: ثكلتك أمك! أتصلي وقد أمر بكتاب اللَّه أن يمزق؟ فتحورت في صلاتي وأتيت الدار وزقت وكنت لا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الأنفال: 41، وما بين الحاصرتين وجه اختلاف القراءتين.
[ (3) ] الحشر: 7، وما بين الحاصرتين وجه اختلاف القراءتين.(4/326)
أحبس، فرأيت أبا موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن مسعود، وحذيفة [يتقاولون] [ (1) ] ، وحذيفة يقول لعبد اللَّه بن مسعود: أعطهم، وعبد اللَّه يقول: واللَّه لا أدفعه إليهم، قرأت من في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وأدفعه إليهم؟ واللَّه لا أدفعه إليهم.
فالامتناع الّذي كان منه للحذر الّذي حاذره من أن يحمل مصحفه على مصحف عثمان، أجيب عن هذا بأن عثمان جمع المصاحف وطالب عبد اللَّه بمصحفه بعد حصول مصحف المسلمين الّذي اجتمعت على صحته الصحابة كلهم، بعد تصحيح أبي بكر وعمر إشفاقا من أن يكون في بعضها منسوخ لم يقف صاحب المصحف [عليه] [ (1) ] لوقوفه هو وسائر المسلمين على ما يلحقه ويدخل عليه.
وكان امتناع عبد اللَّه من دفع مصحفه إشفاقا على تغيير يدخله، يخالف ما [قد] [ (1) ] رواه وأتقنه، وكان هذا الّذي حاذره زائلا ساقطا مأمونا منه، فبعد ذلك حين وقف على إتقان المصحفين، واجتماع الروايتين، قرأ وأقرأ بمثل قراءة المسلمين، على أنه قد كان [آخر] [ (1) ] من تولى زيد بن ثابت جمع المصحف وقال: أنا أحق بهذه المنزلة لتقدمي في القراءة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخذي عنه، وزيد في صلب أبيه.
ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان، على عبد اللَّه بن مسعود في جمع القرآن، وعبد اللَّه بن مسعود أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد اللَّه، إذ وعاه كله، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيّ، والّذي حفظه منه عبد اللَّه في حياة رسول اللَّه نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيّ، أولى بجمع المصحف، وأحق بالإيثار والاختيار، ولا ينبغي أن يظن بأن هذا طعنا على عبد اللَّه بن مسعود، لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا تقدمته عليه، لأن أبا بكر وعمر كان زيد أحفظ [منهما] [ (1) ] للقرآن، وليس هو خير [منهما] [ (1) ] ، ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب، فحسن اختيار أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن أسندوا إليه جمع القرآن واضح، والّذي لحق عبد اللَّه ابن مسعود من الغضب، وما أبداه من الإنكار غير معول عليه، ولا مأخوذ
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.(4/327)
به، لأنهم كانوا يرجعون عنه إذا رضوا، وقد قال زيد بن ثابت: كنا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع، فإذا تقدم زيد في هذا ورسول اللَّه حيّ، كان أحق الناس بالجمع بعد وفاته، وما اختلف أهل العلم في أن زيدا ضم القرآن وحفظه في حياة رسول اللَّه، وأن عبد اللَّه بن مسعود قبض رسول اللَّه وهو غير حافظ لجميع القرآن، وقراءة عبد اللَّه هي قراءة زيد، لا نعلم بينهما خلافا أخل بمعنى ولا [يفسده] [ (1) ] وما يروى مما يخالف ذلك لا [يخلو] [ (1) ] من أن يكون موضوعا على جهة العناد لعثمان وبقية الصحابة، وللتشكيك [فيما] [ (1) ] قد صح من كتاب اللَّه الّذي قد [جمعه صحابة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] ، ولم يحصل ما روى، أو أن يكون الحديث المتضمن له واهي السند منقطعة، لا يقوم بمثله حجة.
وذكر ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه أنه قرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت [ (3) ] ، ثم قال: رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف، فعليها العمل، والأخرى مرفوضة، تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث عنه، وأورد حديث جرير عن منصور، عن أبي وائل عن مسروق قال: لما حضر أبو بكر رضي اللَّه عنه أرسل إلى عائشة رضي اللَّه عنها، فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
فقال لها أبو بكر رضي اللَّه عنه: ألا قلت كما قال اللَّه تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ الحديث.
وذكر ما نقل عن عمر بن الخطاب وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما، أنهما قرءا: فامضوا إلى ذكر اللَّه، ثم قال: إن الأمة اجتمعت على: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [ (4) ] ، برواية ذلك عن رب العالمين ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأما عبد اللَّه ابن مسعود، فما صح عنه: «فامضوا» ، لأن السند غير متصل، إذ إبراهيم النخعي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.
[ (3) ] ق: 19، وقراءتها على رواية حفص عن عاصم: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ
[ (4) ] الجمعة: 9.(4/328)
لم يسمع من عبد اللَّه، إنما ورد: «فامضوا [إلى ذكر اللَّه [ (1) ]] » عن عمر رضي اللَّه عنه وحده، فإذا انفرد واحد بما يخالف الأمة والجماعة كان ذلك نسيانا منه، ويدل على ذلك أن الصحف التي كتبها أبو بكر رضي اللَّه عنه ونسخ منها مصحف عثمان كانت عند عمر مكتوبا فيها فَاسْعَوْا، وهي أمامه، وهو أرضى الناس بما فيها لنفسه وللمسلمين، فلو علم وقت قوله: «فامضوا» ، أن المصحف فيها:
فَاسْعَوْا ما استجار الخلاف لها، ولرجع إلى ما فيها، لكنه غلب عليه نسيان البشر، وطبع الآدميين، وإنما كتب القرآن في المصاحف ليحفظ على الناس، ويرجع إليه الناسي، ويوقف بما فيه على غلط الغالط وتغيير المغيّر، وليس من آدمي يسلم من النسيان والغفلة.
وذكر ما نقل من قراءة عبد اللَّه بن عياش رضي اللَّه عنه: «والشمس تجري لا مستقر لها» ، ثم قال: هذا باطل مردود على من نقله، لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عياش، وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عياش: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [ (2) ] فهذان السندان عن ابن عياش اللذان [يشهد] [ (1) ] بصحتهما الإجماع ببطلان ما ورد بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة وما اتفقت عليه الأمة.
وذكر ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» ، ثم قال أبو عمرو وابن كثير: سنديهما المنضم إليهما الإجماع عن ابن عباس لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ
[ (3) ] ، فأبطل هذان الإسنادان غيرهما، وحمل الحديث الآخر على أن ابن عباس قال: «في مواسم الحج» مفسّرا لمعنى القرآن، فحمل التفسير بعض الناقلين على أنه من القرآن فأدخله فيه غالطا أو غافلا.
وهذا بمنزلة حديث سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ: «يا حسرة للعباد» ، وبمنزلة حديث سفيان عن عمرو عن ابن عباس، أنه قرأ، «وإن عزموا السراح» ، قال: فالسراح تفسير الطلاق، غلط فيه بعض الناقلين. ومثله حديث مالك عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر رضي اللَّه عنه، أنه قرأ: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن» ، قال: فما يحمل ذا إلا على أن ابن عمر
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] يس: 38.
[ (3) ] البقرة: 198.(4/329)
ذكر «لقبل» تفسيرا لمعنى القرآن، فتوهم بعض من نقل الحديث أنه من القرآن فأدخله فيه، وإجماع الأمة يدل على صحة هذا التأويل.
قال: وكل ما يحتج به مما يحكى عن الأئمة من خلاف المصحف المجمع عليه لا تقوم به حجة، ولا يجوز أن يستعمل شيء منه في صلاة ولا غيرها، لأنه لا [يخلو] من أن يكون الحرف المخالف تفسيرا لمعنى القرآن، فأدخله بعض الناقلين في القرآن، بقصور علمه، أو يكون بعض الرواة لم يضبط ما نقل، ولم يصحح ما آثر، أو يكون المنقول عنه غلط كما يغلط البشر، فقرأ بحرف يقدّر أنه مثبت في المصحف فلم يصح تقديره.
وذكر ما نقل عن عكرمة عن ابن عباس أنه قرأ «أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه [لهدى] الناس جميعا» [ (1) ] ، ثم قال هذا باطل عن ابن عباس، لأن مجاهد وسعيد ابن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس على ما في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس، يرفعه إلى أبيّ، ويبلغ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال الحسن بن عيسى المقرئ: حدثنا هارون الكوفي، حدثنا أبو العباس حسن الليثي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: على من قرأت؟ فقال: على مجاهد وسعيد ابن جبير، والقراءة عندهم سنّة، يأخذها آخر عن أول، قال: فكل واحد من الأئمة- أئمة الأمصار- قراءته روايته، ونقل الإسناد الّذي يذكره ويفصح به.
وذكر ما نقل عن عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما» [ (2) ] ، ثم قال: هو باطل، من قرأه عامدا في صلاته فقد أفسدها، وحكى عن اللَّه تعالى ما لم ينقل بإجماع المسلمين على خلافه، واحتجاج عائشة رضي اللَّه عنها خاصة، على ما قرأته، وإبطالها مذهبه.
وذكر حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قلت لعائشة وأنا حديث السن: أرأيت قول اللَّه تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [ (2) ] ، فقد تطوف الناس بهما، وما أرى على أحد شيئا أن لا يطّوف بهما، فقالت: كلا يا بني، لو كانت كما تقول
__________
[ (1) ] الرعد: 31، وقراءة حفص: أَفَلَمْ يَيْأَسِ.
[ (2) ] البقرة: 158، وقراءة حفص: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.(4/330)
لكانت: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما» ، وإنما هذه الآية في الأنصار، وكانوا يهلون لمناة [ (1) ] ، وكانت مناة على قديد [ (2) ] ، وكانوا يتحرجون من الطواف بالصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [ (3) ] .
__________
[ (1) ] اسم صنم.
[ (2) ] اسم جبل.
[ (3) ] البقرة: 158.(4/331)
[ترتيب نزول القرآن بمكة]
أول ما نزل من القرآن خمس آيات من سورة العلق بلا خلاف، كما قاله القشيريّ في أول تفسيره، قال: ثم نزل بعد ذلك ن وَالْقَلَمِ، ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، ثم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الْأَعْلَى] ، ثم وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، ثم وَالْفَجْرِ، ثم وَالضُّحى، ثم أَلَمْ نَشْرَحْ، ثم وَالْعَصْرِ، ثم وَالْعادِياتِ، ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثم وَالنَّجْمِ إلى قوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [ (1) ] ، ثم عَبَسَ، ثم إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثم وَالشَّمْسِ وَضُحاها، ثم وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، ثم وَالتِّينِ، ثم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، ثم الْقارِعَةُ، ثم لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، ثم الهمزة، ثم وَالْمُرْسَلاتِ، ثم ق، ثم لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، ثم الطارق، ثم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، ثم ص، ثم الأعراف، ثم الجن، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم مريم، ثم طه، ثم الْواقِعَةُ، ثم الشعراء، ثم النمل، ثم القصص إلى قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ الآية [ (2) ] ، فإنّها نزلت بالجحفة، ثم بني إسرائيل غير قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [ (3) ] ، وقوله:
رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [ (4) ] ، ثم يونس، ثم الحجر، ثم الأنعام إلا قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ (5) ] ، ثم وَالصَّافَّاتِ، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر غير قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... [ (6) ] الآية، ثم حم المؤمن [ (7) ] ، ثم حم فصّلت، ثم حم عسق [ (8) ] ، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف إلا قوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ
__________
[ (1) ] النجم: 33.
[ (2) ] القصص: 85.
[ (3) ] الإسراء: 76.
[ (4) ] الإسراء: 80.
[ (5) ] الأنعام: 91.
[ (6) ] الزمر: 53.
[ (7) ] سورة غافر.
[ (8) ] أول الشورى.(4/332)
[ (1) ] ، ثم وَالذَّارِياتِ، ثم الغاشية، ثم الكهف غير قوله:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [ (2) ] ، ثم النحل غير قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ [ (3) ] ، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنون، ثم الم تَنْزِيلُ [ (4) ] ، ثم الطور، ثم تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ثم الْحَاقَّةُ، ثم سَأَلَ سائِلٌ [ (5) ] ، ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ [ (6) ] ، ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، ثم الرُّومُ، فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة.
[آخر ما نزل بمكة]
وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه: آخر ما نزل بمكة العنكبوت، وقال الضحاك وعطاء: المؤمنون، وقال مجاهد: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. وقيل فيما ذكر البغوي: إن سورة المطففين، وسورة القدر، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ أنزلت بالمدينة، وقال الزمخشريّ:
المعوذتان مكيتان [ (7) ] ، وقال البغوي: مدنيتان.
__________
[ (1) ] الأحقاف: 10.
[ (2) ] الكهف: 28.
[ (3) ] النحل: 126.
[ (4) ] سورة السجدة.
[ (5) ] سورة المعارج.
[ (6) ] سورة النبأ.
[ (7) ] (الكشاف) : 4/ 243- 244.(4/333)
[ترتيب نزول القرآن بالمدينة]
قال أبو القاسم القشيري: أول ما نزل بالمدينة «البقرة» ، ثم «الأنفال» إلا قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [ (1) ] ، ثم «آل عمران» ، ثم «الأحزاب» ، ثم «الممتحنة» ، ثم «النساء» ، ثم إِذا زُلْزِلَتِ، ثم «الحديد» ، ثم «سورة محمد» ، ثم «الرعد» ، ثم الرَّحْمنُ، ثم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ، ثم «الطلاق» ، ثم لم يكن، ثم «الحشر» ، ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، ثم «النور» ، ثم «الحج» ، غير قوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى قوله: عقيم، ثم «المنافقون» غير قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ، ثم «المجادلة» ، ثم «الحجرات» ، ثم لِمَ تُحَرِّمُ [ (2) ] ، ثم «الصف» ، ثم «الجمعة» ، ثم «التغابن» ، ثم «الفتح» ، ثم «المائدة» ، ومنهم من يقدم المائدة على التوبة، وقرأها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع وقال:
يا أيها الناس، إن آخر القرآن نزولا سورة المائدة، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها، واختلف في وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، فعن ابن عباس، هي مدنية، وقال الباقون:
مكية. فهذه تسع وعشرون سورة [نزلت بالمدينة] [ (3) ] ، وأكثرهم على أن الفاتحة مكية، وقال مجاهد وغيره: نزلت بالمدينة.
وخرج الحاكم من حديث يحيى بن معين، حدثنا وكيع عن أبيه عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزل بالمدينة، وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ فبمكة. ومن حديث وكيع، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال:
قرأنا المفصل حينا وحججا، ليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. قال الحاكم:
صحيح على شرح الشيخين [ (4) ] . ومن حديث معتمر بن سليمان، عن مثنى بن
__________
[ (1) ] الأنفال: 64.
[ (2) ] سورة التحريم.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 20، كتاب الهجرة، حديث رقم (4296/ 40) ، وله أيضا من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنه قال: قرأنا المفصل بمكة حججا ليس فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. (المرجع السابق) : 2/ 244، حديث رقم (2889/ 18) وقال الحاكم في آخره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(4/334)
الصباح، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا نزل جبريل فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ علم أنها سورة [ (1) ] .
قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 2/ 11، حديث رقم (4218/ 228) .
[ (2) ] زيادة من (المرجع السابق) .(4/335)
[تتمّة مفيدة]
اختلف السلف في أي سورة من القرآن أنزلت أولا، فقيل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (1) ] ، وقيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (2) ] ،
خرج البخاري في كتاب التفسير، من حديث وكيع عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما أنزل من القرآن قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (1) ] ، قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (2) ] ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه عن ذلك، وقلت له مثل الّذي قلت، فقال جابر:
لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثريني وصبّوا عليّ ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [ (1) ] .
وذكر من حديث عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: جاورت بحراء ... [ (3) ] ، فذكره.
ومن حديث عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى، سألت أبا سلمة: أي القرآن نزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت:
أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماء باردا، وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.
__________
[ (1) ] أول سورة المدثر. (3) المدثر: 1- 3.
[ (2) ] أول سورة العلق.
[ (3) ] سبق شرح وتخريج هذا الحديث في باب كيف كان بدء الوحي.(4/336)
وخرج مسلم في كتاب الإيمان، من حديث الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أيّ القرآن أنزل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت:
أو اقْرَأْ؟ قال جابر: أحدثك ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحدا، ثم نوديت، فرفعت رأسي، فإذا هو علي العرش في الهواء- يعني جبريل عليه السلام- فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت: دثروني، فدثروني، فصبّوا عليّ ماء، فأنزل اللَّه عز وجل:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [ (1) ] .
وخرجه من حديث علي بن المبارك عن يحيى بهذا الإسناد، قال: فإذا هو جالس على العرش بين السماء والأرض. وثبت في الصحيحين وغيرها، من حديث يونس بن يزيد قال: أخبرني ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان [يخلو] بغار حراء فيتحنث فيه، قال: والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد. وقال مسلم: أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء،
فجاءه الملك فقال:
اقْرَأْ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ،
فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة. الحديث بطوله [ (2) ] .
وخرجاه من حديث ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول:
أخبرني [ (3) ] جابر بن عبد اللَّه، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا بين السماء والأرض، فرفعت رأسي، فإذا الملك
__________
[ (1) ] المدثر: 1- 4.
[ (2) ] سبق شرحه وتخريجه في باب كيف كان بدء الوحي.
[ (3) ] في (خ) : «أخبرنا» ، وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .(4/337)
الّذي بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فخبئت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروه- وقال مسلم: فدثروني- فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، الحديث.
وقال سفيان بن عيينة: عن ابن إسحاق، إن أول شيء نزل من القرآن اقْرَأْ.
وقال سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أول ما نزل من القرآن:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، [ن] وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [ (1) ] ، وقال وكيع، عن مرة بن خالد، عن أبي رجاء قال: أول سورة أنزلت على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني معمر بن راشد عن الزهري، عن محمد بن عباد عن جعفر قال: سمعت بعض علمائنا يقول: كان أول ما أنزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، فهذا صدرها الّذي أنزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حراء، ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء اللَّه.
قال النووي: قوله: إن أول ما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ضعيف، بل باطل، والصواب: إن أول ما نزل على الإطلاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، كما صرح به في حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وأما يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في قوله: فإذا الملك الّذي جاءني بحراء، ثم قال: وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ومنها قوله: ثم تتابع يعني بعد فترته، والصواب:
أن أول ما نزل [على الإطلاق] [ (2) ] : اقْرَأْ، وأول ما نزل بعد فترة الوحي:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وأما قول من قال: أول ما نزل الفاتحة، فبطلانه أظهر من أن يذكر.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة قال: أنزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. حدثنا أبو أسامة عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد عن أبي هريرة قال: أنزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. حدثنا أبو أسامة عن زائدة، عن منصور عن مجاهد قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أنزلت بالمدينة.
__________
[ (1) ] أول سورة القلم.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.(4/338)
حدثنا أبو معاوية عن هشام، عن أبيه قال: ما كان من حج أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والقرون والعذاب فإنه نزل بمكة.
حدثنا وكيع عن سلمة عن الضحاك: [ما كان] [ (1) ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [نزل] [ (1) ] في المدينة. حدثنا وكيع عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة قال:
كل شيء في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنزل في المدينة، وكل شيء في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ نزل بمكة. حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه- يعني ابن مسعود- رضي اللَّه عنه قال: قرأنا المفصّل حججا ونحن بمكة ليس فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب، عن عكرمة قال: كل سورة فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي مدنية. حدثنا أبو أحمد عن مسعر عن النضر بن قيس، عن عروة قال: ما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ [نزل] [ (1) ] بمكة وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [نزل] [ (1) ] بالمدينة.
حدثنا وكيع عن ابن عون قال: ذكروا عند الشعبي قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [ (2) ] ، فقيل: عبد اللَّه بن سلام، فقال: كيف يكون ابن سلام وهذه السورة مكية. حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال:
إني لا أعلم ما نزل من القرآن بمكة وما نزل بالمدينة، فأما ما نزل بمكة فضرب الأمثال وذكر القرون، وأمّا ما نزل بالمدينة فالفرائض والحدود والجهاد. حدثنا وكيع عن سفيان، عن ابن نجيح عن مجاهد قال: أول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ثم ن.
حدثنا وكيع عن شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت عبيد بن عمير يقول:
أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ثم ن. حدثنا وكيع عن قرة عن أبي رجاء قال: أخذت عن أبي موسى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وهي أول سورة أنزلت على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] الأحقاف: 10.(4/339)
حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة: بَراءَةٌ [ (1) ] ، وآخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ (2) ] ، حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن شيبة، حدثنا مالك عن أبي السّفر عن البراء قال: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ (2) ] ، حدثنا وكيع عن إسماعيل عن أبي خالد عن السّديّ قال: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ (3) ] ، حدثنا ابن نمير، حدثنا مالك بن معون عن عطية العوفيّ قال: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ (3) ] ، واللَّه يفعل ما يريد.
__________
[ (1) ] أول سورة التوبة.
[ (2) ] النساء: 176.
[ (3) ] البقرة: 281.(4/340)
[فصل في ذكر أخذ القرآن ورؤية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالقلوب حتى دخل كثير من العقلاء في الإسلام في أول ملاقاتهم له]
خرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا منجاب ابن الحرث، أخبرنا علي بن مسهر، عن الأجلح عن الذّيال بن حرملة، عن جابر ابن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الّذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه فلينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد اللَّه؟ فسكت، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قال: أنت خير أم هاشم؟ فسكت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] فقال: وإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبتها. وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وفضحتنا في العرب، حتى طار في العرب أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، واللَّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى [نتفانى] [ (2) ] ، أيها الرجل! إن كان إنما بك الباءة [ (3) ] فاختر أي نساء قريش فلنزوجك عشرا، وإن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فرغت؟ قال، نعم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً [ (4) ] ، حتى قرأ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا،
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئا أرى
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] الباءة: القدرة على الزواج.
[ (4) ] فصلت: 1- 13 بما فيها المحذوف.(4/341)
أنكم تكلمونه إلا وقد كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال نعم، قال: لا والّذي نصبها بنية [ (1) ] ، ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه قال: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، قالوا: ويلك! يكلمك رجل بالعربية لا تدري ما قال؟
قال: لا واللَّه ما فهمت شيئا مما قال، غير ذكر الصاعقة [ (2) ] .
وخرجه البيهقي من حديث محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح عن الذّيال ابن حرملة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم أتانا من أمره، فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهّان والشعراء، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه.
فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد! أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد اللَّه؟ فلم يجبه، قال: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟
فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسا ما بقيت، وإن كان الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني بها أنت وعقبك من بعدك، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ساكت لا يتكلم.
فلما فرغ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فقرأ حتى بلغ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ،
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، واللَّه ما نرى عتبة إلا وقد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: واللَّه يا عتبة ما حسبنا إلا
__________
[ (1) ] يقسم بالكعبة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) 1/ 230- 231، حديث رقم (182) ، وأخرجه السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 283 وقال: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم (18409) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 202- 204.
وقال في (مجمع الزوائد) : 6/ 120 رواه أبو يعلي، وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات.(4/342)
أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم باللَّه لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، فأجابني بشيء واللَّه ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ حتى بلغ:
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب [ (1) ] .
وخرجه من حديث ابن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زيادة مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة [ (2) ]- وكان سيدا حكيما- قال: ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها، ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة ابن ربيعة حتى جلس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قال له عتبة، وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك،
حتى إذا فرغ [عتبة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
أفرأيت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منّي، قال: أفعل] [ (3) ] قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، فمضى رسول اللَّه يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى السجدة [ (4) ] فسجد فيها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت، قال: فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الّذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال:
__________
[ (1) ] انظر التعليق السابق.
[ (2) ] عتبة بن ربيعة (2 هـ 624 م) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] وهي قوله تعالى في ذات السورة: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ، آية: 38 فصلت.(4/343)
ورائي أني واللَّه سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، واللَّه ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو اللَّه ليكونن لقوله الّذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم، ثم ذكر شعرا يمدح به عتبة فيما قال [ (1) ] .
وله من حديث المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على عتبة بن ربيعة: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم واعصوني فيما بعده، فو اللَّه لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أردّ عليه [ (2) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري قال:
حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية فإذا كل رجل منهم في مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا.
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، وتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 204- 205.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 205- 206.(4/344)
حتى [أتى] [ (1) ] أبا سفيان في بيته قال: أخبرني يا أبا حنظلة، أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، واللَّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا والّذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى [أتى] [ (1) ] أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيت فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن [وبنو] عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى تدرك هذه؟ واللَّه لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس [بن شريق] [ (1) ] .
وله من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت رسول اللَّه، أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقّة مكة، إذ لقينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم، هلمّ إلى اللَّه وإلى رسوله أدعوك إلى اللَّه، قال: يا محمد! هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد أن نشهد إلا أن قد بلّغت، فنحن نشهد أن قد بلغت، فو اللَّه لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأقبل عليّ فقال: واللَّه إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، فقلنا نعم، ثم أطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب قالوا: منا نبيّ، واللَّه لا أفعل [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث سعيد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا
__________
[ (1) ] زيادات من (دلائل البيهقي) : 2/ 206- 207.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 207.(4/345)
بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه [بعضا] [ (1) ] ، قالوا: فأنت يا عبد شمس، قم وأقم لنا رأيا نقل به، فقال: بل أنتم تقولوا وأسمع، قالوا: نقول: إنه كاهن، قال: فما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم، قالوا: فنقول: إنه مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا بتخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول إنه شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه، ومقبوضة ومبسوطه، فما هو بالشاعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا [السحرة] [ (1) ] وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، فقالوا: فما نقول يا عبد شمس؟ قال: واللَّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن يقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، [وبين المرء] [ (2) ] وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 232- 233، حديث رقم (183) ، وقال في آخره: [رواه يونس ابن بكير عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس] ، ولولا ذلك لكان الحديث مرسلا، حيث قد وصله أبو نعيم بذلك. وأخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 200- 201، وزاد فيه: [فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره، فأنزل اللَّه عز وجل في الوليد بن المغيرة، وذلك من قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ] ، [الآيات (11- 26) من سورة المدثر،] .
[وأنزل اللَّه عز وجل في النفر الذين كانوا معه، ويصنعون له القول في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيما جاء به من عند اللَّه: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لمن لقوا من الناس قال وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.] ، [الآيتان (20- 21) من سورة الحجر] .
وأخرجه أيضا ابن إسحاق في (السيرة) و (سيرة ابن هشام) : 2/ 105- 106. ذكر ابن إسحاق قول اللَّه تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات التي نزلت في الوليد، وفيها تهديد ووعيد شديد، لأن معنى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ أي دعني وإياه، فسترى ما أصنع به، كما قال:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. (المرجع السابق) .
وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) 2/ 550، كتاب التفسير، تفسير سورة المدثر، حديث رقم (3872/ 1009) ، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.(4/346)
وله من حديث سفيان بن عمرو عن عكرمة، أن الوليد بن المغيرة قال: قد سمعت الشعر رجزه وقريضه ومخمّسه، فما سمعت مثل هذا الكلام يعني القرآن- ما هو بشعر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن له لنورا، وإن له لفرعا، وإنه يعلو ولا [يعلى] [ (1) ] .
وللبيهقي من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب السجستاني، عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا تبلغ قومك أنك منكر له أو كاره له، قال: وماذا أقول؟
فو اللَّه ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن مني، واللَّه ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا، واللَّه إن لقوله الّذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما [يعلى] ، وإنه ليحطم ما تحته.
فقال: واللَّه لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، أي يأثره عن غيره، فنزلت فيه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [ (2) ] . قال البيهقي: هكذا حدثنا موصولا.
وفي حديث حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له: اقرأ عليّ، فقرأ عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ (3) ] ، قال: أعد، فأعاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: [أي الوليد] :
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) : 1/ 234- 235، حديث رقم (186) ، وقد انفرد به أبو نعيم وهو حديث مرسل، وهو بعض حديث ابن عباس الّذي أخرجه الحاكم في (المستدرك) :
2/ 550، حديث رقم (3872/ 1009) في كتاب التفسير/ تفسير سورة المدثر.
[ (2) ] المدثر: 11.
[ (3) ] النحل: 90.(4/347)
واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. قال: وكذلك رواه معمر عن عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا، ورواه أيضا معتمر بن سليمان عن أبيه، فذكره أتم من ذلك مرسلا، وكل ذلك يؤكد بعضه بعضا.
وله من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق [قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن ابن عباس] [ (1) ] ، أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش- وكان ذا سنّ فيهم- وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.
فقالوا: أنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقوم به، فقال: بل أنتم، فقولوا أسمع، فقالوا: نقول كاهن، فقال ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره، فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا مخالجته ولا وسوسته، قال: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه، ومقبوضة ومبسوطه، فما هو بالشعر، قال: فنقول ساحر، فما هو بساحر، قد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: واللَّه إن لقوله حلاوة، إن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فيقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وبين [زوجه] ، وبين المرء وبين عشيرته، فيتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره، فأنزل اللَّه تعالى في الوليد ابن المغيرة [من] قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وأنزل اللَّه في النفر الذين كانوا معه ويطيعون له القول في رسول اللَّه فيما جاء به من هدي اللَّه: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، أي أصنافا، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن أتوا من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) : 2/ 198- 199، باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب اللَّه تعالى من الإعجاز، وأنه لا يشبه شيئا من لغاتهم، مع كونهم من أهل اللغة وأرباب اللسان.(4/348)
الناس قال: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها [ (1) ] .
وله من حديث يونس عن ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ فقال: يا معشر قريش، واللَّه لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان فيكم محمد غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا واللَّه ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: شاعر، لا واللَّه ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون، ولا واللَّه ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش! انظروا في شأنكم، فإنه واللَّه لقد نزل بكم أمر عظيم، وكان النضر من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وينصب له العداوة [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث عبد [الأعلى] [وهو أبو همام [ (3) ]] قال: حدثنا داود عن عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: أن ضمادا قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل اللَّه يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن اللَّه يشفي علي يدي من شاء، فهل لك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن الحمد للَّه، نحمده ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد، قال: فقال:
أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاث مرات، قال:
فقال: [لقد] [ (3) ] سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، فقال: هات يدك
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 201.
[ (2) ] المرجع السابق: 201- 202.
[ (3) ] زيادة من (صحيح مسلم) .(4/349)
أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال:
وعلى قومي،
قال فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سريّة فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت مطهرة، فقال:
ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثنا محمد بن سليط عن أبيه عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن العدوي قال: قال ضماد: قدمت مكة معتمرا، فجلست مجلسا فيه أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، فقال أبو جهل: هذا الرجل الّذي فرق جماعتنا، وسفّه أحلامنا، وضلل من مات منا، وعاب آلهتنا، فقال أمية: الرجل مجنون غير شك،
قال ضماد: فوقعت في نفسي كلمته وقلت: إني رجل أعالج من هذه الريح، فقمت من ذلك المجلس وأطلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم أصادفه ذلك اليوم، حتى كان الغد فجئته فوجدته جالسا خلف المقام يصلي، فجلست حتى فرغ، ثم جلست إليه فقلت: يا ابن عبد المطلب! فأقبل عليّ فقال: ما تشاء؟ فقلت: إني أعالج من الريح، فإن أحببت عالجتك، ولا يكثرن ما بك، فقد عالجت من كان به أشدّ مما بك فبرأ، وسمعت قومك يذكرون فيك خصالا سيئة، من تسفيه أحلامهم، وتفريق جماعتهم، وتضليل من مات منهم، وعبت آلهتهم، فقلت: ما فعل هذا إلا رجل به جنه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: الحمد للَّه أحمده، وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال ضماد:
فسمعت كلاما لم أسمع كلاما قط أحسن منه، فأستعيده الكلام فأعاد عليّ، فقلت: إلى ما تدعو؟ قال: إلى أن تؤمن باللَّه وحده لا شريك له، وتخلع الأوثان من رقبتك، وتشهد أني رسول اللَّه، فقلت: فماذا إليّ إن فعلت؟ قال: لك الجنة، قلت: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأخلع الأوثان من رقبتي، وأبرأ منها، وأشهد أنك عبد اللَّه ورسوله، فأقمت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علمت سورا كثيرة من القرآن،
ثم رجعت إلى قومي، قال عبد اللَّه بن عبد الرحمن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 405- 406، كتاب الجمعة باب (13) تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم 46- (868) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 223- 224، باب إسلام ضماد وما ظهر له فيما سمع من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة.(4/350)
العدوي: فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في سرية، فأصابوا عشرين بعيرا بموضع كذا، واستاقوها، وبلغ علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنهم قوم ضماد، فقال: ردوها إليهم، فردّت.
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب [ (1) ]- وقال البخاري: قرأ في المغرب بالطور- ترجم عليه: باب الجهر في المغرب.
وخرجه مسلم من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان. ومن حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس. ومن حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، كلهم عن الزهري بهذا الإسناد مثله. وخرجه البخاري في كتاب التفسير [ (2) ] من حديث الحميدي، حدثنا سفيان، حدثوني عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [ (3) ] ، كاد قلبي أن يطير، قال سفيان: فأما أنا فإنما سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، لم أسمعه الّذي قالوا لي.
وخرج في كتاب المغازي في غزوة بدر، من حديث عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن محمد بن جبير عن أبيه قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، وذكره في كتاب الجهاد في باب فكاك الأسير، من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن محمد بن جبير عن أبيه- وكان جاء في أسارى بدر- قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 315، كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب، حديث رقم (765) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 776، كتاب التفسير، باب (1) ، حديث رقم (4854) ، 7/ 410، كتاب المغازي: باب (12) ، حديث رقم (4023) ، 6/ 206، كتاب الجهاد والسير، باب (172) فداء المشركين، حديث رقم (3050) .
[ (3) ] الطور: 35- 37.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 410، كتاب المغازي، باب (12) حديث رقم (4023) .(4/351)
قال أبو عمر بن عبد البر- وقد ذكر حديث مالك-: وفي هذا الحديث شيء سقط من رواية ابن شهاب، وهو شيء حسن من الفقه، وذلك أن جبير ابن مطعم سمع هذا الحديث من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو كافر، وحدث به وهو مسلم.
قال: وقد روى هذه القصة فيه عن مالك عن علي بن الربيع بن الركين، وإبراهيم بن علي التميمي المقرئ، جميعا عن مالك عن الزهري، عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في فداء أسارى بدر، فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، ولم أسلم يومئذ، فكأنما صدع قلبي، وقال لو كان مطعم حيا وكلمني في أسارى بدر لتركتهم له، ولم نتابع هذان على سياقه هذا الحديث بهذا اللفظ عن مالك.
وقد رواه كذلك عن ابن شهاب، أسامة بن زيد الليثي وغيره، روى ابن وهيب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب أسامة بن زيد الليثي وغيره: روى ابن وهب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أنه جاء في فداء أسرى بدر قال: فوافقت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بالطور وكتاب مسطور، فأخذني من قراءته كالكرب، فكان ذلك أول ما سمعت من أمر الإسلام.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ حديث سفيان بن عيينة قال: سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، قال سفيان: قال سمعته يقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ قال: فكاد يطير قلبي.
قال: ورواه يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب، فجعل موضع المغرب العتمة، إلا أنه من رواية ابن لهيعة، فذكر حديث أسد بن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، أن ابن شهاب كتب إليه قال: حدثني محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قدمت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في فداء أسارى بدر، فسمعته يقرأ في العتمة بالطور.
ورواه سفيان بن حسين- على الشك- في العتمة أو المغرب، فذكر حديث أبي عبيد قال: حدثنا هيثم، أخبرنا سفيان بن حسين عن الزهري، قال هيثم: ولا(4/352)
أظني إلا وقد
سمعته من الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب، أو العشاء، فسمعته وهو يقول أو يقرأ- وقد خرج صوته من المسجد- إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [ (1) ] ، قال: فكأنما صدع قلبي، فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر فقال: شيخك أو الشيخ لو كان أتانا فيهم شفعناه، يعني أباه المطعم بن عدي.
قال أبو عبيد: قال هيثم وغيره: كانت له عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدا، قال ابن عبد البر: كانت يد المطعم بن عدي عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في شأن الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، وهو أيضا أجار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف، أجاره هو ومن كان معه يومئذ.
وخرج أبو نعيم من حديث أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما: لما أمر اللَّه نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى [منى] وأنا معه وأبو بكر رجلا نسّابة [ (2) ] ، فوقف على منازلهم، فسلم عليهم فردوا السلام، وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهاني بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق، وكان مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا، فالتفت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر رضي اللَّه عنه يظله بثوبه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأني رسول اللَّه، وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني، حتى أؤدي عن اللَّه الّذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر اللَّه، فكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، واللَّه هو الغني الحميد، قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى قوله: وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] الطور: 7- 8.
[ (2) ] نسّابة: عالم بالأنساب.
[ (3) ] الأنعام: 151- 153 [آيات الوصايا العشر] .(4/353)
فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو اللَّه ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [ (1) ] الآية، فقال له مفروق: دعوت واللَّه يا قريشيّ إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وقال هانئ بن قبيصة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وقال المثنى ابن حارثة: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك، وأعجبني ما تكلمت به.
ثم قال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أرأيتم أن تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم اللَّه تعالى بلادهم وأموالهم- يعني أرض فارس وأنهار كسرى- ويفرشكم بناتهم، أتسبحون اللَّه وتقدسونه؟ قال له النعمان بن شريك: وأي ذلك لك يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [ (2) ] ، الآية. ثم نهض قابضا على يد أبي بكر رضي اللَّه عنه، ولما سمع أكثم بن صيفي قول اللَّه سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [ (3) ] ، استجاب للإسلام أول ما قرئ عليه القرآن، وقال: إنه يأمر بمكارم الأخلاق [ (4) ] .
وخرج الحرث بن أبي أسامة من حديث داود بن المحبّر، حدثنا أبو الأشهب عن الحسن عن قيس بن عاصم المنقري، أنه قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رآه قال:
هذا سيد ذي وبر، قال: فسلمت عليه فقلت: يا رسول اللَّه، المال الّذي لا ينفقه [علي منه في ضيف أضافه] [ (5) ] أو عيال وإن كثروا؟ قال: نعم، المال الأربعون، فإن كثر فستون، ويل لأصحاب المئين، ويل لأصحاب المئين، إلا من أدى حق اللَّه في رسلها ونجدتها، وأطرق فحلها وأفقر ظهرها، وحمل على ظهرها ومنح
__________
[ (1) ] النحل: 7- 8.
[ (2) ] الأحزاب: 45- 46.
[ (3) ] النحل: 90.
[ (4) ] حديث أبان بن عبد اللَّه البجلي في عرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نفسه على قبائل العرب، وقصة مفروق ابن عمرو وأصحابه، ذكره البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 422- 427، أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 282- 288، حديث رقم (214) ، ذكره أبو نعيم مطولا، وقال ابن حجر:
وأخرجه الحاكم، والبيهقي في (الدلائل) بإسناد حسن.
[ (5) ] كذا في (خ) ، ولا يخفى اضطراب السياق.(4/354)
عزيزها، ونحر سمينها، وأطعم القانع والمعتر، فقلت: يا رسول اللَّه! ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، ثم قال: يا قيس، أما لك أحب إليك أم مولاك؟ قال: قلت: بل مالي، قال: فإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما بقي فلوارثك، قلت: واللَّه يا نبي اللَّه، لئن بقيت لأدعن عددها قليلا.
قال الحسن: ففعل رحمه اللَّه. قال أبو نعيم: رواه زناد الجصاص عن الحسن مثله.
وخرج أبو نعيم من حديث السّدي، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قدم [ (1) ] ملوك حضرموت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، بنو وليعة حمد ومخوس ومشرح وأبضعة، وأختهم العمردة، وفيهم الأشعث بن قيس- وهو أصغرهم- فقالوا: أبيت اللعن [ (2) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لست ملكا، أنا محمد بن عبد اللَّه، قالوا: لا نسميك باسمك، قال: لكن اللَّه سماني، وأنا أبو [القاسم] [ (3) ] ، قالوا: يا أبا القاسم، إنا قد خبأنا لك خبئا [ (4) ] فما هو؟ وكانوا قد خبئوا [لرسول اللَّه] [ (5) ] عين جرادة في حميت [ (6) ] سمن- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: سبحان اللَّه! إنما يفعل ذلك بالكاهن [ (7) ] ، وإن الكاهن والكهانة والتكهن في النار، فقالوا:
كيف نعلم أنك رسول اللَّه؟ فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كفا من حصباء فقال: هذا يشهد أني رسول اللَّه، فسبح الحصباء في يده وقالوا: نشهد أنك رسول اللَّه، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه بعثني بالحق، وأنزل علي كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أثقل في الميزان من الجبل العظيم، وفي الليلة الظلماء في مثل نور الشهاب.
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وفد» .
[ (2) ] أبيت اللعن: يدخل به على الملوك. قال النابغة الذبيانيّ:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتمّ منها وأنصب
[ (3) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (4) ] في (خ) : «خبيئا» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وبها جاء التنزيل، قال تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النمل: 25] .
[ (5) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (6) ] الحميت: إناء للسمن أو الزيت.
[ (7) ] في المرجع السابق: «إنما يفعل ذلك الكهان» .(4/355)
قالوا: فأسمعنا منه، فتلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [ (1) ] حتى بلغ وَرَبُّ الْمَشارِقِ [ (1) ] ، ثم سكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وسكن روعه، فما يتحرك منه شيء، ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي! أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ قال: إن خشيتي منه أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم تلا: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [ (2) ] إلى آخر الآية [ (3) ] . واللَّه يؤتي فضله من يشاء.
__________
[ (1) ] الصافات: 1- 5، وفي (خ) ، «المشارق والمغارب» وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] الإسراء: 86.
[ (3) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) 1/ 237- 238، حديث رقم (190) ، والسيوطي في (الخصائص) : 2/ 305 عنه، وفيه الحكم بن ظهير متروك.(4/356)
إسلام الطفيل بن عمرو الدوسيّ
[ (1) ] وروى إبراهيم بن سعيد عن محمد بن إسحاق، وروى الواقدي أيضا من حديث عبد اللَّه بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون الدوسيّ- وله حلف في قريش- قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة [مما] [ (2) ] هم فيه، وجعلت قريش حين منعه اللَّه منهم يحذرونه الناس، ومن قدم عليهم من العرب.
وكان الطفيل بن عمرو الدوسيّ يحدث أنه قدم مكة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بها، ومشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له:
يا طفيل! إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الّذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وفرق جماعتنا، وإنما قوله كالسّحرة، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمع منه، قالوا: فو اللَّه ما زالوا بي حتى أجمعت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا [ (3) ] ، فرقا أن يبلغني من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت المسجد، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، قال:
فقمت قريبا منه، فأبى إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا قال: فقلت في نفسي: وا ثكل أمي، واللَّه إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الّذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بيته، فأتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد! إن قومك قالوا لي: كذا وكذا، فو اللَّه ما برحوا يخوفوننى أمرك حتى سددت أذني
__________
[ (1) ] هو الطّفيل بن عمرو الدوسيّ، صاحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، كان سيدا مطاعا من أشراف العرب، ودوس بطن من الأزد، وكان الطفيل يلقب ذا النور، أسلم قبل الهجرة بمكة. له ترجمة مطولة في: (سير أعلام النبلاء) : 1/ 344- 347، ترجمة رقم (75) ، (طبقات ابن سعد) : 4/ 237، (طبقات خليفة) : 13/ 224، (تاريخ خليفة) : 111، (الجرح والتعديل) : 4/ 489.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] الكرسف: القطن.(4/357)
بكرسف لأن لا أسمع قولك، ثم أبي اللَّه أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا فاعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليّ الإسلام، وتلا علي القرآن، قال: فو اللَّه ما سمعت قولا قط أحسن ولا أمرا أعدل منه.
قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي اللَّه، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم داعيهم إلى الإسلام، فادع اللَّه أن يجعل لي آية تكن لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللَّهمّ اجعل له آية،
فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت:
اللَّهمّ في غير وجهي، فإنّي أخشى أن يظنوا أنها مثله وقعت في وجهي لفراقي دينهم.
قال: فتحول، فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أنهبط إليهم من الثنية، حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت: إليك عني [يا أبت] [ (1) ] ، فلست منك ولست مني، قال: ولم أي بني؟ قال: قلت أسلمت وتابعت دين محمد، قال:
فديني دينك، واغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
قال: ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني، فلست منك ولست مني [قالت] [ (2) ] لم؟ بأبي أنت وأمي، قال: قلت: فرق بين وبينك الإسلام، أسلمت وتابعت دين محمد، قالت: فديني دينك، فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا عليّ، ثم
جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة فقلت: يا نبي اللَّه! إنه قد غلبني على دوس الزنا [ (3) ] ، فادع اللَّه عليهم، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وأرفق بهم،
فرجعت فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة، وقضى بدرا وأحدا والخندق، ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمن أسلم من قومي، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «قد غلبني دوس فادع اللَّه عليهم» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 238- 240، حديث رقم (191) ، (طبقات ابن سعد) : 4/ 237- 240، (سيرة ابن هشام) : 2/ 226- 229.(4/358)
وقال هشام بن محمد، عن أبيه محمد بن السائب الكلبي: وطفيل بن ذي النون بن طريف بن العاص، وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: نبي اللَّه! إن دوسا قد غلب عليها الزنا فادع اللَّه عليهم، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا، فقال: يا رسول اللَّه، ابعثني إليهم ففعل، فقال: اجعل لي آية يهدون بها، فقال: اللَّهمّ نوّر له،
فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب، أخاف أن يقولوا: مثله، [فحوّله] [ (1) ] إلى طرف سوطه، وكان يضيء في الليلة الظلماء، فقال يا رسول اللَّه، اجعلنا ميمنتك، واجعل شعارنا مبرور بفعله، فشعار الأزد اليوم كلها مبرور. ثم قتل يوم اليمامة، وقتل ابنه عمرو بن الطفيل يوم اليرموك [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الحميد ابن صالح، حدثنا محمد بن أبان، عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن أبان بن صالح، عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: سألت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، وخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا فلان بن فلان بن فلان المخزومي، فقلت له: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني، قلت: من هو؟ قال: أختك وختنك [ (3) ] ، قال: فانطلقت فوجدت الباب مغلقا وسمعت همهمة، قال: ففتح لي الباب، فدخلت فقلت: ما هذا أسمع عندكم؟
قالوا: ما سمعت شيئا، فما زال الكلام بيني وبينهم حتى أخذت برأس ختني، فضربته ضربة وأدميته، فقامت إليّ أختي فأخذت برأسي فقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك، فاستحييت [ (4) ] حين رأيت الدم، فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب، فقالت أختي: إنه لا يمسه إلا المطهرون، فإن كنت صادقا فقم فاغتسل، قال: فقمت واغتسلت وجئت فجلست، فأخرجوا إلي صحيفة فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [قلت: أسماء طاهرة طيبة [ (5) ]] ، طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 288.
[ (3) ] الختن: زوج الأخت.
[ (4) ] في (خ) : «فاستخبئته» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (أبي نعيم) : «قلت: أما ظاهره طيب» .(4/359)
[الْقُرْآنَ] لِتَشْقى [ (1) ] إلى قوله: الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ (1) ] ، فتعظمت في صدري وقلت: من هذا أفرّت قريش؟ ثم شرح اللَّه صدري إلى الإسلام فقلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، قال: فما في الأرض نسمة أحب إليّ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قلت: أين رسول اللَّه؟ قالت: عليك عهد اللَّه وميثاقه أن لا تجبهه بشيء يكره؟ قلت: نعم، قالت: فإنه في دار أرقم بن أبي الأرقم، في دار عند الصفا، فأتيت الدار وحمزة في أصحابه جلوس في الدار، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في البيت، فضربت الباب، فاستجمع القوم،
فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا:
عمر بن الخطاب، قال: افتحوا له، فإن قبل قبلنا منه، وإن أدبر قتلناه، قال:
فسمع ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما لكم؟ قالوا: عمر بن الخطاب، قال: فخرج رسول اللَّه فأخذ بمجامع ثيابه، ثم نتره نترة فما تمالك أن يقع على ركبتيه في الأرض، فقال: ما أنت [بمنته يا عمر! قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فكبّر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. قلت: يا رسول اللَّه، ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ قال: بلى- والّذي نفسي بيده- إنكم لعلى الحق إن متّم وإن حييتم،
قال: فقلت: فيم الاختفاء؟! والّذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين [ (2) ] حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
الفاروق، أفرق بين الحق والباطل] [ (3) ] .
[قال ابن إسحاق: حدثني عبد اللَّه بن أبي نجيح المكيّ عن أصحابه: عطاء، ومجاهد أو عمن روى ذلك، أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه، أنه كان يقول:
كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأسرّ بها] [ (4) ] ، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة، عند دور آل عمر بن عبد
__________
[ (1) ] طه: 1- 8.
[ (2) ] كناية عن إثارة الغبار أثناء مشيهم.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) : 1/ 241- 243، باب إسلام عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (192) ، (حلية الأولياء) : 1/ 40.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) ، وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) .(4/360)
ابن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم، فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أني جئت فلانا الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها، قال: فخرجت، فجئته فلم أجده.
قال: فقلت: لو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين، قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلّى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني.
قال: فقلت حين أتيته: واللَّه لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروعنّه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة.
قال: فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني ذلك، حتى قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلاته ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين، وكان طريقه حتى يجزع [ (1) ] المسعى، ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب، وبين دار ابن أزهر بن عبد عوف الزهري، ثم على دار الأخنس بن شريق، حتى يدخل بيته، وكان مسكنه صلّى اللَّه عليه وسلم في الدار الرقطاء [ (2) ] التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان.
قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حسي عرفني، فظن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني [ (3) ] ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ قال:
قلت: لأؤمن باللَّه وبرسوله، وبما جاء به من عند اللَّه.
قال: فحمد اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قال: قد هداك اللَّه يا عمر، ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات. ثم انصرفت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيته [ (4) ] .
__________
[ (1) ] يجزع: يقطع.
[ (2) ] الرقطاء: الملونة.
[ (3) ] نهمني: زجرني.
[ (4) ] (سيرة ابن هشام) : 2/ 191- 192 فصل: ما رواه عطاء ومجاهد عن إسلام عمر.(4/361)
واعلم أن من أمهات شرائعه وقبولها وانقياده له عليه السلام، من أوضح الدلائل، وتتضمن هذه القصة أيضا إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، رضي اللَّه عنهما.(4/362)
[الهجرة الأولى إلى الحبشة]
وخرج البيهقي من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام [المخزوميّ] [ (1) ] ، عن أم سلمة [بنت أبي أمية بن المغيرة] [ (1) ] ، زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه.
فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل اللَّه لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه،
فخرجنا إليه أرسالا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا خير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلما.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا، اجتمعوا على أن يبعثوا إليه فينا فيخرجونا من بلاده، وليردونا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة، وقالوا لهم: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدّموا إليه هديته وكلموه، فقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، فلم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل.
ثم قدّموا إلى النجاشيّ هداياه، وكانت من أحب ما يهدى إليه من مكة الأذفر [ (2) ] ، فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا: أيها الملك، إن فئة منا سفهاء فارقوا
__________
[ (1) ] زيادة في النسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في المرجع السابق: «الأدم» .(4/363)
دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجئوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم وآباؤهم وأعمامهم وقومهم، لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا [ (1) ] وأعلم بما عابوه عليهم.
فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينا [ (1) ] ، وأعلم بما عابوه عليهم، فإنّهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك، فغضب ثم قال لعمرو: واللَّه لا أردهم إليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وانظر ما أمرهم، قوم لجئوا لبلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، لم أخل ما بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عينا.
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد اللَّه بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم، فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقال: ماذا تقولون؟ قالوا: وماذا نقول؟ نقول: واللَّه ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاءنا به نبينا كائن في ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الّذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فقال له النجاشيّ: ما هذا الدين الّذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟
فقال جعفر: أيها الملك، كنا قوما على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، ولا نحل شيئا ولا نحرمه، فبعث اللَّه إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد اللَّه وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي للَّه ونصوم له، ولا نعبد غيره.
قال: فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ - وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله- فقال له جعفر: نعم فقال: هلم فاتل عليّ ما جاء به، فقرأ
__________
[ (1) ] أي أبصر بهم من غيرهم.(4/364)
عليه صدرا من كهيعص [ (1) ] ، فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكوا أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى عليه السلام، انطلقوا راشدين، لا واللَّه لا أردّهم عليكم ولا أنعمكم عينا.
فخرجنا من عنده وكان أبقى الرجلين فينا: عبد اللَّه بن أبي ربيعة، فقال عمرو ابن العاص: واللَّه لآتيه غدا بما أستأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الّذي يعبد- عيسى ابن مريم- عبد، فقال له عبد اللَّه بن أبي ربيعة:
لا تفعل، فإنّهم وإن كانوا خالفونا، فإن لهم رحما ولهم حق، فقال: واللَّه لأفعلن.
فلما كان الغد، دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عنه، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقال: نقول واللَّه الّذي قاله فيه، والّذي أمرنا به نبينا أن نقول فيه، فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال:
ما تقولون في عيسى [ابن] [ (2) ] مريم؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد اللَّه ورسوله، وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عويدا بين إصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العويد [ (3) ] ، فتناخرت [ (4) ] بطارقته فقال: وإن تناخرتم [ (4) ] واللَّه، اذهبوا فأنتم سيوم- والسّيوم الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم (ثلاثا) ، ما أحب أن لي دبرا، أو أني آذيت رجلا منكم- والدّبر بلسانهم: الذهب- فو اللَّه ما أخذ اللَّه مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟ ردّدوا عليهما هداياهما ولا حاجة لي بها واخرجا من بلادي.
__________
[ (1) ] مريم: 1.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (3) ] العويد: تصغير عود.
[ (4) ] نخر: صوّت من خياشيمه.(4/365)
فرجعا مردودين مقبوحين، مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فو اللَّه ما علمنا حربا قط كان أشد منه فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعوا اللَّه ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائرا، فقال أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج [فيحضر] [ (1) ] الوقعة ينظر على ما تكون؟ فقال الزبير- وكان من أحدثهم سنا-: أنا، فنفخوا له قربة جعلها في صدره، ثم خرج فسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم اللَّه ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.
فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا، فقد أظهر اللَّه النجاشي، فو اللَّه ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشيّ، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعا إلى مكة، وأقام من أقام. وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشيّ من طرق عديدة، مطولة ومختصره [ (2) ] .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب ابن أوس، عن حبيب قال: حدثني عمرو بن العاص، حدثه من فيه إلى أذني قال:
لما انصرفنا من الخندق جمعت رجالا من قريش يسمعون مني فقلت لهم: أترون رأيي وتسمعون مني؟ قالوا: نعم، قلت: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور كلها علوا شديدا، وإني قد رأيت [رأيا] [ (3) ] ما ترون فيه؟ قالوا: ما هو؟ قلت:
أرى أن ألحق في النجاشي، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فنكون تحت يديه أحب إلينا [من] [ (3) ] أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا على محمد، فهم من قد [عرفتموهم] [ (3) ] ولا رأينا منهم إلا خيرا، فقالوا: إن هذا للرأي، فقلت: فأجمعوا هدايا نهدها له- وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 301- 304، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 247- 250، حديث رقم (194) ، (حلية الأولياء) 1/ 115.
[ (3) ] زيادة للسياق.(4/366)
قال: فجمعنا أدما كثيرا، وخرجنا حتى قدمنا عليه، فو اللَّه إنا لعنده حتى جاء عمرو بن أمية الضمريّ- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد بعثه في شأن جعفر وأصحابه- قال: فدخلوا عليه ثم خرجوا من عنده، فقلت لهم: - يعني أصحابه- هذا عمرو بن أمية الضمريّ، فلو قد دخلت عليه، فقدمنا إليه هداياه فسألته إياه لأعطانيه نقتله، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنا نصنع به، فقال: مرحبا بك، هل أهديت لي من بلادك شيئا؟ قلت: نعم، أهديت لك أيها الملك أدما كثيرا، قال:
فقربته إليه فاشتهاه وأعجبه، فقلت: أيها الملك، إني رأيت رجلا خرج من عندك الآن، هو رسول رجل هو عدو لنا فأعطنيه فأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، فغضب الملك ومد يده فضرب الأنف ضربة، ظننت أنه كاسره.
قال فلو انشقت الأرض عند ذلك لدخلت فيها، فقلت: أيها الملك، واللَّه لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رجلا لتقتله، رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الّذي يأتي موسى، فقلت: أو كذلك هو؟ قال:
نعم، ثم قال: أطعني واتبعه، فو اللَّه إنه لعلى الحق، وليظهر على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، فقلت له: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام.
ثم خرجت من عنده وقد مال رأيي إلى غيره، فلقيت خالد بن الوليد فقلت:
أين يا أبا سليمان؟ قال: واللَّه لقد استقام الميسم، إن الرجل لعلى الحق وأنا أذهب فأسلم، قلت: وأنا أيضا، قال: فقدمنا المدينة فأتينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فتقدم خالد فأسلم وبايع، وتقدمت أنا فقلت: وأنا أبايع، وذكرت ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما أستأخر، فقال: بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها، فبايعته.
ولأبي نعيم من طريق إسحاق بن راهويه قال: حدثنا النضر بن شميل، حدثنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: استأذن جعفر بن أبي طالب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم(4/367)
فقال ائذن لي أرضا أعبد اللَّه فيها لا أخاف أحدا، فأذن له فأتى النجاشيّ، قال عمير: فحدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيت مكانه حسدته فقلت: لأستقبلن لهذا وأصحابه، فأتيت النجاشي فقلت: إن بأرضك رجلا ابن عمه بأرضنا، وإنه يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تصله وأصحابه لم أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبدا، قال: أدعه، قلت إنه لا يجيء فأرسل معي رسولا، فانتهينا إلى الباب فنادينا، فقلت: اندب لعمرو بن العاص، ونادى هو خلفي، ائذن لحرب اللَّه، فسمع صوته فأذن له من قبل، فدخل هو وأصحابه، ثم أذن لي فجلست، فذكر أين كان مقعده من السرير، قال: فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي، وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلا من أصحابي، فقال النجاشي: بحروا، قال عمير: أي تكلموا.
فقلت: إن بأرضك رجلا ابن عمه بأرضنا، ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تقتله وأصحابه لم يقطع إليك هذه النطفة، أنا ولا أحد من أصحابي أبدا، فقال جعفر: صدق، هو ابن عمي وأنا على دينه، فصاح وقال:
أوه! حتى قلت: ما لابن الحبشة لا يتكلم؟ وقال: أناموس مثل ناموس موسى؟
فقال: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ قال: نقول: هو روح اللَّه وكلمته، فتناول شيئا من الأرض وقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا، واللَّه أولى بملكي لأتبعنكم، وقال: ما أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبدا، أنت آمن في أرضي، فمن ضربك قتلته، ومن سبّك غرّمته، ثم قال لآذنه: متى استأذنك هذا فأذن له إلا أن أكون عند أهلي فأخبره أني عند أهلي، فإن أبي فأذن له.
قال: فتفرقنا، ولم يكن أحد ألقاه خاليا أحب إليّ من جعفر، فاستقبلني في طريق مرة، فنظرت خلفه فلم أر أحدا، ونظرت خلفي فلم أر أحدا، فدنوت منه فقلت له: أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؟
قال قد هداك اللَّه فاثبت، وتركني وذهب، وأتيت أصحابي فكأنما شهدوه معي، فأخذوا قطيفة أو ثوبا فجعلوه عليّ حتى غموني فيها، فجعلت أخرج رأسي من(4/368)
هذه الناحية مرة، ومن هذه الناحية مرة، حتى أفلتّ وما علي قشره، قال: فمررت بحبشيّة فأخذت متاعها فجعلته على عورتي، فقالت: كذا وكذا، فقلت: كذا وكذا، قال: فأتيت جعفر فقال ما لك؟ فقلت: أخذ مني كل شيء حتى ما ترك عليّ قشرة، فأتيت حبشية فأخذت متاعها فجعلته على عورتي، قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى انتهينا إلى باب الملك، فقال جعفر لآذنه: استأذن لي، فقال:
إنه عند أهله، قال: استأذن لي، فأذن له، فقال: إن عمرا تابعني على ديني، فقال: كلا، فقال بلى، فقال لإنسان: اذهب معه، فإن فعل فلا يقولن شيئا إلا كتبته، قال: فجاء فقال: نعم، قال: فجعلت أقول ويكتب كل شيء حتى القدح، قال: ولو شئت أن آخذ من أموالهم إلى أموالي لفعلت [ (1) ] .
__________
[ (1) ] لم أجد هذا الخبر فيما بين يدي من كتب السيرة، وعلامات الوضع لائحة فيه.(4/369)
[إسلام أبي ذر]
وأما إسلام أبي ذر رضي اللَّه عنه، فخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما بلغ أبا ذرّ مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي هذا الرجل الّذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال:
رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزوّد وحمل شنة [ (1) ] له فيها ماء حتى قدم مكة.
فأتى المسجد فالتمس النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه- يعني الليل- فاضجع فرآه عليّ رضي اللَّه عنه فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه عليّ معه ثم قال له: أما تحدثني ما الّذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل.
فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإنّي إن رأيت شيئا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والّذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
__________
[ (1) ] الشّنّ بفتح الشين: القربة البالية.(4/370)
فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس، فأكب عليهم وقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم؟
فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه. هذا لفظ مسلم [ (1) ] .
ولفظ البخاري قريب منه، قال فيه: الّذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، وقال: فأطلق الأخ. وقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله؟ ترجم عليه.
إسلام أبي ذر [ (2) ] . وذكره مسلم في المناقب.
وخرج البخاري في صدر كتاب المناقب [ (3) ] ، من حديث أبي قتيبة مسلم بن قتيبة قال: حدثني المثنى بن سعيد القصير قال: حدثني أبو جمرة قال: قال لنا ابن عباس رضي اللَّه عنه: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال:
قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال واللَّه لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد.
قال: فمر بي عليّ رضي اللَّه عنه فقال: كأنّ الرجل غريب؟ قال: نعم، قال فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما أصبح غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء.
قال: فمر بي عليّ فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قلت: لا، قال:
__________
[ (1) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) : 16/ 265، كتاب فضائل الصحابة، باب (28) من فضائل أبي ذرّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (1313) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 18/ 219، كتاب مناقب الأنصار، باب (33) إسلام أبي ذرّ الغفاريّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3861) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 681، كتاب المناقب، باب (10) قصة إسلام أبي ذرّ الغفاريّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3522) .(4/371)
انطلق معي، قال: فقال: ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإنّي أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، أدخل حيث أدخل، فإنّي إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليّ فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل، فقلت: والّذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم.
فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابيء، فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكبّ علي ثم أقبل عليهم، فقال: ويلكم! تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار؟ فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثلما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابيء، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ عليّ وقال مثل مقالته بالأمس، فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه اللَّه.
وخرج مسلم في كتاب المناقب من حديث سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا حميد بن هلال عن عبد اللَّه بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثا [ (1) ] علينا الّذي قيل له، فقلت له: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك في ما بعد، فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فناخر أنيس عن صرمتنا [ (2) ] وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخيّر أنيسا، فأتانا
__________
[ (1) ] نثا: أشاع وأفشى.
[ (2) ] الصّرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل أو الغنم.(4/372)
أنيس بصرمتنا [ (1) ] ومثلها معها.
قال: وقد صلّيت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بثلاث سنين فقلت:
لمن؟ قال: للَّه تعالى، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء [ (2) ] حتى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث [ (3) ] عليّ ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللَّه أرسله! قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر- وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو قولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، واللَّه إنه لصادق وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فتضعّفت [ (4) ] رجلا منهم فقلت: أين هذا الّذي تدعونه الصابيء؟ فأشار إلى فقال: الصابيء!! فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظمه حتى خررت مغشيا عليّ، قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب [ (5) ] أحمر، قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها، ولقد لبثت بابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن [ (6) ] بطني، وما وجدت على كبدي سخفة [ (7) ] جوع، قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء [ (8) ]
__________
[ (1) ] الصّرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل أو الغنم.
[ (2) ] الخفاء: غثاء السيل.
[ (3) ] راث عليّ: أبطأ عليّ.
[ (4) ] تضعّفت: نظرت إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف مأمون الغائلة غالبا.
[ (5) ] نصب أحمر: يعني من كثرة الدماء، وهو الحجر الّذي كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده فيحمّر بالدم.
قال تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] .
[ (6) ] يعني انثنت وتكسرت لكثرة السمن وانطوت.
[ (7) ] سخفة الجوع بفتح السين وضمها وإسكان الخاء: رقة الجوع وضعفه وهزاله.
[ (8) ] قمراء: مقمرة طالع قمرها.(4/373)
إضحيان [ (1) ] ، إذ ضرب على أسمختهم [ (2) ] ، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة [قال: فأتتا عليّ في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهتا [ (3) ] عن قولهما، قال: فأتتا عليّ فقلت: هن مثل الخشبة [ (4) ] غير أني لا أكني] [ (5) ] فانطلقنا تولولان وتقولان: لو كان هنا أحد من أنفارنا، قال:
فاستقبلهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر رضي اللَّه عنه وهما هابطان عن الخيل، قالا:
ما لكم؟ قالتا: الصابيء بين الكعبة وأستارها، قالا: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال كلمة تملأ الفم، قال: فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلّى فلما قضى صلاته
قال أبو ذرّ: وكنت أنا أول من حيّاه بتحية الإسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فقال: وعليك ورحمة اللَّه، ثم قال: من أنت؟ قال: قلت: أنا من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فقد عني صاحبه- وكان أعلم به مني- ثم رفع رأسه فقال: متى كنت هاهنا؟ قال:
[قلت] : كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال:
قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة، إنها طعام طعم، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر، فانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال: إنه قد وجّهت إلي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى اللَّه أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، فأتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت
__________
[ (1) ] إضحيان بكسر الهمزة والحاء: مضيئة، ويقال: ليلة أضحيان، وأضحيانة، وضحياء، ويوم ضحيان.
[ (2) ] أسمختهم: جمع سماخ، وهو الخرق الّذي في الأذن يفضي إلى الرأس، يقال: صماخ وسماخ، وبالصاد أفصح، والمراد بأصمختهم هنا آذانهم أي ناموا، قال تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: 11] أي أنمناهم.
[ (3) ] ما تناهتا: ما انتهتا.
[ (4) ] كناية عن الفرج والذكر، وأراد بذلك سب إساف ونائلة، وغيظ الكفار بذلك.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، وصوبناه من (صحيح مسلم) .(4/374)
أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك فإنّي قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإنّي أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاريّ وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول اللَّه المدينة أسلمنا، فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول اللَّه: إخوتنا نسلم على ما أسلموا عليه فأسلموا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: غفار غفر اللَّه لها، وأسلم سالمها اللَّه [ (1) ] .
وخرجه أيضا [من حديث] حميد بن هلال بهذا الإسناد، وزاد بعد قوله: فاكفني حتى أذهب فأنظر قال نعم، وكن على حذر من أهل مكة فإنّهم قد شنفوا له وتجهموا [ (2) ] .
وله أيضا من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا حميد عن عبد اللَّه بن الصامت قال: قال أبو زناد: يا ابن أخي صليت سنين قبل مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: قلت: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني اللَّه، واقتصّ الحديث بنحو حديث سليمان بن المغيرة، وقال في الحديث: فتنافرا إلى رجل من الكهان. قال:
فلم يزل أخي أنيس يمدحه ويثني عليه حتى غلبه، قال: فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا.
وقال أيضا في حديثه: قال: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام، قال: فأتيته فإنّي لأول الناس حيّاه بتحية الإسلام، قال: قلت:
السلام عليك يا رسول اللَّه، قال: وعليك السلام من أنت؟ وفي حديثه أيضا فقال:
منذ كم أنت هاهنا قال: قلت: منذ خمس عشرة.
وفيه: فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ألحقني بضيافته الليلة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 253- 256، حديث رقم (197) ، (مسلم بشرح النووي) :
16/ 260، كتاب الفضائل، باب (28) من فضائل أبي ذر رضي اللَّه عنه، حديث رقم (132) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : ص 264.
[ (3) ] (المرجع السابق) : ص 264.(4/375)
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن يحيى [ (1) ] قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سألوه عن الروح، فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (2) ] ، قالوا:
نحن لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة فيها حكم اللَّه، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، قال: فنزلت قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً
[ (3) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن مشركي قريش بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ووصفا لهم أمره ببعض قوله، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه؟
وسلوه عن الروح ما هو؟
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، وأخبروهم بها، فجاءوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: يا محمد! أخبرنا، فسألوه عن
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : وهو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، خالد بن ميمون بن فيروز الهمدانيّ الوداعي مولاهم أبو سعيد الكوفي (تهذيب التهذيب) : 11/ 183.
[ (2) ] الإسراء: 85.
[ (3) ] الكهف: 109، (دلائل البيهقي) : 2/ 269، باب ذكر أسولتهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، (تحفة الأحوذي) : 8/ 456- 458، أبواب تفسير القرآن، سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3349) ، وقال الترمذي في آخره: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.(4/376)
ما أمروهم به، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن [ (1) ] ، فانصرفوا عنه، فمكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث اللَّه إليه في ذلك وحيا، ولم يأته جبريل [عليه السلام] حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة يوما، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا فيها بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل من اللَّه عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، كذا يقول تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم افتتح السورة فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [ (3) ] ، يعني محمدا، إنك لرسول اللَّه نبي تحقيقا لما سألوه من نبوته، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً [ (3) ] أي معتدلا لا اختلاف فيه، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [ (4) ] قال: عاجل عقوبة في الدنيا وعذاب في الآخرة، أي من عند ربك الّذي بعثك رسولا [ (5) ] .
قال البيهقي: كذا في هذه الرواية أنهم سألوا عن الروح أيضا، وحديث ابن مسعود يدل على أن سؤال اليهود عن الروح ونزول الآية فيه كان بالمدينة [ (6) ] .
__________
[ (1) ] لم يستثن: لم يقل: إلا أن يشاء اللَّه.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 269- 270.
[ (3) ] الكهف: 1- 2.
[ (4) ] الكهف: 2.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 271، (سيرة ابن هشام) : 2/ 139 وما بعدها، فصل [قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام] .
[ (6) ] حديث عبد اللَّه بن مسعود: أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (7297) ، (فتح الباري) : 13/ 330، وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (4) سؤال اليهود النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، حديث رقم (2794) ، (مسلم بشرح النووي) : 17/ 143.(4/377)
[ذكر إسلام عمرو بن عبسة السّلمي وما أخبره أهل الكتاب من بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم]
وخرج أبو نعيم من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن عمرو السّيباني، عن أبي سلام الدمشقيّ، وعمرو بن عبد اللَّه الشيبانيّ، أنهما سمعا أبا أمامة الباهليّ يحدّث عمرو بن عبسه السّلمي قال: رغبت عن [عبادة] [ (1) ] آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل، يعبدون الحجارة [ (2) ] والحجارة لا تضر ولا تنفع، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين فقال: يخرج رجل من مكة فيرغب عن آلهة قومه [ويدعوهم] [ (3) ] إلى غيرها، وهو يأتي بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتبعه، فلم يكن لي همّ إلا مكة آتيها فأسأل: هل حدث فيها أمر؟ فيقولون: لا، فأنصرف إلى أهلي- وأهلي من الطريق غير بعيد- فأعترض الركبان خارجين من مكة فأسألهم: هل حدث فيها خبر أو أمر؟
فيقولون: لا، فإنّي لقاعد على الطريق [إذ] مرّ بي ركب فقلت: من أين جئت؟
قال: من مكة، قلت: هل حدث فيها خبر؟ قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها، قلت: صاحبي الّذي أريد.
فشددت راحلتي فجئت منزلي الّذي كنت أنزل فيه، فسألت عنه فوجدته مستخفيا بشأنه، ووجدت قريشا عليه جرآء [ (4) ] ، فتلطفت له حتى دخلت عليه فسلمت عليه
وقلت له: ما أنت؟ قال: نبي اللَّه، قلت: وما نبي اللَّه؟ قال:
رسول اللَّه، قلت: ومن أرسلك؟ قال: اللَّه تعالى، قلت: وبماذا أرسلك؟
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «الحجارة لا تضر..» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «يدعو إلى غيرها» .
[ (4) ] جرآء: جمع جريء.(4/378)
قال: أن توصل الأرحام، وتحقن الدماء، وتأمن السبيل، وتكسّر الأوثان، وتعبد اللَّه لا تشرك به شيئا، قال: قلت: نعم ما أرسلك به، أشهدك أني قد آمنت بك وصدقت، أفأمكث معك، أم ماذا ترى؟ قال: قد ترى كراهة الناس لما جئت به، فامكث في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني.
فلما سمعت به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه ثم قلت: يا نبي اللَّه! أتعرفني؟ قال: نعم، أنت السّلميّ الّذي جئتني بمكة، فقلت لي: كذا وكذا، وقلت لك: كذا وكذا، فقمت من ذلك المجلس فعرفت أنه لا يكون الدهر أفرغ منه في ذلك المجلس فقلت: يا نبي اللَّه! أي الساعات أسمع للدعاء؟ قال: جوف الليل الآخر والصلاة مشهودة متقبلة [ (1) ] [حتى تخرج الشمس] [ (2) ] .
وله من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد اللَّه بن العلاء قال: حدثني أبو سلام الأسود، عن عمرو بن عبسة قال: ألقي في روعي أن عبادة الأوثان باطل، وأن الناس في جاهلية، فقال لي قائل: إن رجلا بمكة يقول نحوا مما تقول، يقول:
إنه رسول اللَّه.
قال: فقدمت مكة فسألت عن رسول اللَّه فقيل لي: لا تلقاه إلا ليلا عند الكعبة، فمكثت له بين الكعبة وأستارها، إذ سمعت حسّه وتهليله فخرجت إليه فقلت ما أنت؟ قال: رسول اللَّه، قلت: اللَّه أرسلك؟ قال: نعم، قلت: بماذا؟
قال: بأن يعبد اللَّه ولا يشرك به شيئا، وتكسر الأوثان وتحقن الدماء وتوصل الأرحام، قلت: أبايعك عليه؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته، فلقد رأيتني وأنا في تلك الحال وأنا ريع الإسلام فقلت: من تبعك على هذا الأمر؟ قال: حرّ وعبد، قلت: أقيم معك؟ قال: بل ألحق بقومك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 257، باب ذكر إسلام عمرو بن عبسة السلمي، وما أخبره أهل الكتاب من بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (198) ، وأخرجه أيضا من طرق مختلفة: ابن سعد في (الطبقات) : 4/ 217، ابن عبد البر في (الاستيعاب) : 3/ 1192، ترجمة رقم (1937) ، والحاكم في (المستدرك) : 3/ 714- 715، حديث رقم (6584/ 2182) ، وقال في آخره:
هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (خ) فقط.(4/379)
فاقدم عليّ.
قال: فرجعت إلى قومي فمكثت فيهم حتى إذا سمعت بمهاجره إلى المدينة قدمت عليه، فسلمت فردّ عليّ، فقلت: أتعرفني يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، أنت السلمي القادم عليّ بمكة.(4/380)
تنبيه مفيد
كتب أبو بكر بن فهد الهاشمي سوى القرآن معجزات شهيرات، وآيات على صدق نبوّته بينات، وجدت منه صلّى اللَّه عليه وسلم في مواطن مختلفة، وأحوال متغايرة، بلغ مجموعها التواتر الّذي يورث علما ضروريا، كشجاعة عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، وجود حاتم الطائي، ومع ذلك فهذا القرآن الكريم بأيدينا، نتلوه بألسنتنا، ونحفظه في صدورنا، لا نرتاب فيه، معجزة قائمة أبدا، ينادي على منار التحدي:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ (1) ] ، ثم إذعان الملوك للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم مع ضعف حاله وعدم ماله، وإقرار أهل الكتاب بصفته، واجتماع العرب [بأسرها] [ (2) ] على نصرته وموالاته، بعد تنافرها وتقاطعها، وتدابرها في ذات نفسها، وشدة محاربتها له، ومبالغتها في عداوته، من أكبر الدلالة على صدقة صلّى اللَّه عليه وسلم، ومن أراد أن يعلم كيفية نقل الكافة الّذي لا يجوز فيه الغلط، ولا يمكن فيه الكذب، ولا يدخله الخلل ولا الخطأ بوجه من الوجوه البتة.
فينظر كيف نقل القرآن الكريم، وكيف نقلت أحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأعلامه التي ذكرت في القرآن، من الرمية التي رماها، وإنذاره بالغيوب، ودعائه اليهود إلى تمني الموت، ودعائه النصارى إلى المباهلة، ودعائه جميع مشركي العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وتوبيخهم بالعجز، وتوبيخ اليهود بأنهم لا يتمنوا الموت، علما منه صلّى اللَّه عليه وسلم بأنهم عاجزون عن ذلك، ممنوعون عن النطق به.
وقصة رمي أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، فإن هذا نقله اليماني، وهو عدوّ مضر الذين هم رهط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأهله، ونقله المضري واليماني، وهم كلهم أعداء متضادون متنافرون.
__________
[ (1) ] البقرة: 23.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/381)
ومع ذلك فإن كل من في الأرض ما بين أقصى السند إلى أقاصي خراسان، إلى ثغور الديلم والجزيرة والشام، إلى منتهى بلاد الأندلس، إلى سواحل البربر إلى بلاد السودان، وما بين ذلك من الأمم، كلهم ينقلون القرآن كما هو، ولم يكن ممنوعا ولا مكتوما عن أحد.
وكل من ذكرناه كانوا أعداء متباينين، وأحزابا متجانبين، وقوما لقاحا لا ملك عليهم لأحد عليهم، فانقادوا لظهور الحق، وآمنوا برسوله صلّى اللَّه عليه وسلم وهم لا يخافون منه، كباذان الملك بصنعاء اليمن، وحيفر وعياذ ابني الجلندي، والملكين بعمان، والنجاشي ملك الحبشة، وصاروا إخوة كبني أب وأم، وانحل كل من أمكنه منهم عن ملكه، وأرسله إلى ولاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، طوعا، كذي الكلاع وذي ظليم، وذي روذ، وذي مران وغيرهم من ملوك اليمن، وملك عمان والبحرين، وشهر بن باذام، إلا من لا يمكنه ذلك خوف قومه كالنجاشي، وهذا أمر مشهور منقول بنقل الكواف، وأذعن سائر من ذكرنا بغلبة سيوف الحق، دون مال أعطاه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا ملك منّى به من نصره، بل حضّهم بأجمعهم على الصبر، وأنذر بالأثرة عليهم أنصاره.
ولم يكن إسلام الأنصار الذين هم الأوس والخزرج، وإسلام أكثر أهل مكة، وأهل البحرين، إلا لما بهرهم من المعجزات، وهو صلّى اللَّه عليه وسلم حينئذ مطرد مشرد، لا ملك له، ولا عوان، لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في بلاد الجهل، بينما لا مال له، بل كان يرعى غنم قومه على قراريط يتقوت بها، فعلمه اللَّه تعالى الحكمة دون توسط معلم، ولا تدرج يتعلم، وعصمه من كل ما أراد على كثرة أعدائه، دون حرس ولا ستور ولا أعوان، وحماة الدنيا وزينتها، واختار تعالى له أرفع الدرجات من الدعاء إلى ربه وإلى دينه فقط.
فهذه هي الحقائق المشهورة، لا ما تدعيه النصارى فيما بأيديهم من الإنجيل أنه منقول بنقل الكواف، وأن الملوك دخلت في دينهم اختيارا فإن الأمر بخلاف ذلك، وبيانه أن الإنجيل ما هو إلا كتاب كتبه أربعة: اثنان من الحواريين(4/382)
بزعمهم، وهما متى ويوحنا، واثنان من التلامذة، وهما [لوقا] [ (1) ] الطبيب تلميذ شمعون الصفا، والآخر مارقس تلميذ شمعون أيضا، وزعموا أن أناجيلهم الأربعة منقولة عن هؤلاء الأربعة بنقل الكواف.
وزعموا أيضا أن كتابها عندهم معصومون، وأنهم أجلّ من الأنبياء، وفي صدر إنجيل متى نسب المسيح عليه السلام، وقد ساقه رجلا رجلا، حتى وقف على يوسف النجار، فذكر نيفا وخمسين اسما، فأخرج نسبه إلى الملوك من ولد صيعام ابن سليمان بن داود عليهما السلام، وبعد صدر من إنجيل لوقا هذا النسب بعينه بأسماء غير تلك الأسماء، وذكر نحو أربعين اسما فقط، وأخرج نسبه إلى ماثان بن داود عليهما السلام.
ومثل هذا من التناقض الفاحش لا يقع من قوم معصومين، وإنما يقع من الآحاد الذين يجوز عليهم الغلط والنسيان وتعمد الكذب، وما كان منقولا كهذا فلا يتدين به عاقل في توحيده، ولا فيما يوجب يقين العلم، وإنما يؤخذ بمثل هذا فيما جرى مجرى الشهادات التي تعيد العلم دون العمل.
وأول ملك تنصر قسطنطين بعد أزيد من مائتي عام وستين عاما شمسية من رفع المسيح عليه السلام، فأي آية رأى وشاهد بعد هذه المدة الطويلة، وقد علم كل ذي بصر بالأخبار سبب [تنصره] [ (1) ] ، وهو أن أمه كانت نصرانية بنت نصراني، تزوجها أبوه فولدت له قسطنطين وربته على دينها، وقد علم كل ذي عقل قوة تأثير النشأة فيمن نشأ على دين من الأديان، وما استطاع إظهار النصرانية حتى دخل على رومة مسيرة شهر ونصف، وبني [برنطية] [ (2) ] فغرقت بالقسطنطينية، ثم أكره الناس على النصرانية بالسيف [والعصا] [ (1) ] ، وكان من عهوده المحفوظة ألا يولي أحدا من الناس ولاية من الولايات إلا من تنصّر، والناس سراع إلى الدنيا، نافرين عما يؤذيهم.
ولكن هذا من دعوى النصارى مناف إلى ما يدّعونه من أنهم بعد هذه المدة
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجد لها توجيها ولعلها «بزنطية» .(4/383)
الطويلة، وبعد خراب بيت المقدس مرة بعد مرة، وبقائه خرابا لا ساكن فيه أزيد من مائتي عام وسبعين عاما، وجدوا الشوك الّذي وضع على رأس المسيح عليه السلام، ووجدوا المسامير التي ضربت في يده، والدم الّذي طار من جسده، والخشبة التي صلب عليها بزعمهم.
فلا يدري العاقل ممن العجب؟ أممن اخترع مثل هذه الكذبة، وتجاسر على الحديث بها؟ أم ممن قبلها وصدق بها ودان باعتقادها؟ فيا ليت شعري، كيف بقي ذلك الشوك وذلك الدم وتلك المسامير والخشبة طول تلك المدة؟ وأهل ذلك مطرودون مقتولون بالسيف والرجم بالحجارة والإحراق بالنار لقتل من تستّر بالزندقة في زماننا.
ومع ذلك فإن تلك المدينة خراب منذ عشرات الأعوام لم يسكنها أحد إلا السباع والوحش، وقد شوهد ملوك جلة لهم أعوان وأتباع وأولاد، وشيع وأقارب صلبوا، فما مضت إلا مدة يسيرة حتى لم يبق لأخشابهم التي صلبوا عليها أثر، فكيف بأمر لا طالب له، وبدول قد انقطعت، وبلاد قد أقفرت وخلت، ونسيت أخبارها.
وأما ديانة اليهود: فإنه لم تصف نيّات بني إسرائيل- وموسى عليه السلام حيّ بن أظهرهم- وما زالوا مائلين إلى عبادة الأوثان، وتكذيب شريعتهم كلهم بعد وفاته عليه السلام، إلى انقطاع دولتهم، فكيف أن [يذعن] [ (1) ] لهم غيرهم؟
ولا خلاف بين اليهود والنصارى وسائر الملل كلها في أن بني إسرائيل كانوا في مصر في أشد عذاب يمكن أن يكون من قبل أولادهم، وتسخيرهم في عمل الطوب، والضرب العظيم، والذل الّذي لا يصبر عليه كلب مطلق، فأتاهم موسى عليه السلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الّذي قتل النفوس أخف منه، وإلى الحرية والملك والغلبة والأمن، ومن المعلوم أن من كان في أقل من تلك الحال فإنه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/384)
يسارع إلى كل من طمع على يديه بفرح، وأن يستجيب إلى كل ما دعي إليه، وإن أكثر من في هذا البلاء يستجيز عبادة من أخرجه منه إلى العز والحرمة، ومع هذا فقد كان بنو إسرائيل أهل عسكر مجتمع، يمكن منهم التواطؤ.
وأما عيسى عليه السلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلا معروفين ونساء قليل، وعدد لا يبلغ المائة، وكانوا مع هذه القلة مشردين غير ظاهرين، ولا يقوم بمثل هذا ضرورة يقين العلم.
وأما محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فلا يختلف أحد من أهل شرق الأرض وغربها، في أنه أتى إلى قوم لئام، لا يقرون ملك، ولا يطيعون لأحد، ولا ينقادون لرئيس، نشأ على هذا أجدادهم وأسلافهم، منذ ألوف من الأعوام، وقد سرى الفخر والنخوة، والكبر والظلم، والأنفة في طباعهم، وهم أعداد عظيمة، قد [ملكوا] [ (1) ] جزيرة العرب، وهي نحو مسيرة شهرين في شهرين، فدعاهم بلا مال ولا أتباع، بل قد خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة، ومن الحرية إلى جري الأحكام عليهم، ومن طول الأيدي بقتل من أحبوا، أو أخذ ماله إلى القصاص من النفس [والأعضاء] [ (1) ] ، واللطمة من أجلّ من فيهم لأقل علج [ (2) ] دخل فيهم، وإلى إسقاط الأنفة والفخر، وإلى ضرب الظهور بالسياط أو بالنّعال إن شربوا خمرا، أو إن قذفوا إنسانا، وإلى الرجم بالحجارة حتى يموتوا إن زنوا.
وانقاد أكثرهم طوعا، ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة فقط، فتبدلت به صلّى اللَّه عليه وسلم طبائعهم من الظلم إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن العسف والقسوة إلى الرأفة والرحمة، وسيرة العدل العظيم الّذي لا يبلغه أكابر الفلاسفة.
فقد رأى الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وكيف كانت طاعة العرب لهما، كل ذلك بلا رزق جار، ولا عطاء [دائر] [ (1) ] ، ولا غلبة ملوكية، إلا بغلبة من اللَّه تعالى على نفوسهم، وكسر لطبائعهم، كما قال تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] العلج: الرجل من كفار العجم وغيرهم.(4/385)
بينهم [ (1) ] ، ثم بقي صلّى اللَّه عليه وسلم كذلك بين أظهرهم بلا حرس ولا ديوان جند ولا بيت مال، معصوما محروسا.
وهكذا نقلت أعلامه ومعجزاته بخلاف معجزات سائر الأنبياء، فإنّها لم تصح إلا ما نقله هو صلّى اللَّه عليه وسلم، لصحة الطريق إليه، وارتفاع دواعي الكذب والعصبية جملة عن أتباعه فيه، فلقد كان جمهورهم غريبا من غير قومه، ولا يمنيهم بدنيا، ولا وعدهم بملك، وهذا ما لا ينكره أحد من الناس.
وأيضا
فإن ابتداء أمره صلّى اللَّه عليه وسلم أنه وقف على الصفا ونادى:
يا صباحاه ... يا صبحاه، فجاءوا يهرعون، فقالوا: ما دهمك؟ ما طرقك؟ قال:
ما تعرفونني؟ قالوا: محمد الأمين، قال: أرأيتم إن قلت لكم [إن خيلا تغير عليكم خلف هذا الوادي] [ (2) ] ، وإن عسكرا قد غشيكم من الصبح، أكنتم تصدقوني؟
قالوا: اللَّهمّ نعم، ما جربنا عليك كذبا قط، قال: [فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد من اللَّه، قولوا: لا إله إلا اللَّه، واشهدوا أني رسول اللَّه، واتبعوني يحببكم اللَّه، فإنه تعالى ناصري] [ (2) ] ، وقال لي: استخرجهم كما استخرجوك، وابعث جيشا أبعث خمسة أمثاله، وضمن لي أنه ينصرني بقوم منكم، وقال لي:
قاتل بمن أطاعك من عصاك، وضمن لي أن يغلب سلطاني سلطان كسرى وقيصر.
وقالت له قريش مرة: أتابعك من هؤلاء الموالي، كبلال وعمار وصهيب خير من قصي بن كلاب وعبد مناف وهاشم بن عبد شمس؟ فقال: نعم واللَّه، لئن كانوا قليلا ليكثرن، ولئن كانوا وضعاء ليشرفن حتى يصيروا نجوما يهتدى بهم ويقتدى، فيقال: هذا قول فلان وذكر فلان، فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية، فما يذهب الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين موتوا فيها، فاتبعوني أجعل لكم أنسابا، والّذي نفسي بيده، لتقسمن كنوز كسرى وقيصر، فقال له عمه أبو طالب: أبق عليّ وعلى نفسك، وظن صلّى اللَّه عليه وسلم أنه خاذله، فقال: يا عم!
__________
[ (1) ] الأنفال: 63.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق وحيث أن سياق هذه الفقرة مضطرب فقد صوبناه من (البحر المحيط) :
10/ 566، تفسير سورة المسد.(4/386)
واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر باكيا ثم قام، فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فقال: اذهب وقل ما شئت، فو اللَّه لا أسلمتك لسوء أبدا.
هذا، وقد كان صلّى اللَّه عليه وسلم يذكر ما لقي من قومه من الجهد والشدة،
فقال لقد مكثت أياما وهذا صاحبي- يشير إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه- بضع عشر ليلة، ما لنا طعام إلا الثريد في شعيب الجبال.
وكان عتبة بن غزوان يقول إذا ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة: لقد مكثنا أياما ما لنا طعام إلا ورق البشام [ (1) ] ، أكلناه حتى تقرحت أشداقنا، ولقد وجدت يوما تمرتين فجعلتهما بيني وبين سعد، وما فينا اليوم أحد إلا وهو أمين على كورته، وكانوا يقولون فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: إن أسعد الرجلين من حصلت له النواة في قسميها يلوكها يومه وليلته، وعدم القوت.
وكذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلم: لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط،
وجاء صلّى اللَّه عليه وسلم يوما ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة العبدولي، فقال: لا تفعل يا عثمان! فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت، فقال له: [ذلت] [ (2) ] يومئذ قريش وقلّت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: بل كثرت وعزّت.
ثم غزا صلّى اللَّه عليه وسلم تبوك في ثلاثين ألفا، فهذا من قبل اللَّه عزّ وجلّ، الّذي يجعل من لا شيء كل شيء، ويجعل كل شيء مالا شيء، يجمد المائعات، ويميع الجامدات، يجمد البحر، ثم يفجر الصخر، وما مثله صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك إلا كمثل من قال: هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة، أصك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المتينة، فقرضها ونقضها، وهذه النملة الضعيفة اللطيفة، تهزم العساكر الكثيرة المعدة [ (3) ] .
وكذا حقيقة أمره صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش- وكان
__________
[ (1) ] شجر عطر الرائحة، ورقه يسوّد الشعر، ويستاك بقضبه. (ترتيب القاموس) : 1/ 279.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] المعدّة: من العتاد وآله الحرب.(4/387)
رسولهم إليه صلّى اللَّه عليه وسلم بالحديبية-: لقد وردت على النجاشي وقيصر وكسرى، ورأيت حديثهم وأتباعهم، [فما] [ (1) ] رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد، [هم] [ (1) ] حوله وكأن الطير على رءوسهم، فإن أشار بأمر بادروا إليه، وإن توضأ اقتسموا وضوءه، وإن تنخم دلكوا بالنخامة وجوههم وجلودهم، وكانوا له صلّى اللَّه عليه وسلم بعد موته أطوع منهم في حياته، حتى لقد قال بعض أصحابه: لا تسبوا أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، فإنّهم قوم أسلموا من خوف اللَّه، وأسلم الناس من خوف أسيافهم.
فتأمل- رحمك اللَّه- كيف استفتح صلّى اللَّه عليه وسلم دعوته وهو ضعيف وحده بأن قال:
هذا سيكون فكان كما قال، بحيث رآه العدوّ والوليّ، وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال: هذه الهباءة تعظم وتصير جبلا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس بها في حال ضعفها، فكان كما أنذر، فعلم أن ذلك من فعل اللَّه الّذي لا يقدر عليه سواه، ولا يفعله إلا إياه جلّت قدرته.
فإن سيرة محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد أنه رسول اللَّه، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى، وذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلم نشأ في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد إلا مرتين: إحداهما وهو صبي مع عمه إلى أول الشام، والأخرى أيضا إلى أول الشام، ولم يطل بها المقام، ولا فارق قومه، ثم أوطأه اللَّه تعالى رقاب العرب فلم تتغير نفسه، ولا مالت به.
ومات صلّى اللَّه عليه وسلم ودرعه- ذات الفضول- مرهونة في أصواع [ (2) ] من شعير، [و] [ (3) ] لم يتسبب صلّى اللَّه عليه وسلم إلى شيء من أذى اليهود- وهم أعداؤه- ولا يعرض لذم أحد منهم وإلى ماله، بل ودا [ (4) ] الأنصاري من عند نفسه مائة ناقة، وهو صلّى اللَّه عليه وسلم يحتاج إلى بعير واحد يتقوى به، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا بوجه من الوجوه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] جمع صاع.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] ودا: دفع دية.(4/388)
ولا يقتضي أيضا هذا ظاهر السيرة في السياسة، فصح يقينا أنه صلّى اللَّه عليه وسلم متبع لما أمره به ربه تعالى، وسواء كان ذلك الأمر مضرا به في ظاهر الأمر غاية الإضرار أو غير مضر به، وهذا أحب الناس إليه، وابن عم أبيه من أخص الناس به، وهو مع ذلك زوج ابنته التي لا ولد له غيرها، وله منها ابنان ذكران، وكل من عمه وابن عمه اللذين هما أقرب الناس إليه، له من الفضل والسياسة والعقل وخلال الخير ما يستحق به سياسة العالم كله، فلم يحابهما وهما من أحب الناس إليه وأشدهم [غنى] [ (1) ] عنه، إذ كان غيرهما متقدما عليهما في الفضل، وإن كان بعيد النسب عنه، بل فوض الأمر إليه قاصدا إلى أمر الحق، واتباع ما أمر به، ولم يورث صلّى اللَّه عليه وسلم ورثته فلسا فما فوقه، وهم أحب الناس إليه، وأطوعهم له، وهذه أمور لمن تدبرها كافية مغنية.
قال الأعمش عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: ذكروا عند عبد الرحمن- يعني ابن مسعود رضي اللَّه عنه- أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلم وإيمانهم، فقال عبد اللَّه: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والّذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، [ثم قرأ] [ (1) ] : الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ (2) ] إلى قوله: يُؤْمِنُونَ [بِالْغَيْبِ] [ (3) ] . قال الحاكم: فقد صح ما ذكرنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وشريعته التي أتى بها، هي التي وضحت براهينها، واضطرت دلائلها إلى تصديقها، والقطع على أنها الحق الّذي لا حق سواه، وأنها من اللَّه تعالى الّذي لا دين له في العالم غيره، والحمد للَّه الّذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] البقرة: 1- 3.
[ (3) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.(4/389)
[فصل جامع في معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على على سبيل الإجمال]
[ (1) ] وكان له صلّى اللَّه عليه وسلم مع هذه الفضائل الباهرة من المعجزات البينات: إبطال الكهانة وانشقاق القمر، وردّ الشمس بعد غروبها، وانقياد الشجر، وانقلاب العود والقضيب سيفا جيدا، وتسليم الأشجار والأحجار عليه، وتحرك الجبل لأجله وسكونه بأمره، [وحثا] [ (2) ] يوم حنين وجوه المشركين كفّا من تراب فملأ أعينهم، وإشارته إلى الأصنام وسقوطها، وإلانة الصخر له، وتسبيح الحصا في كفه، وتأمين اسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه.
ونبع الماء من بين أصابعه، وظهور بركته في تكثير الماء القليل الّذي كان في الميضأة، فشرب منه أهل العسكر كلهم وهم عطاش وتوضئوا، كل ذلك من قدح صغير ضاق عن أن يبسط فيه يده المكرمة، وفي مزادتي المرأة، وفي الماء بالحديبية، وفي العين التي بتبوك، وقد أهرق عليه وضوءه فيهما، ولا ماء فيهما، فجاشتا بالماء، فشرب من عين تبوك أهل الجيش وهم ألوف، حتى رووا كلّهم وفاضت بعد ذلك، وشرب من بئر الحديبيّة ألف وأربعمائة حتى رووا، ولم يكن فيها قبل ذلك ماء.
وأمطرت بطريق تبوك عند دعائه وقد اشتد عطش الناس، واستسقى وقد قحط المطر فسقوا بدعائه، وظهرت بركته في ركي قليل الماء حتى صارت نهرا تجري، وفي بئر بقباء، وفي بئر قليلة الماء بعث إليها بحصباء فألقيت فيها فغزر ماؤها.
وأفاق جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه وقد أغمى عليه لما صبّ من وضوئه عليه، ونشط بعير قد أعيا ببركة وضوئه لمّا رشّه عليه وسقاه منه، وعذب الماء
__________
[ (1) ] هذا العنوان ليس في (خ) .
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/390)
بريقه، وحبس الدمع بما نضحه في وجه امرأة، وذهب حزن امرأة ببركة ما شربته بعد ما غمس فيه يده، ومضمض ودعا في بقية الزاد مرجعه من الحديبيّة، ومرجعه من تبوك، فنما وزاد بعد قلته، حتى أشبع قياما من الناس.
وكثر طعام جابر يوم الخندق ببركة يده، وكثر طعام أكل منه قصعة، وأكل مائة وثلاثون رجلا من صاع واحد، وأخذ كل منهم جزأه من سواد بطن شاة، وظهرت البركة في طعام بدار أبي بكر رضي اللَّه عنه، ورزق اللَّه تعالى أهل بيت من الأنصار ذوي حاجة من حيث لم يحتسبوا ببركته، وأكل سبعون أو ثمانون رجلا في بيت أبي طلحة رضي اللَّه عنه من قليل أقراص خبز شعير مأدوم بسمن حتى شبعوا، وبقيت كما هي ببركته، وأكل أهل الصفة من كسر يسيرة حتى شبعوا وفضل عنهم فضله، وأكل بضع وسبعون رجلا من حيس عملت من نحو مدّ تمر وفضل عنهم قدر ما كان قبل أكلهم.
وأكل أربعون رجلا من صاع طعام ورجل شاة حتى شبعوا ولم ينقص منه شيء- ومن عادة الواحد منهم أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق- وأخذ أربعمائة رجل ما أحبوا من تمر قليل، فلم ينقص من أخذهم شيئا، وأكل مائة وثلاثون رجلا من الأنصار حتى صدروا بعد ما جاعوا، من طعام صنعه أبو أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه.
وأكل طائفة في بيت عائشة رضي اللَّه عنها حيسا يسيرا وشربوا لبنا حتى شبعوا ورووا، وغرس صلّى اللَّه عليه وسلم نخلا لسلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه فأطعم من سنته، ودعا لأبي هريرة رضي اللَّه عنه في تمرات يسيرة فنمت حتى كمل منها عدة أو ساق سوى ما أكل وأطعم.
وترك عند عائشة رضي اللَّه عنها شطر شعير فأكلت منه حتى طال عليها ثم كالته، وأطعم رجلا شطر وسق من شعير، فما زال يأكل منه وامرأته حتى كالاه، ودفع لنوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثين صاعا من شعير فطعم منه وأهله نصف سنة، ثم كاله فوجده بحاله.(4/391)
وأطعم أعرابيا كسرة كانت [عنده] [ (1) ] فشبع بما أكل منها وأفضل، وأمر قوما كانوا لا يشبعون بالاجتماع على طعامهم، فأكلوا وشبعوا، ودفع إلى أم شريك ثلاثين صاعا من شعير وعكة سمن قد فرغ ما فيها فوجدتها ملآنة سمنا، وأكلت من الشعير دهرا ثم كالته فلم ينقص منه شيئا.
وبعث أبا أمامة رضي اللَّه عنه إلى أهله فإذا هم يأكلون الدم فتنزه عنه ونام، فأتي في منامه بشربة لبن فشربها فشبع وروي بعد انتباهه، ونزل به صلّى اللَّه عليه وسلم ضيف ولا شيء عنده، فدعا اللَّه فأعانه بشاة مصلية، وقعد على تمر خلفه عبد اللَّه بن عمرو بن حزام، وأمر أن يكال منه لغرمائه، فكالوا حقهم وبقي التمر كما هو.
وسمع أصحابه تسبيح الطعام وهو يؤكل، ومسح ضرع شاة أم معبد فدرّت باللبن بعد جهدها، ومسح ضرع عناق ودعا اللَّه تعالى فأنزلت لبنا، وحلب لبنا من شاة لم [ينز] [ (2) ] عليها فحل قط، واحتاج ليلة إلى الغذاء فلم يجد شيئا، فقام المقداد ليذبح له عنزا، فإذا هي وأخواتها حفل، فحلب له وسقاه حتى روى، ومسح [ظهر] [ (2) ] عناق لم تنتج فتدلى ضرعها وحلب منها لبنا كثيرا، [وسقى] [ (2) ] أهل الصفة من لبن في قدح حتى رووا، وأروت الجند وقد عطشوا في سفر فشربوا من حلب عنز أتى اللَّه بها ثم لم تر بعد ذلك.
وأهدت إليه أم سليم عكة سمن فأفرغها ثم ردّها إليها فوجدتها مملوءة سمنا، فأتدمت به شهرا أو شهرين بعد ما فرقت منها، وأهدت له أم مالك البهزية عكة سمن فأفرغها وردها، فما زالت تجد فيها السمن حتى عصرتها، وبعثت عمرة ابنة رواحة إلى زوجها وأخيها بجفنة تمر- وهم يحفرون الخندق- فأمر بها فصبت في كفه فما ملأته، فدحاها على ثوب ودعا أهل الخندق [بأسرهم] [ (2) ] فأكلوا منه حتى صدروا، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وشهد له الذئب بالرسالة، وأتاه الذئب ليفرض له في شياه أصحابه، فلم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق حيث أنها مطموسة بالأصل.
[ (2) ] زيادة للسياق.(4/392)
يفرضوا له شيئا فأمره أن يخالسهم فذهب، وكلمته ظبية في إرضاع حشفها وقد [شدها] [ (1) ] أعرابي في وثاق فأطلقها حتى مضت ثم عادت، وشهد له الضب بالرسالة، وسجدت له الغنم، وربض له الوحش لما أحسّ به، وسجد له البعير، وشكى إليه ما به، وازدلفت البدن إليه ليبدأ بنحرها، وخاطبه الحمار.
ونسج العنكبوت على الغار الّذي اختفى فيه، ووقف الحمام به، وقامت شجرة على بابه ليستتر عن أعين المشركين وقد أتوا ليأخذوه، ووقفت له حية وسلمت عليه، وشكت إليه حمرة ما فجعت به من أخذ فرخها، وسخر اللَّه تعالى الأسد لمولاه سفينة تكرمه له، وسخر له صلّى اللَّه عليه وسلم طيرا من السماء، وكثر اللَّه تعالى غنم هند بنت [عتبة] [ (1) ] بدعائه لها بالبركة، وأحيا له شاة جابر بن عبد اللَّه بعد ما ذبحها وطبخها وأكل لحمها، وأحيا [اللَّه] [ (1) ] تعالى حمار رجل أقبل من اليمن ليجاهد في سبيل اللَّه بعد ما مات تكرمة له صلّى اللَّه عليه وسلم، [و] [ (1) ] أحيا ولد [امرأة] [ (1) ] أتت مهاجرة بعد موته، وسقى العلاء بن الحضرميّ ومن معه من المسلمين وقد عطشوا، [وفرق] [ (1) ] لهم البحر حتى مروا فوقهما لقتال المشركين، ومشى أبو مسلم الخولانيّ على الماء بدجلة وهي ترمي الخشب من فوقها، كل ذلك كرامة له صلّى اللَّه عليه وسلم.
وشهد له ميت بعد موته بالرسالة، وشهد له الرضيع والأبكم بالرسالة، وكان حيث سلك توجد رائحة الطيب، ويسجد له ما يمر به من حجر أو شجر، ومجّ بعد ما تمضمض في دلو مسكا أو أطيب من المسك.
وكان إذا قعد لحاجته ابتلعت الأرض ما يخرج منه، وكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، ويرى في الظلمة كما يرى في النور، وأضاءت عصا أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر لما خرجا من عنده في ليلة مظلمة حتى مشيا في ضوئها، كرامة له صلّى اللَّه عليه وسلم.
وسهر ومعه عمر بن الخطاب عند أبي بكر ثم خرجا في ليلة مظلمة، وخرج معه أبو بكر فأضاءت عصا أحدهما حتى بلغوا المنزل، وأضاءت عصا أبو عيسى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/393)
الأنصاري وقد رجع بعد ما صلّى معه صلّى اللَّه عليه وسلم، فنور له حتى دخل دار أبي حارثة، وأعطى قتادة بن النعمان عرجونا فأضاء له من بين يديه ومن خلفه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرج الحسن بن علي من عنده ليلا إلى أمه، فجاءت برقة من السماء فمشى في ضوئها حتى بلغ إلى أمه، وأضاءت إصبع حمزة بن عمرو الأسلمي حتى جمع ما سقط من متاع رحله صلّى اللَّه عليه وسلم.
وتفرق من إبل أصحابه في ليلة مكر فيها المنافقون بالرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وهو بطريق تبوك، وأرى أنس بن مالك وقد خرج معه ليلا إلى المسجد نورا بأيدي قوم يدعون اللَّه بدعائه له أن يريه اللَّه ذلك، [وكانت] [ (1) ] الملائكة تسلم على عمران بن حصين، ونزلت السكينة والملائكة عند قراءة البراء القرآن، كان ذلك تكرمة له صلّى اللَّه عليه وسلم.
وانقلبت بضعة لحم حجرا في بيت أم سلمة، وذهبت صورة مصورة بوضع يده عليها، وكان اللَّه تعالى يعطيه ما سأل ما لم تجر به العادة، ويلهمه جواب ما يسأله عنه السائلون وهو في مقامه، وأمر أبا هريرة أن يبسط بردة كانت عليه، ثم قبضها فلم ينس بعد ذلك شيئا سمعه منه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وضرب في صدر أبي عثمان بن أبي العاص فما نسي شيئا بعد أن حفظه، ودعا اللَّه أن يهدي أم أبي هريرة فأسلمت بعد إبائها، ومسح وجهه بمنديل فلم تعمل فيه النار بعد ذلك إذا وضع فيها، وأعيا بعير جابر بن عبد اللَّه وهو في سفر حتى أراد أن يسيبه، فتحسسه أو ضربه صلّى اللَّه عليه وسلم فسار عنه سيرا لم يسر مثله،
وركب فرس أبي طلحة- وكان ثبطا قطوفا- فكان بعد ذلك لا يجاري، وضرب فرس جعيل بمخفقة وكانت ضعيفة عجفاء وقال: اللَّهمّ بارك له فيها،
فصارت تتقدم الركب، وباع من نتاجها باثني عشر ألفا، وضرب برجله ناقة لا تكاد تسير فصارت سابقة، ودعا لرجل أن يحمله بعيره فمكث عنده عشرين سنة.
وذهب الجوع عن فاطمة الزهراء بدعائه، وكفى على بن أبي طالب الحر والبرد بدعائه،
ووعك عليّ مرة فقال [صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] : اللَّهمّ عافه: فما اشتكى وجعه ذاك
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/394)
بعد،
وبصق في عين عليّ وقد رمد في خيبر فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، وضرب في صدره وقد بعثه قاضيا باليمن وقال: اللَّهمّ اهد قلبه وسدد لسانه، فما شك في قضاء بعد.
وصرف اللَّه ألوفا عن المدينة ونقل حمّاها إلى الجحفة بدعائه، ومرض سعد ابن أبي وقاص فوضع يده على جبهته ومسح وجهه
وقال: اللَّهمّ اشف سعدا وأتمم هجوته،
فما زال يجد برده على كبده، وأصاب أسماء ورم في رأسها ووجهها، فوضع يده على وجهها ورأسها من فوق الثياب وسمى اللَّه ودعا، فذهب الورم، وجاءته امرأة بابن لها فدعا له فشفي وعمّر حتى جاهد في سبيل اللَّه.
وأتته امرأة بابن لها وبه جنون فمسح رأسه ودعا له، فخرج منه مثل الجرو الأسود يسعى، وكانت أم زفر تتكشّف فاصرعت، فدعا لها فلم تتكشّف، وشكى عبد اللَّه بن رواحة وجع ضرسه، فوضع يده على خده ودعا له فشفاه اللَّه قبل أن يبرح، ومسح بطن رافع أو رفاعة بن رافع وقد اشتكى بطنه فلم يشتك بطنه بعد ذلك.
وعاد عمه أبا طالب وقد مرض، فدعا له فقام كأنما نشط من عقال، ومسح ساق علي بن الحكم السلمي وقد تقنطر عن فرسه فدق جدار الخندق ساقه، فما نزل عنها حتى بريء، وأتته امرأة من خثعم بصبي لها به بلاء لا يتكلم، فشفاه ماء غسل فيه يده [ومضمض] [ (1) ] فاه فبرأ وعقل عقلا ليس كعقول الناس، ونفث في فم غلام يأخذه الجنون كل يوم مرارا فذهب عنه، وأتاه الوازع بابن له مجنون فمسح وجهه ودعا له فلم يكن في الوفد أحد يفضل عليه.
وشكى إليه عثمان بن أبي العاص سوء حفظه فتفل في فيه ووضع يده على صدره وقال: يا شيطان اخرج من صدر عثمان، فما سمع شيئا بعد ذلك إلا حفظه،
وكان الشيطان يلبس عليه صلاته فتفل في فمه وضرب في صدره وقال: اخرج عدوّ اللَّه، فلم يعرض له بعد ذلك،
وردّ اللَّه على الأعمى بصره بدعاء علّمه إياه، وردّ بصر
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/395)
من كانت عيناه مبيضتين بنفثه فيهما.
ورد عين قتادة بعد ما سالت على خده، ونفث في يد محمد بن حاطب وقد احترقت فبرأ في الحال، ووضع يده على شامة في كف شرحبيل الجعفي وقد نفث فيها، فما رفع يده حتى لم يبق لها أثر، وضرب حبيب بن إساف يوم بدر فمال شقه فتفل عليه ورده فانطبق، وضرب بقدح سلعة في كف أبي سبرة ومسحها فذهبت، ومسح وجه أبيض بن جمال وقد التمعت وجهه قوبا فما أمسى وله أثر، وأصابت يد حبيب بن إساف ضربة فتفل عليها فبرأت، ودعا لعمرو بن أخطب أن يحمله اللَّه فأناف عن التسعين ولم يشب رأسه ولا لحيته.
وقال لعمرو بن الحمق: اللَّهمّ متعه بشبابه، فبلغ الثمانين ولم تر شعرة بيضاء،
وأخذ له يهودي من لحيته فقال: اللَّهمّ جمله، فاسودت لحية اليهودي بعد ما كانت بيضاء،
ودعا للسائب بن مزيد وهو شاك فأناف على التسعين وهو جلد معتدل ممتع بحواسه، ومسح بيده على رأسه وقال: اللَّهمّ بارك فيك فلم يشب.
ومسح رأس محمد بن أنس فلم يشب موضع يده، ومسح رأس حنظلة بن حديم وقال له: بورك فيك، فكان حنظلة إذا تفل في يده ووضعها على ورم ذهب، ومسح رأس أبي سفيان بدلوك فلم يبيض شعر ما مسه بيده صلّى اللَّه عليه وسلم.
ودعا لعبد اللَّه بن عتبة ولولده بالبركة فلم يهرم منهم أحد، ومسح وجه عمرو ابن ثعلبة الجهنيّ فمات عمرو وقد أتت عليه مائة سنة وما شابت منه شعرة، ووضع يده على رأس مالك بن عمير ووجهه فلم يشب، ومسح على ظهر عتبة بن فرقد بيده فصار أطيب أهله ريحا، ومسح وجه قتادة بن ملحان، فصار كأن على وجهه دهان من وضاءته.
وقال للنابغة: لا يفضض اللَّه فاك فنيف على المائة وما ذهب له سن،
وأصيب ساق سلمة بن الأكوع بضونة في خيبر فنفث فيها فما اشتكاها بعد، وأعيت قرحة برجل رجل فوضع إصبعه عليها وسمى ورقاها فبرأت، وتفل في فم عبد اللَّه بن عامر فكان لا يعالج أيضا إلا ظهر له الماء، وكان يتفل في أفواه الرضعاء فيقوم مقام الغذاء لهم.(4/396)
وبزق في فم محمد بن ثابت بن قيس وحنّكه فلم يحتج إلى إرضاع يومين والثالث، وأخذ بجلدة ما بين عيني فراء بن عمرو، وقد أصابه صداع شديد، فذهب ولم يصدع بعد، ودعا لأهل المسجد أن يذهب عنهم البرد فأذهبه اللَّه عنهم، ودعا لحذيفة بن اليمان في ليلة شديدة البرد وقد بعثه ليأتيه بخبر الأحزاب، فمشى كأنه في حمام.
واستأذنت عليه الحمى فبعث بها إلى أهل قباء لتكون كفارة لهم فلقوا منها شدة، وذهبت الحمى عن عائشة بدعاء علمها إياه، وأمر امرأتين وقد اغتابتا أن يتقيئا، فتقيأتا لحما وقيحا ودما، وكان صلّى اللَّه عليه وسلم يسمع أصوات أهل القبور، ويسمع أطيط السماء، وجعل خالد بن الوليد في قلنسوته ناصية الرسول لما حلق، فلم يشهد قتالا وهي معه إلا نصر، واقتمح السم فلم يضره.
وقال لابن عباس: اللَّهمّ فقّهه في الدين،
فصار حبر الأمة،
وقال لأنس بن مالك: اللَّهمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته، فكثر ماله، وصار له نحو المائة من الولد، وكان بستانه يحمل الفاكهة في السنة مرتين،
ودعا لامرأة في لسانها فضل فظهرت بركة دعائه، ودعا لرجل بخيل جبان كثير النوم، فاشتد بأسه في الحرب، وسخت نفسه، وقلّ نومه،
وقال لأبي طلحة وقد جامع امرأته- بارك اللَّه لكما في سائر ليلتكما، فحملت وولدت غلاما.
وضرب في صدر أبي بن كعب ودعا له فزال عنه الشك،
وقال لسعد بن أبي وقاص: اللَّهمّ استجب له إذا دعاك، فما دعا إلا أجيبت دعوته،
وعلم أبا بكر رضي اللَّه عنه دعاء [فوفىّ] [ (1) ] اللَّه عنه دينا كان عليه لما دعا به،
وقال لعبد الرحمن بن عوف: بارك اللَّه لك فكثرت أمواله،
ودعا لعروة البارقي بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه،
وقال لعبد اللَّه بن جعفر: اللَّهمّ بارك له في تجارته، فما باع شيئا ولا اشترى إلا بورك فيه،
ودعا لعبد اللَّه بن هشام بالبركة فكثر ربحه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/397)
وقال لأبي أمامة- وقد بعثة في غزاة-: اللَّهمّ سلّمهم وغنّمهم [فسلموا وغنموا] [ (1) ] ،
ومسح ضروع شويهات كان يرعاهن أبو قرصافة، ودعا فيهن بالبركة فامتلأت شحما ولبنا،
وقال له جوير بن عبد اللَّه: إني لا أثبت على الخيل، فصك في صدره وقال: اللَّهمّ ثبته، فما سقط عن فرس بعد،
وأتاه المقداد بن عمرو بسبعة عشر دينار قد ظفر بها
فقال: بارك اللَّه لك فيها
فصار عنده منها غرائر ورق، ولقي صلّى اللَّه عليه وسلم العدو
فقال: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين،
فلقد رأيت الرجال تصرع تضربها الملائكة، وأمسك لسان شاب عن الشهادة وقد احتضر لغضب أمه عليه، فلما استرضاها فرضيت نطق بالشهادتين.
وقال ليهودي- لما عطس وشمته-: هداك اللَّه، فأسلم،
وكثر مال صخر الماردي لامتثاله أمره في بعثة غلمانه بالتجارة بكرة، وتحاب امرأة وزوجها بعد البغضاء بدعائه، وأقبل اللَّه بأهل اليمن وأهل الشام وأهل العراق بدعائه، ودعا على مضر لما عتوا حتى قحطوا، ثم دعا لهم حتى سقوا، ودعا لأهل جرش برفع قتل صرد بن عبد اللَّه وأصحابه فنجوا بدعائه، ومكن اللَّه تعالى لقريش العز والشرف بدعائه، وأيد اللَّه من كان معه وأجاب دعاءه حتى صرع ركانة بن عبد يزيد، ولم يكن أحد يصرعه لشدته.
وقال لمسعود الضحاك: أنت مطاع في قومك،
فكان يأخذ الراية إذا وقع بين القبائل شر فيصلح بينهم، وأراد عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أن يغدرا به وهو يقول: لأملأنها عليك خيلا عامر، فحيل بينهما وبين ذلك،
وخرج وهو يقول: لأملأنها عليك خيلا عامر ورجالا، فقال: اللَّهمّ اكفني عامر بن الطفيل، فقتله اللَّه،
ونزلت صاعقة على أربد فقتلته،
وأمر رجلا قد أكل بشماله أن يأكل بيمينه فقال [الرجل] [ (1) ] : لا أستطيع، فقال [صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] : لا قد استطعت، فما رفعها إلى فيه.
وقال للحكم بن أبي العاص وقد اختلج كأنه يحاكيه: كن كذلك، فلم يزل
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/398)
يختلج حتى مات،
ودعا على رءوس قريش وقد تظافروا عليه بمكة فقتلهم اللَّه بسيوفه يوم بدر،
ومرّ بين يديه في صلاته رجل فقال: قطع اللَّه أثره فأقعد،
ومر كليب بين أيديهم وهم يصلون مع الرسول صلاة العصر، فدعا عليه رجل منهم، فما بلغت رجله الأرض حتى مات،
وقال لرجل: لا أقرته الأرض، فما استقر بعدها بأرض،
وقال لمعاوية بن أبي سفيان: لا أشبع اللَّه بطنه، فما شبع بطنه أبدا.
وقال لرجل: ضرب اللَّه [عنقك] [ (1) ] ، فقال: في سبيل اللَّه يا رسول اللَّه؟
فقال: في سبيل اللَّه،
فضربت عنقه في سبيل اللَّه،
وقال: من احتكر طعاما ضربه اللَّه بالجذام،
فلم يعبأ رجل بذلك فجزم،
وقال لأبي ثروان: اللَّهمّ أطل شقاءه وبقاءه،
فشاخ حتى تمنى الموت،
وقال لعتبة بن أبي لهب: اللَّهمّ سلط عليه كلبك، فافترسه الأسد،
وقصده سراقة بن مالك لما خرج مهاجرا، فساخت يدا فرسه إلى الركبتين وخرّ عنها.
ولما مزّق كسرى ملك فارس كتابه الّذي كتب إليه، دعا عليهم أن يمزقوا كل ممزق، فلم تبق لهم باقية، وهزم اللَّه المشركين يوم بدر وقتلهم بدعائه عليهم في العريش، وقال هذا مصرع فلان غدا، ووضع يده على الأرض وهو يسميهم واحدا واحدا، فما جاوز أحد منهم موضع يده.
وأخبر بمكة أنه يقتل أبا جهل فقتله اللَّه بسيوفه يوم بدر، وقتل أمية بن خلف ببدر أيضا بدعائه عليه، وألقاه ومعه صناديد قريش بالقليب، فأنجز اللَّه وعده، وقال عن عقبة بن أبي معيط: اللَّهمّ كبه لمنخره واصرعه، فجمح به فرسه يوم بدر فأخذ وضربت عنقه،
وقال: اللَّهمّ اكفني نوفل بن خويلد، فأسر يوم بدر وقتله علي بن أبي طالب.
وقال للعباس بن عبد المطلب لما أسر ببدر أين مالك الّذي وضعت بمكة عند أم الفضل وليس معكما أحد؟
فقال: والّذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغير عمير بن وهب وصفوان بن أمية وهما خاليان في الحجر أن همّوا بقتل الرسول،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/399)
وقدم إلى المدينة ليقتله، فلما دخل به عليه حدّثه بما جرى بينه وبين صفوان فأسلم عند ذلك.
وانهزم قباث بن أشيم يوم بدر فيمن انهزم، وحدث نفسه بشيء ثم قدم المدينة بعد مرة، وأتى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم وهو بعرفة، فقال له: يا قباث بن أشيم! أنت القائل يوم بدر كذا؟ فأسلم عند ذلك،
ولما أسر سهيل بن عمرو يوم بدر قال عمر:
يا رسول اللَّه! انزع ثنيته، فقال: لعله يقوم مقاما لا تكرهه،
فقام حين جاءه وفاة الرسول بخطبة أبي بكر رضي اللَّه عنه، ولما خرج إلى بدر ودعا لأصحابه أن يحملهم اللَّه ويكسبهم ويشبعهم ويغنيهم، فما رجع أحد منهم إلا كذلك.
ولما اشتد [أذى] [ (1) ] كعب بن الأشرف له قال: اللَّهمّ اكفني ابن الأشرف بما شئت، فقتله اللَّه،
وقام دعثور بن الحرث على رأسه- وقد نام- ليقتله بالسيف، فدفع جبريل في صدر دعثور، فوقع السيف وأخذه الرسول، فأسلم دعثور، وخرج إلى بني النضير وجلس في ناديهم مستندا إلى بعض بيوتهم فهموا بقتله وأن يطرح عليه عمرو بن جحاش صخرة من فوق البيت، فأتاه خبر السماء بذلك، فقام وترك أصحابه ودخل المدينة.
وقال لأبي بن خلف وهو بمكة: أنا أقتلك إن شاء اللَّه، فلما كان يوم أحد، قدم فخدشه صلّى اللَّه عليه وسلم في عنقه خدشة لطيفة هلك منها،
وقال عن عتبة بن أبي وقاص:
اللَّهمّ لا تحل عليه الحول، فمات دون ذلك كافرا،
وقال عن ابن قميئة ومن وافقه:
اللَّهمّ لا [تحل] [ (1) ] الحول على أحد منهم فهلكوا دون الحول،
وغسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر لما قتل بأحد شهيدا ورئي رأسه يقطر ماء فإنه خرج جنبا.
وغشي النعاس المؤمنين يوم أحد مع قرب العدو منهم وقال إن قزمان من أهل النار فقتل نفسه بجراحة المنية، وصنعت امرأة سعد بن الربيع طعاما يكفي رجلا أو رجلين، فأطعم منه صلّى اللَّه عليه وسلم زيادة على عشرين رجلا حتى شبعوا ولم ينقص، وقتل المشركون عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وأرادوا أخذ شيء من جسده، فبعث
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/400)
اللَّه عليه مثل الظلة من الدّبر- وهي الزنابير- فحمته فلم يقدر على قطع شيء من لحمه، ثم جاء السيل فحمله فلم نعرف له مكان، وذلك أنه كان نذر أنه لا يمسّ مشركا ولا يمسه، فوفّى اللَّه نذره تكرمة لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلم.
وبعث أبو سفيان بن حرب أعرابيا لقتال الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رآه الرسول قال:
هذا الرجل يريد غدرا، واللَّه حائل بينه وبين ما يريد، وأخذ فظهر أمره، وأخبر بما جاء به، فخلى عنه وأسلم.
ولما قتل عامر بن فهيرة ببئر معونة رفع إلى السماء بعد قتله، وأعلم اللَّه نبيه بما همّ به المشركون من الميل عليهم وهم في الصلاة، فصلّى بأصحابه صلاة الخوف، ونزلت [] تحت شجرة وعلق بها سيفه ونام،
فقام غورث على رأسه والسيف في يده وقال: من يمنعك مني؟ فقال: اللَّه! ولم يعاقبه،
ولما حفر الخندق ضرب عدة ضربات وقال في كل ضربه: هذه الضربة يفتح اللَّه بها كذا، فما [سمى] شيئا إلا فتحه اللَّه على أمته.
وقال يوم الأحزاب عن المشركين: نغزوهم ولا يغزونا، فما غزوة بعدها،
ولما نزل على بني قريظة قذف اللَّه الرعب في قلوبهم حتى أخذهم،
وخرج سعد ابن معاذ يوم الأحزاب فقال: اللَّهمّ لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة،
فاستمسك حتى حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيهم وقد نزلوا على حكمه، فحكم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم.
وتبين لثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبيد بما عندهم من العلم صدق الرسول فآمنوا به، وامتنع عمرو بن سعدي القرظي من الدخول مع بني قريظة في غدرهم وخرج عنهم، وقتل اللَّه أبا رافع بن أبي الحقيق بتحريضه على الرسول، وأخبر عبد اللَّه بن أنيس وقد بعثه لقتل سفيان بن نبيح وكان لا يعرفه بأنه إذا رآه فرق منه، فكان كذلك، وقتله اللَّه على يد ابن أنيس، وقد جمع لحرب الرسول.
وهبت ريح شديدة مرجعه من المريسيع، فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة، فلذلك عصفت الريح، فكان ذلك زيد بن رفاعة بن التابوت،
وضلت ناقته فتكلم زيد بن اللصيت كلام منافق مع أصحابه، فجاء الوحي بكلامه إلى(4/401)
الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللَّه، وأخبر بمكان ناقته فأتوا بها من ذلك المكان.
وشجّ عبد اللَّه بن أنيس في قتله أسيد بن رزام، فنفث في شجته فلم تقح، وأمر في مسيره إلى الحديبيّة باصطناع الطعام، و [أوقدت] [ (1) ] أكثر من خمسمائة نار، فخاف الصحابة أن يرى المشركون نيرانهم فقال: إنهم لن يروكم، إن اللَّه سيغيبكم عنهم، فكان كذلك ولم يروهم،
وأخبر بقدوم أهل اليمن فقدموا، وأخبر بأن اللَّه غفر للركب جميعا إلا رويكبا على جمل أحمر، فطلب فوجد ولم يؤمن وهلك، ولما نزل بخيبر شكى إليه الجهد، فدعا اللَّه أن يفتح عليهم أعظم حصن [و] [ (1) ] أكثره طعاما وودكا ففتح اللَّه من الغد حصن الصعب بن معاذ أكبر حصون خيبر، وأكثرها طعاما وودكا منه.
وقال عن أبي اليسر: اللَّهمّ متعنا به، فعمّر عمرا طويلا،
ورمى حصن البزار [وقد] [ (1) ] استعصى بكف من حصا فرجف الحصن بمن فيه ثم ساخ في الأرض، فأخذوا أهله أخذا، ولما نزل عيينة بن حصن بخيبر مددا ليهود صاح به وبقومه صائح فلحقوا بأهاليهم وتركوا يهود، ورأى عيينة مناما فأخبره الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم بما رأى، وكان معه رجل بخيبر يقاتل قتالا شديدا وهو يخبر عنه أنه من أهل النار، فخرج ولم يصبر فقتل نفسه.
وغلّ بعض من شهد خيبر من الغنيمة شيئا فأخبره بما غلّ منها، وأهدت إليه يهودية شاة قد سمتها فأخبره عضو من أعضاء الشاة أنها مسمومة، وقتل رجل رجلا أسلم بحرمات فلم تقله الأرض لما دفن وأصبح على وجه الأرض، وقد صدقت رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلم في دخوله المسجد الحرام فدخله عام القضية وعام الفتح وفي حجة الوداع، وقالت قريش لما قدم لعمرة القضاة: قد وهنتهم حمى شرب فأطلعه اللَّه على ذلك، فأمر أصحابه بالرمل في طوافهم ليظهر لقريش قوتهم.
وكان تعيينه في غزاة مؤتة زيد بن حارثة أميرا، فإن قتل فجعفر، فإن قتل
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/402)
فعبد اللَّه بن رواحة، إشارة إلى أنهم يقتلوا في غزاتهم، فلما قتلوا نعاهم في اليوم الّذي قتلوا فيه، وبينه وبينهم مسيرة ليالي وأيام.
ونحر عوف بن مالك الأشجعي جزورا لقوم في غزاة ذات السلاسل، وأخذ منها جزءا عن أجرته، فأنكر عليه سادات الصحابة أن أخذ على المعروف أجرا، فلما قدم كان الرسول أخبره خبر الجزور.
وبعث أبا عبيدة بن الجراح على سرية، فلما اشتد بهم الجوع قذف لهم البحر حوتا أكلوا منه حتى شبعوا وادخروا، ونعى النجاشيّ ملك الحبشة في اليوم الّذي مات فيه، وأخبر بنصر بني كعب على بني بكر فكان كذلك، وسأل اللَّه تعالى أن يعمي على قريش خبره حتى يبعثهم لما توجه لفتح مكة فلم يعلموا به حتى قدم بطن مر.
وأطلعه اللَّه على كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بمسيره إليهم، وأطلعه على مقالة الأنصار يوم الفتح، وأخبر أن مكة لا تغزى بعد فتحه لها، فحق اللَّه ذلك، وأرى اللَّه عثمان بن طلحة صدق رسول اللَّه في أخذه مفتاح الكعبة منه ووضعه حيث يشاء، وأخبره اللَّه تعالى عقالات قريش عند أذان بلال، وعفا عن سهيل ابن عمرو مع سوء أثره يوم الحديبيّة، وأخبر بإسلام ابن الزبعري حيث نظر إليه مقبلا.
وألقى اللَّه محبته في قلب هند بنت عتبة بعد العداوة الشديدة، وأخبر أبا سفيان ابن حرب بما حدّث به نفسه في يوم الفتح من عوده إلى المحاربة، وبما قال لهند.
وأخبر بمجيء عكرمة بن أبي جهل مسلما قبل قدومه، وحقق اللَّه تعالى لصفوان ابن أمية صدق رسالة المصطفى، وأنجز له تعالى وعده بدخول الناس أفواجا في الدين بعد الفتح.
وصدق رسوله بأن العزّى لا تعبد بأرض العرب، وكفاه أمر الّذي أراد قتله بالقرب من أوطاس، وكفاه كيد شيبة في يوم حنين، وهداه بعد كفره إلى الإيمان وأخبر عيينة بن حصن بما قاله لأهل حصن الطائف، وسمع الناس تسبيح سارية كانت في مصلاه، وأجيبت دعوته في رجل بحصن الطائف، وهدي اللَّه ثقيفا وأتي(4/403)
بهم إليه بدعائه.
وصدقت مقالته عن ذي الخويصرة وأصحابه بأنهم يمرقون من الدين فكانت منهم الخوارج، وظهر صدقه في إخباره عروة بن مسعود أن قومه يقتلونه، واستجيبت دعوته على حارثة بن عمرو، وأخبر عمار بن ياسر بما قاله المنافقون وهم سائرون إلى تبوك.
وصدق قوله لأبي ذر بأنه يموت وحده، وبخرص حديقة المرأة، وبأن ريحا ستهب، وصلّى بتبوك على معاوية بن معاوية وقد مات بالمدينة، وصدق قوله لخالد ابن الوليد عن أكيدر دومة بأن يجده يصيد البقر.
وأطعم بتبوك طائفة من سبع تمرات حتى أشبعهم غير مرة ولم تنقص، وأجيبت دعوته لذي البجاد أن يحرم اللَّه دمه على الكفار، وأخبر بقدوم وفد عبد القيس قبل مجيئهم، وصدق اللَّه لعدي بن حاتم ما أخبره به.
وصدق في إخباره بقدوم أهل اليمن، واستجيب دعاؤه في قدوم معاوية بن جيدة، وشهدت أساقفة نجران بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، واستمع من دعاه منهم إلى ما [دعا إليه] [ (1) ] خوفا من الهلاك، وتيقن عبد اللَّه بن سلام صدق رسالته صلّى اللَّه عليه وسلم، وعرف الخبر من يهود صؤاب ما أجابه به وصدقه في نبوته.
وأقر عصابة من يهود بأنه أصاب في قوله، وعلم [يهوديان] [ (1) ] بأنه صادق في نبوته، واعترف يهود بنبوته لما أتوه يسألونه عن حد الزاني، وشهد ابن صوريا على يهود بمعرفته، واعترفت اليهود بأن صفته عندهم في التوراة.
وأظهر اللَّه تعالى معجزته الباهرة لليهود لما دعاهم إلى تمني الموت، وأخبرهم لما دعاهم إلى ذلك أنهم لا يتمنونه أبدا فما أحد منهم تمناه، تحقيقا لصدق مقالته، واعترف قوم من اليهود بأن سورة يوسف موافقة لما في التوراة، وصدقته يهود في إخباره بأسماء النجوم التي رآها يوسف عليه السلام في منامه، وأهلك اللَّه تعالى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/404)
رجلا خالف أمره.
وأهلك مشركا لما سأل عن كيفية اللَّه تعالى، وأهلك رجلا كذب على رسوله، وصدقت مقالته لرجل بما حدثته به نفسه وبما يؤول أمره إليه، وأخبر امرأة قد صامت بما كان منها في صومها، وأغنى اللَّه تعالى أبا سعيد الخدريّ ببركة دعائه في التعفف مقالة الرسول، وأخبر وابصة بما جاء يسأله عنه.
وأخبر رجلين أتياه ليسألاه بما يريدان أن يسألاه عنه، وأخبر رجالا من أهل الكتاب أتوه ليسألوه عن ذي القرنين بما أرادوا أن يسألوه عنه، كل ذلك قبل أن يسأل، وأخبر بما هو مدفون مع أبي رعان، وأخبر عن أمر السفينة، وأخبر بإسلام أبي الدرداء قبل أن يسلم.
وأخبر بحال الرجل الّذي نحر نفسه، وأشار إلى ما صار إليه أمر ماعز من الرجم، وأخبر رجلا عما قال في نفسه من الشعر، وأخبر أبا شهم بما كان منه، وأخبر عن شاة دعي لأكلها بأنها أخذت بغير إذن أهلها.
وأخبر عن سحابة أمطرت باليمن، وأخبر بوقعة ذي قار في يوم الوقعة، وأخبر بغدر الحطيم، وأخبر بالفتن التي وقعت بعد وفاته، وأخبر بأن اللَّه تعالى يتم أمره ويظهر دينه على الدين كله.
وأخبر بما فتح اللَّه من بعده لأمته من ممالك الأرض، وأخبر بأن القبط يكون، وأن ملك أمته يبلغ ما روى له فيها، فكان ذلك، وبلغ ملكهم لأول المشرق من بلاد السند والترك، إلى آخر بلاد العرب من سواحل البحر المحيط بالأندلس وبلاد البربر، ولم يتسعوا في الجنوب والشمال كل الاتساع كما أخبر سواء.
وأخبر بقيام الخلفاء من بعده، وأخبر بقيام ملوك بعد الخلفاء، وأخبر عن مدة الخلافة ثم يكون ملكا، وأخبر باختيار اللَّه خلافة أبي بكر، وأراه اللَّه في منامه مدة خلافة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما وأشار إلى الفتن الواقعة في زمن عثمان وعلي- رضي اللَّه عنهما- والاختلاف عليهما.
وأخبر عن جماعة من أصحابه أنهم شهداء، وأخبر عن ثابت بن قيس بأنه(4/405)
شهيد، وأنذر بما كان من الردة بعده، وبسوء عاقبة الرجال، وأجيبت دعوته في مجيء ثمامة بن أثال، وأدركت لعنته الأربعة وأختهم، وأنذر بقتال أصحابه بعضهم بعضا.
وأخبر فاطمة الزهراء رضي اللَّه عنها أنها أول أهل بيته لحوقا به، وأن اللَّه تعالى يبر قسم البراء بن مالك، وأن عمر بن الخطاب من المحدثين، وأن أول نسائه لحوقا به أطولهن يدا، وأخبر عن أويس بن القرني، وعن صلة بن أشيم، وأخبر على بن أبي طالب بولادة غلام له يسميه محمدا.
وأخبر أم ورقة بأنها تدرك الشهادة، وأنذر بالطاعون الّذي وقع بعده، وأنذر بفتنة تموج موج البحر، وأنذر عثمان بما أصابه من البلاء، وأنذر بأن أقواما يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصدق اللَّه مقالته أن [أدخل] [ (1) ] عقبة بن أبي معيط النار، وأنذر بما وقع من الفتن من بعده، وأن بعض نسائه تنبحها كلاب الحوأب، وأن الزبير بن العوام يقاتل على بن أبي طالب.
وأخبر زيد بن صوحان أنه يموت شهيدا، وأنذر بوقعة صفين، وأن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية، وأنذر بالحكمين الذين حكما بين على ومعاوية، وأخبر عن الخوارج وقتال على لهم، وأخبر أن علي بن أبي طالب يقتل، وأنه يمحى اسمه، وأن الحسن بن علي سيد، وأن اللَّه يصلح به بين فئتين عظيمتين.
وأخبر بتملك معاوية بن أبي سفيان، وأن ميمونة تموت بغير مكة، وأن أم حرام بنت ملحان تركب البحر للغزاة في سبيل اللَّه، وأخبر أن رجلا يتكلم بعد موته، وأن نفرا من المسلمين يقتلون بعذراء من أرض الشام.
وأخبر عمرو بن الحمق بمن يقتله، وأخبر كيف يموت سمرة بن جندب، وأن عبد اللَّه بن سلام يموت على الإسلام ولا يستشهد، وأن رافع بن جريج يستشهد، وأن هلاك أمته على يد أغيلمة من قريش، وأن قيس بن خرشة لا يضره بشر، وأن الحسين بن علي رضي اللَّه عنه يقتل، وأنذر بقتل أهل الحرة، وبتحريق
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(4/406)
الكعبة، وذهاب بصر عبد اللَّه بن سلام، وعمى زيد بن أرقم.
وأخبر بالكذابين من بعده، وربما يلقي عبد اللَّه بن الزبير وما يصيب الناس منه، وبخروج الحجاج بن يوسف- وهو المبيرة- وأن معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين، وأن الشر يقع بعد الخير الّذي جاء به.
وأخبر بما يكون من أحداث يزيد بن معاوية، وبتملك بني أمية، وبسوء سيرة الوليد، وأشار إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، وأخبر بوهب بن منبه، وبغيلان القدري، ومحمد بن كعب القرظي، وبانخرام القرن الّذي كان هو فيه على رأس مائة سنة، وصدق اللَّه قوله في تعيين عمر إنسان وهلاك آخر.
وأخبر بتملك بني العباس على الناس وبما نزل بأهل بيته من البلاء، وبقيام اثنى عشر خليفة، وبظهور الجور والمنكرات، وأن قريشا يسلط عليهم من ينزع الملك منهم بذنوبهم.
وأخبر باتساع الدنيا على أمته، وتنافسهم فيها، وتقاتلهم عليها، وبوقوع ما بين أمته بينهم، وأن السيف إذا وقع فيهم لا يرتفع عنهم، وبظهور المعاون، وأخبر بمجيء قوم بأيديهم سياط يضربون بها الناس، وبنساء كاسيات عاريات، وأشار إلى أن بغداد تبني مدينة، وأخبر عن البصرة.
وأخبر بما يكون من الفجور وتناول الحرام، والتسرع إلى القتل، وعن قوم يؤمنون به ولم يروه، وأن أقصى أماني أمته من بعده أن تراه، وبتبليغ الصحابة ما سمعوا منه من يأتيهم بعده، وتفقههم في الدين، وأنذر بظهور الاختلاف في أمته، وأنها تتبع طرائق الأمم من قبلها، وأن العلم يذهب ويظهر الجهل، وأن أهل الزيغ يتبعون ما تشابه من القرآن وتظهر الروافض والقدرية، وأن يكذب عليه، وأن الناس يتغيرون بعد اتباع القرون، وأن طائفة من الأمة لا تزال متمسكة بالدين، وأن الأنصار يرون بعده أثره.
وأخبر بخروج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، وأن أحجار الزيت بالمدينة تغرق من الدم، وأخبر بما يكون بعده من الخسف، وأن الأمر(4/407)
يوسد إلى غير أهله، وأن الإسلام يعود غريبا كما بدأ، وأن التّرك تتغلب على أهل الإسلام.
فما أخبر بشيء من ذلك إلا وقع كما أخبر صلّى اللَّه عليه وسلم، وهذه أشياء لا تعرف البتة بشيء ووجوه تقدمة المعرفة، لا بنجوم، ولا بكيف، ولا بخط، ولا بزجر تم بحمد اللَّه تعالى وحسن توفيقه الجزء الرابع من إمتاع الأسماع للمقريزي
ويليه بمشيئة اللَّه الجزء الخامس وأوله:
[فصل جامع في معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على سبيل التفصيل](4/408)
[المجلد الخامس]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فصل جامع في معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على سبيل التفصيل
[ (1) ]
أولا: إبطال الكهانة
[ (1) ]] فأما إبطال اللَّه تعالى الكهانة بمبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى انقطعت بعد ما كانت ظاهرة موجودة، قال ابن سيده: كهن له يكهن، وكهن كهانة، وتكهن تكهينا وتكهّنا: قضى له بالغيب، ورجل كاهن من قوم كهنة وكهان، وحرفته الكهانة.
واعلم أن الكهانة من خواص النفس الإنسانية، وذلك أن للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها، وأعلا هذا الانسلاخ صنف الأنبياء، فإنّهم فطروا على ذلك، فيحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك، ولا من التصورات، ولا من الأفعال البدنية، ولا بأمر من الأمور، إنما هو انسلاخ من البشرية إلى [الملائكية] [ (2) ] بالفطرة الإلهية في لحظة أقرب من لمح البصر، فاقتضت القسمة العقلية حركتها الفكرية بالإرادة، عند ما يتبعها النزوع لذلك، وهي ناقصة عن إدراك الأنبياء بالجبلة، وعند ما يعوقها العجز عن ذلك، فإنّها تتشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة تنظر فيها، كالأجسام الشفافة، وعظام الحيوان، وتتكلم بالسجع، أو ترى ما ينسلخ من طير أو حيوان، فلا تزال تستعين بذلك في الانسلاخ الّذي تقصده، فيكون كالمشيع له..، وهذه القوة التي في هذا الصنف مبدأ لذلك الإرادي، هي الكهانة.
ولما كانت هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال، كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات، وصارت متشبثة بها، غافلة عن الكليات، ولذلك تكون القوة المتخيلة فيهم في غاية القوة، لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذا
__________
[ (1) ] هذه العناوين ليست في (خ) .
[ (2) ] زيادة للسياق.(5/3)
تاما، إما في النوم أو في اليقظة، وتكون عندها أبدا حاضرة تحضرها المتخيلة حضورا يكون لها كالمرآة ينظر فيها دائما، ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات، لأن ما يوحى إليه من الشياطين.
وأرفع أحوال الكهان من يستعين بالكلام المسجوع الموزون، ليشتغل به عن الحواس، ويقوى على ذلك الاتصال الناقص، فيهجس في قلبه عن تلك الحركة، والّذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه، فربما صدق ووافق الحق، وربما كذب، لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة، ومباين لها غير ملائم، فيعرض له الصدق والكذب جميعا، ويكون غير موثوق به جميعا، وربما فزع إلى الظنون والتخمينات، حرصا منه على الظفر بالإدراك، وتمويها على السائلين له.
وأصحاب السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات، فإن خفة المعين تدل على قرب ذلك الاتصال والإدراك، كما أن البعد فيه عجز ما، وإذا تقرر ذلك فنقول: قال اللَّه جل جلاله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً* وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً* وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً* وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً* وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً* وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [ (1) ] .
[ومعنى] هذه الآيات: قل يا محمد لأمتك: أوحى اللَّه إليّ على لسان جبريل، أنه استمع إليّ نفر من الجن- والنفر: الرهط كالحليل ما بين ثلاثة إلى عشرة- فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، أي في فصاحته، وقيل عجبا في بلاغة مواعظه، وقيل: عجبا في عظيم بركته، وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله، يهدي
__________
[ (1) ] الجن: 1- 10.(5/4)
إلى الرشد، أي إلى مراشد الأمور، وقيل: إلى معرفة اللَّه، فآمنا به أي فاهتدينا به، وصدقنا أنه الّذي من عند اللَّه، ولن نشرك بربنا أحدا، أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه، لأنه الّذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر [لما] [ (1) ] رمى الجن بالشهب.
وقيل: لا نتخذ مع اللَّه إلها آخر لأنه المنفرد بالربوبية، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، أي عظمته وجلاله. قاله عكرمة ومجاهد وقتادة، وعن مجاهد أيضا ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا عنهم. وقال أبو عبيد: أي ذي الغناء منك الغنى. وقال ابن عباس: قدرته. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيد والأخفش: ملكه وسلطانه. وقال السّدي: أمره. وقال سعيد بن جبير: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي تعالى ربنا. وقيل غير ذلك.
ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة أو ولدا للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، فإن الرب يتعالى عن ذلك، كما يتعالى عن الأنداد والنظراء وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي إبليس. قاله مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة ابن أبي موسى عن [أبيه] [ (1) ] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقيل: سفيهنا: المشركون من الجن، والشّطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقيل: الجور. وقيل: هو الكذب وَأَنَّا ظَنَنَّا أي حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على اللَّه كذبا، فلذلك صدقناهم أن للَّه صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ أي أن [الرجل] [ (1) ] كان إذا نزل بواد قال:
أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، وكان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء اللَّه بالإسلام تعوذوا باللَّه وتركوهم، فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي إثما، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث اللَّه رسولا إلى خلقه، يقيم به الحجة عليهم، وكان هذا هو توكيد الحجة على قريش، أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد فأنتم أحق بذلك، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا، فوجدناها قد ملئت حرسا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(5/5)
شديدا أي حفظة، يعني الملائكة، وشهبا جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع، وشديدا: من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أي من السماء، مقاعد أي مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة، فحرسها اللَّه حين بعث رسوله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، يعني بالشهاب: الكوكب المحرق.
وقيل لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو آية من آياته، وأنه كان من مبعثه أن رأت قريش النجوم يرمى بها في السماع عشرين يوما، وقد اختلف السلف: هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث؟ أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟ وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إنذارا بحاله، وهو معنى قوله تعالى: [مُلِئَتْ] [ (1) ] أي زيد في حرسها، وهو قول الأكثرين، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي هذا الحرس الّذي حرست به لشر أريد بأهل الأرض أم أراد بهذا ربهم بهم رشدا؟
أي خيرا.
أخرج البخاري في التفسير من حديث سفيان، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة رضي اللَّه عنه قال: إن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا قضى اللَّه الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه [ (2) ] فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال يوم كذا وكذا وكذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] في (خ) : «بعضهم» .(5/6)
التي سمع [ (1) ] من السماء [ (2) ] .
وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [ (3) ] وقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [ (4) ] ، وقال: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ* وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [ (5) ] .
وخرج عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه! إن الكهان قد كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده [ (6) ] حقا، قال: تلك الكلمة الحق [ (7) ] يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد [ (8) ] فيها أكثر من مائة كذبة. خرجه مسلم [ (9) ] عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، وخرجه البخاري [ (10) ] من وجه آخر عن معمر.
وقال الأوزاعي: حدثني ابن شهاب عن علي بن حسين، عن عباس رضي اللَّه عنه قال: حدثني رجال من الأنصار أنهم بيناهم جلوس مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما كنتم تقولون في الجاهلية إذ
__________
[ (1) ] (خ) : «سمعت» .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 689- 690، كتاب التفسير، باب (1) حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، حديث رقم (4800) .
[ (3) ] الصافات: 6- 10.
[ (4) ] الملك: 5.
[ (5) ] الحجر: 16- 18.
[ (6) ] (خ) : «فيكون» وهي رواية البخاري.
[ (7) ] (خ) : «من الحق» وهي رواية البخاري.
[ (8) ] في (خ) : «فيزيد» وهي رواية البخاري.
[ (9) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 475، كتاب السلام، باب (35) تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2228) .
[ (10) ] (فتح الباري) : 10/ 266، كتاب الطب، باب (46) الكهانة، حديث رقم (5762) .(5/7)
رمي بمثل هذا؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات الليلة رجل عظيم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فإنّها [ (1) ] لا يرمي بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا عز وجل [ (2) ] إذا قضى أمرا سبحت [ (3) ] حملة العرش، ثم سبحت [ (3) ] أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا، ثم يقول الذين يلون حملة العرش [لحملة العرش:] [ (4) ] ماذا قال ربكم، [فيخبرونهم ماذا قال] [ (4) ] فيستخبر أهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، فيخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو الحق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون.
وفي رواية يونس بن يزيد عن الزهري: ولكنهم يرقون فيه ويزيدون. أخرجه مسلم من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي [ (5) ] .
ورواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين عن علي، عن عبد اللَّه بن عباس عن نفر من الأنصار، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لهم: ما كنتم تقولون في هذا النجم الّذي يرمي به؟ قالوا: يا رسول اللَّه كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك ملّك ملك، ولد مولود مات مولود، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليس ذلك لذلك، ولكن اللَّه تبارك وتعالى، كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، ولا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا.
ثم يقول بعضهم لبعض: مم سبحتهم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك حتى
__________
[ (1) ] في (خ) : «فإنّه» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (مسلم) : «ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (مسلم) : «سبّح» .
[ (4) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 476- 477، كتاب السلام، باب (35) تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2229) وأخرجه الترمذي في صحيحه، في تفسير سورة سبإ، والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 360، حديث رقم (1886) .(5/8)
ينتهوا إلى حملة العرش، فيقولون لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى اللَّه في خلقه كذا وكذا- للأمر الّذي كان- فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثوا به فيسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثوهم فيخطئوا ويصيبوا، فيتحدث به الكهان فيصيبوا بعضا ويخطئوا بعضا، ثم إن اللَّه حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقطعت الكهانة اليوم ولا كهانة [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن أبي جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن ابن لبينة، عن علي بن الحسين، بمثل حديث شهاب عنه، وقد روى هذا الحديث [عبد] الرزاق عن معمر عن الزهري وقال في آخره: قال: فقلت للزهري:
أو كان يرمى به في الجاهلية؟ فقال: نعم، قلت: يقول اللَّه تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، قال: غلّظت واشتد أمرها حين بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال البيهقي: وهذا يوافق ظاهر الكتاب لأنه قال خبرا عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، فأخبرت الجن أنه زيد في حراس السماء وشهبها، حتى امتلأت منها، وفي ذلك دليل على أنه كان قبل ذلك فيها حراس وشهب معدة معهم، والشهاب في (لسان العرب) [ (2) ] النار المتوقدة.
ثم ذكر الحديث البخاري ومسلم والترمذي، من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على الجن ولا رآهم [ (3) ] ، انطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 235- 236، باب بيان الوجه الّذي كان يخرج قول الكهان عليه حقا، ثم بيان أن ذلك انقطع بظهور نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أو انقطع أكثره.
[ (2) ] (لسان العرب) : 1/ 510.
[ (3) ] قال النووي: لكن ابن مسعود أثبت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قرأ على الجن: فكأن ذلك كان مقدما على نفي ابن عباس، وقد أشار إلى ذلك مسلم، فأخرج في (الصحيح) في كتاب الصلاة، حديث رقم (450) عقب حديث ابن عباس
هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بالتعدد. قال العلماء هما قضيتان، وحديث ابن عباس في أول الأمر، وأول النبوة، ثم أتوا وسمعوا قُلْ أُوحِيَ.(5/9)