ناصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخالد بن الوليد، وحديث أبي بكر في أمر خالد
وكلمه خالد بن الوليد في ناصيته حين حلق، فدفعها إليه، فكان يجعلها في مقدّم قلنسوته [ (1) ] . فلا يلقى جمعا إلا فضّه.. وكان أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه يقول: كنت انظر إلى خالد بن الوليد وما نلقى منه في أحد، وفي الخندق، وفي الحديبيّة، وفي كل موطن لاقانا، ثم نظرت إليه يوم النحر يقدّم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدنة وهي تعتب في العقل [ (2) ] ، ثم نظرت إليه ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحلق رأسه وهو يقول: يا رسول اللَّه! ناصيتك! لا تؤثر عليّ بها أحدا [ (3) ] ! فداك أبي وأميّ! فأنظر إليه أخذ ناصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكان يضعها على عينيه وفيه.
تفريق شعره صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الناس
وفرق صلّى اللَّه عليه وسلّم شعره في النّاس. ولما حلق رأسه، أخذ من شاربه وعارضيه، وقلم أظافره، وأمر بشعره وأظفاره أن يدفنا.
المحلقون والمقصرون
وقصّر قوم وحلّق آخرون فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين! ثلاثا، كلّ ذلك يقال: والمقصرين يا رسول اللَّه! فقال: والمقصرين في الرابعة.
وأصاب الطيب بعد أن حلق، ولبس القميص. وجلس الناس، فما سئل يومئذ عن شيء قدّم أو أخر [ (4) ] إلا قال: افعله ولا حرج.
النهي عن الصيام أيام منى
وبعث عبد اللَّه بن حذافة السهمي- وقيل كعب بن مالك- ينادي في الناس بمنى:
إن رسول اللَّه قال: إنها أيام أكل وشرب وذكر اللَّه.
فانتهى المسلمون عن صيامهم، إلا محصر [ (5) ] أو متمتع بالعمرة إلى الحج. فإن الرخصة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يصوموا أيام منى.
__________
[ (1) ] وفي (الواقدي) «كان يضعها على عينيه وفيه» .
[ (2) ] أي تمشي على ثلاث.
[ (3) ] في (خ) «أحد» .
[ (4) ] أي مناسك الحج على مراتبها.
[ (5) ] من الإحصار وهو الحبس.(2/116)
الإفاضة يوم النحر إلى مكة
وأفاض صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم النحر وأردف معاوية بن أبي سفيان من منى إلى مكة واختلف أين صلّى الظهر يومئذ؟ ويقال أفاض من نسائه مساء يوم النحر، وأمر أصحابه فأفاضوا بالنهار.
الشرب من زمزم
وأتى زمزم فأمر بدلو فنزع، فشرب منه وصبّ على رأسه وقال: لولا أن تغلبوا عليها يا ولد عبد المطلب لنزعت منها.
ويقال: إنه نزع دلوا لنفسه.
رمي الجمرات
وكان يرمي الجمار حين تزيغ الشمس قبل الصلاة ماشيا- ذاهبا وراجعا- في اليومين، ورمي يوم الصدر حين زاغت الشمس قبل الصلاة، وكان إذا رمي الجمرتين علاهما، ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي وكان يقف عند الجمرة الأولى أكثر مما يقف عند الثانية، ولا يقف عند الثالثة، فإذا رماها انصرف. وكان إذا رمي الجمرتين وقف عندهما ورفع يديه، ولا يفعل ذلك في رمي العقبة، فإذا رماها انصرف.
النهي عن المبيت بسوى منى
ونهى أن يبيت أحد ليالي منى بسوى منى، ورخص للرعاء أن يبعدوا عن منى.
ومن جاء منهم فرمي بالليل. رخص له في ذلك. وقال ارموا بمثل حصى الحذف.
وكان أزواجه يرمين مع الليل.
عدة الخطب في حجة الوداع
وخطب في حجته ثلاث خطب: الأولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة، والثانية يوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والثالثة يوم النحر بمنى بعد الظهر على راحلته القصواء، وقيل: بل خطب الثانية ثاني يوم النّحر.
وقال المحبّ الطبري: دلت الأحاديث على أنّ الخطب في الحج خمس، خطبة(2/117)
يوم السابع من ذي الحجّة وخطبة يوم عرفة، وخطبة يوم النحر، وخطبة القرّ [ (1) ] وخطبة يوم النفر الأول [ (2) ] ، قال الواقدي: فقال- يعنى في خطبة يوم النّحر بمنى-:
خطبة يوم النحر بمنى
أيها الناس، اسمعوا من قولي واعقلوه، فإنّي لا أدري: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا! أيها الناس! أيّ شهر هذا؟ فسكتوا، فقال: هذا شهر حرام، وأي باد هذا؟ فسكتوا، فقال: بلد حرام، وأي [ (3) ] يوم هذا؟ فسكتوا، قال: يوم حرام، ثم قال: إن اللَّه قد حرّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، في يومكم هذا إلى أن تلقوا ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد، ثم قال: إنكم سوف تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت؟ قال الناس: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، ألا وإنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، [ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى اللَّه أنه ربا، وإن ربا عبّاس بن عبد المطلب موضوع كله] [ (4) ] وأوّل دمائكم أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث-[كان مسترضعا في بني سعد بن ليث فقتلته هذيل]-، ألا هل بلغت؟ قالوا: اللَّهمّ نعم، قال: اللَّهمّ اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا ما أعطي عن طيب نفس.
__________
[ (1) ] يوم القر: الغد من يوم النحر.
[ (2) ] أيام الحج: اليوم السادس من ذي الحجة: يوم الزينة.
اليوم السابع من ذي الحجة: يوم التروية.
اليوم الثامن من ذي الحجة: يوم منى.
اليوم التاسع من ذي الحجة: يوم عرفة.
اليوم العاشر من ذي الحجة: يوم الأضحى يوم الحج الأكبر.
أيام التشريق: اليوم الحادي عشر من ذي الحجة يوم القر.
اليوم الثاني عشر من ذي الحجة يوم النفر الأول.
اليوم الثالث عشر من ذي الحجة يوم النفر الآخر.
[ (3) ] في (خ) «أي» بغير واو قبلها، وهي رواية الواقدي.
[ (4) ] ما بين القوسين تمام الخطبة من (ابن هشام) ج 4 ص 185.(2/118)
فقال عمرو بن يثربي: يا رسول اللَّه، أرأيت إن لقيت غنم ابن عمّي، أجتزر [ (1) ] منها شاة؟ فقال: إن لقيتها [نعجة] [ (2) ] تحمل شفرة [وأزنادا] [ (2) ] بحبت الجميش [ (3) ] فلا تهجها! ثم قال أيها الناس: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [ (4) ] ، [ويحرموا ما أحلّ اللَّه] [ (5) ] ، ألا وإن الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض، إن عدة الشهور عند اللَّه اثنا [ (6) ] عشر شهرا في كتاب اللَّه منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب الّذي يدعى شهر مضر: الّذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون «ألا هل بلّغت؟ فقال الناس: نعم، فقال: اللَّهمّ اشهد» .
ثم قال: أيها الناس، إن للنساء عليكم حقا وإن لكم عليهنّ حقا: فعليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم، فإن فعلن فإن اللَّه قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع [ (7) ] ، وأن تضربوهن ضربا غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عندكم عوان [ (8) ] ، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنما أخذتموهنّ بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللَّه، فاتقوا اللَّه في النساء واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت؟
قال الناس: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه [من أعمالكم] [ (9) ] . إن كلّ مسلم أخو المسلم، وإنما المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم دم أخيه ولا ماله إلا بطيب
__________
[ (1) ] في (خ) «أجزر» ، وما أثبتناه من (مسند أحمد) ج 5 ص 113.
[ (2) ] زيادات من كتب السيرة.
[ (3) ] علم الصحراء بين مكة والمدينة (معجم البلدان) ج 2 ص 343.
[ (4) ] من الآية 37/ التوبة، وفي (خ) إلى قوله تعالى لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ.
[ (5) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4.
[ (6) ] في (خ) «اثنى عشر» .
[ (7) ] في (خ) «بالمضاجع» .
[ (8) ] العواني: جمع «عانية» وهي الأسيرة.
[ (9) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4، كان مكانها في (خ) «فقد رضي به» .(2/119)
نفس منه، وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على اللَّه، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. إني قد تركت فيكم ما لا تضلون به: كتاب اللَّه. ألا هل بلغت؟ قال الناس: نعم، قال: اللَّهمّ اشهد.
يوم الصدر
ثم انصرف إلى منزله، وصلّى الظهر والعصر يوم الصدر بالأبطح. قالت عائشة رضي اللَّه عنها: إنما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمحصب لأنه كان أسمح [ (1) ] لخروجه.
خبر صفية وعائشة
وذكر صفية بنت حييّ رضي اللَّه عنها، فقيل له: حاضت! فقال: أحابستنا هي؟ فقيل: يا رسول اللَّه، إنها قد. فاضت، قال: فلا إذن،
فلما جاءت عائشة رضي اللَّه عنها من التنعيم وقضت عمرتها، أمر بالرحيل. ومرّ بالبيت فطاف به قبل الصبح.
الرجوع إلى المدينة ومدة إقامة المهاجر بمكة
ثم انصرف راجعا إلى المدينة. وقال إنما هي ثلاث يقيم بها [ (2) ] المهاجر بعد الصدر.
وسأل سائل أن يقيم بمكة، فلم يرخص له أن يقيم إلا ثلاثة أيام، وقال:
إنها ليست بدار مكث ولا إقامة.
عيادة سعد بن أبي وقاص
وجاء سعد بن أبي وقاص بعد حجه يعوده من وجع أصابه. فقال: يا رسول اللَّه، قد بلغ بي ما ترى من الوجع [ (3) ] ، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، فأتصدق بثلث [ (4) ] مالي؟ قال: لا! قال: فالشطر؟ قال: لا! [قال:
__________
[ (1) ] أسمع لخروجه: أسهل لخروجه من مكة إلى المدينة.
[ (2) ] أي بمكة.
[ (3) ] بلغ به: أي بلغ به المرض كل مبلغ.
[ (4) ] في (خ) «بثلث» .(2/120)
فالثلث؟] [ (1) ] قال الثلث، والثلث كثير، إنك إن تترك [ (2) ] ورثتك أغنياء خير [ (3) ] من أن تتركهم عالة يتكففون [الناس] [ (4) ] ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في امرأتك! فقال: يا رسول اللَّه، أخلف بعد أصحابي؟ فقال: إنك إن تخلف فتعمل صالحا تزدد خيرا ورفعة، ولعلك إن تخلف ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون. اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم.
موت سعد بن خولة بمكة
لكن البائس سعد بن خولة! يرثي له أن مات بمكة، [وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يكره لمن هاجر أن يرجع إليها، أو يقيم بها أكثر من انقضاء نسكه] [ (5) ] .
وخلّف علي سعد بن أبي وقاص رجلا، وقال: إن مات سعد بمكة فلا تدفنه بها يكره [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (6) ] أن يموت الرجل في الأرض التي هاجر منها.
وداع البيت الحرام
ولما ودّع صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت وكان في الشّوط السّابع، خلّف البيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من باب الحزورة [ (7) ] .
وكان إذا قف من حجّ أو عمرة أو غزوة، فأوفى على ثنية أو فدفد كبّر ثلاثا ثم قال. لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. آئبون تائبون ساجدون عابدون، لربّنا حامدون، صدق اللَّه وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده [ (8) ] ، اللَّهمّ إنا نعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (2) ] في (خ) «إنك أنت تترك» .
[ (3) ] في (خ) «خيرا» .
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (5) ] زيادة لتمام الخبر من (ابن سعد) .
[ (6) ] زيادة للبيان.
[ (7) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «خلف البيت» بمعنى الباب وهو كلام مضطرب، وفي (عيون الأثر) ج 2 ص 280 «ثم خرج من كدي أسفل مكة من الثنية السفلى» .
[ (8) ] في (خ) «بعده» .(2/121)
الأهل والمال، اللَّهمّ بلّغنا بلاغا صالحا يبلغ إلى خير، مغفرة منك ورضوانا.
النزول بالمعرس والنهي عن طروق النساء ليلا
ولما نزل بالمعرّس [ (1) ] ، نهي أن يطرقوا النساء ليلا، فطرق رجلان أهليهما، فكلاهما وجد ما يكره.
وأناخ بالبطحاء، وكان إذا خرج إلى الحج سلك على الشجرة [ (2) ] ، وإذا رجع من مكة دخل المدينة من معرّس الأبطح، فكان في معرّسه في بطن الوادي، وكان فيه عامة الليل، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة.
إسلام جرير بن عبد اللَّه البجلي
وفي هذه السنة- وهي العاشرة- قدم جرير بن عبد اللَّه جابر- وهو الشّليل [ (3) ]- بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم بن عويف [ (4) ] بن خزيمة [ (5) ] ابن حرب بن علي [ (6) ] بن مالك بن سعد بن نذير [ (7) ] بن نسر [ (8) ]- وهو مالك- ابن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث البجليّ [ (9) ]- مسلما في شهر رمضان.
إسلام فيروز وباذان بن منبه، ووفد النخع
وفيها أسلم فيروز من الأبناء [ (10) ] ، وباذان، ووهب بن منبّه، باليمن. وللنصف من محرم سنة إحدى عشرة، قدم وفد النّخع- وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحارث بن عداء، وكان نصرانيا.
__________
[ (1) ] المعرس: هو مسجد ذي الحليفة.
[ (2) ] هي الشجرة التي ولدت عندها أسماء بنت محمد بن أبي بكر الصديق (رضي اللَّه عنه) .
[ (3) ] في (خ) «جابر بن السليل» .
[ (4) ] في الإصابة «عوف» .
[ (5) ] في (خ) «خزيمة» .
[ (6) ] في (خ) «عدي» .
[ (7) ] في (خ) «زيد»
[ (8) ] في (خ) «تس» .
[ (9) ] البجلي: نسبة إلى «بجيلة» وهي أم ولد أنمار بن إراش وإليها ينسبون.
[ (10) ] الأبناء: هم قوم من أبناء فارس باليمن.(2/122)
بعث أسامة بن زيد إلى أبني «غزو الروم»
ثم كان بعث أسامة بن زيد إلى أهل أبني [ (1) ] بالشّرارة [ (2) ] ناحية بالبلقاء، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقام- بعد حجته- بالمدينة بقيّة ذي الحجة والمحرّم، وما زال يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي اللَّه عنهم، ووجد عليهم وجدا شديدا. فلما كان يوم الاثنين- لأربع بقين من صفر سنة إحدى عشر [من مهاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] ، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالتّهيّؤ لغزو الرّوم، وأمرهم بالجدّ.
أمر أسامة بالغزو وتأميره
ثم دعا من الغد- يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر- أسامة بن زيد
فقال:
يا أسامة، سر على اسم اللَّه وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحا على أهل أبني [ (1) ] وحرّق عليهم! وأسرع السّير تسبق الخبر، فإن أظفرك اللَّه فأقلل اللبث [ (4) ] فيهم وخذ معك الأدلاء، وقدّم العيون أمامك والطلائع.
ابتداء مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووصيته لأسامة
فلما كان يوم الأربعاء- لليلتين بقيتا من صفر- ابتدأ مرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصدّع [ (5) ] وحمّ. وعقد يوم الخميس لأسامة لواء بيده.
وقال: يا أسامة! أغز باسم اللَّه في سبيل اللَّه، فقاتلوا من كفر باللَّه [ (6) ] . اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا تمنّوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللَّهمّ اكفناهم: واكفف بأسهم عنّا، فإن لقوكم قد أجلبوا وصيحوا فعليكم بالسكينة والصّمت، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وقولوا اللَّهمّ إنا عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تغلبهم أنت! واعلموا أن الجنة تحت البارقة [ (7) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «أبناء» .
[ (2) ] في (خ) «بالشراة» .
[ (3) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2.
[ (4) ] في (خ) «الليث» .
[ (5) ] صدع: (بالبناء للمجهول والتشديد) أصابه الصداع، وهو وجع الرأس.
[ (6) ] في (ابن سعد) «فقاتل من كفر باللَّه» .
[ (7) ] البارقة: السيوف.(2/123)
خروج أسامة وجيشه
فخرج أسامة فدفع لواءه إلى بريدة بن الحصيب، فخرج به إلى بيت أسامة، وعسكر بالجرف، وخرج الناس ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين [والأنصار] [ (1) ] إلا انتدب [ (2) ] في تلك الغزوة، كعمر بن الخطاب [ (3) ] ، وأبي عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي الأعور سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل رضي اللَّه عنهم، في رجال آخرين، ومن الأنصار عدة مثل، قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم ابن جريش.
طعن رجال من المهاجرين في تأمير أسامة
فقال رجال من المهاجرين- وكان أشدّهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة-:
يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين؟! فكثرت القالة، وسمع عمر رضي اللَّه عنه بعض ذلك فردّه على من تكلم، وأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم به فغضب غضبا شديدا! وخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، ثم صعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمر أسامة رضي اللَّه عنه
أما بعد أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟! واللَّه لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله! وأيم اللَّه. إن كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإنهما لمخيلان [ (4) ] لكل خير، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم.
توديع الغزاة
ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول. وجاء
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (2) ] انتدب: أسرع في النهوض إليها.
[ (3) ] ذكر (ابن سعد) «أبا بكر الصديق» قبل «عمر بن الخطاب» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، و (الواقدي) ، وفي (خ) «لمجبلان» .(2/124)
المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيهم عمر رضي اللَّه عنه.
الأمر بإنفاذ بعث أسامة
فقال: أنفذوا بعث أسامة.
ودخلت أم أيمن رضي اللَّه عنها فقالت يا رسول اللَّه لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل، فإن أسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه،
فقال أنفذوا بعث أسامة.
دخول أسامة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعاؤه له
فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد، ونزل أسامة يوم الأحد- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثقيل مغمور [ (1) ] ، وهو اليوم الّذي لدّوه فيه [ (2) ] ، - فدخل عليه وعيناه تهملان [ (3) ]- وعنده العباس، والنساء حوله- فطأطأ عليه أسامة فقبله، وهو [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] لا يتكلم، إلا أنه يرفع يده إلى السماء ثم يصبّها على أسامة، كأنه يدعو له. فرجع أسامة إلى معسكره. وغدا منه يوم الاثنين،
فأصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مفيقا، وجاءه أسامة، فقال: أغد على بركة اللَّه، فودعه أسامة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مفيق.
خروج أبي بكر إلى السنح
ودخل أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه، أصبحت مفيقا بحمد اللَّه واليوم يوم ابنة خارجة [ (5) ] فأذن [لي] [ (6) ] فأذن له، فذهب إلى السّنح [ (7) ] .
خروج الجيش
وركب أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه: اللحوق بالعسكر، فانتهى إلى
__________
[ (1) ] مغمور: مغمى عليه.
[ (2) ] لدوه: أعطوه الدواء، واللدود: ما يصب بالسعط من الدواء في أحد شقي الفم (ترتيب القاموس) ج 4 ص 135.
[ (3) ] تسيل دمعهما.
[ (4) ] زيادة.
[ (5) ] في (خ) «ابنه خارجة» ، وهي زوج أبي بكر الصديق والدة أم كلثوم بنت أبي بكر.
[ (6) ] زيادة للسياق.
[ (7) ] السنح: إحدى محال المدينة من أطرافها وكان بها منزل أبي بكر.(2/125)
معسكره فنزل، وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار.
إبلاغ خبر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لجيش أسامة
فبينا هو يريد أن يركب من الجرف، أتاه رسول أمّه- أم أيمن- يخبره أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يموت فأقبل إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي اللَّه عنهما، فانتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يموت: فتوفي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول.
يوم وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقال السهيليّ: لا يصلح أن تكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثاني الشهر، أو ثالث عشرة، أو رابع عشره، (أو خامس عشره) [ (1) ] . وذكر الكلبي وأبو مخنف أنه توفي في الثاني من ربيع [ (2) ] . وقد صححه ابن حزم وغيره. وقال الخوارزمي:
توفي أول ربيع.
رجوع الغزاة إلى المدينة
ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة ابن الحصيب باللواء فغرزه معقودا عند باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما بويع أبو بكر رضي اللَّه عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، وألا يحمله أبدا حتى يغزوهم أسامة.
أمر أبي بكر بتوجيه الغزو
وقال [أبو بكر] لأسامة: أنفذ في وجهك الّذي وجهك فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذ الناس بالخروج فعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بريدة باللواء، ومشى أبو بكر رضي اللَّه عنه إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك عمر رضي اللَّه عنه، ففعل وخرج فنادى مناديه: عزمة منى ألّا يتخلف عن أسامة من بعثه أحد ممن انتدب معه في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنّي لن أوتي بأحد بطّأ عن الخروج إلا
__________
[ (1) ] زيادة من (الروض الأنف) .
[ (2) ] في (خ) «في ثامن ربيع» وما أثبتناه من (الروض الأنف) .(2/126)
ألحقته به ماشيا. فلم يتخلّف عن البعث أحد.
تشييع أبي بكر أسامة
ثم خرج أبو بكر رضي اللَّه عنه يشيّع أسامة فركب من الجرف لهلال ربيع الآخر في ثلاثة آلاف فيهم ألف فرس وسار أبو بكر رضي اللَّه عنه إلى جنبه ساعة وقال: أستودع اللَّه دينك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] يوصيك، فأنفذ لأمر رسول اللَّه، فأني لست آمرك ولا أنهاك عنه، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
غزو أسامة
فحرج سريعا فوطئ بلادا هادئة لم يرجعوا عن الإسلام- جهينة وغيرها من قضاعة- حتى نزل وادي القرى، فقدّم عينا له من بني عذرة يدعى حريثا، فانتهى إلى أبنى [ (2) ] ، ثم عاد فلقى أسامة على ليلتين من أبني فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم، وحثّه على سرعة السّير قبل اجتماعهم، فسار إلى أبني وعبأ أصحابه، ثم دفع عليهم الغارة فقتل وسبى، وحرّق بالنار منازلهم وحرثهم ونخلهم، ورحل مساء حتى قدم المدينة، وقد غاب خمسة وثلاثين يوما وقيل: قدم لشهرين وأيام.
خبر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونعيه إلى نفسه
وكان من خبر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن اللَّه تعالى أنذره بموته حين أنزل عليه:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (3) ] ، فقال نعيت إلى نفسي! فحج حجّة الوداع.
عرض القرآن في رمضان
وكان جبريل ينزل عليه في كل سنة مرّة، وفي شهر رمضان، فيعرض عليه القرآن مرة واحدة، وكان يعتكف العشر الأواخر [من رمضان] [ (4) ] .
فلما كان في سنة موته، عرض عليه جبريل القرآن مرتين، فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] : ما أظنّ أجلي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) «ابناه» .
[ (3) ] أول سورة النصر
[ (4) ] زيادة للبيان
[ (5) ] زيادة للبيان.(2/127)
إلا قد حضر! فاعتكف العشر الأواسط [ (1) ] والعشر الأواخر، وكان هذا نذيرا [ (2) ] بموته.
الخروج إلى البقيع والاستغفار لأهله
ثم أمر بالخروج إلى البقيع ليستغفر لأهله والشهداء ويصلى عليهم، وليكون توديعا للأموات قبل الأحياء
فوثب من مضجعه في جوف الليل، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: أين؟ بأبي وأمي! أي رسول اللَّه! قال: أمرت أن استغفر لأهل البقيع.
فخرج ومعه مولاه أبو موهبة- ويقال: أبو مويهبة، ويقال: أبو رافع- حتى جاء البقيع، فاستغفر لهم طويلا، ثم قال: ليهنئكم [ (3) ] ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضها، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شر من الأولى!!
التخيير
ثم قال: يا أبا مويهبة [ (4) ] ! إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة! فقال بأبي وأمي! فخذ خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة! فقال: يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربّي والجنة.
خبر شكوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم انصرف، وذلك ليلة الأربعاء، فأصبح يوم الأربعاء محموما- لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشر- وهو في بيت زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها واشتكى شكوى جديدة حتى قيل: هو مجنوب، يعني ذات الجنب [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «الأوسط» .
[ (2) ] في (خ) «نذير» .
[ (3) ] في (خ) «لينهك» .
[ (4) ] في (خ) «موهبة» .
[ (5) ] ذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي: ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع. وغير الحقيقي: ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات، فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي، إلا أن الوجع في هذا القسم محدود، وفي الحقيقي ناخس (زاد المعاد) ج 4 ص 8.(2/128)
مدة الشكوى
واجتمع إليه نساؤه كلهن، فاشتكى ثلاثة عشر ليلة، وقيل أربعة عشر يوما، وقيل: اثنى عشر [ (1) ] ، بدئ صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة رضي اللَّه عنها.
صفة الشكوى
وأخذته بحّة شديدة مع حمىّ موصّمة [ (2) ] مع صداع، وكان ينفث في علته شيئا يشبه نفث آكل الزبيب. ودخلت عليه أمّ بشر بن البراء بن معرور فقالت:
يا رسول اللَّه! ما وجدت مثل هذه الحمّى التي عليك على أحد! فقال: إنا يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، ما يقول الناس! قالت: يقولون يا رسول اللَّه:
ذات الجنب! فقال: ما كان اللَّه ليسلّطها على رسوله، إنها همزة الشيطان.
أكلة خيبر من الشاة المسمومة
ولكنها من الأكلة التي أكلت أنا وابنك بخيبر من الشاة، وكان يصيبني منها عداد مرة بعد مرّة فكان هذا أوان انقطع أبهري؟ فمات صلّى اللَّه عليه وسلّم شهيدا.
الخروج إلى الصلاة
وكان إذا خفّ عنه ما يجد خرج فصلّى بالناس، وإذا وجد ثقلة قال: مروا الناس فليصلوا.
خبر اللدود
واشتد شكوه حتى غمر من شدّة الوجع، فاجتمع عنده أزواجه، وعمّه العبّاس، وأمّ الفضل بنت الحارث، وأسماء بنت عميس رضي اللَّه عنهم، فتشاوروا في لدّه [ (3) ] حين غمر- وهو مغمور- فلدوه، فوجدوا في جوفه حفلا [ (4) ] ، فلما
__________
[ (1) ] في (خ) «اثنا عشر» .
[ (2) ] في (خ) «معطمة» ، وما أثبتناه من (ط) ، ومعنى حمى موصمة: من قولك: وصمته الحمى توصيما فتوصم، آلمته فتألم (ترتيب القاموس ج 4 ص 621)
[ (3) ] سبق شرح معناه.
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (ط) ولم أجد ذكر هذه الكلمة ولا معناها فيما عندي من كتب السيرة.(2/129)
أفاق قال من فعل هذا؟ هذا عمل نساء جئن من ها هنا! وأشار بيده إلى أرض الحبشة، وكانت أمّ سلمى وأسماء [بنت عميس] [ (1) ] رضي اللَّه عنهما لدّتاه، فقالوا: يا رسول اللَّه، خشينا أن يكون بك ذات الجنب، قال: فبم [ (2) ] لددتموني؟
قالوا: بالعود الهنديّ، وشيء من ورس، وقطرات من زيت فقال: واللَّه ما كان ليعذّبني بذلك الداء [ (3) ] .
أمره ألا يبقى في البيت أحد إلا لدّ
ثم
قال: عزمت عليكم لا يبقى في البيت أحد إلا لدّ،
إلا عم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ]- فجعل بعضهن يلدّ بعضا، والتدت ميمونة وهي صائمة، لقسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
إقامته صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة رضي اللَّه عنها
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت ميمونة سبعة أيام، يبعث إلى نسائه أسماء بنت عميس يقول لهن: إن رسول اللَّه يشقّ عليه أن يدور عليكنّ، فحلّلنه. فكن يحللنه. ويروي أن فاطمة عليها السلام- بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- هي التي كانت تدور على نسائه وتقول ذلك.
طوافه علي نسائه في شكواه
ويروي أنه كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه، وذلك أن زينب بنت جحش كلمته في ذلك قال: فأنا أدور عليكنّ. فكن يحمل في ثوب يحمل بجوانبه الأربع، يحمله أبو رافع مولاه، وأبو مويهبة، وشقران وثوبان حتى يقسم لهن كما كان يقسم.
فجعل يقول: أين أنا غدا؟ فيقولون: عند فلانة، فيقول: أين أنا بعد غد؟ فيقولون، عند فلانة!
فعرف أزواجه أنه يريد عائشة رضي اللَّه عنها.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «فيما» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (3) ] في (خ) «الدابر» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (4) ] يعني «العباس» .(2/130)
هبة أمهات المؤمنين أيامهن لعائشة
فقلن يا رسول اللَّه، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة وروي أنه لما ثقل واشتد وجعه، استأذن أزواجه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذن له، فخرج بين الفضل ابن العباس وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما. تخط رجلاه في الأرض [ (1) ]- وذلك يوم الأربعاء الآخر [ (2) ]- حتى دخل بيت عائشة رضي اللَّه عنها، فأقام في بيتها حتى توفي.
اشتداد الحمى وإراقة الماء عليه
ولما اشتد وجعه بعد أن دخل بيتها. قال، أهريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن [ (3) ] ، لعلّي أعهد إلى الناس، فأجلسوه في مخضب [ (4) ] لحفصة رضي اللَّه عنها من صفر، ثم صبّوا عليه تلك القرب، ثم خرج إلى الناس فصلّى بهم وخطبهم: وكانت تلك القرب من بئر أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه.
خطبته قبل وفاته
وخرج يوم السبت عاشر ربيع الأول- مشتملا قد طرح طرفي ثوبه على عاتقيه، عاصبا رسه بخرقة- فأحدق الناس به وهو على المنبر.
فقال: والّذي نفسي بيده، إني لقائم على الحوض الساعة- ثم تشهّد واستغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد-
ثم قال:
ذكر التخيير
إن عبدا من عباد اللَّه خيّر بين الدنيا وبين ما عند اللَّه فاختار ما عند اللَّه العبد! فبكى أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال: بأبي وأمي! نفديك بآبائنا وأمهاتنا، وبأنفسنا وأموالنا، فقال: على رسلك [يا أبا بكر] [ (5) ] سدّوا هذه الأبواب الشّوارع [ (6) ] إلى
__________
[ (1) ] في (خ) «ورجلاه تحط الأرض، وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 232.
[ (2) ] قوله: «بوم الأربعاء الآخر» أي التالي للأربعاء الأول الّذي بدئ فيه.
[ (3) ] أريقوا، أهريقوا: صبوا: والأوكية جمع وكاء، وهو الخيط الّذي يشد به فم السقاء أو الوعاء.
[ (4) ] في (خ) «محصب» ، والمخضب إناء واسع تغسل فيه الثياب.
[ (5) ] زيادة للبيان من (ابن سعد) .
[ (6) ] الشوارع: النافذة والمؤدية إلى المسجد.(2/131)
المسجد إلا باب أبي بكر، فإنّ أمنّ [ (1) ] الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا في الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخوة الإسلام ومودته.
فقال عمر رضي اللَّه عنه: دعني يا رسول اللَّه افتح كوة: إليك حين تخرج إلى الصلاة، فقال: لا. أيها الناس، [وكان باب أبي بكر رضي اللَّه عنه في غربيّ المسجد] [ (2) ] . ثم ذكر أسامة بن زيد فقال، أنفذوا بعث أسامة- وكرر ذلك ثلاثا- فلعمري لئن قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه واللَّه لخليق للأمارة، وأبوه من قبله، وإن كان لمن أحب الناس الناس إليّ.
ويروي أنه قال أيضا- بعد [ذكر] [ (3) ] يا معشر المهاجرين! إنكم أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، هي على هيئتها التي هي عليها اليوم، وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها، ونعلي التي أطأ بها، وكرشي التي آكل فيها، فاحفظوني فيهم، فأكرموا كريمهم، وأقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن من مسيئهم، فقال رجل: يا رسول اللَّه! ما بال أبواب أمرت بها أن تفتح: وأبواب أمرت بها أن تغلق؟ قال: ما فتحتها ولا سددتها عن أمري!!
خبر كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند موته
واشتدّ به صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا! فتنازعوا فقال بعضهم: ما له؟ أهجر [ (4) ] ؟! استعيدوه! وقالت زينب بنت جحش وصواحبها: ائتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحاجته. فقال عمر رضي اللَّه عنه: قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللَّه، من لفلانة وفلانة؟ يعني مدائن الروم- فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس بميت حتى يفتحها، ولو مات لا ننظره كما انتظرت بنو إسرائيل موسى!! فلما لغطوا عنده قال: دعوني! فما أنا فيه خير مما تسألوني، ثم أوصاهم بثلاث [ (5) ] : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو بما كنتم تروني أجيزهم. وأنفذوا جيش أسامة،
__________
[ (1) ] أمنّ: أجود بماله وذات يده.
[ (2) ] في (خ) سياق هذه العبارة مضطرب، وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (4) ] هجر المريض أو النائم، إذا هذي ونكلم.
[ (5) ] في (خ) «ما أوسهم» ، و «ثم» هي حق العبارة.(2/132)
قوموا.
خبر الكنيسة التي بالحبشة
وتذكر [ (1) ] بعض نسائه كنيسة رأينها [ (2) ] في أرض الحبشة.
فذكرت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش [ (3) ] كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وما فيها من التصاوير، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه فقال. أولئك [قوم] [ (4) ] إذا مات الرجل الصالح منهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند اللَّه! وطفق يلقي خميصة [ (5) ] على وجهه. فإذا اغتمّ بها ألقاها عن وجهه، ويقول: لعنة اللَّه علي اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد! [يحذّرهم مثل ما صنعوا] لا يبقين دينان بأرض العرب.
مقالته في شكواه
ولم يشك شكوى إلا سأل اللَّه العافية، حتى كان مرضه الّذي مات فيه، فإنه لم يكن يدعو بالشفاء،
وطفق يقول: يا نفس مالك تلوذين كلّ ملاذ [ (6) ] ؟
التخيير بين الشفاء والغفران
وأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: إذا شئت شفيتك، وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك!! فقال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء.
مقالته في كرب الموت
وكان لما نزل به، دعا بقدح من ماء، فجعل يمسح على وجهه ويقول: اللَّهمّ أعنّي على كرب الموت، وأخذته بحّة شديدة فجعل يقول: مع الرفيق الأعلى!
__________
[ (1) ] في (خ) «وتذكر» .
[ (2) ] في (خ) «رأسها» .
[ (3) ] المعروف أن «أم سلمة» رضي اللَّه عنها هي التي هاجرت إلى الحبشة، ولم يذهب أحد من رواة السيرة إلى أن «زينب بنت جحش» رضي اللَّه عنها، هاجرت إلى الحبشة.
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (5) ] الخميصة: كساء من الصوف أسود مربع له علمان.
[ (6) ] الملاذ: الملجأ.(2/133)
وقد شخص بصره [ (1) ] .
وفاته في حجر عائشة وخبر الذهب
وتوفي في حجر عائشة رضي اللَّه عنها وقد قال لها لما حضر [ (2) ]- وهو مستند إلى صدرها-: ما فعلت بالذّهب؟ فأتته بها وهي تسعة دنانير، فقال: أنفقيها!! ما ظنّ محمّد بربه لو لقي اللَّه وهي عنده؟!
مسارة فاطمة
ودعا صلّى اللَّه عليه وسلّم ابنته فاطمة عليه السلام، فسارّها فبكت، ثم دعاها فسارّها فضحكت، فسئلت عن ذلك بعد فقالت: دعاني أول مرّة فقال: إن القرآن كان يعرض علي في كل عام مرة، وعرض عليّ العام مرتين ولا أراني إلا ميتا في مرضي هذا! فبكيت. ثم دعاني فقال: أنت أسرع أهلي لحوقا بي! فضحكت.
فماتت بعد وفاته بستّة أشهر. وقيل: أقل من ذلك.
إمامة أبي بكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل موته
وقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] : ما هلك نبيّ حتى يؤمّه رجل من أمته. فلما كان يوم الاثنين، صلّى أبو بكر رضي اللَّه عنه بالناس الصبح، فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوكأ على الفضل بن العباس وثوبان، ولم يبق امرأة ولا رجل إلا أصبح في المسجد! لوجعه عليه السلام، فخرج حتى جلس إلى جنب أبي بكر، فصلّى بصلاة أبي بكر، فلما قضي صلاته جلس- وعليه خميصة له- فقال: إنكم واللَّه لا تمسكون عليّ بشيء، إني لا أحلّ إلا ما أحل اللَّه في كتابه، ولا أحرّم إلا ما حرم اللَّه في كتابه! يا فاطمة بنت محمد! ويا صفيّة بنت عبد المطلب!! اعملا لما عند اللَّه، لا أملك لكما من اللَّه شيئا!
وصلّى أبو بكر رضي اللَّه عنه بالناس- إلى أن توفّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- سبع عشرة صلاة.
__________
[ (1) ] شخص بصره: إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف.
[ (2) ] حضر بالبناء للمجهول: إذا دنا منه الموت أو نزل به.
[ (3) ] زيادة للبيان.(2/134)
وفاته
وتوفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجره- وقيل مستهله، وقيل ثانيه-، فبعث العبّاس رضي اللَّه عنه في طلب أبي عبيدة بن الجراح، وكان يشقّ: [يضرح] [ (1) ] وبعث في طلب أبي طلحة، وكان يلحد [ (2) ] ، وقال اللَّهمّ اختر لنبيك! فوجد أبو طلحة.
حيث دفن
وقال أبو بكر رضي اللَّه عنه- وقد اختلفوا أين يدفن-: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما مات نبي قط إلا دفن حيث يقبض.
فخط له صلّى اللَّه عليه وسلّم حول الفراش، ثم حوّل بالفراش في ناحية البيت، وحفر أبو طلحة القبر، فانتهى به إلى أصل الجدار إلى القبلة، وجعل رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما يلي بابه الّذي كان يخرج منه إلى الصلاة. ثم غسلوه من بئر عرس، وكان يشرب منها.
جهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما أخذوا في جهازه أمر العباس رضي اللَّه عنه فأغلق الباب، فنادت الأنصار نحن أخواله، ومكاننا من الإسلام مكاننا، وهو ابن أختنا!! ونادت قريش: نحن عصبته [ (3) ] ، فأدخل من الأنصار أوس بن خولي، وأحضروا الماء من بئر عرس، واحضروا سدرا وكافورا، فأرسل اللَّه عليهم النوم فما منهم رجل إلا واضعا لحيته على صدره وقائل يقول ما ندري من هو!: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه! فغسّل في القميص. وغسّل الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر والثالثة بالماء والكافور.
الغسل
وغسّله عليّ والفضل بن عباس- وكان الفضل رجلا أيّدا [ (4) ]-، وكان يقلّبه
__________
[ (1) ] ضرح الضريح للميت: حفر له فشق في وسط القبر (وكان ذلك عمل أهل مكة لموتاهم) .
[ (2) ] لحد اللحد للميت: حفر وشق في جانب القبر (وكان ذلك عمل أهل المدينة لموتاهم) .
[ (3) ] عصب الرجل: أقاربه من جهة الأب.
[ (4) ] الأيد: الشديد القوي.(2/135)
شقران، ووقف العباس بالباب وقال: لم يمنعني أحضر غسله إلا أني كنت أراه يستحي أني أراه حاسرا [ (1) ] .
وذهب علي رضي اللَّه عنه يلتمس من بطن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما يلتمس من بطن الميت، فلم يجد شيئا، فقال: بأبي وأمي!! ما أطيبك حيا وميتا!!
وقيل غسله علي، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران يصبون الماء.
الكفن
واشترى له عليه السلام حلة حبرة بتسعة دنانير ونصف ليكفّن بها. ثم بدا لهم فتركوها. فابتاعها عبد اللَّه بن أبي بكر. وكفّن صلّى اللَّه عليه وسلّم في ثلاثة أثواب سحوليّة بيض [ (2) ] ، أحدها برد حبرة. وقيل: أحدها حلة حبرة وليس فيها قميص ولا عمامة وأدرج في أكفانه.
وقيل: كفّن في حلة حبرة وقميص. وفي رواية: في حلة حمراء نجرانية وقميص. وقيل: إن الحلة اشتريت له فلم يكفّن فيها. وقيل كفّن في سبعة أثواب، وهو شاذ. وقيل: كفن في ثلاثة أثواب: قميصه الّذي مات فيه، وحلة نجرانية، وهو ضعيف، وحنّط بكافور، وقيل: بمسك [ (3) ] .
الصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم وضع على سريره، وكان ألواحا ثم أحدثت له بعد ذلك قوائم، ووضع السرير على شفير القبر، ثم كان الناس يدخلون زمرا زمرا. يصلون عليه.
أول من صلّى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأوّل من صلّى عليه العباس وبنو هاشم. ثم خرجوا ودخل المهاجرون، ثم الأنصار: زمرة زمرة، ثم دخل الصبيان، ثم النساء.
وقيل صلّي عليه اثنتان وسبعون صلاة [ (4) ] .
__________
[ (1) ] حاسرا: كاشفا ثيابه.
[ (2) ] سحولية: نسبة إلى سحول، وهي قرية باليمن.
[ (3) ] الحنوط طين يحنّط للميت.
[ (4) ] في (خ) «اثنان وسبعون» .(2/136)
خبر أمهات المؤمنين
وقد قامت أمهات المؤمنين يلتدمن على صدورهن [ (1) ] : وقد وضعن الجلابيب عن رءوسهن، ونساء الأنصار يضربن الوجوه، وقد بحّت حلوقهنّ من الصياح [ (2) ] .
الصلاة عليه
ولم يزل صلّى اللَّه عليه وسلّم موضوعا على سريره، من حين زاغت الشمس في يوم الاثنين إلى حين زاغت الشمس يوم الثلاثاء، فصلي عليه وسريره على شفير قبره.
يوم دفنه
ودفنوه ليلة الأربعاء سحرا. وقيل: دفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الثلاثاء.
وقيل: يوم الاثنين عند الزوال. قاله الحاكم وصحّحه. وقال ابن عبد البرّ: أكثر الآثار على أنه دفن يوم الثلاثاء، وهو قول، أكثر أهل الأخبار.
فلما أرادوا أن يقبروه [ (3) ] نحّوا السرير قبل رجليه [ (4) ] ، فأدخل من هناك.
لحده ومن دخل فيه
ودخل حفرته العبّاس، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وعلي، وشقران رضي اللَّه عنهم، ويروي أنه نزل أيضا أسامة بن زيد وأوس بن خولي: وبني عليه في لحده بتسع لبنات، وضرح في لحده سمل قطيفة نجرانية كان يلبسها [ (5) ] .
ثم خرجوا وهالوا التراب، وجعلوا ارتفاع القبر شبرا وسطحوه، وجعلوا عليه
__________
[ (1) ] لدمت المرأة صدرها أو التدمت صدرها: ضربته.
[ (2) ] لم يثبت عن أمهات المؤمنين أنهن قد قمن بشيء من لطم الخدود وغير ذلك من الأعمال المنهي عنها شرعا عل لسان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكل ما ورد في ذلك ما رواه (ابن سعد) ج 2 ص 289: «حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء فكان منهن صوت وجزع لبعض ما يكون منهن فسمعن هذه في البيت ففرقن فسكتن.
وروي (ابن الأثير) في (الكامل) ج 2 ص 320: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «دنا الفراق والمنقلب إلى اللَّه وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى..» إلى أن قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: « ... ثم ادخلوا على فوجا فوجا فصلوا على ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة» . وانظر أيضا: (البداية والنهاية) ج 5 ص 278.
[ (3) ] في (خ) «بقبره» .
[ (4) ] نحّى الشيء: أبعده ناحية.
[ (5) ] السمل: الخلق البالي من الثياب.(2/137)
حصباء ورش بلال رضي اللَّه عنه على القبر الماء بقربة: فبدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرب الماء إلى الجدار، ولم يقدر أن يدور من الجدار.
عمره عند وفاته صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكان عمره صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم توفاه اللَّه ثلاثا وستين سنة على الصحيح. وقيل كان ستين. وقيل خمسا وستين. وهذه الأقوال الثلاثة في صحيح البخاريّ عن ابن عباس رضي اللَّه عنه [ (1) ] .
فصل في ذكر أسمائه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عدة أسماء: منها ما سماه اللَّه- عزل وجل- به في القرآن الكريم، ومنها ما سمي به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نفسه، وقد سمّي بعدة أسماء كثيرة.
فذكر الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن وهبة بن عساكر- رحمه اللَّه- عشرين اسما.
وذكر الحافظ أبو الفرح عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي- رحمه اللَّه- ثلاثة وعشرين اسما [ (2) ] وقال الحافظ أبو الخطاب عمر بن حسن بن دحية- رحمه اللَّه- ثلاثمائة اسم في كتابه (المستوفي في أسماء المصطفى) [وقال] [ (3) ] : أنه إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن العظيم والحديث النبوي بلغت ثلاثمائة اسم.
وذكر أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن الحرالّي تسعة وتسعين اسما.
وذكر القاضي أبو بكر محمد بن عبد اللَّه بن العربيّ المعافري في شرح جامع الترمذي عن بعض الصوفية: أن للَّه تعالى ألف اسم، وللنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ألف اسم، عرف منها أربعة وستون اسما فذكرها.
__________
[ (1) ] آخر النسخة (ط) وهو ما يقابل السطر الثالث والعشرين من ص 179 من النسخة (خ) .
[ (2) ] (صفة الصفوة لابن الجوزي) ج 1 ص 54، 55 باب ذكر أسماء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] زيادة للسياق.(2/138)
وأشهر أسمائه صلّى اللَّه عليه وسلّم (محمد) و (أحمد) ، وهما اسمان من أسماء الأعلام التي يراد بها التمييز بين الأشخاص، وكل منهما ومن بقية أسمائه يشتمل على معنى من معاني الفضل.
ومن تأمل علم أنه ليس من أسماء الناس اسم يجمع من [معاني صفات الحمد] [ (1) ] ما يجمعه هذان الاسمان، فأحمد اسم منقول من صفة لأفعل، وتلك الصفة- أفعل- التي يراد بها التفضيل، فمعنى أحمد: أي أحمد الحامدين لربه.
والأنبياء عليهم السلام كلهم حامدون للَّه تعالى، إلا أن نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثرهم حمدا، فيكون هو الأحق بالحمد، ومحمد هو البليغ في الحمد، فمن سمّي بهذين الاسمين فقد سمّي بأجمع الأسماء لمعاني الفضل.
يقال رجل محمد ومحمود، إذا كثرت خصاله المحمودة، ومعنى الاسمين واحد، فإنّ وصف الشخص بأنه أحق بالحمد مبالغة في حمده، والمبالغة في حمده تقدير له في الحمد على من لا يبالغ في حمده، فأحمد على هذا هو محمد، ومحمد أحمد.
وقد ذكر اللَّه جل جلاله هذين في كتابه فقال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [ (2) ] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (3) ] ، وقال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ (4) ] .
وخرّج الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري- رحمه اللَّه- في صحيحه من حديث سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا تعجبون كيف يصرف اللَّه عني شتم قريش ولعنهم؟ - يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمد [ (5) ] .
وخرّج النسائي أيضا، وذكر أبو الربيع بن سالم أنه روي عن عبد المطلب إنما سماه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمدا لرؤيا رآها، زعموا أنه رأى في منامه سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف المشرق وطرف في
__________
[ (1) ] ما بين القوسين غير واضح في التصوير من النسخة (خ) ولعل ما أثبتناه هو المناسب.
[ (2) ] من الآية 29/ الفتح.
[ (3) ] من الآية 144/ آل عمران.
[ (4) ] من الآية 6/ الصف.
[ (5) ] (صحيح البخاري) ج 2 ص 270 باب ما جاء في أسماء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/139)
المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها في نور وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها فقصها. فعبّرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته آمنة به [ (1) ] .
وقال أبو القاسم السهيليّ [ (2) ] : لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا ثلاثة طمع آباؤهم حيث سمعوا بذكر محمد وبقرب زمانه وأنه يبعث بالحجاز، أن يكون ولدا لهم، ذكرهم ابن فورك في كتاب الفصول، وهم: محمد ابن سفيان بن مجاشع جد [ (3) ] الفرزدق الشاعر، والآخر: محمد بن أحيحة بن الجلاح ابن الحريش بن جمحي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس، والآخر:
محمد بن حمران بن ربيعة.
وكان آباؤهم الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلّف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم: إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك.
وذكر القاضي عياض: من تسمي بمحمد في الجاهلية فبلغوا ستة، ثم قال في هذين الاسمين من عجائب خصائصه وبدائع آياته شيء آخر، هو أن اللَّه جلّ اسمه حمى أن يسمّى بهما أحد قبل زمانه، أما أحمد الّذي أتى في الكتاب وبشرت به الأنبياء. فمنع اللَّه تعالى بحكمته أن يسمّى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب، أو شك [ (4) ] .
وكذلك محمد أيضا لم يسمّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلّى اللَّه عليه وسلّم وميلاده، أن نبيا يبعث اسمه محمد، فسمّى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، رجاء أن يكون أحدهم هو، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن برّاء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد
__________
[ (1) ] (الروض الأنف) ج 1 ص 182 «مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمد» .
[ (2) ] (المرجع السابق) ج 1 ص 182.
[ (3) ] في (خ) «جد الفرزدق» وما أثبتناه من (السهيليّ) ج 1 ص 182.
[ (4) ] (الشفاء للقاضي عياض) ج 1 ص 145.(2/140)
ابن خزاعيّ السلمي، لا سابع لهم.
ويقال: أول من سمى محمدا، محمد بن سفيان، واليمن تقول: بل محمد ابن اليحمد من الأزد، ثم حمى اللَّه كل من تسمى به أن يدّعي النبوة، أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشك أحدا في أمره حتى تحققت السمتان له صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم ينازع فيهما.
قال كاتبه. وذكر محمد بن مسلمة الأنصاري فيهم، فيه نظر من حيث أنه ولد بعد ولادة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بنحو عشر سنين، ولكنه صحيح من حيث أنه لم تكن النبوة ظهرت- واللَّه أعلم.
وذكر ابن سعد فيهم: محمد الجشمي في بني سراة، ومحمد الأسيدي، ومحمد الفقيمي.
وقال أبو العباس المبرد: فتش المفتشون فما وجدوا بعد نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم من اسمه أحمد قبل أبي الخليل بن أحمد.
وللبخاريّ من حديث الزهري، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول [ (1) ] : إن لي أسماء، أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الّذي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الّذي ليس بعدي أحد، وقد سماه اللَّه رءوفا رحيما، ذكره البخاري في التفسير، وانتهى حديثه عند قوله: وأنا العاقب.
وذكره مسلم أيضا من حديث عقيل، قال: قلت: لابن شهاب وما العاقب؟
قال: الّذي ليس بعده نبي [ (2) ] .
ومن حديث معمر وعقيل: وأنا الماحي الّذي يمحو اللَّه بي الكفر [ (3) ] ،
وللبخاريّ من حديث مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لي خمسة أسماء: أنا محمد وأحمد، وأنا الماحي الّذي
__________
[ (1) ]
في رواية (البخاري) ج 2 ص 220 «سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لي أسماء» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 106.
[ (3) ] في (خ) «الكفرة» .(2/141)
يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب.
وذكره البخاري في المناقب في باب ما جاء في أسماء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: تفرد برفعه عن مالك جويرية بن أسماء، ورواه عبد اللَّه ابن وهب، وبشر بن عمرو الزهراني، ويحيى بن عبد اللَّه بن بكير المصري عن مالك مرسلا لم يذكر فيه جبيرا، ورفعه صحيح عن الزهري، فقد وصله عنه يونس ابن زيد، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي، وسفيان بن عيينة (انتهى) .
وقد رفعه عن مالك غير جويرية بن أسماء قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر:
وقد ذكر حديث مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم أن النبي هكذا روي هذا الحديث [رواه] [ (1) ] يحيى مرسلا لم يقل عن أبيه، وتابعه على ذلك أكثر رواة الموطأ، وممن تابعه على ذلك القيعي وابن بكير، وابن وهب وابن القاسم، وعبد اللَّه بن يوسف، وابن أبي أويس، وعبد اللَّه بن مسلم الدمشقيّ، وأسنده عن مالك معن بن عيسى، ومحمد بن المبارك الصوري، ومحمد بن عبد الرحيم، وابن شروس الصنعاني، وإبراهيم بن طهمان، وحبيب ومحمد بن وهب، وأبو حذافة، وعبد اللَّه بن نافع، وأبو المعتب الزهري، كل هؤلاء رواه عن مالك مسندا عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه.
وخرجه مسلم من حديث سفيان عن الزهري، سمع محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أحمد، وأنا محمد، وأن الماحي الّذي يمحي بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب، والعاقب الّذي ليس بعده نبي [ (2) ] .
وخرجه عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن لي أسماء: أنا أحمد وأنا محمد، وأنا الماحي الّذي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، قال: قلت للزهري: وما العاقب؟ قال: الّذي ليس بعده نبي.
وخرجه مسلم أيضا عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، وأخرجه أيضا من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 104.(2/142)
حديث يونس بن يزيد عن الزهري، وقال في الحديث: وأنا العاقب الّذي ليس بعده أحد، وقد سمّاه اللَّه رءوفا رحيما [ (1) ] ،
ويحتمل أن تكون تفسير العاقب من قول محمد بن شهاب الزهري، كما بينه معمر، وقوله: وقد سماه اللَّه رءوفا رحيما، من قول الزهري، واللَّه أعلم.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: سألت سفيان- يعني ابن عيينة- عن العاقب فقال لي: آخر الأنبياء.
قال أبو عبيد: وكذلك كل شيء خلف بعد شيء فهو عاقب، وقد عقب يعقب عقبا، ولهذا قيل: ولد الرجل بعده عقبة، وكذلك آخر كل شيء عقبه.
وقوله يحشر الناس على قدمي: أي قدّامي وأمامي.
أي أنهم مجتمعون إليه، وينضمون حوله، ويكونون أمامه يوم القيامة ووراءه.
وقال الخليل بن أحمد حشرتهم السنة: إذا ضمتهم من البوادي، وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [ (2) ] .
وقد روي: يحشر الناس على قدمي
بالإفراد مخفف الياء، وروي بتشديد الياء على التثنية [ (3) ] .
وقيل معناه أنه أول من يبعث من القبر، وكل من عداه إنما يبعثون بعده، وهو أول من يذهب به من المحشر ثم الناس في إثره.
وقيل معنى
قوله وأنا الماحي،
يعني تمحى به سيئات من اتبعه.
وخرج أبو داود الطيالسي من حديث جابر [عن] نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أنا محمد وأنا أحمد والحاشر ونبي التوبة ونبي الملحمة.
ولمسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمي لنا نفسه أسماء فقال:
__________
[ (1) ] المرجع السابق ص 105.
[ (2) ] من الآية 40/ الأحزاب.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 105.(2/143)
أنا محمد وأحمد [ (1) ] والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الملحمة [ (2) ] .
وقد روي من عدة طرق عن الليث بن سعد رحمه اللَّه قال: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة عن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: أتحصي أسماء رسول اللَّه التي كان جبير بن مطعم يعدها؟ قال نعم، قال هي ستة: محمد وأحمد وخاتم وحاشر وعاقب وماحي، فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وأما عاقب، فإنه عقب الأنبياء، وأما ماحي، فإن اللَّه عزّ وجلّ محا به سيئات من اتبعه.
وذكره الحاكم في المستدرك وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد قيل إنه إنّما سمي نبي التوبة لأنه أخبر أن اللَّه يقبل التوبة من عباده إذا تابوا، وسمي نبي الملحمة لأن اللَّه فرض عليه قتل الكفار، وجعله شرعا باقيا إلى قيام الساعة، فما فتح مصرا من الأمصار إلا بالسيف أو خوفا من السيف، إلا المدينة النبويّة فإنّها فتحت بالقرآن.
وقيل معنى المقفى: المتبع للأنبياء عليهم السلام، يقال قفوته أقفوه، وقفيته أقفيه إذا اتبعته، وقافية كل شيء آخره، وقيل لأنه قفي إبراهيم عليه السلام.
وقيل المقفي لموسى وعيسى عليهما السلام، لنقل قومهما من اليهودية والنصرانية إلى الحنفية.
وقيل إنما اقتصر صلّى اللَّه عليه وسلّم على هذه الأسماء مع أن له أسماء غيرها، لأنها موجودة في الكتب المتقدمة، وعند الأمم السالفة.
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما أنا رحمة مهداة، ورواه وكيع عن الأعمش عن أبي صالح منقطعا.
وروي الكلبي عن أبي صالح عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما في قول اللَّه سبحانه: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [ (3) ] ، يا رجل ما أنزلنا عليك
__________
[ (1) ] في (خ) «أنا محمد ومحمد وأحمد» .
[ (2) ] ونحوه (في سنن الترمذي) ج 4 ص 214 حديث رقم 2996 وفي (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 196، 197.
[ (3) ] أول سورة طه.(2/144)
القرآن لتشقى، وكان يقوم الليل على رجليه، فهي لعلك [ (1) ] ، إن قلت لعكيّ يا رجل، لم يلتفت، فإذا قلت له طه، التفت إليك [ (2) ] .
وقال الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: محمد وأحمد نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل، عليهم السلام [ (3) ] .
وقال أبو زكريا بن محمد العنبري: ولنبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة أسماء في القرآن:
محمد، وأحمد، وعبد اللَّه، وطه ويس، قال اللَّه تعالى في ذكر محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وقال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ (4) ] وقال:
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [ (5) ] : يعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [ (5) ] . وإنما كانوا يقعون بعضهم على بعض كما أن اللبد تتخذ من الصوف فيوضع بعضه على بعض فيصير لبدا.
قال تعالى: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، والقرآن إنما نزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دون غيره.
وقال تعالى: يس يعني يا إنسان، والإنسان ها هنا: هو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وقد سماه اللَّه تعالى في القرآن الكريم رسولا ونبيا أميا، وسماه شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى اللَّه بإذنه وسراجا منيرا، وسماه رءوفا رحيما، وسماه نذيرا مبينا، وسماه مذكّرا، وجعله رحمة [للعالمين صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (6) ] .
وعن كعب الأحبار قال: قال اللَّه تعالى لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: عبدي المختار.
وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت على بن زيد يقول: اجتمعوا فتذاكروا أي بيت أحسن فيما قالت العرب؟ قالوا: الّذي قال أبو طالب، للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم:
__________
[ (1) ] لعلك: قبيلة يضاف إليها مخلاف باليمن (معجم البلدان) ج 4 ص 142.
[ (2) ] وفي (تفسير الطبري) في معنى قوله تعالى: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى: «والّذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال: معناه: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في لعك فيما بلغني، وأن معناها فيهم: يا رجل» (تفسير الطبري) ج 16 ص 136.
[ (3) ] ذكره (القرطبي) في (الجامع لأحكام القرآن) ج 1 ص 281.
[ (4) ] من الآية 6/ الصف.
[ (5) ] آية 19/ الجن.
[ (6) ] ما بين القوسين مطموس في (خ) بقدر كلمتين أو ثلاثة ولعل ما أثبتناه هو المناسب.(2/145)
وشق له من اسمه يجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
ومن أسمائه: الضحوك القتال، والأمين، والقثم، وأحيد، لأنه يحيد أمته عن نار جهنم، فهو محمد وأحمد والأمين، والأمي والحاشر والخاتم، والرسول، ورسول اللَّه والشاهد والضحوك، والعاقب والفاتح، والقتال والقثم، والماحي والمصطفى، والمتوكل والمقفي، والنبي والنذير، ونبي الرحمة، ونبي الملاحم.
فصل في ذكر كنية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن الكنية إنما وضعت لاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه، كي لا يصرح في الخطاب باسمه، ومنه قول [الشاعر] [ (1) ] :
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسّوأة اللقبا
ويقال كنيت الرجل بأبي فلان، وأبا فلان على تعدية الفعل، بعد إسقاط الحرف كلية بكسر الكاف وضمها.
وكذلك يقال: كنيته، وكنية فلان أبو فلان، وكذلك كنيته بالكسر، أي الّذي يكنى به.
وقال اللحياني: يقال كنية، وكنية، وكنية، وكنوة، وكنوة، وكنوة.
وقال المبرد: الكنية من الكناية، والكناية ضرب من التعظيم والتفخيم، فيعظم الرجل أن يدعى باسمه فيكنى. ووقعت الكنية في الصبي على جهة التفاؤل بأن يكون له ولد فيدعى به، وفي الكبير بأن يصان اسمه باسم ابنه، وقال غيره: يقال كنوته وكنيته.
وقال المطرزي: يقال أيضا: أكنيته من الكنية، ويقال-: إن الأصل في سبب الكنى في العرب أن ملكا من ملوكهم الأول ولد له ولد، توسم فيه النجابة، فشغف به حتى إذا نشأ وترعرع لأن يؤدب أدب الملوك، أحب أن يفرد له موضعا بعيدا من العمارة، يكون فيه مقيما يتخلق بأخلاق الملوك من مؤدبيه، ولا يعاشر من يضيع عليه بعض زمانه، فبنى له في البرية منزلا ونقله إليه، ورتب إليه من يؤدبه بأنواع الآداب العلمية والملكية، فأقام له ما يحتاج إليه من أمر دنياه، ثم أضاف
__________
[ (1) ] ما بين القوسين بياض في (خ) .(2/146)
إليه من أقرانه وأضرابه من أولاد بني عمه، وأمرائه ليؤنسوه ويتأدبوا بآدابه، ويحببوا إليه الأدب بموافقتهم له عليه. وكان الملك في رأس كل سنة [يذهب] [ (1) ] إلى ولده، ويستصحب معه من أصحابه من له عند ولده ولد، ليبصروا أولادهم، وكانوا إذا وصلوا إليهم سأل ابن الملك عن أولئك الذين جاءوا مع أبيه ليعرفهم بأعيانهم، فيقال له: هذا أبو فلان: وهذا أبو فلان، يعنون آباء الصبيان الذين هم عنده، فكان يعرفهم بإضافتهم إلى أبنائهم، فمن هنالك ظهرت الكنى في العرب.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكنى بأبي القاسم، وبأبي إبراهيم،
خرّج البخاري ومسلم من حديث حميد عن أنس رضي اللَّه عنه قال: نادى رجل رجلا بالبقيع:
يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال [الرجل] [ (2) ] يا رسول اللَّه إني لم أعنك!! إنما دعوت فلانا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي
واللفظ لمسلم [ (3) ] .
وقال البخاري: دعا رجل رجلا. وقال: سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، ذكره في البيوع في باب ما ذكر في الأسواق. وفي لفظ له: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال [الرجل] [ (4) ] : إنما دعوت هذا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي [ (5) ] . وذكره أيضا في المناقب.
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن سليمان ومنصور وقتادة، سمعوا
__________
[ (1) ] مكان هذه الكلمة في (خ) ما رسمه «بعنى» ، ولم أتبين معناه، ولعل ما أثبتناه يعمم المعنى.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] (صحيح البخاري) ج 2 ص 270، (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1230، 1231 باب (33) الجمع بين اسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكنيته، الأحاديث أرقام 3735، 3736، 3737.
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ]
سنن الترمذي ج 4 ص 214، 215 باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكنيته، الأحاديث أرقام 2997، 2998، 2999، 3000 وقال فيه: حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا يحيى ابن سعيد القطان، أخبرنا قطر بن خليفة حدثني منذر، وهو الثوري عن محمد، وهو ابن الحنفية عن علي بن أبي طالب أنه قال: «يا رسول اللَّه أرأيت إن ولد لي بعدك أسميه محمدا وأكنيه بكنيتك؟
قال: نعم، قال: فكانت رخصة لي» ، هذا حديث حسن صحيح، انظر أيضا: سنن أبي داود ج 5 باب قم 74، ورقم 75، ورقم 76 الأحاديث أرقام 4965، 4966، 4967، 4968.(2/147)
سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنه قال: ولد لرجل من الأنصار غلام، فأراد أن يسميه محمدا، قال شعبة في حديث منصور أن الأنصاري قال: حملته على عنقي، فأتيت به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وفي حديث سليمان: ولد له غلام فأراد أن يسميه محمدا، قال: سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإنّي جعلت قاسما أقسم بينكم، ذكره البخاري في كتاب الخمس وفي كتاب الأدب.
وذكر له مسلم عدة طرق، في بعضها: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم أقسم بينكم.
وفي بعضها: فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم، وفي بعضها: فإنّي أنا أبو القاسم أقسم بينكم.
وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي، أنا أبو القاسم، اللَّه يرزق وأنا أقسم.
وخرج الدارميّ من حديث عقيل عن ابن شهاب عن أنس أنه لما ولد إبراهيم ابن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من مارية جاريته، كان يقع في نفس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منه حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم [ (1) ] .
قال جامعه: وللناس في التكني بأبي القاسم ثلاثة مذاهب: المنع مطلقا، وإليه ذهب الشافعيّ، والجواز مطلقا، وأن النهي خاص بحياة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
والثالث: لا يجوز لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره.
قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا هو الأصح: لأن الناس ما زالوا يفعلونه في جميع الأعصار من غير إنكار.
وقال النووي: هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه ففيه تقوية للمذهب الثاني.
وحكي الطبري مذهبا رابعا له هو المنع من التسمية بمحمد مطلقا ومن التكنية بأبي القاسم مطلقا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) ج 6 ص 650 باب كنية النبي.
[ (2) ] انظر التعليق السابق.
[ (3) ]
ذكر (البيهقي) في (السنن الكبرى) ج 9 ص 308، 309 في باب ما يكره أن يتكني به: «قال(2/148)
فصل في ذكر صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ربعه، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون مشربا حمرة، يبلغ شعره شحمة أذنيه، وكان شعره فوق الجمة، ودون الوفرة، ودخل مكة وله أربع غدائر، وكان سبط الشعر، في لحيته كثافة ومات صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يبلغ الشيب في رأسه ولحيته عشرين شعرة، وكان ظاهر الوضاءة، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر، وكان كما وصفته عائشة رضي اللَّه عنها بما قاله شاعره حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه [ (1) ] :
متى يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد
وكما كان أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه يقول إذا رآه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أمسى مصطفى بالخير يدعو ... كعضو البدر زايله الظلام
وكما كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ينشد إذا رآه:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المعني لليلة البدر
وكان أبيض اللون، ليس بالأبيض الأمهق [ (2) ] ولا بالآدم [ (3) ] ، أقنى العرنين [ (4) ] ،
__________
[ () ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم بعثت أقسم بينكم» ،
وفي باب من رأى الكراهة في الجمع بينهما: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من تسمي باسمي فلا يكنى بكنيتي، ومن تكنى بكتيتي فلا يتسمي باسمي» ،
وفي باب ما جاء في الرخصة في الجمع بينهما ما رواه محمد بن الحنفية عن علي رضي اللَّه عنه، ثم قال: والحديث مختلف في وصله، وتعقبه صاحب (الجوهر النقي) ص 309 بأن (الترمذي) قد أخرج هذا الحديث، وصححه، وذهب إلى جواز التكني بأبي القاسم لمن اسمه محمد، مذهب مالك وجمهور السلف وفقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وقد اشتهر جماعة تكنوا بأبي القاسم في العصر الأول، وفيما بعد ذلك إلى اليوم مع كثرة فاعلي ذلك، وعدم الإنكار، كذا في شرح مسلم للنووي.
[ (1) ] ديوان حسان بن ثابت ص 380.
[ (2) ] مهق مهقا: كان لونه أبيض ناصع البياض بغير حمرة، وهو معيب في لون الإنسان، فهو أمهق (المعجم الوسيط) ج 2 ص 890.
[ (3) ] أدم أدما وأدمة: اشتدت سمرته: فهو آدم. المرجع السابق ج 1 ص 10.
[ (4) ] قوله: أقنى العرنين: القنا أن يكون في عظم الأنف احديداب في وسطه، والعرنين: الأنف (صفة الصفوة) ج 1 ص 162.(2/149)
سهل الخدين، أزج الحاجبين [ (1) ] أقرن [ (2) ] ، أدعج العينين [ (3) ] ، في بياض عينيه عروق حمر دقاق، حسن الخلق معتدلة، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، دقيق السرة، كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، ضليع [ (4) ] الفم أشنب، مفلج الأسنان [ (5) ] ، بادنا متماسكا [ (6) ] سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس [ (7) ] ، أنور المتجرد، أشعر الذراعين والمنكبين، عريض الصدر طويل الزندين، رحب الراحة، شائل الأطراف [ (8) ] خمصان [ (9) ] ، بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمام يشبه حسده، إذا مشى كأنما يتحدّر من صبب [ (10) ] وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر [ (11) ] ، وإذا التفت التفت جميعا، كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك [ (12) ] .
__________
[ (1) ] أزج الحاجبين: أي مقوس الحاجبين.
[ (2) ] القرن (بالتحريك) : اقتران الحابين بحيث يلتقي طرفاهما.
[ (3) ] الأدعج: الشديد سواد العينين.
[ (4) ] الضليع: الواسع، والعرب تمدح ذلك، لأن سمته دليل الفصاحة.
[ (5) ] الفلج: انفراج ما بين الأسنان.
[ (6) ] البادن: السمين المعتدل السمن.
[ (7) ] الكراديس: رءوس العظام.
[ (8) ] السائل والشائل: الطويل.
[ (9) ] أخمص القدم هو الموضع الّذي لا يمس الأرض عند الوطء من وسط القدم.
[ (10، 11) ] أي إذا مشي رفع رجليه بقوة. وفي رواية: (تكفّؤا) وهي تأكيد لما قبلها.
[ (12) ] وقد أورد ابن الجوزي في (صفة الصفوة) ج 1 ص 162، 163، 164، 165 فصلا جامعا في تفسير غريب أحاديث صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نذكره هنا بصف إجمالية.
الفخم المفخم: هو العظيم المعظم في الصدور والعيون.
المشذب: الطويل الّذي ليس بكثير اللحم.
الرجل الشعر: الّذي في شعره تكسر، فإذا كان الشعر منبسطا قبل شعر سبط.
والعقيقة: الشعر المجتمع في الرأس.
الأزهر اللون: النير.
أزج الحواجب: أي طويل امتدادهما لوفور الشعر فيهما وحسنه إلى الصدغين.
الأشم: الّذي عظم أنفه طويل إلى طرف الأنف.
وضليع الفم: كبيره، والعرب تمدح بذلك وتهجو بصغره.
والدمية: الصورة وجمعها دمي.
بادن متماسك: أي تام خلق الأعضاء ليس بمسترخي اللحم ولا كثيره.(2/150)
وقال عند أم سليم [ (1) ] فعرق، فجاءت بقارورة فجعلت تسكب العرق فيها، فاستيقظ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا أم سليم، ما هذا الّذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو أطيب من الطيب.
وكان في صوته صوته صهل وفي عنقه سطع، إن سكت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأجمله من قريب، حلو المنطق خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام، أجود الناس كفّا، وأرحب الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى [ (2) ] الناس بعهده، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه [معرفة أحبّه] .
يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فأما صفة رأسه المقدس
فقد خرج أبو عيسى الترمذي من حديث جميع بن عمر العجليّ قال: حدثني رجل
__________
[ () ] سواء البطن والصدر: معناه أن بطنه ضامر وصدره عريض، فلهذا ساوى بطنه صدره.
أنور المتجرّد: أي نير الجسد إذا تجرد من الثياب.
والنير: الأبيض المشرق.
مسيح القدمين: أي ليس بكثير اللحم فيهما وعلى ظاهرهما.
ذريع المشية: واسع المشية من غير أن يظهر منه استعجال.
المهين: الحقير.
يسوق أصحابه: يقدمهم بين يديه ومن ورائه.
لكل حال عنده عتاد: أي عدة، يعني أنه قد أعد للأمور أشكالها.
وقوله: يرد بالخاصّة على العامة: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه كان يعتمد على أن الخاصة ترفع علومه وآدابه إلى العامة، ومعنى ذلك أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت، فكانت الخاصة تخبر العامة بما سمعت منه، فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة.
والثاني: أن المعني يجعل المجلس للعامة بعد الخاصة. فتنوب الباء عن (من) ، و (على) عن (إلى) .
والثالث: فيرد ذلك بدلا من الخاصة على العامة، فتفيد الباء معنى البدل.
[ (1) ] قال: من القيلولة وهي نوم الظهيرة.
[ (2) ] في (خ) «وأوتا» .(2/151)
عن ابن لأبي هالة عن الحسن بن على عن خاله هند بن أبي هالة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عظيم الهامة [ (1) ] .
وقال شريك عن عبد الملك بن عمير بن نافع بن جبير قال: وصف لنا عليّ رضي اللَّه عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان عظيم الهامة [ (1) ] .
وأما وجهه الكريم
فخرج البخاري من حديث عن إسحاق بن منصور قال: أخبرنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل الذاهب، وليس بالقصير [ (2) ] .
وقال البخاري: ليس بالطويل البائن، ذكره في باب صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
وخرجه ابن أبي خيثمة، من حديث إبراهيم بن يوسف كما رواه مسلم والبخاري والترمذي من حديث أبي نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: سئل البراء أكان وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مثل السيف؟ قال لا، مثل القمر [ (4) ] . قال: هذا حديث حسن [ (5) ] .
ولمسلم من حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد اللَّه بن موسى عن إسرائيل عن سماك، أنه سمع جابر بن سمرة قال له رجل: أكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجهه كالسيف؟ قال جابر: لا، مثل الشمس والقمر مستديرا.
وقال المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة أضحيان وعليه حلّة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر، فلهو أحسن كان في عيني من القمر، وفي لفظ قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 9.
[ (2) ] الحديث رقم 3549 (صحيح البخاري) بشرح (ابن حجر في الفتح) .
[ (3) ] (المرجع السابق) الحديث رقم 3548.
[ (4) ] (المرجع السابق) الحديث رقم 3552.
[ (5) ] (الجامع الصحيح للترمذي) ج 5 ص 259 حديث رقم 3715.(2/152)
أضحيان [ (1) ] ، وعليه حلة حمراء، فجعلت أماثل بينه وبين القمر [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث يحيى بن بكير، أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن عبد اللَّه بن كعب- وكان قائد كعب من بنيه حين عمى- قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لما سلمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يبرق وجهه، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه [ (3) ] .
وخرج أيضا من حديث يحيى عن عبد الرّزاق قال: أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما مسرورا وأسارير وجهه تبرق فقال: ألم تسمعي ما قال مجزر المدلجي، ورأى زيدا وأسامة قد غطيا رءوسهما، وبدت أقدامها، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بضع [ (4) ] .
وخرّجه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرّزاق، وقال أبو إسحاق الهمدانيّ عن امرأة من همدان سمّاها قالت حججت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة، بيده محجن، عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبه، إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن، ثم يرفعه إلى فمه فيقبله، قال أبو إسحاق: فقلت لها شبّهيه، قالت: [كان] كالقمر ليلة البدر، ولم أر قبله ولا بعده مثله صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] .
وخرّج عبد اللَّه بن محمد بن إسحاق الفاكهي من حديث أسامة بن زيد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلنا للربيع بنت معوذ: صفي لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة [ (5) ] .
وفي حديث هند بن أبي هالة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخما مفخما [ (6) ] يتلألأ
__________
[ (1) ] أضحيان: أي مضيئة.
[ (2) ] أخرجه الترمذي في (الشمائل المحمدية) ص 12.
[ (3) ] (فتح الباري) ج 6 ص 565 حديث رقم 3556، وفي (خ) «ذاك منه» وما أثبتناه رواية البخاري.
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم 3555 ولفظه: «ألم تسعى ما قال المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما» .
[ (5) ] (البداية والنهاية) ج 6 ص 15.
[ (6) ] في (خ) «فخما فخما» وما أثبتناه من (الشمائل) .(2/153)
وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، خرجه الترمذي [ (1) ] .
وفي حديث علي رضي اللَّه عنه: كان في وجه رسول اللَّه تدوير.
ولأحمد من حديث عبد الرازق قال: أخبرنا إسرائيل عن سماك أنه سمع جابر ابن سمرة يقول: كان وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستديرا.
وفي حديث أم معبد قالت [ (2) ] : رأيت رجلا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه (تعنى مشرق الوجه مضيئة) ، ومنه: تبلج الصبح إذا أسفر.
وفي حديث هند بن أبي هالة: كان سهل الخدين، وقال قتادة: ما بعث اللَّه نبيا إلا بعثه حسن الوجه وحسن الصوت، حتى بعث نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، ولم يكن يرجّع، ولكن كان يمد بعض المد.
وأما صفة لونه
فخرج البخاري في باب صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث يحيى بن بكير قال:
حدثني الليث عن خالد عن سعيد ابن أبي هلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال:
سمعت أنس بن مالك يصف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كان ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا بأدم، ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل، أنزل عليه وهو ابن أربعين، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه:
وبالمدينة عشر سنين، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. قال ربيعة.
فرأيت شعرا من شعره فإذا هو أحمر، فسألت. فقيل: أحمر من الطيب [ (3) ] .
ولمسلم من حديث إسماعيل بن جعفر وسليمان بن بلال. كلاهما عن ربيعة عن أنس أنه سمعه يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان أزهر، بعثه اللَّه على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه اللَّه على دابر ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 76.
[ (2) ] الحديث بتمامه في آخر كتاب (الشمائل المحمدية للترمذي) .
[ (3) ] (فتح الباري) ج 6 ص 564 حديث رقم 3547.
[ (4) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 100.(2/154)
لم يقل في حديث إسماعيل على رأس ستين سنة. قال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث صحيح ثابت متفق عليه، رواه عن ربيعة يحيى بن سعيد الأنصاري، وعمرو ابن يحيى المازني، وعبادة بن غزية، وسعيد بن هلال وأسامة بن زيد، ونافع بن أبي نعيم، ومحمد بن إسحاق، وعبد اللَّه بن عمر، وفليح. وأبو أويس، وعبد العزيز الماجشون، والدراوَرْديّ: والثوري، ومالك والأوزاعي، وسعد، وأبو بكر ابن عياش، وقرة بن جبريل، وأبو زكين، وأنس بن عياض، ومنصور بن أبي الأسود، وإبراهيم بن طهمان في آخرين.
وخرّج الترمذي من حديث عبد الوهاب الثقفي عن حميد عن أنس، قال:
كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربعة، ليس بالطويل، ولا بالقصير، حسن الجسم، أسمر اللون، كان شعره ليس بجعد ولا سبط، إذا مشى يتوكأ، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب [ (1) ] .
ولمسلم من حديث الجرير عن أبي الطفيل قال: قلت له: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: نعم، كان أبيض مليح الوجه [ (2) ] .
وله أيضا من حديث الجرير عن أبي الطفيل قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، قال: قلت: فكيف رأيته: قال: كان أبيض مليج الوجه مقصدا [ (2) ] .
وخرجه ابن أبي خيثمة والبخاري ومسلم من حديث محمد بن فضيل عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد شاب، وكان الحسن بن على يشبهه [ (3) ] .
ولأبي داود الطيالسي من حديث عثمان بن عبد اللَّه بن عزيز عن نافع بن جبير عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مشربا وجهه حمرة.
قال البيهقي، ويقال إن المشرب بالحمرة ما أضحى للشمس والرياح، وما تحت
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 29 حديث رقم 2 وإسناده جيد قوى.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 93.
[ (3) ] كذا في (خ) «ورواية البخاري: «رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان الحسن يشبهه» (فتح الباري) ج 6 ص 563 حديث رقم 3543.(2/155)
الثياب فهو الأبيض الأزهر.
وقال ابن إسحاق عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه أن سراقة بن جعشم قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وكان راكبا] على ناقته، انظر إلى ساقه كأنها جمّارة [ (1) ] .
وخرج الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي من حديث مزاحم بن أبي مزاحم عن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن خالد بن أسيد عن محرش الكعبي قال: اعتمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الجعرانة ليلا فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة.
وخرج من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي اللَّه تعالى عنه يصف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان شديد البياض.
وللترمذي في الشمائل من حديث صالح بن أبي الأخضر عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبيض كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر [ (2) ] قلت: صالح بن أبي الأخضر ضعيف في الزهري، قال ابن معين:
ليس بشيء في الزهري، وفي رواية صالح بن أبي الأخضر بغير ضعيف [ (3) ] .
وقال ابن المبارك: أخبرني رشدي بن سعد قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي يونس مولى أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة قال: ما رأيت شيئا أحسن من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته منه، كأن الأرض تطوى له، إنا لنجتهد وإنه [ (4) ] غير مكترث.
وخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث قتيبة قال: أخبرنا ابن لهيعة عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: ما رأيت [شيئا أحسن من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] .
وخرجه تقي بن مخلد من حديث حرملة قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني
__________
[ (1) ] الجمار: قلب النخل: واحدته: جمارة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 124.
[ (2) ] (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 12.
[ (3) ] «وقال البخاري وأبو حاتم: لين، وقال البخاري والنسائي: ضعيف، وقال الترمذي: يضعف في الحديث- ضعفه يحيى القطان وغيره، وقال ابن عدي: وفي بعض حديثه ما ينكر وهو من الضعفاء الذين يكتب حديثهم، (تهذيب التهذيب) ج 4 ص 381.
[ (4) ] في (خ) «وأتا» .
[ (5) ] (الشمائل المحمدية) ص 60 حديث رقم 115 ولفظه «أسرع في مشيته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» .(2/156)
عمرو بن الحارث أن أبا يونس مولى أبي هريرة حدثه عن أبي هريرة أنه سمعه يقول:
ما رأيت شيئا أحسن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كأنما الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مشيته كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث.
قال الترمذي: هذا حديث غريب: قال مؤلفه: إسناد تقي هذا الحديث أجود من إسناد الترمذي، وإسناد تقي على شرط مسلم.
وقد روي مسلم عن حرملة بن يحيى هذا غير ما حدثت، ولم يخرج هو ولا البخاري من حديث ابن لهيعة شيئا.
وخرّج مسلم من حديث محمد بن جعفر قال: أخبرنا شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوس العقبين [ (1) ] .
قال: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت، ما أشكل العينين؟ قال. طويل شق العينين، قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحم العقب.
قال قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل: وتفسير سماك على ما ذكره إلا في الشكلة، فإن ابن الهيثم أخبرنا عن داود بن محمد عن ثابت بن عبد العزيز قال:
الشكلة في العين حمرة تخالط البياض، وقال أبو عبيد: الشكلة كهيئة الحمرة تكون في بياض العين، والشهلة عين الشكلة، وهي حمرة في سواد العين.
وخرجه الترمذي من حديث أبي قطن قال: أخبرنا شعبة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشكل العينين منهوس العقب، قال:
هذا حديث حسن صحيح.
وخرج من حديث محمد بن جعفر عن شعبة مثل حديث مسلم، وقال في تفسيره: قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: واسع الفم.. الحديث.
__________
[ (1) ] في (الشمائل المحمدية) «منهوس العقب» ص 11 رقم 8 وما أثبتناه من (خ) وهي رواية صحيح مسلم، (مسلم بشرح النوري) ج 3 ص 93.(2/157)
وخرجه أبو داود من حديث شعبة بسنده ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشهل العينين منهوس العقب ضليع الفم.
وللترمذي من حديث عباد بن العوام، أخبرنا الحجاج عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: كان في ساقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسما، وكنت إذا نظرت إليه قلت: أكحل وليس بأكحل. قال أبو عيسى.
هذا حديث حسن غريب صحيح [ (1) ] .
وله من حديث عمر بن عبد اللَّه مولى غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أدعج العينين أهدب الأشفار [ (2) ] ، والدعج: سواد العينين، والأهدب: الطويل الأشفار، وهو الشعر المتعلق به الأجفان.
وقال حجاج: حدثنا حماد عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عظيم العينين أهدب الأشفار متشرب العين بحمرة.
وخرّج سعيد بن منصور من حديث خالد بن عبد اللَّه عن عبيد اللَّه بن محمد ابن عمر بن علي بن أبي طلب عن أبيه عن جده قال: قيل لعلي رضي اللَّه عنه:
انعت لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان أبيض مشربا بياضه حمرة، وقال: كان أسود الحدقة أهدب الأشفار.
وله من حديث عيسى بن يونس قال، حدثنا عمر بن عبد اللَّه مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد من ولد علي قال: كان علي رضي اللَّه عنه إذا نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كان في الوجه تدوير أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار.
ومن حديث ابن أبي ذؤيب: حدثنا صالح مولى التّزمّة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه كان ينعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال. كان أهدب أشفار العين.
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية) ص 186 حديث رقم 227، والحموشة: الدقة، والكحل (بفتحتين) : سواد في أجفان العين.
[ (2) ] (سنن الترمذي) ج 5 ص 260 حديث رقم 3717.(2/158)
أما صفة جبينه وأنفه وحاجبيه وفمه وأسنانه ونكهته
فخرّج يعقوب بن سفيان من حديث الزهري عن سعيد بن المسيّب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان خاضّ الجبين أهدب الأشفار.
وفي حديث أبي هالة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واسع الجبين أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهم عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ، سهل الخدين ضليع الفم أشنب، مفلج الأسنان.
وقال موسي بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفلج الثنيتين، كان إذا تكلم رئي كالنور بين ثناياه، وقال أبو عبيدة معمر ابن المثنى: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت قاعدة أغزل والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نورا، فبهت، فنظر إليّ فقال: مالك؟ قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورا، فلو رآك أبو كثير الهزلي لعلم أنك أحق بشعره، قال: وما يقول أبو كثير؟ قلت:
يقول:
وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
فقام فقبّل بين عيني، وقال: جزاك اللَّه يا عائشة عني خيرا، ما سررت مني كسروري منك. أخرجه ابن عساكر في تاريخه.
ولابن حبان من حديث أبي جعفر الداريّ، عن أبي رهم عن يونس بن عبيد (مولى لأنس) عن أنس قال: صحبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين، وشممت العطر كله، فلم أشم نكهة أطيب من نكهته [ (1) ] .
وأما بلوغ صوته حيث لا يبلغ صوت غيره
فخرج أبو نعيم من حديث حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن البراء قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أسمع العواتق في خدورهن، ينادي بأعلى صوته: يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم،
__________
[ (1) ] ونحوه في البخاري، انظر (فتح الباري) ج 6 ص 66، حديث رقم 3561 بلفظ آخر.(2/159)
فإنه من يتبع عورة أخيه أتبع اللَّه عورته، ومن اتبع اللَّه عروته فضحه في جوف بيته [ (1) ] .
وخرجه من حديث عمران بن وهب عن سعيد بن عبد اللَّه بن جريج عن أبي بردة قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهاجرة العليا بصورت يسمع العواتق في خدورهن فقال: يا معشر من آمن بلسانه ...
فذكره.
ومن حديث أبي ثميلة قال: حدثنا جريج بن هلال الطائي، حدثنا عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه قال: صلينا خلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما، فلما انفلت من صلاته أقبل علينا غضبان فنادى بصوت أسمع العواتق في أجواف الخدور فقال: يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تسبوا المسلمين ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم هتك اللَّه ستره، وأبدى عروته ولو كان في جوف بيته، أو في ستر بيته [ (2) ] .
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جلس يوم الجمعة على المنبر فقال للناس: اجلسوا، فسمع عبد اللَّه بن رواحة فجلسوا في بني غنم، فقيل يا رسول اللَّه، ذاك ابن رواحة جالس في بني غنم، سمعك وأنت تقول للناس اجلسوا فجلسوا في مكانه [ (3) ] .
وله من حديث مسدد قال: أخبرنا عبد الوارث عن حميد الأعرج عن محمد ابن إبراهيم التيمي بن عبد الرحمن بن معاذ- وكان من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى، ففتحنا أسماعنا حتى إن كنا لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم ثم قال: عليكم بحصى الخذف [ (4) ] .
وقال سفيان عن سعد عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن أم هانئ قالت: كنت أسمع قراءة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا على عريش أهلي.
وقال هلال بن حباب: نزلت أنا ومجاهد على يحيى بن جعدة بن أم هانئ فحدثنا عن أم هانئ قالت: كنا نسمع قراءة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جوف الليل عند
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) ج 2 ص 157.
[ (2) ] المرجع السابق.
[ (3) ] المرجع السابق ج 2 ص 158.
[ (4) ] المرجع السابق ج 2 ص 158.(2/160)
الكعبة وأنا على عريشي.
وأما صفة لحيته
ففي حديث علي رضي اللَّه عنه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضخم الرأس واللحية،
وفي رواية: كان ضخم الهامة عظيم اللحية [ (1) ] .
وللترمذي من حديث أبي هالة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كثّ اللحية.
ورواه حماد عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي عن أبيه قال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كث اللحية، وليعقوب بن سفيان من حديث الزهري عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان أسود اللحية حسن الشعر.
وقال محمد بن المثنى: حدثنا يحيى بن كثير عن أبي ضمضم قال: نزلت بالرجيع فقيل لي: هاهنا رجل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتيته فقلت: رأيت رسول اللَّه؟
قال نعم، رأيته رجلا مربوعا حسن السّبلة، قال: وكانت اللحية تدعى في أول الإسلام سبلة.
وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها بالسّوية.
وروي ابن عبد البر من طريق جنادة بن مروان الأزدي عن جرير بن عثمان عن عبد اللَّه بن بسر قال: كان شارب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحيال شفته.
وقال محمد بن عائذ: قال ابن شهاب الزهري: أخبرني عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها، انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جنازة سعد بن معاذ ويده في لحيته.
وقال ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا وجد [ (2) ] فإنما يده في لحيته يفتلها أو يحركها.
قال محمد بن عمرو عن علقمة الليثي عن عائشة قالت. بكى أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على سعد- يعني ابن معاذ- حتى إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء
__________
[ (1) ] ونحوه في (البداية والنهاية) ج 6 ص 18.
[ (2) ] من الوجد، وهو الحزن والأسى(2/161)
عمر رضي اللَّه عنهما، قالت: وكانوا كما قال اللَّه عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [ (1) ] .
فقال: يا أمتاه! فما صنع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقالت: ما كانت عيناه تكاد تدمعان على أحد، ولكنه كان إذا وجد [ (2) ] فإنما يده في لحيته.
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا عبيد اللَّه بن عمر عن سعيد المقبري عن ابن جريج أنه قال لابن عمر: رأيتك تحفي شاربك، قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحفي شاربه.
وقال الفضل بن دكين: أخبرنا مندل عن عبد الرحمن بن زياد عن أشياخ لهم قالوا: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأخذ الشارب من أطرافه.
وأما صفة شعره
فخرج مسلم من حديث أنس كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل الشعر ليس بالسبط ولا بالجعد القطط.
وأخرج من حديث مالك وغيره عن ربيعة، وللبخاريّ من حديث مسلم ابن إبراهيم: أخبرنا جرير عن قتادة عن أنس: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ضخم اليدين لم أر بعده مثله، وكان شعر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل لا جعدا ولا سبطا.
ومن حديث وهب بن جرير قال: حدثني أبي عن قتادة قال: سألت أنس ابن مالك عن شعر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان شعر رسول اللَّه رجلا ليس بالسبط ولا الجعد، بين أذنيه وعاتقه، ذكرهما في اللباس، وخرّج مسلم من هذه الطريق نحو هذا [ (3) ] .
ولأبي داود من حديث عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال:
كان شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى شحمة أذنيه [ (4) ] .
وقال حميد عن أنس كان شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أنصاف أذنيه.
__________
[ (1) ] من الآية 29/ الفتح.
[ (2) ] من الوجد وهو الحزن والأسى.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 92.
[ (4) ] (سنن أبي داود) ج 4 ص 405 باب ما جاء في الشعر، الأحاديث 4183، 4184، 4185، 4186، 4187، انظر أيضا: (البخاري) في (اللباس) باب الجعد، و (مسلم) في الفضائل باب صفة النبي، و (النسائي) في الزينة حديث 5234 باب اتخاذ الجمة.(2/162)
وللبخاريّ من حديث أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مربوعا بعيد ما بين المنكبين، يبلغ شعره شحمة أذنيه. الحديث.
وأخرجه مسلم ولفظه: ما رأيت أحدا من خلق في حلة حمراء يعني أحسن من رسول اللَّه، إن [ (1) ] لمّته تضرب قريبا من منكبيه.
وفي حديث علي رضي اللَّه عنه كان كثير شعر الرأس رجله.
ولأبي داود من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت:
كان شعر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوق الوفرة ودون الجمة.
وقال سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم هانئ: قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وله أربع غدائر يعني ضفائر.
وفي الصحيحين من حديث ابن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون دونهم، فسدل رسول اللَّه ناصيته ثم فرق بعد [ (2) ] .
وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت.
أنا فرقت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه [صدعت] [ (3) ] فرقه عن يافوخه، وأرسلت ناصيته بين عينيه.
قال ابن إسحاق واللَّه أعلم: ذلك
لقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تكف ثوبا ولا شعرا، وهي سيما كان يتوسم بها.
قال: وقد قال محمد بن جعفر وكان فقيها: ما هي إلا سيما من سيم الأنبياء تمسكت بها النصارى من بين الناس.
__________
[ (1) ] اللمة بكسر اللام وتشديد الميم: الشعر يسترخي عن شحمة الأذن ولا يصل إلى المنكبين.
[ (2) ] (سنن أبي داود) ج 4 ص 407 باب ما جاء في الفرق حديث رقم 4188، وأخرجه (البخاري) في (اللباس) باب الفرق، (ومسلم) في الفضائل باب في سدل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شعره وفرقه، (وابن ماجة) في (اللباس) حديث 2336 باب اتخاذ الجمة والذوائب، (النسائي) في الزينة حديث 5340 باب فرق الشعر، و (الترمذي) في (الشمائل) حديث 29.
[ (3) ] صدع الشيء فتصدع: فرّقه متفرق. (لسان العرب) : 8/ 194.(2/163)
وخرّج البخاري من حديث أنس: توفي رسول اللَّه وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء [ (1) ] .
ولمسلم عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يختضب، إنما كان شمط عند العنفقة يسيرا وفي الصدغين يسيرا وفي الرأس يسيرا.
وروي أبو إبراهيم محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا شعبة بن الحجاج عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جمة جعدة.
قال ابن شاهين: تفرد بهذا الحديث محمد بن القاسم الأسدي عن شعبة، لا أعلم حدّث به غيره، وهو حديث غريب.
وأما صفة عنقه وبعد ما بين منكبيه
ففي حديث أم معبد [ (2) ] أنها قالت: في عنقه سطع، يعني الطول، وفي حديث هند بن أبي هالة: كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة [ (3) ] .
وفي حديث علي رضي اللَّه عنه كان عنقه إبريق فضة، وفي حديث البراء:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مربوعا بعيد ما بين المنكبين، وفي حديث الزهري عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان بعيد ما بين المنكبين.
وقال النضر بن شميل، حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر [سواء] [ (4) ] البطن [والصدر] [ (4) ] ، عظيم مشاش المنكبين [ (5) ] ، يطأ بقدميه جميعا، إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
وخرّج الترمذي من حديث غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد عن علي كان
__________
[ (1) ] هذه التكملة من (سنن أبي داود) حديث رقم 4189 ج 4 ص 408.
[ (2) ] هي عاتكة بنت خالد الخزاعية (أم معبد) (الإصابة) ج 13 ص 33 ترجمة 691 وص 279 من المرجع ذاته ترجمة رقم 1501، وفي (خ) «في» .
[ (3) ] (الشمائل المحمدية) ص 222.
[ (4) ] ما بين الأقواس تكملة من (صفة الصفوة) ج 1 ص 156.
[ (5) ] يريد رءوس المناكب، والمشاش (بضم الميم) : مفردها مشاشة، وهي رأس العظم.(2/164)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جليل الكتد، الكتد: مجمع الكتفين، وهو الكاهل. والمنكب:
مجمع رأس العضد في الكتف.
وأما صفة صدره وبطنه
ففي حديث هند بن أبي هالة: كان عريض الصدر سواء البطن والصدر، وفي حديث أم معبد: لم يعبه ثجلة، والثجلة عظم البطن واسترخاء أسفله.
وفي حديث أم هانئ: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا ذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعض.
وفي حديث علي رضي اللَّه عنه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجرد ذو مسربة.
وفي حديث هند بن أبي هالة: كان أنور المتجرد [ (1) ] ، دقيق المسربة [ (2) ] ، موصول ما بين اللبة [ (3) ] والسّرة بشعر يجري كالخيط. عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر.
أما صفة كفيه وقدميه وإبطيه وذراعيه وساقيه وصدره
فخرج البخاري من حديث أنس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخم اليدين، لم أر بعده مثله.. الحديث.
وفي رواية: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ضخم الرأس والقدمين، وكان سبط [ (4) ] الكفين، وخرّج من حديث همام: أخبرنا قتادة عن أنس أو عن رجل عن أبي هريرة قال:
كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شثن [ (5) ] الكفين والقدمين.
وفي رواية عن قتادة عن أنس أو جابر بن عبد اللَّه كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ضخم الكفين والقدمين، لم أر بعده شبها له.
وللفسوي من حديث ابن أبي ذؤيب حدثنا صالح مولى التزمة قال: كان
__________
[ (1) ] أنور المتجرد: أي نير الجسد إذا تجرد من الثياب، والنير: الأبيض المشرق.
[ (2) ] المسربة: الشعر الدقيق الّذي كأنه قضيب من الصدر إلى السّرة.
[ (3) ] اللبة (بفتح اللام وتشديد الباء) : أعلى الصدر ممّا يلي العنق.
[ (4) ] السبط: المسترسل.
[ (5) ] الشثن: الغليظ الأصابع من الكعبين والقدمين.(2/165)
أبو هريرة ينعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كان شبح [ (1) ] الذراعين بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين.
وفي حديث علي رضي اللَّه عنه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس.
وفي حديث ابن أبي هالة: كان رحب الراحة، وفي حديث أنس: ما مست قط خزا ولا حريرا ألين من كف رسول اللَّه [ (2) ] .
وفي حديث هند بن أبي هالة: كان طويل الزندين ضخم الكراديس، وفي حديث شعبة عن سماك عن جابر: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضليع الفم أشكل العينين منهوس العقبين، يعني قليل لحم العقب.
وفي حديث أبي هريرة كان يطأ بقدميه جميعا، ليس له أخمص، وفي حديث هند بن أبي هالة: كان خصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث زيد بن هارون، أخبرنا عبد اللَّه بن يزيد بن مقسم قال: حدثني عمتي سارة بنت مقسم عن ميمونة بنت كردم قال رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة وهو على ناقة له وأنا مع أبي، وبيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم درة كدرة الكتاب، فدنا منه أبي فأخذ بقدمه نقيلة [ (4) ] رسول اللَّه، قالت: فما نسيت طول إصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
وفي الصحيحين من حديث مالك بن مغول قال: سمعت عون بن أبي جحيفة ذكر عن أبيه قال: دفعت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأبطح في قبة بالهاجرة، فخرج بلال فنادى بالصلاة، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدفع الناس يأخذون
__________
[ (1) ] الشبح: الطويل (ترتيب القاموس) ج 2 ص 678، (لسان العرب) : 2/ 494.
[ (2) ] (سنن الدارميّ) ج 1 ص 31.
[ (3) ] خمصان الأخمصين: معناه أن أخمص رجله شديد الارتفاع من الأرض، والأخمص: ما يرتفع من الأرض من وسط باطن الرجل، وهو الموضع الّذي لا يلصق بالأرض من القدم عند الوطء، والخمصان (بضم الخاء) : المبالغ منه.
وقوله مسيح القدمين: أي ليس بكثير اللحم فيهما وعلى ظاهرهما، فلذلك ينبو الماء عنها.
[ (4) ] نقيلة العضد: كربلة الفخذ (ترتيب القاموس) ج 4 ص 432، وفي (خ) «ناقولة» ولعل ما أثبتناه هو الصواب.(2/166)
منه، قال: ثم دخل فأخرج العنزة، ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأني انظر إلى وميض ساقيه فركز العنزة [ (1) ] ثم صلّى بنا الظهر ركعتين [ (2) ] ، يمر بين يديه المرأة والحمار [ (3) ] .
وفيهما من حديث أنس: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطه، يعني في الاستسقاء.
وفي حديث حجاج عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يضحك إلا تبسما، وكان في ساقيه حموشة ... الحديث.
وخرّج البيهقي وأحمد من حديث يحيى بن يمان، حدثنا إسرائيل عن سماك ابن حرب عن جابر بن سمرة قال: كانت إصبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خنصره من رجله متظاهرة.
وقال محمد بن معد: أخبرنا سعيد بن محمد الثقفي، حدثنا سالم أبو النضر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أشفق من الحاجة (يعني ينساها) ربط في خنصره أو في خاتمه الخيط.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) ج 4 ص 219.
والعنزة (بفتح العين والنون) : عصا أقصر من الرمح، وقيل: هي الحربة الصغيرة: (معالم السنن للخطابي) ج 1 ص 443. وفي (مسلم بشرح النووي) ج 4 ص 219 «هي عصا في أسفلها حديدة» ورواية مسلم «ثم ركزت له عنزة» وفيها دليل على جواز استعانة الإمام بمن يركز له عنزة ونحو ذلك، وفيه: «بياض ساقيه» .
[ (2) ] فيه دليل على أن الأفضل قصر الصلاة في السفر وإن كان بقرب بلد ما لم ينو الإقامة أربعة أيام فصاعدا وفيه أيضا أن الساق ليست بعورة، وهذا مجمع عليه (المرجع السابق) .
[ (3) ] في رواية (مسلم) «يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» ، يقول النووي في شرح (مسلم) ج 4 ص 226، 227: «اختلف العلماء في هذا، فقال بعضهم يقطع هؤلاء الصلاة، وقال أحمد ابن حنبل رضي اللَّه عنه: يقطعهما الكلب الأسود وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء، ووجه قوله أن الكلب لم يجيء في الترخيص فيه شيء يعارض هذا الحديث، أما المرأة ففيها حديث عائشة رضي اللَّه عنها المذكور بعد هذا- وفيه «لقد شبّهتمونا بالحمير والكلاب واللَّه لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلّى وإني على السرير بيني وبينه القبلة» ، - وفي الحمار حديث ابن عباس السابق- وفيه «يمر بين يديه الكلب والحمار لا يمنع» - وقال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ رضي اللَّه عنهم وجمهور العلماء من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ومن غيرهم، وتأويل هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة بشغل القلب بهذه الأشياء» ، راجع: (مسلم بشرح النووي) ج 4 «باب سترة المصلي والندب إلى الصلاة إلى سترة والنهي عن المرور بين يدي المصلي والصلاة إلى الراحة والأمر بالدنو من السترة وبيان قدر السترة وما يتعلق بذلك» .(2/167)
وأما قامته
ففي حديث أنس: أن كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، وفي حديث البراء: ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير.
وفي حديث علي: ليس بالقصير ولا بالطويل، وفيه: إذا مشى تكفأ تكفيا [ (1) ] كأنما ينحط من صبب،
وفي رواية: كان لا قصير ولا طويل، وكان يتكفأ في مشيته كأنما يمشى في صبب [ (2) ] .
وفي رواية كان لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب. قال: إذا مشى تكفأ كأنما يمشى في صفد [ (3) ] .
وفي رواية كان ليس بالذاهب طولا، فوق الربعة، إذا جامع القوم غمرهم، وفي حديث أبي هريرة: كان رجلا ربعة وهو إلى الطويل أقرب، وكان يقبل جميعا ويدبر جميعا.
وفي رواية الترمذي: لم يكن بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، كان ربعة من القوم. قال الترمذي: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين يقول: سمعت الأصمعي يقول: الممغط: الذاهب طولا، والمتردد: الداخل بعضه في بعض قصرا.
وفي حديث هند بن أبي هالة: كان أطول من المربوع وأقصر من المشذب، وقال عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن جعفر بن محمد عن أبيه، وهشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: من صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لم يك يماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طاله رسول اللَّه، وربما مشى [بين] [ (4) ] الرجلين الطويلين يتطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب هو إلى الربعة.
وأما اعتدال خلقه ورقة بشرته
ففي حديث هند: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معتدل الخلق بادنا متماسكا [ (5) ] ، يعني كان تام خلق الأعضاء، ليس بمسترخي اللحم ولا كثيره.
__________
[ (1) ] أي إذا مشى رفع رجليه بقوة.
[ (2) ] الصّبب: الأرض المنحدرة.
[ (3) ] الصفد: القيد والوثاق.
[ (4) ] زيادة للسياق والمعنى.
[ (5) ] في (خ) «بادن متماسك» .(2/168)
وخرّج الحافظ أبو نعيم الأصفهاني من حديث محمد بن بكر الحضرميّ، حدثنا يزيد بن عبد اللَّه القرشي عن عثمان بن عبد الملك قال حدثني خالي- وكان من أصحاب عليّ قدم صفين- عن علي رضي اللَّه عنه قال كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رقيق البشرة.
وقال عبد الأعلى بن حماد: حدثنا معمر عن حميد عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ألين الناس كفا [وما] [ (1) ] مست خزا ولا حريرا ألين من كفه.
وأما حسنه وطيب رائحته وبرودة يده ولينها في يد من مسها وصفة قوته
ففي حديث البراء بن عازب رضي اللَّه عنه ما رأيت شيئا أحسن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وسأله رجل: أكان وجهه] مثل السيف؟ قال: لا، مثل القمر، انفرد بإخراجه البخاري [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي يونس أنه سمع أبا هريرة يقول ما رأيت أحسن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأن الشمس تخرج في وجهه.
وقال جابر بن سمرة رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة أضحيان [ (3) ] ، وعليه حلة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر، فلهو أحسن في عيني من القمر [ (4) ] .
وقال البراء ما رأيت أحدا في حلة حمراء مترجلا أحسن من رسول اللَّه..
الحديث.
وفي حديث أبي الطفيل كان أبيض مليحا مقصدا [ (5) ] ، وفي حديث أم معبد كان أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب. وعن أبي هريرة:
كأنما صيغ من فضة.
__________
[ (1) ] زيادة يتم بها المعنى.
[ (2) ] (فتح الباري) ج 6 ص 565 حديث رقم 3552، (الشمائل المحمدية) ص 12 حديث رقم 10، و (سنن الترمذي) ج 5 ص 359 حديث رقم 3715.
[ (3) ] أضحيان: مضيئة.
[ (4) ] (سنن الدارميّ) ج 1 ص 30.
[ (5) ] مقصدا (بفتح الصاد المشددة) : وهو الّذي ليس بجسيم ولا نحيف، ولا طويل ولا قصير.(2/169)
وخرّج الحافظ أبو نعيم من حديث عبد العزيز العمي عن جعفر بن محمد وهشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس وجها، وأنورهم لونا.
ومن حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه: كان وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كدارة القمر.
وخرّج الدارميّ من حديث عبيد اللَّه بن موسى عن أسامة بن زيد عن أبي عبيدة محمد بن عمارة قال: قلت للربيع بنت معوذ صفى لي رسول اللَّه، فقالت: يا بني، لو رأيته رأيت الشمس طالعة [ (1) ] .
وقال أحمد بن عبد اللَّه الغدافي أخبرنا عمرو بن أبي عمرو عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: لم يكن لرسول اللَّه ظل، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوءه على ضوء السراج.
وخرّج ابن عساكر من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: كنت أصافح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو يمس جلدي جلده، فأعرف في يدي بعد ثالثة أطيب من ريح المسك.
وقال أنس بن مالك رضي اللَّه عنه ما مسست بيدي ديباجا ولا حريرا ولا شيئا ألين من كف رسول اللَّه، ولا شممت رائحة قط أطب من ريح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وي رواية، قال أنس: ما شممت شيئا قط- مسكا ولا عنبرا- أطيب من ريح رسول اللَّه، ولا مسست شيئا قط- حريرا ولا ديباجا- ألين مسّا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفي رواية: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفّأ، وما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول اللَّه، ولا شممت مسكا ولا عنبرا أطيب رائحة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الدارميّ) ج 1 ص 31.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 86، وفيه «مسكة ولا عنبرة» .(2/170)
وقال جابر بن سمرة وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجهما من جونة [ (1) ] عطار.
وقال شعبة عن يعلي بن عطاء: سمعت جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال:
أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بمنى فقلت له: رسول اللَّه، ناولني يدك! فناولينها، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك.
وخرّج أبو نعيم من طريق الحميدي قال: أخبرنا سفيان [ (2) ] بن عيينة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بدلو من ماء فشرب ثم توضأ، فمضمض ثم مجة في الدلو مسكا أو أطيب من المسك، واستنثر خارجا من الدلو.
وخرّجه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان ومن حديث مسعر عن عبد الجبار ابن وائل قال: حدثني أخي [ (3) ] عن أبي قال: أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بدلو من ماء فشرب من الدلو ثم مج في الدلو ثم صب في البئر، أو قال: شرب من الدلو ثم مج في البئر ففاح منها مثل رائحة المسك.
وخرّج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: دخل علينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال [ (4) ] عندنا، فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق، فاستيقظ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا أم سليم! ما هذا الّذي تصنعين، قالت:
هذا عرق نجعله لطيبنا، وهو أطيب من الطيب [ (5) ] .
ومن حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن أم سليم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يأتيها فيقيل عندها فتبسط له نطعا فيقيل عليه- وكان كثير العرق- فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أم سليم! ما هذا قالت:
عرقك أدوف به طيبي [ (5) ] .
وخرّج أبو نعيم من حديث أبي يعلي الموصلي قال: أخبرنا بشر بن سنحان، أخبرنا عمرو بن سعيد الأشج، أخبرنا سعيد عن قتادة عن أنس قال: كنا نعرف
__________
[ (1) ] الجونة والجؤنة: بمعنى: وهي السقط الّذي فيه متاع العطار، هكذا فسره الجمهور، وقال صاحب (العين) : وهي سليلة مستديرة مغشاة (المرجع السابق) .
[ (2) ] في (خ) «ياسفين» .
[ (3) ] في (خ) «أحلي» .
[ (4) ] قال: من القيلولة وهي نوم الظهيرة.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 86، 87.(2/171)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أقبل بطيب ريحه.
وخرّج من حديث مغيرة بن عطية عن أبي الزبير عن جابر قال كان في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خصال: لم يكن في طريق فسلكه أحد إلا عرف مسلكه من طيب عرفه أو ريح عرقه [ (1) ] .
وأما صفة خاتم النبوة
فخرج البخاري من حديث حاتم بن إسماعيل عن الجعد بن عبد الرحمن قال:
سمعت السائب بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت:
يا رسول اللَّه، إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل ذر الحجلة.
ذكره في كتاب المناقب، وفي كتاب الدعاء في باب الدعاء للصبيان، وفي كتاب المرضى في باب من ذهب بالصبي المريض ليدعى له، وقال فيه: فنظرت إلى خاتمه، وذكره في الطهارة في باب استعمال فضل وضوء الناس، وفيه: أن ابن أختي وقع، وفيه: فنظرت إلى خاتم النبوة [ (2) ] .
وخرّجه مسلم من طرق، ولمسلم من حديث عبد اللَّه بن موسى عن إسرائيل عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد شمط مقدّم رأسه ولحيته، وكان إذا ادّهن لم تتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية، فقال رجل: وجهه مثل السيف؟ قال: لا: بل مثل الشمس والقمر، وكان مستدير الرأس، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده [ (3) ] .
وله من حديث شعبة عن سماك قال: سمعت جابر بن سمرة قال: رأيت خاتما في ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأنه بيضة حمام.
وله من حديث حامد بن محمد البكراويّ قال: أخبرنا عبد الواحد- يعني ابن زياد- أخبرنا عاصم عن عبد اللَّه ابن سرجس قال رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأكلت
__________
[ (1) ] (سنن الدارميّ) ج 1 ص ص 32، والعرف: الرائحة مطلقا، وأكثر ما يستعمل في الرائحة الطيبة، وانظر أيضا (دلائل النبوة لأبي نعيم) ص 158.
[ (2) ] (صحيح البخاري بحاشية السندي) ج 4 ص 7.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 97.(2/172)
معه خبزا ولحما، أو قال: ثريدا، قال: قلت له أستغفر لك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال:
نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [ (1) ] ،
قال: ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض [ (2) ] كتفه اليسري، جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل [ (3) ] .
وخرّجه النّسائي ولفظه: عن عبد اللَّه بن سرجس قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في ناس من أصحابه فدرت من خلفه فعرف الّذي أريد، فألقى الرداء عن ظهره فرأيت موضع الخاتم على موضع كتفيه مثل الجمع كأنها الثآليل، فجئت حتى استبقلته، فقلت: غفر اللَّه لك يا رسول اللَّه، قال: ولك- قال بعض القوم استغفر لك رسول اللَّه؟ قال [ (4) ] : نعم ولكم، ثم تلا، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [ (1) ] ، ذكره في التفسير.
وخرج أبو داود الطيالسي من حديث قرّه بن خالد قال: أخبرني معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللَّه، أرني الخاتم، قال: أدخل يدك، قال: فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس انظر إلى الخاتم،
فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذلك أن جعل يدعو لي، وإن يدي لفي جربانه.
وخرج الفسوي من حديث عبيد اللَّه بن إياد قال: حدثني أبي عن أبي دمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فنظر إلى مثل السلعة بين كتفيه، فقال:
يا رسول اللَّه، إني كأطبّ الرجال، أفأعالجها لك؟ فقال: لا، طبيبها الّذي خلقها.
وقال الثوري عن إياد بن لقيط في هذا الحديث: فإذا خلف كتفه مثل التفاحة،
__________
[ (1) ] من الآية 19 سورة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] الناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الّذي على طرفه، وقيل ما يظهر عند التحرك.
[ (3) ] وقوله «جمعا» فبضم الجيم وإسكان الميم، ومعناه: أنه كجمع الكف وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها، وأما «الخيلان» فبكسر الخاء المعجمة وإسكان الياء: جمع خال وهو الشامة في الجسد.
(مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 98، 99 والثآليل: جمع ثؤلول، وهو بثر صغير صلب مستدير يظهر على الجلد كالحمصة أو دونها (المعجم الوسيط) ج 1 ص 93.
[ (4) ] (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 18، 19 حديث رقم 22.(2/173)
وقال عاصم بن بهدلة عن أبي دمثة: فإذا في نغضّي كنفه مثل بعرة البعير أو بيضة الحمامة.
وخرّج البيهقي من حديث عبد اللَّه بن ميسرة، حدثنا عتاب قال: سمعت أبا سعيد يقول: الخاتم الّذي بين كتفي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لحمة ناتئة.
وخرّج البيهقي من حديث سماك بن حرب عن سلامة العجليّ عن سلمان الفارسيّ قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فألقى إليّ رداءه وقال: يا سليمان إلى ما أمرت به، قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة.
فصل جامع في صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
روي أبو نعيم من حديث المسعودي عن عثمان بن عبد اللَّه بن هرمز عن نافع ابن جبير بن معطم عن علي رضي اللَّه عنه قال: لم يكن رسول اللَّه بالطويل ولا بالقصير، وكان [ (1) ] شثن الكفين والقدمين، ضخم الرأس واللحية مشربا وجهه حمرة، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى يمشى قلعا كأنما ينحدر من صبب.
وفي رواية: إذا مشى تكفّأ تكفيا كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وروي الفسوي من حديث عيسى بن يونس، حدثنا محمد بن عبد اللَّه مولى عفرة، قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد على قال: كان علي إذا نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان في الوجه تدوير أبيض، مشرب أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتف، أو قال الكتد، أجرد ذا مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة [ (2) ] ، أجود الناس كفا وأرحب الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى
__________
[ (1) ] في (خ) «وكاشثن» .
[ (2) ] في (خ) «بعد قوله: «خاتم النبوة» عبارة «خاتم النبيين» والسياق يقتضي حذفها.(2/174)
الناس بذمة، وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفي رواية لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد، لم يكن بالمطهم ولا المكلثم، أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، شثن الكفين والقدمين، دقيق المسربة، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، ليس بالسبط ولا بالجعد القطط.
وفي رواية: كان أزهر، ليس بالأبيض الأمهق، وفي رواية: كان في عينيه شكلة، وفي رواية: كان شبح الذراعين.
فالممغط:
الّذي ليس بالبائن الطويل، ولا القصير، وقيل: الممغط: الذاهب طولا، والمتردد: الّذي تردد خلقه بعضه على بعض، فهو مجتمع.
يقول: ليس هو كذلك، ولكن ربعة بين الرجلين، كما جاء في حديث آخر:
كان ضرب اللحم بين الرجلين.
والمطهم:
المنتفخ الوجه، وقيل الفاحش السّمن، وقيل النحيف الجسم، وقيل: الطهمة في اللون أن تتجاوز سمرته إلى السواد، والمكلثم: المدور الوجه، وقيل: هو القصير الحنك الداني الجبهة مع الاستدارة.
يقول: فليس كذلك، ولكنه مسنون، وقوله: مشرب أي شرب حمرته،
والأدعج العين:
الشديد سوادها، والجليل المشاش: العظيم رءوس العظام، مثل الركبتين والمرفقين، والكتد: الكاهل وما يليه من الجسد، وقيل: الكتد: مجمع الكتفين، وهو الكاهل.
وقوله: شثن الكفين والقدمين:
يعني أنهما إلى الغلظ. وقيل الشثن الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين، وقوله إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب: القلع:
أن يمشي بقوة، والصبب الانحدار، والقطط: الشديد الجعودة من أشعار الحبش، والسبط: الّذي ليس فيه تكسر، يقول: فهو جعد رجل، والأزهر الأبيض النير البياض، لا يخالط بياضه حمرة، والأمهق الشديد البياض الّذي لا يخالط بياضه شيء من الحمرة وليس بنيّر، ولكن كلون الجصّ أو نحوه، يقول: فليس هو كذلك.(2/175)
والشكلة: كهيئة الحمرة تكون في بياض العين، والشهلة: حمرة في سواد العين، والمرهة: بياض لا يخالطه غيره، وأهدب الأشفار: يعني طويلها، وقوله:
شبح الذراعين: يعني عبل الذراعين عريضهما، والمسربة الشعر المستدق ما بين اللبة إلى السرة.
وقال يعلي بن عبيد عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن عبد اللَّه بن فران عن رجل من الأنصار أنه سأل عليا رضي اللَّه عنه عن نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبيض اللون مشربا حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر ذو وفرة، دقيق المسربة، كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعا، كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك [] [ (1) ] ، ليس بالطويل ولا بالقصير؟ لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال إبراهيم بن طهمان عن حميد الطويل عن أنس قال: لم يكن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالآدم ولا الأبيض الشديد البياض، فوق الربعة ودون البائن [ (2) ] الطويل، كان من أحسن ما رأيت من خلق اللَّه، وأطيبهم ريحا وألينهم كفا، ليس بالجعد الشديد الجعودة، وكان يرسل شعره إلى أنصاف أذنيه، وكان يتوكأ إذا مشى.
وقال عبد الرّزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: سئل أبو هريرة عن صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أحسن الناس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول، ما هو بعيد ما بين المنكبين، أسيل الجبين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين أهدب، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، وليس أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبه فكأنه سبيكة فضة، وإذا ضحك يتلألأ. لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفي حديث أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف الخزاعية، رأيت رجلا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه [ (3) ] ، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولا تزريه صقله، وسيما قسيما، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صحل [ (4) ] ، وفي عنقه
__________
[ (1) ] مكان هذا البياض في (خ) كلمة ممجوجة لم أتبين معناها.
[ (2) ] في (خ) «البياض» .
[ (3) ] أي يشرق بالنور.
[ (4) ] صحل: بحة.(2/176)
سطع، وفي لحيته كثافة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه، وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نذر ولا هدر، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، لا تشنؤه [ (1) ] من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفنّد صلّى اللَّه عليه وسلّم، [وسيأتي] حديث أم معبد بطوله مشروحا عند ذكر المعجزات إن شاء اللَّه تعالى.
وخرّج الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي [ (2) ] من حديث جميع بن عمر العجليّ، قال حدثني رجل بمكة عن ابن أبي هالة عن الحسن بن علي قال سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي- وكان وصافا- عن حلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أشتهى أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، فقال كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب، عظيم الهامة، رجل الشعر. إن انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يتجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفّره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزّج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ، كثّ اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسّرة بشعر يجرى كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، شثن الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط العقب، شثن الكفين والقدمين، شائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، فإذا زال زال قلعا، يخطو تكفيا، ويمشى هونا، ذريع المشية كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام، قلت: صف لي منطقه، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متواصل الأحزان. دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة: يفتتح الكلام ويختتمه
__________
[ (1) ] في (خ) «لا يأس» وما أثبتناه من (الشمائل المحمدية) ص 223.
[ (2) ] (نسبة إلى فسا) من بلاد فارس (لسان الميزان) ج 6 ص 376 ترجمة رقم 265/ 9329.(2/177)
بأشداقه، ويتكلم بجوامع الملك، فصلا لا فضول ولا تقصير، دمثا، ليس بالمجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقّت، ولا يذم منها شيئا، غير أنه لم يكن يذم ذواقا [ (1) ] ، ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يكن يغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسة ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها: وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حبّ الغمام.
قال الحسن: فكتمها الحسين زمانا ثم حدثنيه فوجدته قد سبقني إليه. فسأله عما سألته. فوجدته قد سأل (يعني عليا) رضي اللَّه عنه عن مدخله ومخرجه، وشكله فلم يدع منه شيئا.
قال الحسين عليه السلام سألت أبا هريرة عن دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزءا للَّه عزّ وجلّ، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزءا جزأة بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ولا يدخر عنهم شيئا.
وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه [ (2) ] على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم. ويقول: ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبّت اللَّه قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون عليه روادا ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة (يعني فقهاء) [ (3) ] .
قال: وسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخزن لسانه [ (4) ] إلا فيما [ (5) ] يعينهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه
__________
[ (1) ] الذواق (بفتح الذال وتخفيف الواو) المأكول والمشروب.
[ (2) ] في (خ) «وقسمته» وما أثبتناه من (صفة الصفوة) ج 1 ص 158.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «يعني على الخير» .
[ (4) ] في (خ) «يحزن» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) «مما» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.(2/178)
عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد بشره ولا خلقه، يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس [ (1) ] ، ويحسّن الحسن ويقويه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، ولا يغفل مغافة أن يغفلو أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه [ (2) ] الذين يلونه من الناس، خيارهم وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة ومؤازرة.
قال: فسألته عن مجلسه كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. ولا يوطن الأماكن وينهي عن إيطانها [ (3) ] ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، ومن جالسه أو قاومه في حاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس من بسطه وخلقه، فصار لهم أبا. وصاروا عنده في الحق متقاربين، متفاضلين بالتقوى متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
قال: قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟ قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب [ (4) ] ولا فحاش ولا عيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي. ولا يؤيس [ (5) ] منه، ولا يخيّب فيه مؤمليه [ (6) ] ، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدا، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعوا عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم
__________
[ (1) ] كذا في (خ) وفي المرجع السابق «ما في أيدي الناس» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «يجاوزه» .
[ (3) ] إيطان المكان: التعود على الجلوس في مكان بعينه.
[ (4) ] الصخّاب والسخّاب: بمعني، وهو الصياح.
[ (5) ] في (خ) «يواس» وما أثبتناه من (صفة الصفوة) ج 1 ص 160.
[ (6) ] في (خ) «ولا يجب فيه» وما أثبتناه من (صفة الصفوة) ج 1 ص 160.(2/179)
عنده حديث أوليهم [ (1) ] ، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته [ (2) ] ، حتى كان أصحابه ليستجلبوهم [ (3) ] [في المنطق] [ (4) ] ، ويقول. إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ [ (5) ] ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام [ (6) ] .
قال: سألته كيف كان سكوته؟ قال: كان سكوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير، فأما تقديره ففي تسويته النظر، والاستماع بين الناس، وأما تذكره- أو قال: تفكره- ففيم يبقى ويغنى [ (7) ] .
وجمع له صلّى اللَّه عليه وسلّم الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهي عنه، واجتهاد الرأى فيما أصلح أمته، والقيام لهم فيما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وحديث جميع بن عمرو قال: حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد اللَّه عن ابن أبي هالة لم يسم، عن الحسن بن علي قال:
سألت خالي هند بن أبي هالة- وكان وصّافا- عن حلية رسول اللَّه فقال: كان رسول اللَّه فخما مفخما. (الحديث. هكذا رواه الترمذي في الشمائل، والطبراني في معجمه الكبير، ورواه العقيلي في الضعفاء من طريق مجمع بن عمر، حدثنا يزيد ابن عمر التميمي عن أبيه عن الحسن،
فبين ذلك المبهمين في الإسناد الأول.
والفخم المفخّم:
العظيم المعظم في العيون والصدور، أي كان جميلا مهيبا عند الناس.
والمشذب: الطويل البائن الطول مع نقص في لحمة، أي ليس بنحيف طويل، بل طوله وعرضه متناسبان على أتم صفة.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) «وفي المرجع السابق «أولهم» .
[ (2) ] أي إنه يصبر على ما يبدو من الغريب من غلظة في كلامه وسؤاله.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (صفة الصفوة) «ليستجلبونهم» .
[ (4) ] ما بين القوسين ليس في (صفة الصفوة) .
[ (5) ] في (خ) «مكلف» وما أثبتناه من المرجع السابق ومن (النهاية لابن الأثير) .
[ (6) ] رواه (الترمذي)
[ (7) ] هذه الفقرة من (الطبراني) زيادة عن رواية (الترمذي) .(2/180)
والشعر الرّجل الّذي ليس شديد الجعودة ولا شديد السبوطة، بل بينهما، والعقيصة: الشعر المجموع كهيئة المضفور، والعقيقة: الشعر الّذي يخرج على رأس الصبي حين يولد وسمي الشعر عقيقة لأنه منها ونباته من أصولها، وقيل العقيقة هنا تصحيف، وإنما هي العقيصة.
والأزهر: الأبيض المستنير، وهو أحسن الألوان، وليس بالشديد البياض.
الزّجج: وهو دقة الحاجبين وسبوغهما إلى محاذاة آخر العين مع تقوس، والقرن: أن يلتقي طرفاهما مما يلي أعلى الأنف، وهو محمود عند العرب، ويستحبون البلج وهو بياض ما بين رأسيهما وخلوة في صفته عليه السلام، دون أن حاجبيه قد سبغا وامتدا حتى كادا يلتقيان فيه ولم يلتقيا، ونفي القرن هو الصحيح في صفته عليه السلام، دون ما وصفته به أم معبد، ويمكن أن يقال: لم يكن بالأقرن، ولا بالأبلج حقيقة، بل كان بين حاجبيه فرجة كبيرة، لا تتبين إلا لمن حقق النظر إليها، كما ذكر في صفة أنفه فقال: يحسبه من لم يتأمله أشمّ ولم يكن أشم.
والسوابغ: جمع سابغ، وهو التام الطويل، ويدرّه الغضب، أي يحركه ويظهره، كان إذا غضب امتلأ ذلك العرق دما كما يمتلى الضرع لبنا إذا درّ، فيظهر ويرتفع.
والعرنين: الأنف، والقنا: طول الأنف ودقة أرنبته مع ارتفاع في وسط قصبته، والشمم: ارتفاع رأس الأنف وإشراف الأرنبة قليلا، واستواء أعلى القصبة، أي كان يحسب لحسن قناة قبل التأمل أشم، فليس قناؤه بفاحش مفرط، بل يميل إلى الشمم.
والشعر الكث: الكثيف المتراكب من غير طول ولا رقة، وسهل الخدين:
أي ليس في خديه نتوء وارتفاع، وقيل: أراد أن خديه أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلدة.
والضليع الفم: العظيم الواسع، وكانوا يذمون صغر الفم، وقال أبو عبيد:
أحسبه جله في الشفتين، وغلظة فيهما.
والشنب: رقة الأسنان ودقتهما، وتحدد أطرافهما، وقيل: هو بردهما وعذوبتهما.(2/181)
والفلج: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات، والمسربة: ما دق من شعر الصدر مائلا إلى السرة.
والجيد: العنق، والدمية الصورة المصورة في جدار أو غيره.
واعتدال الخلق: تناسب الأعضاء والأطراف، وأن لا تكون متباينة في الدقة والغلظ، والصّغر والكبر، والطول والقصر.
والبادن: الضخم التام اللحم، والمتماسك: الّذي لحمه ليس بمسترخ ولا بعضه بعضا، لأن الغالب على السّمن الاسترخاء.
قوله: سواء البطن والصدر: أي متساويهما، يعني أن بطنه غير خارج، فهو مساو لصدره، وصدره عريض فهو مساو لبطنه.
والمنكبان: أعلا الكتفين، وبعد ما بينهما يدل على سعة الصدر والظهر، والكراديس: جمع كردوس، وهو رأس كل عظم كبير، وملتقى كل عظمتين ضخمتين كالمنكبين والمرفقين، والوركين والركبتين، ويريد به ضخامة الأعضاء وأغلظها.
والمتجرد ما كشف عنه الثوب من اليدين، يعني أنه كان مشرق الجسد، نيّر اللون، فوضع الأنور موضع النيّر.
والأشعر: الّذي عليه الشعر من البدن، واللبة (بفتح اللام) الوهدة في أعلى الصدر وفي أسفل الحلق بين الترقوتين.
وقوله: عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أي أن ثدييه وبطنه ليس عليهما شعر سوى المسربة المقدم ذكرها، الّذي جعله جاريا كالخط.
والزندان: العظمان اللذان يليان الكف من الذراع، رأس أحدهما يلي الإبهام، ورأس الآخر يلي الخنصر.
والراحة: الكف، ورحبها: سعتها، وهو دليل الجود، والشثن: الغليظ الأطراف والأصابع وكونها سائلة أي ليست بمتعقدة ولا متجعدة، فهي مع غلظتها سهلة سبطة.(2/182)
والقصب: جمع القصبة، وهي كل عظم أجوف فيه مخ، والسبط: الممتد في استواء ليس فيه تعقد ولا نتوء.
والأخمص من القدم: الموضع الّذي لا يصل إلى الأرض منها عند الوطء، والخمصان: المبالغ منه، أي أن ذلك الموضع منه شديد التجافي عن الأرض. وسئل ابن الأعرابي عنه فقال: إذا كان خمص الأخمص بقدر لم يرتفع جدا ولم يسو أسفل القدم جدا فهو أحسن ما يكون، وإذا استوى أو ارتفع جدا فهو ذم.
فيكون المعنى حينئذ: معتدل الخمص بخلاف الأولى، وكلا القولين متجه يحتمله اللفظ، ومسيح القدمين: أي أن ظاهرهما ممسوح غير متعقد، فإذا صب عليهما الماء مرّ سريعا لملامستهما فينبو عنهما الماء ولا يقف، يقال: نبا الشيء ينبو [ (1) ] إذا تباعد.
وقال الهروي: أراد أنهما ملساوان: ليس فيهما وسخ ولا شقاق ولا تكسر، فإذا أصابهما الماء نبا عنهما.
وقوله: إذا زال زال قلعا كأنما ينحط من صبب، والانحدار من صبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد أنه كان يستعمل التثبت، ولا يبين منه في هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة.
وفي حديث آخر: إذا مشى تقلّع، أراد به قوة المشي وأنه كان يرفع رجليه من الأرض رفعا قويا، لا كمن يمشى اختيالا، ويقارب خطوه، فإن ذلك من مشى النساء.
والتكفؤ: تمايل الماشي إلى قدام كالغصن إذا هبت به الريح، والهون: المشي في رفق ولين غير مختال ولا معجب-، والذريع: السريع، أي أنه كان واسع الخطو فيسرع مشيه، وربما يظن أن هذا ضد الأول. ولا تضاد فيه، لأن معناه أنه كان مع تثبته في المشي يتابع الخطوات ويوسعها فيسبق غيره.
والصّبب: الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليل سرعة مشيه، لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه.
__________
[ (1) ] في (خ) «ينبوا» .(2/183)
وفي رواية كأنما يهوي من صبوب بضم الصاد: جمع صبب، وهو المنحدر من الأرض، وبفتح الصاد: اسم لما يصب على الإنسان من ماء غيره، وهو يهوي:
إذا نزل من موضع عال.
وقوله: وإذا التفت التفت جميعا: أي لم يكن يلوي عنقه، ورأسه إذا أراد أن يلتفت إلى ورائه، فعل الطائش العجل، إنما يدير بدنه كله وينظر، وقيل: أراد أن لا يسارق النظر، وخفض الطرف ضد رفعه، وجلّ الشيء معظمه والملاحظة:
أن ينظر بلحظ عينيه وهو شقها الّذي يلي الصدغ والأذن. ولا يحدق [ (1) ] إلى الشيء تحديقا.
والطرف العين. وكانت الملاحظة معظم نظره وأكثره، وهو دليل الحياء والكرم. ويسوق أصحابه: أي يقدمهم أمامه، ويمشي وراءهم، والسكت:
السكوت، وجوامع الكلم: القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني، جمع جامعة وهي اللفظة الجامعة للمعاني، والقول الفصل: هو البين الظاهر المحكم الّذي لا يعاب قائله، وحقيقته الفاصل بين الحق والباطل، والخطأ والصواب.
والفضول من الكلام: ما زاد عن الحاجة وفضل، ولذلك عطف عليه (ولا تقصير) ، والدمث: السهل اللين الخلق، والجافي: المعرض المتباعد عن الناس، وقيل: الغليظ الخلقة والطبع، والمهين (بضم الميم) من الإهانة وهي الإذلال والإطراح، أي لا يهين أحدا من الناس، و (بفتح الميم) من المهانة وهي الحقارة والصغر.
ويعظم النعمة: أي لا يستصغر شيئا أوتيه وإن كان صغيرا، والذّواق: اسم لما يذاق باللسان، أي لا يصف الطعام بطيب ولا بشاعة، وقالوا: وقوله: تعوطي الحق لم يعرفه أحد، أي إذا نيل من الحق أو أهمل أو تعرض للقدح فيه، تنكر عليهم وخالف عادته معهم، حتى لا يكاد يعرفه أحد منهم، ولا يثبت لغضبه شيء حتى ينتصر للحق.
وقوله: إذا تحدث اتصل بها، أي أنه كان يشير بكفه إلى حديثة، وتفسير، «قوله فيضرب بباطن راحته اليمني باطن إبهامه اليسرى، وأشاح» : إذا بالغ في
__________
[ (1) ] نحوه في (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 69.(2/184)
الإعراب وجدّ فيه. المشيح المبالغ في كل أمر، أي إذا غضب لم يكن ينتقم ويؤاخذ.
بل يقنع بالإعراض عمن أغضبه» .
وغض الطرف عند الفرح دليل على نفي البطر والأشر، والتبسم: أقل من الضحك، ويفتر: أي يكشف عند التبسم عن أسنانه من غير قهقهة. وحب الغمام: البرد، وقوله: فيرد ذلك على العامة بالخاصة: أرد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت، وكانت الخاصة تخبر العامة بما سمعت منه فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة، وقيل أن الباء في الخاصة تخبر العامة: بمعنى من، أي فجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة وبدلا منهم.
والرّوّاد: جمع رائد، وهو الّذي يتقدم القوم. يكشف لهم حال الماء والمرعى قبل وصولهم، ويخرجون أدلة: أي يدلون الناس بما قد علموه منه وعرفوه. يريد أنهم يخرجون من عنده فقهاء.
ومن قال أذلة (بذال معجمة) فيكون جمع ذليل، أي يخرجون من عنده متواضعين، وقوله: لا يفترقون إلا عن ذواق: ضرب الذواق مثلا لما ينالون عنده من الخير، أي لا يفترقون إلا عن علم يتعلمونه يقوم لهم مقام الطعام والشراب، لأنه يحفظ الأرواح كما يحفظ الأجسام.
وقوله: لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تقذف وترمي بعيب، والحرم: جمع حرمة، وهي المرأة. ولا تنثى فلتاته: أي لا يتحدث عن مجلسه بهفوة أو زلة إن حدثت فيه من بعض القوم، يقال: نتوت الحديث إذا أذعته. والفلتات جمع فلتة، وهي الزلة والسقطة.
وقيل معناه: أنه لم يكن فيه فلتات فتنثى. والبشر: طلاقة الوجه وبشاشته.
والفظ: السيء الخلق. والسخاب فعال من السخب، وهو الضجة واختلاط الأصوات.
والخصّام والفحّاش والعيّاب: فعال من الفحش في القول وعيب الناس والوقيعة بينهم.
وقوله: لا يقبل الثناء إلا من مكافئ: يريد أنه كان إذا ابتدأ بثناء ومدح كره ذلك، وإذا اصطنع معروفا فأثني عليه، هش وشكر له قبل ثنائه.(2/185)
وأنكر ابن الأعرابي هذا التأويل وقال: المعنى أنه لا يقبل الثناء عليه ممن لا يعرف حقيقة إسلامه ويكون من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وقال الأزهري: معناه لا يقبل الثناء إلا من مقارب غير مجاوز حد مثله، ولا مقصر عما رفعه اللَّه إليه. والمكافأة: المجازاة على الشيء.
فصل في ذكر شمائل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وأخلاقه
قال اللَّه تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ (1) ] قال ابن سيده: والخلق والخلق الخليقة، أعني الطبيعة، وفي التنزيل: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، والجمع أخلاق، وتخلق بخلق كذا: استعمله من غير أن يكون موضوعا في فطرته، وفي قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ثلاثة أقوال: أحدهما: دين الإسلام، قاله عبد اللَّه ابن عباس ومجاهد، والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن وعطية العوفيّ، وسئلت عائشة رضي اللَّه عنها عن خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: كان خلقه القرآن، تعني كان على ما أمره اللَّه به في القرآن، واختار هذا القول الزّجاج.. والثالث:
أنه الطبع الكريم، وهذا القول هو الظاهر، وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، وسمي خلقا لأنه يصير كالخلقة في الإنسان.
وأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخير، فيكون الخلق هو الطبع المتكلف، والخير هو الطبع الغريزي، وقد اجتمع في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكارم الأخلاق، وشهد له به تعالى بالحكمة البالغة، والأخلاق السمية الرفيعة، والمنازل العلية الرصينة.
قال أبو القاسم: سمي خلقه عظيما، لأنه لم تكن له همة سوى اللَّه تعالى.
وقال لأنه امتثل أمر ربه في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [ (2) ] .
وخرّج البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد اللَّه بن الزبير في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ، قال: أمرني ربي أن آخذ [ (3) ] العفو من أخلاق الناس.
__________
[ (1) ] الآية 4/ القلم.
[ (2) ] الآية 199/ الأعراف.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 143 حديث رقم 4787.(2/186)
وقيل: عظم خلقه حيث صغرت الأكوان في عينه بعد مشاهدة مكونها سبحانه، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم كما قالت عائشة رضي اللَّه عنها حيث سئلت عن خلقه:
القرآن، يغضب لغضبه، ويرضي لرضاه، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها إلا أن تنتهك حرمات اللَّه.
وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، فيكون غضبه لربه، وينفذ الحق وإن عاد ذلك بالضرر عليه وعلى أصحابه، [وقد] [ (1) ] عرض عليه أن ينتصر بالمشركين وهو في قلة وحاجة إلى إنسان واحد يزيده في عدد من معه فأبي [ (2) ] وقال: إنا لا نستعين بمشرك.
وكان أشجع الناس وأسخاهم وأجودهم، ما سئل شيئا فقال لا، ولا يبيت في بيته درهم ولا دينار، فإن فضل ولم يجد من يأخذه وفجئه الليل لم يرجع إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، ولا يأخذ مما آتاه اللَّه إلا قوت أهله عاما فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ثم يؤثر من قوت أهله حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام.
ولم يشغله اللَّه تعالى من المال بما يقضي محبة في فضوله ولا أحوجه إلى أحد، بل أقامه على حد الغنى [ (3) ] بالقوت، ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقرب من ربه تعالى.
وكان أحلم الناس، وأشدّ حياء من العذراء في خدرها، وكان خافض الطرف. نظره الملاحظة، لا يثبت بصره في وجه أحد تواضعا، يجيب من دعاه من غني أو فقير، وحر أو عبد، وكان أرحم الناس، يصغي الإناء للهرّة، وما يرفعه حتى تروى رحمة لها.
وكان أعفّ الناس، لم تمس يده يد امرأة إلا بملك رقّها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه، وكان أعدل الناس، وجد أصحابه قتيلا من خيارهم وفضلائهم، فلم يحف [ (4) ] لهم من أجله على أعدائه من اليهود، وقد وجد مقتولا بينهم! بل وداه [ (5) ] مائة ناقة من صدقات المسلمين وإن بأصحابه حاجة إلى بعير
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) «فأيا» .
[ (3) ] في (خ) «الغنا» .
[ (4) ] من الحيف وهو الميل من العدل.
[ (5) ] وداه: دفع ديته.(2/187)
واحد يتقوون به، ووودي بني خزيمة وهم غير موثوق بإيمانهم، إذ وجب بأمر اللَّه ذلك.
وكان أكثر الناس إكراما لأصحابه، لا يمد رجليه بينهم، ويوسع لهم إذا ضاق بهم المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدم ركبة جليسه، وكان له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا له، وإن أمر تبادروا لأمره، وكان يتحمل لأصحابه ويتفقدهم ويسأل عنهم، فمن مرض عاده [ (1) ] ، ومن غاب تفقده وسأل عنه، ومن مات استرجع فيه وأتبعه الدعاء له، ومن تخوّف أن يكون وجد في نفسه شيئا انطلق إليه حتى يأتيه في منزله.
ويخرج إلى بساتين أصحابه ويأكل ضيافتهم، ويتألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، ويقبل [ (2) ] معذرة المعتذر إليه، والضعيف والقوي في الحق عنده سواء،
ولا يدع أحدا يمشي خلفه، ويقول:
خلّوا ظهري للملائكة،
ولا يدع أحدا يمشي معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبي قال: تقدمني إلى المكان الفلاني.
ويخدم من خدمه، وله عبيد وإماء لا يرتفع عنهم [في شيء] [ (3) ] من مأكل ولا ملبس، قال أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: خدمته نحوا من عشرين سنة، فو اللَّه ما صحبته في حضر ولا سفر إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له. وما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا قال لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا [ (4) ] ؟!!
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول اللَّه، عليّ ذبحها وقال آخر عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
وعليّ جمع الحطب! فقالوا: يا رسول اللَّه، نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن اللَّه يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه وقام فجمع الحطب.
__________
[ (1) ] في (خ) «عاداه» .
[ (2) ] في (خ) «ويقبل» .
[ (3) ] ما بين القوسين مطموس في (خ) ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (4) ] في (خ) «ولا يحدق شيئا إلى الشيء» وما أثبتناه أولى للسياق والمعنى.(2/188)
وكان في سفر فنزل إلى الصلاة ثم كر راجعا، فقيل: يا رسول اللَّه، أين تريد؟ قال: أعقل ناقتي فقالوا: نحن نعقلها. قال: لا يستعين أحدكم بالناس في قضمة من سواك.
وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه. لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، وإذا جلس إليه أحدهم لم يقم صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى يقوم الّذي جلس إليه، إلا أن يستعجله أمر فيستأذنه، ولا يقابل أحدا بما يكره، ولا يجزي السيئة بمثلها.
بل يعفو ويصفح. وكان يعود المرضى ويحب المساكين ويجالسهم. ويشهد جنائزهم. ولا يحقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، ويعظم النعمة وإن قلت.
ولا يذم منها شيئا: وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وكان يحفظ جاره ويكرم ضيفه، وكان أكثر الناس تبسما، وأحسنهم بشرا، ولا يمضي له وقت في غير عمل اللَّه، أو فيما لا بد منه، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون إثما أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس منه.
وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، ويركب الفرس والبغل والحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره من الناس، ويمسح وجه فرسه بطرف ردائه.
وكان يحب الفأل ويكره الطيرة،
وإذا جاءه ما يحب قال: الحمد للَّه رب العالمين، وإذا جاء ما يكره قال: الحمد للَّه على كل حال، وإذا رفع الطعام من بين يديه قال: الحمد للَّه الّذي أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا مسلمين.
وكان أكثر جلوسه وهو مستقبل القبلة، ويكثر ذكر اللَّه تعالى، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة، ويستغفر في المجلس الواحد مائة مرة، وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان يقوم الليل في الصلاة حتى ورمت قدماه.
وكان يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء. وقلما كان يفطر يوم الجمعة، وكان أكثر صيامه في شعبان، وكان يصوم حتى يقال:
لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم.(2/189)
وكان عليه السلام تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارا للوحي، وإذا نام نفخ ولا يغط
وإذا رأى في منامه ما يكره قال: هو اللَّه لا شريك له، وإذا أخذ مضجعه قال: رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، وإذا استيقظ قال: الحمد اللَّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
وكان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية ويكافئ عليها، ولا يتأنق في مأكل، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع! هذا وقد آتاه اللَّه مفاتح خزائن الأرض فلم يقبلها، بل زهد في الدنيا، واختار عليها اللَّه والدار الآخرة.
وأكل الخبز بالخلّ وقال نعم الإدام الخلّ،
وأكل لحم الدجاج ولحم الحباري، وكان يأكل ما وجد، ولا يرد ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضر، ولا يتورع عن مطعم حلال، إن وجد تمرا دون خبز أكله، وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز برّ أو شعير أكله، وإن وجد حلوى أو عسلا أكله، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان له من أصحابه من يبرد الماء وقال للهيثم بن التيهان [ (1) ] كأنك علمت حبنا اللحم، وكان لا يأكل متكئا، ولم يأكل على خوان، ولم يشبع من خبز برّ ثلاثا تباعا حتى لقي اللَّه عز وجل، وكان يفعل ذلك إيثارا على نفسه، لا فقرا ولا بخلا.
وكان يحضر الوليمة إذا دعي إليها، ويجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدايا ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب، وكان يحب من المأكل الدباء وذراع الشاة، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، وكان منديله باطن قدميه، ويأكل خبز الشعير بالتمر، وأكل البطيخ بالرطب، والقثاء بالرطب، والتمر بالزبد، وكان يحب الحلوى والعسل، ويشرب قاعدا، وربما شرب قائما، وكان يتنفس في الإناء ثلاثا، مبينا للإناء عن فمه، ويبدأ بمن عن يمينه إذا سقاه، وشرب لبنا
وقال: من أطعمه اللَّه
__________
[ (1) ] هو مالك بن التيهان، واسم التيهان أيضا: مالك بن عيتك بن عمرو بن الأعلم بن عامر بن زعون، ابن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك الأنصاري حليف بني عبد الأشهل، كان أحد النقباء ليلة العقبة ثم شهد بدرا، واختلف في وقت وفاته، فأصح ما قيل فيه: إنه شهد مع عليّ صفّين، وقتل فيها رحمه اللَّه، يقول السهيليّ: «وأحسب ابن إسحاق وابن هشام تركا نسبه على جلالته في الأنصار، وشهوده هذه المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا خلاف فيه» وقد ضاف الهيثم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، في منزله ومعه أبو بكر وعمر فذبح لهم عناقا وأتاهم بقنو من رطب (الروض الأنف للسهيلي) ج 2 ص 195.(2/190)
طعاما فليقل: اللَّهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه اللَّه لبنا فليقل اللَّهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه.
وقال: ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن وشرب النّبيذ الحلو
(وهو الماء الّذي قد نقع فيه تمرات يسيرة حتى يحلو) ، وكان يلبس الصوف وينتعل بالمخصوف، ولا يتأنّق في ملبس، ويحب من اللباس الحبرة (وهي برود من اليمن فيها حمرة وبياض) .
وأحب الثياب إليه القميص،
وكان يقول إذا لبس ثوبا استجدّه اللَّهمّ لك الحمد كما ألبستنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له.
وتعجبه الثياب الخضر، وربما لبس الإزار الواحد. أو عليه غيره، يعقد طرفه بين كتفيه، ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر ويعتم ويلبس خاتما من فضة نقشه (محمد رسول اللَّه) في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر.
ويحب الطيب ويكره الرائحة الكريهة،
ويقول: إن اللَّه جعل لذتي في النساء والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة،
وكان يتطيب بالغالية والمسك ويتطيب بالمسك وحده، ويتبخر بالبخور والكافور، ويكتحل بالإثمد، وربما اكتحل وهو صائم، ويكثر دهن رأسه ولحيته، ويدهن غبّا [ (1) ] ويكتحل وترا، ويجب التيمن في ترجله وفي تنعله وفي طهوره وفي شأنه كله. وينظر في المرآة، ولا تفارقه قارورة الدهن في سفره، والمرآة والمشط والمقراض والسواك والإبرة والخيط، ويستاك في ليله ثلاث مرات: قبل نومه وبعده، وعند القيام لورده، وعند القيام لصلاة الصبح، وكان يحتجم.
وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، قد جمع اللَّه له كمال الأخلاق ومحاسن الأفعال، وأتاه علم الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، ولا معلم له من البشر، بل نشأ في بلاد الجهل والصحاري، وآتاه اللَّه ما لم [ (2) ] يؤت أحدا من العالمين، واختاره على الأولين والآخرين، وعصمه من الناس. ورفع له ذكره، وضمن له إظهار دينه على الدين كله. وجعل شانئه الأبتر، وأعزه بالنصر على كل عدوّ، وأوجب طاعته على جميع الإنس والجان، وأكرمه برسالته، وأمنه
__________
[ (1) ] الغبّ (بكسر الغين وتشديد الباء) اليوم بعد اليوم.
[ (2) ] في (خ) «مل لم» .(2/191)
من كل بشر، وأكب عدوه لوجهه، وغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وسيأتي هذا في مظانه مبسوطا إن شاء اللَّه تعالى.
أما حسن خلقه
فخرج من حديث أبي بكر بن شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر العبديّ، حدثنا سعيد بن أبي عروة، حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام أنه قال لعائشة رضي اللَّه عنها يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قالت [ (1) ] : ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق رسول اللَّه كان القرآن.
وخرج الإمام أحمد من حديث مبارك عن الحسن عن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول اللَّه: قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن وَإِنَّكَ [ (2) ] لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ الحديث.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران عن يزيد ابن بابنوس [ (3) ] : قلنا لعائشة رضي اللَّه عنها: يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قالت كان خلق رسول اللَّه القرآن، ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنين، اقرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى العشر، [فقرأ] [ (4) ] حتى بلغ العشر [آيات] [ (4) ] ، فقالت: هكذا كان خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال زيد بن واقد عن بسر بن عبيد اللَّه عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي الدرداء قال: سألت عائشة عن خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه.
وخرّج البخاري من حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت: ما خير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه عز وجل فينتقم للَّه بها.
لم يذكر فيه مسلم (فينتقم اللَّه بها) ، وفي لفظ: ما خيّر رسول اللَّه بين أمرين
__________
[ (1) ] في (خ) «قال» .
[ (2) ] في (خ) «إنك» .
[ (3) ] بابنوس بموحدتين بينهما ألف ثم نون مضمومة ساكنة ومهملة (تهذيب التهذيب) ج 11 ص 316.
[ (4) ] زيادة البيان.(2/192)
إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لنفسه في شيء يؤتي إليه قط حتى تنتهك حرمات اللَّه، فينتقم للَّه، ولم يذكر مسلم في حديث مالك (فينتقم للَّه) .
وقال البخاري في رواية: واللَّه ما انتقم لنفسه في شيء يؤتي إليه قط حتى تنتهك حرمات اللَّه فينتقم للَّه.
وفي لفظ له عن عائشة قالت: ما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لنفسه في شيء يؤتي إليه حتى ينتهك من حرمات اللَّه، فينتقم للَّه.
ولمسلم من حديث أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ما خير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، [فإن كان إثما] [ (1) ] كان أبعد الناس منه.
وفي لفظ: ما ضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه عن رجل، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم اللَّه عز وجل فينتقم [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما ضرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خادما له قط، ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وما نيل من شيء فانتقمه إلا من صاحبه إلا أن ينتهك محارم اللَّه فينتقم للَّه عز وجل، وما عرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما إلا أن يكون مأثما، فإنه كان أبعد الناس منه.
ولابن سعد من حديث وكيع عن داود بن أبي عبد اللَّه عن ابن جدعان عن جدته عن أم سلمة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسل وصيفة له فأبطأت، فقال: لولا القصاص لأوجعتك بهذا السواك.
وخرّجه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلي به، وروي منصور بن المعتمر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت-: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منتصرا من
__________
[ (1) ] زيادة البيان ساقطة في (خ) وأتممناها من (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 83.
[ (2) ] ونحوه في (سنن أبي داود) كتاب الأدب- باب في التجاوز في الأمر، وأخرجه مسلم في الفضائل باب مباعدته صلّى اللَّه عليه وسلّم للآثام، وابن ماجة في النكاح باب ضرب النساء. ونسبه المنذري إلى النسائي.(2/193)
ظلامة ظلمها قط، إلا أن ينتهك من محارم اللَّه، فإذا انتهك من محارم اللَّه شيء كان أشدهم في ذلك، وما خير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما.
وفي لفظ: ما رأيت رسول اللَّه منتصرا من ظلمة قط ما لم ينتهك من محارم اللَّه شيء فإذا انتهك من محارم اللَّه شيء كان أشدّهم في ذلك غضبا، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
وروي محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: ما خيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراما، فإن كان حراما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لنفسه من شيء يصاب منه إلا أن تعاب حرمة اللَّه فينتقم للَّه.
وخرّج البخاري في الأدب المفرد من حديث محمد بن سلام: أخبرنا يحيى بن محمد أبو محمود البصري قال: سمعت عمر مولى المطلب قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لست من دد، ولا الدّد مني،
يعني ليس الباطل مني بشيء.
وخرّج البخاري في كتاب الديات في باب من استعان عبدا أو صبيا، من حديث إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي اللَّه عنه قال: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه، إن أنسا غلام كيّس فليخدمك، قال: فخدمته في الحضر والسفر، فو اللَّه ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا؟
وخرجه مسلم بنحوه. وخرّج في كتاب الوصايا [ (1) ] في باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له، من حديث ابن عليّة، أخبرنا عبد العزيز عن أنس قال: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي (الحديث بمثله) ، غير أنه لم يقل (فو اللَّه) .
وخرّج في كتاب الأدب في باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل،
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري بحاشية السندي) ج 2 ص 131.(2/194)
من حديث سلام بن مسكين: سمعت ثابتا يقول: أخبرنا أنس قال: خدمت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين، وما قال لي: أف، ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟.
وخرجه مسلم في المناقب من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال:
خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين والله ما قال لي أفا قط، وما قال لي لشيء:
لم فعلت كذا أو هلا فعلت كذا؟! ومن حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: خدمت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين بالمدينة وأنا غلام، ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن يكون عليه، ما قال لي فيه: أف قط، ولا قال لي: لم فعلت هذا؟ وألا فعلت هذا؟
وله من حديث زكريا قال: حدثني سعيد وهو ابن أبي برده عن أنس قال:
خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟
ولا عاب عليّ شيئا قط.
ولمسلم وأبي داود من حديث عمر بن يونس قال: أخبرنا عكرمة- وهو ابن عمار- قال: قال إسحاق: قال أنس: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة فقلت: لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به، رسول اللَّه، فخرجت حتى أمرّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟ قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول اللَّه.
وقال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا [ (1) ] ؟
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي معاوية عن جعفر بن برقان عن عمران القصير عن أنس قال: خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين، فما أرسلني في حاجة قط لم تهيّأ إلا قال: لو قضي لكان، أو لو قدر لكان.
ولمسلم من حديث عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس خلقا.
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) ج 3 ص 5 ص 133 كتاب الأدب، باب الحلم وأخلاق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم 4773.(2/195)
وخرّج البخاري من حديث عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير: أحسبه فطيم، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير: ما فعل النّغير؟
- نغز كان يلعب به- فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الّذي تحته، فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه، فيصلي بنا. ترجم عليه (باب الكنية للصبي) .
وخرّجه مسلم ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير قال: وأحسبه قال: كان فطيما، فكان إذا جاء رسول اللَّه فرآه قال: أبا عمير، ما فعل النّغير؟ قال: فكان يلعب به.
وخرّجه أبو داود من حديث حماد قال: حدثنا ثابت عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم فرآه حزينا، فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره! فقال: «يا أبا عمير، ما فعل النّغير؟»
ترجم عليه. (باب الرجل يتكني وليس له ولد) [ (1) ] .
وفي هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستون وجها، جمعها أبو العباس أحمد بن القاصّ الفقيه الشافعيّ في جزء [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أبو عمير هذا- بضم العين وفتح الميم وسكون الياء- هو أخو أنس بن مالك لأمه، أمهما: أم سليم، لا يعرف له اسم، وتوفي في حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو الّذي توفي وجرى لأم سليم مع زوجها أبي طلحة فيه ما جرى، [يراجع ذلك في أبواب الجنائز من كتب السنن] ، والنّغر (بضم النون وفتح الغين) :
طائر صغير يجمع على النّغران.
أخرجه أبو داود في (السنن) كتاب الأدب باب ما جاء في الرجل يتكني وليس له ولد، و (البخاري) في الأدب باب الانبساط إلى الناس، و (مسلم) في الأدب باب استحباب تحنيك المولود، و (الترمذي) في الصلاة باب ما جاء في الصلاة على البسط وقال: وحديث أنس صحيح-، وفي البر باب ما جاء في المزاج، و (ابن ماجة) في الأدب باب المزاح-، من حديث أبي التياح- يزيد ابن حميد الضبعي- عن أنس بن مالك، ونسبه (المنذري للنسائي أيضا) .
[ (2) ] هو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المعروف بابن القاصّ، الطبري، الفقيه الشافعيّ، وعرف والده بالقاصّ لأنه كان يقصّ الأخبار.
كان ابن القاصّ إمام وقته في طبرستان، وأخذ الفقه عن ابن شريح، وصنّف كتبا كثيرة، منها:
«التلخيص» ، و «أدب القاضي» ، و «المفتاح» ، وغير ذلك. وجميع تصانيفه صغيرة الحجم، كثيرة الفائدة، وكان يعظ الناس، فانتهى إلى طرسوس، وقيل: إنه تولى القضاء بها، فعقد له مجلس(2/196)
__________
[ () ] وعظ، وأدركته رقة وخشية وروعة من ذكر اللَّه تعالى، فخرّ مغشيا عليه، ومات سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. (النجوم الزاهرة) و (شذرات الذهب) و (طبقات الشافعية للسبكي) و (وفيات الأعيان) و (سير أعلام النبلاء) و (الأنساب) .
قال أبو العباس بن القاصّ رحمه اللَّه تعالى: وفيما روينا من قصة أبي عمير ستون وجها من الفقه والسنة، وفنون الفائدة والحكمة، فمن ذلك:
[1] أن سنة الماشي أن لا يتبختر في مشيته ولا يتبطأ فيها، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا مشي توكأ كأنما ينحدر من صبب. [2] ومنها أن الزيارة سنة. [3] ومنها الرخصة للرجال في زيارة النساء غير ذوات المحارم (إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة. [4] ومنها زيارة الحاكم للرعية. [5] ومنها أنه إذا اختصّ الحاكم بالزيارة والمخالطة بعض الرعية دون بعض فليس ذلك بميل، وقد كان بعض أهل العلم يكره للحكام ذلك. [6] وإذا ثبت ما وصفنا كان فيه وجه من تواضع الحاكم للرعية. [7] وفيه دليل على كراهية الحجّاب للحكام. [8] وفيه دليل أن الحاكم يجوز له أن يسير وحده. [9] وأن أصحاب المقارع بين يدي الحكام والأمراء محدثة مكروهة، لما روي في الخبر: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى على ناقة له، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك. [10] وفي قوله: يغشانا ما يدل على كثرة زيارته لهم. [11] وأن كثرة الزيارة لا تخلق الحب والمودة ولا تنقصها إذا لم يكن معها طمع. [12] وأن
قوله عليه السلام لأبي هريرة: «زر غبّا تزدد حبا،
كما قاله بعض أهل العلم لما رأى في زيارته من الطمع لما كان بأبي هريرة من الفقر والحاجة حتى دعا له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في مزودة، وكان لا يدخل فيها يده إلا أخذ حاجته، فحصلت له الزيارة دون الطمع. [16] وفي قوله: «يخالطنا» ، ما يدل على الألفة، بخلاف النفور، وذلك من صفة المؤمن، كما
روي في بعض الأخبار: المؤمن ألوف والمنافق نفور.
[14] ومنها ما
روي في الخبر: «فرّ من الناس فرارك من الأسد» ،
إذا كانت في لقيهم مضرة لا على العموم، فأما إذا كانت فيه للمسلمين ألفة ومودة فالمخالطة أولى. [15] وفيه دلالة على الفرق بين شباب النساء وعجائزهن في المعاشرة، إذ اعتذر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى من رآه واقفا مع صفية، ولم يعتذر من زيارته أم سليم، بل كان يغشاهم الكثير. [16] وفي قوله: «ما مسست شيئا قط ألين من كفّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» :
ما يدل على مصافحته، وإذا ثبتت المصافحة، دلّ على تسليم الزائر إذا دخل. [17] ودلّ على مصافحته، [18] ودلّ على أن يصافح الرجل دون المرأة، لأنه لم يقل: «فما مسسنا» وإنما قال:
«ما مسست» ، وكذلك كانت سنته صلّى اللَّه عليه وسلّم في التسليم على النساء ومبايعته، إنما كان يصافح الرجال دونهن. [19] وفي لين كفه ما يدل على أنه لا ينبغي أن يعتمد المصلّي إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود، كما اختار ذلك بعضهم، لما وجد في صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه كان شثن الكفين والقدمين، فقال: ينبغي أن يعتمد إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود، ليؤثر على يديه دون جبهته. [20] وفيه ما يدل على الاختيار للزائر إذا دخل على المزور. [21] وفيه ما يدل على ما قاله بعضهم أن الاختيار في السنّة الصلاة على البساط والجريد والحصير، وقد قيل في بعض الأخبار أنه كان حصيرا باليا، وذلك أن بعض الناس كان يكره الصلاة على الحصير، وينزع بقول اللَّه تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً. [22] وفي نضحهم ذلك له وصلاته عليه مع علمه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن في البيت صبيا صغيرا، دليل على أن السنة ترك التعزر. [23] ودليل على أن الأشياء على الطهارة حتى يعلم يقين النجاسة. [24] وفي(2/197)
__________
[ () ] نضحهم البساط لصلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دليل على أن الاختيار للمصلى أن يقوم في صلاته على أروح الحال وأمكنها، لا على أجهدها وأشدها، لئلا يشغله الجهد عما عليه من أدب الصلاة وخشوعها، كما أمر الجائع أن يبدأ بالطعام قبل الصلاة، خلاف ما زعم بعض المجتهدين، إذ زعم أن الاختيار له أن يقوم على أجهد الحال، كما سمع في بعض الأخبار أنهم لبسوا المسح إذا قاموا من الليل وقيدوا أقدامهم. [25] وفي صلاته في بيتهم ليأخذوا علمها دليل على جواز حمل العالم علمه إلى أهله: إذا لم يكن فيه على العلم مذلة، وأما روى في أن: «العلم يؤتى ولا يأتي» : إذا كانت فيه للعلم مذلة، أو كان من المتعلم على العالم تطاول. [26] وفيه دلالة اختصاص لآل أبي طلحة، إذ صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتهم. [27] وأخذهم قبلة بيتهم بالنص عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دون الدلائل والعلامات.
[28] وفي قوله: «وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جاء مازحه» ، ما يدل على أنه كان يمازحه كثيرا، وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان: [29] أحدهما: أن ممازحة الصبيان مباح. [30] والثاني: أنها إباحة سنة لا إباحة رخصة، لأنها لو كانت إباحة رخصة لأشبه أن لا يكثرها، كما قال في مسح الحصى للمصلى: «فإن كنت لا بد فاعلا فمرة» ، لأنها كانت رخصة لا سنة. [31] وفيه- إذ مازحه صلّى اللَّه عليه وسلّم- ما يدل على ترك التكبر والترفع. [32] وما يدل على حسن الخلق. [33] وفيه دليل على أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل من حاله إذا برز، فيكون في المنزل أكثر مزاحا، وإذا خرج أكثر سكينة ووقارا- إلا من طريق الرياء- كما روي في بعض الأخبار: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس إذا خلا بأهله، وأزمتهم عند الناس. [34] وإذا كان ذلك كما وصفنا ففيه دليل على أن ما روي في صفة المنافق أنه يخالف سرّه علانيته ليس على العموم، وإنما هو على معنى الرياء والنفاق، كما قال جل ثناؤه: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. [35] وفي قوله: «فرآه حزينا» : ما يدل على إثبات التفرس في الوجوه. وقد احتج بهذا المعنى بعض أهل الفراسة بما يطول ذكره. [36] وفيه دليل على الاستدلال بالعبرة لأهلها، إذ استدل صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحزن الظاهر في وجهه على الحزن الكامن في قلبه، حتى حداه على سؤال حاله.
[37] وفي قوله: «ما بال أبي عمير؟» دليل على أن من السنة إذا رأيت أخاك أن تسأل عن حاله.
[38] وفيه دليل- كما قال بعض أهل العلم- على حسن الأدب بالسنة في تفريق اللفظ بين سؤالين:
فإذا سألت أخاك عن حاله قلت: مالك؟ كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث أبي قتادة: «مالك يا أبا قتادة؟»
وإذا سألت غيره عن حاله قلت: ما بال أبي فلان؟ كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذا الحديث: «ما بال أبي عمير؟» .
[39] وفي سؤاله صلّى اللَّه عليه وسلّم من سأل- عن حال أبي عمير- دليل على إثبات خبر الواحد.
[40] وفيه دليل على أنه يجوز أن يكنى من لم يولد له، وقد كان عمر بن الخطاب يكره ذلك حتى أخبر به عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. [41] وفي قوله: «مات نغيره الّذي كان يلعب به» : تركه النكير بعد ما سمع ذلك صلّى اللَّه عليه وسلّم دليل على الرخصة في اللعب للصبيان. [42] وفيه دليل على الرخصة للوالدين في تخلية الصبي وما يروم من اللعب إذا لم يكن من دواعي الفجور، وقد كان بعض الصالحين يكره لوالديه أن يخلياه. [43] وفي دليل على أن إنفاق المال في ملاعب الصبيان ليس من أكل المال بالباطل، إذا لم يكن من الملاهي المنهية. [44] وفيه دليل على إمساك الطير في القفص. [45] وقصّ جناح الطير لمنعه من الطيران، وذلك أن لا يخلو من أن يكون النغيرة التي كان يلعب بها في قفص أو نحوه، من شدّ رجل أو غيره، أو أن تكون مقصوصة الجناح، فأيهما كان المنصوص، فالباقي قياس عليه، يكره.(2/198)
__________
[ () ] قصّ جناح الطائر وحبسه في القفص. [46] وفيه دليل على أن رجلا لو اصطاد صيدا خارج الحرم ثم أدخل الحرم، لم يكن عليه إرساله، وذلك لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حرّم الاصطياد بين لابتي المدينة، وأجاز لأبي عمير إمساكه فيها.
وكان ابن الزبير يفتي بإمساك ذلك، ومن حجته فيه: أن من اصطاد صيدا ثم أحرم وهو في يده، فعليه إرساله، فكذلك إذا اصطاد في الحل ثم أدخله الحرم.
وفرّق الشافعيّ بين المسألتين كما وصفنا، فقال: من اصطاد ثم أحرم والصيد في ملكه فعليه إرساله، ومن اصطاده ثم أدخله الحرم فلا إرسال عليه. [47] وفي
قوله: «ما فعل النغير؟» ،
دليل على جواز تصغير الأسماء كما صغّر النغيرة، وكذلك المعنى في قوله: كان ابن لأبي طلحة يكنى أبا عمير.
[48] وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مازحه بذلك يبكي، ففي ذلك دليل على أن
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث آخر: «إذا بكى اليتيم اهتز العرش» ،
ليس على العموم في جميع بكائه، وذلك أن بكاء الصبي على ضربين: أحدهما: بكاء الدلال عند المزاح والملاطفة، والآخر: بكاء الحزن أو الخوف عند الظلم أو المنع عما به إليه الحاجة، فإذا مازحت يتيما أو لاطفته فبكى، فليس في ذلك- إن شاء اللَّه تعالى- اهتزاز عرش الرحمن. [49] وقد زعم بعض الناس أن الحكيم لا يواجه بالخطاب غير العاقل. وقال بعض أصحابنا، ليس كذلك، بل صفة الحكيم في خطابه أن لا يضع الخطاب في غير موضعه، وكان في هذا الحديث كذلك دليل، ألا ترى
أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم واجه الصغير بالخطاب عند المزاح فقال: «يا أبا عمير ما فعل النّغير؟» ،
ولم يواجه بالسؤال عند العلم والإثبات، بل خاطب غيره،
فقال: «ما بال أبي عمير؟» .
[50] وفيه دليل على أن للعاقل أن يعاشر الناس على قدر عقولهم ولا يحمل الناس كلهم على عقله. [51] وفي نومه صلّى اللَّه عليه وسلّم عندهم دليل على أن عماد القسم بالليل، وأن لا حرج على الرجل في أن يقيل بالنهار عند امرأة في غير يومها. [52] وفيه دليل على سنة القيلولة. [53] وفي دليل على خلاف ما زعم بعضهم في أدب الحكام أن نوم الحكام والأمراء في منزل الرعية- ونحو ذلك من الأفعال- دناءة تسقط مروءة الحكام. [54] وفي نومه على فراشها دليل على خلاف قول من كره أن يجلس الرجل في مجلس امرأة ليست له بمحرم أو يلبس ثوبها وإن كان على تقطيع الرجال. [55] وفيه أنه يجوز أن يدخل المرء على امرأة في منزلها وزوجها غائب وإن لم تكن ذات محرم له. [56] وفي نضح البساط له ونومه على فراشها دليل على إكرام الزائر. [57] وفيه أن التّنعّم الخفيف غير مخالف للسنة. وأن قوله: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأصغى بسمعه» ، ليس على العموم إلا فيما عدا التنعم القليل. [58] وفيه دليل على أنه ليس بفرض على المزور أن يشيّع الزائر إلى باب الدار- كما أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بتشييع الضيف إلى باب الدار- إذ لم يذكر في هذا الحديث تشييعهم له إلى الباب. [59] وقد اختلف أهل العلم في تفسير ما ذكر من صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث هند بن أبي هالة: كانوا إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذواق: قال بعضهم: أراد به الطعام. وقال بعضهم:
أراد به ذواق العلم. ففي تفسير هذا الحديث، الدليل على تأويل من تأوّله على ذواق العلم، إذ قد أذاقهم العلم ولم يذكر فيه ذواق الطعام. [60] وكان من صفته صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه يواسي بين جلسائه، حتى يأخذ منه كل بحظ، وكذلك فعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في دخوله على أم سليم: صافح أنسا، ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم، حتى نال الجميع من بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم، وزاد على الستين فقال:
[61] وإذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم، فأقل ما في تحفّظ طرقه أن يكون نافلة، وفيه أن قوما أنكروا خبر الواحد واختلفوا فيه: فقال بعضهم بجواز خبر الاثنين قياسا على الشاهدين، وقال(2/199)
وخرّج البخاري في كتاب الأدب في باب حسن الخلق وما يكره من البخل، من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس (الحديث) .
وخرّج في باب ما ينهي من السباب واللعن من حديث فليح بن سليمان أخبرنا هلال بن علي عن أنس بن مالك قال: لم يكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّابا، كان يقول عند المعتبة: ما له تربت جبينه.
وخرّج البخاري من حديث شعبة عن سليمان، سمعت أبا وائل، سمعت مسروقا قال: قال عبد اللَّه بن عمرو من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة عن مسروق قال: دخلنا على عبد اللَّه بن عمر حين قدم مع معاوية إلى الكوفة، فذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: لم يكن فاحشا ولا متفحشا، وقال: قال رسول اللَّه:
إن من أخيركم أحسنكم خلقا (ذكره في كتاب الأدب وفي صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم) .
وخرّجه مسلم، ولفظه عن مسروق قال: دخلنا على عبد اللَّه بن عمرو حين قدم معاوية إلى الكوفة، فذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: لم يكن فاحشا ولا متفحشا،
__________
[ () ] بعضهم بجواز خبر الثلاثة، ونزع بقول اللَّه جل ذكره: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وقال بعضهم بجواز خبر الأربعة، قياسا على أعلى الشهادات وأكبرها، وقال بعضهم بالشائع والمستفيض، فكان في تحفظ طرق الأخبار ما يخرج به الخبر عن حدّ الواحد إلى حد الاثنين وخبر الثلاثة والأربعة، ولعله يدخل في خبر الشائع المستفيض. [62] وفيه أن الخبر إذا كانت له طرق، وطعن الطاعن على بعضها احتج الراويّ بطريق آخر ولم يلزمه انقطاع، ما وجد إلى طريق آخر سبيلا.
[63] وفيه أن أهل الحديث لا يستغنون عن معرفة النقلة والرواة ومقدارهم في كثرة العلم والرواية، ففي تحفظ طرق الأخبار، ومعرفة من رواها، ومعرفة كم روي كل راو منهم ما يعلم به مقادير الرواة ومراتبهم في كثرة الرواية. [64] وفيه أنهم إذا استقصوا في معرفة طرق الخبر عرفوا به غلط الغالط، وميزوا به كذب الكاذب، وتدليس المدلّس. [65] وإذا لم يستقص المرء في طرقه واقتصر على طريق واحد كان أقل ما يلزمه إن دلّس عليه في الرواية أن يقول: لعله قد روي ولم أستقص فيه، فرجع باللائمة والتقصير على نفسه والانقطاع وقد حلّ لخصمه. [66] إن مثل هذا الحديث فيه تثبيت الامتحان، والتمييز بيننا وبين أمثالهم، إذ لم يهتدوا إلى شيء من تخريج فقهه، ويستخرج أحدنا منه- بعون اللَّه وتوفيقه- كلّ هذه الوجوه، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: اجتهاد المستخرج في استنباطه، والثاني: تبيين فضيلته في الفقه والتخريج على أغياره.
والعين المستنبط منها عين واحدة، ولكن من عجائب قدرة اللطيف في تدبير صنعه: أن تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل.
(جزء فيه فوائد حديث أبي عمير) : ص 19- 35.(2/200)
وقال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا.
ولأبي داود الطيالسي من حديث شعبة عن ابن إسحاق قال: سمعت أبا عبد اللَّه الجدلي يقول سمعت عائشة رضي اللَّه عنها سئلت عن خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: لم يكن فاحشا ولا متفحشا، لا سخّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أو قالت يعفو ويغفر (شك أبو داود) .
وخرّج البخاري في كتاب البيوع في باب كراهية السخب في الأسواق من حديث فليح: أخبرنا هلال عن عطاء بن يسار: لقيت عبد اللَّه بن عمرو بن القاضي، قلت: أخبرني عن صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة، قال: أجل واللَّه إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه اللَّه حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا اللَّه، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا [ (1) ] .
وخرّج في تفسير سورة الفتح من حديث عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال ابن أبي هلال، عن عطاء بن يسار عن عبد اللَّه بن عمرو، أن هذه الآية التي في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، قال في التوراة:
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا [ومبشرا] [ (2) ] وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللَّه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا اللَّه فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
وخرّج يعقوب بن سفيان الفسوي من حديث آدم وعاصم بن علي قالا: أخبرنا ابن أبي ذؤيب، حدثنا صالح مولى التزمة قال: كان أبو هريرة رضي اللَّه عنه ينعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبي وأمي ولم يكن فاحشا ولا
__________
[ (1) ] في (خ) «أعين عمي وآذن صم وقلوب غلف» وما أثبتناه من (الطبقات الكبرى) لابن سعد ج 1 ص 361، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض ج 1 ص 15.
[ (2) ] زيادة من المرجعين السابقين.(2/201)
متفحشا ولا صخابا في الأسواق (زاد آدم: ولم أر مثله قبله، ولم أر بعده) .
وذكر الوقدي أن أعرابيا أقبل من تهامة، فقال له أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
تعال سلّم على رسول اللَّه، قال: وفيكم رسول اللَّه؟ قالوا: نعم، قال: فأيكم رسول اللَّه؟ قالوا هذا، قال: أنت رسول اللَّه؟ قال: نعم، قال: فما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا؟
قال سلمة بن سلامة بن وقش: نكحتها، فهي حبلي منك، فكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته وأعرض عنه، ذكر ذلك في توجه رسول اللَّه إلى بدر، ثم ذكره في عود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بدر [ (1) ] .
قال: ولقيه الناس يهنئونه بالروحاء بفتح اللَّه، فلقيه وحوله الخزرج،
فقال سلمة بن سلامة بن وقش: ما الّذي تهنئوننا به؟ فو اللَّه ما قتلنا إلا عجائز صلعا، فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا ابن أخي، أولئك الملأ لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم، فقال سلمة بن سلامة: أعوذ باللَّه من غضبه، وغضب رسوله، إنك يا رسول اللَّه لم تزل عني معرضا منذ كنا بالروحاء في بدأتنا، فقال رسول اللَّه:
أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلي منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به، وأمّا ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمة من نعم اللَّه تعالى تزهدها، فقبل منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معذرته، وكان من علية أصحابه.
وذكر الخطيب من حديث أبي داود: أخبرنا طلحة عن عبد اللَّه عن عبيد اللَّه عن أم سلمة قالت: ما طعن رسول اللَّه في حسب ولا نسب قط.
وخرّج البخاري في المناقب من حديث شعبة عن قتادة عن عبد اللَّه بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وزاد في رواية: وإذا كره شيئا عرف في وجهه، وذكره في كتاب الأدب ولفظه: فإذا رأي شيئا يكرهه عرفناه في وجهه وخرّجه مسلم بنحوه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] راجع هذا الخبر عند الكلام على غزوة بدر من هذا الجزء تحت عنوان: خبر الأعرابي بعرق الظبية» ، وانظر أيضا (سيرة ابن هشام) ج 2 ص 187 تحت عنوان «الطريق إلى بدر» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 78 باب كثرة حيائه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/202)
ولأبي داود والبخاري في الأدب المفرد من حديث حماد بن زيد قال: حدثنا سلّم [ (1) ] العلويّ عن أنس أنّ رجلا دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعليه أثر صفرة، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قلّ ما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال:
لو أمرتم هذا أن يغسل ذا عنه [ (2) ] !
وله من حديث الأعمش عن سليم [ (3) ] عن مسروق عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟
ولكن يقول: ما بال من يقولون كذا وكذا؟.
وفي لفظ: إذا بلغه الشيء عن الرجل لم قلت كذا وكذا أثر ذكره.
وخرّج البخاري ومسلم من حديث مالك عن إسحاق عن أنس قال: كنت أمشي مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذا شديدا حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال اللَّه الّذي عندك، قال: فالتفت إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فضحك، ثم أمر له بعطاء [ (4) ] .
وخرّج الحاكم من حديث عبد اللَّه بن يوسف التنيسي حدثنا عبد اللَّه بن سالم، حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف بن عبد اللَّه بن سالم [ (5) ] عن أبيه عن جده، أن زيد بن سعنة- كان [ (6) ] من أحبار اليهود- أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن. ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وإني بكم لعارف، قال: فانتهره عمر، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يا عمر] [ (7) ] : أنا وهو كنّا إلى غير هذا منك أحوج، أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر وفّه حقّه، أما إنه قد بقي من أجله ثلاث، فزده [ (8) ]
__________
[ (1) ] قال أبو داود: سليم ليس هو علويا. كان يبصر في النجوم، وشهد عند عدي بن أرطاة على رؤبة الهلال فلم يجز شهادته.
[ (2) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 143 حديث رقم 4789.
[ (3) ] في (خ) «مسلم» .
[ (4) ] ونحوه في سنن أبي داود ج 5 ص 133 كتاب الأدب باب في الحلم وأخلاق النبي حديث رقم 4775.
[ (5) ] في (خ) «سلام» .
[ (6) ] في (خ) «وكان» .
[ (7) ] زيادة من (المستدرك) .
[ (8) ] في (خ) «وزده» .(2/203)
ثلاثين صاعا لتزويرك [ (1) ] عليه.
قال الحاكم: صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرّجه الفسوي من حديث الأعمش عن ثمامة بن عقبة عن زيد بن أرقم قال:
كان رجل من الأنصار يدخل علي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدنا منه وإنه عقد له عقدا وألقاه في بئر، ففزّع ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأتاه ملكان يعودانه فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا وهي في بئر فلان، وقد اصفرّ الماء من شدة عقده، فأرسل الني صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستخرج العقد فوجد الماء قد اصفرّ، فحل العقد ونام النبي عليه السلام، ولقد رأيت الرجل بعد ذلك يدخل علي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما رأيته في وجه النبي عليه السلام حتى مات.
ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث عباد بن العوام، عن النعمان بن ثابت عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أنس قال: ما أخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ركبتيه بين يدي جليس قط، ولا ناول يده أحدا قط فتركها حتى يكون هو يدعها، وما جلس إلى رسول اللَّه أحد قط فقام حتى يقوم، وما وجدت شيئا قط أطيب ريحا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وخرّج الفسوي من حديث عمران بن زيد الملائي قال: حدثني زيد العمي عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صافح أو صافحه الرجل. لا ينزع، وإن استقبله بوجهه لا يعرضه عنه حتى يكون الرجل ينصرف، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له.
وخرّج أبو داود من حديث مبارك بن فضالة [ (3) ] عن ثابت عن أنس قال: ما رأيت رجلا التقم أذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الّذي ينحي رأسه، وما رأيت رسول اللَّه أخذ بيده رجل [ (4) ] فترك يده حتى يكون الرجل هو الّذي يدع يده [ (5) ] .
وفي الأدب المفرد للبخاريّ من حديث عبد الوارث، حدثنا عتبة بن عبد الملك،
__________
[ (1) ] في (خ) «لتدورك» .
[ (2) ] وقال الذهبي في (التلخيص) : «قلت: مرسل» راجع المستدرك للحاكم ج 2 ص 32 كتاب البيوع.
[ (3) ] هو ابن فضالة، أبو فضالة القرشي العدوي، مولاهم البصري، قال عفان بن مسلم: ثقة. وضعّفه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والنسائي وغيرهم.
[ (4) ] في (أبي داود) : «وما رأيت رجلا أخذ بيده فترك يده» .
[ (5) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 146 حديث رقم 4794، كتاب الأدب.(2/204)
حدثني زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو السهمي، أن الحارث بن عمرو السهمي حدثه قال: أتيت النبي وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس، ويجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قلت يا رسول اللَّه استغفر لي، فقال:
اللَّهمّ اغفر لنا، فدرت فقلت: استغفر لي فقال: اللَّهمّ اغفر لنا،
فدرت فقلت استغفر لي فقال: اللَّهمّ أغفر لنا، فذهب بيده بزاقه ومسح به نعله، كره أن يصيب أحدا من حوله.
وخرّج الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عمر ابن عبد العزيز عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام عن أبيه قال: كان رسول اللَّه إذا جلس يتحدث كثيرا يرفع طرفه إلى السماء.
وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، قال: ما عاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه [ (1) ] .
وخرّج البخاري في كتاب الأدب من حديث ابن وهب، أخبرنا عمرو أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ما رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كن يتبسم [ (2) ] .
وخرج مسلم بنحوه.
وخرّج مسلم من حديث يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال نعم، كثيرا ما كان لا يقوم من مصلاه الّذي يصلّى فيه الصبح حتى تطلع الشمس. فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في المناقب باب صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومسلم في الأشربة باب لا يعيب الطعام، والترمذي في البر باب ترك العيب للنعمة وقال: حسن صحيح، وابن ماجة في الأطعمة باب النهي أن يعاب الطعام، وأبو داود كتاب الأطعمة باب كراهية ذمّ الطعام ولفظه: «ما عاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه» .
[ (2) ] (صحيح البخاري حاشية السندي) ج 4 ص 64 من كتاب الأدب.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 79، ولفظه: «فيأخذون في أمر الجاهلية» وفيه: استحباب الذكر بعد الصبح وملازمة مجلسها ما لم يكن عذر وفيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها من الأمم، وجواز الضحك، والأفضل الاقتصار على التبسم كما فعله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عامة أوقاته.(2/205)
وخرّجه الترمذي من حديث شريك عن سماك، عن جابر بن سمرة قال:
جالست النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكثر من مائة مرّة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم [ (1) ] قال هذا حديث حسن صحيح.
وقال الليث بن سعد عن الوليد بن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة أخبره عن خارجة بن زيد أن نفرا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت فقالوا: حدّثنا عن بعض أخلاق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: كنت جاره فكان إذا نزل الوحي بعث إليّ فآتيه فأكتب الوحي، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا يحدثكم عنه.
وخرّج البخاري في المناقب من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحدث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه [ (2) ] . ومن حديث يونس عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت:
ألا يعجبك [ (3) ] أبا فلان جاء فجلس إلى جانب حجرتي [ (4) ] يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمعني ذلك، وكنت أسبّح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يسرد [ (5) ] الحديث [كسردكم] [ (6) ] .
وخرّج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدّث أن عائشة قالت: ألا تعجل أبا هريرة جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمعني ذلك، وكنت أسبح فقام قبل أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول اللَّه لم يكن يسرد الحديث كسردكم.
وخرّج أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن هشام عن أبيه قال: كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، وعائشة رضي اللَّه عنها تصلي، فلما قضت صلاتها قالت لعروة: ألا تسمع إلى هذا أو مقالته آنفا؟ إنما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث حديثا لو عدّه العاد لأحصاه.
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية) ص 26 حديث 246 ولفظه، وربما تبسم معهم.
[ (2) ] (فتح الباري) ج 6 ص 567 حديث رقم 3567.
[ (3) ] في (خ) «نعجل» .
[ (4) ] في (خ) «حجري» .
[ (5) ] في (خ) «ليرد» .
[ (6) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) والتكملة من المرجع السابق حديث رقم 3568.(2/206)
وخرّج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن المثنى عن أبيه عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب [ (1) ] .
ولابن حبان من حديث حسين بن علوان الكوفي، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول اللَّه، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل اللَّه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وخرج أبو بكر الشافعيّ من حديث عثمان بن مطر، عن ثابت عن أنس قال: مرّ علينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن صبيان فقال: السلام عليكم يا صبيان.
وقال عبد الملك بن شقيق عن أبيه عن عبد اللَّه بن أبي الحماء قال: بايعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذاك، فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه فقال: يا بني! لقد شققت عليّ، إني ها هنا منذ ثلاث.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق.
وقال محمد بن حماد بن سلمه عن عاصم بن بهدلة عن زر [ (2) ] عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كنا يوم بدر تتعاقب ثلاثة على بعير، وكان عليّ وأبو لبابة زميلي رسول اللَّه، فكان إذا كانت عقب رسول اللَّه، يقولان له: اركب حتى نمشي، فيقول: إني لست بأغنى عن الأجر منكما، ولا أنتما بأقوى على المشي مني. وخرجه الحاكم [ (3) ] . وقال [ (4) ] صحيح الإسناد. وخرّجه ابن حبان أيضا في صحيحه.
وخرّج
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية) ص 113 حديث رقم 234، وأخرجه الترمذي في المناقب والاستئذان، والبخاري في العلم والاستئذان.
[ (2) ] في (خ) «ذر» والتصويب من (المستدرك) .
[ (3) ]
(المستدرك على الصحيحين) ج 3 ص 20 ولفظه: «كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، قال: وكان عليّ وأبو لبابة زميلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وكان إذا كانت عقبته قلنا: اركب حتى نمشي، فيقول:
ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكم»
في (خ) «بأغنا» .
[ (4) ] وقال: هذا حديث على شرط مسلم ولمن يخرجاه.(2/207)
أبو يعلى من حديث يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، حدثنا عثمان ابن كعب، حدثني ربيع- رجل من بني النضر وكان في حجر صفية- عن صفية بنت حيي قالت: ما رأيت قط أحسن خلقا من رسول اللَّه، لقد رأيته راكب [] [ (1) ] من خيبر على عجز ناقته ليلا فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسكني بيده ويقول: يا هذه مهلا، يا صفية بنت حيي!! حتى إذا جاء الصهباء [ (2) ] قال: أما إني اعتذر إليك يا صفية مما صنعت بقومك!! إنهم قالوا لي كذا وكذا.
وعن وهب بن منبه قال: قرأت أحدا وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا.
وأما شجاعته
فخرّج البخاري في كتاب الأدب من حديث حماد بن زيد عن ثابت قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحسن الناس، وكان أجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري (ما عليه سرج) ، في عنقه سيف قال: وجدناه بحرا أو إنه لبحر [ (3) ] .
وخرّجه مسلم [ (4) ] وقال: فانطلق ناس [ (5) ] . وقال: فتلقاهم رسول اللَّه راجعا وقد سبقهم إلى الصوت [ (6) ] . وذكره البخاري في مواضع من كتاب الجهاد.
__________
[ (1) ] مكان ما بين القوسين في (خ) كلمة لم أتبين معناها.
[ (2) ] صهباء: اسم موضع بينه وبين خيبر روحة» (معجم البلدان) ج 3 ص 435.
[ (3) ] (صحيح البخاري بشرح الكرماني) ج 21 ص 183 حديث رقم 5662 ولفظه: «فقال: لقد وجدته بحرا أو إنه البحر» .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 67 باب شجاعته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (5) ] في المرجع السابق «فانطلق ناس قبل الصوت» .
[ (6) ] ومعنى قوله: لن تراعوا، أي روعا مستقرا، أو روعا يضركم، وفيه فوائد، منها، بيان شجاعته صلّى اللَّه عليه وسلّم من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس، وفيه بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان يبطأ، وهو معنى قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وجدناه بحرا، أي واسع الجري، وفيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك، وفيه جواز العارية، وجواز الغزو على الفرس للمستعار، وفيه استحباب تبشير الناس بعدم الخوف (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 67 و 68 باب شجاعته صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/208)
وخرّجه النسائي من حديث أبي خيثمة عن ابن إسحاق عن حارثة بن مغرب عن علي رضي اللَّه عنه قال: كنا إذا حمي البأس، والتقي القوم اتقينا برسول اللَّه، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا واللَّه إذا احمرّ البأس نتقي به، يعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن الشجاع منا الّذي يحاذي به. وله من حديث إسحاق بن راهويه، حدثنا عمرة بن محمد، حدثنا عمر الزيات عن سعيد بن عثمان العبدري عن عمران بن الحصين قال: ما لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كتيبة إلا كان أول من يضرب.
وخرّج الدارميّ من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا سعد عن عبد الملك بن عمير قال: قال ابن عمر: ما رأيت أحدا أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أوضأ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
وأما سعة جوده صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج البخاري في فضائل القرآن، وخرّج مسلم في المناقب من حديث شهاب عن عبيد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان لأنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ الشهر، فيعرض عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القرآن، فإذا لقيه جبريل، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجود بالخير من الريح المرسلة (اللفظ لمسلم) [ (2) ] .
ولفظ البخاري: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه [في] [ (3) ] كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول اللَّه القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود من الريح المرسلة، (هذا
__________
[ (1) ] (سنن الدارميّ ج 1 ص 30 وفيه «ولا أضوأ ولا أوضأ» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 68، 69 باب سعة جوده صلّى اللَّه عليه وسلّم، والمراد كالريح في إسراعها وهمومها، وفي هذا الحديث فوائد منها: بيان عظم جوده صلّى اللَّه عليه وسلّم ومنها استحباب إكثار الجود والخبر عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها استحباب مدارسة القرآن.
[ (3) ] زيادة من (البخاري) ج 3 ص 227.(2/209)
اللفظ في كتاب فضائل القرآن) .
ولفظه في كتاب الصيام بنحو إلا أنه قال: وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان (الحديث) .
وذكره في أول كتابه، ولفظه: كان رسول اللَّه أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه أجود بالخير من الريح المرسلة.
وذكره أيضا في المناقب، وفي كتاب بدء الخلق وقال فيه: لرسول اللَّه حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
ولابن سعد من حديث الزهري عن عبيد اللَّه عن ابن عباس وعائشة قالا:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل [ (1) ] .
وخرّج من حديث سفيان عن ابن المنكدر، سمعت جابرا يقول: ما سئل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن شيء قط فقال لا! [ (2) ] .
ولفظ مسلم: ما سئل رسول اللَّه شيئا فقال لا [ (3) ] ! ذكره البخاري في كتاب الأدب، ولمسلم من حديث حميد عن موسى بن أنس عن أبيه قال: ما سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة [ (3) ] .
ومن حديث حماد بن سلمة عن أنس أن رجلا سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غنما بين جبلين فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال يا قوم أسلموا فو اللَّه إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها (انفرد به مسلم) [ (3) ] .
وله من حديث ابن شهاب قال: غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوة الفتح (فتح مكة) ، ثم خرج بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين. فنصر اللَّه دينه والمسلمين، فأعطى رسول اللَّه يومئذ صفوان بن أمية مائة من النّعم، ثم مائة، قال ابن شهاب:
__________
[ (1) ] (الطبقات الكبرى لابن سعد) ج 1 ص 377 باب ذكر حسن خلقه وعشرته صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (سن الدارميّ) ج 1 ص 34، وفيه يقول أبو محمد: قال ابن عيينة: «إذا لم يكن عنده وعد» .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي ج 15 ص 71، 72 باب في سخائه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/210)
حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ [ (1) ] .
ولأحمد بن حنبل رحمه اللَّه، من حديث الزهري عن عمر بن محمد بن جبير ابن مطعم قال: حدثني محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم قال: سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه الناس مقفلة من حنين، فعلقه الأعراب فساء لونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف وقال: ردوا على ردائي، أتخشون عليّ البخل: فلو كان عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا [ (2) ] . (أخرجه البخاري وانفرد بإخراجه) .
وخرّج الإمام أحمد من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال عمر: يا رسول اللَّه: لقد سمعت فلانا وفلانا يحسنان الثناء، يذكران أنك أعطيتهما دينارا، ثم قال: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: واللَّه لكن فلانا ما هو كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة، فما يقول ذلك، أما واللَّه إن أحدكم ليخرج مسألته من عندي يتأبطها (يعني حتى تكون تحت إبطه يعني نارا) ، قال: قال عمر:
يا رسول اللَّه! تعطيها إياهم؟ قال: فما أصنع يا عمر إلا ذاك؟ ويأبى اللَّه لي البخل!!
وقال عبد اللَّه بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على بلال وعنده صبر من تمر، فقال: ما هذا يا بلال؟ قال: أدّخره يا رسول اللَّه، قال: أما تخشى أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا [ (3) ] .
وخرّج الترمذي من حديث هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسأله أن يعطيه،
__________
[ (1) ] المرجع السابق ص 73.
[ (2) ]
في (الكامل لابن الأثير) ج 2 ص 269 «ولما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول اللَّه اقسم علينا فيئا، حتى ألقوه إلى الشجرة، فاختطف رداؤه، فقال:
ردّوا عليّ ردائي أيها الناس، فو اللَّه لو كان لي عدة شجر تهامة نعم لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا» .
[ (3) ] (البداية والنهاية) ج 6 ص 54 ولفظه: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على بلال فوجد عنده صبرا ... » .(2/211)
فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع على، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر: يا رسول اللَّه لقد أعطيته وما كلفك اللَّه مالا بعد، فكره النبي عليه السلام قول عمر، فقال رجل من الأنصار: رسول اللَّه! أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول اللَّه، وعرف البشر في وجهه لقول الأنصاري ثم قال: بهذا أمرت.
وقال قتيبة: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يدخر شيئا لغد.
ولأبي داود الطيالسي عن زمعة عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى [ (1) ] .
وقال ابن سعد أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي المكيّ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثني زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر [ (2) ] قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه قال: ما [ (3) ] سئل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا قط فقال: لا.
أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا أبو العلاء الخفاف [ (4) ] خالد بن طهمان عن المنهال بن عمرو، عن محمد بن الحنفية قال-: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يكاد يقول لشيء لا، فإذا هو سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت، فكان قد عرف ذلك منه.
وقال أبو يعلي: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير، أخبرنا أبي، حدثنا هشام ابن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمه، أن رجلا كان يلقب حمارا وكان يهدي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العكة من السمن والعكة من العسل. فإذا صاحبه يتقاضاه جاء به إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيقول: رسول اللَّه! أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] على أن يتبسم، ويأمر به فيعطى.
ولابن حبان من حديث الأوزاعي عن هارون بن رباب عن أنس قال: قدم
__________
[ (1) ] في (خ) «أعطا» .
[ (2) ] في (خ) «المنكدر المنكدر» وهو تكرار من الناس (3) (سنن الترمذي) ص 10 حديث رقم 2417.
[ (3) ] في (خ) «يا» .
[ (4) ] في (خ) «الحفان» وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) ج 12 ص 192 ترجمة رقم 887.
[ (5) ] في (خ) «بعد قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «فيقول يا رسول اللَّه» مكررة.(2/212)
على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبعون ألف درهم- هو أكثر مال أتى به- فوضع على حصير ثم قام فقسمه، فما رد سائلا حتى فرغ منه.
وقال الواقدي في حجة الوداع [ (1) ] : ثم راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الروحاء [ (2) ] ، فصلّى العصر بالمنصرف [ (3) ] ثم صلّى المغرب والعشاء وتعشى به [ (4) ] ، وصلّى الصبح بالأثاية [ (5) ] ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج [ (6) ] ،
فحدثني أبو حمزة عبد الواحد ابن مصون [ (7) ] عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت بي بكر رضي اللَّه عنها قالت: كان أبو بكر رضي اللَّه عنه قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة: إن عندي بعيرا محمل عليه زادنا، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذاك إذا
قالت: فكانت زاملة رسول اللَّه وأبي بكر واحدة، فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بزاد، دقيق وسويق، فجعلا على بعير أبي بكر، فكان غلامه يركب عليه عقبة، فلما كان بالأثاية [ (8) ] عرّس الغلام وأناخ بعيره، فغلبته عيناه، فقام البعير يجر خطامه آخذا في الشعب، وقام الغلام فلزم الطريق يظن أنه سلكها وهو ينشده فلا يسمع له بذكر، ونزل رسول اللَّه في أبيات بالعرج، فجاء الغلام مظهرا، فقال أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: ضل مني، قال: ويحك! لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر، ولكن رسول اللَّه وأهله، فلم يلبث [ (9) ] أن طلع به صفوان بن المعطل- وكان صفوان على ساقة الناس- وأناخه على باب منزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لأبي بكر: انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فنظر، فقال. ما نفقد شيئا إلا قعبا كنا نشرب به، فقال الغلام: هذا القعب معي، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه أدي اللَّه عنك الأمانة.
حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير عن عيسى بن معمر،
__________
[ (1) ] (المغازي للواقدي) ج 3 ص 1093.
[ (2) ] الرّوحاء: من الفرع على نحو أربعين يوما، (معجم البلدان) ج 3 ص 76.
[ (3) ] المنصرف: موضع بين مكة وبدر بينهما أربعة برد (معجم البلدان) ج 5 ص 76.
[ (4) ] في (خ) «ثم صلّى المغرب والعشاء بالمتعشى وتمشى به» وما أثبتناه رواية (الواقدي) .
[ (5) ] الأثاية: موضع في طريق الجحفة بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخا (معجم البلدان) ج 1 ص 90.
[ (6) ] العرج: قرية جامعة في واد من نواحي الطائف (معجم البلدان) ج 4 ص 92.
[ (7) ] في (خ) «بن ميمون» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 1093.
[ (8) ] في (خ) «الأثابة» في المواضع كلها، والتصويب من (معجم البلدان) و (المغازي) .
[ (9) ] في (خ) «فلم ينشب» . وما أثبتناه من (المغازي) .(2/213)
عن عباد بن عبد اللَّه، عن أسماء بنت أبي بكر، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما نزل بالعرج، جلس معنا منزله ثم جاء أبو بكر فجلس إلى جنبه، فجاءت عائشة فجلست إلى جنبه الآخر، وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر رضي اللَّه عنه،
فأقبل غلام أبي بكر متسربلا، فقال له أبو بكر-: أين بعيرك؟ قال: أضلني، فقام إليه يضربه ويقول: بعير واحد يضل منك، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبسّم ويقول: ألا ترون إلى هذا المحرم وما يصنع، وما ينهاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وحدثني أبو حمزة عن عبد اللَّه بن سعد الأسلمي عن آل نضلة الأسلمي [ (1) ] أنهم خبّروا [ (2) ] أن زاملة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضلّت فحملوا جفنة من حيس، فأقبلوا [ (3) ] بها، حتى وضعوها بين يدي رسول اللَّه، فجعل يقول: هلم يا أبا بكر، فقد جاءك [ (4) ] اللَّه بغداء طيب، وجعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال النبي عليه السلام: هون عليك، فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك، قد كان الغلام حريصا أن لا يضل بعيره، وهذا أخلف [ (5) ] مما كان معه، فأكل رسول اللَّه وأهله وأبو بكر، وكل من كان [ (6) ] مع رسول اللَّه حتى شبعوا- قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد رضي اللَّه عنه بزاملة تحمل زادا يؤمان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى يجد رسول اللَّه واقفا عند باب منزله، قد أتي اللَّه بزاملته، فقال سعد: يا رسول اللَّه! قد بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام [ (7) ] ، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد جاء اللَّه بزاملتنا فارجعا بازملتكما [ (8) ] ، بارك اللَّه عليكما، أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا بالمدينة؟
قال: يا رسول اللَّه! المنّة للَّه ولرسوله، واللَّه يا رسول اللَّه، للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الّذي تدع، قال صدقتم يا أبا ثابت، أبشر فقد أفلحت، إن الأخلاق بيد اللَّه، فمن أراد أن يمنحه منها خلقا صالحا منحه، ولقد منحك اللَّه خلقا صالحا،
__________
[ (1) ] في (خ) «الأسلميين» وما أثبتناه من (المغازي) ج 3 ص 1094.
[ (2) ] في (خ) «أخبروا» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) «وأقبلوا» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) «جاء» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (5) ] كذا في (خ) وفي (المغازي) «خلف» .
[ (6) ] في (خ) «وكل ما كان يأكل» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (7) ] في (خ) «أضلت الغلام» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (8) ] في (خ) «بزامليكما» وما أثبتناه من المرجع السابق.(2/214)
فقال سعد: الحمد للَّه [الّذي] [ (1) ] هو فعل ذلك، قال ثابت بن قيس: يا رسول اللَّه، إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا، والمطعمون في المحل منا، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لهم [ (2) ] ما أسلموا عليه،
قال ابن أبي الزّناد: يقول له جميل ذكره.
وأما تواضعه وقربه
فخرج سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي الأحوص عن مسلم الأعور عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب دعوة الملوك ويركب الحمار، وكان يوم خيبر على حمار، ويوم قريظة على حمار مخطوم [ (3) ] من ليف تحته إكاف [ (4) ] ليف.
وخرّجه الترمذي من حديث علي بن مسهر [ (5) ] عن مسلم الأعور عن أنس بنحو هذا، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعّف، وهو مسلم بن كيسان الملائي، ذكره الترمذي في الجنائز [ (6) ] .
وخرّج البخاري في الأدب المفرد من حديث ابن المبارك، أخبرنا سلمى أبو قتيبة، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: رمدت عيني فعادني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم قال: يا زيد، لو أن عينك لما بها، كيف كنت تصنع؟ قال: كنت أصبر وأحتسب، قال: لو أن عينك لما بها ثم صبرت واحتسبت كان ثوابك الجنة.
وخرّج أيضا من حديث حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: ذهبت بعبد اللَّه بن أبي طلحة آتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم ولد، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (2) ] في (خ) «له» .
[ (3) ] مخطوم وهو الزمام الحبل من الليف.
[ (4) ] الإكاف: هو كالسرج للفرس.
[ (5) ] في (خ) «ميهر» .
[ (6) ] (الشمائل المحمدية للترمذي) ص 173 حديث رقم 325، (سنن الترمذي) ج 2 ص 241 حديث رقم 1022، (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1398 حديث رقم 188، بنحو ذلك، ومسلم بن كيسان هذا قال عنه أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان لا يدري ما يحدث به.. انظر (تهذيب التهذيب) ج 1 ص 135 ترجمة رقم 247.(2/215)
في عباءة يهنو بعيرا له فقال: أمعك تمرات؟ قلت: نعم، فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فا الصبي، فأوجدهن إياه، فتلمظ الصّبي فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حب الأنصار، وسماه عبد اللَّه.
وخرج البخاري في الصحيح من حديث إبراهيم عن الأسود قال: سألت عائشة رضي اللَّه عنها [ (1) ] ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله- (تعني خدمة أهله) - فإذا حضرت الصلاة. خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكره في كتاب الصلاة، وترجم عليه باب من كان في حاجة أهله، وأقيمت الصلاة فخرج، وذكره في كتاب النفقات ولفظه: سألت عائشة: ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصنع في البيت؟ قالت: في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وترجم عليه باب خدمة الرجل في أهله وذكره، وذكره في كتاب الأدب ولفظه: ما كان النبي يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله؟ فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة، ترجم عليه كيف يكون الرجل في أهله [ (2) ] ؟.
وخرج عبد الرزاق من [ (3) ] حديث الزهري، وهشام بن عروة عن أبيه، قال سأل رجل عائشة: أكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعمل في بيته؟ قالت: نعم كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه؟ ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته.
وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة قالت: قيل لعائشة ما كان يعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلّي ثوبه ويحلب شاته [ (4) ] ويخدم نفسه.
وخرج البخاري في كتاب الأدب من حديث هيثم، أخبرنا حميد الطويل، أخبرنا أنس قال: إن كانت الأمة من إماء لأهل المدينة لتأخذ بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «عنه» .
[ (2) ] (صحيح البخاري بشرج الكرماني) ج 21 ص 186 حديث رقم 5668.
[ (3) ] في (خ) «بن حديث» .
[ (4) ] في (خ) بعد قوله: «يحلب شاته» عبارة «ويفلّي ثوبه» وهو تكرار من الناسخ.
[ (5) ] والمقصود من الأخذ بيده الأمة وهو الرّفق والانقياد، يعني كان خلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذه المرتبة وهو أنه لو كان لأمة حاجة إلى بعض مواضع المدينة وتلتمس منه مساعدته في تلك الحاجة واحتاج.(2/216)
وخرج مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، قال: أخبرنا سليمان ابن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتي بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها [ (1) ] .
وخرج من حديث يزيد بن هارون عن عماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول اللَّه، إن لي إليك حاجة، فقال:
يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي إليك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها [ (2) ] .
وقال علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال: سمعت يحيى بن عقيل يقول:
سمعت عبد اللَّه بن أبي أوفى يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد والأرملة حتى يفرغ لهم من حاجاتهم [ (3) ] .
وخرج الإمام أحمد عن أيوب عن عمرو بن سعيد عن أنس قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر الحديث.
__________
[ () ] أن يمشي معها لقضائها لما تخلف عن ذلك حتى قضى حاجتها. وفيه أنواع من المبالغة من جهة أنه ذكر المرأة لا الرجل، والأمة لا الحرة، وعمم بلفظ الإماء: أي أيّ أمة كانت، وبقوله: «حيث شاءت» من المكانات، وعبر عنه بلفظ الأخذ باليد الّذي هو غاية التصرف. (صحيح البخاري بشرح الكرماني) ج 21 ص 206 كتاب الأدب حديث رقم 5700.
[ (1) ] في (خ) «فيه» وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 82 «وفي هذه الأحاديث بيان بروزه صلّى اللَّه عليه وسلّم للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله وحركاته فيقتدي بها، وهكذا ينبغي لولاة الأمور، وفيها صبره صلّى اللَّه عليه وسلّم على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين وإجابته من سأل حاجته أو تبريكا بمس يده وإدخالها في الماء كما ذكروا، وفيه التبرك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتبركهم بإدخال يده الكريمة في الآنية ... وبيان تواضعه بوقوفه مع المرأة الضعيفة، وقوله: «خلا معها في بعض الطرق» أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ولم يكن ذلك الخلوة بالأجنبية فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها لكن لا يسمعون كلامها لأن مسألتها مما لا يظهره واللَّه أعلم، (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 83، 83.
[ (3) ] (سنن الدارميّ) ج 1 ص 35 ونصه: « ... ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما» .(2/217)
وخرجه عن إسماعيل بن علبة عن أيوب عن عمرو بن سعيد عن أنس، ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن أنس (لم يذكر عمرو بن سعيد) .
وخرّج البخاري من حديث علي بن الجعد قال: حدثنا شعبة عن شيبان بن أبي الحكم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنه مرّ على صبيان فسلم عليهم [ (1) ] ، وأخرجه مسلم أيضا وقال ابن لهيعة: حدثني عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أفكه الناس مع صبي.
وخرّج البخاري في الأدب المفرد عن طريق وكيع عن معاوية بن أبي برد عن أبيه عن أبي هريرة قال: أخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيد الحسن أو الحسين ثم وضع قدميه فوق قدميه ثم قال شهق.
ومن طريق عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن راشد عن يعلي بن مرّة أنه قال: خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعينا إلى طعام، فإذا بحسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أمام القوم ثم بسط يديه، فجعل يمر مرة ها هنا، ومرة هاهنا يضاحكه، حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه ثم اعتنقه فقبّله، ثم [قال] : حسين مني وأنا منه، أحبّ اللَّه من أحب الحسن والحسين، سبطان من الأسباط.
ومن طريق ابن أبي فديك قال: حدثني هشام بن سعد عن نعيم المجمر عن أبي هريرة قال: ما رأيت حسنا إلا فاضت عيناي دموعا، وذلك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوما فوجدني في المسجد فأخذ بيدي، فانطلقت معه، فما كلمني حتى جئنا سوق بني قينقاع، فطاف به ونظر ثم انصرف وأنا معه حتى جئنا المسجد، فاحتبى ثم قال: أين لكاع؟ أدع لكاعا، فجاء حسن يشتد فوقع في حجره، ثم أدخل يده في لحيته، ثم جعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يفتح فاه في فيه ثم قال: اللَّهمّ إني أحبه فأحببه، وأحب من يحبه.
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري) ج 4 ص 89 باب التسليم على الصبيان، وأخرجه (مسلم) في باب السلام على الصبيان، والترمذي في الاستئذان باب ما جاء في التسليم على الصبيان وقال: هذا حديث صحيح، والنسائي، أخرج ابن ماجة نحوه- عن حميد بن أنيس- في الأدب باب السلام على الصبيان، وأبو داود في كتاب الأدب في باب السلام على الصبيان ج 5 ص 382 حديث 5202، 5203 بنحو.(2/218)
وخرج الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا محمد- يا سيدنا وابن سيدنا- وخيرنا وابن خيرنا! فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أيها الناس قولوا بقولكم، لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد اللَّه، عبد اللَّه ورسوله، واللَّه ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّه. وخرجه النسائي بنحوه.
وروي النّضر بن شميل عن شعبة عن قتادة قال: سمعت مطرف بن عبد اللَّه ابن الشخير عن أبيه قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنت سيد قريش، فقال السيد اللَّه، فقال: أنت أعظمها فيها طولا، وأعلاها فيها قولا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان- وخرجه أبو داود والنسائي بنحوه أو قريبا منه.
وخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث مسدد، أخبرنا بشر بن المفضل، أخبرنا أبو مسلمة عن أبي نضرة عن مطرف، قال: إني انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقالوا: أنت سيدنا، فقال: السيد اللَّه، قالوا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان [ (1) ] .
وللبخاريّ من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحزاب ينقل التراب وقد وارى التراب بطنه [ (2) ] .
__________
[ (1) ]
قوله: «السيد اللَّه» ،
يريد السؤدد حقيقة للَّه عزّ وجلّ، وأن الخلق كلهم عبيده، وإنما منعهم أن يدعوه سيدا، مع
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أن سيد ولد آدم»
وقوله لبني الخزرج- قبيلة سعد-: قوموا إلى سيدكم»
- يريد سعد بن معاذ- من أجل أنهم قوم حديثو عهد بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنّبوّة كهي أسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم، ويسمونهم: «السادات» فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك
فقال: «قولوا بقولكم»
يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم وادعوني نبيا ورسولا، كما سماني اللَّه عز وجل في كتابه فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم، ولا تجعلوني مثلهم فإنّي لست كأحدهم، إذ كانوا يسودونكم بأسباب الدنيا، وأنا أسودكم بالنّبوّة والرسالة، فسموني نبيا رسولا،
وقوله: «بعض قولكم»
فيه حذف واختصار، ومعناه. دعوا بعض قولكم واتركوه، يريد بذلك الاقتصار في المقال
وقوله: «لا يستجرينكم الشيطان»
معناه لا يتخذنكم جريا، والجري: الوكيل، ويقال: الأجير أيضا: (معالم السنن للخطابي) ج 5 ص 154- 155.
[ (2) ] (صحيح البخاري بحاشية السندي) ج 3 ص 23 ولفظه: «لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ... » .(2/219)
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن سلمة عن حميد عن أنس قال: ما كان شخص أحب إليهم من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكانوا [إذا] رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك [ (1) ] .
وخرجه الترمذي ولفظه: لم يكن شخص ... ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وخرجه البخاري في الأدب المفرد.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن على بن رباح أن رجلا سمع عبادة بن الصامت يقول: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: قوموا نستغيث إلى رسول اللَّه من هذا المنافق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يقام إليّ، إنما يقام للَّه تبارك وتعالى.
وخرج من حديث معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن أنه ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: لا واللَّه ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب ولا يغدى عليه بالجفان [ (2) ] ، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقي نبي اللَّه لقيه، كان يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب ويردف معه، ويلعق واللَّه يده [ (3) ] .
وقال جعفر بن عون: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن أبي مسعود، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كلم رجلا فأرعد فقال: هوّن عليك، فإنّي لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد. قال ابن الجوزي: وكذا رواه هاشم ابن عمرو الحمصي عن يونس عن إسماعيل عن قيس بن جرير، كلاها وهم! والصواب: عن إسماعيل، عن قيس مرسلا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وذكر حديث حميد ابن الربيع قال: حدثنا هشيم، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم
__________
[ (1) ]
وفي (الترغيب والترهيب) ج 3 ص 431: «وعن معاوية رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أحب أن يتمثل «له الرجال قياما فليتبوَّأ مقعده من النار» رواه أبو داود بإسناد صحيح والترمذي»
وقال حديث حسن.
وقوله: «يتمثل» أي يقابل بتعظيم الوقوف، قوله: «فليتبوَّأ» أي فليأخذ مكانه في جهنم استكبارا وجزاء غطرسته، فالكبرياء والتعظيم للَّه وحده سبحانه.
[ (2) ] الجفان: مفردها جفنة، وهي القصمة الكبيرة يؤكل فيها.
[ (3) ] (صفة الصفوة) ج 1 ص 169 وفيه: «ويركب الحمار ويردف عبده، ويعلف دابته بيده صلّى اللَّه عليه وسلّم» .(2/220)
أن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما قام بين يديه استقبلته رعدة! فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
هوّن عليك، فإنّي لست ملكا، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد [ (1) ] .
قال: وكذلك رواه يحيى بن سعيد القطان، وزهير بن أبي معاوية عن أبي خالد.
وخرّج الحاكم من حديث عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم عن جرير بن عبد اللَّه قال: أوتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برجل ترعد فرائصه، قال: فقال له: هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء.
ثم تلا جرير بن عبد اللَّه البجلي، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج ابن حيان من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد بن سعيد ابن العاص الأموي عن علي بن زيد قال: قال أنس بن مالك. أن كانت الوليدة من ولائد المدينة تجيء فتأخذ بيد رسول اللَّه فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت. وله من حديث شعبة عن علي بن زيد عن أنس: أن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول اللَّه، فيدور بها في حوائجها حتى تفرغ، ثم يرجع.
وله من حديث المحاربي عن عبيد اللَّه بن الوليد الصافي عن عبد اللَّه بن عبيد ابن عمير عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت يا رسول اللَّه: كل- جعلني اللَّه فداك- متكئا، فإنه أهون عليك، قال: لا، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد [ (2) ] .
وله من حديث أبي معشر عن سعيد المقبري، عن عائشة قالت: قال رسول
__________
[ (1) ]
(سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1101 كتاب الأطعمة باب القديد حديث رقم 3312 ولفظه: «هون عليك فإنّي لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» .
قال أبو عبد اللَّه: إسماعيل وحده وصله، وفي الزوائد: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات.
(ترعد) أرعد الرجل أخذته الرعدة، والرعدة: الاضطراب. وأرعدت أيضا فرائصه عند الفزع.
(الفرائص) واحدتها فريصة، لحمة بين الجنب والكتف ترعد عند الفزع.
(القديد) هو اللحم الملح المجفف في الشمس: فعيل بمعني مفعول.
[ (2) ] ونحوه (صحيح البخاري) ج 3 ص 294 باب الأكل متكئا، (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1086 حديث رقم 3262.(2/221)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جاءني ملك فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إليّ أن ضع نفسك، فقلت نبيا عبدا [ (1) ] .
وخرّج الحافظ أبو نعيم الأصبهاني من حديث أيوب بن نهيك قال: سمعت أبا حازم قال: سمعت ابن عمر رضي اللَّه عنه يقول: لقد هبط عليّ ملك من السماء ما هبط علي بني قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي- وهو إسرافيل- فقال: السلام عليك يا محمد، وقال: أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيّرك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، فنظر إليّ جبريل فأومأ إلي أن تواضع، فقال النبي عند ذلك:
نبيا عبدا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو أني قلت نبيا ملكا ثم أمرت لصارت معي الجبال ذهبا.
قال أبو نعيم: حديث غريب من حديث أبي حازم وابن عمر، تفرد به أيوب بن نهيك، وأبو حازم مختلف فيه، فقيل سلمة بن دينار، وقيل محمد بن قيس المزني واللَّه أعلم [ (1) ] .
وله من حديث أيمن بن نايل قال: سمعت قدامة بن عبد الملك قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرمي الجمرة على ناقة صهباء، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك [ (2) ] .
وخرج البخاري في الأدب المفرد من طريق الأعمش عن سلام بن شرحبيل
__________
[ (1) ]
وفي (البداية والنهاية) ج 6 ص 48 عن يعقوب بن سفيان: حدثني أبو العباس حيوة بن شريح، أخبرنا بقية عن الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد اللَّه بن عباس قال: كان ابن عباس يحدث أن اللَّه أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك لرسوله: «إن اللَّه يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا نبيا» فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول اللَّه أن تواضع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أكون عبدا نبيا، قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي اللَّه عزّ وجلّ.
وهكذا رواه البخاري في التاريخ عن حيوة بن شريح، وأخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان كلاهما عن بقية بن الوليد به، وأصل هذا الحديث في الصحيح بنحو من هذا اللفظ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة- ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة- قال: جلس جبريل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا؟.
[ (2) ] هو كما يقال: الطريق الطريق، ويفعل بين يدي الأمراء، ومعناه نحّ وأبعد وتكريره للتأكيد. (النهاية) ج 1 ص 64.(2/222)
عن حبه بن خالد وسواء بن خالد [ (1) ] أنهما أتيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يعالج حائطا أو يناله، فأعاناه.
وخرّج الحاكم من حديث عبد اللَّه بن أبي بكر المقدمي، حدثنا ابن سليم عن ثابت عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل مكة ودنا منه على رحله متخشنا. قال هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وله من حديث الحسن بن واقد، حدثني عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه أن رجلا أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحمار وهو يمشي، فقال: اركب يا رسول اللَّه، فقالا: إن صاحب الدابة أحق بصدرها [ (2) ] [إلا أن تجعله لي، قال: قد فعلت] [ (3) ] .
وأما رقته ورحمته ولطفه
فخرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف- امرأة قين [ (4) ] يقال له أبو سيف- فانطلق يأتيه واتّبعته، فانتيهنا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت بين يدي رسول فقلت: يا أبا سيف! أمسك جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأمسك، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فضمه إليه وقال ما شاء اللَّه أن يقول، فقال أنس لقد رأيته وهو يكيد بنفسه [ (5) ] بين يدي رسول اللَّه، فدمعت عينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، واللَّه يا إبراهيم إنا بك لمحزونون [ (6) ] .
__________
[ (1) ] حبه بن خالد أخو سواء الأسدي وقيل العامري وقيل الخزاعي، عدادهما في أهل الكوفة، لهما عندنا حديث واحد عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في عدم اليأس من الرزق رواه الأعمش عن سلام أبي شراحبيل عنهما.
قلت: لم يروه عنهما غيره فيما قاله الأزدي (تهذيب التهذيب) ج 2 ص 177 ترجمة رقم 320 ج 4 ص 265 ترجمة رقم 455.
[ (2) ] (المستدرك) ج 2 ص 64 وفيه «أحق بصدر دابته» .
[ (3) ] زيادة من (المستدرك) و (سنن الدارميّ) ج 2 ص 285 باب صاحب الدابة أحق بصدرها.
[ (4) ] (القين بفتح القاف) : الحداد، وفيه جواز تسمية المولود يوم ولادته، وجواز التسمية بأسماء الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم.
[ (5) ] أي يجود بها، ومعناه وهو في النزع.
[ (6) ] فيه جواز البكاء على المريض والحزن، وأن ذلك لا يخالف الرضا بالقدر بل هي رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده، وإنما المذموم الندب والنياحة والويل والثبور ونحو ذلك من القول الباطل، ولهذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. (مسلم بشرح النووي) ج 14 ص 74- 75.(2/223)
وخرّج من حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن عمرو بن سعيد عن أنس ابن مالك قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة [ (1) ] ، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخّن، وكان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع،
قال عمرو: فلما مات إبراهيم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة.
وخرج البخاري [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو أملك أن نزع اللَّه من قلبك الرحمة؟.
وفي لفظ مسلم عن عائشة قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول اللَّه فقال:
تقبلون صبيانكم؟ فقالوا نعم؟ قالوا: لكننا ما نقبل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
وأملك إن كان اللَّه قد نزع منكم الرحمة [ (4) ] ؟.
وقد خرجا [ (5) ] من حديث أنس: رويدك يا نجشة، سوقك بالقوارير، يعني
__________
[ (1) ] أما العوالي: فالقرى التي عند المدينة، وقوله: أرحم بالعيال، هذا هو المشهور الموجود في النسخ والروايات، قال القاضي: وفي بعض الروايات الصاد، ففيه بيان كريم خلقه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورحمته للعيال والضعفاء، وفيه جواز الاسترضاع، وقوله: وإنه مات في الثدي وإن ظئرين تكملان له رضاعه في الجنة، معناه مات في الثدي أو في حال تغذيته بلبن الثدي، وأما الظئر فبكسر الظاء مهموزة وهي المرضعة ولد غيرها، وزوجها ظئر لذلك الرضيع، فلفظة الظئر تقع على الأنثى والذكر، ومعنى تكملان رضاعه أي تتمانه سنتين، فإنه توفي وله ستة عشر شهرا أو سبعة عشر فترضعانه بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن» قال القاضي: واسم أبي سيف هذا: البراء، واسم أم سيف زوجته: خولة بنت المنذر الأنصارية كنيتها: أم سيف وأم برده (المرجع السابق) ص 76.
[ (2) ] (صحيح البخاري بشر الكرماني) ج 21 ص 64 حديث رقم 5627.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 76.
[ (4) ] المرجع السابق.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 80 باب رحمته صلّى اللَّه عليه وسلّم للنساء والرّفق بهن قال العلماء: سمي النساء قوارير لضعف عزائمهن تشبيها بقارورة الزجاج لضعفها وإسراع الانكسار إليها، واختلف العلماء في المراد بتسميتهن قوارير على قولين ذكرهما القاضي وغيره أصحهما عند القاضي وآخرين، وهو الّذي جزم به الهروي وصاحب «التحرير» وآخرون أن معناه: أن أنجشة كان حسن الصوت وكان يحدو بهن وينشد شيئا من القريض والرجز وما فيه تشبيب، فلم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك، ومن أمثالهم المشهورة «الغنا رقية الزنا» ، قال القاضي: هذا أشبه بمقصوده(2/224)
النساء، وفي لفظ: ويحك يا نجشة، رويدك بالقوارير، وفي آخر: يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير، وفي آخر: أيا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير.
وخرج البخاري في الأدب المفرد [ (1) ] عن طريق مبارك [ (2) ] عن ثابت عن أنس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنّها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة فإنّها كانت تحب خديجة.
وقال الواقدي في مغازيه وقد ذكر فتح مكة: حدثني عبد الرحمن بن محمد عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم قال: لما سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العرج، رأى كلبة تهر على أولادها وهن حولها من ضعفها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاها، لا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها [ (3) ] .
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن يحيى بن سعيد بن العاص عن عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم استعذر أبا بكر من عائشة، ولم يظن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينال منها بالذي نال منها، فرفع أبو بكر يده فلطمها وصكّ في صدرها، فوجد من ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا أبا بكر، ما أنا بمستعذرك منها بعد هذا أبدا.
__________
[ () ] صلّى اللَّه عليه وسلّم وبمقتضى اللفظ ... » والقول الثاني: أن المراد به الرّفق في السير لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واستلذّته فأزعجت الراكب وأتعبته فنهاه عن ذلك لأن النساء يصعقن عند شدة الحركة، ويخاف ضررهن وسقوطهن، وأما «ويحك» فبكذا وقع في مسلم ووقع في غيره، «ويلك» ، قال القاضي: قال سيبويه: «ويل» : كلمة تقال لمن وقع في هلكه، و «ويح» زجر لمن أشرف على الوقوع في هلكة، وقال الفراء: ويل ووي وويس بمعنى ... وفي هذه الأحاديث جواز الحداء- وهو بضم الحاء ممدود- وجواز السفر بالنساء واستعمال المجاز، وفيه مباعدة النساء من الرجال ومن سماع كلامهم إلا الوعظ ونحوه.
[ (1) ] (الأدب المفرد) ج 1 ص 320 حديث رقم 332، وأخرجه الحاكم والبراء وابن حبان.
[ (2) ] «مبارك» هو ابن فضالة البصري، جالس الحسن البصري ثلاث عشر سنة أو أربع عشر سنة، مات سنة 165، قال أحمد: ما روي عن الحسن يحتج به (فضل اللَّه الصمد) هامش ص 320.
[ (3) ] كذا في (خ) ، ورواية الواقدي: «لما سار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العرج، فكان فيما بين العرج والطلوب، نظر إلى كلبة تهر على أولادها وهم حولها يرضعونها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعبل ابن سراقة أن يقوم حذاهما، لا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها، والطّلوب: ماء في الطريق بين المدينة ومكة. (المغازي للواقدي) ج 2 ص 804.(2/225)
وأما حسن عهده عليه السلام
فخرج البخاري في المناقب من حديث الليث قال: كتب إليّ هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ما غرت على امرأة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ما غرت على خديجة- هلكت قبل أن يتزوجني- لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره اللَّه أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاه فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن [ (1) ] .
وخرّجه مسلم من حديث أبي أمامة قال: أخبرنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة- ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين- لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه تبارك وتعالي أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وأنه كان يذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها [ (2) ] .
وخرّجه البخاري من حديث أسامة بنحوه، إلا أنه قال: ثم يهدي في خلتها منها. ذكره في كتاب الأدب [ (3) ] .
وخرّج أيضا من حديث حفص عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت:
كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد [ (4) ] .
وفي لفظ: ما غرت على نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا علي خديجة، وإني لم أدركها،
قالت: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة، قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة!؟ فقال: إني رزقت بحبها [ (4) ] .
وخرّج في حديث علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن عائشة رضي اللَّه
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري) ج 2 ص 315 باب تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خديجة وفضلها رضي اللَّه عنها.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 300 باب فضائل خديجة رضي اللَّه عنها.
[ (3) ] (صحيح البخاري بشرح الكرماني) ج 21 ص 167 كتاب الأدب، باب حسن العهد من الإيمان حديث رقم 5633 وفيه: «حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة» ، وفي (خ) «من حديث أسامة» ولعله خطأ من الناسخ.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 301 باب فضائل خديجة رضي اللَّه عنها.(2/226)
عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد- أخت خديجة- على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللَّهمّ هالة. قالت: فغرت فقلت:
وما تذكر من عجوز قريش، حمراء الشّدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك اللَّه خيرا منها [ (1) ] .
وخرّج مسلم بمثله وقال: فارتاح لذلك فقال: اللَّهمّ هالة بنت خويلد [ (2) ] .
وخرّج الحاكم من حديث أسد بن موسى، حدثنا مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أتى بشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة فإنّها كانت صديقة خديجة،
قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (3) ] .
ومن حديث عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة بنت خويلد رضي اللَّه عنها.
قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ (3) ] .
ومن حديث عفان: حدثنا حماد بن سلمة عن ابن عمير، عن موسى بن طلحة عن عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يكثر ذكر خديجة، فقلت: لقد أخلفك اللَّه زوجا، وقال حماد: أعقبك اللَّه عن عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الأول، قالت: فتغير وجهه تغيرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي وإذا رأى مخيلة الرعد والبرق، حتى يعلم أرحمة هي أم عذاب. قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وأما كراهته للمدح والإطراء
فخرج البخاري في كتاب الأنبياء من حديث سفيان قال: سمعت الزفري يقول: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن ابن عباس، سمع عمر رضي اللَّه عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [يقول] : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري) ج 2 ص 316 باب فضائل خديجة رضي اللَّه عنها.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 202 وفيه» فأبدلك اللَّه خيرا منها» .
[ (3) ] (المستدرك) ج 4 ص 175 كتاب البر والصلة.
[ (4) ] (الشمائل المحمدية) 173 حديث رقم 323، والإراء هو حسن الثناء أي لا تبالغوا في مدحي كما بالغت النصارى في مدح سيدنا عيسى فجعلوه إلها أو ابن إله.(2/227)
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه، أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يستجرينك الشيطان، أنا محمد بن عبد اللَّه، عبد اللَّه ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّه.
وخرّجه النسائي بنحوه وخرّجه أيضا ولفظه عن أنس، أن ناسا قالوا، لرسول اللَّه (الحديث) ، وقال فيه، ولا يستهوينكم الشيطان، وقال: التي أنزلنيها اللَّه.
ذكرهما في كتاب اليوم وليلة.
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث غيلان بن جرير عن مطرف بن عبد اللَّه عن أبيه قال: قدمنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رهط من بني عامر فسلمنا عليه، فقلت: أنت ولدنا وأنت سيدنا. وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا، وأنت الجفنة الغراء، فقال: قولوا بقولكم ولا يستجرئنك الشيطان.
وخرجه النسائي بهذا الإسناد وقال: لا يستهوينكم الشيطان، ولم يذكر قوله، وأنت الجفنة الغراء.
وخرجه أبو داود من حديث سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال، إني انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلنا، أنت سيدنا، قال: السيد هو اللَّه، قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، قال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرئنكم الشيطان [ (1) ] .
وأما حلمه وصفحه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فخرّج الإمام أحمد من حديث جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: ساءل أهل مكة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعون فقيل: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تعطيهم الّذي ساءلوا، فإن كفروا أهلكتهم كما أهلكت من قبلهم قال: بل استأني بهم.
__________
[ (1) ] سبق تخريجه وشرح بعض ألفاظه ومعناه عند الكلام على تواضع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقربه.(2/228)
وخرّج البخاري من حديث شعيب، حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن قال:
قال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسيّ وأصحابه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه، إن دوسا عصت وأبت، فادع اللَّه عليها فقيل: هلكت دوس، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا وأت بهم. ذكره في كتاب الجهاد، وترجم عليه باب الدعاء للمشركين لتألفهم.
وذكره في كتاب الدعاء في باب الدعاء للمشركين ولفظه: قدم الطفيل ابن عمرو على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه إن دوسا قد عصت وأبت فادع اللَّه عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا وأت بهم.
وذكره في آخر المغازي.
وخرّجه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول اللَّه، إن دوسا قد كفرت وأبت، فادع اللَّه عليها، فقيل: هلكت دوس، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا وأت بهم.
وخرّجه الإمام من حديث سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسيّ إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن دوسا قد عصت وأبت، فادع اللَّه عليهم، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلة ورفع يديه، فقال الناس.
هلكوا، فقال: اللَّهمّ اهد دوسا وأت بهم، اللَّهمّ اهد دوسا وأت بهم، اللَّهمّ اهد دوسا وأت بهم.
وخرّج البخاري في كتاب الاستئذان، ومسلم في الجهاد من حديث معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير، أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مرّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد اللَّه بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد اللَّه بن رواحة 7 فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد اللَّه بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى اللَّه، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللَّه بن أبي: أيها المرء لا أحسن(2/229)
من هذا، إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، قال [ (1) ] عبد اللَّه بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه فقال: أي سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ - يريد عبد اللَّه بن أبي- قال: كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول اللَّه واصفح، فو اللَّه لقد أعطاك اللَّه الّذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحرة (وقال مسلم «البحيرة» ) على أن يتوجوه فيعصبونه [ (2) ] بالعصابة، فلما رد اللَّه ذلك بالحق الّذي أعطاك، «شرق بذلك، فذلك [ (3) ] فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» . وأخرجاه من حديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب، وزاد مسلم: (وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه) ، لم يذكر غير هذا.
وقال البخاري في حديث عقيل عن ابن شهاب عن عروة أن أسامة أخبره أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ركب على حمار على إكاف على قطيفة فدكية 7 وأردف أسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر، فسار حتى مرّ بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبيّ ابن سلول- وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه- وفي المجلس أخلاط ... (الحديث نحو ما تقدم) ، وفيه: يا أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، قال ابن رواحة: بلي يا رسول اللَّه! فاغشنا به في مجالسنا، فإنّا نحب ذلك ... (الحدى) وفيه: حتى كادوا يتشاورون، وقال: أهل هذه البحرة، ولم يقل في آخره: فعفا عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكره في كتاب المرضى في باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار.
وأخرجاه أيضا من حديث شعيب بن أبي حمزة وابن أبي عقيق عن الزهري، فذكره البخاري في كتاب التفسير وفي كتاب الأدب في باب كنية المشرك، ولفظه:
أن رسول اللَّه ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة وراءه يعود سعد
__________
[ (1) ] في (خ) «فقال» وما أثبتناه من رواية البخاري.
[ (2) ] في (خ) «فعصبوه» وما أثبتناه من رواية البخاري.
[ (3) ] في (خ) «فلذلك» وما أثبتناه من رواية البخاري.(2/230)
ابن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبيّ ابن سلول- وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه بن أبي- وإذا في المجلس أخلاط الحديث ... (إلى آخره) ، وقال: حتى كادوا يتشاورون. وقال: أهل هذه البحرة. وقال في آخره بعد قوله فعفا عنه رسول اللَّه: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم اللَّه، ويصبرون على الأذى، قال اللَّه عز وجل: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [ (1) ] ، وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [ (2) ] فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتأول في العفو عنهم ما أمره اللَّه به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدرا، وقتل اللَّه بها من قتل من صناديد الكفار وسادة قريش، فقفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه منصورين غانمين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش، قال ابن أبيّ بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توحد، فبايعوا لرسول اللَّه، فبايعوه.
وخرّج البخاري ومسلم من حديث أبي أمامة عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد اللَّه بن أبيّ جاء ابن عبد اللَّه بن عبد اللَّه ابنه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليصلي عليه، فقام عمر رضي اللَّه عنه فأخذ بثوب رسول اللَّه فقال:
يا رسول اللَّه أتصلّي عليه وقد نهاك اللَّه أن تصلّي عليه؟ - ولفظ البخاري: وقد نهاك ربك أن تصلي عليه- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة، وسأزيد علي السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [ (3) ] .
وذكره البخاري في كتاب التفسير، وخرّجه مسلم من حديث يحيى القطان عن عبيد اللَّه بهذا الإسناد ونحوه، وزاد قال: فترك الصلاة عليهم.
وخرّجه البخاري في كتاب اللباس في باب لبس القميص، من حديث يحيى ابن سعيد عن عبيد اللَّه، أخبرني نافع بن عبد اللَّه قال: لما توفي عبد اللَّه بن أبيّ جاء
__________
[ (1) ] من الآية/ 186 آل عمران.
[ (2) ] من الآية 109/ البقرة.
[ (3) ] من الآية 84/ التوبة.(2/231)
ابنه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه وقال: إذا فرغت فآذنّا، فلما فرغ آذنه، فجاء ليصلي عليه فجذبه عمر وقال: أليس قد نهاك اللَّه أن تصلي على المنافقين؟ فقال:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [ (1) ] فنزلت: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [ (2) ] ، فترك الصلاة عليهم.
وذكره في كتاب الجنائز وقال فيه: فقال آذنّي أصلي عليه فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر.
وذكره في كتاب التفسير من حديث أنس بن عياض عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد اللَّه بن أبيّ، جاء ابنه عبد اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعطاه قميصه فأمره أن يكفّنه فيه، ثم قام يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بثوبه وقال: تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك اللَّه أن تستغفر لهم؟
قال: إنما خيّرني اللَّه أو أخبرني اللَّه فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فقال: سأزيده على سبعين، قال: فصلّى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصلوا معه، ثم أنزل عليه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.
وخرّج أيضا من حديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرني عبيد اللَّه ابن عبد اللَّه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: لما مات عبد اللَّه ابن أبيّ ابن سلوك، دعي له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه وثبت إليه فقلت: يا رسول اللَّه! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا، كذا وكذا؟ قال: أعدد عليه قوله. فتبسم رسول اللَّه وقال: أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيّرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها،
قال: فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة [ (3) ] : وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً إلى قوله: وَهُمْ فاسِقُونَ، قال: فعجبت بعد من جراءتي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] من الآية 80/ التوبة.
[ (2) ] من الآية 84/ التوبة.
[ (3) ] براءة: من أسماء سورة التوبة.(2/232)
يومئذ، واللَّه ورسوله أعلم. ذكره في الجنائز وفي التفسير، وخرّجه النسائي في الجنائز، وخرّجه الإمام أحمد أيضا.
وخرّج أحمد من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة، هبطوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من التنعيم مستحلين يريدون غرّة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فأخذهم سلما فاستحياهم، فأنزل اللَّه عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [ (1) ] وفي الصحيح: أن ملك الجبال بلّغه عن اللَّه تعالى تخييره بين أن يطبق على من كذبه الأخشبين، فقال عليه السلام: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد اللَّه، كما ستراه في ذكر من حدث عنه عليه السلام، وتقدم ذكر خبر الأعرابي بالبرد، حتى أثر في عاتقه عليه السلام، فضحك وأمر له بعطاء.
وخرّج البخاري من حديث جرير عن منصوص عن أبي وائل عن عبد اللَّه قال: لما كان يوم حنين، آثر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أناسا في القسمة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: واللَّه إن هذه لقسمة ما عدل فيها، أو ما أريد بها وجه اللَّه، فقلت: واللَّه لأخبرن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتيته فأخبرته، فقال: من يعدل إذا لم يعدل اللَّه ورسوله؟ رحم اللَّه موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
وخرّج مسلم من حديث مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول اللَّه، أدع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة. ذكره في كتاب البرّ والصلة.
وقال القاسم بن سلام بن مسكين الأزديّ: حدثني أبي قال: حدثنا ثابت البناني عن عبد اللَّه بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلّى ركعتين ثم أتى بالكعبة، وأخذ بعضاد في الباب فقال:
ما تقولون وما تظنون؟ قالوا: نقول: أخ كريم وابن عمّ حليم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقول كما قال يوسف، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
__________
[ (1) ] الآية 24/ الفتح.(2/233)
[ (1) ] ، فخرجوا كأنما نشروا من القيود، قد دخلوا في الإسلام.
ولابن حبان من حديث ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن بعض آل عمر ابن الخطاب عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: لما كان يوم الفتح أرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى صفوان بن أمية وأبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام، قال عمر: فقلت: قد أمكنني اللَّه منهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، فانفضحت حياء من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وله من حديث عبد اللَّه بن المغيرة: قال مالك بن أنس، حدثني يحيى بن سعيد عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل يقبّض الناس يوم حنين من فضة في ثوب بلال، فقال له رجل يا نبي اللَّه! اعدل، فقال:
ويحك، فن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل، فقال عمر رضي اللَّه: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: معاذ اللَّه أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي.
وله من حديث معاذ بن هشام الدستواني قال: حدثنا أبي عن قتادة عن عقبة ابن وشاح الأزدي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقليل من ذهب وفضة، فجعل يقسمه بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد! واللَّه لقد أمرك اللَّه أن تعدل، فما أراك تعدل، فقال: ويحك، من يعدل عليك بعدي؟ فلما ولّى قال ردوه عليّ رويدا.
وله من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن عليه عن بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده، أن أخاه أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: جيراني على ما أخذوا، فأعرض عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن الناس يزعمون أنك نهيت عن البغي فلم تتحلى به؟ فقال: إن كنت أفعل ذلك إنه لعلّي وما هو عليكم، خلّوا عن جيرانه.
وله من حديث محمد بن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ابتاع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة، فجاء به إلى منزله، فالتمس التمر فلم يجده في البيت، قالت: فخرج إلى الأعرابي فقال: يا عبد
__________
[ (1) ] الآية 92/ يوسف.(2/234)
اللَّه، إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده، فقال الأعرابي: وا غدراه وا غدراه، فوكزه الناس وقالوا: لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تقول هذا؟ فقال: دعوه.
وله من حديث إبراهيم بن الحكم بن أبان قال: حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة أن أعرابيا جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يستعينه في شيء فأعطاه شيئا ثم قال: أحسنت إليك؟ قال: لا، ولا أجملت! فغضب المسلمون فقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفّوا ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل الأعرابي فدعاه إلى البيت، يعني فأعطاه فرضي، فقال: إنك جئنا فسألتنا فأعطيناك، وقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك، قال: نعم، فلما كان الغد أو العشي جاء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن صاحبكم هذا كان جائعا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنّا دعوناه إلى البيت فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، أكذاك؟ قال نعم، فجزاك اللَّه من أهل عشيرة خيرا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي، كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحب الناقة:
خلّوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام [ (1) ] الأرض فجاءت فاستناخت فشدّ عليها رحلها واستوى عليها، ولو أني تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.
وله من حديث الأعمش عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم رضي اللَّه عنه قال: سحر النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما، فأتى جبريل عليه السلام فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، فعقد ذلك عقدا، فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا رضي اللَّه عنه فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حلّ عقدة وجد لذلك خفّة، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأنما نشط من عقال-، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط.
وله من حديث على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب عن أنس قال:
خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين فما سبّني سبّة قط، ولا ضربني ضربة ولا
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) وأثبتناها من (الشفا) ج 1 ص 73.(2/235)
انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد من أهله
قال: دعوه فلو قدّر شيء كان.
وقد تقدم حديث أنس هذا، ولكن أوردته لما في حديث ابن حبان هذا من الزيادة المفيدة.
وله أيضا من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف قال: حدثني أبي عن جدي قال: قال عبد اللَّه بن سلام: إن اللَّه عز وجل أراد هدي زيد بن سعنة [ (1) ] ، قال: زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا قد عرفته في وجه محمد سوى اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أنطلق إليه لأخالطه وأعرف حلمه، فخرج يوما ومعه علي ابن أبي طالب، فجاءه رجل كالبدوي فقال: يا رسول اللَّه، إن قرية بني فلان أسلموا، وحدثتهم أنهم إن أسلموا أتتهم أرزاقهم رغدا، وقد أصابتهم سنة وشدّة، وإني مشفق عليهم أن يخرجوا من الإسلام، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء يعينهم، قال زيد بن سعنة، فقلت، أنا أبتاع منك بكذا وكذا وسقا، فأعطيته ثمانين دينارا فدفعها إلى الرجل وقال: اعجل عليهم بها فأعنهم، فلما كان قبل المحل بيوم أو يومين أو ثلاث، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جنازة في نفر من أصحابه، فجبذت رداءه جبذة شديدة حتى سقط عاتقه، ثم أقبلت بوجه جهم غليظ فقلت:
ألا تقضيني يا محمد، فو اللَّه ما علمتكم يا بني عبد المطلب لمطل، فارتعدت فرائص عمر بن الخطاب كالفلك المستدير، ثم أومى ببصره إليّ وقال، أي عدوّ اللَّه! أتقول هذا لرسول اللَّه وتصنع به ما أرى وتقول ما أسمع؟ فو الّذي بعثه بالحق لولا ما أخاف فوته لسبقني رأسك،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إلى عمر في تؤدة وسكون، ثم تبسم وقال: لأنا أحوج إلى غير هذا: أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه، اذهب يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من تمر،
فقلت: ما هذا؟ قال أمرني رسول اللَّه أن أزيدك وكان ما دعتك: فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت الحبر، قال: فما دعاك إلى أن تفعل برسول اللَّه ما فعلت وتقول له ما قلت؟ قلت: يا عمر، إنه لم يبق من علامات النبوّة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول اللَّه حين نظرت إليه إلا اثنتان لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد
__________
[ (1) ] في (خ) «ثعنة» والتصويب من المرجع السابق ج 1 ص 63.(2/236)
اختبرتهما منه، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت باللَّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، وأشهدك أن شطر مالي للَّه، فإنّي أكثرها مالا صدقة على أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر رضي اللَّه عنه: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، قال: فرجع عمر وزيد بن سعنة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمن به وصدّقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة.
وخرجه الحاكم من حديث الوليد بن مسلم به نحوه، وقال: هذا حديث صحيح.
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا محمد بن سعد، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، حدثني من سمع الزهريّ يحدث أن يهوديا قال: ما كان بقي شيء من نعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة إلا ورأيته إلا الحلم، وإني أسلفته ثلاثين دينار إلى أجل معلوم، فتركته حتى إذا بقي من الأجل المعلوم يوم أتيته، فقلت: يا محمد أوفني حقي، فإنكم معاشر بني عبد المطلب مطل، فقال عمر رضي اللَّه عنه: يا يهودي أجننت؟ أما واللَّه لولا مكانه لضربت الّذي فيه عيناك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: غفر اللَّه لك يا أبا حفص، نحن كنا إلى غير هذا منك أحوج: إلى أن تكون أمرتني بقضاء ما عليّ، وهو إلى أن تكون أعنته في قضاء حقه أحوج، قال: فلم يزده جهلي عليه إلا حلما، قال: يا يهودي، إنما يحل حقك غدا، ثم قال يا أبا حفص، اذهب به إلى الحائط الّذي كان سألك أول يوم، فإن رضيه فأعطه كذا وكذا صاعا، وزده لما قلت له كذا وكذا صاعا، وإن لم يرض فأعطه ذلك من حائط كذا وكذا، فأتي به الحائط فرضى،
وأعطاه رسول اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما أمره من الزيادة، فلما قبض اليهودي تمره قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنه رسول اللَّه، وإنه واللَّه ما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلا إني كنت رأيت في رسول اللَّه صفاته في التوراة كلّها إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم على ما وصف في التوراة، وإني أشهد أن هذا التمر وشطر مالي في فقراء المسلمين، فقال عمر: فقلت: أو بعضهم، فقال: أو بعضهم وأسلم أهل بيت اليهود كلهم إلا شيخا كان له مائة سنة، فبقي على الكفر.
وقال إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هاشم عن زيد بن زائدة عن عبد اللَّه(2/237)
ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال. قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وإني سليم الصدر. فقال:
فأتاه مال فقسمه، فانتهيت إلى رجلين يتحدثان وأحدهما يقول لصاحبه: واللَّه ما أراد محمد بقسمته التي قسم وجه اللَّه والدار الآخرة، قال: فتثبتّ حتى سمعتها، ثم أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكرت له ذلك، فقلت: إنك قلت: لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، وإني سمعت فلانا وفلانا يقولان كذا وكذا، قال: فاحمرّ وجهه وقال: دعنا منك فقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر.
وخرج مسلم من حديث زيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه ادع اللَّه على المشركين، قال: إنما لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة.
انفرد بإخراجه مسلم.
وقال سفيان بن الحسن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما أنا رحمة مهداة.
وقال الواقدي في مغازيه وقد ذكر فتح مكة: وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتل جماعة فذكرهم إلى أن قال: وأما هبار بن الأسود فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان كلما بعث سرية أمرها بهبار إن أخذ أن يحرق بالنار، ثم قال: إنما يعذّب بالنار ربّ النار، اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه، فلم يقدر عليه يوم الفتح، وكان جرمه أنه عس [ (1) ] بابنة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب، وضرب ظهرها بالرمح- وكانت حبلي- حتى أسقطت فأهدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دمه، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس بالمدينة في أصحابه، إذا طلع هبار بن الأسود- وكان لسنا- فقال: يا محمد: أسب من سبك، إني قد جئت مقرا بالإسلام: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فقبل منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرجت سلمى مولاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: لا أنعم اللَّه بك عينا، أنت الّذي فعلت وفعلت، فقال: إن الإسلام محا ذلك، ونهي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، عن سبه والتعريض له [ (2) ] .
[ثم قال] [ (3) ] : حدثني هشام بن عمارة عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم
__________
[ (1) ] في (خ) «نخس» وما أثبتناه من رواية الواقدي في (المغازي) ج 2 ص 857.
[ (2) ] في (خ) «والتعرض» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 858.
[ (3) ] زيادة للسياق.(2/238)
عن أبيه عن جده قال: كنت جالسا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه في مسجده منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار بن الأسود، قال [ (1) ] : قد رأيته فأراد بعض القوم القيام إليه، فأشار إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن اجلس، ووقف عليه هبار فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه، إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، ولقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحوق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك عن من جهل إليك [ (2) ] ، وكنا يا رسول اللَّه أهل شرك باللَّه فهدانا باللَّه بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإنّي مقر بسيئاتي [ (3) ] معترف بذنبي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قد عفوت عنك، وقد أحسن اللَّه بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله.
[ثم قال] : حدثني واقد بن أبي ياسر عن يزيد بن رومان قال: قال الزبير ابن العوام رضي اللَّه عنه: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر هبارا قط إلا تغيّظ عليه، ولا رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث سرية قط إلا قال: إن ظفرتم بهبار فاقطعوا يديه ورجليه ثم اضربوا عنقه، واللَّه لقد كنت أطلبه وأسأل عنه، واللَّه يعلم لو ظفرت به قبل يأتي إلى رسول اللَّه لقتلته ثم طلع على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا عنده جالس، فجعل يعتذر إلى رسول اللَّه يقول، سبّ يا محمد من سبّك وأوذي [ (4) ] من آذاك، فقد كنت موضعا في سبّك وأذاك وكنت مخذولا وقد بصّرني [ (5) ] اللَّه وهداني للإسلام. قال الزّبير: فجعلت انظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنه ليطأطئ رأسه استحياء منه مما يعتذر هبار، وجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقول: قد عفوت عنك، والإسلام يجبّ ما كان قبله،
وكان لسنا، وكان يسبّ حتى يبلغ منه فلا ينتصف من أحد، فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حمله وما يحمل عليه من الأذى، فقال هبار [ (6) ] : سبّ من سبّك.
__________
[ (1) ]
كذا في (خ) ونص الواقدي: «فطلع هبار بن الأسود من باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما نظر إليه القوم قالوا: يا رسول اللَّه، هبار بن الأسود، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد رأيته ... » .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (الواقدي) «جهل عليك» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (الواقدي) «بسوء فعلي» .
[ (4) ] في (خ) «وآذي» وما أثبتناه من (الواقدي) .
[ (5) ] في (الواقدي) «نصرني» .
[ (6) ] في (خ) «يا هبار» .(2/239)
وأما شفقته ومداراته
فقال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [ (1) ] ، قال السمرقندي فيما نقل القاضي عياض، ذكّرهم اللَّه تعالى منّته أنه جعل رسوله رحيما بالمؤمنين، رءوفا ليّن الجانب، ولو كان فظا خشنا في القول لتفرقوا من حوله، لكن جعله اللَّه سمحا سهلا، طلقا برا لطيفا. هكذا قال الضحاك.
وخرج البخاري من حديث سليمان بن بلال قال: حدثني شريك بن عبد اللَّه، سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمّه.
وخرّجه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس أنه قال، ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم (لم يزد على هذا) .
وخرّجا من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمّه من بكائه. ترجم عليه باب من أخف صلاته عند بكاء الصبي، وذكر في هذا الباب في رواية أبي محمد الحموي وأبي الهيثم الكشميني حديث سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه.
وخرّج البخاري من حديث الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير عن عبد اللَّه بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني لأقوم في الصلاة، وإني أريد أن أطوّل فيها. (الحديث) . مثله ذكره في باب خروج النساء إلى المساجد.
ولمسلم من حديث يحيى بن يحيى قال: أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة.
__________
[ (1) ] من الآية 159/ آل عمران.(2/240)
وله من حديث عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي اللَّه عنها أخبرته أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فطفق منهم رجال يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى خرج لصلاة الفجر،
فلما قضى الصلاة أقبل على الناس ثم تشهد وقال، أما بعد، فإنه لم يخف عني شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها.
وخرّجه البخاري بنحوه، وزاد في آخره، فتوفي رسول اللَّه والأمر على ذلك، ذكره في باب فضل من قام رمضان، وفي كتاب الجمعة في باب من قال في الخطبة بعد الثناء، أما بعد، غير أنه لم يذكر الزيادة، وقال في بعض الموضعين: أما بعد، فإنه لم يخف عليّ مكانكم.
وخرّج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى في ذات ليلة في المسجد فصلّى بصلاته ناس، ثم صلّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما. صبح قال، قد رأيت الّذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا إنني خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان. ذكره البخاري في باب تحريض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب ولم يقل فيه أبو داود: والرابعة. ذكره في باب قيام شهر رمضان [ (1) ] ، وذكر بعده متصلا به حديث محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعا [ (2) ] ، فأمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فضربت له حصيرا فصلّى فيه رسول اللَّه بهذه
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 104 حديث رقم 1373، 1374 وأخرجه (البخاري) في الصوم باب فضل من قام رمضان (ومسلم) في الصلاة باب في قيام رمضان وهو التراويح، (والنسائي) في قيام الليل باب قيام شهر رمضان.
[ (2) ] أوزاعا: متفرقين ومن هذا قولهم: وزّعت الشيء إذا فرقته، وفيه إثبات الجماعة في قيام رمضان،(2/241)
القصة،
قالت [ (1) ] فيه: قال: - يعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أيها الناس، أما واللَّه ما بتّ ليلتي هذه بحمد اللَّه غافلا، ولا خفي علي مكانكم.
وللبخاريّ من حديث يحي بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلّى من الليل في حجرته- وجدار الحجرة قصير- فرأى الناس شخص النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقام ناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام الليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثا حتى إذا كان بعد ذلك، جلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس فقال: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل، ذكره في باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة.
وخرّج الإمام أحمد من حديث معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يترك العمل وهو يحب أن يعمله كراهية أن يستن الناس به فيفرض عليهم، وكان يحب ما خفف من الفرائض.
وخرّج مسلم من حديث حماد عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رجل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: أين أبي؟ قال: في النار! فلما رأى ما في وجهه قال: إن أبي وأباك في النار.
انفرد بإخراجه مسلم [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون قال: حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال:
لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟
__________
[ () ] وفيه إبطال من زعم أنها محدثة (معالم السنن) ج 2 ص 104 (هامش) .
[ (1) ] في (خ) «وقال» وما أثبتناه من (سنن أبي داود) .
[ (2) ] الحديث أخرجه مسلم في الإيمان بلفظ «فلما قفا الرجل دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» ، قفا:
ولي قفاه منصرفا (صفة الصفوة) ج 1 ص 172 باب ذكر حلمه وصفحه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/242)
قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء [ (1) ] .
وخرّج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر ابن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلى قول اللَّه عز وجل: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وقال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه ثم قال: اللَّهمّ أمتى أمتى، وبكى، فقال اللَّه عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره بما قال اللَّه تعالى: فقال اللَّه تعالى: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك.
وخرّج البخاري من حديث همام، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى أعرابيا يبول في المسجد! فقال: دعوه، حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه. ترجم عليه، باب ترك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله.
وخرّجه مسلم من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال: حدثني أنس بن ملك- وهو عم إسحاق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مه مه! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لا تزرموه لا تزرموه [ (2) ] ، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر اللَّه والصلاة وقراءة القرآن- أو كما قال رسول اللَّه- قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فصبّه عليه.
وأخرجاه من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن أعرابيا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها، فصاح بن الناس، فقال رسول اللَّه
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) ج 5 ص 256، 257.
[ (2) ] أزرمه: قطع عليه بوله (ترتيب القاموس) ج 2 ص 448.(2/243)
صلّى اللَّه عليه وسلّم، دعوه فلما فرغ أمر رسول اللَّه بذنوب فصب عليه.
اللفظ لمسلم.
ولفظ البخاري قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فنهاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما قضى بوله أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذنوب من ماء فأهريق عليه. ذكره في باب صب الماء على البول في المسجد.
وخرّج البخاري ومسلم والنّسائي من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوه، ولا تزرموه، فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبّه عليه. لفظهما فيه سواء. وقال النسائي بعد قوله: لا تزرموه، لا تقطعوا بوله، وفي لفظ للبخاريّ، أن أعرابيا بال في المسجد فقاموا إليه: فقال رسول اللَّه: لا تزرموه، ودعا بدلو من ماء فصب عليه. ذكره في كتاب الأدب، في باب الرّفق في الأمر كله.
وخرّج البخاري والنسائي من حديث الزهري قال: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة قال: قام أعرابي في المسجد فبال: فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دعوه وأهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسّرين. ذكره البخاري في باب صب الماء على البول في المسجد وخرّجه في كتاب الأدب ولفظه: أن أبا هريرة أخبره أن أعرابيا بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول اللَّه، دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. ذكره في باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يسّروا ولا تعسّروا، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس.
وخرّج أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، أن أعرابيا دخل المسجد ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس، فصلّى ركعتين ثم قال: اللَّهمّ ارحمني ومحمدا، ولا ترحم منا أحدا! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد تحجّرت واسعا، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال:
إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلا من ماء، أو قال: ذنوبا من ماء [ (1) ] وقال الترمذي: أهريقوا عليه سجلا من ماء أو دلوا من ماء، وقال
__________
[ (1) ]
(مسند الحميدي) ج 2 ص 419 حديث رقم 938 ولفظه.
« ... أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: دخل أعرابي المسجد والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس، قال:(2/244)
فيه: فلما فرغ قال.
وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
قال مؤلفه: ذكر البخاري قول الأعرابي: اللَّهمّ ارحمني ومحمدا، وقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له، ولم يذكر فيه أنه بال في المسجد.
وخرّج مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رجلا [ (1) ] استأذن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ائذنوا له فبئس أخو العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت يا رسول اللَّه! قلت الّذي قلت ثم ألنت له القول؟ قال يا عائشة إن شرّ الناس عند اللَّه منزلة يوم القيامة، من تركه الناس اتقاء فحشه.
وخرّج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء ابن يسار عن معاوية بن الحكم قال: بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك اللَّه: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمّاه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فعرفت أنهم يصمتونني، لكني سكتّ، فلما صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فبأبي وأمي- ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو اللَّه ما نهرني [ (2) ] ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن- أو كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- قلت: يا رسول اللَّه! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء اللَّه بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهّان، قال: فلا تأتهم، قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا
__________
[ () ] فقام، فصلّى، فلما فرغ من صلاته قال: اللَّهمّ ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فالتفت إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: لقد تحجرت واسعا، فما لبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أهريقوا عليه سجلا من ماء أو دلوا من ماء، ثم قال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.
[ (1) ] هو عيينة بن حصن الفزاري- الّذي يقال له الأحمق المطاع- وكان إذ ذاك من أهل النفاق ولذا قال فيه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قال ليتقي شره، وهذا ليس بغيبة بل نصيحة للأمة، وقد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وحضر بعض الفتوحات وقد اعتبر العلماء قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه وهو غائب وإلانته له وهو حاضر من باب المداراة والتآلف.
[ (2) ] في رواية أبي داود ج 1 ص 570 باب تشميت العاطس في الصلاة حديث رقم 930 «ما كهرني» ومعناه ما انتهرني ولا غلظ لي، وقيل الكهر: استقبال الإنسان العبوس، وقرأ بعض الصحابة «فأما اليتيم فلا تكهر» (معالم السنن للخطابي) .(2/245)
يصدنكم، قال: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكّة، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعظم ذلك عليّ، فقلت: يا رسول اللَّه، أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها: فقال لها أين اللَّه؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول اللَّه، قال أعتقها فإنّها مؤمنة. وخرّجه أبو داود قريبا منه، ذكره في باب تشميت العاطس [في الصلاة] وفيه، قلت: يا رسول اللَّه، إنا حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا اللَّه بالإسلام، ومنا رجال يأتون الكهان، قال: فلا تأتونهم. وقال: فلا يصدنهم، وقال فيه، قلت: جارية لي كانت ترعي غنيمات قبل أحد والجوانية، إذا طلعت عليها إطلاعة ... الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وفي هذا الحديث من الفقه أن الكلام ناسيا في الصلاة لا يفسد الصلاة وذلك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم علّمه أحكام الصلاة وتحريم الكلام فيها ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه وقد كان تكلم بما تكلم به، ولا فرق بين من تكلم جاهلا بتحريم الكلام عليه وبين من تكلم ناسيا لصلاته في أنّ كل واحد منهما قد تكلم، والكلام مباح له عند نفسه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن قال يبني على صلاته إذا تكلم ناسيا أو جاهلا الشعبي والأوزاعي ومالك والشافعيّ وقال النخعي وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي: إذا تكلم ناسيا استقبل الصلاة، وفرق أصحاب الرأي بين أن يتكلم ناسيا وبين أن يسلم ناسيا، فلم يوجبوا عليه الإعادة في السلام كما أوجبوها عليه في الكلام.
وقال الأوزاعي: من تكلم في صلاته عامدا بشيء يريد به إصلاح صلاته لم تبطل صلاته، وقال في رجل صلّى العصر فجهر بالقرآن، فقال رجل من ورائه إنها العصر، لم تبطل صلاته، وفي الحديث دليل على أن المصلي إذا عطس فشمته رجل فإنه لا يجبيه.
واختلفوا إذا عطس وهو في الصلاة هل يحمد اللَّه؟ فقالت طائفة: يحمد اللَّه.
روي عن ابن عمر أنه قال العاطس في الصلاة يجهر بالحمد، وكذلك قال النخعي وأحمد بن حنبل:
وهو مذهب الشافعيّ إلا أنه يستحب أن يكون ذلك في نفسه.
وقوله «يصمتوني» ومثله يسكتوني: معناه يطلبون منى أن أسكت، وقد حذف نون الرفع وقرئ كما في قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بنون واحدة مخففة.
وقوله في الطيرة «ذلك شيء يجدونه في صدورهم» يريد أن ذلك شيء يوجد في النفوس البشرية وما يعتري الإنسان من قبل الظنون والأوهام من غير أن يكون له تأثير من جهة الطباع أو يكون فيه ضرر كما كان زعمه أهل الجاهلية.
وقوله: «ومنا رجال يخطون» فإن الخط عند العرب فيما فسره ابن الأعرابي أن يأتي الرجل العرّاف(2/246)
وخرّجه النّسائي أيضا وفي حديث لأبي داود من طريق فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال: لما قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علمني أمورا من أمور الإسلام، فكان فيما علّمت: أن قيل لي: إذا عطست فاحمد اللَّه، وإذا عطس العاطس فحمد اللَّه فقل: يرحمك اللَّه، قال: فبينما أنا قائم مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، إذا عطس رجل فحمد اللَّه، فقلت: يرحمك اللَّه- رافعا بها صوتي- فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، فقلت: ما لكم تنظرون إلى بأعين شزر؟ قال: فسبّحوا، فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاته قال:
من المتكلم؟ قيل: هذا الأعرابي، فدعاني رسول اللَّه، فقال: إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر اللَّه عز وجل، فإذا كنت في الصلاة فليكن ذلك شأنك، فما رأيت معلما قط أرفق من رسول اللَّه.
وخرّج البخاري ومسلم والنسائي من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن عليه قال:
حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رحيما رفيقا، فظن أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا فسألنا عن من تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم وبروهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم،
اللفظ لمسلم.
ولفظ البخاري: عن أبي قلابة عن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال: أتينا
__________
[ () ] وبين يديه غلام فيأمره بأن يخط في الرمل خطوطا كثيرة وهو يقول: ابني عيان أسرعا البيان، ثم يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين، ثم ينظر إلى آخر ما بقي من تلك الخطوط، فإن كان الباقي منها زوجا فهو دليل الفلح والظفر. وإن كان فردا فهو دليل الخيبة واليأس.
وقوله: «فمن وافق خطه» فذلك يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه وترك التعاطي له إذا كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي لأنه خطه كان علما لنبوته» وقد انقطعت نبوته فذهبت معالمها.
قوله: «آسف كما يأسفون» معناه: أغضب كما يغضبون، ومن هذا قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ.
وأما
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعتقها فإنّها مؤمنة، ولم يكن ظهر له من إيمانها أكثر من قوله حين سألها:
أين اللَّه، فقالت: في السماء وسألها: من أنا فقالت: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فإن هذا السؤال عن أمارة الإيمان، وسمة أهله، وليس بسؤال عن أصل الإيمان وصفته وحقيقته، ولو أن كافرا يريد الانتقال من الكفر إلى دين الإسلام فوصف من الإيمان هذا القدر الّذي تكلمت به الجارية لم يصر به مسلما حتى يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويتبرأ من دينه الّذي كان يعتقده. (معالم السنن) .(2/247)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلينا، فأخبرناه- وكان رفيقا رحيما- فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم وبروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم. ذكره في كتاب الأدب في باب رحمة الناس.
وأخرجاه أيضا من حديث عبد الوهاب الثقفي وحماد بن زيد عن أيوب قال:
قال لي أبو قلابة: يا مالك بن الحويرث أبو سليمان، قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وناس ونحن شببة متقاربون، وأقمنا جميعا.. الحديث بنحو حديث ابن علية.
وذكره البخاري أيضا في باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، من حديث عبد الوهاب، وذكره في كتاب الصلاة في باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم من حديث حماد بن زيد عن أيوب، وذكره في باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد من حديث وهيب عن أيوب.
وأخرجاه من حديث خالد الحذّاء عن أبي قلابة، وذكره البخاري في باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، وذكره في باب اثنان فما فوقهما جماعة مختصرا.
وخرّج ابن حبان والبخاري في الأدب المفرد من طريق أبي نعيم، حدثنا ابن الغسيل عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد قال: لما أن أصيب أكحلي بعد يوم الخندق وثقل، حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة- وكانت تداوي الجرحى- فكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرّ به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح يقول: كيف أصبحت؟ فيخبره.
وخرّج الحاكم من حديث شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال: قدم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سبى فأمرني ببيع أخوين فبعتهما وفرّقت بينهما ثم أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته فقال: أدركهما فارتجعهما وبعهما جميعا ولا تفرق بينهما.
قال الحاكم: هذا حديث غريب صحيح على شرط الشيخين.
وخرج ابن حبان من حديث يحيى بن أبي بكير العبديّ قال: حدثنا عباد ابن كثير عن ثابت عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا فقد الرجل من أصحابه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا عاله، وإن كان شاهده زاره، وإن كان مريضا(2/248)
عاده.
وبلغ من مداراة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه وجد قتيلا من أصحابه بين اليهود فلم يحف عليهم، بل حملهم على مرّ الحق، وجاد بأن وداه بمائة من الإبل وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد.
وخرّج مسلم من حديث مالك قال: حدثني أبو ليلي بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل عن أبي خنتمة أنه أخبر عن رجال من كبراء قومه أن عبد اللَّه بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتي محيصة فأخبر أن عبد اللَّه بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين، فأتي يهود فقال: أنتم واللَّه قتلتموه، قالوا: واللَّه ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قوم وذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة- وهو أكبر منه- وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم- وهو الّذي بخيبر- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لمحيصة: كبّر كبّر (يريد السن) فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أما أن تدوا [ (1) ] صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب، فكتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك، فكتبوا: إنا واللَّه ما قتلناه، فقال رسول اللَّه لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا بمسلمين. فوداه [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة حتى أدخلت الدار، فقال سهل: فقد ركضتني منها ناقة حمراء. وخرّجه في كتاب الأحكام، ولم يقل حمراء. وخرّجه أبو داود في باب القتل بالقسامة [ (3) ] . وخرّجه النسائي في كتاب الأحكام وفي القسامة [ (3) ] .
وكان من حسن مداراته صلّى اللَّه عليه وسلّم أن لا يذم طعاما ولا ينه خادما كما تقدم بطرقه.
وخرّج الحاكم من حديث يزيد بن هارون: أخبرنا جرير بن حازم قال: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب يحدث عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إحدى صلاتي النهار- الظهر أو العصر-
__________
[ (1) ] أي تدفعوا ديته لأوليائه.
[ (2) ] وداه: دفع ديته.
[ (3) ] القسامة: - بفتح قاف وتخفيف سين مهملة- مأخوذة من القسم، وهي اليمين، وهي في عرف الشرع حلف يكون عند التهمة بالقتل، أو هي مأخوذة من قسمة الأيمان على الحالفين (سنن النسائي بحاشية السندي وشرح السيوطي) ، ج 8 ص 2. كتاب القسامة.(2/249)
وهو حامل الحسن، فتقدم فوضعه عند قدمه اليمني، فسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سجدة أطالها، فرفعت رأسي فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساجد، وإذا الغلام راكب ظهره، فعدت فسجدت، فلما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال ناس: يا رسول اللَّه! لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، أشيء أمرت به أو كان يوحي إليك؟ فقال: كل ذلك لم يكن، ابني ارتحلني فكرهت أن أعلجه حتى يقضي حاجته [ (1) ] .
وأما اشتراطه على ربه أن يجعل سبه لمن سب من أمته أجرا
فخرّج البخاري من كتاب الدعاء من حديث يونس عن ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: اللَّهمّ فأيّما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة [ (2) ] .
وخرّج مسلم بنحوه وقال فأيما عبد. وله من حديث ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: اللَّهمّ إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيّما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة [ (3) ] .
وله من حديث جرير عن الأعمش عن أبي الضحي عن مسروق عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه فلعنهما وسبّهما، فلما خرجا قلت: يا رسول اللَّه! من [ (4) ] أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان؟ قال وما ذاك؟ قلت: لعنتهما وسببتهما! قال: أو ما علمت ما شارطت [ (5) ] عليه ربي قلت: اللَّهمّ إنما أنا بشر [فأيّما أجد من] [ (6) ] المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة وأجرا.
__________
[ (1) ] (المستدرك للحاكم) ج 3 ص 166 باختلاف يسير وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[ (2) ] (صحيح البخاري) ج 4 ص 107.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) ج 16 ص 153.
[ (4) ] في (خ) «لمن» وما أثبتناه من رواية (مسلم) .
[ (5) ] في (خ) «شرطت» وما أثبتناه من رواية (مسلم) .
[ (6) ] كذا في (خ) ورواية مسلم: «فأيّ المسلمين» .(2/250)
وخرّجه من حديث علي بن حجر السعدي وإسحاق بن إبراهيم وعلي ابن خشرم عن عيسى بن يونس عن الأعمش بهذا الإسناد نحو حديث جرير وقال فيه: فخلوا به فسبّهما ولعنهما وأخرجهما [ (1) ] .
وله من حديث عبد اللَّه بن نمير قال: حدثنا أبي، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة [ (1) ] .
وخرّجه البخاري من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مثله، إلا أن فيه: زكاة وأجرا.
وله من حديث المغيرة عن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد [ (2) ] عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: اللَّهمّ إني اتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة [ (3) ] .
وله من حديث الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن سالم مولى النصريين قال:
سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: اللَّهمّ إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته، فاجعلها له كفّارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة [ (4) ] .
وله من حديث جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه [يقول] [ (5) ] : سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنما أنا بشر، وإني اشترطت على ربي عز وجل أيّ عبد من المسلمين سببته أو شتمته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا.
وخرّج مسلم أيضا من حديث عكرمة بن عمّار قال: أخبرنا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة قال: حدثني أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: كانت عند
__________
[ (1) ] المرجع السابق 151.
[ (2) ] في (خ) «أبي الدرداء» وما أثبتناه من رواية مسلم.
[ (3) ] المرجع السابق ص 153.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) ج 16 ص 153.
[ (5) ] زيادة من المرجع السابق.(2/251)
أم سليم يتيمة- وهي أم أنس- فرأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اليتيمة فقال: أأنت هيه [ (1) ] ، لقد كبرت لا كبر سنّك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا منيّمة؟ قالت الجارية: دعا [ (2) ] عليّ نبي اللَّه ألا يكبر سني! فالآن لا يكبر سني أبدا، أو قالت: قرني، فجرت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لها: ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي اللَّه؟ أدعوت علي يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت عليها أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها، قال [ (3) ] : فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم قال: يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر: فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها [ (4) ] له طهورا وزكاة وقربة يقربها [ (5) ] بها يوم القيامة.
انفرد بإخراجه مسلم [ (6) ] .
وخرّج الإمام أحمد [ (7) ] من حديث ابن أبي ذؤيب قال: حدثني محمد بن عمر ابن عطاء عن ذكوان مولى عائشة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأسير فلهوت عنه فذهب: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما فعل الأسير؟
قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج، فقال: ما لك؟ قطع اللَّه يدك! فخرج فأذن به الناس فطلبوه، فجاء به فدخل عليّ وأنا أقلب يدي فقال: أجننت! قلت:
دعوت عليّ فأنا أقلب يدي انظر أيهما يقطعان، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم رفع يديه مدا وقال: اللَّهمّ إني بشر، أغضب كما يغصب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهورا.
وله من حديث محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة أن عائشة قالت: إن أمداد
__________
[ (1) ] بفتح الباء وإسكان الهاء وهي هاء السكت.
[ (2) ] في (خ) «وهي» .
[ (3) ] في (خ) «قالت» .
[ (4) ] في (خ) «تجعلها» .
[ (5) ] في (خ) «نقربه» .
[ (6) ] (مسلم بشرح النووي) ج 16 ص 154، 155، انظر أيضا: (سنن أبي داود) ج 5 ص 45، 46 حديث رقم 4659 وفيه: «أيما رجل من أمتي سببته أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة» .
[ (7) ] (مسند أحمد ابن حنبل) ج 2 ص 390، 488، 496، ج 3 ص 333، 384، 391، 400، ج 5 ص 437، 439، ج 6 ص 45.(2/252)
العرب كثروا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وقام إليه المهاجرون يعرجون عنه حتى قام على عتبة عائشة فرهقوه فأسلم رداءه في أيديهم ووثب عن العتبة فدخل فقال: اللَّهمّ العنهم، فقالت عائشة: يا رسول اللَّه! هلك القوم، فقال: كلا واللَّه: يا بنت أبي بكر، لقد شرطت على ربي شرطا لا خلف له فقلت: إنما أنا بشر: أضيق بما يضيق به البشر: فأي المؤمنين بدرت إليه مني بادرة فاجعلها له كفارة.
وأما مزاحه وملاعبته
فخرّج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن المبارك عن أسامة بن زيد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قالوا يا رسول اللَّه إنك تداعبنا، قال:
إني لا أقول إلا حقا [ (1) ] .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
وخرّج أبو داود [ (2) ] والترمذي [ (3) ] والبخاري [ (4) ] في الأدب المفرد من حديث خالد عن حميد عن أنس رضي اللَّه عنه أن رجلا أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللَّه احملني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنا حاملوك على ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد ناقة؟ فقال: النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وهل تلد الإبل إلا النّوق؟.
وخرّج أبو داود من حديث يونس عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر رضي اللَّه عنه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسمع صوت عائشة- رضي اللَّه عنه- عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول اللَّه، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج أبو بكر: كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قال: فمكث أبو بكر رضي اللَّه عنه أياما، ثم استأذن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوجدهما قد اصطلحا:
فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد فعلنا قد فعلنا [ (5) ] .
__________
[ (1) ]
(الشمائل المحمدية) ص 120 ولفظه «قال: نعم. غير أني لا أقول إلا حقا» . (سنن الترمذي) ج 3 ص 241 باب ما جاء في المزاح حديث رقم 2058،
ومعني
قوله: «إنك تداعبنا»
إنما يعنون أنك تمازحنا.
[ (2) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 270 حديث رقم 4998.
[ (3) ] (سنن الترمذي) ج 3 ص 241 حديث رقم 2060 (الشمائل المحمدية) ص 120.
[ (4) ] (الأدب المفرد) ج 1 ص 359 حديث رقم 268.
[ (5) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 271 حديث رقم 4999.(2/253)
وله من حديث بشر بن عبيد اللَّه عن أبي إدريس الخولانيّ عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فسلمت فردّ وقال: أدخل، فقلت: أكلّي يا رسول؟ قال: كلّك، فدخلت،
قال عثمان ابن أبي العاتكة، إنما قال أدخل كلى من صغر القبّة [ (1) ] .
وخرّج أبو داود والترمذي من حديث شريك عن عاصم عن أنس قال: ربما قال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ذا الأذنين، يمازحه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب [ (2) ] .
وله من حديث المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه، أدع اللَّه أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن اللَّه يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً [ (3) ] .
وخرّج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا أو حزام بن حجال: وكان يهدى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الهدية من البادية فيجهزه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن زاهرا بادينا [ (4) ] ونحن حاضروه [ (5) ] ، قال: وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحبه وكان رجلا دميما [ (6) ] : فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا! فالتفت فعرف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فجعل لا يألو [ (7) ] ما ألصق ظهره بصدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين عرفه: وجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول اللَّه! إذن واللَّه تجدني كاسدا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لكن عند اللَّه لست بكاسد، أو قال:
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 272 حديث رقم 5000، 5001.
[ (2) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 272 حديث رقم 5002.
[ (3) ] (الشمائل المحمدية) ص 121، 122، والآيات 35، 36، 37 من سورة الواقعة، وقيل إن هذه العجوز هي صفية بنت عبد المطلب.
[ (4) ] أي: نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته، والبادي: هو المقيم بالبادية.
[ (5) ] أي حاضرو المدينة له، وهذا من حسن المعاملة تعليما لأمته في متابعة هذه المجاملة.
[ (6) ] أي قبيح الصورة مع كونه مليح السيرة.
[ (7) ] أي لا يقصر.(2/254)
لكن عند اللَّه أنت غال.
وخرّج أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرّج الأندلسي في كتابه في تسمية من روي عن مالك بن أنس من حديث عبد اللَّه بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه قال: مازح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا فقال:
ضرب اللَّه عنقك، فقال: في سبيله يا رسول اللَّه! قال في سبيله.
وخرّج الإمام أحمد من حديث سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: سابقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني فقال: هذه بتيك [ (1) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث أبي حفص المعيطي قال: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: خرجت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا فتقدموا ثم قال: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس تقدموا فقدموا، فقال تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك، وهو يقول هذه بتلك [ (1) ] .
وخرّج أبو بكر الشافعيّ من حديث يحيى بن سعيد القطان عن الصلت ابن الحجاج عن عاصم الأحوال عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لعائشة رضي اللَّه عنها ذات يوم: ما أكثر بياض عينيك!
وله من حديث ابن المبارك قال: حدثنا حميد الطويل عن ابن أبي الورد عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رآه، قال: فرأى رجلا أحمر فقال: أنت أبو الورد؟
ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدلع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصّبيّ حمرة لسانه فيهش إليه.
ولابن حبان من حديث ابن لهيعة عن عبد اللَّه بن المغيرة قال: سمعت عبد
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) ج 6 ص 39، 129، 182، 261، وأخرجه ابن ماجة في النكاح باب حسن معاشرة النساء، ونسبه النسائي للمنذري، وأبو داود في سننه ج 3 ص 65 باب في السبق على الرّجل حديث رقم 2578.(2/255)
اللَّه بن يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن أبي داود عن طفيل بن سنان عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لأمزح ولا أقول إلا حقا.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم للصبي: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟
وقال شعبة: حدثني علي بن عاصم عن خالد الحذّاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كانت في النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دعابة.
وقال ابن لهيعة عن عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من أفكه الناس.
وقال خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عائشة رضي اللَّه عنها: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مزّاحا: وكان يقول: إن اللَّه لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه.
وقال وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت زيد بن أسلم يحدث أنّ خوّات ابن جبير قال [ (1) ] : نزلت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرّ [ (2) ] الظهران فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فأخرجت حلّة لي من عيبتي فلبستها ثم جلست إليهن فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبته فقال [ (3) ] : أبا عبد اللَّه! ما يجلسك إليهن؟ قال: فقلت يا رسول اللَّه: جمل لي شرود أبتغي له قيدا: فمضى رسول اللَّه وتبعته: فألقى رداءه [ (4) ] ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال:
يا أبا عبد اللَّه! ما فعل شراد جملك؟ ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المنزل إلا قال: السلام عليكم أبا عبد اللَّه: ما فعل شراد جملك؟ قال: فتعجلنا إلى المدينة فاجتنبت [ (5) ] المسجد ومجالسة رسول اللَّه، فلما طال ذلك عليّ تحينت ساعة خلوة [ (6) ] ، فجعلت أصلّى، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض حجره، فجاء فصلّى ركعتين خفيفتين ثم جلس، وطوّلت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال طوّل يا أبا عبد اللَّه ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف، فقلت واللَّه لأعتذرن إلى رسول
__________
[ (1) ] (النهاية لابن الأثير) ج 2 ص 457، 458.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (النهاية) «بمر الظهران» .
[ (3) ] في (النهاية) «فمرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فهبته، فقلت: يا رسول اللَّه جمل لي شرود وأنا أبتغي له قيدا» .
[ (4) ] في (النهاية) «ما ألقى إليّ رادءه» .
[ (5) ] في (النهاية) «فتعجلت إلى المدينة واحتفيت المسجد» .
[ (6) ] في (النهاية) «خلوة المسجد ثم أتيت المسجد فجعلت أصلي» .(2/256)
اللَّه [ (1) ] ، فانصرفت، فقال: السلام عليكم يا أبا عبد اللَّه، ما فعل شراد الجمل؟
فقلت: والّذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: رحمك اللَّه مرتين أو ثلاثا: ثم أمسك عني فلم يعد.
فصل في ذكر آداب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وسمته وهديه
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت له آداب، منها: أنه ان يمناه لطهوره، ويسراه لدفع الأذى، ويخفض صوته، ويخمّر وجهه إذا عطس، وكان يقعد القرفصاء، ويحتبي إذا جلس بيديه، ويتكيء على يساره: ويستلقي واضعا إحدى رجليه على الأخرى، ويكثر الصمت، ويعيد الكلمة ثلاثا، وإذا سلّم سلّم ثلاثا، ويسمع الشّعر ويتمثل به ويكثر التبسم: ويحب الفأل ولا يتطير، ويغير الاسم القبيح، ويقبل الهدية ويثبت عليها، ويكثر مشاورة أصحابه، ويحسر عن رأسه حتى يصيبه المطر، ويحتاط في نفي التهمة عنه، ويعرف من وجهه رضاه وغضبه، ويخالط الناس ويحذرهم ويحترس منهم، ويتفقد أصحابه،
ويقول في حلفه إذا حلف: لا ومقلب القلوب،
ويقول: لا والّذي نفسي بيده،
ويقول: لا، وأستغفر اللَّه،
وإذا أراد أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، اشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فأما جعله يمناه لطهوره ويسراه لدفع الأذى
فخرّج ابن حبان من حديث عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عرونة: عن أبي معشر عن إبراهيم: عن الأسود عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كانت يده اليمني لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما به من أذى.
وأما محبته التيمن في أفعاله
فخرّج مسلم من حديث أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أن كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليحب التيمين في طهوره إذا تطهر، وفي ترجّله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل.
__________
[ (1) ] في (النهاية) «إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأبرئن صدره» .(2/257)
وخرّج البخاري ومسلم من حديث الأشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره، وترجّله، وتنعله. لم يقل مسلم: ما استطاع، وقال في نعله وترجله وطهوره.
ذكره البخاري في كتاب الصلاة: في باب التيمن في دخول المسجد وغيره، وذكره في كتاب الطهارة في باب التيمن في الوضوء والغسل، وفي كتاب الأطعمة في باب التيمن في الأكل وغيره، وفي كتاب اللباس.
وذكر عمر بن شبة من حديث أشعث بسنده هذا: ولفظه عن عائشة قالت:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أخذ شيئا أخذه بيمينه، وإذا أعطى شيئا أعطى بيمينه:
ويبدأ بميامنه في كل شيء.
وأما فعله عند العطاس
فخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث يحيى بن سعيد وأبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان، عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ عطس أمسك على وجهه وغضّ صوته. وقال يحى: خمّر وجهه. وخرّجه الترمذي من حديث يحيى بسنده وقال: كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه، وغض به صوته، وقال- أي الترمذي-: هذا حديث حسن صحيح.
وخرّجه أبو داود بهذا الإسناد وقال: وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض أو غض بها صوته (شك يحيى) .
وخرّجه قاسم من حديث إدريس بن يحيى الخولانيّ قال: أخبرني عبد اللَّه ابن عباس عن ابن هرمز عن أبي هريرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا عطس أحدكم فليضع كفّه على وجه ويخفض صوته.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر ذي الجناحين يقول: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا عطس حمد اللَّه فيقال له: يرحمك اللَّه، فيقول: يهديكم اللَّه ويصلح بالكم.
وأما جلسته واحتباؤه واتكاؤه واستلقاؤه
فخرّج أبو داود من حديث حجاج بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزياد(2/258)
عن عمر بن عبد العزيز بن وهيب: سمعت خارجة بن زيد يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أوقر الناس في مجلسه: لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه.
وخرّج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن حسان عن جدته عن قيلة بنت مخرمة أنها رأت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق. وسيرد في فصل كتب رسول اللَّه بطوله.
وله من حديث دبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن جده أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس في المجلس احتبى بيديه.
وله من حديث إسرائيل عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متكئا على وسادة على يساره.
ولمالك عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول اللَّه مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى، قال أبو عمر بن عبد البر: قدح فيه عبد العزيز بن أبي سلمة: فرواه عن ابن شهاب عن محمود بن لبيد عن عباد بن تميم عن عمه قال: ولا وجه لذكر محمود بن لبيد في هذا الإسناد، وهو من الوهم البين عند أهل العلم. قال فأظن- أن السبب الواجب لإدخال مالك هذا الحديث في موطنه ما بأيدي العلماء من النهي عن هذا المعنى، وذلك أن الليث بن سعد وابن جريج وحماد بن سلمة: رووا عن أبي الزبير عن جابر: قال: نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره.
وروي محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن جابر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى ويستلقي، قاله لنرى واللَّه أعلم أن مالكا بلغه هذا الحديث، وكان عنده عن ابن شهاب حديث عباد بن تميم هذا فحدّث به على وجه الدفع لذلك، ثم أردف هذا الحديث في موطنه بما رواه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر وعمر رضي اللَّه عنهما كان يفعلان ذلك، فكأنه ذهب إلى أن نهيه عن ذلك منسوخ بفعله، واستدلّ على نسخه بفعل الخليفتين بعده، وذكر من حديث ابن شهاب عن عباد بن تميم أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يفعلان ذلك. ومن حديث ابن شهاب قال: حدثني عمر(2/259)
ابن عبد العزيز أن محمد بن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد بن حارثة في مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يفعل ذلك، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي عن نافع أنه رأى ابن عمر رضي اللَّه عنه يفعل ذلك.
وأما صمته وإعادته الكلام والسلام ثلاثا وهديه في الكلام وفصاحته
فخرّج أبو بكر محمد بن عبد اللَّه من حديث قيس بن الربيع عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال نعم، كان كثير الصمت.
وخرّجه الإمام أحمد من حديث فريك عن سماك، فذكر به نحوه إلا أنه قال:
وكان طويل الصمت.
وخرّج البخاري من حديث عبد اللَّه بن المثنى، حدثا ثمامة بن عبد اللَّه عن أنس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ذكره في باب التسليم والاستئذان ثلاثا وفي كتاب العلم ولفظه فيه: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا أتي على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا. ذكره في باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها، وقال ابن عمرة: هل بلّغت ثلاثا.
وخرّج أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن يعقوب عن عتبة عن عمر ابن عبد العزيز عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء.
وخرّج من حديث مسعد قال: سمعت شيخا في المسجد يقول: سمعت جابر ابن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول: كان في كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترتيل وترسيل.
وخرّج من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلا يفهمه كل من سمعه، وفي رواية: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يسرد سردكم هذا، كان يتكلم بكلام ينشئه فصلا يحفظه من يسمعه. وفي رواية كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث حديثا لو عدّه العاد لأحصاه.(2/260)
وفي حديث هند بن أبي هالة: كان لا يتكلم في غير حاجة، طويل السّكت، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم فضلا لا فضول فيه ولا تقصير.
وفي حديث أم معبد: وكان إذا صمت فعليه الوقار، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق لا نذر ولا هذر.
وخرّج أبو محمد الدارميّ من حديث موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا تكلم يرى كالنور بين ثناياه [ (1) ] .
وقال السهيليّ: فقد روي أنه كان يسطع على الجدار نور من ثغره إذا تبسّم، أو قال: تكلم.
وفي حديث هند أيضا: كان إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلّبها، وإذا تحدّث أفضل بها، يضرب براحته اليمني باطن إبهامه اليسرى.
وقال علي بن الحسين بن واقد: حدثنا أبي عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه قال: يا رسول اللَّه! ما بالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاء بها جبريل فحفظتها.
وقال عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن جده قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم جالسا مع أصحابه، إذ نشأت سحابة، فقالوا: يا رسول اللَّه! هذه سحابة. فقال: كيف ترون قواعدها؟
قالوا: ما أحسنها وأشدّ تمكنها!! فقال: كيف ترون رحاها؟ قالوا: ما أحسنها وأشدّ استدارتها! قال: وكيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشدّ استقامتها!! فقال: كيف ترون برقها؟ أو ميضا؟ أم خفيا؟ أم يشق شقا؟ قالوا: بل يشق شقا، قال: فكيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشدّ سواده!! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم الحيا. فقالوا: يا رسول اللَّه ما رأينا الّذي هو أفصح منك، قال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربيّ مبين،
قواعدها: أسافلها، واحدها قاعدة، ورحاها: وسطها، وعظمها وبواسقها: ما علا وارتفع منها، واحدتها باسقة، والوميض: اللمع الخفي، والخفي: البرق الضعيف، وجونها: أسودها، والحيا (مقصورا) ، الغيث والخصب، وجمعه أحياء.
__________
[ (1) ] (سنن الدارميّ) ج 1 ص 30 باب في حسن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/261)
وقال شبابة بن سوار: حدثنا الحسام بن مصك عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أفصح الناس: كان يتكلم بكلام لا يدرون ما هو حتى يخبرهم.
وعن علي رضي اللَّه عنه: ما سمعت كلمة غريبة [ (1) ] من العرب إلا وقد سمعتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسمعته يقول: «مات حتف أنفه» [ (2) ] ، وما سمعتها من عربي قبله.
وقال ابن الجوزي: وكل كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حكم وفصاحة، ومن ظرائفه:
إياكم وخضراء الدّمن [ (3) ] ،
وقوله: إن مما ينبت الربيع لم يقتل [ (4) ] حبطا أو يلم،
ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين [ (5) ] ،
والناس كأسنان المشط [ (6) ] ،
والمرء كثير بأخيه [ (7) ] ،
وقوله للأنصار: إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع،
وقوله: خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة [ (8) ] ،
وقوله [خير المال عين ساهرة لعين نائمة] [ (9) ] ،
ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه [ (10) ] ،
وحبك للشيء يعمي
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (صفة الصفوة) ج 1 ص 202 «عربية» .
[ (2) ] هذا بعض حديث صحيح
رواه عبد اللَّه بن عتيك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الّذي يخرج مجاهدا في سبيل اللَّه إن لسعته دابة أو أصابه شيء فهو شهيد، ومن مات حتف أنفه فقد وقع أجره على اللَّه، ومن قتل فقد استوجب المآب.
[ (3) ] حديث
«إياكم وخضراء الدمن» أخرجه (الدارقطنيّ) في (الأفراد) ، و (ابن عدي) في (الكامل)
وقال (السخاوي) في (المقاصد الحسنة) : هذا الحديث لا يصح من وجه.
[ (4) ] في (خ) «يقب» وما أثبتناه من (صفوة) ج 1 ص 203.
والمعني: أن الماشية يروقها كبت الربيع فتأكل فوق حاجتها فتهلك، والحبط: أن ترم بطونها وتنتفخ، فزجر بهذا الكلام عن فضول الدنيا تقول حبطت الدابة حبطا: إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ وتموت، وقوله: «يلم» أي يقرب من القتل.
[ (5) ] حديث
«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والإمام أحمد في المسند، كلهم عن أبي هريرة.
[ (6) ] حديث
«الناس كأسنان المشط» أخرجه ابن لال (في مكارم الأخلاق) عن سهل بن سعد.
[ (7) ] حديث
«المرء كثير بأخيه» أخرجه ابن أبي الدنيا في (الإخوان) عن سهل بن سعد.
[ (8) ] السكة: الطريق المصطفة من النخل، والمأبورة: الملقحة، أراد: خير المال نتاج أو زرع.
[ (9) ] هذا الحديث لم أجد له تخريجا في كتب السنن.
[ (10) ]
قوله: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» جزء من حديث طويل أوله: «من نفّس عن مؤمن كربة ... » ، أخرجه مسلم عن أبي هريرة.(2/262)
ويصم [ (1) ] ،
كل الصيد في جوف الفرا،
القناعة مال لا ينفذ [ (2) ] ،
ومثل هذا كثير [ (3) ] .
وأما تكلمه بالفارسية
فخرّج ابن حبان من حديث أبي عاصم النبيل عن حنظلة بن أبي سفيان عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لأصحابه: قوموا فقد صنع لكم جابر سورا، قال ثعلب: إنما يراد من هذا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تكلم بالفارسية،
قوله: صنع سورا: أي طعاما دعا إليه الناس [ (4) ] .
وخرّج أيضا من حديث الصلت بن الحجاج عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة قال: مرّ بي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا أشتكي بطني فقال: يا أبا هريرة، عليك بالصلاة فإنه شفاء من كل سقم،
قال ابن الجوزي: هذا الحديث لا يثبت عند علماء النقل، وقد رويناه من أربعة طرق عن أبي هريرة، ومدارها على داود ابن علية، قال يحيى:
لا يكتب حديثه، وقال مرة: ليس بشيء، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا أصل له، وهذه الطريق التي يرويها ابن حبان عن الصلت لا تصح. قال أبو أحمد بن عدي الحافظ: حديث الصلت منكر، قال ابن الجوزي: ولعله أخذه من داود بن علية، ثم مدار الكل على ليث وقد ضعّفوه، قال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، وكان ثعلب الأسانيد، ويأتي عن الثقات بما ليس في حديثهم.
وقال علماء النقل: أبو هريرة لم يكن فارسيا، إنما مجاهد فارسي، والّذي قال هذا أبو هريرة خاطب به مجاهدا، ومن رفعه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقد وهم. وقد روي هذا الحديث إبراهيم بن البراء من طريق أبي الدرداء، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له ذلك، وإبراهيم يحدّث بالأباطيل، قال ابن حبان: يحدث عن الثقات بالأشياء الموضوعات.
__________
[ (1) ] حديث «حبك للشيء يعمى ويصم» أخرجه البخاري في التاريخ وأحمد أبو داود عن أبي الدرداء.
[ (2) ] في (خ) «النداء» وما أثبتناه من (صفة الصفوة) ج 1 ص 206، والحديث أخرجه الرامهرمزيّ في (الأمثال) عن نصر بن عاصم الليثي بسند جيد ولكنه مرسل، وأخرجه أيضا العسكري.
[ (3) ] حديث «القناعة مال لا ينفد» أخرجه القضاعي عن أنس.
[ (4) ] راجع: (صفة الصفوة لابن الجوري) ج 1 ص 203 إلى ص 218.(2/263)
وأما سماعه الشعر واستنشاؤه وتمثله به
فقال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحاصر أهل الطائف لكعب بن مالك وهو إلى جنبه: هيه، لينشده فأنشده قصيدة.
وخرّج مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد من حديث سفيان ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت [ (1) ] .
وخرّجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي، والمعتمر بن سليمان، كلاهما عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: - استنشدني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمثل حديث إبراهيم بن ميسرة، وزاد قال: إن كان كاد ليسلم.
وفي حديث ابن مهدي قال: فلقد كاد يسلم في شعره. ذكره في كتاب الأدب. وقال البغوي: أخبرنا داود بن رشيد، حدثنا يعلي بن الأشدق قال: سمعت النابغة يقول: أنشدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [حتى] بلغنا:
السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا
فقال ابن المطهر: يا أبا ليلى! قلت الجنة؟ قال أجل إن شاء اللَّه: ثم قلت:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه إن تكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أجدت: لا يفضض اللَّه فاك (مرتين) .
وقال أبو عبد اللَّه إبراهيم بن محمد بن عرفة: حدثنا أحمد بن يحيى عن محمد
__________
[ (1) ]
وذكره الترمذي في (الشمائل المحمدية) ص 126 حديث رقم 248 ولفظه: «كنت: ردف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأنشدته مائة قافية من قول أمية بن أبي الصلت: كما أنشدته بيتا قال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هيه، حتى أنشدته مائة يعني بيتا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أن كاد ليسلم» ، ونحوه في (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1236 حديث رقم 3758.(2/264)
ابن سلام، أخبرنا محمد بن سليمان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد ابن المسيب قال: قدم كعب بن زهير متنكرا حين بلغه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوعده، فأتى أبا بكر رضي اللَّه عنه، فلما صلّى الصبح أتاه به وهو متلثم بعمامته، فقال:
يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، رجل يبايعك على الإسلام، فبسط يده فحسر عن وجهه فقال:
بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، هذا مقام العائذ بك من النار، أنا كعب بن زهير، فتجهمته الأنصار وغلظت له لما كان من ذكره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلانت له قريش وأحبوا إسلامه، فأمّنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنشده مدحته التي يقول فيها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
فكساه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بردة اشتراها معاوية بن أبي سفيان من الكعب بن زهير بعده بمال كثير، فهي البردة التي يلبسها الخلفاء في العيدين [ (1) ] .
وقال عمرو بن شيبة: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثني مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي، حدثني سهل بن المغيرة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل رسول اللَّه وأنا [أنشد] [ (2) ] هذين البيتين:
ارفع ضعيفك لا يحربك ضعف ... يوما فتدركه عواقب ما جني [ (3) ]
يجزيك أو يثنى عليك، وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى [ (4) ]
__________
[ (1) ] وأثنى فيها على المهاجرين، ولم يذكر الأنصار، فكلمته الأنصار، فصنع فيهم حينئذ شعرا، ولا أعلم له في صحبته وروايته غير هذا الخبر، وفي هذه القصيدة يقول:
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف اللَّه مسلول
أنبئت أن رسول اللَّه أوعدني ... والعفو عند رسول اللَّه مأمول
ومما يستجاد لكعب بن زهير قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهمّ منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
راجع (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البر ج 9 ص 227، ترجمة 2191، و (الشعر والشعراء لابن قتيبة) ج 1 ص 158 وما بعدها.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] لا يحر: لا نرجع إلى النفس، وأصل الحور الرجوع إلى النفس.
[ (4) ] هذان البيتان غير واضحين في (خ) ، وما أثبتناهما من (الشعر والشعراء لابن قتيبة) ج 1 ص 388 عند ترجمة زهير ابن جناب.(2/265)
فقال: ردي علي قول اليهودي قاتله اللَّه، لقد أتاني جبريل برسالة من ربي:
أيّما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء والدعاء فقد كافأه [ (1) ] :
قيل هما لغريض اليهودي، وهو السموأل بن عادية، وقيل لزيد بن عمرو بن نفيل، وقيل لورقة بن نوفل، وقيل لزهير بن جناب: وقيل عامر الحرمي، والصحيح أنهما لغريض أو لابنه.
قال ابن الجوزي: وقد أنشده جماعة منهم العباس، وعبد اللَّه بن رواحة، وحسان وضرار، وأنس بن زنيم، وعائشة في خلق كثير، قد ذكرتهم في كتاب أحكام الانتشاء.
وخرّج الترمذي من حديث شريك، عن المقدام بن شريح عن أبيه عائشة رضي اللَّه عنها، قال: قيل لها: هل كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت:
كان يتمثل بشعر ابن رواحة [ (2) ] ، ويتمثل ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد [ (3) ]
قال هذا حديث حسن صحيح [ (4) ] .
وخرّجه أبو بكر بن أبي شيبة من حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتمثل من الأشعار:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وخرّجه النسائي من حديث هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن عائشة قالت:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا استراث الخبر تمثل بقافية طرفة:
__________
[ (1) ]
وفي مسند الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: سمعت أبا عبد العزيز موسى بن عبيدة الرّبذي يحدث عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا قال الرجل لأخيه: جزاك اللَّه خيرا فقد أبلغ في الثناء. (مسند الحميدي) ج 2 ص 490 حديث رقم 1160.
[ (2) ] هو عبد اللَّه بن رواحة الأنصاري الخزرجي أحد النقباء شهد العقبة وبدرا، وأحد والخندق والمشاهد بعدها، إلا الفتح وما بعده فإنه قتل يوم مؤتة شهيدا أميرا.
[ (3) ] بضم التاء وكسر الواو المشدّدة، وهو من التزويد، وهو إعطاء الزاد، وأول البيت.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
[ (4) ] (الشمائل المحمدية) ص 122 حديث رقم 241.(2/266)
ويأتيك بالأخبار من لم تزود [ (1) ]
وخرّجه الإمام أحمد بهذا السند ولفظه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة، فذكره.
وخرّجه البخاري في الأدب المفرد من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك:
عن عكرمة قال: سألت عائشة رضي اللَّه عنها: هل سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتمثل شعرا قط؟ فقالت: كان أحيانا إذا دخل بيته يقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وخرّج عبد الرزّاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فنزل رجل من المهاجرين فزجر بهم فقال:
لم يغذها مدّ ولا يضيف ... ولا تميرات ولا تعجيف
لكن غذاها اللبن الخريف ... المحصي القارص والصريف
فقالت الأنصار: انزل يا كعب: فإنما يعرض بنا، فنزل كعب بن مالك فقال:
لم يغذها مدّ ولا نصيف ... ولا تميرات ولا تعجيف
لكن غذاها الحنظل النقيف ... ومذقة كططرة الخيف
تنبت بين الزرب والكنيف
قال: فخاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يكون بينهما شيء، فأمرهما فركبا.
وخرّجه عن معمر قال: حدثني أبو حمزة الثمالي بنحو حديث هشام وزاد فيه:
أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عطف ناقته وأمرهما فركبا.
وخرّجه البخاري ومسلم من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أصدق بيت قاله الشاعر، قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل [ (2) ]
__________
[ (1) ] وهذا البيت من شعر طرفه أيضا في قصيدته المعلقة.
[ (2) ] هذا البيت هو أول ما ذكره (ابن قتيبة) في (الشعر والشعراء) ج 1 ص 285 فيما يستجاد من شعر لبيد:(2/267)
ذكره البخاري في كتاب الرقاق.
وخرّجا من حديث سفيان عن عبد الملك بن عمير قال: حدثنا أبو سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل
وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم. وقال البخاري: الشاعر. ذكره في كتاب الأدب، وفي أيام الجاهلية، وفي لفظ لمسلم والترمذي قال: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد، فذكره. وفي لفظ لمسلم: إن أصدق بيت قاله الشاعر، فذكره. وكان أمية بن أبي الصلت أن يسلم. وفي آخر: إن أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد.
وخرّج البخاري ومسلم من حديث قتيبة: حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخندق وهم يرتجزون ونحن ننقل التراب على أكبادنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللَّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
وخرّجه مسلم مثله سواء. ذكره البخاري في غزوة الخندق، وفي كتاب المناقب، وذكره في كتاب الرقاق ولفظه فيه:
اللَّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
وذكره في غزوة الخندق في كتاب الجهاد، وفي عدة مواضع. وذكره مسلم من عدة طرق.
__________
[ () ]
ألا كل شيء ما خلال اللَّه، باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
إذا المرء أسرى ليلة ظنّ أنه ... قضى عملا، والمرء ما عاش آمل
حبائله مبثوثة بسهيلة ... ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل
إلى أن قال:
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل
وهذا البيت الأخير يدلّ على أنه قيل في الإسلام، وهو شبيه بقول اللَّه تبارك وتعالى وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ الآية 10 من سورة العاديات، أو كان لبيد قبل إسلامه يؤمن بالبعث والحساب. مثل غيره من شعراء الجاهلية.(2/268)
وخرّجا من حديث شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، ولقد رأيته وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
واللَّه لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... إن الأولى قد بغوا علينا
قال: وربما قال:
إن الملا أبوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع بها صوته
وقال البخاري: ولولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، إن الأولى، وربما: إن الملأ قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا. يرفع بها صوته وكرره في عدة مواضع [ (1) ] .
وخرجا من حديث شعبة عن أبي إسحاق قيل للبراء: أولّيتم مع النبي يوم حنين؟ فقال: أمّا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا، كانوا رماة، فقال:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب [ (2) ]
وكرراه.
وخرّجا أيضا من حديث شعبة عن الأسود بن قيس عن جندب بن أبي سفيان البجلي قال: أصاب حجر إصبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدميت فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل اللَّه ما لاقيت؟
وخرّجه الترمذي أيضا.
وأمّا تبسّمه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقد قالت عائشة رضي اللَّه عنها: ما رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسّم.
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري) ج 4 ص 250.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) حديث رقم 78 باب 27 كتاب 32.(2/269)
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة عن عبد اللَّه بن المغيرة قال: سمعت عبد اللَّه بن الحارث بن جزء يقول: ما رأيت أحدا كان أكثر تبسما من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وخرّج ابن حبان من حديث عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن صهيب قال: ضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه.
وخرّج من حديث بقية عن حبيب بن عمر الأنصاري عن شيخ يكنى أبا عبد اللَّه الصمد قال: سمعت أم الدرداء تقول: كان أبو الدرداء إذا حدّث حديثا تبسم، فقلت: لا يقال أنك أي أحمق، فقال: ما رأيت أو سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث حديثا إلا تبسم.
وفي رواية كان أبو الدرداء لا يحدث بحديث إلا تبسم، فقلت له: إني أخشى أن يحمقك الناس، فقال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحدث بحديث لا تبسم.
ومن حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: ضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت أنيابه. وكذا
من حديث وهب بن جرير، أخبرنا أبي قالت سمعت ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أقبل أعرابي على ناقة له حتى أناخ بباب المسجد، فدخل على نبي اللَّه- وحمزة بن عبد المطلب جالس في نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم النعيمان- فقالوا للنعيمان: ويحك! إنّ ناقته نادية- أي سمينة- فلو نحرتها فانا قد قدمنا إلى اللحم، ولو فعلت عزمها رسول اللَّه وأكلنا لحمها، فقال: إني إن فعلت ذلك وأخبرتموه وجد عليّ قالوا: إلا تفعل، فقام فضرب في لبته ثم انطلق، فمرّ المقداد قد حفر حفرة استخرج منها طينا فقال:
يا مقداد، غيبني في هذه الحفرة وأطبق عليّ شيئا ولا تدل عليّ أحدا، فإنّي قد أحدثت حدثا، ففعل، فلما خرج الأعرابي ورأى ناقته صرخ! فخرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: من فعل هذا؟ قالوا: نعيمان، قال: فأين توجه؟ قالوا: هاهنا، فتبعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه حمزة وأصحابه حتى أتى على المقداد فقال له: هل رأيت نعيمان؟ فصمت، فقال: لتخبرني أين هو؟ فقال: ما لي به علم، وأشار بيده إلى مكانه، فكشف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الحفرة، فلما رآه قال: أي عدوّ نفسه، ما حملك على ما صنعت؟ قال: والّذي بعثك بالحق لأمرني حمزة وأصحابه، فأرضى(2/270)
عليه السلام الأعرابيّ وقال: شأنكم بها، فأكلوها، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذكر صنعه ضحك حتى تبدو نواجذه.
وقال زائدة عن أبان عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد اللَّه قال: ما حجبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك [ (1) ] .
وفي الصحيح أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حكى عن رجل أخرج من النار فقيل له:
تمنّ، فتمنى، فيقال له: ما تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول أتسخر بي وأنت الملك؟
فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه [ (2) ] .
ولابن حبان من حديث الليث عن جرير بن حازم عن الحسن بن عمارة عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمن قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن، أتاني ثلاثة نفر يختصمون في غلام ابن امرأة وقعوا عليها جميعا في طهر واحد!! كلهم يدعى أنه ابنه، فأقرعت بينهم، فألحقته بالذي أصابته القرعة، ولصاحبيه مثلي دية الحد، فلما قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكرت له ذلك فضحك حتى ضرب برجليه الأرض ثم قال: حكمت فيهم بحكم
__________
[ (1) ] رواه (البخاري) ج 4 ص 64 ولفظه: «ما حجبني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي ... » .
[ (2) ]
(مسند أحمد) ج 1 ص 379، ولفظه: «قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، قال: فيذهب يدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل، قال: فيرجع فيقول: قد أخذ الناس المنازل، قال: فيقال له: أتذكر الزمان الّذي كنت فيه؟ قال: فيقول: نعم، فيقال له: تمنه، فيتمنى، فيقال: إن لك الّذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا، قال: فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه» .
ورواه (مسلم) بلفظ آخر وزاد فيه «قال: فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة» (مسلم بشرح النووي) ج 2 ص 40،
وأما معنى «أتسخر بي» هنا ففيه أقوال أشهرها ما قاله القاضي عياض:
أن يكون هذا الكلام صدر من هذا الرجل وهو غير ضابط لما قاله لما ناله من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشا وفرحا، فقال وهو لا يعتقد حقيقة معناه، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوقين، وهذا كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الرجل الآخر: أنه لم يضبط نفسه من الفرح فقال: أنت عبدي وأنا ربك،
واللَّه أعلم.
والمراد بالنواجذ هنا الأنياب، وقيل المراد بها الضواحك، وقيل المراد بها الأضراس، وهذا هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة، ولكن الصواب عند الجمهور ما قدمناه، وفي هذا جواز الضحك وأنه ليس بمكروه في بعض المواطن ولا بمسقط للمروءة إذا لم يجاوز به الحد المعتاد من أمثاله في مثل تلك الحال، واللَّه أعلم.(2/271)
اللَّه، أو قال: لقد رضي اللَّه حكمك فيهم [ (1) ] .
قال ابن الجوزي: وهذا الحديث لا يثبت، فيه جماعة مجروحون ولا يصح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه كان يزيد عن التبسم.
وخرّج الإمام أحمد وأبو يعلي والبراء والطبراني في الكبير من حديث هشام عن أبي الزبير عن عبد اللَّه بن سلمة عن علي أو عن الزبير قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخطبنا فيذكرنا بأيام اللَّه حتى يعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير قوم يصبّحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع.
وأما محبته الفأل وتركه الطيرة وتغييره الاسم القبيح
فخرج مسلم من حديث يحيى بن عتيق قال: أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا عدوى ولا طيرة وأحب الفأل الصالح.
ومن حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا عدوي ولا هامة، ولا طيرة وأحب الفأل الصالح.
وخرّجا من حديث معمر وشعيب عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أن أبا هريرة قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا طيرة وخيرها الفأل، قيل يا رسول اللَّه وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم.
وخرّج البخاري وأبو داود من حديث هشام: أخبرنا قتادة عن أنس عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا عدوي ولا طيرة، ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة.
وخرّج أبو داود من حديث هشام عن قتادة عن عبيد اللَّه بن مريدة عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه، فإذا
__________
[ (1) ]
(مسند الحميدي) ج 2 ص 345 من حديث زيد بن أرقم حديث رقم 785 وقال فيه: «فلما قدمنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكرنا ذلك فقال له: ما أعلم فيها إلا ما قال علي» ، (مسند أحمد) ج 4 ص 374 من حديث زيد بن أرقم بنحوه، (سنن النّسائي) ج 6 ص 182 باب القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه،
وقال: «فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فضحك حتى بدت نواجذه» ، ولم يذكر أحد من أهل العلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يزيد عن التبسم.(2/272)
أعجبه اسمه فرح به رئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإذا أعجبه اسمها رئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهية ذلك في وجهه.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد: أن رسول اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للقحة تحلب: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اسمك؟
فقال الرجل: مرّة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟
فقام رجل فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اسمك؟ فقال: حرب، فقال له: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اسمك؟ فقال:
يعيش، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: احلب. هكذا رواه مالك موقوفا على يحيى [ (1) ] .
وخرّج قاسم بن أصبغ من حديث الحسين بن واقد عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يتطير ولكن يتفأل، فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم، فلقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له رسول اللَّه: من أنت؟ قال: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه فقال: برد أمرنا وصلح، ثم قال ممن؟ قال: من أسلم، فقال لأبي بكر سلمنا، ثم قال: ممن؟ قال: من سهم، قال: خرج سهمك. فقال بريدة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: فمن أنت؟ قال: محمد ابن عبد اللَّه رسول اللَّه،
قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم الذين معه جميعا، فقال بريدة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تدخل المدينة إلا معك لواء، فحلّ عمامته ثم شدّها في رمح ثم مشي بين يديه حتى دخل المدينة. قال بريدة: الحمد للَّه الّذي أسلمت [له] [ (2) ] بنو سهم طائعين.
وخرّج الترمذي من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن أنس: أن نبي اللَّه
__________
[ (1) ] (موطأ مالك) ص 690 باب ما يكره من الأسماء، حديث رقم 1776.
قال ابن عبد البر: ليس هذا من باب الطيرة لأنه محال أن ينهي عن شيء ويفعله، وإنما هو من باب طلب الفأل الحسن، وقد كان أخبرهم عن شرّ الأسماء أنه حرب ومرّة، فأكد ذلك حتى لا يتسمى بهما أحد. (تنوير الحوالك شرح موطأ مالك) ج 2 ص 245. وفي (خ) «القحة تجلب من تحلب» وما أثبتناه من (الموطأ) .
[ (2) ] زيادة للسياق.(2/273)
صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا راشد.. يا نجيح. قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن غريب صحيح.
وخرّج البزار من حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا أبردتم إليّ بريدا فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم، ذكره أنه لا يعلم رواه عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه إلا قتادة.
وقال هشام الدستواني عن يحيى بن كثير قال: كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أمراء الأجناد ألا توفدوا إلينا إلا برجل حسن الوجه حسن الاسم.
وخرّج ابن حبان من حديث مبارك بن فضالة عن عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمع كلمة فأعجبته فقال: أخذنا فألك من فيك.
وخرّج الترمذي من حديث عمر بن علي المقدمي عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يغير الاسم القبيح، وربما قال عمر ابن علي في هذا الحديث هشام بن عروة عن أبيه، ولم يذكر فيه عائشة.
وخرّج مسلم والترمذي من حديث يحيى عن سعيد عن عبيد اللَّه قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غيّر اسم عاصية وقال: أنت جميلة [ (1) ] .
ولمسلم من حديث سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن كريب عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كانت جويرة اسمها برّة، فحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اسمها جويرة، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة [ (1) ] .
وللبخاريّ ومسلم من حديث شعبة عن عطاء بن ميمونة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن زينب ان اسمها برة، فقيل تزكي [ (2) ] نفسها، فسماها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) ج 14 ص 119، 120. باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرة ونحوهما.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) وما أثبتناه من المرجع السابق.(2/274)
ولمسلم من حديث الوليد بن كثير قال: حدثني محمد بن عمر عن عطاء قال:
حدثتني زينب ابنة أم سلمة قالت: كان اسمي برة، فسمّاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب، قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش واسمها برة فسماها زينب.
ومن حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمر بن عطاء قال:
سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب ابنة أبي سلمة: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهي عن هذا الاسم، وسميت برّة فقال رسول اللَّه: لا تزكوا أنفسكم، اللَّه أعلم بأهل البرّ منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب [ (1) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبيد اللَّه بن عمر عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما ولد الحسن سماه حمزة، فلما ولد الحسين سماه بعمه جعفر، قال: فدعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني أمرت أن أغير اسم هذين، قلت: اللَّه ورسوله أعلم، فسماهما حسنا وحسينا.
وخرّج قاسم بن أصبغ وأحمد بن حنبل من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما ولد الحسن جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: سميته حربا، قال بل هو حسين، فلما ولد الثالث جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أروني ابن، ما سميتموه؟ قلت: حربا، قال هو محسن [ (2) ] .
وخرج الإمام أحمد حديث سفيان عن أبي إسحاق عن رجل من جهينة قال: سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا يقول يا حرام، فقال: يا حلال.
ومن حديث يحيى بن أبي بكير، حدثنا عبيد اللَّه بن إياد [ (3) ] بن لقيطة [السدوسي] [ (4) ] عن أبيه عن ليلى امرأة بشير بن الخضامية عن بشير قال- وكان
__________
[ (1) ] المرجع السابق.
[ (2) ] ثم زاد أسد،
ثم قال: إني سمّيتهم بأسماء ولد هارون: شبّر وشبّير ومشبّر. (الاستيعاب لابن عبد البر) ج 3 ص 100.
[ (3) ] في (خ) «أبان» .
[ (4) ] ما بين القوسين غير واضح في (خ) ، وما أثبتناه من (الجرح والتعديل) ج 2 ص قسم 2 ص 307 ترجمة رقم 1462 وهو ثقة كما قال عنه يحيى بن معين.(2/275)
قد أي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واسمه زحم- فسماه النبي بشيرا [ (1) ] .
ومن حديث إسماعيل بن عياش عن بكر بن زرعة الخولانيّ عن مسلم بن عبد اللَّه الأزدي قال: جاء عبد اللَّه بن قرظ الأزدي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: ما اسمك؟
قال: شيطان بن قرظ، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنت عبد اللَّه بن قرظ.
ومن حديث شعبة عن عبد اللَّه بن أبي السفر [ (2) ] عن عامر الشعبي عن عبد بن مطيع ابن الأسود، حدثني عدي بن كعب عن أبيه مطيع- وكان اسمه العاصي- فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مطيعا. قال سمعت رسول اللَّه حين أمر بقتل هؤلاء الرهط بمكة يقول: لا تغزى مكة بعد هذا اليوم أبدا.
ولأبي داود [ (3) ] من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: بل أنت سهل، قال: لا، السهل يوطأ ويمتهن،
قال سعيد: فظننت أن ستصيبنا بعده حزونة. قال أبو داود:
وغير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اسمه العاص وعزيز وعتلة [ (4) ] وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما، وسمي حربا سلما [ (5) ] ، وسمي المضطجع المنبعث، وأرض
__________
[ (1) ] ونحوه في (سنن أبي داود) ج 3 ص 554 حديث رقم 3230 باب المشي في النعل بين القبور.
[ (2) ] في (خ) «اليفر» وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) ج 4 ص 340 عند ترجمة شعبة بن الحجاج رقم 580.
[ (3) ] وأخرجه (البخاري) في الأدب باب اسم الحزن وفيه [قال ابن المسيّب: فما زالت فينا الحزونة بعد] .
[ (4) ] العتلة: عمود حديد تهدم به الحيطان، وقيل: حديدة كبيرة يقلع بها الشجر والحجر.
[ (5) ] أما (العاص) : فإنما غيره كراهة لمعنى العصيان، وإنما سمة المؤمن: الطاعة والاستسلام.
و (عزيز) : إنما غيره لأن العزة للَّه سبحانه، وشعار العبد: الذلة والاستكانة، وقد قال سبحانه عند ما يقرّع بعض أعدائه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] .
و (عتلة) : معناها الشدة والغلظة، ومنه قولهم: رجل عتلّ: أي شديد غليظ. ومن صفة المؤمن:
اللين والسهولة.
و (شيطان) : اشتقاق من الشّطن: وهو البعد عن الخير، وهو اسم المارد الخبيث من الجن والإنس.
و (الحكم) : هو الحاكم الّذي إذا حكم لم يردّ حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير اللَّه سبحانه، ومن أسمائه الحكم.
و (غراب) : مأخوذ من الغرب، وهو البعد. ثم هو حيوان خبيث الفعل، خبيث الطعم، وقد أباح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله في الحل والحرم.
و (حباب) : نوع من الحيات، وقد روي أن الحباب اسم الشيطان.(2/276)
تسمى عفرة [ (1) ] سماها خضرة، وشعب الضلالة سماها شعب الهدى، وبني الزنية سماهم بني الرّشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة [ (2) ] . قال أبو داود: وتركنا أسانيدهما للاختصار.
وخرّج بقي [بن] مخلد من حديث عبدة بن هشام عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرّ بأرض تسمى مجدبة فسماها خضرة.
وخرّج البخاري من حديث الزهري عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال لا أغير اسما سمانيه أبي،
قال ابن المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعده. ترجم عليه باب اسم الحزن، وذكره أيضا في باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه.
[و] [ (3) ] من حديث ابن جريج، أخبرني عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده قدم على النبي فقال: ما اسمك؟
(الحديث بنحو منه) .
وللبخاريّ ومسلم من حديث أبي غسان حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين ولد فوضعه على فخذه وأبو أسيد جالس، فلهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيء بين يديه، فأتي أبو أسيد بابنه فاحتمل من فخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأقلبوه [ (4) ] ، ...
__________
[ () ] فقيل: إنه أراد به المارد الخبيث من شياطين الجن، وقيل-: أراد نوعا من الحيات يقال لها:
الشياطين. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] .
و (الشهاب) : الشعلة من النار، والنار عقوبة اللَّه سبحانه، وهي محرقة مهلكة.
[ (1) ] وأما (عفرة) : فهي نعت للأرض التي لا تنبت شيئا، أخذت من العفرة، وهي: لون الأرض القحلة فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتمرع.
وقوله: (عقرة) : المحفوظ عقرة بالقاف. كأنه كره اسم العقرة، لأن العاقر هي المرأة التي لا تحمل، وشجرة عاقر: لا تحمل.
[ (2) ] يقال: هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح، كما يقال في ضده: ولد زنية، بالكسر فيهما، وقيل بالفتح. (معالم السنن للخطابي) على هامش (سنن أبي داود) ج 5 ص 241 وما بعدها، تعليقا على الحديث رقم 4956.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] فأقبلوه: أي ردوه وصرفوه في جميع نسخ (صحيح مسلم) فأقبلوه بالألف وأنكره جمهور أهل اللغة والغريب وشراح الحديث وقالوا: صوابه قلبوه بحذف الألف. قالوا: قال: قلبت الصبي والشيء صرفته ورددته.(2/277)
فاستفاق النبي [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أين الصبي؟ فقال أبو أسيد: أقلبناه يا رسول اللَّه، قال ما اسمه؟ قال: فلان، قال: لا، ولكن اسمه المنذر، فسماه يومئذ المنذر.
وذكره البخاري [ (2) ] في باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه ولم يقل: فأقلبوه، وقال: ولكن اسمه المنذر، لم يذكر لا.
وخرّج أبو داود [ (3) ] من حديث بشير بن ميمون عن عمه عن أسامة ابن أخدريّ أن رجلا يقال له أصرم كان في النفر الذين أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما اسمك؟ قال [أنا] [ (4) ] أصرم، قال: بل أنت زرعة.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا يزيد بن المقدام بن شريح عن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده هانئ بن شريح أنه ذكر أنه أول ما وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قومه سمعهم وهو يكنون هاني أبا الحكم، فدعاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إنه اللَّه هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكن أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء فحكمت بينهم رضى كلا الفريقين، قال: ما أحسن هذا، قال: فما لك من الولد؟ قال:
شريح بن هاني وعبد اللَّه ومسلم قال أين أكبرهم؟ قال: شريح، قال: أنت أبو شريح، فدعاه له ولولده، وسمع القوم وهم يسمون رجلا منهم عبد الحجر فقال:
ما اسمك؟ فقال: عبد الحجر، فقال: بل أنت عبد اللَّه- وأنه لما حضر خروج القوم إلا بلادهم أعطى كل رجل منهم [] [ (5) ] في بلاده حيث أحب، إلا أن هانئ قال له: يا رسول اللَّه، أخبرني بشيء يوجب لي الجنة، قال: عليك بحسن الكلام وبذل الطعام. وذكره أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح إلى قوله-: فأنت أبو شريح، وبعده قال أبو داود: هذا هو الّذي كسر السلسلة وهو ممن دخل تستر.
وخرّجه النسائيّ [ (6) ] أيضا والبخاري في الأدب المفرد [ (7) ] .
__________
[ (1) ] أي انتبه من شغله وفكره الّذي كان فيه واللَّه أعلم (مسلم بشرح النووي) ج 14 ص 128.
[ (2) ] (صحيح البخاري) ج 4 ص 80.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 239 حديث رقم 4954.
[ (4) ] زيادة من نص (أبي داود) .
وإنما غير اسم (أصرم) لما فيه معنى الصّرم وهو القطيعة، يقال: صرمت الحبل: إذا قطعته، وصرمت النخلة، إذا جذذت ثمرها. (معالم السنن للخطابي) ج 5 ص 240.
[ (5) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) «ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (6) ] (سنن النسائي) ج 8 ص 326 باب إذا حكّموا رجلا فقضى بينهم.
[ (7) ] (فضل اللَّه الصمد) ج 2 ص 283 حديث رقم 811.(2/278)
وأما قبوله الهدية ومثوبته عليها
فخرج أبو بكر الشافعيّ من حديث علي بن خشرم قال: حدثنا عيسى ابن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقبل الهدية ويثيب عليها، وقالت عائشة رضي اللَّه عنها لعروة: ابن أختي! لتنظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: قلت: يا خالة! ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول اللَّه جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ألبانها فيسقينا. وفي رواية: كانت لم منائح، وكانوا يمنحون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ألبانهم فيسقينا.
وخرّج البخاري من حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدى إليّ ذراع لقبلت.
وأما مشاورته أصحابه
فقال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [ (1) ] .
وقد اختلف السلف في المعنى الّذي من أجله أمر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يشاورهم فيه، فقال بعضهم: أمره بمشاورة أصحابه في مكائد الحروب وعند لقاء العدو، وتطييبا منه بذلك لأنفسهم، وتألفا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان اللَّه تعالى قد أغناه بتدبيره له أموره، وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعيّ.
قال قتادة: أمر اللَّه تعالى نبيه أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا وأرادوا بذلك وجه اللَّه، عزم اللَّه لهم على رشده.
وقال الربيع: أمر اللَّه نبيه أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفسهم.
__________
[ (1) ] الآية 159/ آل عمران.(2/279)
وقال ابن إسحاق: وشاورهم في الأمر: أي لقولهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، وإن كنت عنهم غنيا، تألفهم بذلك على دينهم.
وقال الشافعيّ، وكقوله عليه السلام: والبكر تستأمر، تطييبا لقلبها لأنه واجب.
وقال آخرون: بل أمره اللَّه بمشورتهم في ذلك ليتبين له الرأى وأصوب الأمور في الأمور، لما علم اللَّه تعالى في المشورة من الفضل. وإلى هذا ذهب الضحاك ابن مزاحم والحسن.
قال الضحاك: ما أمر اللَّه نبيه بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل، وعن الحسن: ما شاور قوم قطّ إلا هدوا لأرشد أمورهم.
وقال آخرون: إنما أمره [ (1) ] اللَّه بمشاورة أصحابه مع استغنائه عنهم، ليتبعه المؤمنون وبعده فيما جدّ لهم من أمر دينهم، لأنهم إذا تشاوروا في أمر دينهم متبعين الحق في المشورة، لم يخلهم اللَّه من لطفه وتوفيقه إياهم للصواب من الرأي، ونظيره قوله تعالى فيما مدح به المؤمنين: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [ (2) ] .
قال سفيان بن عيينة في قوله: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ: قال: هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه أثر.
واختار أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: أن اللَّه تعالى أمر نبيه بمشاورة أصحابه فيما حزبه [ (3) ] من أمر عدوّه ومكائد حربه تألفا منه بذلك لمن لم يأمن عليه الفتنة، وتعريفا لأمته ليقتدوا به في ذلك عند النوازل، وأما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن اللَّه تعالى كان يعرف مطالب ما جدّ به من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه بالصواب، وأما أمته إذا تشاوروا مستنين بفعله فإنه تعالى يسددهم [ (4) ] .
وقد خرّج ابن حبان من حديث طلحة بن زيد عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من
__________
[ (1) ] في (خ) «أمر اللَّه» .
[ (2) ] الآية 38/ الشورى.
[ (3) ] في (خ) «جذّبه» وما أثبتناه من (الطبري) .
[ (4) ] (جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري) ج 3 ص 153.(2/280)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقد ذكرت فيما يأتي فصلا في ذكر من شاوره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورجعه إلى رأيه، فتأمّله ففيه ما لم أره مجموعا كما أوردته فيه واللَّه أعلم.
وأمّا ما يفعله عند نزول المطر
فخرج مسلم من حديث يحيى بن يحيى، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البنانيّ عن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مطر، قال: فحسر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثوبه حتى أصابه المطر، فقلنا: يا رسول اللَّه! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربّه [ (1) ] .
وخرّج ابن حبان من حديث أيوب بن مدرك عن مكحول عن معاوية بن قرة [ (2) ] قال: سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يكشفون رءوسهم في أول مطر يكون من السماء في العام ويقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه أحدث بربنا وأعظمه بركه.
وخرّج الحاكم من حديث أبي عامر العقدي حدثنا سليمان بن سفيان المديني، حدثني بلال [ (3) ] بن طلحة بن عبيد اللَّه عن أبيه عن جده أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا رأى الهلال قال: اللَّهمّ أهلّه علينا باليمن [ (4) ] والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك اللَّه [ (5) ] .
ومن حديث عفان: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا أبو مطر عن سالم عن ابن عمر قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سمع الرعد والصواعق قال: اللَّهمّ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) ج 6 ص 197.
[ (2) ] في (خ) «قشر» وصوبناها من (تهذيب التهذيب) ج 10 ص 216 ترجمة معاوية بن قرة رقم 399.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المستدرك) «بلال بن يحيى بن طلحة» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المستدرك) «بالأمن» .
[ (5) ] (المستدرك للحاكم) ج 4 ص 285.
[ (6) ] (المرجع السابق) ج 4 ص 286.(2/281)
وأمّا احتياطه في نفي التّهمة عنه
فخرّج البخاري ومسلم من حديث أبي سليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: عن [عليّ] [ (1) ] بن الحسين أن صفية زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبرته أنها جاءت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مرّ رجلان من الأنصار فسلما على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال لهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنها صفية [ (2) ] ، فقالا: سبحان اللَّه يا رسول اللَّه! وكبر عليهما، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا. ذكره البخاري في الاعتكاف، وترجم عليه باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟. وذكره مسلم في كتاب الأدب، وذكره البخاري في كتاب الخمس في باب: ما جاء في بيوت أزواج النبي [ (3) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث عبد الرحمن بن خالد عن شهاب بنحوه، وفيه: فسلّما على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم نفذا فقال: على رسلكما، قالا: سبحان اللَّه! الحديث. وذكره في كتاب الأدب في باب التكبير والتسبيح عند التعجب، من حديث أبي اليمان عن شعيب، ومن حديث محمد بن أبي عتيق كلاهما عن ابن شهاب، وذكره في الاعتكاف باختلاف ألفاظ.
وأمّا ما يفعله إذا ورد عليه ما يسرّه
فخرّج أبو داود [ (4) ] في سننه وفي كتاب الجهاد عن مخلد بن خالد، وخرّج أبو عيسى الترمذي [ (5) ] في السّير من جامعه عن محمد بن المثنى، وخرّج ابن ماجة [ (6) ] عن عبدة بن عبد اللَّه وأحمد بن يوسف، أربعتهم عن أبي عاصم الضحاك
__________
[ (1) ] زيادة من رواية البخاري ج 1 ص 346.
[ (2) ] في (البخاري) «صفية بنت حيي» .
[ (3) ] (صحيح البخاري) ج 2 ص 188.
وخرجه الإمام أحمد في (المسند) من حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي اللَّه عنها ج 6 ص 337، و (مسلم) ج 14 ص 155، 156.
[ (4) ] (سنن أبي داود) ج 3 ص 216 حديث رقم 2774.
[ (5) ] (الجامع الصحيح للترمذي) ج 3 ص 69 حديث رقم 1626.
[ (6) ] (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 446 حديث رقم 1394 وفيه قال: «حدثنا أبو عاصم عن بكار.(2/282)
ابن مخلد الشيبانيّ النبيل [ (1) ] عن أبي بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن بكرة رضي اللَّه عنه ان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أتاه أمر يسرّه أو بشّر به خرّ ساجدا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث بكار بن عبد العزيز، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا سجدة الشكر. انتهى.
وذكره أبو بكر البزار في مسندة قال: حدثنا عمرو بن عليّ، حدثنا أبو عاصم بهذا الإسناد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سرّ بأمر بشّر به فخرّ ساجدا.
وذكر يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن ابن إسحاق قال: لما جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم البشير يوم بدر بقتل أبي جهل، استحلفه ثلاثة أيمان باللَّه الّذي لا إله إلا هو لقد رأيته قتيلا فحلف له، فخرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ساجدا، أو قد جاء أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى لما بشّر بقتله [ركع] [ (2) ] ركعتين. وجاء من طريق ابن لهيعة:
حدثني موسى ابن وردان العامري عن أبي هريرة قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقعدا فخرّ ساجدا.
وأمّا ظهور الرضى والغضب في وجهه
فخرّج ابن حبان من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب عن عمه عن عبد اللَّه بن كعب عن كعب بن مالك قال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سرّه الأمر استنار وجهه كأنه دارة القمرة.
وله من حديث الليث عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسرورا تبرق أسارير وجهه.
وله من حديث جامع بن أبي راشد عن منذر الثوري عن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سرّه الأمر استنار وجهه.
وخرّج الحاكم من حديث أبي همام محمد بن حبيب، حدثنا سفيان الثوري، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (-) ] ابن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي بكرة عن أبيه ... » .
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) وأثبتناها من (تهذيب التهذيب) ج 12 ص 143.
[ (2) ] زيادة للسياق.(2/283)
إذا ذكر الساعة احمرّت وجنتاه واشتد غضبه وعلا صوته، كأنه منذر جيش صبحتكم مساتكم، قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرّج ابن حبان وله من حديث قتادة عن أبي السوار عن عمران بن حصين قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا كره شيئا عرف في وجهه.
وله من حديث عبد اللَّه بن إدريس عن محمد بن عمرو بن علقمة عن يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا اشتد وجده أكثر من مسّ لحيته.
وخرّج الحاكم من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول اللَّه، أتأذن لي فأكتب ما أسمع منك؟ قال: نعم، قلت: في الرضى والغضب؟ قال: نعم، فإنه لا ينبغي أن أقول عند الرضى والغضب إلا حقا.
قال الحاكم: صحيح الإسناد [ (1) ] .
وأما مخالطته الناس وحذره واحتراسه منهم وتفقده أصحابه
ففي حديث هند بن أبي هالة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحرز لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي على أحد بشره ولا خلقه، يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس.
وفي حديث علي رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجود الناس وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه [ (2) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث همام: حدثنا رجل من الأنصار أن أبا بكر بن عبد اللَّه بن قيس حدثه أن أباه حدثه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يكثر زيارة الأنصار خاصة وعامة، وكان إذا زار خاصة أتى الرجل في منزله، وإذا زار عامة أتى المسجد.
__________
[ (1) ] (المستدرك على الصحيحين) ج 1 ص 105.
[ (2) ] في (خ) بعد قوله «أحبه» عبارة «يمينه إذا حلف» وحذفناها لبعدها عن السياق ولعلها سهو من الناسخ.(2/284)
وأمّا يمينه إذا حلف
فخرّج البخاري من حديث موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ومقلب القلوب.
وخرّج من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا.
وهو مما اتفقا عليه [ (1) ] .
وخرّجا من حديث إسماعيل بن جعفر عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر قال: بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثا وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم اللَّه إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده.
اللفظ للبخاريّ وقد كرره في مواضع.
وقد أورد البخاري رحمه اللَّه في باب كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جملة من الأحاديث، منها يمينه: والّذي نفسي بيده، وبو الذي نفس محمد بيده: ولبقي ابن مخلد من حديث حماد بن خالد عن محمد بن هلال عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كانت يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا وأستغفر اللَّه
وأمّا قوله إذا أراد القيام من مجلسه
فخرّج أبو داود من حديث الحجاج بن دينار عن أبي هاشم عن أبي العالية عن أبي برزة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس:
سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل: يا رسول اللَّه، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما ما مضى، قال: كفارة لما يكون في المجلس. وخرّجه النّسائي بنحو أو قريب منه.
والنسائي من حديث الليث عن ابن الهاد عن يحي بن سعيد عن زرارة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقوم من مجلس إلا قال: لا إله
__________
[ (1) ] يعني البخاري ومسلم.(2/285)
إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، فقلت: يا رسول اللَّه! ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت! قال: لا يقولهن أحد حين يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان في ذلك المجلس. وفي لفظ له: قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قام من مجلس يكثر أن يقول: سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، وساق الحديث بنحوه.
فصل في ذكر زهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الدنيا وإعراضه عنها وصبره على القوت الشديد فيها واقتناعه باليسير منها وأنه كان لا يدخر إلّا قوت أهله، وصفة عيشه، وأنه اختار اللَّه والدار الآخرة
قال اللَّه جل جلاله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [ (1) ] .
وأما زهده في الدنيا وإعراضه [ (2) ] عنها
فقد [ (3) ] روى أنه عليه السلام خيّر بين أن يكون عبدا نبيا وبين أن يكون ملكا نبيا، فاستشار فيه جبريل عليه السلام فأشار عليه بأن يتواضع، فاختار أن يكون عبدا نبيا.
وخرّج يعقوب بن سفيان الفسوي، من حديث بقية بن الوليد، عن الزبيدي عن الزهري، عن محمد بن عبد اللَّه بن عباس قال: كان ابن عباس رضي اللَّه عنه يتحدث أن اللَّه عزّ وجلّ أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل عليه السلام، فقال الملك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا، فالتفت نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جبريل عليه السلام كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تواضع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أكون عبدا نبيا، قال:
فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه عزّ وجلّ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الآية 131/ طه.
[ (2) ] في (خ) «وإعراضها» .
[ (3) ] في (خ) «وقد» .
[ (4) ] سبق تخريج هذا الحديث.(2/286)
وقال عمر بن الخطاب: رضي اللَّه عنه في حديث اعتزال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نساءه: فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في خزانته، فإذا هو مضطجع على حصير، فأدني عليه إزاره وجلس، وإذا الحصير أثّرت بجنبه، وقلّبت عيني في خزانة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا ليس فيها شيء من الدنيا غير قبضتين- أو قال قبضة- من شعير، وقبضة من قرظ نحو الصاعين، وإذا أفيق أو أفيقان معلقان، فابتدرت عيناي، قال:
ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت: يا رسول اللَّه! وما لي لا أبكي وأنت صفوة اللَّه ورسوله، وخيرته من خلقه، وهذه خزانتك، وهذه الأعاجم كسرى وقيصر، في الثمار والأنهار، وأنت هكذا؟ قال: يا ابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: فاحمد اللَّه. وذكر الحديث.
وفي لفظ قال: فجلست فرفعت رأسي في البيت، فو اللَّه ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهب ثلاثة، فقلت: أدع اللَّه يا رسول اللَّه أن يوسع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون اللَّه، فاستوى جالسا فقال: أفي شك يا ابن الخطاب؟ أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر اللَّه يا رسول اللَّه.
وفي رواية أنس: دخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على سرير مرمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه، فانحرف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم انحرافة، فرأى عمر- رضي اللَّه عنه- أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: ما يبكيك يا عمر؟ فقال عمر: وما لي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال التي أرى؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: بلى، قال: هو كذلك.
ولأبي داود من حديث عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه قال: اضطجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على حصير فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه عنه وأقول:
بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه؟
فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنا والدنيا؟ إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
وخرّجه الترمذي بهذا السند ولفظه: نام رسول اللَّه على حصير فقام وقد أثّر(2/287)
في جنبه، فقلنا يا رسول اللَّه! لو اتخذنا لك؟ فقال: ما لي والدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها. قال: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] .
وخرّجه الحاكم من حديث ثابت بن زيد: حدثنا هلال بن خباب [ (2) ] عن عكرمة عن ابن عباس، ومن حديث عمرو بن مرة كما تقدم وصححاه.
وخرّج ابن حبان من طريق أبي حسين الجعفي عن فضيل بن عياض عن مطرح ابن يزيد عن عبيد اللَّه بن زحر عن القثم عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عرض عليّ ربي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك [ (3) ] .
وله من حديث محمد بن حمير عن الزارع بن نافع عن أبي سلمة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: اتخذت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فراشين حشوهما ليف وإذخر فقال:
يا عائشة! ما لي والدنيا؟ إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة في أصلها، حتى إذا فاء الفيء ارتحل فلم يرجع إليها أبدا.
وخرّج الإمام أحمد من حديث مالك بن مغول عن مقاتل بن بشير عن شريح ابن هانئ قال: سألت عائشة عن صلاة رسول اللَّه قالت: لم تكن صلاة أحرى أن يؤخرها إذا كان على حدث من صلاة العشاء الآخرة، وما صلاها قط فدخل عليّ إلّا صلّى بعدها أربعا أو ستا، وما رأيته متقى الأرض بشيء قط [ولقد مطرنا مرة بالليل فطرحنا له نطعا، فكأني انظر إلى ثقب فيه ينبع الماء منه] [ (4) ] .
وله من حديث ابن لهيعة عن الأسود عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت:
ما أعجب رسول اللَّه شيئا من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى. وفي رواية:
ولا أعجبه شيء من الدنيا إلا أن يكون فيها ذو تقى.
وله من حديث مروان بن معاوية قال: أخبرني هلال بن يزيد أبو يعلي قال: سمعت أنس بن مالك يقول:
__________
[ (1) ] (الجامع الصحيح للترمذي) ج 4 ص 17 حديث رقم 2483.
[ (2) ] في (خ) «حباب» ، والتصويب من (الجرح والتعديل) ج 9 ص 75 ترجمة رقم 294.
[ (3) ] ونحوه في المرجع السابق باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه حديث رقم 2451.
[ (4) ] ما بين القوسين تكملة من (سنن أبي داود) ج 2 ص 71 حديث رقم 1303.(2/288)
أهديت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتيته به فقال لها: ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن اللَّه يأتي برزق كل غد [ (1) ] .
وروي بكر بن مضر عن أبي هاني عن علي بن رباح أنه سمع عمرو بن العاص وهو على المنبر يقول: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها.
ولأبي نعيم من حديث الفضيل بن عياض، أخبرنا سفيان الثوري عن عون ابن أبي جحيفة عن أبيه أن معاوية ضرب على الناس بعثا فخرجوا، فرجع أبو الدحداح فقال له معاوية: ألم تكن خرجت مع الناس؟ قال: بلى، ولكني سمعت من رسول اللَّه حديثا فأحببت أن أضعه عندك مخافة أن لا تلقاني، سمعت [من] [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا أيها الناس من ولى منكم عملا فحجب بابه عن ذي الحاجة المسلم [ (3) ] حجبه اللَّه أن يلج باب الجنة، ومن كانت الدنيا نهمته حرّم اللَّه عليه جواري، فإنّي بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها [ (4) ] .
وأما صبره على القوت الشديد وقنعه من الدنيا بالشيء اليسير
فخرّج البخاري من حديث عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ ارزق آل محمد قوتا. ذكره في باب كيف كان عيش النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] .
وخرّجه عنه مسلم بمثله في كتاب الأدب. وفي رواية: اللَّهمّ ارزق آل محمد قوتا، وفي رواية: اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا، وفي رواية: اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد كفافا.
وقال محمد بن دينار الأزدي عن هشام بن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ما رفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قط عشاء الغداء ولا غداء العشاء، ولا اتخذ من شيء زوجين، لا قميصين ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال، ولا
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) ج 3 ص 198.
[ (2) ] زيادة من (الحلية) .
[ (3) ] في الحلية «للمسلمين» .
[ (4) ] (حلية الأولياء لأبي نعيم) ج 8 ص 130.
[ (5) ] (صحيح البخاري) ج 4 ص 123.(2/289)
رئي قط فارغا في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين، أو يخيط ثوبا لأرملة.
وخرّج البخاري من حديث عبد الرزّاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لو كان عندي أحد ذهبا لأحببت أن لا تأتي ثلاث وعندي منه دينار، ليس شيء أرصده في دين عليّ أجد من يقبله. ذكره في كتاب التمني في باب تمني الخير [ (1) ] .
وخرّج في كتاب الرقاق من حديث يونس عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرّني ألا تمرّ عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين. وذكره في كتاب الاستقراض في باب أداء الدين، قال بعقبه: رواه صالح وعقيل عن الزهري.
وذكر في الرقاق حديث أبي ذر رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما يسرّني أن عندي يمثل أحد ذهبا تمضي عليّ ثلاثة وعندي منه دينار إلا شيء أرصده لديني.
وخرّجه مسلم من طرق، وخرّجه الإمام أحمد أيضا، ولأحمد من حديث الأعمش عن شقيق [ (2) ] ، عن مسروق عن عائشة قالت: ما ترك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دينارا ولا درهما، ولا شاة ولا بعيرا، ولا أوصى بشيء.
ولابن سعيد من حديث الأعمش عن عمرو بن عمر، عن أبي نصر، سمعت عائشة تقول: إني لجالسة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في البيت، فأهدى لنا أبو بكر رجل شاة، فإنّي لأقطعها مع رسول اللَّه في ظلمة البيت، فقال لها قائل: يا محمد! ألكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما يسرج به أكلناه.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد أخفت في اللَّه ولا أخاف أحد، ولقد أوذيت في اللَّه وما يؤذي [ (3) ] أحد، ولقد أتت عليّ ما بين ثلاثين من يوم وليلة، ما لي طعام آكله إلا شيء يواريه إبط بلال. خرجه ابن حبان في صحيحه.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ص 249.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) وأثبتناها من (المسند) .
[ (3) ] في (خ) «يؤذا» .(2/290)
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا وكيع عن حماد عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد أوذيت في اللَّه وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في اللَّه وما نخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثة ما بين يوم وليلة ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما والاه إبط بلال.
وأما أنه لا يدّخر إلّا قوت أهله
فخرج ابن حبان من حديث قيس بن حفص، أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يدخر شيئا.
وخرّج البخاري من حديث عمر بن سعيد قال: أخبرني ابن أبي مليكة عن عقبة قال: صليت وراء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة العصر، فسلم فقام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته.
وفي حديث روح فقال: ذكرت وأنا في الصلاة تبرأ عندنا، فكرهت أن يمسى أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته [ (1) ] . ذكره في كتاب الصلاة في باب يفكر الرجل [ (2) ] [في] [ (3) ] الشيء في الصلاة، وذكره في كتاب الزكاة في باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها ولفظه: فقال: فقال: كنت خلفت في البيت تبرأ من الصدقة،
__________
[ (1) ]
الحديث رقم (1221) : «حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا روح، حدثنا عمر- هو ابن سعيد- قال: أخبرني ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث رضي اللَّه عنه قال: صليت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العصر، فلما سلّم قام سريعا دخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال:
ذكرت- وأنا في الصلاة- تبرأ عندنا، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته» (فتح الباري) ج 3 ص 115.
[ (2) ] والتقييد بالرجل لا مفهوم له، لأن بقية المكلّفين في حكم ذلك سواء، قال المهلب: التفكر أمر غالب لا يمكن الاحتراز منه في الصلاة ولا في غيرها، لما جعل اللَّه للشيطان من السبيل على الإنسان، ولكن يفترق الحال في ذلك، فإن كان في أمر الآخرة والدين، كان أخفّ مما يكون في أمر الدنيا. (المرجع السابق) ص 121.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (البخاري) بدونها- وروح: هو روح بن عبادة بن العلاء بن حسان القيسي أبو محمد البصري. (تهذيب التهذيب) ج 3 ص 253.(2/291)
فكرهت أن أبيته فقسمته [ (1) ] ، وذكره في كتاب الاستئذان في باب من أسرع في مشيه لحاجة [أو قصد] [ (2) ] .
وخرّج تقي بن مخلد من حديث محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في وجعه الّذي مات فيه: ما فعلت تلك الذّهب؟ قالت: هي عندنا، قال: آتيني بها- وهي بين السبعة والخمسة- فجعلها في كفه ثم قال: ما ظن محمد باللَّه لو لقي ربه وهذه عنده؟ أنفقيها [ (3) ] .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث محمد بن عمرو، قال: حدثني أبو سلمة قال قالت عائشة رضي اللَّه عنها: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه: ما
__________
[ (1) ]
الحديث رقم (1430) : «حدثنا أبو عاصم، عن عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، أن عقبة بن الحارث رضي اللَّه عنه حدّثه قال: «صلّى بنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العصر فأسرع، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فقلت: أو قيل- له فقال: كنت خلّفت في البيت تبرأ من الصدقة، فكرهت أن أبيّته فقسمته» . (فتح الباري) ج 3 ص 381.
قوله: «أن أبيّته»
أي أتركه حتى يدخل عليه الليل، يقال: بات الرجل: دخل في الليل، وبيّته: تركه حتى دخل في الليل.
قال ابن بطال: فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود.
زاد غيره: وهو أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب، وأمحى للذنب. (المرجع السابق) ص 382.
[ (2) ] زيادة من البخاري، والحديث رقم (6275) : «حدثنا أبو عاصم عن عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة أن عقبة بن الحارث حدّثه قال: صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العصر، فأسرع ثم دخل البيت» (فتح الباري) ج 11 ص 79.
[ (3) ] ذكره ابن حبان في كتاب الرقاق، باب الفقر والزهد والقناعة، وعنون له: ذكر ما يستحب للمرء أن يكون خروجه من هذه الدنيا الفانية الزائلة وهو صفر اليدين ممّا يحاسب عليه مما في عنقه، حديث رقم (715) :
أخبرنا إسماعيل بن داود بن وردان بالفسطاط، حدثنا عيسى بن حماد، أخبرنا الليث، عن ابن عجلان، عن أبي حازم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: اشتدّ وجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعنده سبعة دنانير أو تسعة، فقال: «يا عائشة، ما فعلت تلك الذهب» ؟ فقلت: هي عندي، قال: «تصدّقي بها» قالت: فشغلت به ثم قال: «يا عائشة، ما فعلت تلك الذهب» ؟
فقلت: هي عندي، فقال: «ائتني بها» ، قالت: «فجئت بها، فوضعها في كفه، ثم قال: «ما ظن محمد أن لو لقي اللَّه وهذه عنده؟ ما ظن محمد أن لو لقي اللَّه وهذه عنده» ؟
هذا الحديث إسناده حسن، وابن عجلان صدوق، روى له مسلم متابعة، وباقي رجاله على شرط الصحيح. (الإحسان) ج 2 ص 491- 492.(2/292)
فعلت بالذهب؟ فجاءت ما بين الخمسة إلى السبعة أو الثمانية أو التسعة، فجعل يقلبها بيده ويقول: ما ظن محمد باللَّه لو لقيه وهذه عنده؟ أنفقيها [ (1) ] .
ولأبي ذر عبد بن أحمد الهروي من حديث مفضل بن صالح قال: حدثني سليمان الأعمش عن طلحة بن مصرف الهمدانيّ عن مسروق عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أطعمنا يا بلال، قال: يا رسول اللَّه! ما عندي إلا صبر من تمر خبأته لك، قال: أما تخشى أن يخسف اللَّه به في نار جهنم، أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) ج 7 ص 74، حديث رقم (23702) ، وص (261، حديث رقم 24964) .
[ (2) ]
الطبراني في الكبير، والبزار في مسندة، من حديث عاصم بن علي، والطبراني فقط، وكذا القضاعي في مسندة، من حديث مالك بن إسماعيل كلاهما عن قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على بلال وعنده صبر من تمر، فقال: «ما هذا يا بلال؟» قال: يا رسول اللَّه ذخرته للَّه، ولضيفانك، قال: «أما تخشى أن يفور لها بخار من جهنم، أنفق يا بلال» ، وذكره، قال البزار: هكذا رواه جماعة عن قيس، وخالفهم يحيى بن كثير عنه، فقال: عن عائشة بدل ابن مسعود.
وتابعه طلحة بن مصرف، عن مسروق، عن عائشة؟
أخرجه العسكري في (الأمثال) ، من طريق مفضل بن صالح، عن الأعمش، عن طلحة به، ولفظهما قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أطعمنا يا بلال» فقال: يا رسول اللَّه ما عندي إلا صبر تمر خبأته لك فقال: «أما تخشى أن يقذف به في نار جهنم، أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
وقيل عن مسروق، عن بلال، أخرجه البزار من طريق محمد بن الحسن الأسدي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن بلال، ولفظه: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعنده صبر من المال. فقال: «أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
ومن هذا الوجه، أخرجه الطبراني، بلفظ: «أنفق يا بلال» .
وقال البزار: لم يقل عن بلال إلا محمد بن الحسن، وقيل: عن مسروق مرسلا بدون صحابي.
وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه البزار، من حديث موسى بن داود، عن مبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على بلال وعنده صبر من تمر، فقال: «ما هذا؟» قال: أدخره، فقال: «أما تخشى أن يرى له بخار في نار جهنم، أنفق يا بلال، ولا تخشى من ذي العرش إقلالا» وقال: تفرد به مبارك» وكذا أخرجه الطبراني في الكبير، من حديث موسى بن داود، وإسناده حسن. ولكن خولف مبارك، فرواه بشر بن المفضل، ويزيد بن زريع، كلاهما عن يونس مرسلا بدون أبي هريرة، وكذلك اختلف على عوف بن أبي جميلة في وصله وإرساله.(2/293)
وقال الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي اللَّه عنه قال:
كانت أموال بني النضير مما أفاء اللَّه على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل اللَّه [ (1) ] .
وقال وكيع عن ابن عيينة قال: قال لي معمر: قال لي الثوري: هل سمعت في الرجل يجمع لأهله قوت سنتهم أو بعض سنتهم؟ قال معمر: فلم يحضرني، ثم ذكرت حدثناه حدثناه الزهري عن مالك بن أوس عن عمر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم. هذا الحديث والّذي قبله واحد، وهو متفق عليه، وبهذا تبين أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعطي نفقاتهم ولا يدخر لنفسه.
وأما صفة عيشه وعيش أهله [ (2) ]
فقال الأسود عن عائشة رضي اللَّه عنها: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى إلى سبيله.
__________
[ () ] فأخرجه البيهقي في (الشعب) من حديث عثمان بن الهيثم، حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على بلال وعنده صبر من تمر، فقال: «ما هذا يا بلال؟» قال:
تمر ذخرته، فقال: «أما تخشى يا بلال أن يكون له بخار في نار جهنم، أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا» ، قال: وخالفه روح بن عبادة، فرواه عن عوف، عن ابن سيرين، قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بلال فوجد عنده تمر أدخره، فذكره مرسلا، ثم ساقه كذلك.
وكذا اختلف فيه على ابن عون، فقال معاذ بن معاذ، ومحمد بن أبي عدي عنه عن ابن سيرين مرسلا، وأخرجه الطبراني، والبيهقي في (الدلائل) ، من حديث بكار بن محمد السيريني، حدثنا ابن عون به متصلا،
فلفظ البيهقي: «أنفق بلال» ،
ولفظ الآخر: «أنفق يا بلال» .
ولم يختلف على هشام بن حسان، في وصله، فأخرجه أبو يعلي، والطبراني، من حديث حرب بن ميمون، حدثنا هشام فقط،
فلفظ أبي يعلي: «أنفق يا بلال، ولا تخافنّ من ذي العرش إقلالا» ، ولفظ الطبراني: «ولا تخش» .
وما يحكى على لسان كثيرين في لفظ هذا الحديث، وأنه بلالا، ويتكلفون في توجيه لكونه نهيا عن المنع وبغير ذلك، فشيء لم أقف له على أصل.
[ (1) ] (المغازي) ج 1 ص 378.
[ (2) ] (صحيح سنن ابن ماجة) باب رقم (48) باب خبز البرّ، وباب رقم (49) باب خبز الشعير، وفيهما الأحاديث:
(3343) : عن أبي هريرة أنه قال: والّذي نفسي بيده، ما شبع نبي اللَّه ثلاثة أيام تباعا من خبز الحنطة حتى توفاه اللَّه عز وجل.(2/294)
وفي رواية: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة ثلاث ليال تباعا من خبز بر حتى توفى. وفي لفظ: ما شبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله. وفي لفظ: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال عبد الرحمن بن عائش عن أبيه عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق باللَّه، وفي لفظ: ما شبع آل محمد من خبز بر فوق ثلاث.
وقال هلال عن عروة عن عائشة قالت: ما أكل محمد أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر. وفي لفظ: ما شبع آل محمد يومين من خبز بر إلا إحداهما تمر [ (1) ] .
وقال ابن قسيط عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لقد مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين.
وقال منصور بن عبد الرحمن عن أمه عن عائشة: توفّي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين شبعنا من الأسودين التمر والماء. وفي لفظ: وما شبعنا من الأسودين. وقال عكرمة عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
وقال أبو حازم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: والّذي نفسي بيده، ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض. وفي لفظ: ما أشبع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.
وخرّج ابن عساكر من حديث حماد عن إبراهيم عن عائشة أنها قالت: ما شبع
__________
[ () ] (3344) : عن عائشة، قالت: ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ قدموا المدينة ثلاث ليال تباعا من خبز برّ حتى توفي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(3345) : عن عائشة قالت: لقد توفي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي. فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني.
(3346) : عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم من خبز الشعير حتى قبض.
(3347) : عن ابن عباس، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون العشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير. ونحوه (مسند أحمد) ج 6 ص 255، حديث رقم (25644) .
[ (1) ] (المستدرك 9 ج 4 ص 106، ولفظه: «ما أكل آل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في يوم أكلتين إلا إحداهما تمر» وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.(2/295)
آل محمد ثلاثة أيام متتابعات من خبز البرّ حتى ذاق محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة حتى مات صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما مات انصبّت الدنيا علينا صبا [ (1) ] .
__________
[ (1) ] عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء، إلا أن يؤتى باللّحيم» ، وفي رواية قالت: «ما شبع آل محمد من خبز البر ثلاثا حتى مضى لسبيله» ، وفي أخرى قالت: «ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعا حتى قبض» ، وفي أخرى: «ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
وفي أخرى قالت: «ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا وإحداهما تمر» وفي أخرى كانت تقول لعروة: «واللَّه يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين- وما أوقد في أبيات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نار، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ألبانها فيسقيناه» .
وفي أخرى قالت: «توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين شبع الناس من الأسودين: التمر والماء» ، وفي رواية:
«ما شبعنا من الأسودين» .
هذه روايات البخاري ومسلم. ولمسلم أيضا قالت: «لقد مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين» .
وأخرج الترمذي الرواية الأولى، إلى قوله: «الماء» والرابعة وله في أخرى عن مسروق، قال: «دخلت على عائشة، فدعت لي بطعام فقالت: ما أشبع فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قلت: لم؟ قالت: أذكر الحال التي فارق عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الدنيا، واللَّه ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم» .
المنائح: جمع منيحة، وهي الناقة يعيرها صاحبها إنسانا ليشرب لبنها ويعيدها.
الأسودين: السواد: من صفات التمر، لأن الغالب على أنواع تمر المدينة السواد، فأما الماء فليس بأسود، وإنما جعل أسود حيث قرن بالتمر، فغلّب أحدهما على الآخر فسمّى به، وهذا من عادة العرب يفعلونه بالشيئين- يصطحبان، فيغلبون اسم الأشهر، كقولهم: «القمران» للشمس والقمر.
رواه (البخاري) في الأطعمة باب ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يأكلون، وفي الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.
و (لمسلم) في الزهد والرقائق، رقم (2970) ، (2971) ، (2972) ، (2973) .
(مسلم بشرح النووي) ج 18 ص 315- 318 و (الترمذي) في معيشة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهله رقم (2357) ، (2358) صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورقم (2471) في صفة القيامة باب رقم 34 (صحيح سنن الترمذي) ج 4 ص 500، 556.(2/296)
وقال سعيد المقبري عن أبي هريرة: أنه مرّ بقوم بين أيديهم شاة مصلّية، فدعوه فأبى أن يأكل وقال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير [ (1) ] .
وهذه الأحاديث: منها ما خرّجاه، ومنها ما خرّجه أحدهما، وللترمذي من حديث ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس، رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون شيئا، وكان أكثر خبزهم الشعير. قال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
ولتقي بن مخلد من حديث عقبة بن مكرم، أخبرنا عبد اللَّه بن خراش عن العوام عن المسيب بن رافع عن أبي هريرة قال: ما ترك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة، ولا شاة ولا بعيرا، ولقد كان يربط على بطنه حجرا من الجوع [ (3) ] .
ولمسلم من حديث أبي الأحوص عن سماك قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه. وخرّجه الترمذي [ (4) ] بهذا الإسناد مثله وقال: هذا حديث [حسن] [ (5) ] صحيح.
ولمسلم من حديث شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان يخطب قال:
ذكر عمر رضي اللَّه عنه ما. صاب الناس من الدنيا، [فقال] [ (5) ] لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يظل] [ (6) ] اليوم يتلوى ما يجد دقلا يملأ به بطنه [ (7) ] .
وخرّج البخاري من حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس رضي اللَّه عنه
__________
[ (1) ] ونحوه في (سنن الترمذي) ج 4 ص 9 حديث رقم (2462) ، (2463) باب ما جاء في معيشة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، و (مسلم) في الزهد حديث رقم (2976) .
[ (2) ] المرجع السابق حديث رقم (2465) .
[ (3) ] ونحوه في (سنن الترمذي) ج 4 ص 15 حديث رقم (2476) وقال فيه: «ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ورفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن حجرين» وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[ (4) ] المرجع السابق ص 15 حديث رقم 2477.
[ (5) ] زيادة من المرجع السابق والدّقل: ضعف الجسم، والدّقل أردأ التمر.
زيادة من (صحيح مسلم) .
[ (6) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) وأثبتناها من (صحيح مسلم) .
[ (7) ] (مسلم بشرح النووي) ج 18 ص 109.(2/297)
أنه مشى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم درعا له بالمدينة عند يهوديّ وأخذ منه شعيرا لأهله. ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع برّ ولا صاع حبّ، وإن عنده لتسع نسوة. ذكره في كتاب البيوع في باب شراء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنسيئة [ (1) ] . وذكره الترمذي في جامعه بهذا السند وقال: هذا حديث حسن صحيح، ذكره في البيوع [ (2) ] .
وخرّج البخاري من حديث همام بن حيي، أخبرنا قتادة قال: كنا نأتي أنس بن مالك و [خبّازه] [ (3) ] قائم فقال [ (4) ] : كلوا فما أعلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّقا حتى لحق باللَّه، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. ذكره في الرقاق وفي كتاب الأطعمة [ (5) ] .
وله من حديث قتادة عن أنس [ (6) ] قال: ما علمت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أكل على [ (7) ] سكرجة قط ولا خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوان [ (8) ] ، قيل لقتادة:
فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السّفر [ (9) ] .
ولأحمد من حديث سليمان بن رومان عن عروة عن عائشة أنها قالت: والّذي بعث محمدا بالحق، ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه اللَّه إلى أن قبضه، فقلت: كيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نقول: أفّ أفّ.
ولأبي ذر الهروي من حديث حماد عن ثابت عن أنس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لقد أخفت في اللَّه وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في اللَّه وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ من بين يوم وليلة وما لي طعام نأكله إلا شيء يواريه إبط بلال.
وخرّج البخاري [ (10) ] من حديث أبي حازم: سألت سهل بن سعد فقلت: هل
__________
[ (1) ] (صحيح البخاري بحاشية السندي) ج 2 ص 6.
[ (2) ] (سنن الترمذي) ج 2 ص 344 حديث رقم (1233) .
[ (3) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) وأثبتناها من (البخاري) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، ورواية البخاري (قال) .
[ (5) ] (صحيح البخاري بحاشية السندي) ج 3 ص 297
[ (6) ] (المرجع السابق) ص 296.
[ (7) ] كذا في (خ) وفي (البخاري) «في سكرجة» والسكرجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء، وكل ما يوضع فيه الكوامخ ونحوها على المائدة حول الأطعمة للتشهي والهضم.
[ (8) ] الخوان: ما يؤكل عليه.
[ (9) ] السفرة: ما يحمل فيه الطعام.
[ (10) ] (صحيح البخاري بحاشية السندي) ج 3 ص 296.(2/298)
أكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم النّقي؟ قال [سهل] [ (1) ] ما رأى رسول اللَّه النّقىّ من حين ابتعثه اللَّه حتى قبضه اللَّه، قال: قلت: فهل كانت لكم في عهد رسول اللَّه مناخل؟
قال: ما رأى رسول اللَّه منخلا من حين بعثه اللَّه حتى قبضه اللَّه، قال: فكيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطعنه وننفخه فيطير [ما طار وما بقي ثرّيناه فأكلناه] [ (1) ] .
وأمّا تبسّمه [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقد قالت عائشة رضي اللَّه عنها: ما رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم [ (3) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة، عن عبد اللَّه بن المغيرة قال: سمعت عبد اللَّه بن الحارث بن جزء يقول: ما رأيت أحدا كان أكثر تبسما من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
وخرّج ابن حبان من حديث عبد الحميد بن زياد بن صهيب، عن أبيه عن صهيب قال: ضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (2) ] بسم، يبسم بسما وابتسم وتبسّم: وهو أقلّ الضّحك وأحسنه. وفي التنزيل: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها (19/ النمل) . قال الزّجّاج: التبسم أكثر ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال الليث: يبسم بسما إذا فتح شفتيه كالمكاشر، وامرأة بسّامة ورجل بسّام. وفي صفته صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه كان جلّ ضحكه التّبسّم. (لسان العرب) ج 12 ص 50.
[ (3) ] (المستدرك) ج 2 ص 456، حديث رقم (3700/ 837) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بحر بن نصر، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدّثه، عن سليمان بن يسار، عن عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنها قالت: «ما رأيت رسول اللَّه قط مستجمعا ضاحكا حتى أرى منها لهواته، إنما كان يبتسم» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة. واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق أو ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم. (ترتيب القاموس) ج 2 ص 179.
[ (4) ] (مسند أحمد) ج 5 ص 212، حديث رقم (17261) .
[ (5) ] (الإحسان) ج 16 ص 318، حديث رقم (7325) ، (7326) فأما الحديث الأول:
«أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن اللَّه يمسك السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق كلها على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول اللَّه حتى بدت نواجذه، ثم قرأ هذه الآية: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً(2/299)
وخرج من حديث بقية، عن حبيب بن عمر الأنصاري، عن شيخ يكنى أبا عبد اللَّه الصمد، قال: سمعت أم الدرداء [ (1) ] تقول:
__________
[ () ] قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67/ الزمر) ، أخرجه البخاري في التوحيد (7415) ، ومسلم في صفة القيامة (2786) .
إسناده صحيح على شرط الشيخين، أبو خيثمة: هو زهير بن حرب، وجرير: هو ابن عبد الحميد، وإبراهيم: هو ابن يزيد النخعي، وعلقمة: هو ابن قيس النخعي.
وأما الحديث الثاني: أخبرنا عبد اللَّه بن محمد الأزدي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد اللَّه قال: جاء حبر من اليهود إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، إذا كان يوم القيامة جعل اللَّه السماوات على إصبع، ثم يهزّهنّ، ثم يقول: أنا الملك، فلقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه تعجبا لما قال اليهوديّ تصديقا له، ثم قرأ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أخرجه البخاري في التوحيد (7513) ، ومسلم في صفة القيامة (2786) إسناده صحيح على شرط الشيخين، ومنصور هو ابن المعتمر، وعبيدة: هو ابن عمرو السلماني.
وأخرجه أحمد (1/ 457) ، والبخاري (4811) في تفسير سورة الزمر، باب قوله تعالى:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
والنواجذ: من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك، والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان، والمراد الأول، إنه ما كان يبلغ به الضحك حتى تبدو أواخر أضراسه، كيف وقد جاء في صفة ضحكه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جلّ ضحكه التبسم؟ وإن أريد بها الأواخر، فالوجه فيه أن يريد مبالغة مثله في ضحكه، من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس القولين لاشتهار النواجذ. بأواخر الأسنان، ومنه حديث عمر رضي اللَّه عنه: ولن يلي الناس كقرشيّ عضّ على ناجذه أي صبر وتصلّب في الأمور، ومنه حديث العرباض: عضوا عليها بالنواجذ، أي تمسكوا بها كما يتمسك العاضّ بجميع أضراسه. (لسان العرب) ج 3 ص 513- 514.
[ (1) ] هي خيرة بنت أبي حدرد، أم الدرداء الكبرى، سماها أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين فيما رواه ابن أبي خيثمة عنهما، وقالا: اسم أبي حدرد «عبد» وقال: أم الدرداء الصغرى اسمها هجيمة، وقال غيرهما:
جهيمة.
وقال أبو عمر: كانت أم الدرداء الكبرى من فضلى النساء وعقلائهن، وذوات الرأي فيهن، مع العبادة والنسك، توفيت قبل أبي الدرداء بسنتين، وذلك بالشام في خلافة عثمان رضي اللَّه تعالى عنه، وكانت حفظت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن زوجها.
روى عنها جماعة من التابعين، منهم: ميمون بن مهران، وصفوان بن عبد اللَّه، وزيد بن أسلم.
قال عليّ بن المديني: كان لأبي الدرداء امرأتان كلتاهما يقال لها أم الدرداء: إحداهما رأت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي خيرة بنت أبي حرد، والثانية تزوجها بعد وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهي هجيمة الوصابية.(2/300)
كان أبو الدرداء [ (1) ] إذا حدّث حديثا تبسّم، فقلت: لا يقول الناس إنك أي أحمق، فقال: ما رأيت أو ما سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث حديثا إلا تبسم.
__________
[ () ] وأورد ابن مندة لأم الدرداء حديثا مرفوعا، من طريق شريك، عن خلف بن حوشب، عن ميمون بن مهران، قال: قلت لأم الدرداء: سمعت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا؟ قالت: نعم، دخلت عليه وهو جالس في المسجد، فسمعته يقول: «ما يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن» .
وأخرج الطبراني من طريق زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أنه سمع أم الدرداء تقول: خرجت من الحمام فلقيني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أين أقبلت يا أم الدرداء؟ قلت: من الحمام، قال: ما منكن امرأة تضع ثيابها في غير بيت إحدى أمهاتها أو زوج، إلا كانت هاتكة كل ستر بينها وبين اللَّه.
وسنده ضعيف جدا.
(الإصابة) : ج 7 ص 629- 631، ترجمة رقم (11137) ، (الاستيعاب) : ج 4 ص 1934 ترجمة رقم (4150) .
[ (1) ] هو عمير بن عامر، ويقال: عويمر بن قيس بن زيد، وقيل: عويمر بن ثعلبة بن عامر بن زيد بن قيس بن أمية بن مالك بن عامر بن عديّ بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، أبو الدرداء الأنصاري، هو مشهور بكنيته.
وقد قيل في نسبه: عويمر بن زيد بن قيس بن عائشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
وقيل: إن اسمه عامر، وصغّر، فقيل عويمر. وقال ابن إسحاق: أبو الدرداء عويمر بن ثعلبة من بني الحارث بن الخزرج.
وقال إبراهيم بن المنذر: أبو الدرداء اسمه عويمر بن ثعلبة بن زيد بن قيس بن عائشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عديّ بن كعب بن الخزرج. وأمّه: محبّة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر بن زيد مناة بن مالك بن ثعلبة بن كعب.
وقيل: أمه واقدة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة.
شهد أحدا وما بعدها من المشاهد، وقد قيل: إنه لم يشهد أحدا لأنه تأخر إسلامه، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد.
كان أبو الدرداء أحد الحكماء، العلماء، الفضلاء.
روى ابن عبد البرّ: لما حضرت معاذا الوفاة قيل له: يا أبا عبد الرحمن، أوصنا، قال: أجلسوني، إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، يقولها ثلاث مرات- التمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وسلمان الفارسيّ، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن سلام، الّذي كان يهوديا فأسلم، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة.(2/301)
وفي رواية: كان أبو الدرداء لا يحدث بحديث إلا تبسم، فقالت له: إني أخشى أن يحمّقك الناس، فقال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحدث بحديث إلا تبسّم [ (1) ] .
ومن حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: ضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت أنيابه. وكذا من حديث وهب بن جرير، أخبرنا أبي قال: سمعت ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أقبل أعرابي على ناقة له حتى أناخ بباب المسجد، فدخل على نبي اللَّه وحمزة بن عبد المطلب جالس في نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم النعيمان، فقالوا للنعيمان: ويحك! إن ناقته نادية أي سمينة، فلو نحرتها فإنا قد قدمنا إلى اللحم، ولو فعلت عزمها رسول اللَّه وأكلنا لحمها، فقال: إني إن فعلت ذلك وأخبرتموه وجد عليّ، قالوا: إلا تفعل!! فقام،
__________
[ () ] عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «أنا أفرطكم على الحوض، فلا ألفينّ ما نوزعت في أحدكم فأقول: هذا مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك، فقلت: يا رسول اللَّه، أدع اللَّه ألا يجعلني منهم، قال: لست منهم» .
فمات قبل عثمان رضي اللَّه عنه بسنتين.
ولهذا الحديث قريب منه
في (مسند أحمد) : من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «أنا أفرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب أصحابي فيقول:
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ونظيره في (مسلم) .
قال أبو عمر: وروي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «حكيم أمتي أبو الدرداء عويمر» .
قال أبو عمر: له حكم مأثورة مشهورة: منها قوله: «وجدت الناس أخبر تقل، أي من جرّبهم رماهم بالمقت لخبث سرائرهم وقلة إنصافهم» .
ومنها: «من يأت أبواب السلطان يقام ويقعد» .
ووصف الدنيا فأحسن، فمن قوله فيها: «الدنيا دار الكدر، ولن ينجو منها إلا أهل الحذر، وللَّه فيها علامات يسمعها الجاهلون، ويعتبر بها العالمون، ومن علاماته فيها أن حفّها بالشبهات، فارتطم فيها أهل الشهوات، ثم أعقبها بالآفات، فانتفع بذلك أهل العظات، ومزج حلالها بالمئونات، وحرامها بالتبعات، فالمثري فيها تعب، والمقل ففيها نصب» .
(الاستيعاب) : ج 3 ص 1227- 1230 ترجمة رقم (2006) ، (الإصابة) : ج 4 ص 747- 748 ترجمة رقم (6121) ، (مسند أحمد) : ج 1 ص 635 حديث رقم (3632) ، (مسلم بشرح النووي) : ج 15 ص 64 حديث رقم (2297) .
[ (1) ] (كنز العمال) : ج 7 ص 140 حديث رقم (18401) ، (سند أحمد) : ج 5 ص 199 حديث رقم (21288) : «حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا يونس، حدثنا بقية عن حبيب بن عمر الأنصاري، عن أبي عبد الصمد، عن أم الدرداء قالت: كان أبو الدرداء لا يحدث بحديث إلا تبسم فيه، فقلت له: إني أخشى أن يحمقك الناس، فقال: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحدث بحديث إلا تبسم» .(2/302)
فضرب لبتها ثم انطلق، فمر بالمقداد قد حفر حفرة استخرج منها طينا، فقال: يا مقداد! غيبني في هذه الحفرة وأطبق عليّ شيئا، ولا تدل عليّ أحدا، فإنّي قد أحدثت حدثا، ففعل.
فما خرج الأعرابي ورأى ناقته صرخ، فخرج نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: من فعل هذا؟ قالوا: نعيمان! قال: فأين توجه؟ قالوا: ها هنا، فتبعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه حمزة وأصحابه، حتى أتى على المقداد فقال له: هل رأيت نعيمان؟
فكشف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الحفرة، فلما رآه قال: أي عدوّ نفسه! ما حملك على ما صنعت؟ قال: والّذي بعثك بالحق لأمرني حمزة وأصحابه، فأرضى عليه السلام الأعرابي وقال: شأنكم بها فأكلوها،
فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذكر صنعه ضحك حتى تبدو نواجذه.
وقال زائدة عن أبان، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد اللَّه قال: ما حجبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ أسلمت ولا رآني إلا ضحك [ (1) ]
__________
[ (1) ] (الشمائل المحمدية) ص 189 حديث رقم (232) : حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير قال: «ما حجبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا رآني منذ أسلمت إلا تبسّم» ، (صحيح سنن الترمذي) : ج 3 ص 232 حديث رقم (4091) : عن جرير بن عبد اللَّه قال: «ما حجبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك» ، وحديث رقم (4092) : عن جرير قال: «ما حجبني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم» . قال الألباني: (صحيح، وهو بهذا اللفظ أرجح) . وهو في (البخاري) : في باب من لا يثبت على الخيل، حديث رقم (3035) حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير، حدثنا محمد بن إدريس عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير رضي اللَّه عنه قال: «ما حجبني صلّى اللَّه عليه وسلّم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي» (فتح الباري) : ج 6 ص 198، (مسند أحمد) : ج 4 ص 358، حديث رقم (18692) ، ص 359، حديث رقم (18655) ، ص 365، حديث رقم (18765) .
(مسند الحميدي) : ج 2 ص 350، حديث رقم (800) : حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت قيسا يقول: سمعت جرير بن عبد اللَّه البجلي: «ما رآني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قط إلا تبسّم في وجهي» قال: وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن على وجهه مسحة ملك، فطلع جرير بن عبد اللَّه» .
قال الحافظ في (الفتح) : التّبسّم: مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت، وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك، وإن كان(2/303)
وفي الصحيح أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حكى عن رجل أخرج من النار، فقيل له، تمنّ فتمنّى، فيقال: لك ما تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول أتسخر بي وأنت الملك؟
فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه [ (1) ] .
ولابن حبان من حديث الليث، عن جرير بن حازم عن الحسن بن عمارة، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الرحمن قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لما بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن، أتاني ثلاثة نفر يختصمون في غلام ابن امرأة وقعوا عليها جميعا في طهر واحد، كلهم يدعى أنه ابنه، فأقرعت بينهم فألحقته بالذي أصابته القرعة، ولصاحبيه ثلثي دية الحد، فلما قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكرت له ذلك، فضحك حتى ضرب برجليه الأرض ثم قال: حكمت فيهم بحكم اللَّه، أو قال لقد رضي اللَّه حكمك فيهم [ (2) ] .
__________
[ () ] بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم: الضواحك، وهي الثنايا والأنياب، وما يليها يسمى النواجذ.
[ (1) ] (المرجع السابق) ص 189- 190، حديث رقم (233) :
حدثنا هناد بن السّريّ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة السّلمانيّ، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجا، رجلا يخرج منها زحفا، فيقال له انطلق فادخل الجنة» . قال: «فيذهب ليدخل الجنة فيجد النّاس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول:
يا رب قد أخذ الناس المنازل- فيقال له: أتذكر الزّمان الّذي كنت فيه؟ فيقول: نعم» ، قال: «فيقال تمنّ» ، قال: «فيتمنى، فيقال له: فإن لك الّذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا» ، قال: «فيقول:
أتسخر مني وأنت الملك» ؟ قال: «فلقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه» .
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، حديث رقم (6571) باختلاف يسير، وحديث رقم (7513) .
(فتح الباري) ج 11 ص 510، ج 13 ص 580.
[ (2) ]
(كنز العمال) ج 5 ص 841- 842، حديث رقم (14532) : «عن زيد بن أرقم قال: بينما نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ أتاه رجل من أهل اليمن، وعليّ بها، فجعل يحدث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. ويخبره قال: يا رسول اللَّه، أتى عليا ثلاثة نفر فاختصموا في ولد كلهم زعم أنه ابنه، وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال عليّ: إنكم شركاء متشاكسون، وإني مقرع بينكم، فمن قرع فله الولد، وعليه ثلثا الدية لصاحبه، فأقرع بينهم، فقرع أحدهم، فدفع إليه الولد، وجعل عليه ثلثي الدية، فضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه أو أضراسه» .
ثم رمز إليه: (عب) ، (ش) أي مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. قرع: المقارعة: المساهمة، يقال: قارعة فقرعه: إذا أصابته القرعة دونه، وقرعهم: غلبهم بالقرعة.
(ترتيب القاموس) ج 3 ص 597.(2/304)
قال ابن الجوزي: وهذا الحديث لا يثبت، فيه جماعة مجروحون، ولا يصح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه كان يزيد على التبسم.
وخرّج الإمام أحمد [ (1) ] وأبو يعلي، والبزار والطبراني في الكبير، من حديث هشام عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن سلمة، عن علي أو عن الزبير قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخطبنا فيذكرنا بأيام اللَّه، حتى نعرف ذلك في وجهه، وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع (عنه) [ (2) ] .
وأما محبته الفأل [ (3) ] وتركه الطيرة [ (4) ] وتغيير الاسم القبيح
فخرج مسلم من حديث يحيى بن عتيق قال: أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) ج 1 ص 272، حديث رقم (1440) ، وقال فيه: «عن عبد اللَّه بن سلمة. أو مسلمة»
[ (2) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] الفأل: ضدّ الطيرة، والجمع فؤول. وتفألت به، وتفأّل به. قال ابن الأثير: يقال: تفاءلت بكذا، وتفألت، على التخفيف والقلب، قال: وقد أولع الناس بترك همزه تخفيفا.
والفأل: أن يكون الرجل مريضا فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقول: تفاءلت بكذا، ويتوجه له في ظنه كما سمع أنه يبرأ من مرضه، أو يجد ضالته.
وفي الحديث: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحب الفأل ويكره الطيرة، ضد الفأل، وهي فيما يكره، كالفأل فيما يستحب، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، والفأل يكون فيما يحسن وفيما يسوء.
قال أبو منصور: من العرب من يجعل الفأل فيما يكره أيضا. قال أبو زيد تفاءلت تفاؤلا، وذلك أن تسمع الإنسان وأنت تريد الحاجة يدعو: يا سعيد، يا أفلح، أو يدعو باسم قبيح. والاسم: الفأل، مهموز.
وفي نوادر الأعراب: يقال: لا فأل عليك بمعني لا ضير عليك، ولا طير عليك، ولا شرّ عليك.
وفي الحديث، عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والفأل الصالح الكلمة الحسنة» .
قال: وهذا يدل على أن من الفأل ما يكون صالحا، ومنه ما يكون غير صالح، وإنما أحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الفأل، لأن الناس إذا أمّلوا فائدة اللَّه ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير.
ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من اللَّه كان ذلك من الشر؟ وإنما خبّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الفطرة كيف هي، وإلى أي شيء تنقلب. (لسان العرب) ج 11 ص 513- 514
[ (4) ] الطيرة: مضاد للفأل، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد، فأثبت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الفأل واستحسنه، وأبطل الطيرة ونهى عنها. والطّيرة من اطّيرت وتطيّرت، ومثل الطّيرة الخيرة.(2/305)
هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا عدوى ولا طيرة وأحب الفأل الصالح [ (1) ] .
ومن حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا عدوى ولا هامة ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح [ (2) ] .
وخرّجا من حديث معمر وشعيب عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، أن أبا هريرة [ (3) ] قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا طيرة، وخيرها الفأل، قيل: يا رسول اللَّه، وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم [ (4) ] .
وخرج البخاري وأبو داود من حديث هشام، أخبرنا قتادة عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، الكلمة الحسنة [ (5) ] .
وخرج أبو داود [ (6) ] من حديث هشام عن قتادة، عن عبيد اللَّه بن بريدة، عن
__________
[ () ] والطّيرة من الشرك، لأنهم كانوا يعتقدون أن الطير تجلب لهم نفعا، أو تدفع عنهم ضررا إذا عملوا بموجبة، فكأنهم أشركوه مع اللَّه في ذلك.
وفي التنزيل: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ 18/ ياسين، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ 131/ الأعراف، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 131/ الأعراف.
(المرجع السابق) ج 4 ص 512- 513.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) ج 14 ص 470 كتاب السلام (39) باب (34) حديث رقم (113- 2223) .
[ (2) ] (المرجع السابق) حديث رقم (114) .
[ (3) ] (اللؤلؤ والمرجان) ج 3 ص 71 باب (34) (الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم) حديث رقم (1438) .
[ (4) ] وضيرها: أي ضير الطيرة، والفأل: ضد الطيرة ويستعمل في الخير والشر،
وفي حديث عروة بن عامر عند أبي داود قال: «ذكرت الطيرة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ضيرها الفأل، ولا تردّ مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللَّهمّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه» .
(المرجع السابق) .
[ (5) ] (فتح الباري) : ج 10 ص 263، كتاب الطب، باب (44) ، حديث رقم (5756) ، (مسلم بشرح النووي) ج 14 ص 470، كتاب السلام باب (34) ، حديث رقم (111- 2224) :
وزاد فيه «الكلمة الطيبة» بعد قوله: «الكلمة الحسنة» .
[ (6) ] (صحيح سنن أبي داود) : ج 2 ص 742 حديث رقم (3920) ، قال الألباني: صحيح، و (مسند أحمد) : 5/ 347 حديث رقم (22437) باختلاف يسير.(2/306)
أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، ورئي أثر [ (1) ] ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رئي كراهة [ (2) ] ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإذا [ (3) ] أعجبه اسمها [فرح بها] ، ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهية [ (4) ] ذلك في وجهه.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للقحة تحلب: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اسمك؟ فقال له الرجل:
مرّة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اسمك؟ فقال: حرب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اسمك؟ فقال يعيش، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: احلب. هكذا رواه مالك مرفوعا عن يحيى [ (5) ] .
وخرج قاسم بن أصبغ من حديث الحسين بن واقد، عن عبد اللَّه بن بريدة [ (6) ] عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يتطير ولكن يتفاءل، فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم، فلقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بماء، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أنت؟ قال: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه فقال: برد أمرنا وصلح، ثم قال: ممن؟ قال: من أسلم، قال: لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: ممن؟
قال: من سهم، قال: خرج سهمك [ (7) ] ، قال بريدة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فمن أنت؟ قال:
__________
[ (1) ] في (خ) : «بشر ذلك» .
[ (2) ] في (ج) : «كراهية» .
[ (3) ] في (خ) : «فإن»
[ (4) ] في (خ) : «كراهة» وما أثبتناه من (المرجع السابق) ، (شعب الإيمان) ج 2 ص 62 حديث رقم (1170) بسياقة أخرى.
[ (5) ] (الموطأ) كتاب الجامع، باب ما يكره من الأسماء، حديث رقم (1776) قال أبو عمر: ليس هذا من باب الطيرة، لأنه محال أن ينهي عن شيء يفعله، وإنما هو من باب طلب الفأل الحسن، وقد كان أخبرهم عن سيّئ الأسماء أنه حرب، ومرّة، وأكّد ذلك حتى لا يتسمى بهما أحد. (شرح الزرقاني على الموطأ) ج 4 ص 490.
[ (6) ] هو بريدة بن الحصيب الأسلمي (ستأتي ترجمته تفصيلا) .
[ (7) ] إلى هنا ورد الخبر في (الاستيعاب) : ج 1 ص 185- 186، ترجمة بريدة بن الحصيب الأسلمي رقم (217) .(2/307)
محمد بن عبد اللَّه، رسول اللَّه، قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك عبده ورسوله. فأسلم بريدة، وأسلم الذين معه جميعا،
فقال [ (1) ] بريدة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تدخل المدينة إلا معك لواء، فحل عامته، ثم شدها في رمح، ثم مشى بين يديه حتى دخل المدينة، قال بريدة: الحمد للَّه الّذي أسلمت [له] بنو سهم طائعين.
وخرج الترمذي من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن أنس، أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا خرج لحاجته، يعجبه أن يسمع: يا راشد.. يا نجيح. قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب صحيح [ (2) ] .
وخرج البزار من حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا أبردتم إليّ بريدا فأبردوه حسن الوجه، حسن الاسم [ (3) ] .
وقال: لا نعلم رواه بهذا الإسناد إلا قتادة.
وقال هشام الدستواني، عن يحيي بن كثير قال: كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أمراء الأجناد: ألا توفدوا إلينا إلا برجل حسن الوجه، حسن الاسم.
وخرّج ابن حبان من حديث مبارك بن فضالة [ (4) ] ، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن
__________
[ (1) ] قال ابن أبي حاتم في (تاريخ الصحابة) : ص 44 ترجمة بريدة بن الحصيب الأسلمي رقم (108) : لحق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل قدومه المدينة فقال: «يا رسول اللَّه لا تدخل المدينة إلا معك لواء» ثم حلّ عمامته، وشدّها في رمح، ومشى بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم قدم المدينة.
[ (2) ] (تحفه الأحوذي) : ج 5 ص 200، حديث رقم (1665) ، قوله: «هذا حديث حسن صحيح» ، وأخرج الشيخان معناه من حديث أبي هريرة، قوله: «كان يعجبه» أي يستحسنه ويتفاءل به، «أن يسمع يا راشد» ، أي واجد الطريق المستقيم، «يا نجيح» ، أي من قضيت حاجته، (صحيح سنن الترمذي) : ج 4 ص 138، حديث رقم (1616) .
[ (3) ]
(المقاصد الحسنة) : ص 149، عند الكلام على الحديث رقم (161) ، «التمسوا الخير عند حسان الوجوه» ،
قال: وله أيضا من حديث عمر بن أبي خثعم، عن يحى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا بعثتم إليّ رجلا فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم» .
وقال أيضا. لا نعلمه روي عن أبي هريرة إلا بهذا الاسناد. قال (السخاوي) : وأحدهما يقوي الآخر.
وفي (المطالب العالية) : ج 2 ص 422، حديث رقم (2638) : الحضرميّ بن لاحق، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إذا أبردتم بريدا فأبروده حسن الوجه حسن الاسم»
(لابن أبي عمر) . وقال في هامشه:
سكت عليه البوصيري.
[ (4) ] أحاديث مبارك بن فضالة في (صحيح ابن حبان) (19) حديثا ليس من بينهم هذا الحديث. (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : ج 18 ص 219 (الفهارس) .(2/308)
نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سمع كلمة فأعجبته، فقال:
أخذنا فألك من فيك [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث عمر بن عليّ المقدّميّ، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يغير الاسم القبيح. وربما قال عمر ابن على عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسل، ولم يذكر فيه [عن] عائشة [ (2) ] .
وخرّج مسلم والترمذي من حديث يحيى عن سعيد عن عبيد اللَّه قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غيّر اسم عاصية، وقال: أنت جميلة [ (3) ] .
ولمسلم من حديث حماد بن سلمة عن عبيد اللَّه عن نافع، عن ابن عمر، أن ابنة لعمر رضي اللَّه عنه يقال لها عاصية، فسماها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جميلة [ (4) ] ، وله من حديث سفيان بن عبد الرحمن- مولى أبي طلحة- عن كريب عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كانت جويرة اسمها برة، فحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اسمها جويرة، وكان
__________
[ (1) ]
(صحيح سنن أبي داود) : ج 2 ص 472، رقم (3317- 3917) ، (المجموعة الصحيحة) :
حديث رقم 726، (كشف الخفا) : ج 1 ص 66، حديث رقم (154) ، (المقاصد الحسنة) :
ص 70، حديث رقم (40) من حديث محمد بن يونس، حدثنا عون بن عمارة، حدثنا السري بن يحى، عن الحسن، عن سمرة بن جندب قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعجبه الفأل الحسن، فسمع عليا يوما وهو يقول: هذه خضرة، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا لبّيك قد أخذنا فألك من فيك فاخرجوا بنا إلى خضرة» ،
قال: فخرجوا إلى خيبر، فما سل سيف إلا سيف علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. زاد (العسكري) :
حتى فتح اللَّه عزّ وجلّ. والعسكري هو: أبو هلال العسكري، مؤلف كتاب الصناعتين، وديوان المعاني، وجمهرة الأمثال، وغيرهم، حيث تزيد مؤلفاته على العشرين مصنفا، مات في القرن الخامس.
[ (2) ] (سنن الترمذي) : ج 5 ص 123- 124، حديث رقم (2839) ، (صحيح سنن الترمذي) ج 2 ص 372، باب ما جاء في تغيير الأسماء، حديث رقم (2275- 3007) ، (المجموعة الصحيحة) حديث رقم (207) ، (208) .
[ (3) ]
(المرجع السابق) حديث رقم (2838) : «حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، وأبو بكر محمد بن بشار، وغير واحد قالوا: حدثنا يحى بن سعيد القطان عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غير اسم عاصية، وقال: «أنت جميلة» ، (صحيح سنن الترمذي) : ج 2 ص 372، حديث رقم (2274- 3006) ، قال الألباني: «صحيح» (صحيح سنن ابن ماجة) : ج 2 ص 306 حديث رقم (3008- 3733) ، (المجموعة الصحيحة) حديث رقم (213) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 14 ص 666- 367، حديث رقم (2139)(2/309)
يكره أن يقال: خرج من عند برة [ (1) ] .
وللبخاريّ ومسلم من حديث شعبة عن عطاء بن ميمونة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن زينب كان اسمها برة، فقيل: تزكي نفسها، فسماها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب [ (2) ] .
ولمسلم من حديث الوليد بن كثير قال: حدثني محمد بن عمرو، عن عطاء قال: حدثتني زينب ابنة أم سلمة، قالت: كان اسمي برة، فسماني رسول اللَّه زينب. قالت: دخلت عليه بنت جحش واسمها برة، فسماها زينب [ (3) ] .
ومن حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى عن هذا الاسم، وسمّيت برّة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تزكوا أنفسكم، اللَّه أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب [ (4) ] .
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبيد اللَّه بن عمر، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما ولد الحسن سماه حمزة، فلما ولد الحسين سماه بعمه جعفر فدعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إني أمرت أن أغير اسم هذين، قلت: اللَّه ورسوله أعلم، فسماها، حسنا وحسينا [ (5) ] .
وخرّج قاسم بن أصبغ وأحمد بن حنبل من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما ولد الحسن جاء النبي فقال: أرونى ابني، ما سميتموه؟ قلت: سميته حربا، قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2140) .
[ (2) ] (اللؤلؤ والمرجان) : ج 3 ص 47 حديث رقم (1384) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 14 ص 367 حديث رقم (2142) .
[ (4) ] (المرجع السابق) ، حديث رقم (19) .
قال الإمام النووي في (المرجع السابق) : معنى هذه الأحاديث تغيير الاسم القبيح أو المكروه إلى حسن، وقد ثبتت أحاديث بتغييره صلّى اللَّه عليه وسلّم أسماء جماعة كثيرين من الصحابة، وقد بين العلة في النوعين وما في معناهما، وهي التزكية أو خوف التطيّر.
[ (5) ] (مسند أحمد) : ج 1 ص 159، حديث رقم (1374) .(2/310)
قال: أرونى ابني، ما سميتموه؟ قلت: سميته حربا، قال بل هو حسين، فلما ولد الثالث جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: حربا، قال هو محسن [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث سفيان عن أبي إسحاق عن رجل من جهينة قال سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا يقول: يا حرام، فقال: يا حلال.
ومن حديث يحيى بن أبي بكير، حدثنا عبيد اللَّه بن إياد [ (2) ] بن لقيطة [السدوسي] [ (3) ] عن أبيه عن ليلى امرأة بشير بن الخضامية عن بشير قال: وكان قد أي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واسمه زحم- فسماه النبي بشيرا [ (4) ] .
ومن حديث إسماعيل بن عياش عن بكر بن زرعة الخولانيّ عن مسلم بن عبد اللَّه الأزدي قال: جاء عبد اللَّه بن قرظ الأزدي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: ما اسمك؟
قال: شيطان بن قرظ، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنت عبد اللَّه بن قرظ.
ومن حديث شعبة عن عبد اللَّه بن أبي السفر [ (5) ] عن عامر الشعبي عن عبد بن مطيع بن الأسود، حدثني عدي بن كعب عن أبيه مطيع- وكان اسمه العاصي- فسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مطيعا. قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بقتل هؤلاء الرهط بمكة يقول: لا تغزى مكة بعد هذا اليوم أبدا.
ولأبي داود [ (6) ] من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن
__________
[ (1) ] ثم زاد أسد، ثم
قال: إني سمّيتهم بأسماء ولد هارون: شبّر وشبّر ومشبّر. (الاستيعاب لابن عبد البر) ج 3 ص 100.
[ (2) ] في (خ) «أبان» .
[ (3) ] ما بين القوسين غير واضح في (خ) ، وما أثبتناه من (الجرح والتعديل) ج 2 قسم 2 ص 307 ترجمة رقم (1462) وهو ثقة كما قال عنه يحيى بن معين.
[ (4) ] ونحوه في (سنن أبي داود) ج 3 ص 554 حديث رقم 3230 باب المشي في النعل بين القبور.
[ (5) ] في (خ) «اليفر» وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) ج 4 ص 340 عند ترجمة شعبة بن الحجاج رقم (580) .
[ (6) ] وأخرجه. البخاري في الأدب باب اسم الحزن وفيه [قال ابن المسيّب: فما زالت فينا الحزونة بعد] .(2/311)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: بل أنت سهل، قال: لا، السهل يوطأ ويمتهن،
قال سعيد: فظننت أن ستصيبنا بعده حزونة. قال أبو داود: وغير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اسمه العاص وعزيز وعتلة [ (1) ] ووشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما، وسمى حربا سلما [ (2) ] ، وسمي المضطجع المنبعث، وأرض تسمى عفرة [ (3) ] سماها خضرة، وشعب الضلالة سماها شعب الهدى، وبنى الزّنية سماهم بني الرّشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة [ (4) ] . قال أبو داود: وتركنا أسانيدهما للاختصار.
__________
[ (1) ] العتلة: عمود حديد تهدم به الحيطان، وقيل: حديدة كبيرة يقلع بها الشجر والحجر.
[ (2) ] أما (العاص) : فإنما غيره كراهة لمعنى العصيان، وإنما سمة المؤمن: الطاعة والاستسلام.
و (عزيز) : إنما غيره لأن العزة للَّه سبحانه، وشعار العبد: الذلة والاستكانة، وقد قال سبحانه عند ما يقرع بعض أعدائه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] .
و (عتلة) : معناها الشدة والغلظة، ومنه قولهم: رجل عتلّ: أي شديد غليظ. ومن صفة المؤمن: اللين والسهولة.
و (شيطان) : اشتقاق من الشّطن: وهو البعد عن الخير، وهو اسم المارد الخبيث من الجن والإنس.
و (الحكم) : هو الحاكم الّذي إذا حكم لم يردّ حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير اللَّه سبحانه، ومن أسمائه الحكم.
و (غراب) : مأخوذ من الغرب، وهو البعد. ثم هو حيوان خبيث الفعل، خبيث الطعم، وقد أباح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله في الحل والحرم.
و (حباب) : نوع من الحيات، وقد روي أن الحباب اسم الشيطان.
فقيل: إنه أراد الخبيث من شياطين الجن، وقيل-: أراد نوعا من الحيات يقال لها:
الشياطين. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] .
[ (3) ] وأما (عفرة) : فهي نعت للأرض التي لا تنبت شيئا، أخذت من العفرة، وهي: لون الأرض القحلة فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتمرع.
وقوله: (عقرة) : المحفوظ عقرة بالقاف. كأنه كره اسم العقرة، لأن العاقر هي المرأة التي لا تحمل، وشجرة عاقر: لا تحمل.
[ (4) ] يقال: هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح، كما يقال في ضده: ولد زنية، بالكسر فيهما(2/312)
وخرّج بقي [بن] مخلد من حديث عبدة بن هشام عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرّ بأرض تسمى مجدبة فسماها خضرة.
وخرّج البخاري من حديث الزهري عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء النبي فقال: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال لا أغير اسما سمانيه أبي، قال ابن المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعده. ترجم عليه باب اسم الحزن، وذكره أيضا في باب تحويل الاسم إلي اسم أحسن منه.
[و] [ (1) ] من حديث ابن جريج، أخبرني عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده قدم على النبي فقال: ما اسمك؟
الحديث بنحو منه.
وللبخاريّ ومسلم من حديث أبي غسان حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: أتي بالمنذر بن أبى أسيد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين ولد فوضعه على فخذه وأبو أسيد جالس، فلهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيء بين يديه، فأتي أبو أسيد بابنه فاحتمل من فخذ النبي فأقلبوه [ (2) ] ، فاستفاق النبي [ (3) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أين الصبي؟ فقال أبو أسيد: أقلبناه يا رسول اللَّه، قال ما اسمه؟ قال: فلان، قال: لا، ولكن اسمه المنذر، فسماه يومئذ المنذر. وذكره البخاري [ (4) ] في باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه ولم يقل:
فأقبلوه، وقال: ولكن اسمه المنذر، لم يذكر لا.
وخرّج أبو داود [ (5) ] من حديث بشير ابن ميمون عن عمه عن أسامة بن أخدريّ أن رجلا يقال له أصرم كان في النفر
__________
[ () ] وقيل بالفتح. (معالم السنن للخطابي) على هامش (سنن أبي داود) ج 5 ص 241 وما بعدها، تعليقا على الحديث رقم (4956) .
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] فأقبلوه: أي ردوه وصرفوه في جميع نسخ (صيح مسلم) فأقلبوه بالألف وأنكره جمهور أهل اللغة والغريب وشراح الحديث وقالوا: صوابه قلبوه بحذف الألف. قالوا: قال: قلبت الصبي والشيئ صرفته ورددته.
[ (3) ] أي انتبه من شغله وفكره الّذي كان فيه واللَّه أعلم (مسلم بشرح النووي) ج 14 ص 128.
[ (4) ] (صحيح البخاري) ج 4 ص 80.
[ (5) ] (سنن أبي داود) ج 5 ص 239 حديث رقم (4954) .(2/313)
الذين أتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما اسمك؟ قال [أنا] [ (1) ] أصرم، قال: بل أنت زرعة.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا يزيد بن المقدام بن شريح عن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده هاني بن شريح أنه ذكر أنه أول ما وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قومه سمعهم وهو يكنون هاني أبا الحكم، فدعاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إنه اللَّه هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكن أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء فحكمت بينهم رضي كلا الفريقين، قال: ما أحسن هذا، قال: فما لك من الولد؟ قال:
شريح بن هاني وعبد اللَّه ومسلم قال أين أكبرهم؟ قال: شريح، قال: أنت أبو شريح، فدعاه له ولولده، وسمع القوم وهم يسمون رجلا منهم عبد الحجر فقال: ما اسمك؟ فقال: عبد الحجر، فقال: بل أنت عبد اللَّه- وأنه لما حضر خروج القوم إلى بلادهم أعطى كل رجل منهم [] [ (2) ] في بلاده حيث أحب، إلا أن هانئ قال له: يا رسول اللَّه، أخبرني بشيء يوجب لي الجنة، قال: عليك بحسن الكلام وبذل الطعام. وذكره أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح إلى قوله: فأنت أبو شريح، وبعده قال أبو داود: هذا هو الّذي كسر السلسلة وهو ممن دخل تستر. وخرّجه النسائي [ (3) ] أيضا والبخاري في (الأدب المفرد) [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من نص (أبي داود) .
وإنما غير اسم (أصرم) لما فيه معنى الصّرم وهو القطيعة، يقال: صرمت الحبل: إذا قطعته، وصرمت النخلة، إذا جذذت ثمرها. (معالم السنن للخطابى) ج 5 ص 340.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] (سنن النسائي) ج 8 ص 326 باب إذا حكّموا رجلا فقضى بينهم.
[ (4) ] (فضل اللَّه الصمد) ج 2 ص 283 حديث رقم (811) .(2/314)
فصل في ذكر اجتهاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طاعة ربه ومداومته على عبادته
خرّج البخاري من حديث حيوة عن أبي الأسود، سمع عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها أن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقوم الليل حتى تتفطر [ (1) ] قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول اللَّه وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ فلما كثر لحمه صلّى جالسا فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع [ (2) ] .
__________
[ (1) ] تتفطر: تتشقق
[ (2) ] (فتح الباري) ج 8 ص 751، كتاب التفسير، سورة (48) : باب (2) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً حديث رقم (4837) .
وحيوة: هو ابن شريح المصري. وأبو الأسود: هو محمد بن عبد الرحمن النوفلي المعروف بيتيم عروة، ونصف هذا الإسناد مصريون ونصفه مدنيون. قوله: «فلما كثر لحمه» ، أنكره الداوديّ وقال:
المحفوظ «فلما بدن» أي كبر، فكأن الراويّ تأوله على كثرة اللحم.
وتعقبه أيضا ابن الجوزي فقال: لم يصفه أحد بالسمن أصلا، ولقد مات صلّى اللَّه عليه وسلّم وما شبع من خبز الشعير في يوم مرتين، وأحسب بعض الرواة لما رأى «بدن» ظنه كثر لحمه، وليس كذلك، وإنما هو بدن تبدينا أي أسنّ، قاله أبو عبيدة.
قال الحافظ ابن حجر: وفي استدلاله بأنه لم يشبع من خبز الشعير نظر، فإنه يكون من جملة المعجزات، كما في كثرة الجماع، وطوافه في الليلة الواحدة على تسع وإحدى عشرة، مع عدم الشبع وضيق العيش، وأي فرق بين تكثير المني مع الجوع، وبين وجود كثرة اللحم في البدن مع قلة الأكل؟
وقد أخرج مسلم من طريق عبد اللَّه بن عروة، عن عائشة قالت: «لما بدن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وثقل كان أكثر صلاته جالسا» ، لكن يمكن تأويل قوله: «ثقل» ، أي ثقل عليه حمل لحمه، وإن كان قليلا لدخوله في السن.
قوله: «صلّى جالسا، فإن أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع» في رواية هشام بن عروة عن أبيه، «قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع» ، أخرجاه.
وأخرجا من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة بلفظ، «فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية، قام فقرأها وهو قائم ثم ركع» .
ولمسلم من طريق عمرة عن عائشة: «فإذا أراد أن يركع قام فقرأ قدر ما يقرأ إنسان أربعين آية» .
وقد روى مسلم من طريق عبد اللَّه بن شقيق عن عائشة في صفة تطوعه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفيه: «وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد» . وهذا محمول على حالته الأولى قبل أن يدخل في السنّ جمعا بين الحديثين. (المرجع السابق) : 752.(2/315)
وخرّجه مسلم من حديث أبي صخر عن ابن قسيط عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلّى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول اللَّه! أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:
أفلا أكون عبدا شكورا؟ [ (1) ] .
ولهما من حديث أبي عوانة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ [ (2) ] .
وللبخاريّ من حديث مسعر [ (3) ] عن زياد قال: سمعت المغيرة يقول: إن كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليقوم أو يصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا؟ [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 17 ص 168 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم (81- 2820) .
والتفطر: التشقق، قالوا: ومنه فطر الصائم، وأفطره لأنه خرق صومه وشقه، قال القاضي:
الشكر، معرفة إحسان المحسن والتحدث به، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرا، لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد للَّه تعالى اعترافه بنعمه وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته، وأما شكر اللَّه تعالى أفعال عباده، فمجازاته إياهم عليها، وتضعيف ثوابها، وثناؤه بما أنعم به عليهم، فهو المعطي والمثنى سبحانه، والشكور: من أسمائه سبحانه وتعالى بهذا المعنى، واللَّه أعلم. (المرجع السابق) :
ص 168- 169.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) ج 17 ص 168 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم (79- 2819) .
[ (3) ] في (خ) : «مسعود» وما أثبتناه من (البخاري) .
[ (4) ] (فتح الباري) : ج 3 ص 18 حديث رقم (1130) . قال الحافظ ابن حجر: الفاء في قوله: «أفلا أكون» للسببية، وهي عن محذوف تقديره: أأترك تهجدي فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى: أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا فكيف أتركه؟
قال ابن بطال: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضرّ ذلك ببدنه، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم بذلك، فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار.
ومحل ذلك ما إذا لم يفض إلى الملال، لأن حال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه وإن أضرّ ذلك ببدنه، بل صح
أنه قال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ، كما أخرجه النسائي من حديث أنس،
فأما غيره صلّى اللَّه عليه وسلّم فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يكره نفسه، وعليه يحمل
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن اللَّه لا يمل حتى تملوا» .(2/316)
وله من حديث أبي عيينة، أخبرنا زياد أنه سمع المغيرة يقول: قام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال:
أفلا أكون عبدا شكورا؟ [ (1) ] .
وخرّج قاسم بن أصبغ من حديث سفيان عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جعلت قرة عيني الصلاة [ (2) ] ، وكان يصلي حتى ترم قدماه، قال: فقيل له يا رسول اللَّه! أليس قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟
وله من حديث شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟
وخرّج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أن عليا قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أصبح ببدر من الغد أحيا تلك الليلة كلها وهو مسافر [ (3) ] .
__________
[ () ] وفيه: مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل، كما يكون باللسان، كما قال تعالى:
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد اللَّه خوفا من الذنوب وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النّعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك.
والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمّي شكورا، ومن ثم قال سبحانه وتعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وفيه: ما كان عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الاجتهاد في العبادة، والخشية من ربه، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدّة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة اللَّه تعالى عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوقه أعظم من أن يقوم بها العباد. وطرفه في الحديث رقم (6471) .
[ (1) ]
(المرجع السابق) : ج 8 ص 751 حديث رقم (4836) : «حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا ابن عيينة، حدثنا زياد أنه سمع المغيرة يقول: «قام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا» .
[ (2) ] (البداية والنهاية) : ج 6 ص 30، (كنز العمال) : ج 7 ص 286 حديث رقم (18912) ، الطبراني عن أنس.
[ (3) ] (الإحسان) : ج 11 ص 73، حديث رقم (4759) ، إسناده حسن، رجاله رجال الشيخين،(2/317)
ومن حديث شعبة عن حارثة بن مضرب عن علي رضي اللَّه عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح [ (1) ]
وخرّج الإمام أحمد من حديث مالك عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر عن أبي يوسف مولى عائشة عن عائشة أن [رجلا سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] فقال: يا رسول اللَّه، تدركني الصلاة وأنا جنب، وأنا أريد الصيام فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال الرجل: إنا لسنا مثلك، قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول اللَّه وقال:
واللَّه إني لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه عز وجل وأعلمكم بما أتقى [ (2) ]
وخرّج ابن عساكر من حديث آدم، أخبرنا أبو شيبة عن عطاء الخراساني عن أبي عمران الجوني عن عائشة قالت: كان أحب الأعمال إلى رسول اللَّه أربعة، فعملان يجهدان ماله وعملان يجهدان جسده، فأما اللذان يجهدان ماله فالجهاد والصدقة، وأما اللذان يجهدان جسده فالصوم والصلاة [ (3) ] .
وخرّج من حديث عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريح قال: قال عبد اللَّه بن أبي مليكة: سمعت أهل عائشة يذكرون عنها أنها كانت تقول: كان رسول اللَّه شديد الإنصاب لجسده في العبادة، غير أنه حين دخل في السن وثقل من اللحم كان أكثر ما يصلي وهو قاعد [ (3) ] .
__________
[ () ] غير حارثة بن مضرب، فقد روى له أصحاب السنن، وهو ثقة، والأزرق بن علي، ذكره المؤلف في الثقات وقال: يغرب، وروى عنه أبو يعلي، وابن عاصم، وعبد اللَّه بن أحمد، وأبو زرعة، وغيرهم، وأخرج له الحاكم في (المستدرك) ، وقد اعتمد الشيخان رواية يوسف بن أبي إسحاق، وهو يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، عن جده.
[ (1) ] (المرجع السابق) : ج 6 ص 32 حديث رقم (2257) ، وإسناده صحيح. رجاله ثقات رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب، وهو ثقة روى له أصحاب السنن.
[ (2) ] (مسند أحمد) : ج 7 ص 100، حديث رقم (23864) ، ص 349، حديث رقم (25552) باختلاف يسير، من حديث عائشة أيضا.
[ (3) ] لم أظفر بهما فيما بين يديّ من مراجع.(2/318)
وخرّج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] وأبو داود [ (3) ] من حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيّكم تستطيعون ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستطيع. ذكره البخاري في كتاب الرقاق، وفي كتاب الصيام [ (4) ]
وخرّج البخاري من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثني أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إياكم والوصال، قال:
قلت: فإنك تواصل يا رسول اللَّه، قال: إني لست في ذاكم مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما لكم به طاقة [ (5) ] . وخرّجه مسلم من
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : ج 4 ص 295، حديث رقم (1987) ولفظه: حدثنا مسدّد، حدثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة «قلت لعائشة رضي اللَّه عنها: هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يختصّ من الأيام شيئا؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطيق» ؟ و (المرجع السابق) : ج 11 ص 355، حديث رقم (6466) ، «سألت أم المؤمنين عائشة قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يستطيع» ؟
قوله: «كان عمله ديمة» ، بكسر الدال المهملة وسكون التحتانية أي دائما، والديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق، ثم استعمل في غيره، وأصلها الواو، فانقلبت بالكسرة قبلها ياء.
قوله: «وأيكم يستطيع» أي في العبادة، كمية كانت أو كيفية من خشوع وخضوع وإخبات وإخلاص. واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 6 ص 319 حديث رقم (217- 783) ، «حدثنا زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، قال زهير: حدثنا جرير عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة، قال: قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هل كان يخص شيئا من الأيام؟
قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستطيع» ؟.
[ (3) ] (عون المعبود) : ج 4 ص 170، حديث رقم (1367) .
[ (4) ] وأخرجه أيضا:
الإمام أحمد في (المسند) : ج 7 ص 66، حديث رقم (23642) ، ص 83، حديث رقم (23761) ، ص 271، حديث رقم (25034) ، وفي (الزهد) : ص 8.
ابن حبان في صحيحه، (الإحسان) : ج 2 ص 26، حديث رقم (322) ، ج 8 ص 408، حديث رقم (3647) .
[ (5) ] (فتح الباري) : ج 4 ص 258، حديث رقم (1966) ، قوله: «بما تطيقون» ، في رواية أحمد:
«بما لكم به طاقة» ، وكذا لمسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج. قوله: «يطعمني ويسقيني» ، أي(2/319)
أوجه [ (1) ] .
وخرّجا معناه من حديث ابن عمر وأنس وعائشة والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة من [حديث] سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد اللَّه عن خالد بن عبد اللَّه بن الحسين قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما رأيت أحدا أكثر أن يقول:
أستغفر اللَّه وأتوب إليه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم مائة مرة [ (2) ] .
__________
[ () ] يشغلني بالتفكر في عظمته، والتملي بمشاهدته، والتغذي بمعارفه، وقره العين بمحبته، والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه عن الطعام والشراب. وإلى هذا جنح ابن القيم وقال: قد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح، عن كثير من الغذاء الجسماني.
ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه، الّذي قرت عينه بمحبوبه. (المرجع السابق)
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 7 ص 220، حديث رقم (58- ( ... )) ، قوله: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» معناه: يجعل اللَّه تعالى في قوة الطاعم والشارب، وقيل: هو على ظاهره، وأنه يطعم من طعام الجنة كرامة له، والصحيح الأول، لأنه لو أكل حقيقة، لم يكن مواصلا.، قوله:
«فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون» ، هو بفتح اللام، ومعناه: خذوا وتحملوا. (المرجع السابق) .
وخرجه أيضا: الإمام أحمد في (المسند) : ج 2 ص 461، حديث رقم (7122) ، وص 484، حديث رقم (7286) .
البيهقي في (السنن الكبرى) ج 4 ص 282، باب النهي عن الوصال في الصوم.
مالك في (الموطأ) : ج 2 ص 240، حديث رقم (676) ، باب النهي عن الوصال في الصيام، وص 243، حديث رقم (677) ، قوله: (إني لست كهيئتكم) ، أي ليس حالي كحالكم، والمراد لست كأحدكم. (شرح الزرقاني على الموطأ) .
الدارميّ في (السنن) : ج 2 ص 8 باب النهي عن الوصال في الصوم.
[ (2) ] (مسند أحمد) : ج 3 ص 202، حديث رقم (9515) ، (حلية الأولياء) : ج 2 ص 88، ترجمة رقم (173) ، أبو بكر بن عبد الرحمن وقال فيه «أكثر من سبعين مرة» ثم قال: رواه عقيل وغيره عن الزهري، ولم يروه عن موسى بن عقبة إلا سليمان، (فتح الباري) : ج 11 ص 121، حديث رقم (6307) باب استغفار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في اليوم والليلة،
قوله: إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه»
ظاهره أنه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثاني ما
أخرجه النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر، أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «أستغفر اللَّه الّذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة» .
وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ «إنا كنا لنعد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المجلس:
رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة» ، (كنز العمال) : ج 1 ص 483 حديث رقم (2113- 2114) ، (صحيح سنن ابن ماجة) ج 2 ص 321، حديث رقم (3076- 3815) ، وقال فيه: «مائة مرة» ، قال الألباني: حسن صحيح، (المرجع السابق) :(2/320)
وله من حديث مغيرة بن أبي الخواء الكندي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونحن جلوس فقال: ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت اللَّه فيها مائة مرة [ (1) ] .
وله من حديث عفان عن حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت عن أبي بردة عن [الأغر المزني] [ (2) ] قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إنه ليغان على قلبي حتى استغفر اللَّه في كل يوم مائة مرة [ (3) ] .
__________
[ () ] حديث رقم (3077- 3816) ، وقال فيه «سبعين مرة» ، قال الألباني: صحيح.
[ (1) ] (المطالب العالية) : ج 3 ص 197، حديث رقم (2342) ، رواه الطبراني بغير هذا اللفظ، وبزيادة. «وأتوب إليه» قال الهيثمي: رجال أحد إسناديه رجال الصحيح (10/ 209) ، وصحح إسناده البوصيري (3/ 96) .
[ (2) ] ما بين القوسين غير واضح في (خ) ، وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 17 ص 26- 27، حديث رقم (41- 2702) باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وقال فيه: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللَّه في اليوم مائة مرة» .
قال أهل اللغة: الغين والغيم بمعنى، والمراد هنا ما يتغشّى القلب. قال القاضي:
قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الّذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل، عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه.
وقيل: هو همه بسبب أمته، وما أطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم.
وقيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنبا بالنسبة إلي عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه، من حضوره مع اللَّه تعالى، ومشاهدته، ومراقبته، وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك.
وقيل: يحتمل أن يكون هذا الغين هو السكينة التي تغشي قلبه، لقوله تعالى: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ (آية 18/ الفتح) ، ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والافتقار، وملازمة الخشوع، وشكرا لما أولاه.
وقيل: يحتمل أن يكون هذا الغين حال خشية وإعظام يغشي القلب، ويكون استغفاره شكرا كما سبق.
وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية، مما تتحدث به النفس، فهو شأنها، واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
(عون المعبود) : ج 4 ص 265، حديث رقم (1512) وقال فيه: «في كل يوم مائة مرة» ، قال في النهاية: وغينت السماء تغان إذا أطبق عليها الغيم، وقيل: الغين شجر ملتف. أراد ما يغشاه من السهو الّذي لا يخلو منه البشر، لأن قلبه أبدا كان مشغولا باللَّه تعالى، فإن عرض له وقتا ما عارض بشريّ يشغله عن أمور الأمة أو الملة ومصالحهما، عدّ ذلك ذنبا وتقصيرا، فيفرغ إلى الاستغفار.(2/321)
ومن حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أبي بردة عن رجل من أصحابه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنه ليغان على قلبي فأستغفر اللَّه كل يوم مائة مرة.
ومن حديث سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: حدثني أبو بردة قال:
جلست إلى رجل من المهاجرين يعجبني تواضعه، فسمعته يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا أيها الناس توبوا إلى اللَّه واستغفروه فإنّي أتوب إلى اللَّه وأستغفره كل يوم [مائة] مرة، أو قال: أكثر من مائة مرة [ (1) ] .
__________
[ () ] وقال السيوطي: هذا من المتشابه الّذي لا يعلم معناه. وقد وقف الأصمعي إمام اللغة على تفسيره وقال: لو كان قلب غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لتكلمت عليه.
وقال السنديّ: وحقيقته بالنظر إلى قلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تدري، وإن قدره صلّى اللَّه عليه وسلّم أجلّ وأعظم مما يخطر في كثير من الأوهام، فالتفويض في مثله أحسن، نعم القدر المقصود بالإفهام مفهوم، وهو أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يحصل له حالة داعية إلي الاستغفار، فيستغفر كل يوم مائة مرة، فكيف غيره. واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
(مسند أحمد) : ج 5 ص 242، حديث رقم (17392) ، وقال فيه: فإنّي أستغفر اللَّه» ، وحديث رقم (17393) ، وقال فيه: «حتى أستغفر اللَّه» . كلاهما من حديث الأغرّ المزنيّ رضى اللَّه تعالى عنه.
(السنن الكبرى للبيقهي) : ج 7 ص 52 باب: كان يغان على قلبه، فيستغفر اللَّه ويتوب إليه في اليوم مائة مرة.
(إتحاف السادة المتقين) : ج 5 ص 284، كتاب الأذكار والدعوات، الباب الثاني: قوله: «إنه ليغان على قلبي» ، الغين: شيء رقيق من الصدأ يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية، وهو كالغيم الرقيق الّذي يعرض في الهواء، فال يحجب الشمس، لكنه يمنع ضوءها. والمزني، له صحبه، روى عنه معاوية ابن قرة، وأبو بردة. (المرجع السابق) .
(جامع الأصول) : ج 4 ص 386، حديث رقم (2443) ، قوله: «ليغان على قلبي» ، أي ليغطي ويغشى، والمراد به: السهو، لأنه كان لا يزال في مزيد من الذكر والقربة، ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات، أو نسي، عدّه ذنبا على نفسه، ففزع إلى الاستغفار. (المرجع السابق) .
(كنز العمال) : ج 1 ص 476) ، حديث رقم (2075) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) ج 17 ص 27، حديث رقم (42- ( ... )) ،
وقوله: «يا أيها الناس توبوا إلى اللَّه فإنّي أتوب في اليوم مائة مرة» ،
هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، (آية 31/ النور) ، (آية 8/ التحريم) على الترتيب. وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلّى اللَّه عليه وسلّم، ونحن إلى الاستغفار والتوبة أحوج.
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها،(2/322)
ورواه النضر بن شميل من حديث محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث داود عن الشعبي عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يكثر في آخر أمره من قول: سبحان اللَّه وبحمده أستغفر اللَّه وأتوب إليه، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه! ما لي أراك تكثر من قول سبحان اللَّه وبحمده أستغفر اللَّه وأتوب إليه؟ قال: إني ربي عزّ وجل كان أخبرني أني
__________
[ () ] وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع، وهو رد الظلامة إلى صاحبها، أو تحصيل البراءة منه. والتوبة من أهم قواعد الإسلام، وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة. (المرجع السابق) .
(مسند أحمد) : ج 5 ص 242، حديث رقم (17394) من حديث الأغرّ المزني، ص 222، حديث رقم (17828) من حديث الأغر المزني أيضا، ص 322، حديث رقم (1729) عن رجل رضي اللَّه عنه، حديث رقم (17830) ، من حديث رجل من المهاجرين رضي اللَّه عنه، لعل الرجل المجهول في هذين الحديثين هو الأغرّ المزني، ج 6 ص 570، حديث رقم (22977) ، من حديث شيخ من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس عن حميد بن هلال، عن أبي بردة قال: جلست إلي شيخ من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسجد الكوفة، فحدثني فقال:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- أو قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-: «يا أيها الناس توبوا إلى اللَّه واستغفروه، فإنّي أتوب إلى اللَّه وأستغفره كل يوم مائة مرة، فقلت: اللَّهمّ إني أستغفرك اثنتان، قال: هو ما أقول لك.
(علل الحديث) : ج 2 ص 137 حديث رقم (1904) : سألت أبي عن حديث رواه يحيى القطان، عن سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي برزة، عن رجل من المهاجرين يعجبني تواضعه ... فذكر الحديث. قال أبي: يقال إن هذا الرجل هو الأغر المزني، وله صحبه. (المرجع السابق) .
(المجموعة الصحيحة) : ج 3 ص 435، حديث رقم (1452) ، قال الألباني: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وجهالة الصحابي لا تضر، ويبدو أنه الأغر المزني.
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) : ج 2 ص 1254، كتاب الأدب، حديث رقم (3815) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال فيه: «مائة مرة» وحديث رقم (3816) : حدثنا على بن محمد، حدثنا وكيع، عن مغيرة بن أبي الحرّ، عن سعيد ابن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن جده، وقال فيه: «سبعين مرة» .
(صحيح سنن ابن ماجة» : ج 2 ص 321، باب الاستغفار، حديث رقم (3076- 3815) ، قال الألباني: حسن صحيح، وحديث رقم (3077- 3816) ، قال الألباني، صحيح.(2/323)
سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا، فقد رأيتها، إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [ (1) ] .
وخرّج البخاري ومسلم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السليماني عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقرأ عليّ القرآن، فقلت: يا رسول اللَّه! أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، قال:
[فقرأت عليه] حتى إذا بلغت فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [ (2) ] ، فرفعت بصري أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. وقال البخاري: إني أحب أن أسمعه من غيري- وهنا انتهى حديثه- لم يذكر ما بعده. ترجم عليه باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره، وذكره في باب البكاء عند قراءة القرآن [ (3) ] .
__________
[ (1) ] سورة النصر
(مسند أحمد) : ج 7 ص 54، حديث رقم (23545) من حديث السيدة عائشة رضي اللَّه عنها.
(ابن كثير في التفسير) ج 4 ص 602 قال: ورواه مسلم من طريق داود بن هند به، وقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص، حدثنا عاصم عن الشعبي، عن أم سلمة قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيئ إلا قال: «سبحان اللَّه وبحمده، فقلت: يا رسول اللَّه! رأيتك تكثر من سبحان اللَّه وبحمده، لا تذهب ولا تجئ، ولا تقوم ولا تقعد، إلا قلت: «سبحان اللَّه وبحمده» ؟ قال: إني أمرت بها، فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة. غريب.
ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن عمرو بن مرة، عن شعبة، عن إسحاق به.
والمراد بالفتح هنا، فتح مكة قولا واحدا، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح اللَّه عليه مكة دخلوا في دين اللَّه أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام. وللَّه الحمد والمنة. (المرجع السابق) .
[ (2) ] آية 41/ النساء
[ (3) ] (اللؤلؤ والمرجان) ج 1 ص 155 باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر، حديث رقم (463) .
(فتح الباري) : ج 9 ص 115، باب (32) من أحبّ أن يستمع القرآن من غيره، وباب (33) قول المقرئ للقارئ: حسبك، حديث رقم (5049) ، (5050) . قال ابن بطال:
يحتمل أن يكون أحبّ أن يسمعه من غيره، ليكون عرض القرآن سنة. ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله بالقراءة(2/324)
وفي رواية لمسلم: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على المنبر اقرأ عليّ، فذكره [ (1) ] .
وذكر البخاري في كتاب التفسير من حديث سفيان عن سليمان عن إبراهيم عن عبيده عن عبد اللَّه قال يحيى بعض الحديث «عن عمرو بن مرة قال: قال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم اقرأ عليّ، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً قال: أمسك، فإذا عيناه تذرفان» [ (2) ] .
وذكره في فضائل القرآن وكرره [ (3) ] . وذكر له مسلم عدة طرق.
وخرج الترمذي من حديث عبد اللَّه بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يصلي،
__________
[ () ] وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلّى اللَّه عليه وسلّم على أبيّ بن كعب، فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة، ومخارج الحروف، ونحو ذلك. باختصار من (المرجع السابق) .
(المرجع السابق) : ص 121، باب 35 البكاء عند قراءة القرآن، حديث رقم (5055) ، (5056) . قال الغزالي: يستحب البكاء مع القراءة وعندها، وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف، بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد، والمواثيق والعهود، ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على ذلك، فإنه من أعظم المصائب.
قال ابن بطال: إنما يبكي عند تلاوة هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة حال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له طول البكاء.
والّذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته، لأنّه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيما، فقد يفضي إلى تعذيبهم. واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : ج 6 ص 334- 335، باب (40) ، فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع والبكاء عند القراءة والتتبع حديث رقم (247- 800) ، وحديث رقم (248- ... ) ، وفي هذا الحديث من الفوائد:
استحباب استماع القراءة والإصغاء لها، والبكاء عندها، وتدبرها، واستحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه تواضع أهل العلم والفضل، ولو مع أتباعهم. (المرجع السابق) .
[ (2) ] (فتح الباري) : ج 8 ص 317، كتاب التفسير، حديث رقم (4582)
[ (3) ] (المرجع السابق) : ج 9 ص 115، كتاب فضائل القرآن باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره، حديث رقم (5049) ، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك، حديث رقم (5050) .(2/325)
ولجوفه أزيز [ (1) ] كأزيز المرجل (من البكاء) [ (2) ] .
وخرجه ابن حبان من حديث هدبة عن حماد بمثله سواء [ (3) ] .
ورواه يزيد بن هارون عن حماد عن ثابت عن مطرف عن أبيه أنه قال: رأيت
__________
[ (1) ] أزيز: أي خنين من الخوف بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء، وقيل: هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. (النهاية) : ج 1 ص 45، ومنه الحديث: «فإن المسجد يتأزز» أي يموج فيه الناس وفي حديث الأستر: «كان الّذي أزّ أم المؤمنين على الخروج ابن الزبير» ، أي هو الّذي حرّكها وأزعجها وحملها على الخروج، وفي رواية أخرى: «أن طلحة والزبير أزّا عائشة حتى خرجت» . وقال الحربي:
الأزّ أن تحمل إنسانا على أمر بحيلة ورفق حتى يفعله. (المرجع السابق) ، وفي التنزيل: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا آية 83/ مريم.، (الشمائل المحمدية) : ص 263 باب ما جاء في بكاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (323) .
[ (2) ] ما بين القوسين زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] (الإحسان) : ج 2 ص 439، كتاب الرقاق، باب الخوف، والتقوى، ذكر البيان بأن المرء إذا تهجّد بالليل وخلا بالطاعات، يجب أن تكون حالة الخوف عليه غالبة لئلا يعجب بها وإن كان فاضلا في نفسه، تقيا في دينه، حديث رقم (665) : أخبرنا أبو يعلي، حدثنا حوثرة بن أشرس العدوي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن مطرّف بن عبد اللَّه بن الشّخّير، عن أبيه قال: «دخلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المسجد وهو قائم يصلي، وبصدره أزيز كأزيز المرجل» . إسناده صحيح، حوثرة بن أشرس: روي عنه أبو حاتم وأبو زرعة فيما ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) : ج 3 ص 283، ترجمة رقم (1262) . وقال ابن حجر في (تعجيل المنفعة) : ص 109، ترجمة رقم (243) : روى عن حماد ابن سلمة، وأبي الأشهب وجماعة، وروى عنه عبد اللَّه بن أحمد، ومسلم بن الحجاج خارج الصحيح، وأبو يعلي وغيرهم، مات سنه إحدى وثلاثين ومائة، ذكره ابن حبان في (الثقات) ج 8 ص 215 وقال: «حوثرة بن أشرس العدوي، أبو عامر، من أهل البصرة، يروي عن حماد بن سلمة والبصريين، حدثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلي» . وباقي رجاله ثقات على شرط الصحيح.
و (الإحسان) ج 3 ص 30- 31، حديث رقم (753) من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بهذا الإسناد، وقال في آخره: «من البكاء» .
قال أبو حاتم رضي اللَّه عنه: في هذا الخبر بيان واضح أن التحزن الّذي أذن اللَّه، جلّ وعلا، فيه بالقرآن، واستمع إليه وهو التحزن بالصوت مع بدايته ونهايته، لأن بداءته هو العزم الصحيح على الانقلاع عن المزجورات، ونهايته وفور التشمير في أنواع العبادات، فإذا اشتمل التحزن على البداية التي وصفتها، والنهاية التي ذكرتها، صار المتحزن بالقرآن كأنه قذف بنفسه في مقلاع القربة إلي مولاه، ولم يتعلق بشيء دونه.
و (مسند أحمد) : ج 4 ص 604، حديث رقم (15882) ، عن عبد الرحمن بن مهدي، حديث رقم (15891) ، عن عفان، كلاهما من حديث مطرف بن عبد اللَّه عن أبيه رضي اللَّه تعالى عنهما.(2/326)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي وفي صدره أزيز أزيز الرحى من البكاء [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث أبي كريب، أخبرنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! أراك شبت! قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (عون المعبود) : ج 3 ص 121، باب البكاء في الصلاة، حديث رقم (899) ، «المرجل» :
القدر من حديد، أو حجر، أو خزف، لأنه إذا نصب كأنه أقيم على الرجل.
وفي الحديث دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة سواء ظهر منه حرفان أم لا، وقد قيل: إن البكاء من خشية اللَّه لم يبطل، وهذا الحديث يدل عليه. ويدل عليه أيضا ما
رواه ابن حبان بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» ،
وبوّب عليه: ذكر الإباحة للمرء أن يبكي من خشية اللَّه.
واستدل على جواز البكاء في الصلاة بقوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا آية 58/ مريم.
(صحيح سنن أبي داود) : ج 1 ص 170 باب البكاء في الصلاة، حديث رقم 7991- 904) قال الألباني: صحيح.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : ج 1 ص 396، حديث رقم (971- 298) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. والبيهقي في (السنن الكبرى) ج 2 ص 251، باب من بكى في صلاته فلم يظهر من صوته ما يكون كلاما له هجاء، إلا أنه قال: «ولجوفه أزيز كأزيز المرجل» ، من طريق يزيد بن هارون.
و (النسائي) : ج 3 ص 18، كتاب السهو، باب البكاء في الصلاة، حديث رقم (1213) .
(صحيح سنن النسائي) : ج 1 ص 260 حديث رقم (1156) . قال الألباني: صحيح.
[ (2) ] (الشمائل المحمدية) ص 56- 57، حديث رقم (41) ، وفيه: «يا رسول اللَّه قد شبت» . وهو صحيح بشواهده، أخرجه الترمذيّ في (الجامع الصحيح) : ج 5 حديث رقم (3297) ، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وروى عليّ بن صالح هذا الحديث عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة نحو هذا. وروي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة شيء من هذا مرسلا.
وروى أبو بكر بن عيّاش عن أبي إسحاق عن عكرمة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو حديث شيبان عن أبي إسحاق، ولم يذكر فيه عن ابن عباس، حدثنا بذلك هاشم بن الوليد الهرويّ، حدثنا أبو بكر بن عيّاش.
(صحيح سنن الترمذي) : ج 3 ص 113 حديث رقم (2627- 3528) ، قال الألباني صحيح.
(الصحيحة) : ج 2 ص 676، حديث رقم (955) .(2/327)
وروى علي بن صالح هذا الحديث عن أبي إسحاق عن أبي جحيفه نحو هذا [ (1) ] ، وقد روى عن أبي الحق عن أبي ميسرة شيء من هذا مرسلا، ورواه معاوية ابن هشام أيضا عن شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! أسرع عليك الشيب! فقال: شيبتني هود، وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت [ (2) ] .
وقال سيف بن عمر عن محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس قال: ألظّ [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالواقعة والحاقة، وعم يتساءلون، والنازعات، وإذا
__________
[ () ] وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : ج 2 ص 518، حديث رقم (3777/ 914) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وابن سعد في (الطبقات) : ج 1 ص 435: أخبرنا يعلي بن عبيد، أخبرنا حجاج بن دينار بن محمد بن واسع قال: قيل: «يا رسول اللَّه أسرع عليك الشيب! قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: شيبتني الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ وأخواتها» ،
وعن الزهري عن أبي سلمة قال: قيل: «يا رسول اللَّه نرى في رأسك شيبا! قال: ما لي لا أشيب وأنا أقرأ هودا وإذا الشمس كورت؟» .
[ (1) ] أخرجه أيضا أبو نعيم في (الحلية) ج 4 ص 350، وقال: اختلف على أبي إسحاق، فرواه أبو إسحاق عن أبي جحيفة، وروى عنه عمرو بن شرحبيل، عن أبي بكر، وروى عنه عن مسروق عن أبي بكر، وروى عنه مصعب بن سعد عن أبيه، وروى عنه عن عامر بن سعد عن أبي بكر، وروى عنه عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، رضي اللَّه تعالى عنهم. (المرجع السابق) .
والبيهقي في (الدلائل) ج 1 ص 357- 358، وللحديث شواهد من حديث عقبة بن عامر، وأنس، وعمران بن حصين، وأبي سعيد، وسهل بن سعد وغيرهم.
وأخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) ج 3 ص 145 من حديث ابن سيرين عنه بلفظ «شيبتني هود وأخواتها» عند ترجمة محمد بن غالب أبو جعفر التمتام رقم (1176) .
[ (2) ] الحديث صحيح بشواهده كما سبق.
[ (3) ] ألظّ بالمكان، وألظّ عليه: أقام به وألحّ. وألظّ بالكلمة: لزمها. والإلظاظ: لزوم الشيء والمثابرة عليه.
يقال: ألظظت به ألظ إلظاظا. وألظّ فلان إذا لزمه. ولظّ بالشيء: لزمه مثل ألظّ به. (النهاية) : 4/ 252، (لسان العرب) : 7/ 159، (الفائق) : 3/ 317. ومنه حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الّذي أخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 189، حديث رقم (17143) ، وابن كثير في (التفسير) :
4/ 301 في تفسير سورة الرحمن: «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» وهذا الحديث أخرجه ابن حجر في (الكافي الشافي) : ص 62، حديث رقم (77) ، الترمذي من رواية يزيد الرقاشيّ. عن أنس، ويزيد ضعيف، ومن رواية مؤمل عن حماد بن حميد عن أنس مرفوعا، وقال غيره: مخفوضا، وإنما هو عن حماد عن حميد عن الحسن مرسلا وهو أصح، وأخرجه من رواية مؤمل إسحاق وابن أبي شيبة وبالثاني أبو يعلي والبزار. قال ابن أبي حاتم في (العلل) : 2/ 170، 2/ 192، عن أبيه: أخطأ فيه مؤمل،(2/328)
الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، فاستطار [ (1) ] فيه القتير [ (2) ] فقال له أبو بكر رضي اللَّه عنه: أسرع فيك القتير [ (2) ] ! بأبي أنت وأمي، فقال: شيبتني هود وصواحباتها [ (3) ] هذه، وفيها، والمرسلات.
وخرّج البخاري من حديث أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لن ينجى أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟
قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة، سدّدوا، وقاربوا، وأغدوا، وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصد القصد (تبلغوا) [ (4) ] ذكره في الرقاق [ (5) ]
__________
[ () ] والصحيح ما رواه أبو سلمة عن حماد عن ثابت. وحميد عن الحسن مرسلا، ورواه ابن مردويه من رواية روح بن عبادة، عن حماد، عن حميد عن أنس موصولا أيضا، وهذه متابعة قوية لمؤمل.
وفي الباب عن ربيعة بن عامر بن نجاد، أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 676، حديث رقم (1836/ 36) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه، وفيه رشد بن سعد، وهو ضعيف، وعن ابن عمر أخرجه ابن مردويه، وإسناده ضعيف.
[ (1) ] استطار: انتشر وتفرق كأنه طار في نواحيها، ومنه استطار الصدع في الحائط إذا انتشر فيه، واستطار البرق إذا انتشر في السماء. (لسان العرب) : 4/ 513.
[ (2) ] القتير: الشيب (سنن أبي داود) : ج 2 ص 581، كتاب النكاح، باب في تزويج من لم يولد، وقال في (لسان العرب) : القتير: هو الشيب، أول ما يظهر منه، وفي الحديث: «ويقرن أيّ النساء هي اليوم؟ قال: قد رأت القتير» ، قال الخطابي: يريد بسنّ أيّ النساء هي، والقرن: بنو سنّ واحد، يقال: هؤلاء قرن زمان، وفي النهاية: بقرن أي النساء هي؟ أي بسنّ أيتهن؟، قد رأت القتير: كناية عن تجاوزها سنّ التزويج. (عون المعبود) : 3/ 93، (لسان العرب) : 5/ 72.
[ (3) ] لم أقف على حديث شيبتني هود بلفظ (صواحباتها) .
[ (4) ] تتمه من البخاري.
[ (5) ]
(فتح الباري) : 11/ 355، حديث رقم (6463) ، وبعده حديث رقم (6464) : «عن عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «سدّدوا وقاربوا، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى اللَّه أدومها وإن قلّ»
قوله: «ينجي» ، أي يخلص، والنجاة من الشيء: التخلص منه، قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ما محصله: أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها، ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير:
ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول.
وقال القاضي عياض: طريق الجمع أن الحديث فسّر ما أجمل في الآية، فذكر نحوا من كلام ابن بطال(2/329)
__________
[ () ] الأخير، وأن من رحمة اللَّه توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل اللَّه ورحمته.
وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول أن التوفيق للعمل من رحمة اللَّه، ولولا رحمة اللَّه السابقة ما حصل الإيمان، ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني، أن منافع العبد لسيده، فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله.
الثالث، جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة اللَّه، واقتسام الدرجات بالأعمال.
الرابع، أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا ينفد، والإنعام الّذي لا ينفد في جزاء ما ينفذ بالفضل لا بمقابلة الأعمال.
وقال ابن القيم في كتاب (مفتاح دار السعادة) : الباء المقتضية للدخول، غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة، نحو اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة اللَّه لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضا لها، لأنه لو وقع على الوجه الّذي يحبه اللَّه لا يقاوم نعمة اللَّه، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها، وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذّبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة، كانت رحمته خيرا من عمله، كما في حديث أبيّ بن كعب، الّذي أخرجه أبو داود وابن ماجة في ذكر القدر، ففيه: «لو أن اللَّه عذّب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم» .
قال: وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه. والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه، وأن دخولها بمحض الأعمال. والحديث يبطل دعوى الطائفتين.
قوله: «قالوا ولا أنت يا رسول اللَّه» ؟ قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة اللَّه، فوجه تخصيص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة اللَّه، فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى.
قوله: «برحمة» ،
في رواية أبي عبيد: «بفضل ورحمة» ،
وفي رواية الكشميني من طريقه: «بفضل رحمته» ،
وفي رواية الأعمش: «برحمة وفضل» ،
وفي رواية بشر بن سعيد: «منه برحمة» ،
وفي رواية ابن عون: «بمغفرة ورحمة»
قال أبو عبيد: المراد بالتغمد، الستر، وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف، لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به.
قال الرافعي: في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات، لأنه إنما عمل بتوفيق اللَّه، وإنما ترك المعصية بعصمة اللَّه، فكل ذلك بفضله ورحمته.
قوله: «سدّدوا» ، في رواية بشر بن سعيد، عن أبي هريرة عند مسلم: «ولكن سدّدوا» ، ومعناه: اقصدوا السداد، أي الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل: بل له فائدة، وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة، فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم، فينزل عليكم(2/330)
وخرّجه مسلم من حديث ليث عن بكير عن بسر بن سعيد عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: لن ينجي أحدا منكم عمله، قال رجل: ولا إياك يا رسول اللَّه؟ قال: ولا إياي إلا أن يتغمدني اللَّه منه برحمة، ولكن سددوا [ (1) ] . وفي رواية له: قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: يا رسول اللَّه، ولا أنت؟ قال: وقال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل [ (2) ] .
__________
[ () ] الرحمة. قوله «قاربوا» ، أي لا تفرطوا، فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال، فتتركوا العمل فتفرطوا.
قوله: «واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة» المراد بالغدو السير من أول النهار، وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار، والدلجة (بضم المهملة وسكون اللام ويجوز فتحها وبعد اللام جيم» سير الليل، يقال: سار دجلة من الليل، أي ساعة، فلذلك قال: شيئا من الدجلة لعسر سير جميع الليل.
فكأنه فيه إشارة إلى صيام جميع النهار، وقيام بعض الليل، وإلى أعمّ من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الترفق في العبادة، وهو الموافق للترجمة، وعبّر بما يدل على السّير، لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة. و «شيئا» منصوب بفعل محذوف، أي افعلوا.
قوله: «والقصد القصد» ، بالنصب على الإغراء، أي الزموا الطريق الوسط المعتدل. (المرجع السابق) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 164 باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة اللَّه تعالى: حديث رقم (71- 2816) ، قال الإمام النووي: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب، ولا عقاب، ولا إيجاب، ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع. ومذهب أهل السنة أيضا أن اللَّه تعالى لا يجب عليه شيء- تعالى اللَّه- بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذّب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار، كان عدلا منه، وإذا أكرمهم ونعّمهم وأدخلهم الجنة، فهو فضل منه، ولو نعّم الكافرين وأدخلهم الجنة، كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدق، أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين، ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين ويدخلهم في النار عدلا منه.
وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالفعل، ويوجبون ثواب الأعمال، ويوجبون الأصل، ويمنعون خلاف هذا، في ضبط طويل لهم، تعالى اللَّه عن اختراعاتهم الباطلة، المنابذة لنصوص الشرع.
وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق، أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال، والهداية للإخلاص فيها، وقبولها برحمة اللَّه تعالى وفضله، فيصبح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال، أي بسببها، وهي من الرحمة، واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : ص 166، حديث رقم (76- ( ... )) .(2/331)
وله من حديث معقل عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما من أحد يدخله عمله الجنة، فقيل له: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة. [ (1) ]
وذكره من طرق عديدة.
وللبخاريّ [ (2) ] ومسلم [ (3) ] من حديث موسى بن عقبة قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها كانت تقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه منه برحمته، واعلموا أن أحب العمل إلى اللَّه أدومه وإن قل.
ولابن حبان من حديث جعفر بن عوف قال: حدثنا أبو جناب الكلبي، حدثنا عطاء قال: دخلت أنا وعبد اللَّه بن عمر وعبيد بن عمير على عائشة رضي اللَّه عنها، فقال ابن عمر: حدثيني بأعجب ما رأيت من رسول اللَّه، فسكتت ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى إذا دخل معني في لحافي، وألصق جلده بجلدي، قال: يا عائشة، ائذني لي في ليلتي لربي، فقلت، إني أحب قربك وهواك، فقام إلى قربة في البيت، فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره، ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ووضع يده اليمنى تحت خده، ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، قالت: فجاءه بلال فآذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول اللَّه! أتبكي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ وقال: أفلا أبكي وقد أنزل علي الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [ (4) ] ،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : ص 167، حديث رقم (77- 2817) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 355، حديث رقم (6467) ، وقال: «بمغفرة ورحمة» .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 167 حديث رقم (78- 2818) .
[ (4) ] سورة آل عمران الآيات 190- 191(2/332)
وويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها [ (1) ] .
وله من حديث شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت حارثة بن مضرب يحدث عن علي رضي اللَّه عنه قال: لقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، يعني ليلة القدر [ (2) ] .
وخرّج البخاري من حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها [ (3) ] .
وخرّجاه من طرق متعددة.
__________
[ (1) ]
(الإحسان) : 2/ 386، كتاب الرقائق، باب التوبة، ذكر البيان بأن المرء إذا تخلى لزوم البكاء على ما ارتكب من الحوبات وإن كان بائنا عنها مجتهدا في إثبات ضدها، حديث رقم (620) : أخبرنا عمران ابن موسى بن مجاشع، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سويد النّخعيّ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمّه كما قال الأول: زر غبّا تزدد حبّا. قال: فقالت:
دعونا من طانتكم هذه. قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال:
فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتعبّد الليلة لربي» . قلت: والله إني لأحبّ قربك، وأحبّ ما سرّك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي. قالت: فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره، قالت: ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول اللَّه، لم تبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت عليّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية كلها. إسناده قوي على شرط مسلم، وأخرجه أبو الشيخ في (أخلاق النبي) :
ص 186 عن الفريابي، عن عثمان بن أبي شيبة، بهذا الإسناد.
وله طريق أخرى عن عطاء عند أبي الشيخ ص 190- 991 وفيه أبو جناب الكلبي يحي بن أبي حية، ضعفوه لكثرة تدليسه، لكن صرّح بالتحديث هنا، فانتفت شبهة تدليسه.
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.
[ (3) ]
(جامع الأصول) : 4/ 657، حديث رقم (2748) ، البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، البخاري في الزكاة وفي الجهاد، ومسلم في تحريم الزكاة على النبي وآله.
قوله: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التّمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لأكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» ،
وفيه تحريم الصدقة عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنه لا فرق بين صدقة الفرض والتطوع،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها»
فهي تعم النوعين، ولم يقل الزكاة، وفيه استعمال الورع، لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، لكن الورع تركها. وفيه أن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها، بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال، لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة، وهذا الحكم متفق عليه، وعلله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها في العادة لا يطلبها، ولا يبقى له فيها(2/333)
وخرّج الحاكم من حديث عبد اللَّه بن المبارك، أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تصور ذات ليلة فقيل له: ما أسهرك؟ قال: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي؟ فذلك أسهرني.
قال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (1) ] .
وله من حديث المعافي بن عمران عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن أبي مريم عن ضمرة ابن حبيب عن أم عبد اللَّه أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدح لبن عند فطره، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فرد إليها الرسول: أنى لك هذا اللبن؟ قالت: من شاة لي، قال: أنى لك هذه الشاة؟ قالت: اشتريتها من مالي، فشرب فلما أن كان من الغد أتت أمّ عبد اللَّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه! بعثت إليك بذلك اللبن مرثيّة لك من شدة الحر وطول النهار، فرددتها إلي مع الرسول! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بذلك أمرت الرسل، أن لا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا»
قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرّج أبو داود في كتاب الجهاد عن مخلد بن خالد [ (3) ] ، وخرّج الترمذي في السير عن محمد بن المثنى [ (4) ] ، وخرّج ابن ماجة عن عبدة بن عبد اللَّه، وخرّج محمد
__________
[ () ] مطمع. واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 7/ 183، حديث رقم (162- 1070) ، (السنن الكبرى للبيهقي) : 5/ 325، كتاب البيوع، باب كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا أو ثمن المحرم. (كنز العمال) 6/ 455، حديث رقم (16509) ، (الحلية) : 8/ 187، وقال فيه:
«على فراشي فلا أدري أمن تمر الصدقة هي أم من تمر أهلي فلا آكلها» وقال في أخرى: صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن المبارك عن معمر.
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 17، حديث رقم (2173/ 44) . قال في التلخيص: صحيح.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 4/ 140، حديث رقم (7159/ 88) . قال في التلخيص: ابن أبي مريم واه.
[ (3) ] (صحيح سنن أبي داود) : 2/ 534، حديث رقم (2412- 2774) ، قال الألباني:
«صحيح» ، ولفظه: «كان إذا جاءه أمر سرور، أو بشّر به، خرّ ساجدا شاكرا» .
[ (4) ] (صحيح سنن الترمذي) : 2/ 112، حديث رقم (1282- 1642) . قال الألباني:
«حسن» ، ولفظه: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاه أمر فسرّ به، فخرّ ساجدا» ، قال أبو عيسى: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: رأوا سجدة الشكر.
(صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 233، حديث رقم (1143- 1394) ، قال الألباني:
«حسن» .(2/334)
ابن يوسف أربعتهم عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل عن أبي بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أتاه أمر يسرّه ويسرّ به خرّ ساجدا [ (1) ] .
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الأسدي، أخبرنا كثير بن زيد عن زياد بن أبي زياد مولى عياش بن أبي ربيعة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كانتا خصلتان لا يكلهما، إلى أحد: الوضوء من الليل حين يقوم والسائل يقوم حتى يعطيه [ (2) ] .
وله من طريق الليث بن سعد أن معاوية بن صالح حدثه أن أبا حمزة حدثه أنّ عائشة قالت: ما خيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، [قالت] : [ (3) ] وما انتقم رسول اللَّه لنفسه من أحد قط إلا أن يؤذى في اللَّه فينتقم، ولا رأيت رسول اللَّه وكل صدقته إلى غير نفسه حتى يكون هو الّذي يضعها في يد السائل، ولا رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل [في وضوئه] [ (4) ] إلى غير نفسه حتى يكون هو
__________
[ (1) ] وقد ذهب إلى شرعية سجود الشكر، الشافعيّ وأحمد، خلافا لمالك ورواية أبي حنيفة بأنه لا كراهة فيها ولا ندب، والحديث دليل للأولين.
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه: وقد روى الإمام أحمد في مسندة عن أبي بكرة: «أنه شهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم- ورأسه في حجر عائشة- فقام فخرّ ساجدا» .
وفي المسند أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتوجه نحو صدقته، فدخل فاستقبل القبلة فخرّ ساجدا، فأطال السجود ثم رفع رأسه وقال: إن جبريل أتاني فبشرني فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ يقول لك: من صلّى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت للَّه شكرا»
واعلم أنه قد اختلف هل يشترط لها الطهارة أم لا؟ فقيل: يشترط قياسا على الصلاة، وقيل:
لا يشترط، وهو الأقرب.
وليس في أحاديث سجود الشكر ما يدل على التكبير. وفي (زاد المعاد) : وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر، دليل ظاهر على أن تلك كانت عادة الصحابة، وهو سجود الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة. وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد عليّ لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بشّره جبريل أنه من صلّى عليه مرة، صلّى اللَّه عليه بها عشرا، وسجد حين شفع لأمته فشفّعه فيهم ثلاث مرات، وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة رضي اللَّه عنها، فقام فخرّ ساجدا. وقد جاء حديث سجدة الشكر من حديث البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما بإسناد صحيح، ومن حديث كعب بن مالك رضي اللَّه عنه، وغير ذلك.
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 369.
[ (3) ] زيادة في (خ) .
[ (4) ] في (ابن سعد) : «وكل وضوءة»(2/335)
الّذي يهيئ وضوءه لنفسه حتى يقوم من الليل [ (1) ] .
وقال محمد بن حمير حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: اشترى أسامة بن زيد بمائة دينار إلى شهر، فسمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «لا تعجبوا من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الإبل، والّذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفراى لا يلتقيان حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أن لا أسيغها حتى أغصّ بها من الموت» ، ثم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والّذي نفسي بيده إنما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين» [ (2) ] .
وقال ابن لهيعة عن أبي هريرة عن حيثر عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يهريق الماء فيمسح التراب، فأقول: يا رسول اللَّه! الماء منك قريب، فيقول: «وما يدريني لعلي لا أبلغه» .
وخرج الإمام أحمد من حديث مسلم بن محمد بن زائدة، قال عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: ما رفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسه إلى السماء إلا قال: «يا مصرف القلوب ثبت قلبي على طاعتك» [ (3) ] .
وقال ابن المبارك: حدثنا الحسن بن صالح، عن منصور عن إبراهيم قال:
حدثنا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم ير خارجا من الغائط قط إلا توضأ [ (4) ] .
وذكر ابن عساكر من حديث محمد بن الحجاج عن محمد بن عبد الرحمن بن
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 369- 370.
[ (2) ] مسند أبي سعيد الخدريّ في (مسند أحمد) : 3/ 367، يبدأ من الحديث رقم (10602) إلى الحديث رقم (11529) ، لم أجد من بينهم هذا الحديث.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 3/ 146، حديث رقم (9139) .
[ (4) ] اختلف العلماء في موجب الوضوء: فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا. وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا، ورجحه جماعة من الشافعية. وقيل بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. (المواهب اللدنية) : 4/ 22- 23.
حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال: حدثنا شعبة عن أبي معاذ- واسمه عطاء بن أبي ميمونة- قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا خرج لحاجته أجيء وأنا غلام، معنا إداوة من ماء، يعني يستنجي به. (فتح الباري) : 1/ 333، حديث رقم (150) ، وأطرافه في (151) ، (152) ، (217) ، (500) .(2/336)
سفينة عن أبيه عن سفينة قال: تعبّد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واعتزل النساء حتى صار كالشن [ (1) ] البالي قبل موته بشهرين [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الشن: القربة (النهاية) : 1/ 506.
[ (2) ]
هذا الحديث يتعارض مع ما أخرجه (البخاري) في النكاح باب (1) حديث رقم (5063) ، و (مسلم) في النكاح باب (1) حديث رقم (1401) ، و (النسائي) في النكاح باب (5) ، و (أبو داود) في النكاح باب (3) ، و (أحمد) 3/ 241، حديث رقم (13122) ، كلهم عن أنس: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يسألون عن عبادة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ وقد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم:
أما فأنا أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»
واللفظ للبخاريّ. وفي رواية ثابت عند (مسلم) «أن نفرا من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، ولا منافاة بينهما، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، كل منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه.
ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عن عبد الرزاق، أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون. وعند ابن مردويه من من طريق الحسن العدني:
«كان عليّ في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات، فنزلت الآية في المائدة» .
ووقع في (أسباب النزول للواحدي) بغير إسناد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «ذكّر الناس وخوّفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة وهم: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذرّ وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن- في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء ويحبوا مذاكيرهم» فإن كان هذا محفوظا، احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال، فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة، ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبة، ويؤيد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة، ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه «قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل اللَّه، ويجاهد الروم حتى الموت، فلقي ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنهاهم، فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها» يعني بسبب ذلك، لكن في عدّ عبد اللَّه بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد اللَّه فيما أحسب.
قوله: «إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له» فيه إشارة إلى ردّ ما بنوا عليه أمرهم، من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فأعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى اللَّه وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك لأن المشدّد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما داوم عليه صاحبه، وقد أرشد إلى ذلك
قوله في الحديث الآخر «المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» .
قوله: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»
المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانية، فإنّهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم اللَّه تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الحنيفية السمحة، فيفطر ليقوى على الصوم، وينام ليقوى على القيام، ويتزوج لكسر(2/337)
[تنبيه] : حديث وجود التمر في بعض طرقه: لقي تمرة على فراشه، وفي بعضها لقي تمرة في منزلة، وفي أخرى لقي تمرة في الطريق، فكان في ذلك ثلاث رتب في الورع، متفاوتة في التأكيد، أيسرها تمرة الفراش، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن يقبل الصدقة، ولا تدخل منزله غالبا، فكيف بأخص منزله وهو الفراش، فيندر كونها من تمر الصدقة، وفوق ذلك في التأكيد تمرة المنزل، وآكدها تمرة الطريق لكثرة مرور الصدقات فيها، هذا كله مع أن تمر الصدقة قليل بالنسبة إلى جنس التمر، فآكد هذه الصور الثلاث لا يجاوز الورع في المباح، ولا تنتهي التمرة به إلى حد النهي، لكن مقام النبوة كريم، والورع به جدير.
__________
[ () ] الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل.
وقوله: «فليس مني»
إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى
«فليس مني»
أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحيّة عمله، فمعنى
«فليس مني»
ليس على ملتي، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه.
وفيه تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء، وأن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا.
وفيه تقديم الحمد والثناء على اللَّه عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب.
وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة من الملابس وآثر غليظ الثياب وخشن الأكل. قال عياض: هذا مما اختلف فيه السلف، فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا، قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأمرين، كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا، وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط. (فتح الباري) : 9/ 129- 132.
وقد أخرج الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 25، 26، 414، حديث رقم (15880) «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم» ، لأنه رغب رخصة اللَّه تعالى ويسره، والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم، وكلاهما مستحق للعقوبة. (تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة) ص 135
وقد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في صائم الدهر: «ولا صام ولا أفطر» . أخرجه مسلم في كتاب الصيام (13) ، (14) ، وأبو داود في كتاب الصوم (14) ، (53) ، والنسائي: (22) كتاب الصوم. قال يحى: وهو حديث حسن.(2/338)
فصل في حفظ اللَّه لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم في تثبيته عن أقذار الجاهلية ومعايبها تكرمة له وصيانة
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فتثبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أبي طالب يكلؤه اللَّه عزّ وجلّ ويحفظه من أقذار الجاهلية ومعايبها لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين [ (1) ] ، لما جمع اللَّه فيه من الأمور الصالحة. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما
__________
[ (1) ] قال أبو نعيم في (دلائل النبوة) باب ذكر خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشام ثانيا مع ميسرة غلام خديجة رضي اللَّه عنها، وقصة نسطورا الراهب: ومما يدخل في هذا الباب مما خصّ اللَّه به نبيه في الجاهلية الجهلاء، أن وفقه لوضع الحجر الأسود موضعه بيده لما اختلفت قريش في وضعه، دلالة بصحة نبوته، حديث رقم (113) : حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن مشاور قال: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خبّاب عن مجاهد قال: حدثني مولاي عبد اللَّه بن السائب قال: «كنت فيمن بني البيت وأخذت حجرا فسوّيته ووضعته إلى جنب البيت، وإن قريشا قد اختلفوا في الحجر حيث أرادوا وضعه، حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف، فقالوا: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكانوا يسمونه في الجاهلية [الأمين] ، فقالوا: قد دخل الأمين، فقالوا: يا محمد، قد رضينا بك، فدعا بثوب فبسطه، ثم وضع الحجر فيه، ثم قال لهذا البطن ولهذا البطن، لجميع البطون من قريش: ليأخذ كلّ رجل من كل بطن منكم بناحية من الثوب، فرفعوه، فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوضعه» .
هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) 1/ 458، حديث رقم (1683/ 75) باختلاف يسير، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه، وله شاهد صحيح على شرطه. قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) : 11/ 68 ترجمة رقم (123) : هلال بن خباب العبديّ أبو العلاء البصري، مولى زيد بن صوحان. سكن المدائن ومات بها. روى عن أبي جحيفة، ويحى بن جعدة بن هبيرة، وعكرمة مولى ابن عباس وميسرة أبي صالح وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، ومجاهد بن جبير، والحسن بن محمد بن الحنفية وغيرهم، وعنه الثوري ومعر، ويونس بن أبي إسحاق، وثابت بن زيد أبو يزيد الأحول، وعبد الواحد بن زياد، وهشيم وأبو عوانه، وآخرون.
وقال أبو بكر بن أبي الأسود، عن يحيى بن سعيد القطان: أتيت هلال بن خباب وكان قد تغيّر قبل موته، وقال إبراهيم بن الجنيد: سألت ابن معين عن هلال بن خباب وقلت: إن يحى القطان يزعم أنه تغير قبل أن يموت واختلط، فقال يحى: لا، ما اختلط ولا تغيّر، قلت ليحيى: فثقة هو؟ قال: ثقة مأمون،(2/339)
ذكر لي يحدّث عما كان يحفظه اللَّه به في صغره،
فحدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنه قال فيما يذكر من حفظ اللَّه إياه: إن لمعي غلمان هم أسناني [ (1) ] ، قد جعلنا أزرنا [ (2) ] على أعناقنا لحجارة ننقلها نلعب بها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك [ (3) ] .
__________
[ () ] وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف، وقال ابن عمار الموصلي، والمفضل بن غسان الغلابي ثقة. (تهذيب التهذيب) : 11/ 68- 69، ترجمة رقم (123) ، (الثقات) : 7/ 574.
وقال ابن سعد: فلما انتهوا إلى حيث يوضع الركن من البيت، قالت كل قبيلة: نحن أحق بوضعه، واختلفوا حتى خافوا القتال، ثم جعلوا بينهم أول من يدخل من باب بني شيبة، فيكون هو الّذي يضعه، وقالوا: رضينا وسلمنا، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أول من دخل من باب بني شيبة،
فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا بما قضى بيننا، ثم أخبروه الخبر، فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رداءه، وبسطه في الأرض، ثم وضع الركن فيه، ثم قال: ليأت من كل ربع من أرباع قريش رجل، فكان في ربع بني عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني أبو زمعة، وكان في الربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وكان في الربع الرابع قيس بن عديّ.
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليأخذ كل رجل منكم بزاوية من زوايا الثوب، ثم ارفعوه جميعا، فرفعوه، ثم وضعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده موضعه ذلك،
فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حجرا يشدّ به الركن، فقال العباس بن عبد المطلب: لا، ونحّاه، وناول العباس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حجرا فشدّ به الركن، فغضب النجديّ حيث نحيّ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه ليس يبني معنا في البيت إلّا منّا،
فقال النجديّ: يا عجبا لقوم أهل شرف، وعقول، وسنّ، وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنّا، وأقلهم مالا، فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له، أما واللَّه ليفوتنهم سبقا، وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا! ويقال: إنه إبليس، فقال أبو طالب:
إن لنا أوله وآخره ... في الحكم والعدل الّذي لا ننكره
وقد جهدنا جهدنا لنعمره ... وقد عمرنا خيره وأكثره
فإن يكن حقا ففينا أوفره.
(طبقات ابن سعد) : 1/ 146.
[ (1) ] يقال: فلان سنّ فلان، إذا كان مثله في السنّ (لسان العرب) 13/ 222.
[ (2) ] جمع إزار.
[ (3) ] إسحاق بن يسار مولى قيس بن مخرمة، والد محمد بن إسحاق صاحب (المغازي) ، روي عن مقسم مولى عبد اللَّه بن الحارث، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، روى عنه ابنه محمد بن إسحاق، سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ذلك، زاد أبي: وروى عنه ابن طحلاء. وزاد أبو زرعة: يعدّ في المدينيين. قال:
وسئل أبو زرعة عنه، فقال: ثقة، هو أوثق من ابنه.
حدثنا عبد الرحمن، أخبرنا يعقوب بن إسحاق الهروي، فيما كتب إليّ، حدثنا عثمان بن سعيد قال:
سألت يحيى بن معين قلت: والد محمد بن إسحاق، كيف حاله؟ قال: ثقة. (الجرح والتعديل) :(2/340)
وخرج البخاري ومسلم من حديث روح بن عبادة قال: أخبرنا زكريا بن إسحاق، أخبرنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يحدث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة، قال:
فحله فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه، قال: فما رئي بعد ذلك اليوم عريانا.
لفظهما فيه سواء [ (1) ] .
وخرجا أيضا من حديث ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر ابن عبد اللَّه يقول: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعباس ينقلان حجارة- وقال البخاري: الحجارة- فقال عباس للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجعل إزارك على عاتقك- وقال
__________
[ (2) ] / 238، ترجمة رقم (838) .
والحديث أخرجه البيهقي في (الدلائل) 2/ 30- 31، باب ما جاء في حفظ اللَّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في شبيبته عن أقذار الجاهلية ومعايبها، لما يريد به من كرامته برسالته حتى بعثه رسولا، وزاد بقية الخير في الهامش وعزاها إلى ابن هشام في (السيرة) 1/ 197: «قال: فأخذته وشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري عليّ من بين أصحابي» .
[ (1) ] حديث روح بن عبادة أخرجه البخاري ومسلم، وقد أورده الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) :
1/ 188- 189، الفصل الثالث عشر، باب: ومما عظّم به صلّى اللَّه عليه وسلّم وحرس منه أن لا يتعرى كفعل قومه وأهله، وإذا حفظ من التعري فما فوقه أولى أن يعصم منه، وينهى عنه، حديث رقم (132) :
قوله: «إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان ينقل معهم» أي مع قريش لما بنوا الكعبة، وكان ذلك قبل البعثة، فرواية جابر لذلك من مراسيل الصحابة، فإما أن يكون سمع ذلك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك أو من بعض من حضر ذلك من الصحابة. والّذي يظهر أنه العباس، وقد حدّث به عن العباس أيضا ابنه عبد اللَّه، وسياقه أتم. (فتح الباري) : 1/ 625، كتاب الصلاة، باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، حديث رقم (364) .
قوله: «عن جابر رضي اللَّه عنه» هذا الحديث مرسل صحابي، وقد قدمنا أن العلماء من الطوائف متفقون على الاحتجاج بمرسل الصحابي، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني منه أنه لا يحتج به. وسميت الكعبة كعبة لعلوها وارتفاعها، وقيل لاستدارتها وعلوها.
قوله: «اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة» معناه ليقيك من الحجارة، أو من أجل الحجارة.
والعاتق ما بين المنكب والعنق، وجمعه عواتق وعتق، وهو مذكر وقد يؤنث.
قوله: «فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء» ، معنى خرّ سقط، وطمحت بفتح الطاء والميم، أي ارتفعت. وفي هذا الحديث بيان بعض ما أكرم اللَّه سبحانه وتعالى به رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مصونا في صغره عن القبائح وأخلاق الجاهلية. وجاء في رواية غير الصحيحين أن الملك نزل فشدّ عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم إزاره. واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 4/ 273- 274، كتاب الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة، حديث رقم (76- (340)) .(2/341)
البخاري: على رقبتك- يقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال: إزاري إزاري فشدّ عليه إزاره [ (1) ] . ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
ورواه عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه قال: كنا ننقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت، وأفردت قريش رجلين رجلين ينقلون الحجارة، والنساء تنقل الشّيد، وكنت أنا وابن أخي وكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا اتزرنا، فبينما أمشي ومحمد عليه السلام قدامي ليس عليه شيء، فخر محمد فانبطح على وجهه، قال: فجئت أسعى وألقيت حجري، قال وهو ينظر إليّ السماء فوقه فقلت: ما شأنك؟ قال: فأخذ إزاره ثم قال:
نهيت أن أمشي عريانا، قلت: اكتمها الناس مخافة أن يقولوا: مجنون [ (2) ] .
ورواه شعيب عن عكرمة عن ابن عباس مثله [ (3) ] .
وروى إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن جده عن عكرمة عن ابن عباس
__________
[ (1) ] قوله: «يقك من الحجارة فخرّ إلى الأرض» ، فيه حذف تقديره: ففعل ذلك فخر. وفي حديث أبي الطفيل: «فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقل الحجارة معهم إذا انكشفت عورته، فنودي: يا محمد غط عورتك. فذلك أول ما نودي، فما رئيت له عورة قبل ولا بعد» . (فتح الباري) :
7/ 184- 185، كتاب مناقب الأنصار، باب بنيان الكعبة، حديث رقم (3829) .
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 248 حديث رقم (13922) ، 4/ 286 حديث رقم (14168) ، 6/ 635 حديث رقم (23282) .
وأبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 189. حديث رقم (133) .
[ (2) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 33، والشّيد: كل ما طلي به البناء من جصّ أو نحوة. وأخرجه أيضا أبو نعيم في (الدلائل) 1/ 198- 199، حديث رقم (134) ، وقال فيه: «نهيت أن أمشي عريانا قال: فكتمته حتى أظهر اللَّه عزّ وجلّ نبوّته» .
[ (3) ] رواية شعيب بن خالد، كلهم عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال: «لما بنت قريش الكعبة، انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع، فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء،
قال: فقلت لابن أخي: ما شأنك؟
قال: نهيت أن أمشي عريانا، قال: فكتمته حتى أظهر اللَّه نبوته» . تابعه الحكم بن أبان عن عكرمة، وروى ذلك أيضا من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس ليس فيه العباس، وقال في آخره: «فكان أول شيء رأى من النبوة» ،
والنضر ضعيف، وقد خبط في إسناده وفي متنه، فإنه جعل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب وهو غلام. (فتح الباري) : 3/ 563، كتاب الحج.(2/342)
قال: لما قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غسّله عليّ والفضل، وكان العباس يناول الماء من وراء الستر، وقال العباس، ما منعني أن أغسله إلا أنا كنا صبيانا نحمل الحجارة إلى المسجد يعني لبناء الكعبة، فننزع أزرنا ونضعها على أكتافنا ونضع الحجر عليها فبينما نحن كذلك ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ وقع وسقط الحجر وأنا قائم فقلت: يا ابن أخي! قم، وإني لا أرى بك بأسا ولا أرى الحجر ضرك [فقام] ثم نظر إلي فقال: اشدد عليك إزارك، فإنّي قد نهيت أن أتعرى بعد هذا اليوم.
قال العباس: هذا أول ما رأيت منه.
وروى محمد بن إسماعيل [الأحمسيّ] [ (1) ] عن المجازي، حدثنا النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أبو طالب يعالج زمزم، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقل الحجارة وهو غلام، فأخذ إزاره واتقى به الحجارة، [فغشي عليه] [ (2) ] فقيل لأبي طالب عن غشيته: الحق ابنك قد غشي عليه، فلما أفاق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من غشيته سأله أبو طالب عن غشيته فقال: أتاني آت عليه ثياب بياض فقال لي: استتر،
قال ابن عباس:
فكان أول شيء رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من النبوة أن قيل له: استتر، فما رئيت عورته من يومئذ.
ورواه الأحمسيّ عن الحماني عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: أول شيء أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من النبوة وهو غلام أن قيل له استتر، فما رئيت عورته من يومئذ.
ورواه الحسن بن حماد الوراق عن الحماني عن النضر مثله.
وخرجه الحاكم من حديث الحماني عبد الحميد بن عبد الرحمن، حدثنا النضر به ونحوه. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «الأحمس» وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) : 9/ 58 ترجمة رقم 58.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (المستدرك) : 4/ 198، حديث رقم (7356/ 3) ولفظه: «حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا أبو يحيى الحماني عبد الحميد بن عبد الرحمن، حدثنا النضر أبو عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ممن ينقل الحجارة، وهو يومئذ غلام، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إزاره فتعري واتقى به الحجر، فغشي عليه، فقيل لأبي طالب: أدرك ابنك فقد غشي عليه،
فلما أفاق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من غشيته، سأله أبو طالب عن غشيته فقال: «أتاني آت عليه ثياب بيض فقال لي: استتر»
فقال ابن عباس: فكان ذلك(2/343)
وقال الحسن بن سفيان: حدثنا زهير بن سلام، حدثنا عمرو بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء أن أبا طالب كان يرسل بنيه ومحمد عليه السلام، معهم صبيان صغار ينقلون الحجارة إلى صفة زمزم، فأخذ محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم نمرة [ (1) ] صغيرة كانت عليه على عنقه، ثم
حمل عليها حجرين فطرح عنه الحجرين وأغمى عليه ساعة، ثم قام فشد نمرته [ (1) ] عليه، فقال له بنو عمه: مالك يا محمد؟ قال: نهيت عن التعري [ (2) ] .
وقال عبد الأعلى بن حماد: حدثنا داود العطار، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم عن أبي الطفيل قال: قلت له: يا خال، حدثنا عن بنيان الكعبة قبل أن تبنها قريش، قال: كانت رضمه [ (3) ] يابس ليس بمدر [ (4) ] ينزوة [ (5) ] العناق [ (6) ] ، وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلي، ثم إن سفينة الروم أقبلت حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت، فسمعت بها قريش فركبوا إليها، فأخذوا خشبها، وروى كذا: يقال بالقوم نجاريان، فلما قدموا مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا، فاجتمعوا كذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي،
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقلها إذ انكشفت نمرته، فنودي: يا محمد عورتك،
فذلك أول ما نودي واللَّه أعلم، فما رئيت له عورة قبل ولا بعد.
ورواه الحسن بن الربيع وداود بن مهران عن داود العطار مثله.
__________
[ () ] أول ما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من النبوة أن قيل له: «استتر، فما رئيت عورته من يومئذ» .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وشاهده حديث أبي الطفيل، وهو الحديث رقم (7357/ 4) : «أخبرنا محمد بن عبد الحميد الصّنعاني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن أبي الطفيل قال: «لما بني البيت كان الناس ينقلون الحجارة، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ينقل معهم، فأخذ الثوب ووضعه على عاتقه فنودي: «لا تكشف عورتك» ، فألقي الحجر ولبس ثوبه. (المرجع السابق) ، وذكره البيهقي في (الدلائل) : ص 190 حديث رقم (135) ، وابن سعد في (الطبقات) 1/ 157 مختصرا.
[ (1) ] نمرة: شملة مخططة من مآزر الأعراب النهاية ج 5 ص 111.
[ (2) ] (فتح الباري) : 3/ 563، كتاب الحج، باب (42) .
[ (3) ] هذه الكلمة ممجوجة في (خ) وأثبتناها من (عرائس المجالس للثعالبي) ص 78، والرضام: صخور عظام يرضم بعضها فوق بعض في الأبنية (ترتيب القاموس) ج 2 ص 349.
[ (4) ] المدر: قطع الطين اليابس (المرجع السابق) ج 4 ص 216.
[ (5) ] نزت الحمر: وثبت من المراح (المرجع السابق) ج 4 ص 359.
[ (6) ] العناق (بفتح العين) : الدواب ونحوها (المرجع السابق) ج 3 ص 329.(2/344)
وقال عبد الرازق عن معمر عن عبد اللَّه بن عثمان بن حشيم عن أبي الطفيل قال: كانت الكعبة مبنية بالرضم ليس فيها مدر، وكان قدر ما تقتحمها العناق وكانت غير مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلا عليها، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا، وكان ذات ركنين كهيئة الحلقة، فأقبلت سفينة من أرض الروم حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فذكروا بناء البيت، وقال: فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقة، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد خمّر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك، وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين [ (1) ] .
قال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأصفهاني: وحديث أبي الطفيل جائز أن يكون وقوعه في حالة ثالثة، وهي انكشاف الثوب لا سقوطه، والحالتان المتقدمتان، بسقوط الثوب مرة بفعله وأخرى بغير فعله تنبيها له صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأحوال الثلاث، قال: وإذا حفظ من التعري فما فوقه أولى أن يعصم منه وينهى عنه [ (2) ] .
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد اللَّه بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين من الدهر، كلتاهما يعصمني اللَّه فيها، قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر الفتيان [ (3) ] ، قال: فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان، فجلست انظر، وضرب اللَّه على أذني، فو اللَّه ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال:
ما فعلت؟ قلت ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى:
أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الّذي سمعت تلك الليلة، فسألت، فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست انظر فضرب اللَّه
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 3/ 563، كتاب الحج، باب (42) .
[ (2) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 188.
[ (3) ] في (خ) : بعد قوله: «الفتيان» عبارة: «فقال بلى» والسياق يقتضي حذفها.(2/345)
على أذني، فو اللَّه ما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال:
ما فعلت؟ فقلت: لا شيء ثم أخبرته الخبر، فو اللَّه ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك حتى أكرمني اللَّه بنبوته [ (1) ] .
وخرجه الحاكم [ (2) ] بنحوه وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث مسعر بن كدام [ (3) ] عن العباس بن ذريح [ (4) ] الكلبي عن زياد بن عبد اللَّه النخعي قال: حدثني عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه أنهم قالوا: يا رسول اللَّه، هل أتيت في الجاهلية من النساء شيئا؟ قال: لا، وقد كنت منه على ميعادين، أما أحدهما فغلبتني عيناي، وأما الآخر فحال بيني وبينهم سامر قوم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (عيون الأثر) : 1/ 44- 45، (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 33- 34، (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 186، حديث رقم (128) ، أخرجه إسحاق بن راهويه في مسندة، وابن إسحاق، والبزار، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عساكر، كلهم عن علي بن أبي طالب. وقال ابن حجر: إسناده حسن متصل، ورجاله ثقات، والحاكم في (المستدرك) : 4/ 272، حديث رقم (7619/ 19) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وقال في التلخيص: على شرط مسلم.
[ (2) ] في (خ) «الحاكم بن نحوه» .
[ (3) ] في (خ) «مسعد بن لرام» وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) ج 10 ص 102 ترجمة رقم 210.
[ (4) ] (خ) «موبح» وما أثبتناه من (تهذيب التهذيب) ج 5 ص 116 ترجمة رقم 202، قال ابن معين:
ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطنيّ: ثقة.
[ (5) ] لم أجده، ويؤيّد
بحديث: «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين في الدهر» .
وفي (الدلائل) للبيهقي: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد اللَّه بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب، قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقول: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين، كلتاهما عصمني اللَّه تعالى ... » وذكر باقي الحديث بنحوه. إحداهما المذكورة بقوله: «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين الدهر، كلتاهما يعصمني اللَّه عزّ وجل منهما» (دلائل أبي نعيم) : 186، حديث رقم (128) .
والسياقة الأخرى بقوله «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين، كلتاهما عصمني اللَّه تعالى فيهما» (دلائل البيهقي) : 2/ 33.
وقال في (الإحسان) : إسناده حسن، ومحمد ابن إسحاق روى له البخاري تعليقا، ومسلم متابعة، وهو صدوق، وقد صرح بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسة، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح، غير محمد بن عبد اللَّه بن قيس بن مخرمة، فقد روى عنه جمع، وذكره المؤلف في الثقات 7/ 380، وله ترجمة عند ابن أبي حاتم 7/ 303، والبخاري في التاريخ الكبير 9/ 130، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكر صاحب (الكمال) : أن الشيخين(2/346)
وخرج من حديث أبي سنان عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي رضي اللَّه عنه قال: قيل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل عبدت وثنا قط؟ قال: لا، قال:
شربت خمرا قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الّذي هم عليه كفر، وما كنت أدرى ما الكتاب ولا الإيمان، وبذلك نزل القرآن: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [ (1) ] .
__________
[ () ] أخرجا حديثه، وقال المزي فيما نقله عن الإمام الذهبي والحافظ ابن حجر: لم أقف على رواية أحدهما.
قال محقق (الإحسان) : ولم يرد له ذكر في كتاب رجال مسلم لابن منجويه، ولا في الجمع بين رجال الصحيحين لابن طاهر، ولا في رجال البخاري للكلاباذي.
وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 273، حديث رقم (7619/ 19) ، من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وعلقه البخاري في (تاريخه) 1/ 130 باختصار، فقال: قال لي شهاب:
حدثنا بكر بن سليمان، عن ابن إسحاق به، (البداية والنهاية) : 2/ 351.
[ (1) ] (الشورى: 52) ، قال الزمخشريّ: فإن قلت: قد علم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه، فما معنى قوله تعالى: وَلَا الْإِيمانُ، والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال، أن يخطئهم الإيمان باللَّه وتوحيده، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر، ومن الصغائر التي يكون فيها تنفير قبل المبعث وبعده، فكيف لا يعصمون من الكفر؟.
قلت: الإيمان اسم يتناول أشياء، بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذلك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي، ألا ترى أنه فسّر الإيمان في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ بالصلاة، لأنها بعض ما يتناوله الإيمان.
(الكشاف) : 3/ 409- 410.
قال الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير الاسكندري المالكي: لما كان معتقد الزمخشريّ أن الإيمان اسم التصديق مضافا إليه كثير من الطاعات فعلا وتركا، حتى لا يتناول الموحد العاصي ولو بكبيرة واحدة اسم الإيمان، ولا يناله وعد المؤمنين، وتفطن لإمكان الاستدلال على صحة معتقده بهذه الآية، عدّها فرصة لينتهزها، وغنيمة ليحرزها، وأبعد الظن بإرادة مذهب أهل السنة على صورة السؤال، ليجيب عنه بصورة معتقده، فكأنه يقول: لو كان الإيمان وهو مجرد التوحيد والتصديق، كما تقول أهل السنة، للزم أن ينفي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل المبعث بهذه الآية كونه مصدّقا، ولما كان التصديق ثابتا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل البعث باتفاق الفريقين، لزم أن لا يكون الإيمان المنفي في هذه الآية عبارة عما اتفق على ثبوته، وحينئذ يتعين صرفه إلى مجموع أشياع من جملتها التصديق، ومن جملتها كثير من الطاعات التي لم تعلم إلا بالوحي، وحينئذ يستقيم نفيه قبل البعث، وهذا الّذي طمع فيه، لا يبلغ منه ما أراد، وذلك أن أهل السنة وإن قالوا أن الإيمان هو التصديق خاصة، حتى يتصف به كل موحد وإن كان فاسقا، يخصون التصديق باللَّه وبرسوله، فالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مخاطب في الإيمان بالتصديق برسالة نفسه، كما أن أمته مخاطبون بتصديقه، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن يعلم أنه رسول اللَّه، وما علم ذلك إلا بالوحي، وإذا كان الإيمان عند أهل السنة هو التصديق باللَّه ورسوله. ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي، بل كان الثابت هو التصديق باللَّه تعالى خاصة استقام نفي الإيمان قبل الوحي على هذه الطريقة الواضحة، واللَّه أعلم. (الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال) : 3/ 410.(2/347)
وخرج من حديث عمر بن صبح عن ثور بن يزيد عن مكحول عن شداد بن أوس قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدثنا على باب الحجرات فقال: لما ولدتني أمي فنشأت بغّضت إلي أوثان قريش وبغض إليّ الشعر [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ويحى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال: كان صنم من نحاس يقال له إساف أو نائلة، يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تمسه، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى انظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ألم تنه؟ قال زيد: فو الّذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صنما حتى أكرمه اللَّه بالذي أكرمه وأنزل عليه [ (2) ] .
وسيأتي في قصة بحيرا الراهب حين قيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك، فقال عليه السلام: لا تسألني باللات والعزى، فو اللَّه ما أبغضت شيئا بغضهما [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث حسين بن عبد اللَّه عن عكرمة عن ابن عباس قال:
حدثتني أم أيمن قالت: كانت ببوانة [ (4) ] صنما تحضره قريش، وتعظمه، وتنسك له النسائك، ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما إلى الليل وذلك يوم في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه، فيأبى رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] حتى رأيت
__________
[ () ] وقالوا: معنى الآية: ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، وقيل: كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلا وفي المهد.
وقال الحسين بن الفضل: إنه على حذف مضاف: أي ولا أهل الإيمان، وقيل: المراد بالإيمان دين الإسلام، وقيل: الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلّف اللَّه به العباد. (فتح القدير) : 4/ 764.
[ (1) ] لم أجده.
[ (2) ]
(دلائل البيهقي) : 2/ 34، (البداية والنهاية) : 2/ 351، وذكر أبو نعيم في (الدلائل) :
187- 188: حدثنا أبو عمر بن حمدان، قال: حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: «أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقوم مع بني عمه عند الصنم الّذي عند زمزم، واسمه «إساف» فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصره إلى الكعبة ساعة ثم انصرف، فقال له بنو عمه: ما لك يا محمد؟ قال: نهيت أن أقوم عند هذا الصنم» .
[ (3) ] (البداية والنهاية) : 2/ 346، (دلائل البيهقي) : 2/ 35.
[ (4) ] بوانة: هضبة وراء بلدة ينبع (معجم البلدان) : 2/ 599 موضع رقم (2213) .
[ (5) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.(2/348)
أبا طالب غضب عليه أسوأ غضب، فيقول: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعل يقول: ما ترى يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا، قالت: فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء اللَّه ثم رجع إلينا مرعوبا، فقلن عماته: ما دهاك؟ [قال إني أخشى أن يكون بي لمم، فقلن ما كان اللَّه ليبتليك وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الّذي رأيت؟] [ (1) ] قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد! لا تمسّه، قالت أم أيمن:
فما عاد إلى عيد لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم [حتى تنبّأ] [ (1) ] .
وخرج من حديث المنذر بن عبد اللَّه بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: مرّ عليّ جبريل وميكائيل عليهما السلام وأنا بين النائم واليقظان بين الركن وزمزم، فقال أحدهما للآخر: هو هو؟ قال نعم ونعم المرء هو لولا أنه يمسح الأوثان. قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فما مسحتهن حتى أكرمني اللَّه بالنّبوّة خمس حجج.
وخرج من حديث دواد بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: بينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأجياد رأى ملكا واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء يصيح: يا محمد! أنا جبريل، فذعر من ذلك وجعل يراه كلما رفع رأسه إلى السماء ورجع سريعا إلى خديجة رضي اللَّه عنها فأخبرها خبره فقال: يا خديجة، ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا آلهتكن.
وخرج من حديث عمرو بن محمد حدثنا طلحة بن عمر عن عطاء عن ابن عباس أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقوم مع بني عمه عند الصنم الّذي عند زمزم واسمه إساف، فرفع رأسه إلى ظهر الكعبة ساعة ثم انصرف، فقال له بنو عمه: ما لك يا محمد؟ قال: نهيت أن أقوم عند هذا الصنم [ (2) ] .
وخرج الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن سفيان الثوري عن عبد اللَّه بن عقيل عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال:
__________
[ (1) ] ما بين القوسين سقط من (خ) وما أثبتناه من كتب السيرة، والحديث أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) :
186- 187، حديث رقم (129) ، وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 158.
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.(2/349)
كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يشهد مع المشركين مشاهدهم، قال: فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى نقوم خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم. قال أبو القاسم الطبراني في تفسير قول جابر: وإنما عهده باستلام الأصنام يعني أنه شهد مع من استلم الأصنام وذلك قبل أن يوحى إليه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المطالب العالية) : 4/ 179، حديث رقم (4261) قال في هامشه: «هذا الحديث أنكره الناس على عثمان بن أبي شيبة فبالغوا، والمنكر منه قوله عن الملك أنه قال: عهده باستلام الأصنام، فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مرادا، بل المراد أن الملك أنكر شهوده لمباشرة المشركين قبل البعثة منكرا عليهم.
وقال البوصيري: رواه أبو يعلي بسند فيه عبد اللَّه بن محمد بن عقيل. وقال الهيثمي: فيه عبد اللَّه بن محمد، ولا يحتمل هذا من مثله، إلا أن يكون يشهد تلك المشاهد للإنكار، وهذا يتجه. وبقية رجاله رجال الصحيح 80/ 266.
وفي الباب بعده: باب البيان بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما مسّ الصنم إنما مسّه موبّخا لعابديه، حديث رقم (4262) : ابن بريدة عن أبيه قال: دخل جبريل المسجد الحرام فطفق ينقلب، فبصر بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم نائما في ظل الكعبة، فأيقظه، فقام، وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب، فانطلق به نحو باب بني شيبة، فتلقاهما ميكائيل، فقال جبريل لميكائيل: ما منعك أن تصافح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أجد من يده ريح النحاس، وكأن جبريل أنكر ذلك، فقال: أفعلت ذلك؟ فكأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نسي، ثم ذكر فقال:
«صدق أخي، مررت أوّل من أمس على إساف ونائلة، فوضعت يدي على أحدهما فقلت: إن قوما رضوا بكما إلها مع اللَّه قوم سوء» . هذا الحديث ضعّف البوصيري سنده لضعف صالح بن حبان، وقد استدل به الحافظ على كون الحديث الأول (4261) مصروفا عن الظاهر.
وأيضا
في (المطالب العالية) 4/ 95- 96، حديث رقم (4057) : زيد بن حارثة قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما حارا من أيام مكة، وهو مردفى إلى نصب من الأنصاب، وقد ذبحنا له شاة فأنضجناها قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا زيد! ما لي أرى قومك قد شنفوا لك؟» -[شنف له:
إذا أبغضه]- قال: واللَّه يا محمد إن ذلك لغير نائلة لي منهم، ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدك، فوجدتهم يعبدون اللَّه ويشركون به، فقلت: ما هذا الدين الّذي أبتغي، فقال شيخ منهم: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أن أحدا يعبد اللَّه به إلا شيخا بالحيرة، فخرجت، حتى أقدم فلما رآني قال: ممّن أنت؟ قلت: من أهل بيت اللَّه ومن أهل الشوك والقرظ-[ورق السلم يدبغ به]- فقال: إن الّذي تطلب قد ظهر ببلادك، قد بعث نبي قد طلع نجمه، وجميع من رأيتهم في ضلال، فلم أحسّ بشيء بعد يا محمد، قال: فقرب إليه السفرة فقال: ما هذا؟ قال: «شاة ذبحناها لنصب من الأنصاب» فقال: ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم اللَّه عليه، قال زيد بن حارثة: فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم البيت فطاف به وأنا معه، وبالصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس، أحدهما يقال له:
يساف، والآخر يقال له: نائلة، وكان المشركون إذا طافوا مسحوا بهما، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
«لا تمسحهما فإنّهما رجس» فقلت في نفسي: لأمسّهما حتى انظر ما يقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمسحتهما، فقال: «ألم تنه؟» .(2/350)
وقد أنكر الإمام أحمد هذا الحديث جدا وقال: هذا موضوع أو شبيه بالموضوع. وقال الدارقطنيّ: أن عثمان وهم في إسناده. قال القاضي عياض:
والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خلافه عند أهل العلم من قوله: بغضت إلى الأصنام [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث موسى بن عقبة، أخبرني سالم أنه سمع عبد اللَّه بن عمر يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول اللَّه الوحي فقدم إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفرة [ (2) ] فيها لحم فأبى أن يأكل، قال: لا آكل ما يذبحون على أنصابهم، إني لا آكل إلا مما ذكر اسم اللَّه عليه [ (3) ] ،
وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض المرعى، ثم يذبحونها على غير اسم اللَّه إنكارا لذلك وإعظاما له.
__________
[ (1) ] قال الهيثمي: رواه أبو يعلي، والبزار، ورجالهما ورجال أحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن علقمة، وهو حسن الحديث (9/ 418) . وقال البوصيري: رواه النسائي في الكبرى في كتاب الحج بسند رجاله ثقات. (المرجع السابق) ، وذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) :
2/ 352، وفي (السيرة الشامية) : المراد بالمشاهد مشاهد الحلف ونحوها، لا مشاهد استلام الأصنام.
(هامش المرجع السابق) ، ونحوه في (دلائل البيهقي) : 2/ 34- 36.
[ (2) ] السفرة: السفرة بالضم طعام المسافر (ترتيب القاموس) ج 2 ص 571.
[ (3) ] كذا
في (خ) وباختلاف يسير في اللفظ في السنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 251 وصحيح البخاري ج 3 ص 310 ومسند أحمد ج 2 ص 69، ص 89 وفيهم (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) بدلا من (لا آكل ما يذبحون على أنصابهم) .(2/351)
وخرج من حديث عبد اللَّه بن محمد بن يحيى بن عروة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب أكل ما ذبح لغير اللَّه، فما ذقت شيئا ذبح على النصب حتى أكرمني اللَّه بما أكرمني به من رسالته.
وقال عمرو بن شيبة: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا ابن وهب، حدثنا عبد اللَّه بن عمر أنه بلغه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن أول ما أوقع اللَّه في نفس هذا الأمر أن عمي أبا طالب ذبح للأنصاب فبعثني بلحم على حمار إليها، فمررت بزيد بن عمرو بن نفيل [ (1) ] فقلت: يا عم، ألا نأكل من هذا اللحم؟ قال: يا ابن أخي، إني
__________
[ (1) ] هو زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، كان ممن فرّ إلى اللَّه من عبادة الأصنام، وساح في أرض الشام يتطلّب الدين القيم، فرأى اليهود والنصارى، فكره دينهم، وقال: اللَّهمّ إني على دين إبراهيم، ولكن لم يظفر بشريعة إبراهيم عليه السلام كما ينبغي، ولا رأى من يوقفه عليها، وهو من أهل النجاة، فقد شهد له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يعش حتى بعث.
وروى هشام بن عروة فيما نقله عن ابن أبي الزناد، أنه بلغه أن زيد بن عمرو كان بالشام، فلما بلغه خبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقبل يريده، فقتله أهل ميفة بالشام. وروى الواقدي أنه مات فدفن بأصل حراء، وقال ابن إسحاق: قتل ببلاد لحم. والظاهر أن زيدا رحمه اللَّه توفى قبل المبعث، فقد نقل ابن إسحاق أن ورقة بن نوفل رثاه بأبيات منها:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنّبت تنّورا من النّار حاميا
بدينك ربا ليس ربّ كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
(تهذيب سير أعلام النبلاء) : 1/ 17، ترجمة رقم (7) .
وقال الحافظ ابن حجر: إنّ زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، خرجا يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو: من أين أقبلت يا صاحب البعير؟ فقال: من بنيّه إبراهيم، قال:
وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين، قال: ارجع، فإنه يوشك أن يظهر الّذي تطلب في أرضك، فأمّا ورقة فتنصّر، وأما أنا فعرضت عليّ النصرانية، فلم يوافقني، فرجع وهو يقول:
لبيك حقّا حقّا ... تعبّدا ورقّا
البرّ أبغي لا الخال ... وهل يرى مهجرا كمن قال
آمنت بما أمر به إبراهيم ثم يقول:
أنفي لربّ البيت عان راغم ... مهما تجشّمني فإنّي جاشم(2/352)
لا آكل من ذبائحكم هذه [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس [ (2) ] ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه أن
__________
[ () ]
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم
ثم يخر فيسجد [ذو خال: أي كبر، المهجّر: المسافر في الهاجرة، قال: من القيلولة]
قال: وجاء ابنه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له، قال: «نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمّة وحده» . (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) 4/ 94- 95 باب (زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد، أحد العشرة، وورقة) ، حديث رقم (4055) ، انظر أيضا: (البداية والنهاية) : 2/ 296- 302.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا معلي بن أسد، حدثنا عبد العزيز- يعني ابن المختار- أخبرنا موسى ابن عقبة قال: أخبرني سالم أنه سمع عبد اللَّه يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوحي، «فقدم إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفرة لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم اللَّه عليه» ،
وفي الرواية التي في آخر المناقب: «فقدم إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفره» وللكشميهنى: «فقدم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفرة» وجمع ابن المنير بين هذا الاختلاف بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقدمها لزيد، فقال زيد مخاطبا لأولئك القوم ما قال. (فتح الباري) : 9/ 785- 786 كتاب الذبائح والصيد، باب ما ذبح على النصب والأصنام، حديث رقم (5499) ، ونحوه 7/ 179- 180 كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، حديث رقم (3826) ، وزاد فيه بعد قوله: «ولا آكل إلا ما ذكر اسم اللَّه عليه» ، «وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم اللَّه، إنكارا لذلك وإعظاما له» .
[ (1) ] (المطالب العالية) : 4/ 95، وفيه: وأتي زيد بن عمرو على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: «انا لا نأكل مما ذبح على النّصب» قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه المسعودي وقد اختلط، وبقية رجاله ثقات.
[ (2) ] التحمّس: التشدّد، وكانوا قد ذهبوا في ذلك مذهب التزهّد والتألّه، فكانت نساؤهم لا ينسجن الشّعر ولا الوبر، وكانوا لا يسلئون السمن، وسلأ السمن: أن يطبخ الزبد حتى يصير سمنا، ومن القبائل التي آمنت مع قريش بالحمس: كنانة، وخزاعة. (الروض الأنف) : 1/ 299- 230.
قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش- لا أدري أقبل الفيل أم بعده- ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرمة، وولاة البيت، وقطّان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظّموا شيئا من الحلّ كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفّت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل(2/353)
يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله عزّ وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [ (1) ] . ذكره البخاري في كتاب التفسير [ (2) ] ، وخرجه أبو داود
__________
[ () ] ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها، كما نعظهما نحن الحمس، والحمس: أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الّذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة النحويّ: أن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك.
قال ابن إسحاق: ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط، ولا يسئلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا- إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحلّ إلى الحرم إذا جاءوا حجّاجا أو عمّارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس. فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة.
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحلّ ألقاها، فلم ينتفع بها هو ولا غيره، وكانت العرب تسمي تلك الثياب: اللّقى، فحملوا على ذلك العرب فدانت به، ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهنّ ثيابها كلّها إلا درعا مفرّجا عليها، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب، وهي كذلك تطوف بالبيت:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أحلّه
ويذكر أن هذه المرأة هي: ضباعة بنت عامر بن صعصعة، ثم من بني سلمة بن قشير.
وذكر محمد بن حبيب أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبها، فذكرت له عنها كبرة، فتركها، فقيل إنها ماتت كمدا وحزنا على ذلك. قال ابن حبيب: إن كان صح هذا، فما أخّرها عن تكون أما للمؤمنين، وزوجا لرسول رب العالمين إلا قولها «اليوم يبدو بعضه أو كلّه» تكرمة من اللَّه لنبيه، وعلما منه بغيرته، واللَّه أغير منه ومن اللّقى: حديث فاختة أم حكيم بن حزام، وكانت دخلت الكعبة، وهي حامل متمّ بحكيم بن حزام، فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها، فلفّت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها [المثبر: مسقط الولد] وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقي لا تقرب.
ومما ذكر من تعرّيهم في الطواف أنّ رجلا وامرأة طافا كذلك، فانضم الرجل إلى المرأة تلذّذا واستمتاعا، فلصق عضده بعضدها، ففزعا عند ذلك، وخرجا من المسجد، وهما ملتصقان، ولم يقدر أحد على فك عضده من عضدها، حتى قال لهما قائل: توبا مما كان في ضميركما، وأخلصا للَّه التوبة، ففعلا، فانحلّ أحدهما من الآخر.
(سيرة ابن هشام) : 2/ 21- 26.
[ (1) ] (البقرة: 199) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 236، كتاب التفسير، باب ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ حديث رقم (4520) .(2/354)
بمثله [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد اللَّه بن أبي [أحمد بن جحش] عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير عن أبيه قال: لقد لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على دين قومه وهو يقف على بعرفات من بين قومه حتى يدفع بعدهم توفيقا من اللَّه له [ (2) ] .
وقد خرج البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو، سمع محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير بن مطعم قال: أضللت بعيرا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا مع الناس بعرفة فقلت: واللَّه إن هذا لمن الحمس، فما شأنه ها هنا؟ وكانت قريش تعد من الحمس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (عون المعبود) : 5/ 271- 272، كتاب المناسك، باب الوقوف بعرفة، حديث رقم (1907) ، (تحفة الأحوذي) : 3/ 532، أبواب الحج، باب ما جاء في الوقوف بعرفات والدعاء فيها، حديث رقم (885) ، وقال فيه: «يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين اللَّه» قال في القاموس:
قطن قطونا: أقام، وفلانا خدمه فهو قاطن، والجمع قطان، وقاطنة، وقطين، وقطين اللَّه، على حذف المضاف، أي سكان بيت اللَّه.
قال أبو عيسى: هذا الحديث حسن صحيح. ومعنى الحديث: أن أهل مكة كانوا لا يخرجون من الحرم، وعرفات خارج من الحرم، فأهل مكة كانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن قطين اللَّه، يعني سكان اللَّه، ومن سوى أهل مكة كانوا يقفون بعرفات، فأنزل اللَّه تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ (المرجع السابق) : 533.
[ (2) ] (البداية والنهاية) : 2/ 352، و (دلائل البيهقي) : 2/ 37، وقال البيهقي: قوله: «على دين قومه» معناه: على ما كان قد بقي فيهم من إرث إبراهيم وإسماعيل، في حجّهم، ومناكحهم، وبيوعهم، دون الشرك، فإنه لم يشرك باللَّه قط. وما بين القوسين زيادة من المرجعين السابقين.
[ (3) ] (فتح الباري) : 3/ 657، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، حديث رقم (1664) ، قال الكرماني: وقفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعرفة كانت سنة عشر، وكان جبير حينئذ مسلما لأنه أسلم يوم الفتح فإن كان سؤاله عنه إنكارا وتعجبا، فلعله لم يبلغه نزول قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، وإن كان للاستفهام عن حكمة المخالفة عما كانت عليه الحمس فلا إشكال، ويحتمل أن يكون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقفة بعرفة قبل الهجرة. (المرجع السابق) . وفي (البداية والنهاية) : 2/ 352:
ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل الوحي إليه، وهذا توفيق من اللَّه له.
وخرجه الإمام أحمد من حديث جبير بن مطعم قال: «حدثنا عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم الأنصاري، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عمه نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال: «رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس حتى يدفع معهم منها، توفيقا من اللَّه له» . (مسند أحمد) : 5/ 38، حديث رقم (16316) .(2/355)
وأخرجه أبو بكر البرقاني وزاد بعد قوله: هذا من الحمس: فما باله خرج من الحرم، وكان سائر الناس تقف بعرفة، وذلك قول اللَّه عزّ وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، قال سفيان: الأحمس: الشديد في دينه.(2/356)
فصل في ذكر ما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتديّن به قبل أن يوحي إليه
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن عروة بن رويم قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أول ما نهاني ربي عن عبادة الأصنام وعن شرب الخمر وعن ملاجأة الرجال [ (1) ] .
قال الإمام أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل رحمه اللَّه: من قال أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل مما ذبح على النصب؟.
وقد خرج البيهقي من حديث يونس بن شبيب عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر عثمان بن أبي سليمان عن نافع عن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال: لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على دين قومه وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من اللَّه عزّ وجل له. قال البيهقي: قوله على دين قومه معناه: على ما كان قد بقي فيهم من إرث إبراهيم وإسماعيل في حجهم ومناكحهم وبيوعهم دون الشرك، فإنه لم يشرك باللَّه قط. وفيما ذكر من بغضه اللات والعزى دليل على ذلك [ (2) ] .
وقال أبو نعيم: وما أضيف إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الذبح على النّصب خلاف ما كانت قريش تذبحه، لأن قريشا تذبحه عند الآلهة تقربا وتدينا وهو شرك وكفر، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عصمه اللَّه من هذا، ويجوز أن يكون هذا الفعل في موضع ذبائحهم، فيكون القربان للَّه، كما لو صلّى إنسان من المسلمين في كنيسة صلاة الإسلام جاز، وهو في الظاهر مستقبح، ويحتمل أن يكون يحضر مذابحهم مداريا لأعمامه وعماته كما رواه ابن عباس رضي اللَّه عنه في قصة عيد بوانة على ما تقدم ذكرنا مع طمأنينة قلبه للإيمان وبغضه لأنصابهم وأعيادهم كما روينا، مع أن بعض الناس من أهل العلم كان يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على دين قومه في أكل ذبائحهم
__________
[ (1) ] تلجّأ من القوم: انفرد عنهم وخرج عن زمرتهم وعدل إلى غيرهم. وفي حديث كعب: «من دخل ديوان المسلمين ثم تلجّأ منهم فقد خرج من قبة الإسلام» (المعجم الوسيط) ج 2 ص 815.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 37.(2/357)
وغيره، محتجا بقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [ (1) ] ، والأحرى والأشبه برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يضاف ذلك على ما قدمنا لأن قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى تأولوه على غير وجه، فقيل: مغمورا في بحور ضلال، كقوله: ضل الماء في اللبن فلا يتميز منه، فكذلك كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مختلطا بقومه غير متميز منهم، فحمل الضلال على هذا الوجه. وقيل: وجدك ضالا عن الكتاب والشرائع كما قال تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [ (2) ] وكيف تحمل على غير ما اخترناه وتأولناه، وقد نهي عن التعري حين نقل الحجارة إلى بناء الكعبة مع قومه؟ أفلا تراه ينهى عن الشرك والتدين بدين قومه لو أراده عليه السلام.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متدينا قبل بعثه، فهل كان متعبدا بشريعة من قبله؟ فيه روايتان، إحداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهتهم ولا بنقلهم ولا من كتبهم المبدلة، واختارها أبو الحسن التميمي، وهو قول أصحاب أبي حنيفة رحمه اللَّه.
والرواية الثانية أنه لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع إلا ما أوحي إليه في شريعته، وهو قول المعتزلة والأشعرية. ولأصحاب الشافعيّ رحمه اللَّه وجهان كالروايتين، قال: واختلف القائلون بأنه متعبد بشرع من قبله بأية شريعة كان يتعبد؟ فقال بعضهم بشريعة إبراهيم عليه السلام خاصة، وإليه ذهب أصحاب الشافعيّ. وذهب قوم منهم إلى أنه كان متعبدا بشريعة موسى عليه السلام إلا ما نسخ في شرعنا. قال:
وظاهر كلام أحمد رحمه اللَّه: أنه كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي قبله ما لم يثبت نسخه، يدل عليه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [ (3) ] .
وقال النووي: والمختار أنه لا يجزم في ذلك بشيء، إذ ليس فيه دلالة عقل، ولا يثبت فيه نص ولا إجماع.
وقال محمد بن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل، من ذلك: حج البيت، والختان، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا، وأن للزوج الرجعة في الواحدة والاثنين، ودية النفس مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم
__________
[ (1) ] الضحى: 7.
[ (2) ] الشورى: 52.
[ (3) ] الأنعام: 90.(2/358)
بالقرابة والصهر، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما كانوا عليه من الإيمان باللَّه والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج. قال: وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني به شرائع الإيمان، ولم يرد به الإيمان الّذي هو الإقرار [بوحدانية] [ (1) ] اللَّه تعالى، لأن آباءه الذين ماتوا في الشرك كانوا يؤمنون باللَّه ويحجون له مع شركهم.
وذكر الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازيّ: في المسألة بحثان: الأول:
أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرائع من قبله؟ أثبته قوم ونفاه آخرون، وتوقف فيه ثالث، احتج المنكرون بأمرين، الأول: لو كان مقيدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستفتاء منهم، والأخذ بقولهم، ولو كان كذلك لاشتهروا ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله، فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم. الثاني: لو كان على ملة قوم لافتخر به هؤلاء القوم ونسبوه إلى أنفسهم ولاشتهر ذلك. فإن قيل: ولو لم يكن متعبدا بشرع أحد، فبقاؤه لا على شرع أحد البتة لا يكون شيئا مخالفا للعادة فلا تتوفر الدواعي على نقله، أما كونه شرع، إما كان على خلاف عادة قومه وجب أن ينقل، احتجوا بأمرين: الأول: أن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها، الثاني أنه كان يركب البهيمة ويأكل اللحم ويطوف بالبيت. والجواب عن الأول: أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه سلمناه، لكن لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق، فوجب العلم أو الظن الغالب، وهذا من زمن الفترة، وعن الثاني أن نقول: أما ركوب البهائم فحسن في العقل إذا كان طريقا إلى حفظها ونفعها بالعلف وغيره، وأما أكل اللحم الذكي فحسن أيضا لأنه ليس فيه مضيرة على حيوان، وأما طوافه بالبيت فبتقدير ثبوته لا يجب، أو فعله من غير شرع أن يكون حراما.
البحث الثاني: في حالة بعد النبوة، قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء: لم يكن متعبدا بشرع أحد. وقال قوم من الفقهاء: بل كان متعبدا بذلك إلا باستثناء الدليل الراجح ثم اختلفوا، قال قوم: كان متعبدا بشرع إبراهيم عليه السلام، وقيل بشرع موسى عليه السلام، وقيل بشرع عيسى عليه السلام.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(2/359)
واعلم أن من قال: كان متعبدا بشرع من قبله، إما أن يريد أن اللَّه تعالى كان يوحي إليه بمثل الأحكام التي أمر بها من قبله، أو يريد به أن اللَّه تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم، فإن قالوا بالأول، فإما أن يقولوا به في كل شرعه أو في بعضه، والأول معلوم البطلان بالضرورة، لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير من الأمور. والثاني مسلم [به] [ (1) ] ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه متعبد بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما كان تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه.
وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه:
الأول: لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع إلى أحكام الحوادث إلى شرعه، وأن لا يتوقف إلى نزول الوحي، لكن لم يفعل ذلك لوجهين: الأول: أنه لو فعل لاشتهر،
والثاني أن عمر رضي اللَّه عنه طالع ورقة في التوراة فغضب صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي،
ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد، فإن قيل: الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم علم في تلك الصورة أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله، ولا جرم توقف فيها على نزول الوحي عليه، أو لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم علم خلو شرعهم على حكم تلك الواقعة فانتظر الوحي، أو لأن أحكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالتواتر فلا يحتاج في معرفتها إلى الرجوع إليهم في كتبهم، وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها، لأن أولئك الرواة كانوا كفارا، ورواية الكفار غير مقبولة سلمنا الملازمة، لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم لما احتكم إليه اليهود، والجواب قوله: إنما لم يرجع إليها في شيء من الوقائع إليهم، وجب أنت يكون ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله، قوله: إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع، قلنا: العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالمطلب الشديد والبحث الكثير، فكان يجب أن يقع منه ذلك الطلب والبحث. قوله: «ذلك الحكم إما أن يكون متواترا أو آحادا» قلنا:
يجوز أن يكون متن الدليل متواترا إلا أنه لا بد من العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير أو بحث دقيق، وكان يجب اشتغال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنظر في كتبهم، والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام. قوله: «رجع في الرجم إلى التوراة» قلنا: لم يكن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(2/360)
رجوعه إليها رجوع مثبت الشرع بها، والدليل عليه أمور، أحدها: أنه لم يرجع إليها في غير الرجم، وثانيها: أن التوراة محرفة عنده، فكيف يعتمد عليها؟ وثالثها: أن من أخبره بوجوب الرجم في التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره، فثبت أن رجوعه إليها كان ليقرر عليهم أن ذلك الحكم أنه ثابت في شرعه فهو أيضا ثابت في شرعهم، وأنهم أنكروه كذبا وعنادا.
الحجة الثانية أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء الأمصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله ضرورة أن التأسي به واجب، وحيث [أنهم] [ (1) ] لم يفعلوا ذلك علمنا بطلان ذلك.
الحجة الثالثة: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم صوّب معاذا على حكمه باجتهاده إذا عدم حكم الحادثة من الكتاب والسنة، ولو كان متعبدا بحكم التوراة كما تعبد بحكم الكتاب لم يكن له العمل باجتهاد نفسه حتى ينظر في التوراة والإنجيل، فإن قلت: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يصوب معاذا في العمل باجتهاده إلا إذا عدمه من الكتاب- والتوراة كتاب- ولأنه إنما لم يذكر التوراة لأن في القرآن آيات تدل على الرجوع إليها، كما أنه لم يذكر الإجماع لهذا السبب، قلنا: الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أنه لا يفهم من إطلاق الكتاب إلا القرآن، فلا يحمل على غيره إلا بدليل. الثاني: أنه لم يعهد من معاذ قط تعليم التوراة والإنجيل بتمييز المحرف منهما عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن، وبه ظهر الجواب عن الثاني.
الحجة الرابعة: لو كانت تلك الكتب حجة علينا لكان حفظها من فروض الكفايات كما في القرآن والأخبار، ولرجعوا إليها في مواقع اختلافهم حين أشكل عليهم: كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة، وبيع أم الولد وحد الشرب، والربا في غير النسيئة، ودية الجنين، والردّ بالعيب بعد الوطء، والتقاء الختانين وغير ذلك من الأحكام. ولما لم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم، واختلافهم مراجعة التوراة، سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم الحجة بقولهم، كعبد اللَّه بن سلام وكعب [الأحبار] ووهب، وغيرهم. ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب، وكيف يحصل اليأس قبل العلم؟ احتجوا بأمور أحدها: قوله
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(2/361)
تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [ (1) ] وثانيها: قوله تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [ (2) ] أمره أن يقتدي بهداهم، وثالثها: قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ (3) ] ، ورابعها: قوله تعالى:
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ (4) ] ، وخامسها: قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [ (5) ] .
والجواب عن الأول يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ: لا يمكن إجراؤه على ظاهره، لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة، ذلك معلوم بالضرورة، فوجب إما تخصيص الحكم وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه وذلك لا يضرنا، فإن نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم حكم بما فيه من معرفة اللَّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله، أو تخصيص النبيين وهو أن بعض النبيين حكموا بكل ما فيه وذلك لا يضرنا.
وعن الثاني أنه تعالى أمر بأن [ (6) ] يهتدي بهدي مضاف إلى كلهم، وهداهم الّذي اتفقوا عليه هو الأصول دون ما وقع عليه النسخ.
وعن الثالث: أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي، لا تشبيه الوحي بالموحى به.
وعن الرابع: أن المسألة محمولة على الأصول دون الفروع، ويدل عليه أمور، أحدها: أنه يقال: ملة الشافعيّ وأبي حنيفة واحدة وإن كان مذهبهما في كثير الشرعيات مختلفا، وثانيهما: قوله تعالى بعد هذه الآية: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (7) ] . وثالثها: أن شريعة إبراهيم عليه السلام قد اندرست.
وعن الخامس: أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالذي وصى به نوحا من أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وأمرهما بإقامة الدين لا يدل على اتفاق دينهما، كما أن أمر الاثنين بأن يقوما بحقوق اللَّه تعالى يدل على أن الحق على أحدهما مثل الحق على الآخر، وعلى أن الآية تدل على أنه تعبّد محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بما وصى به نوحا عليه السلام، واللَّه أعلم.
وقال الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: وأما شريعة
__________
[ (1) ] المائدة: 44.
[ (2) ] الأنعام: 90.
[ (3) ] النساء: 163.
[ (4) ] النحل: 123.
[ (5) ] الشورى: 13.
[ (6) ] في (خ) «بأن أن» .
[ (7) ] البقرة: 135.(2/362)
إبراهيم عليه السلام فشريعتنا، ولسنا نقول: أن اللَّه تعالى بعث محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث اللَّه تعالى بها إبراهيم إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره، وإنما لزمتنا لأن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث بها إلينا لا لأن إبراهيم بعث بها، قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ (1) ] وقال تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قال: تبلجت المسألة والحمد للَّه.
قال: ونسخ اللَّه تعالى عنا بعض شريعة إبراهيم عليه السلام كما نسخ عنا ما كان يلزمنا من شريعة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمن ذلك ذبح الأولاد نسخ بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [ (2) ] ، وبقوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [ (3) ] ، وبقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ [ (4) ] . ونسخ الاستغفار للمشركين بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [ (5) ] .
قال: وقد قال قوم: ماذا كانت شريعة النبي قبل أن ينبّأ؟ والجواب: أن يقال: في نفس سؤالكم جوابكم، وهو قولكم: قبل أن ينبّأ، وإذا لم يكن نبيا فلم يكن مكلفا شيئا من الشرائع التي لم يؤمر بها، ومن قبل أن يكون مأمورا بما لم يؤمر به، فصح يقينا أنه لم يكن ألزم شيئا من الشريعة حاشا التوحيد اللازم لقومه من عهد إبراهيم لولده ونسله حتى غيّره عمرو بن يحيي، وحاشا ما صانه اللَّه من الزنا وكشف العورة والكذب والظلم وسائر الفواحش التي سبق في علم اللَّه تعالى [أنه] [ (6) ] سيحرمها عليه وعلى الناس.
ذكر ما ورد في أنه عقّ عن نفسه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال الجلال: أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا دواد حدثهم قال: سمعت أحمد يحدث بحديث الهيثم بن جميل عن عبد اللَّه بن المثنى عن ثمامة عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عق عن نفسه.
__________
[ (1) ] النحل: 123.
[ (2) ] الأنعام: 151.، الإسراء: 31.
[ (3) ] التكوير: 9. وفي (خ) «وإذا المودة» .
[ (4) ] الأنعام: 140.
[ (5) ] التوبة: 113. وفي (خ) «ما كان للنّبيّين» .
[ (6) ] في (خ) «والتي» ولعل ما أثبتناه أجود للسياق.(2/363)
قال أحمد [بن] عبد اللَّه بن قتادة عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عق عن نفسه، منكر، وضعّف عبد اللَّه بن محرز قال الجلال: أخبرنا محمد بن عوف الحمصي، أخبرنا الهيثم بن جميل، حدثنا عبد اللَّه بن المثنى عن رجل من آل أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد ما جاءته النبوة [ (1) ] .
وفي مصنف عبد الرزاق: أخبرنا عبد اللَّه بن محرز عن قتادة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد النبوة. قال عبد الرزاق: انما تركوا ابن محرز لهذا الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) 2/ 332 وأخبر أنّ عبد اللَّه بن المثنى كثير الغلط فالسند ضعيف.
[ (2) ] ذكره الحافظ في الفتح ج 9 ص 595 ونسبه للبزار وقال البزار: تفرد به عبد اللَّه بن محرز وهو ضعيف ووصفه الحافظ في (التقريب بقوله: متروك وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين: أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة وإسماعيل ضعيف أيضا، وقد قال عبد الرزاق: إنهم تركوا حديث عبد اللَّه بن محرز من أجل هذا الحديث، فلعل إسماعيل تركه منه. ثانيهما من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل وداود بن المحبر قالا حدثنا عبد اللَّه بن المثنى عن ثمامة عن أنس، وداود ضعيف لكن الهيثم ثقة وعبد اللَّه من رجال البخاري فالحديث قوي الإسناد وقد أخرجه محمد بن عبد الملك بن أمين عن إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به، فلولا ما في عبد اللَّه بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحا، لكن قد قال ابن معين:
ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بقوي، وقال أبو داود: لا أخرج حديثه، وقال الساجي: فيه ضعف لم يكن من أهل الحديث وروى مناكير وقد قال العقيلي: لا يتابع على أكثر حديثه، قال ابن حبان في «الثقات» : ربما أخطأ، ووثقه العجليّ والترمذي وغيرهما، فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث لم يكن حجه أ. هـ.(2/364)
فصل في ذكر بدء الوحي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكيف تراءى الملك له وإلقاؤه الوحي إليه وتقريره له أنه يأتيه من عند اللَّه عز وجل وأنه قد صار يوحى إليه نبيا ورسولا إلى الناس جميعا
قال ابن سيده في كتاب المحكم: وجاء وحيا: كتب، والوحي المكتوب أيضا وعلى ذلك جمعوا فقالوا: أوحى، وأوحى إليه: ألهمه [ (1) ] ، وفي التنزيل: وَأَوْحى
__________
[ (1) ] الوحي: ما يقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة، فإن العبارة يجوز منها إلى المعنى المقصود بها، ولذا سميت عبارة، بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنّها ذات المشار إليه، والوحي هو المفهوم الأول، والإفهام الأول، ولا تعجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه، فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحب وحي، ألا ترى أن الوحي هو السرعة، ولا سرعة أسرع مما ذكرنا، فهذا الضرب من الكلام يسمى وحيا، ولما كان بهذه المثابة وأنه تجلّ ذاتي، لهذا ورد في الحديث الّذي رواه ابن حبان في صحيحه، والقسطلاني في (إرشاد الساري) 1/ 167 من عدة طرق، وبألفاظ تزيد وتنقص، وكلها متقاربة المعنى: «أنّ اللَّه إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاة فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم فزّع عن قلوبهم [كشف عنهم الخوف] فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربّك؟ فيقول: الحقّ، فينادون الحق وهو العلي الكبير» ، وما سألت الملائكة عن هذه الحقيقة وإنما عن السبب من حيث هويته.
فالوحي: ما يسرع أثره من كلام الحق في نفس السامع، ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الآلهية، فإنّها عين الوحي الإلهي في العالم وهم لا يشعرون. وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي بالإيمان بما يقع به الإخبار والمفطور عليه كلّ شيء مما لا كسب فيه من الوحي أيضا، كالمولود يلتقم ثدي أمه، ذلك من أثر الوحي الإلهي كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85] ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] ، وقال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، [النحل:
68] ، فلولا أنها فهمت من اللَّه وحيه لما صدر منها ما صدر، ولهذا لا تتصوّر معه المخالفة إذا كان الكلام وحيا، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم، وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] ، ولذا فعلت ولم تخالف، والحالة تؤذن بالهلاك ولم تخالف ولا تردّدت، ولا حكمت عليها البشرية بأن هذا من أخطر الأشياء، فدلّ على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الّذي هو عين نفسه، قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، وحبل الوريد من ذاته.
فإذا زعمت يا وليّ بأن اللَّه أوحى إليك فانظر نفسك في التردّد والمخالفة، فإن وجدت لذاك أثر تدبير أو تفضيل أو تفكّر فلست بصاحب وحي، فإن حكم عليك وأعماك وأصمّك وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك وأمضى حكمه فيك، فذلك هو الوحي، وأنت عند ذلك صاحب وحي، وعلمت عند ذلك أن.(2/365)
__________
[ () ] رفعتك وعلوّ مرتبتك أن تلحق بمن يقول إنه دونك من حيوان أو نبات أو جماد، فإن كل شيء مفطور على العلم باللَّه، إلا أن مجموع الإنس والجانّ فإنه من حيث تفصيله منطو على العلم باللَّه كسائر ما سواهما من المخلوقات، من ملك، وحيوان، ونبات، وجماد، فما من شيء فيه شعر، وجلد، ولحم، وعصب، ودم، وروح، ونفس، وظفر، وناب، إلا هو عالم باللَّه، حتى ينظر ويفكّر، ويرجع إلى نفسه، فيعلم أن له صانعا صنعه، وخالقا خلقه، فلو أسمعه اللَّه نطق جلده، أو يده، أو لسانه، أو عينه، لسمعه ناطقا بمعرفته بربه، مسبّحا لجلاله، مقدّسا لجماله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [النور: 24] ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: 65] ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصلت: 21] . فالإنسان من حيث تفصيله عالم باللَّه، ومن حيث جملته جاهل باللَّه حتى يعلم، أي يعلم بما في تفصيله، فهو العالم الجاهل، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] .
قال أبو القاسم الأصفهانيّ: الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمّن السّرعة قيل: أمر وحيّ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو التعريض فالرمز: الصوت الخفيّ، أو الإشارة بالشّفة، والتعريض:
خلاف التصريح، وهو تورية في القول، ولحن الكلام- وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة، وقد حمل على كل ذلك قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] ، فقد قيل: رمز، وقيل: أشار، وقيل كتب، وحمل على هذه الوجوه أيضا قوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] ، وقوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121] ، فلذلك بالوسواس المشار إليه بقوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ [الناس: 4]
وبقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة» .
ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه وحي، وذلك أضرب حسب ما دلّ عليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] ، وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته، ويسمع كلامه، كتبليغ جبريل عليه السلام للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في صورة معيّنة، وإما بسماع كلام من غير معاينة، كسماع موسى عليه السلام كلام اللَّه تعالى.
وإما بإلقاء في الرّوع [القلب أو النفس] ، كما
ذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن روح القدس نفث في روعي» [رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة] ،
وإما بإلهام نحو قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ، وإما بتسخير نحو قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل: 68] وإما بمنام كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» [الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس، وأول الحديث:
«أيها الناس، لم يبق من مبشرات النبوة ... ] .
فالإلهام، والتسخير، والمنام، دلّ عليه قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] ، وسماع الكلام من غير معاينة، دلّ عليه قوله تعالى: مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] ، وسماع الكلام من غير معاينة، دلّ عليه قوله تعالى: مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] ، وتبليغ جبريل عليه السلام في صورة معيّنة، دل عليه قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] .(2/366)
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ (1) ] ، وفيه: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [ (2) ] أي إليها، فمعنى هذا:
أمرها، ووحي في هذا المعنى وأوحى إليه ووحي إليه: أومأ. وفي التنزيل:
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [ (3) ] .
وقال الحافظ أبو نعيم [ (4) ] : ومعنى الوحي مأخوذ من الوحا، وهو العجلة، فلما
__________
[ () ] وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] ، فذلك ذم لمن يدعي شيئا من أنواع ما ذكرنا من الوحي، أي نوع ادّعاه من غير أن يكون حصل له.
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ [الأنبياء: 25] ، فهذا الوحي هو عامّ في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية اللَّه تعالى، ومعرفة وجوب عبادته، ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل، بل ذلك يعرف بالعقل ولإلهام، كما يعرف بالسمع، فإذا القصد من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية اللَّه تعالى ووجوب عبادته.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [المائدة 111] ، فذلك وحي بسواطة عيسى عليه السلام.
وقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ [الأنبياء: 73] فذلك وحي إلى الأمم بواسطة الأنبياء عليهم السلام.
ومن الوحي المختص بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قوله تعالى: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: 106] ، وقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ [يونس: 87] ، فوحيه إلى موسى بوساطة جبريل، وهارون بواسطة موسى عليهما السلام.
وقوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال: 12] ، فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قبل.
وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 12] ، فإن كان الوحي إلى أهل السماء فقط، فالموحي إليه محذوف ذكره، كأنه قال: أوحى إلى الملائكة، لأن أهل السماء هم الملائكة، ويكون كقوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ [الأنفال: 12] ، وإن كان الموحي إليه هي السماوات، فذلك تسخير عند من يجعل السماء غير حيّ، ونطق عند من يجعله حيا.
وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] ، قريب من الأول.
وقوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] ، فحث على التثبت في السّماع، وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقّنه. (بصائر ذوي التمييز) :
5/ 177- 182.
[ (1) ] النحل: 68.
[ (2) ] الزلزلة: 5.
[ (3) ] مريم: 11.
[ (4) ] هو أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران المهراني الأصبهاني، نسبة إلى أصبهان، وهي بلدة في وسط إيران.
وينقل ابن خلكان في (وفيات الأعيان) عن أبي نعيم نفسه أنه قد ذكر أن جده «مهران» قد أسلم، وكأنه يشير بذلك إلى أنه أول من أسلم من أجداده، وقد كان «مهران» هذا مولى لعبد اللَّه بن جعفر، هذا.(2/367)
__________
[ () ] نسبه من جهة أبيه.
أما نسبه من جهة أمه، فقد ذكر في (تذكرة الحفاظ) أن أبا نعيم هو سبط-[ولد الولد ويغلب إطلاقه على ابن البنت]- محمد بن يوسف البناء، ومحمد بن يوسف البناء هذا كان عابدا، زاهدا، له شهرته في تلك البلاد، وله ذكر في غيرها من بلاد الإسلام والمسلمين، تخرج عليه جماعة من العباد الزهاد، قال عنه أبو نعيم في مقدمته لحلية الأولياء: «فقد كان جدي محمد بن يوسف البناء رحمه اللَّه، أحد من نشر اللَّه عزّ وجلّ به ذكر بعض المنقطعين إليه، وعمّر به أحوال كثير من المقبلين عليه» ، ترجم له ابن الجوزي في (صفة الصفوة) وعدّه من المصطفين من أهل أصبهان.
وفي يوم مشرق من أيام رجب عام ست وثلاثين وثلاثمائة، كانت الولادة السعيدة لأبي نعيم، ولد ولادة عادية. دون أن يدري أحد من مستقبل هذا الطفل شيئا، وما أن فتح عينيه إلى النور، حتى رأى الناس جميعا وميض الذكاء فيهما، فتنبئوا له بمستقبل زاهر، إن تمّ له ما يتطلبه هذا الذكاء الفذّ من رعاية وتوجيه.
بدت معالم الذكاء على أبي نعيم منذ نعومة أظفاره، ولذلك وجّهه والده الوجهة العلمية، لأن ذلك أحسن ميدان للذكاء، تتفتّح فيه العبقرية، ويعظم الأثر، وفعلا فقد بدأ الغلام بمجالسة العلماء، والسماع منهم في سنّ مبكرة جدا، ولم تمض سنوات حتى ذاع صيته بين العلماء، وامتدت شهرته في الآفاق، وأجاز له مشايخ الدنيا سنة نيف وأربعين وثلاثمائة، وقد كان له من العمر ست سنين.
فأجاز له من واسط: المعمر عبد اللَّه بن عمر بن شوذب، ومن نيسابور: شيخها أبو العباس الأصمّ، ومن الشام: شيخها خيثمة بن سليمان الأطرابلسي، ومن بغداد: جعفر الخلدي، وأبو سهل بن زياد، وغيرهم خلق كثير، كلهم من علية القوم ورءوس العلماء، وقد كان بعض هؤلاء الذين أجازوه ممسكا عن الإجازة، ومع ذلك فقد أجازوا لأبي نعيم. قال الذهبي: وأجازه طائفة تفرّد في الدنيا بإجازتهم» .
ولم يكن أبو نعيم من الذين يفترون بذكائهم وقوة حافظتهم فيعرضون عن الدّأب، بل كان يرى أن ما وهبه اللَّه من قوة الحافظة نعمة يجب أن يستغلها حق الاستغلال، مؤديا حق اللَّه تعالى فيها، ولذلك كان دائبا على العلم، عاكفا على المطالعة، فلم تكن تراه إلا مدرّسا، أو دارسا، أو مصنّفا، حتى قال عنه أحمد بن محمد بن مردويه: «لم يكن له غذاء سوى التسميع والتصنيف» ، فاجتمعت لأبي نعيم الأسباب الرئيسية التي تحمل الإنسان إلى المراتب، وهي الذكاء، والدأب، واللذة بما يعمل، فقد وصل أبو نعيم فعلا إلى أعلى المراتب العلمية في عصرة، وأطلق عليه ابن كثير في (البداية والنهاية) لقب «الحافظ الكبير» ، فقال: أبو نعيم هو الحافظ الكبير ذو التصانيف المفيدة الكثيرة الشهيرة. وقال عنه ابن خلكان في (وفيات الأعيان) : كان أبو نعيم من أعلام المحدثين وأكابر الحفاظ الثقات. أما الحافظ الذهبي، فقد أطلق عليه «محدّث العصر» فقال: أبو نعيم الحافظ الكبير محدّث العصر ... رحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه وحفظ أسانيده. ويقول أحمد بن محمد بن مردويه: كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه، لم يكن في أفق من الآفاق أحد أحفظ منه ولا أسند منه، فإن حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة أحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قريب الظهر، فإذا قام أبو نعيم إلى داره، ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزءا، وكان لا يضجر. أما الخطيب البغدادي فإنه يقول: لم أر أحدا أطلق عليه اسم الحافظ غير أبي نعيم وأبي حازم العبدري.(2/368)
__________
[ () ] ويذكر حمزة بن العباس العلويّ أنّ أصحاب الحديث قد قالوا: بقي أبو نعيم فترة طويلة من الزمن وهو لا نظير له أبدا، فقال: كان أصحاب الحديث يقولون: بقي الحافظ أبو نعيم أربع عشر سنة بلا نظير لا يوجد شرقا ولا غربا أعلى إسنادا منه، ولا أحفظ منه.
وهكذا نجد أن المحدثين جميعا قد اتفقوا على أن أبا نعيم كان محدث عصره، وأنه لم يكن له نظير في كثرة ما يحفظ، ولا في علو الإسناد، والإسناد العالي: هو الّذي قلّ عدد رجاله مع سلامتهم من الضعيف، وهو على خمسة أقسام: [1] قربه من الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، [2] قربه من إمام من أئمة الحديث، [3] العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين، أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة، [4] العلو المستفاد من تقدم وفاة الراويّ، [5] العلو المستفاد من تقدم السماع.
وحيازة محدث الأسانيد العالية، ميزة ترجحه على غيره من المحدثين، فالمحدثون يتحرون الأسانيد العالية، ويرحلون في طلبها، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنه: «طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف» ، وذلك لأن العلوّ يبعد الإسناد عن الخلل، لأن كل رجل من رجال السند يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا، ففي قلتهم قلتهم قلة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل، ولهذا رجح الحافظ أبو نعيم على غيره من محدثي عصره، فهو يحدث بأسانيد عالية لم تجتمع لأحد غيره من محدثي عصره.
وقد أخذ أبو نعيم العلم من مسند أصبهان المعمّر أبي محمد بن فارس، وأبي أحمد العسّال، وأحمد بن محمد القصّار، وأبي بحر بن كوثر، وأبي القاسم الطبراني، وإبراهيم بن عبد اللَّه بن أبي العزائم الكوفي، وغيرهم كثير فأكثر وأجاد. قال الحافظ الذّهبي: «وتهيّأ له من لقيا الكبار ما لم يقع لحافظ» .
وقد أخذ العلم من أبي نعيم خلق كثير، منهم: الخطيب البغدادي، وأبو صالح المؤذن، وأبو بكر محمد ابن إبراهيم العطار، وغيرهم كثير، حتى قال علي بن المفضل الحافظ: قد جمع شيخنا السلفي أخبار أبي نعيم، فسمي نحوا من ثمانين نفسا حدثوا عنه.
ومما أخذه العلماء على أبي نعيم، أنه كان يخلط المسموع له بالمجاز، ولا يوضح أحدهما من الآخر، وأجاب الحافظ الذهبي عن هذه الدعوى وقال: ربما فعله نادرا. ومن هذه المآخذ: روايته الأحاديث الموضوعة دون التنبيه إليها في كثير من الأحيان، حتى قال في ميزان الاعتدال: هو عندي مقبول، لا أعلم له ذنبا أكبر من روايته الموضوعات ساكتا عنها، وهذه كبيرة من أبي نعيم لأن من كان مثله لا ينبغي له أن يروي شيئا من هذه الموضوعات دون التنبيه عليها، ولكن ذلك لا يقدح في عدالته وإمامته، ولعل أبا نعيم كان يكتفي بذكر السند عن التنبيه عليها.
وقد أحسن أبو نعيم التصنيف، ولهذا فقد عدّه ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوريّ، المتوفى سنة [643 هـ] في مقدمته واحدا من سبعة من الذين أحسنوا التأليف، وعظمت الاستفادة من مصنفاتهم، فقال: «سبعة من الحفاظ في ساقتهم أحسنوا التصنيف، وعظم الانتفاع بتصانيفهم في عصرنا، منهم أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه الأصبهاني الحافظ» .
ومن أشهر مؤلفات أبي نعيم: [1] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، وقد طبع كتاب الحلية في عشر مجلدات، وقد حاز إعجاب العلماء في حسن تصنيفه، وغزارة مادته، فقال عنه ابن خلكان: «كتاب الحلية من أحسن الكتب» ، وقال عنه ابن كثير: «من كتب أبي نعيم الحلية، دلّ على رواية أبي نعيم،(2/369)
كان الرسول متعجلا لما يفهم قيل لذلك التفهيم: وحي، وله مراتب ووجوه في القرآن:
- وحي إلى الرسول، وهو أن يخاطبه الملك شفاها ويلقي ذلك في روعه، وذلك قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [ (1) ] يريد بذلك خطابا يلقي فهمه في قلبه حتى يعيه ويحفظه.
- وما عداه من غير خطاب، فإنما هو ابتداء إعلام وإلهام وتوقيف من غير كلام ولا خطاب كقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ (2) ] ، وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [ (3) ] وما في معناهما.
__________
[ () ] وكثرة مشايخة، وقوة اطلاعه في مخارج الحديث ... » ، ويذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ، أن أبا نعيم لما صنف كتاب الحلية، حمل الكتاب إلى نيسابور، فاشتروه بأربعمائة دينار» .
[2] كتاب دلائل النبوة، فقد ساق أبو نعيم في هذا الكتاب الأحاديث بإسناده، دون أن ينبه إلى صحتها أو عدم صحتها، ودون أن يتكلم على أحد من رجال هذه الأسانيد، ودون أن يشير إلى وجودها في شيء من كتب المحدثين الذين تقدموه، وقد حوى هذا الكتاب خمسة وثلاثين فصلا، تحدثت عن أسماء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، واشتهار أمره قبل مبعثه، وذكر الكتب السماوية له، وتحدثها عن صفاته، وما خصه اللَّه به، وغير ذلك، وقد طبع الكتاب في الهند بعد مرة، في جزء واحد، بدون تحقيق، ثم طبع في دار النفائس [بيروت- لبنان] بتحقيق كل من: الدكتور/ محمد روّاس والأستاذ عبد البر عباس.
وبعد أن امتدت حياة أبي نعيم أربعة وتسعين عاما، قضاها كلها، إلا الأعوام الأربعة الأولى منها، ما بين درس، ومدرسة، وتدريس، وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من محرم سنة ثلاثين وأربعمائة كما يذكر ابن خلكان، حمل النعي إلى العالم الإسلامي نبأ الفجيعة، نبأ وفاة أبي نعيم في أصفهان، فبكى الناس العالم المحقق، والزاهد العابد، والحافظ المحدّث، والمؤرخ المتبحر، رحمه اللَّه رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام خيرا.
(دلائل النبوة) : 1/ 5- 15، (الحلية) : 1/ المقدمة، (البداية والنهاية) : 12/ 56، (وفيات الأعيان) : 1/ 91- 92، ترجمة رقم (33) ، (سير أعلام النبلاء) :
17/ 453- 464، ترجمة رقم (305) ، (الكامل في التاريخ) : 10/ 119، 254، 11/ 349، (طبقات الحفاظ) : 423، ترجمة رقم (958) ، (ميزان الاعتدال) : 1/ 111، ترجمة رقم (438) ، (الوافي بالوفيات) : 7/ 81- 84، ترجمة رقم (3024) ، (مرآة الجنان) : 3/ 52، (لسان الميزان) : 1/ 216، ترجمة رقم (638) ، (شذرات الذهب) :
3/ 245، (المستفاد من ذيل تاريخ بغداد) : 19/ 49- 52، ترجمة رقم (35) .
[ (1) ] الشورى: 51.
[ (2) ] النحل: 68.
[ (3) ] القصص: 7.(2/370)
وقال ابن سيده [ (1) ] في كتاب المخصص: النبي هو من نبّأت، أي أخبأت، لأنه إنباء عن اللَّه، وأنبئ، ومن زعم أن أصله غير الهمز فقد أخطأ، لأن سيبويه قال:
وليس أحد من العرب إلا وهو يقول: تنبأ مسيلمة، فلو كان من النبوة- كما ذهب إليه غير سيبويه لقالوا: تنبأ مسيلمة، وبعضهم يقول تنبّأ مسيلمة، كما أن سنة لما كانت من الهاء عند قوم ومن الواو عند آخريين، قالوا: سنهات وسنوات، وكذلك عضة، قالوا مرة عضاة ومرة عضوات، فكذلك النبي: لو كان من النبوة ومن النبأ لهمز مرة وترك همزة أخرى.
قال: وزعم سيبويه [ (2) ] أن بعض أهل الحجاز يهمزون النبي، وهي لغة رديئة،
__________
[ (1) ] هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بابن سيدة المرسيّ، كان إماما في اللغة والعربية، حافظا لهما، وقد جمع في ذلك جموعا، من ذلك كتاب [المحكم] في اللغة، وهو كتاب كبير جامع، مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب [المخصص] في اللغة أيضا وهو كبير، وكتاب [الأنيق] في شرح الحماسة في ست مجلدات، وغير ذلك من المصنفات النافعة، وكان ضريرا، وأبوه ضريرا، وكان أبوه أيضا قيّما بعلم اللغة، وعليه اشتغل ولده في أول أمره، ثم على أبي العلاء صاعد البغدادي، وقرأ أيضا على أيضا على أبي عمر الطّلمنكيّ، قال الطلمنكي: ذهبت إلى مرسية، فتشبّث بي أهلها يسمعون عليّ [غريب المصنف لأبي عبيد] ، فقلت لهم: انظروا لي من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيدة، فقرأه عليّ من أوله إلى آخره، فتعجبت من حفظه، وكان له في الشعر حفظه وتصرف.
توفي بحضرة [دانية] عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره ستون سنة أو نحوها. رأيت على ظهر مجلد من المحكم بحفظ بعض فضلاء الأندلس أن ابن سيدة المذكور كان يوم الجمعة قبل يوم الأحد المذكور صحيحا سويا إلى وقت صلاة المغرب، فدخل المتوضّأ فأخرج منه وقد سقط لسانه، وانقطع كلامه، فبقي على تلك الحال إلى العصر من يوم الأحد ثم توفي، رحمه اللَّه. وقيل: سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، والأول أصح واشتهر. و [سيدة] : بكسر السين المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وفتح الدال المهملة، وبعدها ياء ساكنة. و [المرسيّ] :
بضم الميم وسكون الراء، هذه النسبة إلى مرسية، وهي مدينة في شرق الأندلس، و [الطّلمنكيّ] : بفتح الطاء المهملة واللام والميم وسكون النون وبعدها كاف، هذه النسبة إلى طلمنكة، وهي مدينة في غرب الأندلس، إلى الغرب من وادي الحجارة، وقال الحميري: بينها وبين وادي الحجارة عشرون ميلا.
(وفيات الأعيان) : 3/ 330- 331، ترجمة رقم (449) ، (مرآة الجنان) : 1/ 83، (سير أعلام النبلاء) : 18/ 144- 146، ترجمة رقم (78) ، (معجم مصنفي الكتب العربية) :
336، (كشف الظنون) : 1/ 691، 2/ 1616- 1617، (لسان الميزان) :
4/ 205- 206، (البداية والنهاية) : 12/ 116- 117.
[ (2) ] إمام النحو، حجة العرب، أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر، الفارسيّ، ثم البصريّ، وقد طلب الفقه والحديث مدة، ثم أقبل على العربية، فبرع وساد أهل العصر، وألّف فيها كتابه الكبير الّذي لا يدرك شأوه فيه. استملى على حمّاد بن سلمة، وأخذ النحو عن عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب، والخليل، وأبي الخطاب الأخفش الكبير.(2/371)
ولم يستردئ ذهابا منه إلى أن أصله غير الهمز، وإنما استردأها من حيث كثرة استعمال الجمهور من العرب لها من غير لها من غير همز.
قال أبو عبيد [ (1) ] : قال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب، يهمزون
__________
[ () ] وقد جمع يحى البرمكي ببغداد بينه وبين الكسائي للمناظرة. بحضور سعيد الأخفش، والفرّاء، وجرت مسألة الزنبور، وهي كذب: أظنّ الزّنبور أشدّ لسعا من النحلة فإذا هو إياها، فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل: فإذا هو هي: وتشاجرا طويلا، وتعصبوا للكسائي دونه، ثم وصله يحيى بعشرة آلاف، فسار إلى بلاد فارس، وكان قد قصد الأمير طلحة بن طاهر الخزاعي. ومعنى [سيب] : تفاح، و [ويه] :
رائحة، [رائحة التفاح] .
وقيل: كان فيه مع فرط ذكائه حبسة في عبارته، وانطلاق في قلمه. قال إبراهيم الحربيّ: سمي سيبويه، لأن وجنتيه كانتا كالتفاحتين، بديع الحسن. قال أبو زيد الأنصاري: كان سيبويه يأتي مجلس، وله ذؤابتان، فإذا قال: حدثني من أثق به فإنما يعنيني. وقال العيشي: كنا نجلس مع سيبويه في المسجد، وكان شابا جميلا نظيفا، قد تعلق من كل علم بسبب، وضرب بسهم في كل أدب، مع حداثة سنة.
عاش سيبويه اثنتين وثلاثين سنة، ومات بشيراز سنة ثمانين ومائة.
(تاريخ بغداد) : 12/ 195- 199، ترجمة رقم (6658) ، (وفيات الأعيان) :
3/ 463- 465، ترجمة رقم (504) ، (مرآة الجنان) : 1/ 445، (البداية والنهاية) :
10/ 189- 190، (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) : 1/ 128- 130، (شذرات الذهب) : 1/ 252.
[ (1) ] هو الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون، أبو عبيد، القاسم بن سلّام بن عبد اللَّه، ولد سنة سبع وخمسين ومائة، وسمع إسماعيل بن جعفر، وشريك بن عبد اللَّه، وهشيما، وخلقا كثيرا، إلى أن ينزل إلى رفيقه هشام بن عمار، ونحوه، وقرأ القرآن على أبي الحسن الكسائي، وطائفة. وأخذ اللغة عن أبي عبيدة، وأبي زيد، وجماعة. وصنّف التصانيف المؤنقة، التي سارت بها الركبان، وهو من أئمة الاجتهاد، له كتاب [الأموال] في مجلد كبير، وكتاب [الغريب] ، وكتاب [فضائل القرآن] ، وكتاب [الطهور] ، وكتاب [الناسخ والمنسوخ] ، وكتاب [المواعظ] ، وكتاب [الغريب المصنف في علم اللسان] ، وغير ذلك، وله بضعة وعشرون كتابا.
حدّث عنه نصر بن داود، وعباس الدوري، وآخرون. كما قال عبد اللَّه بن جعفر بن درستويه النحويّ: وكان ذا فضل ودين وستر، ومذهب حسن، ثقة ديّنا، ورعا، كبير الشأن. وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وفي علمه، ربانيا، مفنّنا في أصناف علوم الإسلام من القرآن، والفقه، والعربية والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحدا طعن في شيء من أمر دينه.
عن ابن معين قال: أبو عبيد ثقة، وقال أبو داود: أبو عبيد ثقة مأمون، وقال الدارقطنيّ: إمام جبل. قال البخاري وغيره: مات سنة أربع وعشرين ومائتين بمكة، قال الخطيب: وبلغني أنه بلغ سبعا وستين سنة.
(طبقات ابن سعد) : 7/ 355، (التاريخ الكبير) : 7/ 172، ترجمة رقم (778) ، (التاريخ الصغير) : 2/ 350، (المعارف) : 549، (الجرح والتعديل) : 7/ 111، ترجمة رقم(2/372)
النبي والبرية [ (1) ] ، وذلك قليل في الكلام.
وقال [يعني ابن سيده] في كتاب المحكم في مادة ن ب أ: والنبي المخبر عن اللَّه عز وجل مكية، قال سيبويه: الهمز فيه لغة رديئة، يعني لقلة استعمالها، لا لأن القياس يمنع من ذلك، ألا ترى إلى
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد قيل له: يا نبئ اللَّه فقال: «لست بنبيء اللَّه ولكني نبيّ اللَّه» ،
وذلك أنه عليه السلام أنكر الهمز في اسمه، فرده على قائله لأنه لم يرد بما سماه، فأشفق أن يمسك على ذاك وفيه شيء يتعلق بالشرع، فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور أو حاظر مباح، والجمع أنبياء ونبآء، وتنبأ الرجل: ادعى النبوة.
وقال في مادة ن ب و: والنبي العلم من أعلام الأرض التي يهتدى بها، قال بعضهم: ومنه اشتقاق النبي لأنه أرفع خلق اللَّه، وذلك لأنه يهتدى به.
وقال أبو نعيم: فالنبوة هي سفارة العبد بين اللَّه وبين ذوي الألباب من خليقته، ولهذا يوصف أبدا بالرسالة والبعثة.
وقيل: إن النبوة إزاحة علل ذوي الألباب فيما تقصر عقولهم عنه من مصالح الدارين، ولهذا يوصف دائما بالحجة والهداية ليزيح عللهم على سبيل الهداية و [السقيف] [ (2) ] .
ومعنى النبي وذو النبأ والخبر أن يكون مخبرا عن اللَّه بما خصه به من الوحي-
__________
[ () ] (637) ، (تاريخ بغداد) : 2/ 403- 416، ترجمة رقم (6868) ،) (صفوة الصفوة) :
4/ 117، ترجمة رقم (693) ، (الكامل في التاريخ) : 6/ 509، (تهذيب الأسماء واللغات) :
2/ 257، (وفيات الأعيان) : 4/ 60- 63، ترجمة رقم (534) ، (تهذيب التهذيب) :
8/ 283- 285، ترجمة رقم (574) ، (ميزان الاعتدال) : 3/ 371، ترجمة رقم (6807) ، (مرآة الجنان) : 2/ 83- 86، (البداية والنهاية) : 10/ 319- 320، (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) : 2/ 411- 412، (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) : 2/ 306، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 343، ترجمة رقم (5778) ، (طبقات الحفاظ) :
2/ 182- 183، ترجمة رقم (403) ، (الأموال) : 5- 9 (المقدمة) ، (الرسالة المستطرفة) : 35، (غريب الحديث) : (المقدمة) ، (سير أعلام النبلاء) : 10/ 490- 509، ترجمة رقم (164) .
[ (1) ] النبيء، البريئة، وهي قراءة ورش، (رواية ورش عن الإمام نافع المدني) : للشيخ محمود الحصري.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجد لها معنى فيما بين يدي من المعاجم اللغوية.(2/373)
وقيل إنها مشتقة من النّبوة التي هي المكان المرتفع عن الأرض، وهو أن يخص بضرب من الرفعة، فجعل سفيرا بين اللَّه وبين خلقه، يعنى بذلك وصفه بالشرف والرفعة.
ومن جعل النبوة من الأنباء التي هي الأخبار، لم يفرق بين النبوة والرسالة، ومعنى الرسول: فهو المرسل، معول على لفظ مفعل، وإرساله أمره إياه بإبلاغ الرسالة والوحي.
قال كاتبه: والنبي أصله بالعبرانية نبي- بضم النون وكسر الباء الموحدة ثم ياء آخر الحروف لا همز عليها- فلما عرّبت قيل: نبي بفتح النون، وهذا يؤيد أن ترك الهمز أشهر وأعرف، وفوق كل ذي علم عليم.
تنبيه وإرشاد إلى معنى النبوة- واللَّه أعلم- وكيفية تلقي الأنبياء الوحي: اعلم أن اللَّه سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده، يعرفونهم مصالحهم ويحرصون على هدايتهم، ويأخذون بحجزاتهم عن النار، ويدلونهم على طرق النجاة، وكان مما يلقيه اللَّه تعالى إليهم من المعارف، ويظهره على ألسنتهم من الخوارق، وقوع الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من اللَّه بوساطتهم، ولا يعلمونها إلا بتعليم اللَّه إياهم،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني اللَّه» .
واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصته وضرورته الصدق، كما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة، وعلامة هذا الصنف من البشر أن يوجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين، مع غطيط كأنها غشي أو إغماء وليست منها في شيء، إنما هي بالحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحانيّ بإدراكهم المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر كلية. ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما سماع دوي من الكلام فيتفهمه، أو يتمثل له في صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند اللَّه، ثم ينجلي عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقي عليه.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد سئل [ (1) ] عن الوحي:
__________
[ (1) ] السائل هو: الحارث بن هشام المخزومي، أخو أبي جهل شقيقه، أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام.(2/374)
«أحيانا [ (1) ] يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت
__________
[ (1) ] [أحيانا] : جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله «يأتيني» مؤخر عنه. ولابن حجر من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما، وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: «كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني. ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الّذي لا ينفلت مني» وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صحّ فهو محمول على ما كان قبل نزول تعالى تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ [القيامة: 16] ، فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحيح.
وأورد على ما اقتضاه الحديث- وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكلم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سدّ الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بيّن بها صفة الوحي، لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين- كما في حديث عمر- يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبّهه هو صلّى اللَّه عليه وسلّم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.
وأما النفث في الروع: فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس، نفث حينئذ في روعه. وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الّذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة: فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره. والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة، فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال قد وقع عما في اليقظة، أو يكون حال المنام لا يخفي على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له صلّى اللَّه عليه وسلّم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا- فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر. وحديث «إن روح القدس نفث في روعي» ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود.
قوله: [مثل صلصلة الجرس] ، في رواية مسلم: «في مثل صلصلة الجرس، والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس: الجلجل الّذي يعلق في رءوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحسّ.(2/375)
__________
[ () ] وقال الكرماني: الجرس: ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة. فإن قيل: المحمود لا يشبّه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه، والتّنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة، كما أخرجه مسلم، وأبو داود، وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟.
والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخصّ وصف له. بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه، تقريبا لأفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وطنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه، وعلل بكونه مزمار الشيطان. قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد. وقيل: بل هو صوت خفيف أجنحة الملك. والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره.
ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا؟ متدارك؟ وقع التشبيه دون غيره من الآلات.
قوله: [وهو أشدّ عليّ] ، يفهم منه أن لوحي كلّه شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أن كل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل وسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشدّ بلا شك.
قوله: [فيفصم] بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقلع ويتجلى ما يغشاني، ويروي بضم أوله، وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى:
لَا انْفِصامَ لَها [البقرة: 256] ، وقيل: الفصم بالفاء القطع بلا إبانة، وبالقاف القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلة.
قوله: [وقد وعيت عنه ما قال] ، أي القول الّذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى- حكاية عمن قال من الكفار-: إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 25] لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به.
قوله: [يتمثل لي الملك] ، التمثل مشتق من المثل، أي يتصور، واللام في الملك للعهد وهو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد، وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر. قال المتكلمون:
الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية.
و [رجلا] ، منصوب بالمصدرية، أي يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال، والتقدير هيئة الرجل. قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن اللَّه أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها اللَّه تعالى في بعض خلقه. ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة. قال الحافظ(2/376)
ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»
ويدركه أثناء ذلك
__________
[ () ] في (الفتح) : وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا، فإنه بالنّفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير، وهذا على سبيل التقريب، والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. واللَّه أعلم.
قوله: [فيكلمني] ، كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك «فيعلمني» بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف، وكذا للدارقطنيّ في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره.
قوله: [فأعي ما يقول] ، زاد أبو عوانه في صحيحه: «وهو أهونه عليّ» . وقد وقع التغاير في الحالتين، حيث قال في الأول: «وقد وعيت» بلفظ الماضي، وهنا: «فأعي» بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلّية كان حافظا لما قيل له، فعبر عنه بالماضي، فإنه على حالته المعهودة.
قوله: [قالت عائشة] ، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف. وقد أخرجه الدار الدّارقطنيّ في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب، عن مالك مفصولا عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام، ونكتة هذا الاقتطاع هنا، اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول.
قوله: [ليتفصّد] بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد، وهو قطع العرق لإسالة الدم، شبّه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق. وفي قولها: «اليوم الشديد البرد» دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.
قوله: [عرقا] ، بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: «وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه» . حكى العسكري في (التصحيف) عن بعض شيوخه أنه قرأ: «ليتقدّد» بالقاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تقصّد الشيء إذا تكسر وانقطع، ولا يخفى بعده.
وفي حديث الباب من الفوائد: أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل. واللَّه أعلم (فتح الباري) : 1/ 23- 28، كتاب بدء الوحي باب (3) حديث رقم (2) ، (ابن سعد في طبقاته) : 1/ 198، (تحفة الأحوذي) : 10/ 78- 79، أبواب المناقب، باب (34) كيف كان ينزل الوحي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3877) ، (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 223 باب وأما كيفية إلقاء الوحي إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (171) .(2/377)
من الشدة [ (1) ] والغط ما لا يعبر عنه، ففي الحديث: كان مما يعالج من التنزيل شدة [ (1) ] ، وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: «فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد [البرد] [ (2) ] فيفصم عنه وإن جبينه ليفصد عرقا» وقال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ (3) ] ولأجل هذه الحالة في تنزيل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون: له رئي أو تابع من الجن، وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الحال وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [ (4) ] .
ومن علاماتهم أيضا أنهم يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع، وهذا هو معنى العصمة، وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها، وكأنها منافية لجبلته [ (5) ] ، واعتبر بسقوط إزار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [حين] انكشف كيف خرّ مغشيا عليه [ (6) ] ، وبقصده وليمة العرس كيف غشيه النوم ليله كله ولم يحضر شيئا من شأنهم [ (7) ] ، بل نزّهه اللَّه عن ذلك بجبلته [ (1) ] حتى أنه عليه السلام ليتنزه عن المطعومات المستكرهة، فلم يقرب البصل ولا الثوم، فلما قيل له في ذلك
قال: إني أناجي من لا تناجي [ (8) ] ،
وانظر
لما أخبر.....
__________
[ (1) ] قال بعضهم: وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع، وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات. (فتح الباري) : 1/ 27.
[ (2) ] تكملة من (البخاري) .
[ (3) ] المزمل: 5.
[ (4) ] الرعد: 33.، الزمر: 23.، الزمر: 36.، غافر: 33.
[ (5) ] جبل اللَّه الخلق يجبلهم ويجبلهم: خلقهم. وجبله على الشيء: طبعه. وجبل الإنسان على هذا الأمر أي طبع عليه، وجبلة الشيء: طبيعته وأصله وما بني عليه. قال تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً، خلقا كثيرا، وقوله تعالى: وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ، الخلقة الأولين. آية 62/ يس، آية 184/ الشعراء، على الترتيب. (لسان العرب) : 11/ 98- 99.
[ (6) ] سبق ذكره وتخريجه، حيث أورده أبو نعيم في (دلائل النبوة) ، باب: «ومما عظّم به صلّى اللَّه عليه وسلّم وحرس منه أن لا يتعرى كفعل قومه وأهله، وإذا حفظ من التعري، فما فوقه أولى أن يعصم منه وينهى عنه» .
[ (7) ] سبق ذكره وتخريجه، حيث أورده أبو نعيم في (دلائل النبوة) ، باب: «ذكر ما خصه اللَّه عزّ وجلّ به من العصمة، وحماه من التدين بدين الجاهلية، وحراسته إياه عن مكائد الجن والإنس، واحتيالهم عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
[ (8) ]
أخرجه البخاري في كتاب (الأذان) ، باب: ما جاء في الثوم النّيّء والبصل، والكرّاث، حديث رقم (855) ، قوله: «كل فإنّي أناجي من لا تناجي» ،
أي الملائكة:
(فتح الباري) :(2/378)
[رسول] [ (1) ] اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خديجة رضي اللَّه عنها بحال الوحي أول ما فجئه وأرادت اختباره فقالت له: اجعلني بينك وبين ثوبك، فلما فعل ذلك ذهب عنه!! فقالت:
إنه ملك وليس بشيطان [ (2) ] ، ومعناه أنه لا يقرب النساء، وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها، فقال: البياض والخضرة، فقالت إنه الملك،
بمعنى أن الخضرة والبياض من ألوان الخير والملائكة، والسواد من ألوان الشرّ والشياطين وأمثال ذلك.
ومن علاماتهم أيضا دعواهم الخلق إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف، وقد استدلت خديجة رضي اللَّه [عنها] [ (1) ] على صدقه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك، وكذلك أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلم يحتاجا- رضي اللَّه عنهما- في أمره عليه السلام إلى دليل خارج عن حاله وخلقه، وكذا هرقل لما جاءه كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعوه إلى الإسلام سأل عن حاله، وكان فيما قال: فبم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، فأجابه عن ذلك، فقال: إن يكن ما يقول حقا إنه نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين [ (3) ] ، والعفاف الّذي أشار إليه هرقل هو العصمة، فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة النبوة، ولم يحتج إلى معجزة، فدل على أنّ ذلك من علامات النبوة.
ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوى حسب في قومهم، كما
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما بعث اللَّه نبيا في منعه [ (4) ] من قومه» ، وفي رواية للحاكم: في ثروة من قومه.
__________
[ () ] 2/ 435، وابن حبان في صحيحه، كتاب (الصلاة) ، باب: المساجد، فصل ذكر الزجر عن إتيان المساجد لأكل الثوم والبصل والكراث إلى أن تذهب رائحتها، حديث رقم (1644) ، عن جابر بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أكل من هذه البقلة: الثوم والبصل والكراث، فلا يغشنا في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس» ، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) : 4/ 250.
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] سيأتي تخريجه إن شاء اللَّه تعالى في فصل «ذكر مجيء الملك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برسالات ربه تعالى» .
[ (3) ] سيأتي تخريجه إن شاء اللَّه تعالى عند شرح مكاتيب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الملوك.
[ (4) ] منع: منعه يمنعه- بفتح نونهما- ضد أعطاه، كمنعه فهو مانع ومنّاع ومنوع: جمع الأول منعه محرّكة، وهو في عزّ ومنعة- محرّكة ويسكّن- أي معه من يمنعه من عشيرته. (ترتيب القاموس) :
4/ 287.(2/379)
وكذا قال هرقل في مساءلته أبا سفيان: كيف هو فيكم؟ فقال أبو سفيان:
هو فينا ذو حسب، قال هرقل: والرسل تبعث في أحساب قومها، ومعناه أن تكون له عصبية وشوكة تمنعه من أذى الكفار حتى يبلغ رسالات ربه، ويتم مراد اللَّه من إكمال دينه وملته.
ومن علاماته أيضا وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم، وهي أفعال تعجز البشر عن مثلها، فسميت لذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم، وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف ليس هذا موضع إيراده.
وأما حقيقة النبوة: فاعلم أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غاياته، وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجسماني، وأولا: عالم العناصر المشاهد كيف تدرج صاعدا من الأرض إلى الماء، ثم إلى الهواء، ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض، وكل واحد منها مستعد أن يستحيل إلى ما يليه صاعدا أو هابطا، ويستحيل بعض الأوقات، والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهي ألطف من الكل، وعلى طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، وما يهتدي بها بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها، وما بعد ذلك من وجود الذات التي لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج [إلى] [ (1) ] آخر أفق المعادن، متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم، متصل بأول أفق الحيوان كالحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق من الّذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدرج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر، والرؤية ترتفع إليه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(2/380)
من عالم [القدرة] [ (1) ] الّذي استجمع فيه الكيس والإدراك، ولم ينته إلى الرؤية والفكر بالفعل، وكان ذلك في أول أفق من الإنسان بعده، وهذا غاية شهودنا.
ثم أنا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوعة، ففي عالم الحس آثار من حركة الأفلاك والعناصر، وفي عالم التكوين آثار من حركات النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثرا مباينا للأجسام، فهو روحاني متصل بالمكونات، لوجود اتصال هذه العوالم في وجودها، وذلك هو النفس المدركة والمحركة، ولا بد فوقها من موجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة، ويتصل بها أيضا وتكون [ذواته] [ (2) ] إدراكا صرفا، وتعقلا محضا، وهو عالم الملائكة، فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملائكية، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات، وفي لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل- كما نذكره بعد [ذلك] [ (3) ] إن شاء اللَّه- ويكون لها اتصال بالأفق الّذي بعدها، شأن الموجودات المترتبة كما قدمناه، فلها في الاتصال جهة العلو والسفل، فهي متصلة بالبدن من أسفل منها، ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل، ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكية، ومكتسبة منه المدارك العلية والغيبية، فإن علم الحوادث موجود في ذواتهم من غير زمان، وهذا على ما قدّمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض.
ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة من العيان، وآثارها ظاهرة في البدن، وكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومتفرقة آلات للنفس ولقواها، أما الفاعلة: فالبطش باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان، والحركة الكلية بالبدن متدافعا، وأما المدركة وإن كانت قوى الإدراك مترتبة ومرتقبة إلى القوة العليا منها وهي المعركة التي يعبرون عنها بالناطقة، فقوى الحس الظاهر بآلاته من البصر والسمع وسائرها ترتقي إلى الباطن، وأوله الحسن المشترك، وهو قوة تدرك المحسوسات، مبصرة، ومسمعة، وملموسة، وغيرها في حالة واحدة، وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر، لأن
__________
[ (1) ] في (خ) : «القردة» .
[ (2) ] في (خ) : «ذواية» .
[ (3) ] زيادة للسياق.(2/381)
المحسوسات لا يزدحم عليها في الوقت الواحد، ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال، وهو قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط، وآلة هاتين القوتين في تصرفهما: البطن الأول من الدماغ مقدمه للأولى ومؤخره للثانية، ثم يرتقي الخيال إلى الوهمية والحافظة، فالوهمية لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات، كعداوة زيد، وصداقة عمرو، ورحمة الأب، وافتراس الذئب، والحافظة لإيداع المدركات كلها متخلية، وهي لها كالخزانة تحفظها إلى وقت الحاجة إليها، وآلة هاتين القوتين في تصرفهما: البطن المؤخر من الدماغ أوله للأولى ومؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر وآلته البطن الأوسط من الدماغ، وهو القوة التي تقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل، فتحرك النفس بها دائما بما ركب فيها من النزوع إلى ذلك لتخلص من درك القوة والاستعداد الّذي للبشرية، وتخرج إلى الفعل في خلقها متشبهة بالملإ الأعلى الروحانيّ، وتعتبر في أول مراتب الروحانيات في إداركها بغير الآلات الجسمانية، فهي متحركة دائما ومتوجهة نحو ذلك، وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملائكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بما جعل اللَّه تعالى فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك.
واعلم أن النفوس البشرية في ذلك على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحانيّ، فيقنع بالحركة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية، وتركيب المعاني من الحافظة والوهمية على قوانين محصورة وترتيب خاص، يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن، وكلّها خيالي منحصر نطاقه، إذ هو من جهة مبدئية ينتهى إلى الأوليات ولا يتجاوزها، وإن فسدت فسد ما بعدها، وهذا هو [أغلب] [ (1) ] نطاق الإدراك البشري الجسماني، وإليه ينتهي مدارك العلماء،؟ وفيه؟ ترسخ أقدامهم.
وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو التعقل الروحانيّ والإدراك الّذي لا يفتقر إلى آلات البدن بما جعل فيه من الاستعداد لذلك، فيتّسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات
__________
[ (1) ] في (خ) : «الأغلب» .(2/382)
الباطنة، وهي وجدان كلها، لا نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها، وهذه مدارك الأولياء، أهل العلوم اللدنية والمعارف الربانية، وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة.
وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة: جسمانيها وروحانيها إلى الملائكية من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل، ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم، وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهو لأهم الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، جعل اللَّه لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي، فطرة فطرهم اللَّه عليها، وجبلة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة التي يحادون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكتنف بتلك الوجهة، وتشيع نحوها، فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروها عليها، لا باكتساب ولا صناعة، فإذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه على جوابه على المدارك البشرية، متنزلا في قواها لحكمة التبليغ للعباد، فتارة بسماع دويّ كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الّذي ألقى إليه، فلا ينقضي الدويّ إلا وقد وعاه وفهمه.
وتارة يتمثل له الملك الّذي يلقى إليه رجلا يكلمه ويلقى ما يقوله، والتلقي من الملك والرجوع على المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعا، فتظهر كأنها سريعة، ولذلك سميت وحيا، لأن الوحي في اللغة الإسراع.
واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه، والثانية وهي حالة يتمثل الملك رجلا يخاطب [و] [ (1) ] هي رتبة الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأولى، وهذا معنى الحديث الّذي فسر فيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الوحي لما
سأله الحارث بن هشام وقال: كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحيانا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(2/383)
يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قاله، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقوله [ (1) ] ،
وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل، فيعسر بعض العسر، ولذلك لما عاج [ (2) ] فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع وصعب ما سواه، وعند ما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال، فعند ما يعرج على المدارك البشرية يأتي على جميعها، وخصوصا الأوضح منها، وهو إدراك البصر، وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة، وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت الحالة الأولى بالدويّ الّذي هو المتعارف [ (3) ] غير كلام وإخبار، أن الفهم والوعي يتبعه عقب [ (4) ] انقضائه، فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع، ويمثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم، والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضى للتجدد.
واعلم أن في حالتي الوحي كلها على الجملة صعوبة وشدة، قد أشار إليها القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ (5) ] وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: كان مما يعاني من التنزيل شدة، وقالت: كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا، ولذلك ما كان يحدث فيه تلك الحالة من الغيبة والغطط ما هو معروف.
وشبيه ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملائكية، وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر، وهذا معنى الغط الّذي عبّر به في مبدإ الوحي في قوله: فغطني حتى بلغ من الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ [ (6) ] .
__________
[ (1) ] سبق شرحه.
[ (2) ] طريق عاج: ممتلئ (ترتيب القاموس) ج 3 ص 158.
[ (3) ] في (خ) «المتعاف» .
[ (4) ] في (خ) «عب» .
[ (5) ] آية: 5/ المزمل.
[ (6) ] آية: 1/ العلق.(2/384)
وقد يقضي الاعتبار فيه بالتدريج شيئا فشيئا إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله، وكذلك كانت تنزل نجوم القرآن [ (1) ] ، وسوره وآياته حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة، وانظر إلى ما قيل في نزول سورة براءة [ (2) ] في غزوة تبوك، وأنها أنزلت أو أكثرها على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من القصار المفصل [ (3) ] في وقت، وينزل عليه الباقي في حين آخر، وكذلك كان من آخر ما نزل عليه بالمدينة آية الدين [ (4) ] ، وهي ما هي بالطول، بعد أن كانت الآيات تنزل بمكة مثل آيات سورة الرحمن، والذاريات، والمدثر، والضحى، والعلق، وأمثالها، واعتبر من ذلك علامة تميزها بين المكيّ والمدني من السور والآيات، واللَّه المرشد إلى الصواب. هذا ما تحصل من أمر النبوة.
__________
[ (1) ] واعلم أن القرآن نزل ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، في مكان يقال له: بيت العزة، على هذا الترتيب الّذي نقرؤه، فإنه توقيفي، ثم نزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ثلاث وعشرين سنة، على حسب الوقائع لقوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [آية 33/ الفرقان] ، لكن لا على هذا الترتيب، فإنه نزل عليه ثلاث وثمانون سورة بمكة، أي قبل الهجرة، ثم بالمدينة أحد وثلاثين على التحقيق.
فأول ما نزل بمكة اقْرَأْ، وآخر ما نزل بها، قيل: العنكبوت، وقيل: المؤمنون، وقيل:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. وأول سورة نزلت بالمدينة: البقرة، وآخر سورة نزلت بها: المائدة. وهناك بعض سور اختلف بها، منها الفاتحة، ويمكن تكرار نزولها.
وأما أول آية نزلت على الإطلاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وآخر آية على الإطلاق وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الآية 281 البقرة] . (حاشية العلامة الصاوي على الجلالين) : 1/ 4.
[ (2) ] براءة: من أسماء سورة التوبة، وهي السورة رقم [9] في المصحف، وعدد آياتها [129] آية:
نزلت بعد سورة المائدة، وهي من القرآن المدني، إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان.
[ (3) ] سور المفصل: من أول سورة الحجرات حتى آخر القرآن الكريم.
[ (4) ] هي الآية رقم 282/ البقرة وهي أطول آية في القرآن الكريم، أولها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.(2/385)
أنواع الوحي وأقسامه
وتبيان لأنواع الوحي وأقسامه: اعلم أن الوحي للأنبياء والمرسلين يكون تارة في النوم وتارة في اليقظة، فالذي يكون في اليقظة إما بواسطة الملك أو بغير واسطة، ومن الرسل من فضله اللَّه تعالى بأن كلمه اللَّه في اليقظة من وراء حجاب دون وحي ولا بتوسط ملك، لكن بكلام مسموع بالآذان، معلوم بالقلب، زائد على الوحي الّذي هو معلوم بالقلب فقط، أو مسموع من الملك عن اللَّه تعالى، وهذا هو الّذي خصّ به موسى عليه السلام [ (1) ] من الشجرة، ومحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الإسراء [ (2) ] من المستوى الّذي سمع فيه صريف [ (3) ] الأقلام، وقد كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الوحي حالات متعددة، فكان الوحي الّذي يلقاه [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منحصرة أقسامه في ثلاثة عشرة وهي: نزول الملك في صورة دحية [ (5) ] ، ونزوله على الصورة التي خلق عليها وله ستمائة جناح، ونفث [ (6) ] روح القدس في روعه، ورؤيته في المنام، وسماعه مثل صلصلة الجرس، ونزول إسرافيل عليه، وتكليمه اللَّه تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة، وتكليمه تعالى كذلك في المنام، والعلم الّذي يلقيه سبحانه في صدره وعلى لسانه عند الاجتهاد في الوقائع لأن الشيطان ليس له إلى باطن الأنبياء من سبيل، فخواطر الأنبياء كلها إما ربانية أو ملكية أو نفسية، لا حظّ للشيطان في قلوبهم، لأنهم مشرعون، فلذلك عصمت بواطنهم، والوحي المشبه بدويّ النحل، ومجيء جبريل في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ومجيء ملك الجبال، والخطاب مشافهة على قول من يثبت الرؤية، وسنقف على شرح ذلك وتبيانه من الأحاديث المسندة بطرقها إن شاء اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] لعلها شجرة الأنبياء عليهم السلام.
[ (2) ] سيأتي الحديث عنها عند الكلام على الإسراء والمعراج إن شاء اللَّه تعالى، وفي (خ) : «الإسرى» .
[ (3) ] صريف الأقلام: أي صوت جريانها بما تكتبه من أقضية اللَّه ووحيه، وما يستنسخونه من اللوح المحفوظ، وفي حديث موسى، على نبينا وعلى نبينا وعليه السلام: أنه كان يسمع صريف القلم حين كتب اللَّه تعالى له التوراة. (لسان العرب) : 9/ 193.
[ (4) ] في (خ) : «يقاه» .
[ (5) ] هو دحية الكلبي.
[ (6) ] في (خ) : «نفس» .(2/386)
[فصل في أمارات نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم التي رآها قبل البعثة]
وأما أمارات النبوة التي رآها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل بعثته بالرسالة: قال الواقدي:
عن علي بن محمد بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن برة بنت أبي بخزان أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان حين أراد اللَّه عز وجل كرامته وابتداءه بالنّبوّة إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتا، ويفضي إلى الشعاب و [بطون] الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر [ة] إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، [فكان] يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
(سنن الدارميّ) : 1/ 12، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن» ،
قوله: «كان يسلم عليّ» ،
أي يقول:
السلام عليك يا رسول اللَّه
(تحفة الأحوذي) : 10/ 69 أبواب المناقب، حديث رقم (3867) ، «إن بمكة حجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه الآن»
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وفي (طبقات ابن سعد) : 1/ 157، وما بين القوسين زيادات منه.
قوله: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن» ،
فيه معجزة له صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية: 74/ البقرة] ، (مسلم بشرح النووي) : 15/ 41، كتاب الفضائل، باب:
فضل نسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث رقم (2277) ، (تاريخ الإسلام) :
2/ 125، باب ذكر مبعثه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (مسند أحمد) : 6/ 92، من حديث جابر بن سمرة، حديث رقم (20317) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 146، باب مبتدإ البعث والتنزيل، وما ظهر عند ذلك من تسليم الحجر والشجر وتصديق ورقة ابن نوفل إياه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عبيد اللَّه بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، وكان واعية عن بعض أهل العلم: «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين أراد اللَّه بكرامته، وابتدأه بالنّبوّة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسّر عن البيوت، ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، قال فيلتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حوله، وعن يمينه، وشماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كذلك(2/387)
وفي رواية لغير الواقدي: فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرد عليهم: وعليك السلام، وكان علمه جبريل التحية [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث الحرث بن أبي أسامة، حدثنا، داود ابن [المحبر] [ (2) ] ، حدثنا حماد بن أبي عمران الجوني عن يزيد بن [ (3) ] بابنوس عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نذر أن يعتكف شهرا هو وخديجة بحراء، فوافق ذلك من شهر رمضان، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسمع: السلام عليك، فظنها فجأة الجن، فجاء مسرعا حتى دخل على خديجة فسجته [ (4) ] ثوبا وقالت: ما شأنك يا ابن عبد اللَّه؟ فقلت: قيل: السلام عليك فظننتها فجأة الجن، فقالت: أبشر
__________
[ () ] يرى ويسمع، ما شاء اللَّه أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة اللَّه، وهو بحراء في شهر رمضان» (ابن هشام) : 2/ 66- 67.
وقال السهيليّ: وهذا التسليم: الأظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن يكون اللَّه أنطقه إنطاقا، كما خلق الحنين في الجذع، ولكن ليس من شروط الكلام الّذي هو صوت وحرف: الحياة والعلم والإرادة، لأنه صوت كسائر الأصوات، والصوت عرض في قول الأكثرين، ولم يخالف فيه إلا النّظام، فإنه زعم أنه جسم، وجعله الأشعريّ اصكاكا في الجواهر بعضها لبعض، وقال أبو بكر بن الطيب: ليس الصوت نفس الأصكاك، ولكنه معنى زائد عليه، ولو قدّرت الكلام صفة قائمة بنفس الحجر والشجر، والصوت عبارة عنه، لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام، واللَّه تعالى أعلم أي ذلك كان، أكان كلاما مقرونا بحياة وعلم، فيكون الحجر به مؤمنا؟ أو كان صوتا مجردا غير مقترن بحياة؟، وفي كلا الوجهين هو علم من أعلام النبوة. وأما حنين الجذع فقد سمّي حنينا، وحقيقة الحنين تقتضي شرط الحياة، وقد يحتمل تسليم الحجارة أن يكون مضافا في الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن، ويغمرونها، فيكون مجازا من قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [الآية 82/ يوسف] أي أهل القرية، والأول أظهر، وإن كانت كل صورة من هذه الصور التي ذكرناها فيها علم على نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم، غير أنه لا يسمى معجزة في اصطلاح المتكلمين إلا ما تحدى به الخلق فيعجزون عن معارضته. (الروض الأنف) : 2/ 266- 267.
[ (1) ] كل الروايات المعتمدة بدون هذه الزيادة.
[ (2) ] تصويب من (تهذيب التهذيب) : 3/ 199، ترجمة رقم 381، وقال فيه: كذبه أحمد بن حنبل، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات، ويروي عن المجاهيل المقلوبات.
[ (3) ] قال عنه البخاري: كان ممن قاتل عليا كرم اللَّه وجهه، وقال ابن عديّ: أحاديثه مشاهير، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، قال الحافظ ابن حجر: وقال أبو حاتم مجهول، وقال أبو داود: كان شيعيا. (المرجع السابق) 11/ 2316، ترجمة رقم 607.
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : 1/ 215، 216، «فظننتها» ، «فجئت» ، «فسجتني» ، حديث رقم (163) .(2/388)
يا ابن عبد اللَّه فالسلام خير،
وذكر الحديث.
وخرج من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا برز سمع من ينادي: يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فأتى خديجة رضي اللَّه عنها فذكر ذلك لها فقال: يا خديجة، قد خشيت أن يكون خالط عقلي شيء! إني إذا برزت أسمع شيئا يناديني فلا أرى شيئا فأنطلق هاربا، فقالت: ما كان اللَّه ليفعل ذلك بك، إنك ما علمت تصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتصل الرحم، وما كان اللَّه ليفعل ذلك بك، فأسرّت ذلك إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه وكان صديقا له في الجاهلية، فأخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال له ورقة: ترى شيئا؟ قال: لا، ولكني إذا برزت سمعت النداء ولا أرى شيئا! فأنطلق هاربا فإذا هو عندي يناديني، قال: فلا تفعل ذلك، إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك، فلما برز سمع: يا محمد، قال:
لبيك، قال: قل: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، ثم قال: قل: الحمد للَّه رب العالمين من فاتحة الكتاب- ثم أتى ورقة فذكر ذلك له فقال له: أبشر ثم أبشر ثم أبشر، أشهد أنك الرسول الّذي بشّر به عيسى [إذ قال: وَمُبَشِّراً] [ (1) ] بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فأنا أشهد أنك أحمد، وأنا أشهد أنك محمد، وأنا أشهد أنك رسول اللَّه [وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك، فلما توفى ورقة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني] [ (2) ] .
قال أبو نعيم [ (3) ] : ورواه شريك عن إسحاق عن عمرو بن شرحبيل.
وروى الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصن عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأجياد إذ رأى ملكا واضع إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء يصيح: يا محمد، أنا جبريل، فذعر ورجع
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين غير واضع في (خ) ، وأثبتناه من (الروض الأنف) : 1/ 274- 275.
[ (3) ] هذا لفظ البيهقي وهو مرسل، وفيه غرابة، وهي كون الفاتحة أول ما نزل.(2/389)
سريعا إلى خديجة رضي اللَّه عنها فقال: إني لأخشى أن أكون كاهنا! قالت: كلا يا ابن العم، لا تقل ذلك، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإن خلقك لكريم [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث حماد قال [ (2) ] : حدثنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: أقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة خمسة عشر سنة، سبعا يرى الضوء [والنور] [ (3) ] ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه.
وخرج مسلم من حديث إبراهيم بن طهمان قال: حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن [ (4) ] .
ورواه سليمان بن معاذ عن سماك عن جابر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إن بمكة لحجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه.
وخرج البيهقي من حديث السّدي عن عبّاد بن عبد اللَّه عن علي رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر ولا جبل إلا قال له: السلام عليك يا رسول اللَّه [ (5) ] .
وفي رواية: لقد رأيتني أدخل معه بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الوادي، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه وأنا أسمعه. [[ (6) ]] .
__________
[ (1) ] لم أجده بهذه السياقة، وفي الباب من الأحاديث نحوا منه، وفيه:
«فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض» ،
وفيه حديث آخر: «فرفعت رأسي إلى السماء انظر إلى السماء، فإذا جبريل عليه السلام في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء» ، (دلائل أبي نعيم) :
1/ 215، [فصل في ذكر بدء الوحي وكيفية ترائي الملك وإلقائه الوحي إليه وتقريره عنده أنه يأتيه من عند اللَّه، وما كان من شق صدره صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، (دلائل البيهقي) : 2/ 148 (على الترتيب) .
وانظر أيضا الحديث رقم (4) من باب (3) ، كتاب بدء الوحي، (صحيح البخاري) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 460، حديث رقم (2519) ، وفيه: «سبع سنين» وقال في آخره: «وأقام بالمدينة عشر سنين» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين ليس في المسند
[ (4) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 153، 154.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين في (خ) كلمة «لطيفة» ولا فائدة من إثباتها.(2/390)
[المجلد الثالث]
[بقية فصل في أمارات نبوته]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
ذكر مجيء الملك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برسالات ربه تعالى
خرج البخاري ومسلم من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخبرته كذا، أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي [ (1) ] الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- قال: والتحنث: هو التعبد- الليالي ذوات العدد، وقال مسلم: أولات العدد- قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك
ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقْرَأْ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
اقْرَأْ، فقلت: ما أنا بقارئ، فقال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ
__________
[ (1) ] (من الوحي) : يحتمل أن تكون «من» تبعيضية، أي من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه محمد بن جعفر القيرواني أبو عبد اللَّه التميمي القزاز، صاحب [الجامع في اللغة] .
والرؤيا الصالحة، وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير: «الصادقة» ، وهي التي فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا، وتوطئة لليقظة، ثم مهّد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.
قوله: «في النوم» ، لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا.
قوله: «مثل فلق الصبح» ، ينصب «مثل» على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح، الّذي لا شك فيه.
قوله: «حبّب» ، لم يسمّ فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند اللَّه، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام، و «الخلاء» بالمد، الخلوة، والسّر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه إليه، وحراء: جبل معروف بمكة، والغار نقب في الجبل، وجمعه غيران.
قوله: «فيتحنث» ، هي بمعنى يتحنف، أي يتبع دين الحنفية، وهي دين إبراهيم،(3/3)
__________
[ () ] و «الفاء» تبدل «ثاء» في كثير من كلامهم، وقد وقع في رواية ابن هشام في (السيرة) : «يتحنف» بالفاء. أو التّحنّث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم، ويتحرج، ونحوهما.
قوله: «هو التعبد» ، هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري، كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله، نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراك.
قوله: «الليالي ذوات العدد» ، يتعلق بقوله: يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل، وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان في رمضان، رواه ابن إسحاق. والليالي منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء.
قوله: «لمثلها» أي الليالي، والتزود استصحاب الزاد.
قوله: «حتى جاءه الحق» ، وفي التفسير: حتى فجئه الحق- بكسر الجيم وهي الرواية التي أثبتها المقريزي- أي بغته، وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام، وسمي حقا لأنه وحي من اللَّه تعالى، وقد وقع في رواية أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: «يا محمد» ، فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: «يا محمد، جبريل جبريل» ، فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم، فناداه فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف.
وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: «لم أره- يعني جبريل- على صورته التي خلق عليها إلا مرتين» ،
وبيّن أحمد في حديث ابن مسعود، أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج.
وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: «لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد» ، وهذا يقوى رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليها لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند اللَّه تعالى.
ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي، فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في حراء وأقرأه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم انصرف، فبقي متردّدا، فأتاه من أمامه في صورته، فرأى أمرا عظيما.
قوله: «فجاءه» ، هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسّر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.
قوله: «ما أنا بقارئ» ثلاثا، «ما» نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة، فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي لا تقرءوه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك(3/4)
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [ (1) ] ، فرجع بها [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة رضي اللَّه عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع- وقال مسلم: حتى ذهب عنه ما يجد من الروع- ثم قال لخديجة: أي خديجة! ما لي قد خشيت على نفسي؟
وأخبرها الخبر فقالت له خديجة: ...
__________
[ () ] وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلّم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية. ذكره السهيليّ.
وقال غيره: إن هذا التركيب- وهو قوله: ما أنا بقارئ- يفيد الاختصاص.
وردّه الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير: لست بقارئ البتّة. فإن قيل: لم كرر ذلك ثلاثا؟ أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولا:
«ما أنا بقارئ»
على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفي المحض، وثالثا: على الاستفهام. ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق: ماذا أقرأ؟ وفي مرسل الزهري في (دلائل البيهقي) : كيف أقرأ؟ وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية. واللَّه أعلم.
قوله: «فغطني» ،
بغين معجمة وطاء مهملة. وفي رواية الطبري: «فغتني» بتاء مثناة من فوق، كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط: حبس النفس، ومنه: غطه في الماء، أو أراد غمني، ومنه الخنق، ولأبي داود الطيالسي في مسندة بسند حسن: فأخذ بحلقي.
قوله: «حتى بلغ مني الجهد» ،
روى بالفتح والنصب، أي بلغ مني غاية وسعي. وروى بالضم والرفع، أي بلغ مني الجهد مبلغه،
وقوله: «أرسلني»
أي أطلقني، ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند البخاري في (التفسير) .
[ (1) ] الآيات من أول سورة العلق.
[ (2) ] قوله: «فرجع بها» ، أي بالآيات أو بالقصة.
قوله: «فزملوه» ، أي لفوه، والرّوع بالفتح: الفزع.
قوله: «لقد خشيت على نفسي» ، دلّ هذه مع قوله: «يرجف فؤاده» على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال: «زملوني» . والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا:
[1] الجنون وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر ابن العربيّ، وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصوله العلم الضّروريّ له، أن الّذي جاءه ملك، وأنه من عند اللَّه تعالى.
[2] الهاجس، وهو باطل أيضا، لأنه لا يستقر، وحصلت بينهما المراجعة.
[3] الموت من شدة الرعب.
[4] المرض، وقد جزم به ابن أبي جمرة.
[5] دوام المرض.
[6] العجز عن حمل أعباء النبوة.
[7] العجز عن النظر إلى الملك من الرعب.(3/5)
كلا [ (1) ] ، فأبشر، فو اللَّه لا يخزيك اللَّه ...
[8] عدم الصبر على أذى قومه.
[9] أن يقتلوه.
[10] مفارقة الوطن.
[11] تكذيبهم إياه.
[12] تعييرهم إياه.
وأولى هذه الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب، الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض. واللَّه الموفق: (فتح الباري) : 1/ 28- 32، كتاب بدء الوحي، حديث رقم (3) .
__________
[ (1) ] «كلا» ، معناها في العربية على ثلاثة أوجه: حرف ردع وزجر، وبمعنى حقا، وبمعنى إي:
فالأول كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، إشارة إلى قول القائل: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الآية 100/ المؤمنون] ، أي انته عن هذه المقالة، فلا سبيل إلى الرجوع.
والثاني: نحو كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [الآية 6/ العلق] ، أي حقا، لم يتقدم على ذلك ما يزجر عنه، كذا قال قوم، وقد اعترض على ذلك بأن حقا تفتح «أنّ» بعدها، وكذلك أما تأتي بمعناها، فكذا ينبغي في «كلا» ، والأولى أن تفسّر «كلا» في الآية بمعنى ألا التي يستفتح بها الكلام، وتلك تكسر ما بعدها «إنّ» ، نحو: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، [الآية 63/ يونس] ، والثالث: قبل القسم، نحو كَلَّا وَالْقَمَرِ [الآية 32/ المدثر] ، معناه إي والقمر، كذا قال النضر بن شميل، وتبعه جماعة منهم ابن مالك، ولها معنى رابع، تكون بمعنى ألا. (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب) : 15.
وقال العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي: وهي «أي كلا» عند سيبويه والخليل والمبرّد والزّجّاج وأكثر نحاة البصرة، حرف معناه الرّدع والزجر، لا معنى له سواه، حتى إنهم يجيزون الوقف عليها أبدا والابتداء بما بعدها، حتى قال بعضهم: إذا سمعت «كلا» في سورة، فاحكم بأنها مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتوّ كان بها. وفيه نظر، لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتوّ بها لا عن غلبته.
ثم إنه لا يظهر معنى الزجر في «كلا» المسبوقة بنحو فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الآية 8/ الانفطار] ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الآية 6/ المطففين] ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [الآية 30/ القيامة] .
وقول من قال: فيه ردع عن ترك الإيمان بالتصوير، في أيّ صورة شاء اللَّه، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن، فيه تعسّف ظاهر. ثم إن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق، ثم نزل: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [الآية 6/ العلق] ، فجاءت في افتتاح الكلام، والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا، كلها في النصف الأخير.
ورأى الكسائي وجماعة أن معنى الردع ليس مستمرا فيها، فزادوا معنى ثانيا يصح عليه أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال: فقيل: بمعنى حقا، وقيل بمعنى ألا الاستفتاحية، وقيل: حرف جواب بمنزلة إي ونعم، وحملوا عليه: كَلَّا(3/6)
أبدا [ (1) ] ، فو اللَّه إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة- أخى أبيها- وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم-
__________
[ () ] وَالْقَمَرِ [الآية 32/ المدثر] ، فقالوا: معناه إي والقمر، وهذا المعنى لا يتأتي في آيتي المؤمنين والشعراء: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الآية 100/ المؤمنون] ، كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الآية 62/ الشعراء] .
وقول من قال: بمعنى حقا، لا يتأتّى في نحو: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الآيتان 7، 15 المطففين] ، لأنّ «إنّ» تكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقا، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم.
وإذا صلح الموضع للردع ولغيره، جاز الوقف عليها، والابتداء بها، على اختلاف التقديرين.
والأرجح حملها على الردع، لأنه الغالب عليها، وذلك نحو: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ [الآيتان 78، 79 مريم] ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [الآيتان 81، 82/ مريم] .
وقد يتعين للردع أو الاستفهام نحو: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الآية 100/ المؤمنون] ، لأنها لو كانت بمعنى حقا لما كسرت همزة إنّ، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع، لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانا، فتقول: نعم. ونحو:
قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الآيتان 61، 62/ الشعراء] ، وذلك لكسر إنّ، ولأن نعم بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر والردع، نحو: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ كَلَّا وَالْقَمَرِ [الآيتان 31، 32/ المدثر] ، إذ ليس قبلها ما يصح ردّه.
وقرئ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [الآية 82/ مريم] بالتنوين، إما على أنه مصدر كلّ إذا أعيا، أي كلّوا في دعواهم وانقطعوا، أو من الكلّ وهو الثّقل، أي حملوا كلا. وجوّز الزمخشريّ كونه حرف الردع نوّن كما في سَلاسِلَ [الآية 4/ الإنسان] ، وردّ عليه بأن سَلاسِلَ اسم أصله التنوين فردّ إلى أصله، ويصحح تأويل الزمخشريّ قراءة من قرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الآية 4/ الفجر] إذا الفعل ليس أصله التنوين.
وقال ثعلب: كلّا مركب من كاف التشبيه ولا النافية، وإنما شددت لأمها لتقوية المعنى، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره بسيطة كما ذكرنا، واللَّه تعالى أعلم. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 4/ 381- 383.
[ (1) ] قوله: «فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا» لغير أبي ذر بضم أوله، والخاء المعجمة، والزاي المكسورة، ثم الياء الساكنة، من الخزي، ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي،(3/7)
__________
[ () ] وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو بمن لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفه به و «الكلّ» بفتح الكاف هو من لا يستقل بأمره، كما قال تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ [الآية 76/ النحل] .
و «تكسب المعدوم» : في رواية الكشمهيني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب:
المعدم بلا واو، أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قال الحافظ ابن حجر: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الّذي لا تصرّف له، والكسب هو الاستفادة، فكأنها قالت:
إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه. وقال قاسم ابن ثابت في (الدلائل) : قوله يكسب معناه ما يعدمه غيره ويعجز عنه يصيبه ويكسبه. قال أعرابي يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم.
ولغير الكشمهيني «وتكسب» بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح- قال الحافظ ابن حجر: قد وجّهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت مالا وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب ما لا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل البعثة محظوظا في التجارة، وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.
وقولها: «وتعين على نوائب الحق» ، كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفي رواية (البخاري في التفسير) ، من طريق يونس عن الزهري من الزيادة: «وتصدق الحديث» ، وهي من أشرف الخصال. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: «وتؤدي الأمانة» .
وفي هذه القصة من الفوائد:
* استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه.
* وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
قوله: «فانطلقت به» ، أي مضت معه، فالباء للمصاحبة، وورقة بفتح الراء، وقوله: «ابن عم خديجة» ، هو بنصب «ابن» ، ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة، أو صفة، أو بيان، ولا يجوز جره، فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا يجوز كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: «تنصّر» ، أي صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصّر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.
قوله: «فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية» ، وفي رواية يونس ومعمر:
ويكتب من الإنجيل بالعربية، ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربيّ، والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني، كما كان يكتب الكتاب العربيّ، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هنا ضبط فلا يعرّج عليه.(3/8)
__________
[ () ] وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه، لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسر حفظ القرآن الّذي خصّت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها: «أناجيلها صدورها» . قولها: «يا ابن عم» ، هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم «يا عم» وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعد، ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربيّ، لأنه من كلام الراويّ في وصف ورقة، واختلف المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه، وقالت في حق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اسمع من ابن أخيك، لأن والده عبد اللَّه بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الّذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته.
أو قالته على سبيل التوقير لسنه.
وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرّف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: «اسمع من ابن أخيك» أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذلك أبلغ في التعظيم.
قوله: «ماذا ترى» ؟ فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرّح به في (دلائل النبوة) لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد اللَّه بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها فأخبرته بالذي رأى.
قوله: «هذا الناموس الّذي نزل اللَّه على موسى» . وللكشميهني: «أنزل اللَّه» ، وفي كتاب التفسير «أنزل» على البناء للمفعول، وأشار بقوله: «هذا» إلى الملك الّذي ذكره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره. والناموس: صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء.
وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سرّ الخير، والجاسوس صاحب سر الشّر، والأول الصحيح الّذي عليه الجمهور، وقد سوّى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا جبريل عليه السلام. وقوله: «على موسى» ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. أو لأن موسى عليه السّلام بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفرعون هذه الأمة، وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته.
وأما ما تحمل له السهيليّ، من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم [الثلاثة] فهو محال لا يعرّج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل، ولم يأخذ عمن بدّل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد اللَّه بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، والأصح ما تقدم، وعبد اللَّه بن معاذ ضعيف.
نعم في (دلائل النبوة لأبي نعيم) بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه ناموس عيسى الّذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم، فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس عيسى، وتارة ناموس(3/9)
__________
[ () ] موسى عليهما السلام، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: «يا ليتني فيها جذع» ، كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين: «يا ليتني فيها جذعا» ، بالنصب على أنه خبر كان المقدرة. قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية 171/ النساء] ، وقال ابن بري: التقدير يا ليتني جعلت فيها جذعا، وقيل: النصب على الحال إذا جعلت «فيها» خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيليّ. وضمير «فيها» يعود على أيام الدعوة، والجذع- بفتح الجيم، والذال المعجمة- هو الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا، ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سرّ وصفه بكونه كان كبيرا أعمى.
قوله: «إذ يخرجك» ، قال ابن مالك: فيه استعمال «إذ» في المستقبل كإذا، وهو صحيح وغفل عنه كثير من النحاة، وهو كقوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 39/ مريم] ، هكذا رواه ابن مالك، وأقره عليه غير واحد، وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضيّ لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في (التعبير) : «حين يخرجك قومك» . وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، وهو مستحيل عادة، ويظهر لي- والكلام للحافظ ابن حجر- أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبر به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.
قوله: «أو مخرجيّ هم» ؟ - بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها-، فهم: مبتدأ مؤخر، ومخرجيّ: خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها.
قوله: «إلا عودي» ، وفي رواية يونس في (التفسير) : «إلا أوذي» ، فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم، فتنشأ العداوة من ثمّ، وفيه دليل أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
قوله: «إن يدركني قومك» ، إن: شرطية والّذي بعدها مجزوم، زاد في رواية يونس في (التفسير) : «حيّا» ، ولابن إسحاق: «إن أدركت ذلك اليوم» يعني الإخراج.
قوله: «مؤزّرا» - بهمزة- أي قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة، أنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر، وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته.
قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
قوله: «ثم لم ينشب» - بفتح الشين المعجمة- أي لم يلبث، وأصل النشوب التعلق،(3/10)
وقال مسلم: أي عم- اسمع من ابن أخيك، فقال [له] ورقة يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبر ما رأى،
فقال له ورقة ابن نوفل: هذا الناموس الّذي أنزل على موسى [بن عمران] ، يا ليتني فيها جذعا، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك- وقال البخاري: يا ليتني أكون حيا [إذ] ... - فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو مخرجيّ هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي
- وقال مسلم: إلا أوذي- وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي [فترة حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] .
قال محمد بن شهاب [ (1) ] : وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن
__________
[ () ] أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: «وفتر الوحي» ليست للترتيب، فلعلّ الراويّ لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى عمله، لا إلى ما هو الواقع، وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلّى اللَّه عليه وسلّم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى البخاري في كتاب (التعبير) من طريق معمر ما يدل على ذلك.
[فائدة] : وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكي البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين، وهي ما بين نزول اقْرَأْ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط، (فتح الباري) : 1/ 33- 36، كتاب بدء الوحي حديث رقم (3) .
[ (1) ] قوله: «قال ابن شهاب: «وأخبرني أبو سلمة» ، إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن ابن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنّها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: ابن شهاب- أي بالسند المذكور- وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا.
ودلّ قوله: «عن فترة الوحي» وقوله: «الملك الّذي جاءني بحراء» على تأخر نزول سورة المدثر عن اقْرَأْ، ولما دخلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في (التفسير) عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أول ما نزل، ورواية الزهري هذه صحيحة ترفع الإشكال، وسياق بسط القول في ذلك في كتاب التفسير من (صحيح البخاري) في تفسير سورة اقْرَأْ، فليراجع هناك. (المرجع السابق) .(3/11)
عبد اللَّه الأنصاري [رضي اللَّه عنه] ، قال فسلم: وكان من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهو- يحدث عن فترة الوحي: قال في حديثه: بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، [فرعبت] [ (1) ] منه فرجعت، - وقال مسلم: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فخشيت منه فرقا فرجعت- فقلت: زملوني [زملوني] ، فدثّروه- وقال مسلم: فدثروني- فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ (2) ]- وهي الأوثان- قال: ثم تتابع الوحي [ (3) ]- وقال البخاري: قال أبو سلمة: وهي الأوثان التي كانت الجاهلية يعبدون، قال: ثم تتابع الوحي، ولم يذكر مسلم: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ذكره البخاري في كتاب التفسير وفي كتاب الإيمان [ (4) ] وذكره مسلم من حديث معمر عن الزهري [ (5) ] ولفظه: أول ما بدئ به
__________
[ (1) ]
قوله: «فرعبت منه
- بضم الراء وكسر العين، وللأصيلي بفتح الراء وضم العين- أي فزعت، دلّ على بقية بقيت معه من الفزع الأول، ثم زالت بالتدريج.
قوله: «فقلت: «زملوني زملوني» - وفي رواية الأصيلي وكريمة «زملوني» مرة واحدة، وفي رواية يونس في (التفسير) : «فقلت: دثروني» فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ، أي حذّر من العذاب من لم يؤمن بك. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظم، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان، والرّجز في اللغة العذاب، وسمي الأوثان رجزا لأنها سببه.
[ (2) ] أول سورة المدثر.
[ (3) ] قوله: «تتابع» ، تأكيد معنوي، وتتابع تكاثر. وقد وقع في رواية الكشمهيني وأبي الوقت: «تواتر» ، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل. (المرجع السابق) : حديث رقم (4) .
[ (4) ] هذا الحديث ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق، باب (7) حديث رقم (3238) ، وفي كتاب التفسير، باب (1، 2) حديث رقم (4922) ، (4923) ، باب (3) ، حديث رقم (4924) باب (4) حديث رقم (4925) ، باب (5) ، حديث رقم (4926) ، (4954) ، وفي كتاب الأدب، باب (118) ، حديث رقم (6214) . بسياقات مختلفة وتقديم وتأخير.
[ (5) ] حديث معمر عن الزهري: رقم (253) من كتاب الإيمان، باب (73) بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، من (صحيح مسلم بشرح النووي) 2/ 559.(3/12)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي.. وساق الحديث بمثل حديث يونس، غير أنه قال:
فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، وقال: قالت خديجة أيا ابن العم! اسمع من ابن أخيك، وذكره أيضا من حديث عقيل عن ابن شهاب، سمعت عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده، فاقتص الحديث بمثل حديث يونس ومعمر، ولم يذكر أول حديثهما من قوله: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة، وتابع يونس على قوله: فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، وذكر قول خديجة: أي ابن عم! اسمع من ابن أخيك.
وذكر من حديث عقيل عن ابن شهاب [ (1) ] قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أي جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي.. ثم ذكر بمثل حديث يونس، غير أنه قال: فخشيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض. قال: وقال أبو سلمة: الرجز الأوثان، قال: حمي الوحي بعد ذلك وتتابع.
وذكره من حديث معمر عن الزهري بهذا الإسناد نحو حديث يونس، قال:
فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى [ (2) ] وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ- قبل أن تفرض الصلاة- وهي الأوثان، قال فخشيت منه كما قال عقيل [ (3) ] .
وذكر البخاري في كتاب التعبير حديث عقيل ولفظه [ (4) ] : أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم بنحو حديث يونس وقال فيه: حتى أتت به ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وقال: فقالت له خديجة: أي ابن عم..
الحديث إلى قوله نصرا مؤزرا، وقال بعده: ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أو في بذروة جبل لكي يلقى [منه] بنفسه تبدي له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول
__________
[ (1) ] حديث عقيل عن ابن شهاب: رقم (254) ، (المرجع السابق) .
[ (2) ] أول سورة المدثر.
[ (3) ] حديث رقم (255) ، (المرجع السابق.
[ (4) ] حديث عقيل عن ابن شهاب، ذكره البخاري في أول كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة، حديث رقم (6982) من (فتح الباري) : 12/ 436.(3/13)
اللَّه حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أو في بذروة جبل تبدي له جبريل فقال له مثل ذلك [ (1) ] .
ترجم عليه أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة.
وذكر في أول حديث عقيل ولفظه: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الرؤيا الصالحة في النوم وقال فيه: يرجف فؤاده، وقال: وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللَّه أن يكتب، وقال: فقالت له خديجة:
يا ابن عم، وقال: هو الناموس الّذي نزل على موسى، وقال: ليتني أكون حيا إذا يخرجك قومك، وقال: رجل قط بما جئت به إلا عودي، قال في التعبير وقال بعد قوله نصرا مؤزرا: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي [ (2) ] .
قال ابن شهاب: وأخبرني سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينا أمشي إلا سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل اللَّه عز وجل:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] زاد بعد قوله: «مثل ذلك» : [قال ابن عباس: فالق الإصباح: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل.
قوله: «فإذا طالت عليه فترة الوحي» ، قد يتمسك به من يصحح مرسل الشعبي في أن مدة الفترة كانت سنتين ونصفا، كما نقله الحافظ ابن حجر في أول بدء الوحي، ولكن يعارضه ما أخرجه ابن سعد من حديث ابن عباس بنحو هذا البلاغ الّذي ذكره الزهري.
وقوله: مكث أياما بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء أخرى يريد أن يلقى بنفسه، فبينا هو كذلك عامدا لبعض تلك الجبال، إذ سمع صوتا فوقف فزعا، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسيّ بين السماء والأرض، متربعا يقول: يا محمد أنت رسول اللَّه حقا وأنا جبريل، فانصرف وقد أقرّ اللَّه عينه، وانبسط جأشه، ثم تتابع الوحي» ، فيستفاد من هذه الرواية تسمية بعض الجبال التي أبهمت في رواية الزهري، وتقليل مدة الفترة. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 12/ 446.
[ (2) ] حديث عقيل عن ابن شهاب، ذكره البخاري في أول كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة، حديث رقم (6982) من (فتح الباري) : 12/ 436.
[ (3) ] أول سورة المدثر.(3/14)
فحمي الوحي وتتابع. تابعه عبد اللَّه بن يونس وأبو صالح، وتابعه هلال بن ردّاد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره.
وذكر في التفسير من حديث معمر عن الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي [ (1) ] فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إذا سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي إليه، فإذا الملك الّذي جاءني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ، إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قبل أن تفرض الصلاة، وهي الأوثان،
وذكر فيه أيضا حديث عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال:
أخبرني جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدث عن فترة الوحي، [قال] : فبينا أنا أمشي سمعت تصويتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الّذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ،
قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان، ثم حمي الوحي وتتابع.
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة [ (2) ] ، حدثنا
__________
[ (1) ]
«قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه: بينا أمشي» ،
هذا يشعر بأنه كان في أصل الرواية أشياء غير المذكور، وهذا أيضا من مرسل الصحابي، لأن جابرا لم يدركه زمان القصة فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أو من صحابي آخر حضرها، واللَّه تعالى أعلم.
قوله: «سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري»
يؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له البخاري في (الأدب) . ويستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة، لثبوت النهي عنه كما تقدم في (الصلاة) من حديث أنس، وروي ابن السني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال: أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت.
ووقع في رواية يحي بن أبي كثير: «فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي» .
وفي رواية مسلم بعد قوله: «شيئا» ، «ثم نوديت» ، فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي» . (فتح الباري) : 8/ 935، حديث رقم (4953) .
[ (2) ] حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة، في (دلائل النبوة لأبي نعيم) رقم (174) بغير هذه السياقة.(3/15)
منجاب بن الحارث، حدثنا علي بن مسهر عن الشيبانيّ عن عبد اللَّه بن شداد قال: نزل جبريل عليه السّلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فغمه ثم قال له: اقرأ، قال ما أقرأ؟ فغمه ثم قال له: اقرأ، قال: ما أقرأ، فغمه ثم قال له: اقرأ، قال: ما أقرأ، قال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى ما لَمْ يَعْلَمْ،
فأتى خديجة رضي اللَّه عنها فأخبرها بالذي رأى، فأتت ورقة ابن نوفل ابن عمها فأخبرته بالذي رأى فقال:
هل رأى زوجك صاحبه في خضر؟ فقالت: نعم، فقال: إن زوجك نبي وسيصيبه في أمته بلاء.
وخرج من حديث منجاب قال: حدثنا على بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما أنزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: لقد خشيت أن أكون كاهنا أو مجنونا، قالت: لا واللَّه لا يفعل اللَّه ذلك بك، إنك لتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتؤدي الأمانة، واللَّه لا يفعل ذلك بك، فأتت ابن عمها ورقة ابن نوفل وكانت تضيفه إليه، فأخبرته بالذي رأى، فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه الناموس الأكبر، ناموس عيسى الّذي لا تعلّمه بنو إسرائيل أبناءهم، ولئن نطق وأنا حيّ لأبلين اللَّه فيه بلاء حسنا، قال أبو نعيم: هكذا رواه علي بن مسهر وأصحاب هشام مرسلا، ورواه يعقوب بن محمد الزهري عن عبد اللَّه بن محمد ابن يحيى بن عروة عن هشام متصلا،
وفيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال ورقة لما ذكرت له خديجة أنه ذكر لها جبريل: سبّوح سبّوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين اللَّه بينه وبين رسله، اذهبي به إلى المكان الّذي رأى فيه ما رأى، فإذا أتاه فتحسّرى فإن يكن من عند اللَّه لا يراه، ففعلت، قالت: فلما تحسّرت تغيّب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة فقال: إنه ليأتيه الناموس الأكبر الّذي لا يعلّمه بنو إسرائيل أبناءهم إلا بالثمن، ثم أقام ورقة ينتظر إظهار الدعوة، فقال في ذلك:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا [ (1) ] ... لهم طالما بعث النشيجا [ (2) ]
__________
[ (1) ] اللجلجة والتلجلج: التردد في الكلام. (ترتيب القاموس) : 4/ 124.
[ (2) ] نشج الباكي ينشج نشيجا: غصّ في حلقه من غير انتحاب (المرجع السابق) 370.(3/16)
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين [ (1) ] على رجائي [ (2) ] ... حديثك أن [ (3) ] أرى منه خروجا
بما خبرتنا [ (4) ] عن قول قسّ ... من الرهبان أكره [ (5) ] أن يعوجا
بأن محمدا سيسود فينا [ (6) ] ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور [ (7) ] ... يقيم به البرية أن تعوجا
__________
[ (1) ] ثنى «مكة» ، وهي واحدة، لأن لها بطاحا وظواهر، وقد ذكرنا من أهل البطاح، ومن أهل الظواهر، على أن للعرب مذهبا في أشعارها في تثنية البقعة الواحدة، وجمعها، وإنما يقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإشارة إلى أعلى البلدة وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المغزى وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة أو بستان، فتسميها جنتين في فصيح الكلام، إشعارا بأن لها وجهين، وأنك إذا دخلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت من كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قوة، وصدرك مسرّة، وفي التنزيل: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [الآية 15/ سبأ] ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [الآية 16/ سبأ] ، وفيه: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الآيتان 32، 33/ الكهف] ، ثم قال سبحانه: دَخَلَ جَنَّتَهُ، ثم قال: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، ثم قال: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ [من الآيتين 35، 39، 41/ الكهف] ، فأفرد بعد ما ثني وهي هي، وقد حمل العلماء على هذا المعنى قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الآية 46/ الرحمن] ، والقول في هذه الآية يتسع. (الروض الأنف) : 1/ 218- 220.
[ (2) ] في (خ) : «على رجاء» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) : 2/ 10، (البداية والنهاية) : 3/ 15، قوله: «حديثك أن أرى منه خروجا» ، فالهاء في «منه» راجعة على الحديث، وحرف الجر متعلق بالخروج، وإن كره النحويون ذلك، لأن ما كان من صلة المصدر عندهم، فلا يتقدم عليه، لأن المصدر مقدر بأن والفعل، فما يعمل فيه هو من صلة «أن» فلا يتقدم، فمن أطلق القول في هذا الأصل، ولم يخصص مصدرا من مصدر، فقد أخطأ المفصل وتاه في تضلل، ففي التنزيل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [الآية: 2/ يونس] ، ومعناه: أكان عجبا للناس أن أوحينا، ولا بد للّام هاهنا أن تتعلق بعجب، لأنها ليست في موضع صفة، ولا موضع حال لعدم العامل فيها. (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (خ) : «لو أرى» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (البداية والنهاية) .
[ (4) ] في (خ) : «بما خبرتني» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (البداية والنهاية) .
[ (5) ] في (خ) : «يكره» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (البداية والنهاية) .
[ (6) ] في (خ) ، (البداية والنهاية) : «سيسود قوما، وما أثبتناه من (ابن هشام) .
[ (7) ] هذا البيت يوضح لنا معنى النور ومعنى الضياء، وأن الضياء هو المنتشر عن النور، وأن النور(3/17)
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا [ (1) ]
فيا ليتني [ (2) ] إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا [ (3) ] في الّذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا [ (4) ]
أرجى بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وإن يبقوا وأبق [ (5) ] تكن أمور ... يضجّ الكافرون بها ضجيجا [ (6) ]
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خلوجا [ (7) ]
هو الأصل للضوء، ومنه مبدؤه، وعنه يصدر، وفي التنزيل: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الآية 17/ البقرة] ، وفيه: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [الآية 5/ يونس] ، لأن نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس، ولا سيما طرفي الشهر،
وفي الصحيح: «الصلاة نور، والصبر ضياء» ،
وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو: الضياء الصادر عن هذا النور الّذي هو القرآن والذكر، وفي أسماء الباري سبحانه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 35/ النور] ، ولا يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه. (الروض الأنف) .
__________
[ (1) ] فلج: ظفر، ويقال: فلج بحاجته، وبحجته: أحسن الإدلاء بها فغلب خصمه. (المعجم الوسيط) :
2/ 699.
[ (2) ] ليتي: بحذف نون الوقاية، وحذفها مع ليت رديء، وهو في لعلّ أحسن منه، لقرب مخرج اللام من النون، حتى لقد قالوا: لعل ولعن ولأن بمعنى واحد، وقد حكي يعقوب أن من العرب من يخفف بلعلّ، وهذا يؤكد حذف النون من لعلني، وأحسن ما يكون حذف هذه النون في إنّ، وأنّ، ولكن، وكأنّ، لاجتماع النونات، وحسنه في لعلّ أيضا كثرة حروف الكلمة، وفي التنزيل: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ [الآية 46/ يوسف] بغير نون، ومجيء هذه الياء وليتي بغير نون مع أن ليت ناصبة، يدلّك على أن الاسم المضمر في ضربني هو الياء، دون النون كما هو في ضربك، وضربه حرف واحد، وهو الكاف، ولو كان الاسم هو النون مع الياء، كما قالوا في المخفوض: مني وعني بنونين. نون:
من، ونون أخرى مع الياء، فإذا الياء وحدها هي الاسم في حال الخفض، وفي حال النصب، (ابن هشام) : 2/ 12 هامش.
[ (3) ] ولج الشيء في غيره ولوجا: دخل فيه (المعجم الوسيط) : 2/ 1055، وفي التنزيل: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الآية 6/ الحج] .
[ (4) ] عجّ عجّا وعجّة وعجيجا: رفع صوته وصاح. (المرجع السابق) : 2/ 1055، وفي الصحيح:
«الحج عجّ وثجّ» .
[ (5) ] في (خ) : «ونبق» ، وما أثبتناه من (ابن هشام) ، (الروض الأنف) ، (البداية والنهاية) .
[ (6) ] ضج ضجيجا: الصياح عند المكروه، والمشقة، والجزع، (لسان العرب) : 2/ 312.
[ (7) ] في (خ) : «خلوجا» ، وهو الاضطراب. (المعجم الوسيط) : 1/ 248. وفي (ابن هشام) :
«حروجا» ، وهي الجسيمة (المرجع السابق) : 1/ 164.(3/18)
وخرج أيضا من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا داود بن المحبر، حدثنا حماد عن أبي عمران الجوى عن يزيد بن بابنوس عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نذر أن يعتكف شهرا هو وخديجة رضي اللَّه عنها بحراء، فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات ليلة فسمع: السلام عليك! قال:
فظننتها فجأة الجن، فجئت مسرعا حتى جئت إلى خديجة فسجتني ثوبا فقالت:
ما شأنك يا ابن عبد اللَّه؟ فأخبرها فقالت له: أبشر يا ابن عبد اللَّه، فإن السلام خير، قال: ثم خرجت مرة أخرى فإذا أنا بجبريل على الشمس، جناح له بالمشرق وجناح له بالمغرب، قال [ (1) ] : فهلت منه فجئت مسرعا فإذا هو بيني وبين الباب، فكلمني حتى أنست به، ثم وعدني موعدا فجئت له فأبطأ عليّ فرأيت أن أرجع، فإذا أنا به وميكائيل بين السماء والأرض قد سدّ الأفق، فهبط جبريل وبقي ميكائيل بين السماء والأرض، فأخذني جبريل فاستلقاني لحلاوة القفا [ (2) ] ، ثم شق عن قلبي فاستخرج ما شاء اللَّه أن يستخرج، ثم غسله، في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم أكفأني كما يكفأ الأديم، ثم ضم في ظهري حتى وجدت مسّ الخاتم في قلبي، ثم قال لي: اقرأ، ولم أكن [ (3) ] قرأت كتابا قط، فلم أدر ما أقرأ، ثم قال: اقرأ، فقلت ما أقرأ؟ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (4) ] ، حتى انتهى إلى خمس آيات منها فما نسيت شيئا بعد، ثم وزنني برجل فوزنته، ثم وزنني بآخر فوزنته حتى وزنت بمائة فقال ميكائيل: تبعته أمته ورب الكعبة، فجعلت لا يلقاني حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول اللَّه [ (5) ] .
وفي رواية يونس بن حبيب عن داود: فقال ميكائيل: تبعته أمته، وقال:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 69: «فهللت» كما في أصل الدلائل، وفي الخصائص «فهلت» ، وفي مسند أبي داود والطياليسي: «فهبت منه» .
[ (2) ] في (خ) : «فسبقني بحلاوة القفا» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «أك» ، «فلم أجد ما أقرأ» .
[ (4) ] أول سورة العلق.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) 1/ 215، 216، حديث رقم (163) .(3/19)
كما يكفأ الإناء، وقال: أخذ بحلقي حتى أجهشت بالكباء ثم قال لي: اقرأ.. والباقي مثله سواء.
وخرج من حديث إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن [الحارث] [ (1) ] بن هشام عن أم سلمة عن خديجة [ (2) ] رضي اللَّه عنها أنها قالت: قلت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ابن عم، أتستطيع إذا جاءك هذا الّذي يأتيك أن تخبرني به؟ قال: نعم، قالت خديجة: فجاءه جبريل عليه السّلام ذات يوم وأنا عنده فقال: يا خديجة، هذا صاحبي الّذي يأتيني قد جاء، فقلت له:
قم فاجلس على فخذي [ (3) ] ، فجلس عليهما [ (4) ] فقلت: هل تراه؟ قال: نعم، فقلت: تحول فاجلس على فخذي اليسرى فجلس فقلت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت خديجة [فتحسرت] [ (5) ] فطرحت خماري فقلت: هل تراه؟ قال: لا، فقلت: هذا واللَّه ملك كريم، واللَّه ما هذا شيطان،
قالت خديجة فقلت لورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي: ذلك مما أخبرني محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال ورقة:
إن [ (6) ] يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيّانا فأحمد مرسل
[وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من اللَّه وحي بشرح الصدر منزّل] [ (7) ]
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاني الغويّ المضلّل [ (8) ]
فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأجواز الجحيم تغلّل [ (9) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «الحرث» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (2) ] كذا في (خ) وفي (المرجع السابق) : «خديجة بنت خويلد» .
[ (3) ] كذا في (خ) وفي (المرجع السابق) : «على فخذي» بالإفراد.
[ (4) ] كذا في (خ) وفي (المرجع السابق) : «عليهما» بالتثنية، والسياق يقتضي الإفراد.
[ (5) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (6) ] في (دلائل البيهقي) : 2/ 150، و (البداية والنهاية) : 3/ 16 «فإن يك» .
[ (7) ] هذا البيت ليس في (دلائل أبي نعيم) ، وأثبتناه من (دلائل البيهقي) و (البداية والنهاية) .
[ (8) ] (في المرجع السابق) : «ويشقى به العاني الغرير المضلل» .
[ (9) ] أجواز الجحيم: وسط جهنم، ومفردة «جوز» .(3/20)
إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت ... مقامع في هاماتهم ثم تشعل [ (1) ]
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأحكامه [ (2) ] في خلقه لا تبدّل
وقال ورقة أيضا:
يا للرجال وصرف الدّهر والقدر ... وما [ (3) ] لشيء قضاه اللَّه من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لنا [ (4) ] بخفي الغيب من خبر
فكان ما سألت عنه لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس عن أخر [ (5) ]
فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر [ (6) ] والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل إنك مبعوث إلى البشر
فقلت على الّذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجّي الخير وانتظري
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمر ما يري في النوم والسهر
فقال خير أتانا منطقا عجبا ... يقفّ منه أعالي الجلد والشّعر
إني رأيت أمين اللَّه واجهني ... في صورة أكملت في أهيب الصّور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم من حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدرى سيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السّور [ (7) ]
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «مقامع في هاماتهم ثم مزعل» .
[ (2) ] في (البداية والنهاية) ، و (دلائل البيهقي) : «وأقضاؤه» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) ، و (دلائل البيهقي) : «وما لشيء» ، وفي (خ) : «ويا لشيء» .
[ (4) ] في (خ) ، (دلائل أبي نعيم) : «وما لنا» ، وفي (دلائل البيهقي) ، «وما لها» ، وفي (البداية والنهاية) :
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
وهذه الأبيات متساوية من حديث عددها (12) بيتا في (دلائل أبي نعيم) و (دلائل البيهقي) ، و (خ) ، لكنها في (البداية والنهاية) : (11) بيتا فقط.
[ (5) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أمرا رآه» .
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «من قديم الناس» .
[ (7) ] في (دلائل البيهقي) : «أن سوف تبعث» .(3/21)
وسوف أوليك [ (1) ] إن أعلنت دعوتهم ... مني [ (2) ] الجهاد بلا منّ ولا كدر [ (3) ]
وخرج من حديث فليح بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الإماميّ عن يزيد بن رومان، [والزهري] [ (4) ] عن عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان جالسا مع خديجة [رضي اللَّه عنها] [ (5) ] يوما من الأيام إذ رأى شخصا بين السماء والأرض فقالت خديجة [ (6) ] : لا يزول، أدن مني، فدنا منها، فقالت له: أتراه؟ [قال: نعم] [ (7) ] قالت: أدخل [يدك] [ (8) ] تحت [الدرع] [ (9) ] ، ففعل ذلك، فقالت [ (10) ] : أتراه؟ قال: لا، قد أعرض عني، قالت: أبشر فإنه ملك كريم، لو كان شيطانا ما استحى. فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] في (البداية والنهاية) : «وسوف يليك» ، وفي (دلائل البيهقي) : «وسوف أنبيك» . وما أثبتناه من (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (البداية والنهاية) ، و (دلائل البيهقي) : «من الجهاد» ، وما أثبتناه من (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] قال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 17: «هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي في (الدلائل) ، وعندي في صحتها عن ورقة نظر، واللَّه أعلم» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (دلائل أبي نعيم) ، وصوابه: «يزيد بن رومان الأسدي أبو روح المدني» (تهذيب التهذيب) : 11/ 284، ترجمة رقم (526) روى عن ابن الزبير وأنس بن عبيد اللَّه وسالم ابني عبد اللَّه بن عمر وصالح بن خوات بن جبير، وعروة بن الزبير والزهري، وهو من أقرانه، وأرسل عن أبي هريرة.
وعنه هشام بن عروة وعبيد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر رضي اللَّه عنه، وأبو حازم سلمة بن دينار ومعاوية بن ثابت ومالك ويزيد بن عبد الملك النوفلي وجرير بن حازم وجماعة. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.
قال ابن سعد عن الواقدي وغيره: مات سنة ثلاثين ومائة، وكان عالما كثير الحديث ثقة. قال الحافظ ابن حجر: وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال غيره: قرأ القرآن على عبد اللَّه بن عباس بن أبي ربيعة، وقرأ عليه نافع بن أبي نعيم. (المرجع السابق) .
[ (5) ] زيادة من (خ) .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : 1/ 218، 219، حديث رقم (165) : «بين السماء والأرض لا يزول فقالت خديجة» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) :
«فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم» .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «رأسك» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق) : «درعي» .
[ (10) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق) : «فقالت خديجة له» .(3/22)
يوما من الأيام إذا رأى شخصا بين السماء والأرض بأجياد [ (1) ] إذ بدا له جبريل فسلم عليه، وبسط بساطا كريما مكللا بالياقوت والزبرجد، ثم بحث في الأرض فنبع الماء، فعلّم جبريل رسول اللَّه كيف يتوضأ، فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم صلّى ركعتين نحو [الكعبة] [ (2) ] مستقبل الركن الأسود، وبشره بنبوته، ونزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
[ (3) ] ثم انصرف منقلبا فلم يمر على شجر ولا حجر [ (4) ] إلا وهو يسلم عليه يقول: سلام [ (5) ] عليك يا رسول اللَّه، فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة! أشعرت [أن] [ (6) ] الّذي كنت أراه قد بدا لي [وبسط لي] [ (7) ] بساطا كريما وبحث من [ (8) ] الأرض فنبع الماء فعلمني الوضوء، فتوضأت وصليت ركعتين، [فقالت] [ (9) ] : أرني كيف أراك؟ فأراها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [وتوضأت] [ (10) ] ثم صلت معه وقالت: أشهد أنك رسول اللَّه.
ولأبي نعيم من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: إني أسمع صوتا وأرى ضوءا، وإني أخشى أن يكون خبل، فقالت: لم يكن اللَّه ليفعل بك ذلك يا ابن عبد اللَّه،
ثم أتت ورقة ابن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يك صادقا إن هذا ناموس مثل ناموس موسى، وإن يبعث وأنا حي فسأعزره وأنصره وأعينه [ (11) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «بجياد الأصغر» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «نحو القبلة» .
[ (3) ] أول سورة العلق.
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «حجر ولا شجر» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «السّلام عليك» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «بأن» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «قد بدا لي بساطا كريما» .
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «بحث لي» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «فقالت خديجة» .
[ (10) ] هذه الزيادة ليست في (المرجع السابق) .
[ (11) ] هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد فقال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا أبو كامل وحسن ابن موسى، قالا: حدثنا حماد قال: أخبرنا عمار بن أبي عمار قال حسن عن عمار: قال حماد:
وأظنه عن ابن عباس ولم يشك فيه حسن، قال: قال ابن عباس، قال أبي: وحدثنا عفان،(3/23)
وله من حديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حديث أخبرنا عبيد كيف كان بدء ما ابتدأ اللَّه به رسوله من النبوة حين جاءه جبريل؟ فقال عبيد: وأنا حاضر يحدث عبد اللَّه بن الزبير وهو من عنده من الناس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجاور [ (1) ] في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنثت به قريش- والتحنث: التبرر [ (2) ]- فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجاور ذلك الشهر في كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من ذلك الشهر كان أول ما ابتدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء اللَّه من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الّذي أراد اللَّه به ما أراد من كرامته من السنة التي بعث فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حراء كما كان يخرج لجواره معه أهله، حتى كانت الليلة التي أكرمه اللَّه فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل من اللَّه تعالى [ (3) ] .
وقال إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءني
__________
[ () ] حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، مرسل ليس فيه ابن عباس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة، فذكر عثمان الحديث،
وقال أبو كامل وحسن في حديثهما: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لخديجة: «إني أرى ضوءا، وأسمع صوتا، وإني أخشى أن يكون بي جنن، قالت: لم يكن اللَّه ليفعل ذلك بك يا ابن عبد اللَّه، ثم أتت ورقة ابن نوفل، فذكرت ذلك له فقال: إن يك صادقا، فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن بعث وأنا حيّ فسأعززه، وأنصره وأومن به» . (مسند أحمد) : 1/ 512، 513، حديث رقم (2841) .
[ (1) ] الجوار بالكسر في معنى المجاورة، وهي الاعتكاف إلا من وجه واحد، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارج المسجد، كذلك قال ابن عبد البر، ولذلك لم يسمّ جواره بحراء اعتكافا، لأن حراء ليس من المسجد، ولكنه من جبال الحرم، وهو الجبل الّذي نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإنّي أخاف أن تقتل على ظهري فأعذّب، فناداه حراء: إليّ يا رسول اللَّه. (الروض الأنف للسهيلي) .
[ (2) ] التبرر: تفعّل من البر، وتفعّل: يقتضي الدخول في الفعل، وهو الأكثر فيها مثل: تفقّه، وتعبّد، وتنسّك. قال ابن هشام: تقول العرب: التحنث والتحنف، يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء، قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: «فمّ» في موضع «ثمّ» . (المرجع السابق) .
[ (3) ] سيرة ابن هشام) : 2/ 69، 70.(3/24)
وأنا نائم [ (1) ] بنمط من ديباج فيه كتاب [ (2) ] ، فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ [ (3) ] قال:
فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ [ (3) ] ، فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ [ (3) ] ، قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا [لأفتدي] [ (4) ] منه أن يعود لي بمثل ما صنع فيّ، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ [ (5) ] رَبِّكَ
__________
[ (1) ] ليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عروة عن عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل نزل بسورة اقْرَأْ كان في اليقظة، لأنها قالت في أول الحديث: «أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح: ثم حبّب اللَّه إليه الخلاء- إلى قولها- حتى جاءه الحق وهو بغار حراء، فجاءه جبريل» .
فذكرت في هذا الحديث أن الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقرآن، وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به، لأن أمر النبوة عظيم، وعبؤها ثقيل، والبشر ضعيف.
وقد ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل به إسرافيل، فكان يتراءى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل، فجاءه بالقرآن والوحي، فعلى هذا كان نزول الوحي عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أحوال مختلفة، سيأتي شرحها مفصلا. (المرجع السابق) :
هامش ص 70.
[ (2) ] فيه دليل وإشارة إلى أن هذا الكتاب يفتح على أمّته ملك الأعاجم، ويسلبونهم الديباج والحرير الّذي كان زينهم وزينتهم، وبه أيضا ينال ملك الآخرة، ولباس الجنة، وهو الحرير والديباج. (المرجع السابق) هامش ص 71.
[ (3) ]
قوله: «ما أنا بقارئ»
- على إحدى الروايات- أني أمّي فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، أي: إنك لا تقرءوه بحولك، ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم ربك، مستعينا به، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعد ما خلق فيك، كما خلقه في كل إنسان.
أما على رواية
«ما أقرأ» ،
يحتمل أن تكون «ما» استفهاما، يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفيا، ورواية البخاري ومسلم تدل على أنه أراد النفي، أي ما أحسن أن أقرأ، كما تقدم من قوله: «ما أنا بقارئ» . (المرجع السابق) .
[ (4) ] في رواية ابن إسحاق: «ما أقول ذلك إلا افتداء منه» .
[ (5) ] في قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ من الفقه: وجوب استفتاح القراءة ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، غير أنه أمر مبهم لم يبين له بأي اسم من أسماء ربه يفتتح، حتى جاء البيان بعد في قوله: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها [الآية 41/ هود] ، ثم قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الآية 30/ النمل] ، ثم كان بعد ذلك ينزل جبريل عليه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم مع كل سورة، على بعض الآراء. (المرجع السابق) .(3/25)
الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: ما لَمْ يَعْلَمْ، قال: فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا، [قال: ولم يكن من خلق اللَّه تعالى أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن انظر إليهما، قال: قلت:
إن الأبعد يعني لشاعر أو مجنون لا يتحدث بهذا قريش عني أبدا إلا عمدت إلى خالق من الجبل، ولأطرحت نفسي منه فلأقتلنها ولأستريحن] [ (1) ] ، قال: فخرجت [أريد ذلك] [ (1) ] حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من [السماء] [ (2) ] يقول: يا محمد! أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء انظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد! أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، قال: فوقفت انظر إليه [فشغلني ذلك عما أردت] [ (3) ] ما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي [ (4) ] في آفاق السماء ولا انظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة [في] [ (5) ] رسلها في طلبي، فبلغوا [ (6) ] مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكان ذلك ثم انصرف عني، [فانصرفت] [ (7) ] راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا [إليها] [ (8) ] فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت: فو اللَّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا [إليّ] [ (9) ] ، قال: [قلت لها:
إن الأبعد لشاعر مجنون، قال: فقالت: أعيذك باللَّه يا أبا القاسم، ما كان اللَّه تعالى ليصنع ذلك بك مع صدق حديثك وحسن خلقك وعظم أمانتك وصلتك رحمك، وما ذاك يا ابن عم؟ لقد رأيت شيئا؟ قال: قلت [ (10) ] نعم] ، ثم
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (خ) ، وهو زيادة عن رواية ابن إسحاق.
[ (2) ] زيادة للسياق من ابن إسحاق، (الروض الأنف) : 1/ 269، (سيرة ابن هشام) : 2/ 72.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .
[ (4) ] في ابن إسحاق: «وجهي عنه في آفاق السماء» .
[ (5) ] زيادة من (خ) والأولى حذفها.
[ (6) ] في (ابن إسحاق) : «فبلغوا أعلى مكة» .
[ (7) ] في (ابن إسحاق) : «وانصرفت» .
[ (8) ] زيادة للسياق من: (ابن إسحاق) .
[ (9) ] في (ابن إسحاق) : «فرجعوا لي» .
[ (10) ] ما بين الحاصرتين من (خ) ، وليس في (ابن إسحاق) .(3/26)
حدثتها الّذي رأيت فقالت: أبشر يا ابن العم واثبت، فو الّذي نفس خديجة بيده أن تكون نبي هذه الأمة، قال: ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة ابن نوفل بن أسد [ (1) ] وهو ابن عمها
- وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة [وأهل] الإنجيل- فأخبرته بما أخبرها به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه رأى وسمع فقال ورقة [ (2) ] : قدوس قدوس، والّذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الّذي يأتي [به] [ (3) ] موسى، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له [فليثبت] [ (4) ] ، فرجعت خديجة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وأخبرته] [ (5) ] بقول ورقة [ (6) ] [وسهّل عليه ذلك بعض ما كان فيه من الهم بما جاءه] [ (7) ] ، فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جواره وانصرف صنع فيه كما يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة ابن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخي! أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره فقال له ورقة: والّذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الّذي جاء موسى، ولتكذبنّه ولتؤذينّه ولتخرجنّه ولتقاتلنّه [ (8) ] ولئن أنا أدركت [ (9) ] ذلك لأنصرن اللَّه نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه [منه] [ (10) ] فقبّل يافوخه، ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى منزله. [وقد زاده ذلك من قول
__________
[ (1) ] زيادة في نسبه من (ابن إسحاق) : «ابن عبد العزي بن قصي» .
[ (2) ] (ابن نوفل) .
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] زيادة من (ابن إسحاق) .
[ (5) ] في (ابن إسحاق) : «فأخبرته» .
[ (6) ] في (ابن إسحاق) : «ورقة ابن نوفل» .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .
[ (8) ] الهاءات الأربعة لا ينطق بها إلا ساكنة، فإنّها هاءات سكت وليست بضمائر. وفي (خ) بغير هذه الهاءات.
[ (9) ] قوله: «ولئن أنا أدركت» ، وفي رواية «إن أدرك ذلك اليوم أنصرك نصرا مؤزرا، وقال في أخرى:
«إن يدركني يومك» ، وهو القياس، لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق هو الّذي يدركه من يأتي بعده، كما جاء
في الحديث: «أشقى الناس من تدركه الساعة وهو حي» ،
وابن إسحاق أيضا له وجه، لأن المعنى أنرى ذلك اليوم، فسمى رؤيته إدراكا، وفي التنزيل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الآية 103/ الأنعام] ، أي: لا تراه على أحد القولين. وقوله: «مؤزرا» من الأزر، وهو القوة والعون.
[ (10) ] زيادة من رواية (ابن إسحاق) .(3/27)
ورقة ثباتا، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم] [ (1) ] .
قال أبو نعيم: وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد نحوه مختصرا،
وله من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، أراه اللَّه رؤيا في المنام فشق ذلك عليه، ورأى أنه بينما هو بمكة أتى إلى سقف بيته فنزع شبحة شبحة [ (2) ] حتى إذا نزل أدخل فيه سلم من فضة فيما يخيل إليه، ثم نزل إليه رجلان، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأردت أن أستغيث فحبساني مكاني ومنعت الكلام، فقعد أحدهما إليّ والآخر إلى جنبي وأنا فرق، فأدخل أحدهما يده في جنبي فنزع ضلعين منه كما ينزل علق الصندوق الشديد، فأدخل يده في جوفي وأنا أجد بردها، فأخرج قلبي فوضعه على كفه وقال لصاحبه، نعم القلب، وقال: قلب رجل صالح، ثم أدخلا القلب مكانه وردا الضلعين كما يرد علق الصندوق الشديد، ثم ارتفعا ورفعا سلمهما فاستيقظت فإذا السقف كما هو فقلت يحلم، وذكره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لخديجة بنت خويلد فعصمها اللَّه من التكذيب وقالت: أبشر! فو اللَّه لا يفعل اللَّه بك إلا خيرا، وأخبرها أنه رأى بطنه طهر وغسل ثم أعيد كما كان، فقالت: هذا واللَّه خير فأبشر، ثم استعلن له جبريل وهو بأفلاء مكة من قبل حراء فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه وقال له: لا تخف! أنا جبريل، وأجلسه معه على مجلس كريم كهيئة الدر، نوره فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالات اللَّه حتى اطمأن إلى جبريل ثم قال: اقرأ، قال: كيف أقرأ؟ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: ما لَمْ يَعْلَمْ، فأبدى له جبريل نفسه، له جناحان من ياقوت يخطفان البصر، ففتح جبريل عينا من ماء فتوضأ، ومحمد ينظر إليه فوضأ وجهه ويديه
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (خ) وليس في رواية (ابن إسحاق) .
[ (2) ] المشبّح: المقشور، والكساء القوى (ترتيب القاموس) : 2/ 665 وفي (خ) : «شبخة سبخة» ، ولم أدر ما المراد بها، ولعلها «سجة» من السياج، وهو الحائط، وما أحيط به على شيء مثل النخل والكرم، وقد سيّج حائطه تسييجا. (المرجع السابق) : 2/ 655.(3/28)
إلى المرفقين، ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه [وسجد] [ (1) ] سجدتين مواجه البيت، ففعل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم كما رأى جبريل يفعل، وقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رسالة ربه، وسألها اللَّه بحقها، واتّبع الّذي نزل به جبريل من عند رب العرش العظيم، فلما قضى جبريل الّذي أمره به، انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يمر على حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، فرجع إلى بيته وهو مؤمن قد رأى أمرا عظيما، فلما دخل على خديجة أخبرها، قال: أرأيتك الّذي كنت أخبرتك أني رأيته في المنام؟ فإنه جبريل قد استعلن لي، أرسله إليّ ربي عزّ وجلّ، أخبرها بالذي جاءه من اللَّه وسمع فقالت: أبشر، فو اللَّه لا يفعل اللَّه بك إلا خيرا، فاقبل الّذي أتاك من اللَّه فإنك رسول اللَّه حقا،
ثم انطلقت حتى أتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس- نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس- فقالت: يا عدّاس أذكرك باللَّه، هل عندك من جبريل علم؟ فلما سمعها: عداس تذكر جبريل قال: قدوس قدوس، ما شأنه يذكر بهذه الأرض التي أهلا أهل الأوثان؟ قالت:
أحب أن تحدثني فيه بعلمك، قال: فإنه أمين اللَّه بينه وبين النبيين، وهو صاحب عيسى وموسى عليهما السلام.
رجعت خديجة من عنده فأتت ورقة ابن نوفل، وكان ورقة قد كره عبادة الأوثان هو وزيد بن عامر بن نفيل، وكان زيد قد حرم كل شيء حرمه من الدم والذبيحة، على النصب، وكل شيء من أبواب الظلم في الجاهلية، فلما وصفت خديجة لورقة حين جاءته شأن محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكرت له جبريل وما جاء به من عند اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لها: يا ابنة أخي! واللَّه ما أدري لعل صاحبك الّذي ينتظره أهل الكتاب الّذي يجدونه مكتوبا في الإنجيل، وأقسم باللَّه إن كان إياه ثم دعا إلى اللَّه وأنا حيّ لأبلين اللَّه في طاعة رسوله وحسن المؤازرة والنصرة له، فمات ورقة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسائق.
[ (2) ] ونحوه بسياقة أخرى فيها تقديم وتأخير في (البداية والنهاية) : 3/ 20- 23، وهي رواية موسى ابن عقبة بمعنى حديث عروة بن الزبير.(3/29)
ورواه من طريق محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بمعنى حديث عروة بن الزبير من طريق محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه بأتم من روايتي عروة وموسى بن عقبة وأحسن، فقد اختلفت الروايات في نزول [أول سورة من القرآن على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] .
ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري في كتاب التفسير من حديث وكيع عن على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه عن ذلك وقلت له مثل الّذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا، فدثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [ (2) ] ، وكرره غير مرة.
وخرجه مسلم من حديث الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: اقْرَأْ؟ فقال جابر:
أحدثكم ما حدثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قال: جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] أول سورة المدثر، وقوله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ: أي أنها أول ما نزل حين تتابع الوحي وحمي، والذين كانوا يقولون: هو اقْرَأْ، ذكروا ذلك بناء على أنها الأول مطلقا، ويحتمل أن بعض الناس ظن اقْرَأْ أول سورة حين تتابع الوحي، بناء على ظن نزولها مرتين مثلا، فهذا ردّ عليهم، واللَّه تعالى أعلم. (حاشية السندي على صحيح البخاري) : 3/ 209، كتاب التفسير.(3/30)
شمالي فلم أر أحدا، ثم نوديت، فنظرت فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في [الهواء] [ (1) ]- يعني جبريل عليه السلام- فأخذتني رجفة شديدة فأتيت خديجة فقلت: دثروني، فدثروني وصبوا عليّ ماء [ (2) ] ، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (3) ] قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ.
__________
[ (1) ] في (خ) : «في الهوى» .
أما قوله: «إن أول ما أنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فهو ضعيف بل باطل، والصواب أن أول ما أنزل على الإطلاق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، كما صرح به في حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وأما يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في مواضع، منها قوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ومنها قوله: ثم تتابع الوحي- يعني بعد فترته- فالصواب: أن أول ما نزل: اقْرَأْ، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. وأما قول من قال من المفسرين: أول ما نزل الفاتحة، فبطلانه أظهر من أن يذكر. واللَّه أعلم.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فاستبطنت الوادي» ،
أي صرت في باطنه،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في جبريل عليه السلام: «فإذا هو على العرش في الهواء» ،
المراد بالعرش الكرسي، كما تقدم
في الرواية الأخرى «على كرسي بين السماء والأرض» ،
قال أهل اللغة: العرش هو السرير، وقيل: سرير الملك.
قال اللَّه تعالى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [الآية 23/ النمل] ، والهواء هنا ممدود يكتب بالألف، وهو الجو بين السماء والأرض كما في الرواية الأخرى، والهواء: الخالي، قال تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [الآية 43/ إبراهيم] .
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فأخذتني رجفة شديدة» ،
هكذا هو في الروايات المشهورة «رجفة: بالراء» ، قال القاضي: ورواه السمرقندي «وجفة: بالواو» وهما صحيحان متقاربان، ومعناهما: الاضطراب.
قال اللَّه تعالى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [الآية 8/ النازعات] ، وقال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [الآية 6/ النازعات] ، وقال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الآية 14/ المزمل] .
[ (2) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فصبوا على ماء» ،
فيه أنه ينبغي أن يصب على الفزع الماء ليسكن فزعه. واللَّه تعالى أعلم.
[ (3) ] وأما تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقال العلماء: المدثر، والمتلفف، والمشتمل، بمعنى واحد، ثم الجمهور على أن معناه المدثر بثيابه. وحكى الماوردي قولا عن عكرمة أن معناه المدثر بالنّبوّة وأعبائها.
وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ، معناه حذّر العذاب من لم يؤمن، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظمه ونزهه عما لا يليق به، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قيل معناه طهرها من النجاسة، وقيل قصّرها، وقيل:
المراد بالثياب النفس، أي طهرها من الذنب وسائر النقائص. وَالرُّجْزَ بكسر الراء في قراءة الأكثرين، وقرأ حفص بضمها، وفسره في الكتاب الأوثان، وكذا قاله جماعات من المفسرين. والرّجز في اللغة العذاب، وسمّي الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنه سبب العذاب، وقيل: المراد بالرجز في الآية الشرك، وقيل: الذنب وقيل: الظلم. واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 565- 567، كتاب الإيمان باب (73) حديث رقم (257) .(3/31)
وفي لفظ له: فإذا جبريل جالس بين السماء والأرض [ (1) ] ، وفي لفظ البخاري [ (2) ] : فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض.
وخرج الحاكم من حديث الحميدي، حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول سورة أنزلت: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إلى ما لَمْ يَعْلَمْ [ (3) ] .
ذكر الاختلاف في شق [ (4) ] صدر [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، متى كان وأين وقع؟
اعلم أن شق صدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وغسل قلبه وحشوه بالإيمان والحكمة،
__________
[ (1) ]
في الحديث رقم (255) : «جالسا على كرسي بين السماء والأرض. وفي الحديث رقم (258) : «فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض» . (المرجع السابق) .
[ (2) ] في الحديث رقم (4) - كتاب بدء الوحي: «جالس على كرسيّ بين السماء والأرض» (فتح الباري) : 1/ 37.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 576، كتاب التفسير، باب (96) تفسير سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حديث رقم (3953/ 1091) ، وقال في آخره: (فإذا ابن عيينة لم يسمعه من الزهري) .
وحديث رقم (3954/ 1092) ، وقال في آخره: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) .
[ (4) ] الشّق: الخرم الواسع في شيء، يقال: شقّه نصفين. قوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [1/ القمر] ، كان انشقاقه في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: انشقاق يعرض فيه حين تقرب القيامة، وقيل معناه: وضح الأمر. والشّقّة: القطعة المنشقّة كالنصف. والشّق- بالكسر- المشقّة والانكسار الّذي يلحق النفس والبدن، وذلك كاستعارة الانكسار لها، قال تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 6/ النحل] .
والشّقّة: الناحية التي تلحقك المشقة في الوصول إليها قال تعالى: وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [الآية 42/ التوبة] ، والشّقاق: المخالفة، قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [الآية 35/ النساء] ، وكونك في شقّ غير شقّ صاحبك، أو من شقّ العصا بينك وبينه.
وقوله تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 13/ الأنفال] ، أي صار في شقّ غير شقّ أوليائه، وفلان شقّ نفسي، وشقيق نفسي، أي كأنه شقّ مني لمشابهة بعضنا بعضا، (البصائر) :
3/ 330- 331.
[ (5) ] الصدر: الجارحة، والجمع: صدور، ثم استعير لمقدم الشيء، مثل صدر القناة، وصدر(3/32)
قال اللَّه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ (1) ] ، قال إبراهيم بن طهمان: سألت سعيدا عن قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ قال: فحدثني عن قتادة عن أنس بن مالك أنه قد شق بطنه- يعني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- من عند بطنه إلى صدره، فاستخرج قلبه فغسل في طست من ذهب ثم مليء إيمانا وحكمة ثم أعيد مكانه، قد روى من وجوه باختلاف الأماكن والأيام، فروى أن ذلك وقع وهو مسترضع في بني سعد كما تقدم ذكره عند ذكر حليمة في فصل أمهاته من الرضاعة، وقيل وقع ذلك في موضع آخر في زمان آخر، فروى أنه أعيد له شرح الصدر بعد أن تم له عشر سنين.
وقد أخرج في الصحيحين أنه شق صدره ليلة المعراج،
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبيّ بن كعب قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أبيّ بن كعب أن أبا هريرة سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان حريّا [ (2) ] أن يسأله عن الّذي لا يسأله غيره- فقال: يا رسول اللَّه! ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ فقال [ (3) ] : إذا سألتني إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج، إذا
__________
[ () ] السهم. وسهم مصدّر: غليظ الصدر، وأخذ الأمر بصدره: بأوله. والأمور بصدورها، وهؤلاء صدرة القوم: مقدّموهم. وصدّر فلان فتصدّر: قدّم فتقدّم، وصدره: أصاب صدره، ومنه رجل مصدور: يشتكي صدره، فإذا عدّي «صدر» بعن اقتضى الانصراف، نحو صدرت الإبل عن الماء صدرا.
والمصدر يقال في مصدر صدر عن الماء، ولموضع الصدر، ولزمانه، وقد يقال في عرف النحاة للفظ الّذي روعي فيه صدور الفعل الماضي والمستقبل عنه. وقال بعض العلماء: حيثما ذكر اللَّه القلب فإشارة إلى العقل والعلم، نحو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [36/ ق] ، وحيثما ذكر الصدر، فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى: من الشهوة، والهوى والغضب، ونحوها.
وقوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [25/ طه] ، سؤال لإصلاح قواه، وكذا قوله:
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [14/ التوبة] ، إشارة إلى اشتفائهم، وقوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [46/ الحج] ، أي العقول التي هي مندسّة فيما بين سائر القوى. (المرجع السابق) : 392، 393.
[ (1) ] أول سورة الشرح.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «حريصا» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «إذ» .(3/33)
أنا برجلين فوق رأسي، يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، [قال] [ (1) ] :
فأخذاني فلصقاني بحلاوة القفا، ثم شقا بطني، [وكان] [ (2) ] جبريل يختلف بالماء في طست من ذهب، وكان ميكائيل يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدري [فيما أرى] [ (3) ] مفلوقا لا أجد له وجعا ثم قال: اشقق قلبه، فشق قلبي، فقال أخرج الحسد والغل [ (4) ] منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به [ (5) ] ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه [ (6) ] ، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذرّ عليه ثم نقر إبهامي ثم قال: أغد، فرجعت بما لم أغد به من رحمتي على الصغير ورقتي على الكبير.
قال: أبو نعيم: وهذا الحديث مما تفرد به معاذ ابن محمد [عن آبائه] [ (7) ] ، وتفرد بذكر السن الّذي شق فيه عن قلبه والّذي رواه عبد اللَّه بن جعفر عن حليمة السعدية وعبد الرحمن بن عمرو السلمي عن عتبة ابن عبد، اتفقا على أنه كان مسترضعا في بني سعد، فأما رواية أبي ذر، فرواه الزهري عن أنس عنه، قال كاتبه: معاذ مما يروى عن أبيه وعن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، وأبي الزبير المكيّ وجماعة، ويروى عنه معاوية بن صالح الحضرميّ وعبد اللَّه بن لهيعة، ومحمد بن عمر الواقدي وآخرون، ذكره ابن حبان في الثقات.
وفي أفراد مسلم من حديث شيبان بن فروخ قال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة ثم قال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده إلى
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «فكان» .
[ (3) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (4) ] في (المرجع السابق) : «الغل والحسد» .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «فنبذه» .
[ (6) ] في (المرجع السابق) : «في قلبه» .
[ (7) ] زيادة من (خ) .(3/34)
مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره [ (1) ]- فقالوا: إن محمدا قد قتل! فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت [أرى] [ (2) ] أثر المخيط في صدره صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
قال البيهقي: وهو موافق لما هو معروف عند أهل المغازي- يعني وقوع ذلك- وهو مسترضع في بني سعد، وسيأتي في الإسراء
حديث مسلم [ (4) ] من طريق سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت،
وحديث البخاري من طريق سليمان عن شريك بن عبد اللَّه عن أنس، وحديث البخاري
__________
[ (1) ] الظئر: المرضع أو الأم من الرضاعة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الحديث الأول في (دلائل أبي نعيم) ، 1/ 219- 220، رقم (166) رواه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد (المسند) ، ورجاله ثقات، وثقهم ابن حبان.
والحديث الثاني في (المرجع السابق) 1/ 221، رقم (168) ، أخرجه مسلم في صحيحه بسنده ومتنه في كتاب الإيمان باب الإسراء، حديث رقم (261) ، والبيهقي في (الدلائل) 2/ 5، باب ما جاء في شق صدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم واستخراج حظ الشيطان من قلبه سوى ما مضى في باب ذكر رضاعه، (مسند أحمد) : 3/ 617، حديث رقم (12097) .
[ (4) ]
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت» ،
معنى شرح شق،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثم أنزلت» ،
هو بإسكان اللام وضم التاء، هكذا ضبطناه، وكذا هو في جميع الأصول والنسخ، وكذا نقله القاضي عياض رحمه اللَّه عن جميع الروايات، وفي معناه خفاء واختلاف، قال القاضي:
قال الوقشيّ: هذا وهم من الرواة، وصوابه: تركت، فتصحّف، قال القاضي: فسألت عنه ابن سراج فقال: أنزلت في اللغة بمعنى تركت صحيح، وليس فيه تصحيف. قال القاضي: وظهر لي أنه صحيح بالمعنى المعروف في أنزلت، فهو ضدّ رفعت، لأنه قال: انطلقوا بي إلى زمزم ثم أنزلت، أي ثم صرفت إلى موضعي الّذي حملت منه، قال: ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبي بكر البرقاني، وأنه طرف حديث، وتمامه: «ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا» هكذا بفتح اللام وإسكان التاء، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وحكى الحميدي هذه الزيادة المذكورة عن رواية البرقاني وزاد عليها، وقال: أخرج البرقاني بإسناد (مسلم) ، وأشار الحميدي إلى أن رواية (مسلم) ناقصة وأن تمامها ما زاده البرقاني، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 573، حديث رقم (260) ، كتاب الإيمان باب (74) .(3/35)
ومسلم عن طريق همام عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة [ (1) ] ، وفيها شق صدره ليلة الإسراء.
وخرج الحافظ أبو نعيم من حديث يونس عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل فعرج صدري حتى غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه.
ولأبي داود الطيالسي من حديث عمار بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة ابن الزبير عن أبي ذر الغفاريّ رضي اللَّه عنه قال: قلت يا رسول اللَّه! كيف علمت أنك نبي؟ وبما علمت حتى استيقنت؟ قال: يا أبا ذر، أتاني آتيان وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض [ (2) ] والآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما للآخر [ (3) ] : أهو هو [ (4) ] ؟ فقال: فزنه برجل، [فوزنني برجل] [ (5) ] فرجحته، ثم قال [ (6) ] : زنه بعشرة، فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة، فوزنني بمائة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف، فوزنني [بألف] [ (7) ] فرجحتهم، ثم جعلوا يتساقطون [ (8) ] على [ (9) ] كفة الميزان، ثم قال أحدهما لصاحبه:
__________
[ (1) ] حديث مالك بن صعصعة: ذكره (البخاري) في كتاب مناقب الأنصار، باب (42) ، حديث رقم (3887) . وذكره (مسلم في كتاب الإيمان، باب (74) ، حديث رقم (264) . ومالك ابن صعصعة هو مالك بن صعصعة بن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري، من بني النجار، ليس له في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس بن مالك. (فتح الباري) : 7/ 258.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وكان الآخر بين السماء والأرض» .
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فقال أحدهما لصاحبه» .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أهو هو؟، قال: هو هو نعم» .
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة للبيان من المرجع السابق.
[ (6) ] في المرجع السابق: «قال فزنه بعشرة» .
[ (7) ] ما بين الحاصرتين زيادة للبيان من المرجع السابق.
[ (8) ] في المرجع السابق: «ثم جعلوا يتساقطون عليّ» .
[ (9) ] في المرجع السابق: «في كفة الميزان» .(3/36)
شقّ بطنه، فشقّ بطني فأخرج قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان، وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه [ (1) ] غسل الملأ، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه فخاط بطني وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ووليّا عني وكأني أعاين [الأمر] [ (2) ] معاينة [ (3) ] .
وفي رواية: لو وزنته بأمته لرجحهم، وقال: واغسل قلبه غسل الماء، ثم أتيت بسكينة وهرهرة [ (4) ] بيضاء فأدخلت قلبي.
ولأبي نعيم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيت في أهلي فأتى بي إلى زمزم، فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم نزلت طست من ذهب قد ملئت إيمانا وحكمة، فحشى بها صدري،
قال أنس:
فكأني انظر والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى الأثر في صدره [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «واغسل بطنه» .
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «أعاين معاينة» ، وما بين الحاصرتين من (خ) .
[ (3) ] الحديث في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 221، حديث رقم (167) .
[ (4) ] تقول: «سمعت له هرهرة أي صوتا عند الحلب» (لسان العرب) : 5/ 262 ولم أدر معناها في سياق هذه العبارة من الحديث.
[ (5) ] الحديث رقم (168) في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 221، 222: حدثني عمر بن حمدان قال:
حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا هدبة وشيبان قالا: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثنا ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه، أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق بطنه، فاستخرجه، ثم استخرج من قلبه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل القلب في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه. قال أنس: فلقد رأيت أثر المخيط في صدره صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وحادث شق الصدر ورد في كتب السيرة باتفاق، فهو في (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) :
1/ 236، كتاب الإسراء، ذكر وصف الإسراء برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بيت المقدس، حديث رقم (48) ، قال محقق (الإحسان) نقلا عن الحافظ ابن حجر في (الفتح) : «وجميع ما ورد من شقّ الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحيته القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك. قال القرطبي في (المفهم) :
لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء، لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم» ، وفي (المستدرك) : 2/ 673، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4430/ 240) ، قال في التلخيص: على شرط مسلم، وفي (مسند أحمد) : 3/ 571، حديث رقم (11812) ، وفي (طبقات ابن سعد) : 1/ 112، وفي (البداية والنهاية) : 2/ 335- 337،(3/37)
وقد ذكر بعضهم أن اللَّه تعالى خلق في قلوب البشر علقة قابلة لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت هذه العلقة من قلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يبق فيه مكان قابل لأن يلقي فيه الشيطان شيئا.
__________
[ () ] وفي (سيرة ابن هشام: 1/ 301.
وقد تكرر هذا الحادث مرتين بعد طفولته المبكرة، فكانت المرة الثانية لما كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عشر سنين، والمرة الثالثة لما جاوز صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمسين من عمره. وقصة شق الصدر هذه تشير إلى تعهد اللَّه تعالى نبيّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن مزالق الطبع الإنساني، ووساوس الشيطان، وهو حصانة للرسول الكريم التي أضفاها اللَّه عليه، فإن اللَّه تعالى قد شاءت إرادته أزلا، أن يكون محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم خاتم المرسلين، أراد سبحانه أن يجعل منه المثل الكامل، للإنسان الكامل، الّذي يسير نحو الكمال بطهارة القلب، وصفاء النفس.
ولما شبّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كانت مكة تعجّ بمختلف أنواع اللهو والفساد، والملاذ الشهوانية الدنسة، كانت حانات الخمر منتشرة، وبيوت الريبة عليها علامات تعرف بها، مع كثرة الماجنات والراقصات، وغير ذلك من أمور الجاهلية التي كانت تعج بها مكة في ذلك المجتمع الجاهلي، وتتوجها عبادة الأصنام والأوثان، واللَّه تبارك وتعالى برّأ رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، واختاره من أكرم معادن الإنسانية، ثم اختاره لحمل أكمل رسالات السماء إلى أمم الأرض، وتشهد الأثار على ما حباه ربه من العصمة، فمن ذلك ما سبق أن أوردناه بتمامه مع شرحه من
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما همت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين، كلتاهما عصمني اللَّه تعالى فيها» ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه ابن عباس رضي اللَّه عنهما ما حدثته به أم أيمن رضي اللَّه عنها: «كانت بوانة صنما تحضره قريش لتعظمه.
.. إلخ» .
ولا يطمئن بعض الجاهلين، ومعهم المستشرقين، إلى حادثة شق الصدر، واستخراجه، ومعالجته، سواء التي حدثت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو عند حليمة السعدية، أو ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب في معجزة الإسراء والمعراج.
وابن حبان- منذ أكثر من ألف سنة- يناقش الموضوع، ويعتبره من معجزات النبوة، ويقول:
«كان ذلك له فضيلة فضّل بها على غيره، وإنه من معجزات النبوة، إذ البشر إذا شقّ عن موضع القلب منهم، ثم استخرج قلوبهم ماتوا» ، فهذا فعلا كان في عصر ابن حبان، المتوفى سنة (354) هجرية، لا بل هو إلى عهد قريب جدا.
وتقدّم العلم، والطب، والجراحة، والتخدير، والعمليات الجراحية صارت تجرى في غرف معقمة، وبوسائل مختلفة، وتقنية ماهرة، فأمكن للجراحين اليوم من إجراء مختلف أنواع العلميات الجراحية، في كل موضع من مواضع الجسم، الهدف منها استئصال الداء وطرحه، حيث لم تعد تنفع الوسائل الطبية، حتى أمكن الآن استخراج القلب، وليس فقط معالجته، لا بل استبدال قلب سليم من إنسان مات حديثا، بالقلب التالف، أو حتى قلب صناعي، ثم تخاط طبقات الجسم وتعاد، فلا يموت المريض! وهذا أصبح في استطاعة الإنسان.
أفما استطاعة الإنسان، لا يستطيعه اللَّه الّذي يقول للشيء كُنْ فَيَكُونُ؟.(3/38)
ذكر مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصورة التي خلقه اللَّه تعالى عليها
خرج الحافظ أبو نعيم من حديث أيوب بن فرقد عن الأعمش عن عبد اللَّه ابن عبد اللَّه الرازيّ عن سعيد بن جبير عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال ورقة ابن نوفل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا محمد! كيف يأتيك الوحي؟ يعني جبريل عليه السلام؟ فقال: يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر [ (1) ] .
وفي حديث سليمان: سألت زر بن حبيش عن قول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال زر: قال عبد اللَّه: لقد رأى جبريل له ستمائة جناح.
وفي رواية زرّ عن عبد اللَّه ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [ (2) ] ، قال رأى جبريل له ستمائة جناح.
وفي رواية: سأل زر بن حبيش عن قول اللَّه عز وجل: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [ (3) ] قال: قال عبد اللَّه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل عليه السلام له ستمائة جناح [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 222 حديث رقم (169) وقال في سنده «حدثنا عبد اللَّه بن محمد ابن جعفر قال: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن رستة، ومحمد بن نصير قالا: حدثنا سليمان بن داود، قال: حدثنا أيوب بن فرقد ... » .
[ (2) ] الآية: 11/ النجم.
[ (3) ] الآية: 9/ النجم.
[ (4) ] وردت أحاديث هذا الباب بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير، وفي بعضها زيادة ونقصان، وكلها صحيحة إن شاء اللَّه تعالى، فمنها ما أخرجه (البخاري) في، باب فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى حيث الوتر من القوس، حديث رقم (4856) : حدثنا أبو النعمان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الشيبانيّ قال: سمعت رزّا «عن عبد اللَّه فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: حدّثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل له ستمائة جناح» .
هكذا أورده، والمراد بقوله: «عن عبد اللَّه، وهو ابن مسعود أنه قال في تفسير هاتين الآيتين ما سأذكره، ثم استأنف قال: «حدثنا ابن مسعود» وليس المراد أن ابن مسعود حدّث عبد اللَّه كما هو ظاهر السياق، بل عبد اللَّه هو ابن مسعود، وأخرجه في [الحديث الّذي يليه] من وجه آخر عن الشيبانيّ فقال: سألت زرّا عن قوله فذكره. ولا إشكال في سياقه، وقد أخرجه أبو نعيم في (المستخرج) ، من طريق سليمان بن داود الهاشمي، عن عبد الواحد بن زياد، عن الشيبانيّ(3/39)
ولأبي يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد بن سلمة، حدثنا عاصم عن زر عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل عند السدرة وله ستمائة جناح ينتشر من ريشه تهاويل الدر والياقوت، قال أبو نعيم: رواه عن عاصم مثله مرفوعا زائدة وحسين بن واقد. ورواه شريك وغيره موقوفا على عبد اللَّه.
وقال أبو وائل عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتاني جبريل في خضر معلقا به الدرّ، وزاد عاصم: وله ستمائة جناح [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني وآدم عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد اللَّه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [ (2) ] قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في صورته عند السدرة له ستمائة جناح، جناح منها سد الأفق تتناثر من أجنحته التهاويل الدر والياقوت ما لا يعلمه إلا اللَّه [ (3) ] .
__________
[ () ] قال: «سألت زر بن حبيش عن قول اللَّه: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فقال: قال عبد اللَّه، قال رسول اللَّه» فذكره. (فتح الباري) : 8/ 784، 785، كتاب التفسير، سورة (53) .
[ (1) ] هذا الحديث أخرجه (البخاري) في كتاب التفسير، باب فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى، الحديث رقم (4857) : حدثنا طلق بن غنام، حدثنا زائدة عن الشيبانيّ قال: «سألت زرّا عن قوله تعالى:
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: أخبرنا عبد اللَّه أنه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى جبريل له ستمائة جناح.
قوله: «أنه محمد» ، الضمير للعبد المذكور في قوله تعالى: إِلى عَبْدِهِ ووقع عند أبي ذر «أن محمدا رأى جبريل» وهذا أوضح في المراد، والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الّذي رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى، أي جبريل، إلى عبده، أي عبد اللَّه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأنه يرى أنه الّذي دنا فتدلى هو جبريل، وأنه هو الّذي أوحى إلى محمد. وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الّذي أوحى هو اللَّه، أوحى إلى عبده محمد، ومنهم من قال: إلى جبريل.
قوله: «له ستمائة جناح» : زاد عاصم عن زرّ في هذا الحديث «يتناثر من ريشه التهاويل من الدرّ والياقوت» . أخرجه النسائي وابن مروديه، ولفظ النسائي: «يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت» .
(المرجع السابق) . ونحوه في كتاب بدء الخلق، باب (7) حديث رقم (3232) . (المرجع السابق) : 6/ 385.
[ (2) ] الآية: 14/ النجم.
[ (3) ] أخرج البخاري نحوه في كتاب التفسير، باب لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، حديث رقم (4858) : حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، «عن عبد اللَّه ابن مسعود رضي اللَّه عنه لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: رأى رفرفا أخضر قد(3/40)
__________
[ () ] سدّ الأفق» .
قوله: «رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق» ، هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد، أخرجه النسائي والحاكم، عن طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: أبصر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل عليه السّلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل، والصفة التي كان عليها.
وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي، وفي رواية ابن عيينة عن النسائي، كلاهما عن الشيبانيّ عن زرّ عن عبد اللَّه، أنه رأى جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق، والمراد أن الّذي سدّ الأفق الرفرف الّذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا.
وفي رواية أحمد والترمذي، وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ [الآية 76/ الرحمن] ، وأصل الرفرف ما كان من الديباج، رقيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثنى فهو رفرف. ويقال: رفرف الطائر بجناحه إذا بسطهما، وقال بعض الشّراح:
يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته فصارت تشبه الرفرف، كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد. (فتح الباري) : 8/ 786، 787.
ومن أحاديث الباب ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم 287 (177) : «حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على اللَّه الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء، سادّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أو لم تسمع أن اللَّه يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ أو لم تسمع أن اللَّه يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ؟ قالت: ومن زعم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتم شيئا من كتاب اللَّه فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
؟ قالت:
ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه يقول: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. (مسلم بشرح النووي) : 3/ 10- 12.
وأخرج ابن حبان في صحيحه، باب: ذكر رؤية المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل بأجنحته، حديث رقم (6427) أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحيّ، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن الشيبانيّ، قال:
«سألت زرّ بن حبيش عن هذه الآية: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [18/ النجم] قال:
قال عبد اللَّه: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» . وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. والشيبانيّ: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان. (الإحسان) : 14/ 336.(3/41)
ومن طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد اللَّه في قوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلتي رفرف قد سد ما بين السماء والأرض [ (1) ] .
ومن حديث قيس بن وهب عن مرة عن عبد اللَّه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً قال:
رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل معلقا رجليه بالسدرة، عليهما الدر كأنه قطر المطر على البقل.
ومن حديث سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن علقمة عن عبد اللَّه وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، قال: جبريل في رفرف خضر قد سد الأفق [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ونحوه في (صحيح ابن حبان) في باب ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أنه مضادّ للخبر الّذي ذكرناه، حديث رقم (59) : أخبرنا محمد بن صالح بن ذريح بعكبرا، حدثنا مسروق ابن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد:
«عن ابن مسعود في قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلة من ياقوت- وفي رواية غير المؤلف-: في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض.
قال أبو حاتم: قد أمر اللَّه تعالى جبريل ليلة الإسراء أن يعلّم محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم ما يجب أن يعلمه كما قال:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يريد به جبريل ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى يريد به جبريل فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى يريد به جبريل فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
بجبريل ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى يريد به ربه بقلبه في ذلك الموضع الشريف، ورأى جبريل في حلة من ياقوت قد ملأ ما بين السماء والأرض على ما في خبر ابن مسعود الّذي ذكرناه. (الإحسان) :
1/ 255- 257.
وأخرجه الإمام أحمد بنحوه فقال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، في قوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض. (مسند أحمد) : 1/ 651، حديث رقم (3732) .
[ (2) ] الحاكم في (المستدرك) : 2/ 509، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم، حديث رقم (3746/ 883) : «أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا إسحاق، أنبأنا يحيى ابن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه في قوله عزّ وجلّ: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، قال: رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في حلة رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» وقال في آخره: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
و (الفردوس بمأثور الخطاب) : 2/ 256، 257، حديث رقم (3192) عن ابن مسعود «رأيت جبريل واقفا على السدرة له ستمائة جناح تسد أجنحته ما بين المشرق والمغرب.(3/42)
ومن حديث عثمان، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي اللَّه عنها قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل منهبطا قد ملأ ما بين السماء إلى الأرض عليه ثياب سندس معلق به الدر والياقوت [ (1) ] .
ومن حديث مسلمة بن أبي الأشعث عن أبي صالح عن أبي سلمة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل: وددت أن أراك في صورتك، قال: أتحب ذلك؟ قلت: نعم، قال: موعدك كذا وكذا من الليل في بقيع الغرقد،
فلقيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لموعده، فنشر جناحا من أجنحته فسد أفق السماء حتى ما يرى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من السماء شيئا، وأحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك [ (2) ] .
وللإمام أحمد من حديث أبي بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبه عن أبيه وهب عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل أن يراه في صوره، فقال: ادع ربك، فدعا ربه فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع فينتشر، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صعق، فنعشه فمسح البزاق عن فمه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المسند) : 1/ 652، حديث رقم (3740) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا حجاج، حدثنا شريك عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه قال: «رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سدّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللَّه به عليم» ،
و1/ 680، حديث رقم (3905) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود: «أنه قال في هذه الآية:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: رأيت جبريل عند سدرة المنتهى، عليه ستمائة جناح، ينشر من ريشه التهاويل، الدر والياقوت» .
[ (2) ] (الحبائك في الملائك للسيوطي) : 16.
[ (3) ] (المسند) : 1/ 530، حديث رقم (2959) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن منبه، عن أبيه وهب بن منبه، عن ابن عباس قال:
«سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل أن يراه في صورته؟ فقال: ادع ربك، قال: فدعا ربه، قال: فطلع عليه سواد من قبل المشرق، قال: فجعل يرتفع وينتشر، قال: فلما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صعق، فأتاه، فنعشه، ومسح البزاق عن شدقيه» .(3/43)
ولابن حبان من حديث صفوان بن عمرو عن شريح بن عبد اللَّه قال: لما صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى السماء فأوحى اللَّه إلى عبده ما أوحى، خرّ جبريل ساجدا حتى قضى اللَّه إلى عبده ما قضى، ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الّذي خلق عليه، منظوم بالزبرجد، واللؤلؤ والياقوت، فخيّل إليّ أنّ ماء عينيه قد سد الأفق، وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صورة مختلفة، وأكثر ما كنت أراه على صورة دحية الكلبي، وكنت أحيانا لا أراه قبل ذلك إلا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال [ (1) ] .
قال أبو نعيم: والروايات تتسع في ترائي جبريل عليه السلام للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في صور مختلفة، ووجه ذلك: أن يكون لجبريل ضروب من الصور، فكل مرة يتراءى فيها للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يثبت اللَّه قلب رسوله لرؤيته فيها بقوة يجددها اللَّه له، وكل حالة إبقاء اللَّه تعالى رسوله على جبلته، ولا يحدث له فيها قوة، يضعف صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رؤيته، فيصعق صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ثبته اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] صفوان بن عمر بن هرم السكسكيّ له في صحيح ابن حبان أحد عشر حديثا لم أجد من بينها هذا الحديث. (الإحسان) : 18/ 156 (فهرس الرواة) .(3/44)
ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن الحرث بن هشام سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، كيف كان يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول.
قالت عائشة رضي اللَّه عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا.
وخرجه النسائي أيضا، وخرجه البخاري ومسلم من حديث على بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي؟ قال: كل ذلك، يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال وهو أشده عليّ، ويتمثل لي الملك أحيانا رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق، وخرجه النسائي عن سفيان عن هشام وقال فيه: وأحيانا يأتيني في مثل صورة الفتى فينبذه إليّ [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث أبي أسامة ومحمد بن بشر عن هشام ولفظه: أن الحرث بن هشام سأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كيف كان يأتيك [ (2) ] الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ، ثم يفصم عني وقد وعيته، وأحيانا ملك في مثل صورة الرجال، فأعى ما يقول.
__________
[ (1) ] في (خ) «فينبذه مسلم إليّ» وما أثبتناه من (سنن النّسائي) ج 2 ص 147.
[ (2) ] قوله: «كيف يأتيك الوحي» ظاهره أن السؤال عن كيفية الوحي نفسه لا عن كيفية الملك الحامل له، ويدل عليه أول الجواب، لكن آخر الجواب يميل إلى أن المقصود بيان كيفية الملك الحامل، فيقال:
يلزم من كون الملك في صورة الإنسان كون الوحي في صورة مفهوم متبين أول الوهلة، فالنظر إلى هذا اللازم صار بيانا لكيفية الوحي، فلذلك قوبل بصلصلة الجرس، ويحتمل أن المراد السؤال عن كيفية الحامل، أي كيف يأتيك حامل الوحي. وقوله: «في مثل صلصلة الجرس» يأتيني في صوت متدارك لا يدرك في أول الوهلة كصوت الجرس، أي يجيء في صورة وهيئة لها مثل هذا الصوت،(3/45)
ولمسلم من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: إن كان لينزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الغداة الباردة ثم تفيض جبهته عرقا.
وله من حديث قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد اللَّه عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد وجهه، وفي لفظ: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم، فلما أتلى [ (1) ] عنه رفع رأسه.
وفي رواية لغير مسلم: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه الوحي عرفنا ذلك فيه وغمض عينيه وتربد وجهه، فنزل عليه فأمسكنا عنه، فلما سرى عنه قال:
خذوهن اقتلوهن [ (2) ] .
ولعبد الرزاق من حديث يونس بن يزيد الأشهلي عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي نسمع عنه دويا كدويّ النحل.
__________
[ () ] فنبه بالصوت غير المعهود على أنه يجيء في هيئة غير معهودة، فلذا قابله بقوله: «في مثل صورة الفتى» ، وعلى الوجهين فصلصلة الجرس مثال لصوت الوحي، والصلصلة- بصادين مهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة- صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، والجرس- بفتحتين- الجلجل الّذي يعلق في رءوس الدواب، وجه الشبه هو أنه صوت متدارك لا يدرك في أول الوهلة. وقوله:
«فيفصم» يضرب أي فيقطع عني حامل الوحي الوحي، قوله: «وقد وعيت عنه» أي حفظت عنه، أي أجده في قلبي مكشوفا متبينا بلا التباس ولا إشكال، فوله: «فينبذه» - كيضرب- أي يلقيه إليّ في صوت إنسان. واللَّه تعالى أعلم (سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي) ج 2 ص 146، 147.
[ (1) ] قوله: «أتلى عنه» هكذا هو في معظم نسخ بلادنا، أتلى بهمزة ومثناة فوق ساكنة ولام وياء، ومعناه:
ارتفع الوحي، هكذا فسّره صاحب (التحرير) وغيره، ووقع في بعض النسخ: «أجلى» بالجيم، وفي رواية ابن ماهان «انجلى» ، ومعناها: أزيل عنه وزال عنه، وفي رواية (البخاري) : «انجلى» ، واللَّه أعلم. (مسلم بشرح النووي) ج 15 ص 89.
[ (2) ] في حدّ الزنا.(3/46)
وخرجه الترمذي من حديث عبد الرزاق بهذا السند ولفظه: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل [ (1) ] ، فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللَّهمّ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال: أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ (2) ] حتى ختم عشر آيات. قال الترمذي: سمعت إسحاق بن منصور يقول: رواه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليمان عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث نحوه، ومن سمع من عبد الرزاق فربما قال لهم: إنما تذكرون فيه عن يونس بن يزيد، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد، ومن ذكر فيه عن يونس بن يزيد فهو أصح، وكذا عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد، وربما لم يذكره وهو عندنا أصح.
وخرجه أيضا عنه ابن حميد، وخرجه الحاكم وقال: الإسناد صحيح.
وفي حديث قصة الإفك قالت عائشة: فو اللَّه ما رام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل الّذي ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سرّي عنه وهو يضحك [ (3) ] .
ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة ابن وقاص، حدثتني عائشة رضي اللَّه عنها قالت: شخص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصره إلى السقف، وكان إذا نزل عليه وجد ثقلا، قال اللَّه تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «سمع عليه وجهه كدوي النحل» ، وما أثبتناه من (مسند أحمد) ج 1 ص 34.
[ (2) ] من أول سورة المؤمنون.
[ (3) ] (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) عند تفسيره لسورة النور.
[ (4) ] سورة المزمل الآية/ 5.(3/47)
وللإمام أحمد من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد قال: سمعت زيد بن ثابت يقول: كان إذا نزل الوحي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثقل لذلك وتحدر جبينه عرقا كأنه الجمان، وإن كان في البرد.
وله من حديث معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ (1) ] ، فجاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول اللَّه، إني أحب الجهاد، ولكن بي من الزّمانة [ (2) ] ما ترى، قال زيد: فثقلت فخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم قال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ (3) ] .
ولأبي نعيم من حديث ابن لهيعة قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عمرو ابن الوليد عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه قال: قلت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل تحس بالوحي؟ قال: نعم أسمع صلاصل ثم أسبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض منه.
ولأبي نعيم من حديث عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب قال:
حدثني أبي عن خالد الفلتان بن عاصم قال: كنا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من اللَّه عز وجل.
وله من حديث أبي عون عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي صدع فغلف رأسه بالحناء.
وله لأحمد بن حنبل من حديث سفيان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: كنت آخذة بزمام ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين نزلت المائدة، فكاد
__________
[ (1) ] سورة النساء الآية/ 95.
[ (2) ] الزّمانة: العاهة (ترتيب القاموس) ج 2 ص 477.
[ (3) ] أخرجه أيضا: أبو نعيم في (دلائل النبوة) ج 1 ص 73.(3/48)
أن ينكسر عضدها من ثقل المائدة [ (1) ] .
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة، حدثنا حيي عن عبد اللَّه أن أبا عبد الرحمن الجبليّ حدثه قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو [ (2) ] يقول: أنزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها [ (3) ] .
وللبخاريّ ومسلم من حديث همام قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح قال:
حدثني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بالجعرانة [ (4) ] وعليه جبة وعليه أثر الخلوق [ (5) ]- أو قال: أثر صفرة- فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: فأنزل اللَّه على النبي الوحي [صلوات اللَّه وسلامه عليهما] [ (6) ] فستر بثوب، [وكان يعلى يقول] [ (7) ] : وددت أن أرى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أنزل [ (8) ] اللَّه عليه الوحي، فقال عمر رضي اللَّه عنه: أيسرك أن ترى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] قال الإمام الحافظ عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ في تقدمته لسورة المائدة:
«قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية شيبان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة» .
«وروى ابن مردويه، من حديث صباح بن سهل، عن عاصم الأحول قال: حدثتني أم عمرو عن عمها، أنه كان في مسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه تعالى عليه وآله وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها» .
«وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حييّ بن عبد اللَّه، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: أنزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. تفرد به أحمد» . (تفسير القرآن العظيم لابن كثير) : 2/ 3.
[ (2) ] في (خ) : «عمر» ، والتصويب من المرجع السابق والمرجع التالي.
[ (3) ] (مسند أحمد) : 2/ 368، مسند عبد اللَّه بن عمرو، حديث رقم (6605) .
[ (4) ] الجعرانة: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، والعراقيون يشدّدون راءها ويكسرون عينها، أما الحجازيون، فإنّهم يسكنون عينها ويخفّفون راءها. (معجم ما استعجم) 2/ 384.
[ (5) ] الخلوق: بفتح الخاء المعجمة، نوع من الطيب مركب فيه زعفران.
[ (6) ] زيادة في (خ) .
[ (7) ] كذا في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 225، حديث رقم (176) .
[ (8) ] في (المرجع السابق) : «وقد نزل» .(3/49)
وقد أنزل [ (1) ] عليه اللَّه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له [ (2) ] غطيط، قال: وأحسب [ (3) ] قال: كغطيط البكر، قال: فلما سرى عنه قال: أين السائل عن العمرة؟ اخلع الجبة واغسل [ (4) ] أثر الخلوق وأنق [ (5) ] الصفرة، واصنع في عمرتك كما [ (6) ] تصنع في حجك [ (7) ] وقال مسلم: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال: أثر الخلوق، واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك [ (8) ] . وخرجاه من طرق مطولا ومختصرا [ (9) ] .
__________
[ (1) ] في (المرجع السابق) : «وقد نزل» .
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «وله» .
[ (3) ] في (المرجع السابق) : «قال همام: أحسبه» .
[ (4) ] في (المرجع السابق) : «واغسل عنك» .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «أو الصفرة» .
[ (6) ] في (المرجع السابق) : «ما صنعت» .
[ (7) ]
الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب العمرة، باب (10) ما يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج، حديث رقم (1789) ، ورواه بسياقة أخرى في كتاب الحج، باب (17) غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، حديث رقم (1536) : قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء أن صفوان بن يعلي أخبره «أن يعلى قال لعمر رضي اللَّه عنه: أرني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين يوحي إليه. قال فبينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجعرانة- ومعه نفر من أصحابه- جاءه رجل فقال: يا رسول اللَّه، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمّخ بطيب؟ فسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي اللَّه عنه إلى يعلى، فجاء يعلى- وعلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثوب قد أظلّ به- فأدخل رأسه، فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محمرّ الوجه وهو يغط، ثم سرّي عنه فقال: أين الّذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطيب الّذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّتك» .
قلت لعطاء: أراد الإنقاء حسن أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم» .
قوله: «يغطّ» - بفتح أوله وكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة- أي ينفخ، والغطيط: صوت النفس المتردد من النائم أو المغمى، وسبب ذلك شدة ثقل الوحي، وكان سبب إدخال يعلى رأسه عليه في تلك الحال، أنه كان يحب لو رآه في حالة نزول الوحي. (فتح الباري) : 3/ 503.
[ (8) ] (صحيح مسلم) : كتاب الحج، باب (1) ، ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه، حديث رقم (6- (1180) .
[ (9) ] فمما أخرجه (البخاري) : كتاب جزاء الصيد، باب (19) ، إذا أحرم جاهلا وعليه قميص، حديث رقم (1847) ، وفي كتاب فضائل القرآن، باب (2) ، نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قُرْآناً عَرَبِيًّا بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، حديث رقم (4985) ، وفي كتاب المغازي، باب (57) ، غزوة الطائف في شوال سنة ثمان- قال موسى بن عقبة- حديث رقم (4329) .
ومما أخرجه (مسلم) : كتاب الحج، باب (1) ، ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه، حديث رقم (6- (1180) ، (7) ، (8) ، (9) ، (10) ، وقال فيه:
«خمّره عمر بالثوب» ، أي غطّاه، وأما إدخال يعلى رأسه، ورؤيته النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحال، وإذن عمر له في ذلك، فكله محمول على أنهم علموا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه لا يكره الاطلاع عليه في ذلك الوقت وتلك الحال، لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حالة الوحي الكريم، واللَّه تعالى أعلم.(3/50)
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الزناد عن خارجة بن زيد قال: قال زيد ابن ثابت: إني قاعد إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ أوحي إليه، قال: وغشيته السكينة [و] [ (1) ] وقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة، [قال زيد] [ (1) ] :
فلا واللَّه ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم سرى عنه فقال: أكتب يا زيد [ (2) ] .
وروى الحسين بن إسماعيل المحاملي من حديث أبي الزياد عن خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت قال: كان إذا أنزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أخذ [ (3) ] به من ذلك على قدر لينها.
ولابن سعد من حديث صالح بن محمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي أروى الدوسيّ قال: رأيت الوحي ينزل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنه على راحلته فترغو وتقبل يديها حتى أظن أن ذراعها تنفصم فربما بركت وربما قامت موئدة يديها حتى يسرى عنه مثل الوحي، وإنه ليتحدر مثل الجمان [ (4) ] .
وخرج الحاكم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن عبد اللَّه بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أوحي إليه لم يستطع أحد منا يرفع طرف إليه حتى ينقضي الوحي. قال هذا حديث صحيح
__________
[ (1) ] زيادة من (مسند أحمد) .
[ (2) ]
(مسند أحمد) : 6/ 245، حديث رقم (21156) ، وتمام لفظه: «فأخذت كتفا، فقال:
أكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ الآية كلها إلى قوله: أَجْراً عَظِيماً، فكتبت ذلك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- فقام حين سمع فضيلة المجاهدين، قال: يا رسول اللَّه، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد:
فو اللَّه ما مضى كلامه، أو ما هو إلا أن قضي كلامه، غشيت النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ثم سرّى عنه. فقال: اقرأ، فقرأت عليه:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
قال زيد: فألحقتها، فو اللَّه لكأنّي انظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف» .
[ (3) ] في (خ) : «أخذا» .
[ (4) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 197، باب ذكر شدة نزول الوحي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.(3/51)
على شرط مسلم [ (1) ] . [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وله من حديث معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فلم تستطع أن تتحرك، وتلت قول اللَّه عزّ وجلّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال: هذا حديث صحيح الإسناد [ (3) ] ، [ولم يخرجاه] [ (2) ] واللَّه الموفق بمنه وكرمه وحسن توفيقه.
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 2/ 242، حديث رقم (2880/ 9) .
[ (2) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 548، حديث رقم (3865/ 1002) .(3/52)
ذكر تعليم جبريل عليه السلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوضوء والصلاة
قال أبو عمر بن عبد اللَّه: ومعلوم أن الجنابة لم يفترض الغسل منها قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم افترضت عليه الصلاة بمكة والغسل من الجنابة، وأنه لم يصل قط بمكة إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة ومثل وضوئنا اليوم، وهذا لا يجهله عالم ولا يدفعه إلا معاند.
وخرج الإمام أحمد من حديث [ابن] لهيعة عن عقيل عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن جبريل أتاه أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة ماء فنضح بها فرجة [ (1) ] .
وروى الواقدي من حديث معمر عن الزهري وقتادة والكلبي قالوا: علم جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوضوء والصلاة، واقرأه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (2) ] ، فأتى خديجة رضي اللَّه عنها فأخبرها بما أكرمه اللَّه عز وجل به، وعلمها الوضوء فصلت معه، وكانت أول خلق صلى معه [ (3) ] .
ومن حديث أبي معشر عن محمد بن قيس قال: فحص جبريل بعقبه الأرض فنبع ماء، فعلم جبريل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوضوء، فمضمض ثم استنشق وغسل وجهه وذراعيه، ومسح رأسه وغسل رجليه، ثم نضح تحت إزاره ثم صلّى ركعتين، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسرورا فجاء إلى خديجة رضي اللَّه عنها فحدثها وأراها ما أراه جبريل، ثم صلت معه ركعتين [ (3) ] .
وقال الواقدي: وكان علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي اللَّه عنهما يلزمان
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 5/ 165- 166، حديث رقم (17026) .
[ (2) ] أول سورة العلق.
[ (3) ] سبق الإشارة إليهم في سياق الغزوات.(3/53)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يخرج إلى الكعبة أول النهار ويصلي صلاة الضحى- وكانت تلك صلاة لا تنكرها قريش- وكان إذا صلّى في سائر اليوم بعد ذلك قعد عليّ أو زيد يرصدانه [ (1) ] .
وروى عن سلمة بن [] [ (2) ] عن عميرة بنت عبيد اللَّه بن كعب بن مالك عن بنت أبي بحراة قالت: كانت قريش لا تنكر صلاة الضحى إنما تنكر غيرها، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فيصلون فرادى ومثنى، قال الواقدي: كانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس قبل الهجرة، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم نزل تمامها بالمدينة للمقيم، وبقيت صلاة المسافر ركعتين.
وقال مقاتل بن سليمان: فرض اللَّه تعالى على المسلم في أول الإسلام صلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالضحى، ثم فرض الخمس في ليلة المعراج، وقد جاء أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى عند زوال الشمس في أول النبوة، ولما نزلت سورة المزمل بمكة كان قيام الليل فرضا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين، فشق ذلك عليه وعليهم، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [ (3) ] .
وقال عطاء بن السائب ومقاتل بن سليمان: نزل قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [ (3) ] بالمدينة، والأول أصح، وقيل: نسخ قيام الليل في حقه بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [ (4) ] ، ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس، وقيل: نسخ عن الأمة وبقي فرضه عليه، وقيل:
إنما كان مفروضا عليه دونهم، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه: كان بين نزول أول المزمل وآخرها سنة.
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليهم في سياق الغزوات.
[ (2) ] ما بين القوسين في (خ) كلمة غير واضحة، لم أجد لها توجيها فيمن اسمه «سلمة» ، فيما بين يدي من كتب الرجال.
[ (3) ] سورة المزمل، آية/ 20.
[ (4) ] سورة الإسراء، آية/ 79.(3/54)
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السّير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء، ولكنهم اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروي عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيدت في صلاة الحضر، فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين، وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد ابن إسحاق.
وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنها فرضت أربعا وفي السفر ركعتين، وقال نافع بن جبير: أنها فرضت في أول ما فرضت أربعا إلا المغرب، فإنّها فرضت ثلاثا، والصحيح ركعتين، وكذلك قال الحسن البصري وهو قول ابن جريج.
وقد روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث القشيري وغيره ما يوافق ذلك، ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الزوال عند الإسراء، فعلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة ومواقيتها وهيئتها.
وقال إسحاق الحربي: أول ما فرضت الصلاة بمكة، ركعتان في أول النهار وركعتان في آخره، وذكر حديث عائشة قالت: فرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة ركعتين ركعتين ثم زاد فيها في الحضر، هكذا حدث ابن الحربي عن أحمد بن الحجاج عن ابن المبارك عن ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت:
فرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلاة ركعتين ركعتين. الحديث، وليس في حديث عائشة هذا دليل على صحة ما ذهب إليه من قال: أن الصلاة فرضت ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، وليس يوجد هذا في أثر صحيح، بل في حديث عائشة دليل على أن الصلاة التي فرضت ركعتين ركعتين في الصلوات الخمس ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر، لأن الإشارة بالألف واللام إلى الصلاة في حديث عائشة هذا هي إشارة إلى الصلاة المعهودة، وهذا هو الظاهر المعروف في الكلام، وقد أجمع العلماء أن الصلوات الخمس إنما فرضت في الإسراء، والظاهر من حديث عائشة أنها أرادت تلك الصلاة، واللَّه أعلم.(3/55)
وأورد من طريق النسائي حديث الوليد بن مسلم قال: أخبرني أبو عمر يعني الأوزاعي أنه سأل الزهري عن صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة قبل الهجرة إلى المدينة فقال: أخبرني عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: فرض اللَّه الصلاة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أول ما فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمت في الحضر أربعا، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى [ (1) ] ، فهذا ومثله يدلك على أنها الصلاة المعهودة، وهي الخمس المفترضة في الإسراء به لا صلاتان، ومن ادّعى غير ذلك كان عليه الدليل من كتاب أو سنة، ولا سبيل له إليه.
وقال جماعة من أهل العلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يكن عليه صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من صلاة الليل على نحو قيام الليل من رمضان من غير توقيت ولا تحديد، لا بركعات معلومات ولا بوقت محصورة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوا من حول حتى شق عليهم ذلك فأنزل اللَّه التوبة عنهم والتخفيف في ذلك، ونسخه بقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [ (2) ] ، فنسخ آخر السورة أولها، فضلا منه ورحمة، فلم تبق في الصلاة فريضة إلا الخمس، ألا ترى إلى
حديث طلحة بن عبيد اللَّه في الأعرابي النجدي إذا سأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عما عليه من الصلاة فقال: الصلوات الخمس، فقال: هل على غيرها؟ فقال: لا.
ذكر وكيع عن مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل [ (3) ] آخرها، وكان بين أولها وآخرها حول.
وعن عائشة مثله بمعناه وقالت: فجعل قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وعن الحسن مثله قال: فنزلت الرخصة بعد حول.
قال كاتبه: حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت:
__________
[ (1) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 99، حديث رقم (44) .
[ (2) ] سورة المزمل، آية/ 20.
[ (3) ] في (خ) : «نزلت» .(3/56)
فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
وقال البخاري: فرض اللَّه الصلاة حين فرضها ... الحديث مثله، ذكره في كتاب الصلاة، وخرجه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرت في صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر ... الحديث، ذكره البخاري في أبواب تقصير الصلاة [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: فرض اللَّه الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 724، حديث رقم (1090) .
[ (2) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) : 5/ 201، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (2) من أحاديث الباب.
اختلف العلماء في القصر في السفر، فقال الشافعيّ ومالك بن أنس، وأكثر العلماء: يجوز القصر والإتمام، والقصر أفضل، ولنا قول: أن الإتمام أفضل، ووجه أنهما سواء، والصحيح المشهور أن القصر أفضل.
وقال أبو حنيفة وكثيرون: القصر واجب ولا يجوز الإتمام، ويحتجون بهذا الحديث، وبأن أكثر فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه كان القصر.
واحتج الشافعيّ وموافقوه بالأحاديث المشهورة في صحيح مسلم وغيره، أن الصحابة رضي اللَّه عنهم كانوا يسافرون مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمنهم القاصر، ومنهم المتمم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة وغيرها، وهو ظاهر قول اللَّه عزّ وجلّ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ، وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة.
وأما حديث: فرضت الصلاة ركعتين، فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار، وثبتت دلائل جواز الإتمام، فوجب المصير إليها، والجمع بين دلائل الشرع. (المرجع السابق) : 201- 202.
ورواية البخاري: عائشة رضي اللَّه عنها: «فرض اللَّه الصلاة- حين فرضها- ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» ، وفي رواية، قالت: «فرض اللَّه الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» .
وفي أخرى، قالت: «فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى. قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟(3/57)
وخرجه البخاري من حديث يزيد بن ذريع، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الأولى، تابعه عبد الرزاق عن معمر، ذكره البخاري في كتاب الهجرة [ (1) ] ، وأما حديث ابن عباس فخرجه النسائي [ (2) ] من حديث أبي عوانة عن بكير الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال:
فرضت الصلاة على لسان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، قال ابن عبد البر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما انفرد به.
وخرج ابن أبي شيبة من حديث عبيدة بن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فلما أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب.
قال ابن عبد البر: قول الشعبي هذا أصله حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وقد يمكن أن يأخذه عن الأسود عن مسروق عن عائشة، فأكثر ما عنده عن عائشة هو عنهما.
__________
[ () ] قال: تأولت كما تأول عثمان» .
أخرجه البخاري ومسلم. وأخرج الرواية الثانية الموطأ وأبو داود، وأخرج الثانية والثالثة النسائي رواه البخاري في الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، وفي تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، وفي فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه، ومسلم في صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين وقصرها، والموطأ في قصر الصلاة في السفر، وأبو داود في الصلاة، باب صلاة المسافر، والنسائي في الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة- ر: (جامع الأصول في أحاديث الرسول) : 5/ 184- 185، حديث رقم (3249) .
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 341، كتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ، من أين أرّخوا التاريخ، حديث رقم (3935) ، وقال فيه: «فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي» ، أي بمكة، وقوله:
«تركت» أي على ما كانت عليه من عدم وجوب الزائد، بخلاف صلاة الحضر، فإنّها زيدت في ثلاث منها ركعتان، فالمعنى: أقرت صلاة السفر على جواز الإتمام، وإن كان الأحب القصر.
[ (2) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 99، حديث رقم (442) ، وقال عنه: «صحيح» ، و (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 176، حديث رقم (1068) ، (صحيح أبي داود) : 1/ 227، حديث رقم (1089) : عن أنس بن مالك، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة إلى مكة، فكان يصلى ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، فقلنا: هل أقمتم بها شيئا؟ قال: أقمنا عشرا. ذكر في باب متى يتم المسافر.(3/58)
وروى يونس بن بكير عن سالم بن أبي المهاجر قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى ثم صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعا فصارت سنة، وأقرت الركعتان للمسافر وهي تمام. قال ابن عبد البر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله:
فصارت سنة قول نكر، وكذلك استثنى الشعبي المغرب وحدها، ولم يذكر الصبح قول لا معنى له، ومن قال بهذا من أهل السير قال: إن الصلاة أتمت بالمدينة بعد الهجرة بشهر وأربعة أيام.(3/59)
وأمّا إقامة جبريل عليه السّلام أوقات الصّلاة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنّه أمّه فيها
فخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخّر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخّر الصلاة يوما وهو في [الكوفة] [ (1) ] فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال: ما هذا يا مغيرة؟! أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم صلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم صلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، ثم قال بهذا أمرت، فقال عمر [ (3) ] لعروة: انظر ما تحدثت به يا عروة، أو أن جبريل هو الّذي أقام لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقت الصلاة؟ فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه، قال [ (4) ] عروة: ولقد حدثتني عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [أنه] كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر [ (5) ] .
وأخرجاه والنسائي من حديث الليث بن سعد عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخّر الصلاة شيئا، فقال له عروة: أما أن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة، فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا سلمة مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: نزل جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ويحسب بأصابعه خمس صلوات.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي صحيح البخاري: بدونها، وفي رواية: «وهو بالعراق» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي صحيح البخاري: «ثم صلّى فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» [خمس مرات] .
[ (3) ] يعني ابن عبد العزيز.
[ (4) ] بداية حديث آخر في البخاري، على ما سيأتي شرحه ...
[ (5) ] فتح الباري 2/ 4- 8.
قوله: «أخّر الصلاة يوما» : وللبخاريّ في بدء الخلق من طريق الليث عن ابن شهاب بيان الصلاة المذكور، ولفظه: «أخّر العصر شيئا» . قال ابن عبد البر: ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يوما ما، لا أن ذلك كان عادة له وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، وكذا في نسخة الصغاني، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب: «أخّر الصلاة مرة» ، يعني العصر.
وللطبراني من طريق أبي بكر بن حزم، أن عروة حدّث عمر بن عبد العزيز- وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك- وكان ذلك زمان يؤخرون فيه الصلاة، يعني بني أمية. قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس.(3/60)
__________
[ () ] ويؤيده سياق رواية الليث المتقدمة. وأما ما رواه الطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب في هذا الحديث، قال: «دعا المؤذن لصلاة العصر فأمسي عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها» ، فمحمول على أنه قارب المساء لا أنه دخل فيه، وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فروى الأوزاعي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز- يعني في خلافته- كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل.
قوله: «أن المغيرة بن شعبة أخّر الصلاة يوما» ، بين عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج عن ابن شهاب أن الصلاة المذكورة العصر أيضا، ولفظه: «أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر.
قوله: «وهو بالعراق» ، في الموطأ، رواية القعنبي وغيره عن مالك «وهو بالكوفة» ، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي، والكوفة من جملة العراق، فالتعبير بها أخصّ من التعبير بالعراق، وكان المغيرة إذا ذاك أميرا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان.
قوله: «ما هذا» ؟ الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر: «ألست» ، وفي مخاطبة الغائب:
«أليس» .
قوله: «قد علمت» ، قال عياض: يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة. قلت: ويؤيد الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند المصنف في غزوة بدر بلفظ «فقال لقد علمت» بغير أداة استفهام، ونحوه لعبد الرزاق عن معمر وابن جريج جميعا.
قوله: «إن جبريل نزل» ، بين ابن إسحاق في المغازي، أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق: «حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير» ، وقال عبد الرزاق: «عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سمّيت «الأولى» أي صلاة الظهر، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى به جبريل، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس» ، فذكر الحديث، وفيه ردّ على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحقّ أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قوله: «نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، قال عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيحمل قوله: «صلّى فصلّى» ، على أن جبريل كان كلما فعل جزءا من الصلاة تابعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفعله. وبهذا جزم النووي.
وقال غيره: الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل، على ما يقتضيه مطلق الجمع، وأجيب بمراعاة الحيثية وهي التبين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه، وقيل: الفاء للسببية كقوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. وفي رواية الليث عند المصنف وغيره: «نزل جبريل فأمّني فصليت معه» ، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر: «نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الناس معه» ، وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة، وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: «الصلاة جامعة» ، لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ.
واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة(3/61)
__________
[ () ] أبي بكر في صلاته خلف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلّغا فقط، كما سيأتي تقريره في أبواب الإمامة.
واستدلوا به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفّل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، قاله ابن العربيّ وغيره.
وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ، وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقا بالبيان، فلن يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة.
قال: وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا بل كانت تلك الصلاة- واجبة علي لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر.
قوله: «بهذا أمرت» ، بفتح المثناة على المشهور، والمعنى هذا الّذي أمرت به أن تصليه كل يوم وليلة، وروي بالضم، أي هذا الّذي أمرت بتبليغه لك.
قوله: «كذلك كان بشير» ، هو بفتح الموحّدة، بعدها معجمة بوزن فعيل، وهو تابعي جليل، ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ورآه. قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء، لأن ابن شهاب لم يقل: حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل: حدثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة، لا بالصيغ.
وقال الكرماني: اعلم أن الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد، إذ لم يقل أبو مسعود:
«شاهدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» ، ولا قال: «قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» . قلت: هذا لا يسمى منقطعا اصطلاحا، وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو بلغه عنه بتليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر. على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه: «فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول» ، فذكر الحديث.
وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جرّب عليه التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب قال: «كنا مع عمر بن عبد العزيز» ، فذكره. وفي رواية شعيب عن الزهري: «سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز» ، الحديث.
قال القرطبي: قول عروة إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز إذ لم يعين له الأوقات. قال: وغاية ما يتوهم عليه أن نبّهه وذكّره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات.
قال: وفيه بعد، لإنكار عمر على عروة حيث قال له: «اعلم ما تحدث يا عروة» . قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل. قال الحافظ ابن حجر: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر، لكن لم يكن يعرف أن أصله لم يكن بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يحمل عمل المغيرة وغيره من الصحابة، ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود، والظاهر أنه رجع إليه واللَّه أعلم ...(3/62)
__________
[ () ] وأما ما زاده عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري في هذه القصة قال: فلم يزل عمر يعلم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا، رواه أبو الشيخ في كتاب (المواقيت) له من طريق الوليد عن الأوزاعي عن الزهري قال: «ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات» . ومن طريق إسماعيل ابن حكيم «أن عمر بن عبد العزيز جعل ساعات ينقضين مع غروب الشمس» زاد من طريق ابن إسحاق عن الزهري «فما أخّرها حتى مات» . فكله يدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثير احتياط إلا بعد أن حدثه عروة بالحديث المذكور.
وقد نبّه الحافظ ابن حجر على أنه قد ورد في هذه القصة من وجه آخر عن الزهري بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الإشكال، ويوضح توجيه احتجاج عروة به، فروى أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق ابن وهب، والطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أسامة بن زيد، عن الزهري هذا الحديث بإسناده، وزاد في آخره: «قال أبو مسعود: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي الظهر حين تزول الشمس» فذكر الحديث.
وذكر أبو داود أن أسامة بن زيد تفرد بتفسير الأوقات فيه، وأن أصحاب الزهري لم يذكروا ذلك.
قال: وكذا رواه هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة، لم يذكروا تفسيرا.
ورواية هشام أخرجها سعيد بن منصور في سننه، ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسندة. وقد وجدت ما يعضد رواية أسامة ويزيد عليها، أن البيان من فعل جبريل، وذلك فيما رواه الباغندي في (مسند عمر بن عبد العزيز) ، والبيهقي في (السنن الكبرى) من طريق يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود، فذكره منقطعا.
لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلا، وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا، وبذلك جزم ابن عبد البر، وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة، فلا توصف والحالة هذه بالشذوذ. وفي هذا الحديث من الفوائد:
[1] دخول العلماء على الأمراء.
[2] إنكارهم عليهم ما يخالف السنة.
[3] استثبات العالم فيما يستقر به السماع.
[4] الرجوع عند التنازع إلى السنة.
[5] فيه فضيلة عمر بن عبد العزيز.
[6] فيه فضيلة المبادرة بالصلاة في الوقت الفاضل.
[7] قبول خبر الواحد الثبت.
[8] استدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع، لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له لما أن أرسل الحديث بذكر من حدّثه به فرجع إليه، فكأنما عمر قال له: تأمل ما تقول، فلعله بلغك عن غير ثبت. فكأن عروة قال له: بل قد سمعته ممن قد سمع صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والصاحب قد سمعه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[9] واستدل به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة، كصنيع عروة حين احتج على عمر قال:
وإنما راجعه عمر لتثبته فيه، لا لكونه لم يرض به مرسلا. كذلك قال، وظاهر السياق يشهد لما قال ابن بطال. وقال ابن بطال أيضا: ...(3/63)
__________
[ () ] [10] في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أمّ بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة، قال: لأنه لو كان صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلّى في اليوم الثاني في آخر الوقت وقال: «الوقت ما بين هذين» .
وأجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الاختيار وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس، فيتجه إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث. أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا.
وقد روى سعيد بن منصور من طريق طلق بن حبيب مرسلا قال: «إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله» . ورواه أيضا عن ابن عمر من قوله، ويؤيد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة في كونه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث أبي مسعود، لأن حديث عائشة يشعر بمواظبته على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل. (فتح الباري) : 2/ 3- 8، كتاب مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، حديث رقم (521) ،
وذكر البخاري نحوا منه في كتاب بدء الخلق، حديث رقم (3221) : «أما إن جبريل قد نزل فصلّى أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عمر: اعلم ما تقول يا عروة، قال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: نزل جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات.
وذكره البخاري في كتاب المغازي (حديث رقم 4007) : «سمعت عروة بن الزبير يحدّث عمر ابن عبد العزيز في إمارته: أخّر المغيرة بن شعبة العصر وهو أمير الكوفة، فدخل أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ جد زيد بن حسن شهد بدرا فقال: لقد علمت نزل جبريل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمس صلوات ثم قال: هكذا أمرت، ذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه» .
ورواه مسلم في المساجد باب استحباب التبكير بالعصر، والموطأ 1/ 8- 9 في وقت الصلاة، وأبو داود في الصلاة، باب في وقت صلاة العصر، والنسائي في المواقيت، باب تعجيل العصر.
وأما قول عروة: «ولقد حدثتني عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر» ، فهو الحديث الّذي ذكره البخاري برقم (522) في كتاب مواقيت الصلاة بعد الحديث السابق شرحه وتخريجه، وقد ذكر البخاري نحوا منه في باب وقت العصر من كتاب مواقيت الصلاة، الأحاديث أرقام: (544) ، (545) ، (546) ، بسياقات متقاربة مفادها أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: «كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي، لم يظهر الفيء بعد» . قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أن أنس بن عياض- وهو أبو ضمرة الليثي- وأبا أسامة رويا الحديث عن هشام- وهو ابن عروة بن الزبير- عن أبيه عن عائشة، وزاد أبو أسامة التقييد بقعر الحجرة، وهو أوضح في تعجيل العصر من الرواية المطلقة، وقد وصل الإسماعيلي طريق أبي أسامة في مستخرجه، لكن بلفظ «والشمس واقعة في حجرتي، وعرف بذلك أن الضمير في قوله:(3/64)
وقال البخاري والنسائي [ (1) ] : أخر العصر شيئا، ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق في ذكر الملائكة [ (2) ] ، وخرجه في كتاب المغازي من حديث شعيب عن الزهري: سمعت عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز في إمارته: أخّر المغيرة ابن شعبة العصر وهو أمير الكوفة، فدخل أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري جد زيد بن حسن- شهد بدرا- فقال: لقد علمت نزل جبريل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمس صلوات ثم قال هكذا أمرت، كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه. ذكره في الباب الّذي بعد باب شهود الملائكة بدرا [ (3) ] .
وخرجه قاسم بن أصبغ من حديث سفيان قال: حدثنا الزهري قال: أخّر عمر ابن عبد العزيز يوما الصلاة فقال له عروة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: نزل جبريل فأمّني فصليت معه، ثم نزل فأمني فصليت معه، ثم نزل فأمني فصليت معه، حتى عد الصلوات الخمس فقال له عمر بن عبد العزيز: اتّق اللَّه يا عروة وانظر ما تقول:
فقال عروة: أخبرنيه بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
قال الحافظ أبو عمر بن عبد [البر] [ (5) ] : وظاهر مساقه في رواية مالك تدل على الانقطاع لقوله: أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما ودخل عليه عروة، ولم يذكر فيه سماعا لابن هشام من شهاب من عروة، ولا سماعا لعروة من بشير بن أبي
__________
[ () ] «حجرتها» لعائشة، وفيه نوع التفات، وإسناد أبي ضمرة كلهم مدنيون، والمراد بالحجرة- وهي بضم المهملة وسكون الجيم- البيت، والمراد بالشمس ضوؤها، وقوله في رواية الزهري: «والشمس في حجرتها» ، أي باقية، وقوله: «لم يظهر الفيء» ، أي في الموضع الّذي كانت الشمس فيه، ومن طريق مالك عن الزهري بلفظ: «والشمس في حجرتها قبل أن تظهر» ، أي ترتفع، فهذا الظهور غير ذلك الظهور، ومحصله أن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وليس بين الروايتين اختلاف، لأن انبساط الفيء لا يكون إلا بعد خروج الشمس. (فتح الباري) : 2/ 31- 32، كتاب مواقيت الصلاة.
[ (1) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 108، كتاب المواقيت، باب إمامة جبريل عليه السلام، للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم 480.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 375- 376، كتاب بدء الخلق، ذكر الملائكة، حديث رقم (3221) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 402- 403، كتاب المغازي، باب رقم (12) ، حديث رقم (4007) .
[ (4) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (5) ] في (خ) : «عبد العزيز» .(3/65)
مسعود، وهذه اللفظة- أعني أن عند جماعة من [أهل] [ (1) ] العلم بالحديث- محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع واللقاء، ومنهم من لا يلتفت إليها، ويحمل الأمر على المعروف من مجالسة بعضهم بعضا، ومشاهدة بعضهم لبعض، وأخذهم بعضهم من بعض، فإن كان ذلك معروفا لم يسأل عن هذا اللفظة، وكان الحديث عنده على الاتصال، وهذا يشبه أن يكون مذهب مالك- رحمه اللَّه- لأنه في موطئه لا يفرق بين شيء من ذلك، وهذا الحديث متصل عند أهل العلم مسند صحيح لوجوه: منها أن مجالسة بعض المذكورين فيه لبعض مشهورة، ومنها أن هذه القصة قد صح شهود ابن شهاب لما جرى فيها بين عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير بالمدينة، وذلك في أيام إمارة عمر عليها لعبد الملك وابنه الوليد، وهذا محفوظ من رواية الثقات لهذا الحديث عن ابن شهاب.
قال: وممن ذكر مشاهدة ابن شهاب للقصة عند عمر بن عبد العزيز مع عروة ابن الزبير في هذا الحديث من أصحاب ابن شهاب: معمر والليث بن سعد وشعيب ابن أبي حمزة وابن جريج، فذكروا رواية الليث التي تقدم ذكرها من طريق النسائي إلا أن سياقه عن ابن شهاب أنه كان قاعدا على منابر عمر بن عبد العزيز في إمارته على المدينة ومعه عروة بن الزبير، فأخّر عمر العصر، فقال له عروة: أما أن جبريل قد نزل فصلّى أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال له عمر: اعلم يا عروة ما تقول، فقال:
سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: نزل جبريل فأمّني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس مرات.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز فأخر العصر مرة، فقال له عروة: حدثني بشير بن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة ابن شعبة أخر الصلاة مرة- يعني العصر- فقال له أبو مسعود: أما واللَّه يا مغيرة لقد علمت أن جبريل نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الناس معه، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصلّى الناس معه، حتى عدّ خمس صلوات، فقال له عمر: انظر ما تقول يا عروة، أو أن جبريل هو سنّ وقت الصلاة؟
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/66)
فقال له عروة: كذلك حدثني بشير بن أبي مسعود. قال: فما زال عمر يعتلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا [ (1) ] .
قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج قال: حدثني ابن شهاب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل عروة بن الزبير، فقال عروة بن الزبير: مشى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر وهو على الكوفة
فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال له: ما هذا يا مغيرة؟ أما واللَّه لقد علمت أن جبريل نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى بالناس معه خمس مرات، ثم قال: هكذا أمرت،
فقال عمر لعروة: اعلم ما تقول، أو أن جبريل هو أقام وقت الصلاة؟ فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه فقد بان بما ذكرنا من رواية الثقات عن ابن شهاب لهذا الحديث اتصاله وسماع ابن شهاب له من عروة، وسماع عروة من بشير، وبان بذلك أيضا أن الصلاة التي أخرها عمر هي صلاة العصر، وأن الصلاة التي أخرها المغيرة تلك أيضا، وبان بما ذكرنا أيضا أن جبريل صلّى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس صلوات في أوقاتها، وليس في شيء من معنى حديث ابن شهاب هذا ما يدل على أن جبريل صلّى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتين كل صلاة في وقتين.
وظاهر من حديث ابن شهاب هذا [ما] [ (2) ] يدلك على أن ذلك إنما كان مرة واحدة لا مرتين، وقد روى من غير وجه في إمامة جبريل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه صلّى مرتين في كل صلاة من الصلوات الخمس في وقتين.
وظاهر من حديث ابن شهاب هذا [ما] [ (2) ] يدلك على أن ذلك إنما كان مرة واحدة لا مرتين، وقد روى من غير وجه في إمامة جبريل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه صلّى مرتين من في كل صلاة من الصلوات الخمس في وقتين.
قال: ورواية ابن عيينة لهذا الحديث عن ابن شهاب بمثل حديث الليث ومن ذكرنا معه في ذلك، وفي حديث معمر وابن جريج أن الناس صلوا خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ، وقد روى ذلك من غير حديثهما، ثم ذكر حديث سفيان من طريق قاسم بن أصبغ كما تقدم ذكره، وقال: فهذا وضح ما ذكرنا من أنه إنما صلّى به الصلوات الخمس مرة واحدة، وهو ظاهر الحديث، إلا أن في رواية ابن أبي ذؤيب وأسامة بن زيد الليثي عن ابن شهاب في هذا الحديث ما يدل على أنه صلّى به مرتين في يومين على نحو ما ذكره عن ابن شهاب في حديث إمامة جبريل،
__________
[ (1) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (2) ] زيادة للسياق.(3/67)
فأما رواية ابن أبي ذؤيب له، فإن ابن أبي ذؤيب ذكره في موطنه عن ابن شهاب أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة بن شعبة أخّر الصلاة، فدخل عليه أبو مسعود فقال: ألم تعلم أن جبريل نزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى وصلّى وصلّى وصلّى وصلّى وصلّى، ثم صلّى ثم صلّى ثم صلّى ثم صلّى ثم صلّى [ثم صلّى] [ (1) ] ، ثم قال: هكذا أمرت.
وأما حديث أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدا على المنبر، فأخر العصر شيئا، فقال له عروة: أما أن جبريل قد أخبر محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بوقت الصلاة، فقال له عمر: اعلم ما تقول،
فقال عروة: سمعت بشير بن أبي معسود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يقول] [ (2) ] : نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه، ثم صليت [معه] [ (3) ] ، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات،
فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلّى الظهر حين زالت الشمس وربما أخرها حين يشبه الحر، وروايته: يصلّى العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصّفرة، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حين يجتمع الناس، ويصلي الصبح مرة بغلس، ثم صلّى مرة آخرا فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك إلى الغلس حتى مات لم يعد يغد إلى أن يسفر.
قال أبو داود: روي هذا الحديث عن الزهري: معمر ومالك وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وغيرهم، لم يذكروا الوقت الّذي صلّى فيه [و] [ (4) ] لم يفسروه، وكذلك رواه أيضا: هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، إلا أن حبيبا لم يذكر.
قال ابن عبد البر: هذا كلام أبي داود، ولم يسبق في كتابه رواية معمر ولا من ذكر معه عن ابن شهاب لهذا الحديث، وإنما ذكروا رواية أسامة بن زيد هذه
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، ولعلّ ما بين القوسين تكرار من الناسخ.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.(3/68)
عن ابن شهاب وحدها من رواية ابن وهب، ثم أردفها بما ذكرنا من كلامه، وصدق فيما حكى، إلا أن حديث أسامة ليس فيه من البيان ما في حديث ابن أبي ذؤيب من تكرير الصلوات الخمس مرتين مرتين، وكذلك رواية معمر ومالك والليث ومن تابعهم ظاهرها مرة واحدة، وليس فيها ما يقطع به على أن ذلك كذلك، وقد ذكرنا رواية معمر ومالك والليث وغيرهم، وقد روى الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب هذا الحديث مثل رواية ابن وهب عن أسامة سواء.
قال محمد بن يحى الذهلي في رواية أبي بكر بن حزم عن عروة بن الزبير ما يقوّى رواية أسامة، لأن رواية أبي بكر بن حزم شبيهة برواية أسامة، فيه أنه صلّى الوقتين، وإن كان لم يسنده عنه إلا أيوب بن عتبة فقد روى عنه معناه مرسلا يحيى بن سعيد وغيره من الثقات.
قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث جماعة عن عروة بن الزبير منهم:
هشام بن عروة، وحبيب بن أبي مرزوق، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهم، فأما رواية هشام بن عروة عن أبيه، فذكرها من طريق أحمد بن زهير قال: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا فليح عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أخّر عمر بن عبد العزيز الصلاة يوما فدخلت عليه فقلت: إن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما فدخل عليه أبو مسعود ... فذكر الحديث، وقال فيه: كذلك سمعت بشير ابن أبي مسعود يحدث عن ابنه، قال: ولقد حدثتني عائشة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم تظهر،
وقال أحمد بن زهير: وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن المغيرة ابن شعبة كان يوجز الصلاة، فقال له رجل من الأنصار: أما سمعت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: قال جبريل عليه السلام: صل صلاة كذا في وقت كذا حتى عدّ الصلوات الخمس؟ قال: بلى،
قال: فاشهد أنا كنا نصلّى العصر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، والشمس نقية بيضاء، ثم نأتي بني عمرو وإنها لمرتفعة- وهي على رأس ثلثي فرسخ من المدينة.(3/69)
وأما رواية حبيب بن أبي مرزوق، فذكرها من طريق الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر قال: حدثني حبيب بن أبي مرزوق عن عروة بن الزبير قال: حدثني أبو مسعود أن جبريل نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم نزل فصلّى، فصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى أتمها خمسا، فقال له عمر بن عبد العزيز: انظر يا عروة ما تقول أن جبريل هو الّذي وقت مواقيت الصلاة؟ قال: كذلك حدثني ابن مسعود، فبحث عمر عن ذلك حتى وجد ثبته، فما زال عمر عنده علامات الساعات ينظر فيه حتى قبض.
قال ابن عبد البر: قد أحسن حبيب بن أبي مرزوق في سياقه هذا الحديث على ما ساقه أصحاب ابن شهاب في الخمس صلوات لوقت واحد مرة واحدة، إلا أنه قال فيه عن عروة: حدثني أبو مسعود، والحفاظ يقولون: عن عروة عن بشير عن أبيه، وبشير هذا ولد على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبوه أبو مسعود الأنصاري، اسمه عقبة بن عمر، ويعرف بالبدري لأنه كان يسكن بدرا، واختلف في شهوده بدرا.
وأما رواية أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بمثل رواية ابن أبي ذؤيب وأسامة ابن زيد عن ابن شهاب في أنه صلّى الصلوات الخمس لوقتين مرتين، وحديثه أبين في ذلك وأوضح، وفيه ما يضارع قول حبيب بن أبي مرزوق عن عروة عن أبي مسعود، فذكره من طريق على بن عبد العزيز قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أيوب بن عتبة، حدثنا أبو بكر بن حزم أن عروة بن الزبير كان يحدث عمر بن عبد العزيز- وهو يومئذ أمير المدينة في زمن الحجاج والوليد بن عبد الملك، وكان ذلك زمانا يؤخرون فيه الصلاة- فحدث عمر عروة وقال: حدثني أبو مسعود الأنصاري، وبشير بن أبي مسعود- قال كلاهما قد صحب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أن جبريل جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين دلكت الشمس- قال أيوب: فقلت: وما دلوكها؟ قال:
حين زالت- قال: فقال: يا محمد، صلّ الظهر، قال: فصلّى، ثم جاءه حين(3/70)
كان ظل كل شيء مثله فقال: يا محمد، صلّ العصر، فقال: فصلى، ثم أتاه جبريل حين غربت الشمس فقال: يا محمد، صل المغرب، فصلى، قال: ثم جاءه حين غاب الشفق فقال: يا محمد، صل العشاء، فصلى، ثم أتاه حين انشق الفجر فقال:
يا محمد، صلّ الصبح، قال: فصلى ثم جاءه الغد حين كان ظل كل شيء مثله فقال: يا محمد، صل [ (1) ] الظهر، قال: فصلى، ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثليه فقال: يا محمد، صلّ [ (1) ] العصر، قال: فصلى، ثم أتاه حين غربت الشمس فقال: يا محمد، صلّ [ (1) ] المغرب، قال: فصلى، ثم أتاه حين ذهبت ساعة من الليل فقال: يا محمد، صل [ (1) ] العشاء، قال فصلى، ثم أتاه حين أضاء الفجر وأسفر فقال: يا محمد، صل [ (1) ] الصبح، قال فصلى، قال ثم قال: ما بين هذين وقت، يعني أمس واليوم. قال عمر لعروة: أجبريل أتاه؟ قال: نعم.
ففي هذا الحديث وهذه الرواية بيان واضح أن صلاة جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في حين تعليمه له الصلاة في أول وقت فرضها كانت في يومين لوقتين وقتين كل صلاة، وكذلك رواية معمر عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن جبريل نزل صلى فذكر مثله سواء إلا أنه مرسل.
وكذلك رواه الثوري عن عبد اللَّه بن أبي بكر ويحيى بن سعيد، جميعا عن أبي بكر بن حزم مثله سواء، أن جبريل صلى الصلوات الخمس بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مرتين في يومين لوقتين، ومراسيل هؤلاء عند مالك حجة، وهو خلاف ظاهر حديث الموطأ، وحديث هؤلاء جميعا بالصواب أولى، لأنهم زادوا وأوضحوا، وفسروا ما أجمله غيرهم وأهمله، ويشهد بصحة ما جاءوا به: رواية ابن أبي ذؤيب ومن تابعه عن ابن شهاب، وعامة الأحاديث في إمامة جبريل على ذلك جاءت مفسرة لوقتين، ومعلوم أن حديث أبي مسعود من رواية ابن شهاب وغيره في إمامة جبريل وردّ برواية من زاد وأتم وفسّر أولى من رواية من أجمل وقصّر، وقد رويت إمامة جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من حديث ابن عباس، وحديث جابر، وأبي سعيد الخدريّ على نحو ما ذكرنا.
__________
[ (1) ] في (خ) : «صلّى» ، وما أثبتناه حق اللغة.(3/71)
فأما حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه فذكره من طريق قاسم بن أصبغ قال:
حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحرث، ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن، ومن طريق قاسم: حدثنا أحمد بن زهير، وحدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحرث.
قال كاتبه: وخرجه الترمذي من حديث هناد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحرث بن عيّاش بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم- وهو ابن عباد بن حنيف- أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: أخبرني ابن عبّاس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلّى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلّى العصر حين [كان] [ (1) ] [ظل] [ (2) ] كل شيء [مثله] [ (3) ] ، ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلّى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلّى الفجر حين برق [ (4) ] وحرم الطعام على الصائم، وصلّى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلّى المغرب لوقته الأول، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلّى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلى جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت [فيما] [ (5) ] بين هذين الوقتين [ (6) ] .
__________
[ (1) ] تكملة من رواية الترمذي.
[ (2) ] زيادة ليست في رواية الترمذي.
[ (3) ] تصويب من رواية الترمذي.
[ (4) ] في رواية الترمذي: «حين برق الفجر» .
[ (5) ] في (خ) : «ما» ، والتصويب من الترمذي.
[ (6) ] قال أبو عيسى: «وفي الباب عن أبي هريرة، وبريدة، وأبي موسى، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي سعيد، وجابر وعمرو بن حزم، والبراء، وأنس،.
هذا الحديث أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، حديث رقم (149) ، قوله: «عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة» ، قال في التقريب: عبد الرحمن بن الحارث بن عبد اللَّه بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أبو الحارث المدني، صدوق له أوهام.
قوله: «عن حكيم بن حكيم وهو ابن بعاد بن حنيف» ، الأنصاريّ الأوسيّ، صدوق. قاله الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات، قاله الخزرجي ...(3/72)
__________
[ () ] قوله: «قال: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم» ، النوفلي أبو محمد أو أبو عبد اللَّه المدني، ثقة فاضل من الثانية، مات سنة (99) تسع وتسعين، وهو من رجال الكتب الستة.
قوله: «أمني جبريل عند البيت» ، أي عند بيت اللَّه، وفي رواية في (الأم) للشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: «عند باب الكعبة» .
قوله: «مرتين» ، أي في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها.
قوله: «فصلّى الظهر في الأولى منهما» ، أي المرة الأولى من المرتين، قال الحافظ في الفتح: بين ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق: وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير، وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج قال:
قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليلة التي أسري به، لم يرعه إلا جبريل، نزل حين زالت الشمس، ولذلك سميت الأولى- أي صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى به جبريل، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس.. فذكر الحديث.
قوله: «حين كان الفيء» ، هو ظل الشمس بعد الزوال.
قوله: «مثل الشراك» ، أي قدره، قال ابن الأثير: الشراك أحد سيور النعل التي تكون على وجهها. وفي رواية أبي داود: «حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك» . قال ابن الأثير: قدره هاهنا ليس على معنى التحديث، ولكن زوال الشمس لا يبين إلا بأقل ما يرى من الظل، وكان حينئذ بمكة هذا القدر، والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل، فإذا كان طول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة، لم ير بشيء من جوانبها ظل، فكل بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعد عنهما إلى جهة الشمال يكون الظل أطول.
قوله: «ثم صلّى العصر حين كان كل شيء مثله ظل» ، أي سوي ظله الّذي كان عند الزوال، يدل على ما رواه النسائي من حديث جابر بلفظ: «خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفيء قدر الشراك وظل الرجل» .
قوله: «ثم صلّى المغرب حين وجبت الشمس، وأفطر الصائم» ، أي غربت الشمس ودخل وقت إفطار الصائم، بأن غابت الشمس، فهو عطف تفسير.
قوله: «ثم صلّى العشاء حين غاب الشفق» ، أي الأحمر- على الأشهر- قاله القاري، وقال النووي في شرح مسلم: المراد بالشفق الأحمر، هذا مذهب الشافعيّ، وجمهور الفقهاء، وأهل اللغة، وقال أبو حنيفة والمزني رضي اللَّه عنهما وطائفة من الفقهاء وأهل اللغة: المراد الأبيض، والأول هو الراجح المختار. (انتهى كلام النووي) .
قال المباركفوري: وإليه ذهب صاحبا أبي حنيفة، أبو يوسف ومحمد، وقالا: الشفق هو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة، بل قال في (النهر) : وإليه رجع الإمام، وقال في (الدر) : الشفق هو الحمرة عندهما، وبه قالت الثلاثة، وإليه رجع الإمام كما هو في شروح (المجمع) وغيره، فكان هو المذهب، قال صدر الشريعة: وبه يفتى، كذا في حاشية النسخة الأحمدية، ولا شك في أن(3/73)
__________
[ () ] المذهب الراجح المختار، هو أن الشفق الحمرة، يدل عليه
حديث ابن عمر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الشفق الحمرة» ، رواه الدار الدّارقطنيّ، وصححه ابن خزيمة، وغيره، ووقفه على ابن عمر، كذا في (بلوغ المرام) .
قال محمد بن إسماعيل الأمير في (سبل السلام) : البحث لغويّ، والمرجع فيه إلى أهل اللغة، وابن عمر من أهل اللغة، ومخّ العرب، فكلامه حجّه، وإن كان موقوفا عليه.
ويدل عليه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في حديث عبد اللَّه بن عمرو عند مسلم: وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق،
قال الجزري في (النهاية) : أي انتشاره وثوران حمرته، من ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع ... وفي (البحر الرائق) من كتب الحنفية، قال الشمني: هو ثوران حمرته ... ووقع في رواية أبي داود: وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق، قال الخطابي: هو بقية حمرة الشفق في الأفق، وسمى فورا بفورانه وسطوعه، وروى أيضا ثور الشفق، وهو ثوران حمرته ... وقال الجزري في (النهاية) : هو بقية حمرة الشمس في الأفق الغربي، سمي فورا لسطوعه وحمرته، ويروى بالثاء، وقد تقدم.
قوله: «ثم صلّى الفجر حين برق الفجر» ، أي طلع، «وصلّى المرة الثانية» أي في اليوم الثاني، «حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس» ، أي فرغ من الظهر حينئذ كما شرع في العصر في اليوم الأول، حينئذ قال الشافعيّ رضي اللَّه تعالى عنه: وبه يندفع اشتراكهما في وقت واحد، على ما زعمه جماعة، ويدل له خبر مسلم: وقت الظهر ما لم يحضر العصر.
قوله: «ثم صلّى المغرب لوقته الأول» ، استدل به من قال: إن لصلاة المغرب وقتا واحدا، وهو عقب غروب الشمس، بقدر ما يتطهر، ويستر عورته، ويؤذن، ويقيم، فإن أخّر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم وصارت قضاء، وهو قول الشافعية.
قال الإمام النووي: وذهب المحققون من أصحابنا، إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها، ما لم يغب الشفق، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك، ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت، وهذا هو الصحيح الصواب، الّذي لا يجوز غيره. والجواب عن حديث جبريل عليه السلام، حين صلّى المغرب في اليومين حين غربت الشمس، من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار، ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جار في الصلوات سوى الظهر.
والثاني: أنه متقدم في أول الأمر بمكة، وأحاديث امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها.
والثالث: أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل عليه السلام فوجب تقديمها.
قوله: «فقال: يا محمد هذا» ، أي ما ذكر من الأوقات الخمسة، «وقت الأنبياء من قبلك» ، قال ابن العربيّ في (عارضه الأحوذي) : ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبلهم من الأنبياء، ليس كذلك، وإنما معناه: أن هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسع، المحدد بطرفين، الأول والآخر، وقوله: وقت الأنبياء من قبلك، يعني ومثله وقت الأنبياء قبلك، أي صلاتهم كانت واسعة الوقت، وذات طرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات(3/74)
قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن، وقال ابن عبد البر:
لا يوجد هذا اللفظ (وقت الأنبياء قبلك) إلا في هذا الإسناد، وتكلم بعض الناس في إسناد حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم معروفو [ (1) ] النسب، مشهورون [ (2) ] في العلم.
وقد خرجه أبو داود [ (3) ] وغيره، وذكره عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن الحرث بإسناده مثل رواية وكيع وأبي نعيم، وذكره عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه.
وأما حديث جابر رضي اللَّه عنه [ (4) ] فذكره من طريق أحمد بن زهير: حدثنا أحمد ابن الحجاج، ومن طريق النسائي [ (5) ] : حدثنا سويد بن نصر قالا: حدثنا ابن المبارك قال: أخبرني حسين بن علي بن حسين قال: أخبرني وهب بن كيسان، حدثنا جابر بن عبد اللَّه قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين مالت الشمس فقال:
قم يا محمد فصل الظهر، فصلّى الظهر حيث مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا
__________
[ () ] إلا لهذه الأمة خاصة، وإن غيرهم قد شاركهم في بعضها. وقد روى أبو داود في حديث العشاء:
أعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، وكذا قال ابن سيد الناس، وقال: يريد في التوسعة عليهم في أن الوقت أولا وآخرا، لا أن الأوقات هي أوقاتهم بعينها. كذا في (قوت المغتذي) .
قوله: «والوقت فيما بين هذين الوقتين» ، قال ابن سيد الناس: يريد هذين وما بينهما، أما إرادته أن الوقتين اللذين أوقع فيهما الصلاة وقت لها، فتبين بفعله، وأما الإعلام ما بينهما أيضا وقت، فبينه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (1) ] في (خ) : «معروف» .
[ (2) ] في (خ) : «مشهور» .
[ (3) ] خرّجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (1) في المواقيت حديث رقم (389) ، (عون المعبود) :
2/ 40.
[ (4) ] وقال محمد: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، (تحفة الأحوذي) : 1/ 398، عقب الحديث رقم (150) .
[ (5) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 115- 116، باب (17) أول وقت العشاء، حديث رقم (512) ، باختلاف يسير.(3/75)
كان الفيء في الرجل مثله، جاء العصر فقال: يا محمد، قم صل العصر، فصلاها، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاء فقال: قم فصل المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس، ثم غاب حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء فصلاها، ثم جاء سطع الفجر بالصبح فقال: قم يا محمد فصل الصبح، فصلاها، ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه، فقال: يا محمد، قم فصل العصر، ثم جاء للمغرب حين غابت الشمس وقتا واحدا لم يغب عنه فقال: قم فصل المغرب، ثم جاءه حين ذهب ثلث الليل فقال: قم فصل العشاء، ثم جاءه للصبح حين ابيض جدا فقال: قم فصل، ثم قال له: الصلاة ما بين الوقتين.
وقال سويد بن نصر في حديثه: ما بين هذين وقت كله، قلت: وخرجه الترمذي من حديث أحمد بن محمد بن موسى، أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك، أنبأنا حسين بن على، أخبرني وهب بن كيسان عن جابر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال:
أمني جبريل.. فذكر الحديث بنحو حديث ابن عباس بمعناه ولم يذكر فيه لوقت العصر بالأمس [ (1) ] .
قال أبو عيسى: وقال محمد: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو ابن دينار، وابن الزبير عن جابر بن عبد اللَّه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو حديث وهب ابن كيسان عن جابر [ (2) ] .
وذكر ابن عبد البر من طريق النسائي: حدثنا يوسف [ (3) ] ، حدثنا قدامة ابن شهاب عن برد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر: أن جبريل أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى الظهر حين زالت [ (4) ] الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] سبق شرحه وتخريجه.
[ (2) ] سبق الإشارة إليه.
[ (3) ] في (خ) : «حدثنا يوسف واصح» .
[ (4) ] في (خ) : «زالت الشمس» ، وهو تكرار من الناسخ.(3/76)
فصلّى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع مثل ما صنع بالأمس فصلّى الظهر، ثم أتاه جبريل حين كان ظل الرجل مثل شخصيه، فصنع كما صنع بالأمس فصلّى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس فصلّى المغرب فيها، ثم أتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلّى العشاء، فأتاه جبريل حين امتد الفجر واضح والنجوم بادية مشتبكة، فصنع كما صنع بالأمس فصلّى الغداة ثم قال: ما بين هذين وقت [ (1) ] .
ورواه أبو الدرداء [ (2) ] عن برد عن عطاء عن جابر مثله سواء، إلا أنه قال في اليوم الثاني في المغرب: ثم جاءه حين وجبت الشمس لوقت واحد فذكره، قال:
ثم جاء نحو ثلث الليل للعشاء فذكره، ثم جاء حين أضاء الصبح ولم يقل: والنجوم بادية مشتبكة.
وأما حديث أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه [ (3) ] ، فذكره ابن عبد البر من طريق محمد بن سنجر قال: حدثنا سعيد بن الحكم حدثنا ابن لهيعة قال: حدثني بكر [ (4) ] بن [عبد اللَّه] [ (5) ] الأشج عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الساعدي أنه سمع أبا سعيد الخدريّ يقول [ (6) ] : قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمني جبريل في الصلاة فصلّى الظهر حين زالت الشمس، وصلّى العصر حين كان الفيء قامة [ (7) ] ، وصلّى المغرب حين غابت الشمس [في وقت واحد، وصل العشاء ثلث الليل، وصلّى الصبح
__________
[ (1) ] (صحيح سنن النسائي) : 1/ 112، (10) آخر وقت العصر، حديث رقم (500) .
[ (2) ] في (خ) : «أبو الوراد» ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] حديث أبي سعيد الخدريّ، أخرجه الإمام أحمد في مسندة: 3/ 414، حديث رقم (10856) .
[ (4) ] في (خ) : «بكير» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (5) ] تكملة من (المسند) .
[ (6) ] في (المسند) : «عن أبي سعيد الخدريّ قال» .
[ (7) ] في (خ) : «كانت الشمس قائمة» ، وما أثبتناه من (المسند) .(3/77)
حين كادت الشمس أن تطلع، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين] [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: هذا ما في إمامة جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من صحيح الآثار، قال:
واحتج من زعم أن جبريل صلّى بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في اليوم الّذي يلي ليلة الإسراء مرة واحدة الصلوات كلها لا مرتين على ظاهر حديث مالك في ذلك، فذكر من طريق أحمد بن زهير قال: حدثنا هدبة بن خالد عن هشام عن قتادة، قال فحدثنا الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلّى بهم الظهر أربع ركعات يؤم جبريل عليه السلام محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويؤم محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل، ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، فلما [زالت] الشمس نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى بهم العصر أربع ركعات وهي أخف، يؤم جبريل محمدا، ويؤم محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد، وسلم محمد على الناس، فلما غربت الشمس نودي الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلّى بهم ثلاث ركعات أسمعهم القراءة في ركعتين وسبح في الصلاة الثالثة- يعني به قام لم يظهر القراءة- يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، ويقتدي محمد بجبريل، ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، فلما بدت النجوم نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى بهم أربع ركعات أسمعهم القراءة في ركعتين وسبح في الأخريين، يؤم جبريل محمدا، ويؤم محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل، ويقتدي الناس بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، ثم رقدوا ولا يدرون أيزادون أم لا؟ حتى إذا طلع الفجر نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصلّى بهم ركعتين أسمعهم فيها القراءة، يؤم جبريل محمدا، ويؤم
__________
[ (1) ] السياق مضطرب فيما بين الحاصرتين، ورواية (المسند) بعد قوله: «حين غابت الشمس» ، «وصلّى العشاء حين غاب الشفق، وصلّى الفجر حين طلع الفجر، ثم جاء الغد، فصلّى الظهر وفيء كل شيء مثله، وصلّى العصر والظل قامتان، وصلّى المغرب حين غربت الشمس، وصل العشاء إلى ثلث الليل الأول، وصلّى الصبح حين كادت الشمس تطلع، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين» .(3/78)
محمد الناس، يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد، ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس، وصلّى اللَّه على جبريل ومحمد وسلم تسليما كثيرا.
ففي هذا الخبر أن جبريل لم يصل الصلوات الخمس بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا مرة واحدة، وهو وإن كان مرسلا فإنه حديث حسن مهذب.
واحتجوا أيضا فذكر من طريق أحمد بن زهير وعبيد بن عبد الواحد قالا:
حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن عتبة ابن مسلم مولى بني تميم عن نافع بن جبير قال: وكان نافع بن جبير كثير الرواية عن ابن عباس، قال: فلما فرضت الصلاة وأصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم....
وذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال نافع ابن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ليلة أسري به لم يرعه إلا جبريل، نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت الأولى، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة فاجتمعوا، فصلّى جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، طوّل الركعتين الأوليين ثم قصر الباقين، ثم سلم جبريل على النبي وسلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس، ثم نزل في العصر على مثل ذلك ففعلوا كما فعلوا في الظهر، ثم نزل في الليل في أوله فصيح الصلاة جامعة، فصلّى جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، طول في الأوليين وقصر في الثالثة، ثم سلم جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسلم النبي على الناس، ثم لما ذهب ثلث الليل نزل، فصيح الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى جبريل بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلّى النبي بالناس، فقرأ في الأولين فطوّل وجهر، وقصر في الباقيتين، ثم سلم جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس، فلما طلع الفجر فصيح الصلاة جامعة، فصلّى جبريل بالنبيّ، وصلّى النبي بالناس، فقرأ فيهما فجهر وطول ورفع صوته، وسلم جبريل بالنبيّ، وصلّى النبي بالناس، فقرأ فيهما فجهر وطول ورفع صوته، وسلم جبريل على النبي، وسلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس.
قال ابن عبد البر: فقال: من ذكرنا حديث نافع بن جبير هذا مثل حديث الحسن في أن جبريل لم يصل في وقت فرض الصلاة بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلوات الخمس إلا مرة واحدة، وهو ظاهر حديث مالك، والجواب عن ذلك ما تقدم ذكرنا له من الآثار الصحاح المتصلة في إمامة جبريل لوقتين، وقوله: ما بين هذين وقت،(3/79)
وفيها زيادة يجب قبولها والعمل بها لنقل العدول لها، وليس تقصير من قصّر عن حفظ ذلك وإتقانه والإتيان به بحجة، وإنما الحجة في شهادة من شهد لا في قول من قصر وأجمل واختصر، على أن هذه الآثار منقطعة، وإنما ذكرناها لما وصفنا، ولأن فيها أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا لا ركعتين على خلاف ما زعمت عائشة، وقال بذلك جماعة، وردّوا حديث عائشة رضي اللَّه عنها، وإن كان إسناده صحيحا لضروب من الأعمال، واللَّه سبحانه وتعالى الموفق بمنه وكرمه.(3/80)
ذكر الجهة [ (1) ] التي كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يستقبلها في صلاته
ذكر ابن جريج في تفسيره، وذكر سنينة عن حجاج عن ابن جريج قال: صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول ما صلّى إلى الكعبة [ (2) ] ، ثم صرف إلى بيت المقدس [ (3) ] ، فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثلاث حجج [ (4) ] ، وصلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الجهة: والجهة، والجهة، بالكسر، والضم، والفتح، والوجه: الجانب والناحية، والجمع جهات، ووجوه، على الترتيب. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 5/ 167.
[ (2) ] الكعبة: البيت المربّع، وجمعه كعاب، والكعبة، البيت الحرام، منه، لتكعيبها أي تربيعها، وقالوا:
كعبة البيت فأضيف، لأنهم ذهبوا بكعبته إلى تربع أعلاه، وسمّي كعبة لارتفاعه وتربعه، وكل بيت مربع، فهو عند العرب كعبة. (لسان العرب) : 1/ 718، مادة «كعب» ، (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) : 4/ 357.
[ (3) ] التقديس: التطهير والتبريك، وتقدّس أي تطهر، وفي التنزيل: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [30/ البقرة] . الزجاج: معنى نقدس لك، أي نطهر أنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أطاعك، نقدّسه أي نطهره. ومن هذا قيل للسّطل: القدس، لأنه يتقدّس منه أي تتطهّر، ومن هذا بيت المقدس، أي البيت المطهّر، أي المكان الّذي يتطهّر به من الذنوب.
ابن الكلبيّ: القدّوس الطاهر، وقوله تعالى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الطاهر في صفة اللَّه عزّ وجلّ [23/ الحشر] ، وجاء في التفسير أنه المبارك، والقدّوس: هو اللَّه عزّ وجلّ. والقدس: البركة، والأرض المقدسة: الشام منه، وبيت المقدس من ذلك أيضا، ابن الأعرابي: المقدس المبارك، والأرض المقدسة، المطهرة.
وقال الفرّاء: الأرض المقدسة الطاهرة، وهي: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. ويقال: أرض مقدسة أي مباركة، وهو قول قتادة، وإليه ذهب ابن الأعرابي. وروح القدس: جبريل عليه السلام، وفي الحديث: «إن روح القدس نفث في روعي» ، يعني جبريل عليه السلام، لأنه خلق من طهارة.
وقال اللَّه عزّ وجلّ في صفة عيسى- على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام-: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وهو جبريل عليه السلام، معناه روح الطهارة، أي خلق من طهارة. وفي الحديث:
«لا قدّست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويّها» ، أي لا طهّرت. (لسان العرب) : 6/ 168- 169، مادة «قدس» .
[ (4) ] يعني ثلاث سنين، ومنه قوله تعالى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [27/ القصص] .(3/81)
بعد قدومه ستة عشر شهرا، ثم وجهه اللَّه إلى الكعبة [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: وهذا أمر قد اختلف فيه، وأحسن شيء روى في ذلك فذكر من حديث أبي عوانة عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة، والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا، ثم صرفه اللَّه إلى الكعبة [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث عفّان [ (2) ] قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [ (3) ] ، فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة [ (4) ] . قال أبو عمر بن عبد البر: وروى أن المخبر لهم بما في هذا الحديث هو عباد بن بشر [ (5) ] .
__________
[ (1) ] ونحوهما في (مسند أحمد) بسياقات متقاربة:
1/ 413، حديث رقم (2252) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا حسين بن علي عن زائدة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم صرفت القبلة» .
و1/ 576، حديث رقم (3260) بنحوه سواء.
و1/ 589، حديث رقم (3353) : من حديث ابن عباس أيضا: «صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس- قال عبد الصمد: ومن معه- ستة عشر شهرا ثم حولت القبلة بعد، قال عبد الصمد:
ثم جعلت القبلة- نحو بيت المقدس» . وقال معاوية- يعني ابن عمرو-: ثم حولت القبلة بعد.
[ (2) ] في (خ) : «عنان» ، وما أثبتناه من صحيح مسلم.
[ (3) ] آية 44/ البقرة.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 14، حديث رقم (527) .
[ (5) ] هو عبّاد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل، الإمام أبو الربيع الأنصاري الأشهلي، أحد البدريين، كان من سادة الأوس، عاش خمسا وأربعين سنة، وهو الّذي أضاءت له عصاته ليلة انقلب إلى منزله من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أسلم على يد مصعب بن عمير، وكان أحد من قتل كعب ابن الأشرف اليهوديّ، واستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقات مزينة وبني سليم، وجعله على حرسه في غزوة تبوك، وكان كبير القدر، رضي اللَّه عنه، أبلى يوم اليمامة بلاء حسنا، وكان أحد الشجعان الموصوفين.
ابن إسحاق: عن يحيى بن عباد بن عبد اللَّه، عن أبيه قال: قالت عائشة: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وعباد بن بشر،(3/82)
روى إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: حدثني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد ابن سلمة عن أبيه عن جدته تويلة بنت أسلم [ (1) ] ، وكانت من المبايعات، قالت:
كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استقبل الكعبة- أو قال: البيت الحرام- فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال.
وخرج البخاري ومسلم من حديث يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني أبو إسحاق قال: سمعت البراء يقول: صلينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفنا نحو الكعبة. وقال البخاري: ثم صرفه نحو القبلة [ (2) ] . ذكره في التفسير في باب قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ [هُوَ مُوَلِّيها]
[ (3) ] .
__________
[ () ] وأسيد بن الحضير، آخى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
وروي بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدريّ: سمع عباد بن بشر يقول: رأيت الليلة كأن السماء فرجت لي، ثم أطبقت عليّ، فهي إن شاء اللَّه الشهادة. فنظر يوم اليمامة وهو يصيح. احطموا جفون السيوف. وقاتل حتى قتل بضربات في وجهه. رضي اللَّه عنه.
ابن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن عائشة قالت: تهجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيتي، فسمع صوت عباد بن بشر، فقال: «يا عائشة! هذا صوت عباد ابن بشر؟» قلت: نعم، قال: «اللَّهمّ اغفر له» .
لعباد بن بشر حديث واحد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا معشر الأنصاري! أنتم الشّعار والناس الدّثار، فلا أوتين من قبلكم» ، قال عليّ بن المديني: لا أحفظ لعباد سواه، وهذا الحديث رجاله ثقات، أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الطائف حديث رقم (4330) ، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، وأحمد 4/ 42، وعندهم جميعا: «الأنصار شعار والناس دثار» .
* (طبقات ابن سعد) : 3/ 2/ 16، (التاريخ الصغير) : 36، (الجرح والتعديل) : 6/ 77، (الاستيعاب) : 2/ 801- 804، (الإصابة) : 3/ 611- 612، (سير أعلام النبلاء) :
1/ 337- 340.
[ (1) ] «ثويلة» ، بالتصغير، بنت أسلم، روي حديثها الطبراني، من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن سلمة، عن أبيه، عن جدته أم أبيه، ثويلة بنت أسلم، وهي من المبايعات، قالت: بينا أنا في بني حارثة، فقال عباد بن بشر بن قيظي: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلوا السجدتين الباقيتين نحو الكعبة. وذكر أبو عمر فيه أن الصلاة كانت الظهر، وقيل فيها: تولة بغير تصغير، وقيل: أولها نون. (الإصابة) : 7/ 546، ترجمة رقم (10959) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 220- 221، كتاب التفسير، باب: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، حديث رقم (4492) .
[ (3) ] زيادة للسياق.(3/83)
ولمسلم من حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال:
صليت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ (1) ] ، فنزلت بعد ما صلّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فانطلق رجل [من القوم] [ (2) ] فمر بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم [بالحديث] [ (3) ] ، فولوا وجوههم [نحو القبلة، وهو البيت] [ (4) ] وخرج البخاري من حديث زهير، حدثنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده- أو قال: على أخواله- من الأنصار، وأنه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن صلّى معه فمر على مسجد فيه قوم راكعون فقال: أشهد باللَّه لقد صليت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت
__________
[ (1) ] آية 144/ البقرة.
[ (2) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (3) ] في مسلم: «فحدثهم فولوا» .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين ليست في مسلم، ورواية مسلم: «فولوا وجوههم قبل البيت» .
وفي هذا الحديث- حديث البراء- دليل على جواز النسخ ووقوعه. وفيه قبول خبر الواحد. وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا من صلّى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثنائها فيستدير إلى الجهة الأخرى حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في الصلاة الواحدة، فصلّى كل ركعة منها إلى جهة صحت صلاته على الأصح، لأن أهل هذا المسجد المذكور في الحديث استداروا في صلاتهم واستقبلوا الكعبة ولم يستأنفوها.
وفيه دليل على أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، فإن قيل: هذا نسخ للمقطوع به بخبر الواحد، وذلك ممتنع عند أهل الأصول، فالجواب: أنه احتفت به قرائن ومقدمات، أفادت العلم، وخرج عن كونه خبر واحد مجردا، واختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء- رحمهم اللَّه تعالى- في أن استقبال بيت المقدس هل كان ثابتا بالقرآن؟ أم كان باجتهاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فحكى الماوردي في (الحاوي) وجهين في ذلك لأصحابنا.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه تعالى-: الّذي ذهب إليه أكثر العلماء: أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنة، وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين، وهو أحد قولي الشافعيّ، رحمه اللَّه تعالى-.
والقول الثاني له، وبه قال طائفة: لا يجوز لأن السنة مبينة للكتاب فكيف ينسخها؟ وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة، بل كان بوحي.(3/84)
اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولي وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.
قال زهير: حدثنا أبو إسحاق في حديثه عن البراء أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فهيم، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (1) ] ، ذكره في كتاب الإيمان [ (2) ] ،
__________
[ (1) ] آية 144/ البقرة، ورواية البخاري حتى إِيمانَكُمْ.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 128، كتاب الإيمان، باب (30) ، الصلاة من الإيمان، وقول اللَّه تعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم عند البيت، حديث رقم (40) .
قوله: «يعني صلاتكم عند البيت» ، وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الّذي أخرج منه البخاري حديث الباب، فروى الطيالسي والنسائي، من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور: «فأنزل اللَّه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ صلاتكم إلى بيت المقدس» .
وعلى هذا فقول البخاري: «عند البيت» مشكل، مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت، وقد قيل إن فيه تصحيفا، والصواب يعني صلاتكم لغير البيت.
قال الحافظ ابن حجر: وعندي أنه لا تصحيف فيه، بل هو صواب ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلّى إلى بيت المقدس، ولكنه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس.
وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح، لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس.
وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح، من أن الصلاة لما كانت عند البيت، كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس.
قوله: «قبل بيت المقدس» ، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي إلى جهة بيت المقدس.
قوله: «ستة عشر شهرا أو سبعة عشر» ، كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده، وفي رواية إسرائيل عند البخاري، وعند الترمذي أيضا. ورواه أبو عوانة في صحيحه، عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: «ستة عشر» من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي إسحاق زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق- بتقديم الراء مصغرا- كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف «سبعة عشر» ، وكذا للطبراني عن ابن عباس ...(3/85)
__________
[ () ] والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بسنة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدّهما معا، ومن شك تردّد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» ، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول.
وشذّت أقوال أخرى: ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث: «ثمانية عشر شهرا» ، وأبو بكر سيء الحفظ، وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية: «سبعة عشر» ، وفي رواية: «ست عشر» ، وخرّجه بعضهم على قول محمد ابن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الّذي ذكره النووي في (الروضة) وأقرّه، مع كونه رجّح في شرحه لمسلم رواية «ستة عشر شهرا» ، لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغي شهري القدوم والتحويل.
وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة، ومن الشذوذ أيضا رواية: «ثلاثة عشر شهرا» ، ورواية: «تسعة أشهر» ، و «عشرة أشهر» ، ورواية: «شهرين» ، ورواية:
«سنتين» ، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجمع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات.
قوله: «وأنه صلّى أول» ، بالنصب لأنه مفعول صلّى، والعصر كذلك على البداية، وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه، أي أو صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سعد: حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر- على التردد- وساق ذلك من حديث عمارة بن أوس قال: «صلينا إحدى صلاتي العشي» . والتحقيق: أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟
أقوال.
قوله: «قبل مكة» ، أي قبل البيت الّذي في مكة، ولهذا قال: «فداروا كما هم قبل البيت» ، و «ما» موصولة، والكاف للمبادرة، وقال الكرماني: للمقارنة، و «ما» مبتدأ وخبره محذوف.
قوله: «قد أعجبهم» أي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، (وأهل الكتاب) : هو بالرفع عطفا على اليهود، من عطف العام على الخاص. وقيل: المراد النصارى، لأنهم من أهل الكتاب، وفيه نظر، لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس! فكيف يعجبهم؟ وقال الكرماني: كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه بعد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى (مع) ، أي يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس، واختلف في صلاته إلى بيت المقدس وهو بمكة.
فروى ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش المذكورة: «صلينا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا» ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين» ، وظاهره(3/86)
__________
[ () ] أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا، وحكى الزهري خلافا في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره، أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟
قال الحافظ ابن حجر: وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين،. وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني، ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك عند باب البيت.
قوله: «أنكروا ذلك» ، يعني اليهود، فنزلت: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ وقد صرح البخاري بذلك في روايته عن طريق إسرائيل.
قوله: «قال زهير» ، يعني ابن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم قال إنه معلق، وقد ساقه البخاري في (التفسير) ، مع جملة الحديث، عن أبي نعيم، عن زهير سياقا واحدا.
قوله: «أنه مات على القبلة» ، أي قبلة بيت المقدس قبل أن تحوّل «لأجاب، وقتلوا» ، ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، صحيحا عن ابن عبّاس، وكذلك والذين ماتوا بعد فرض الصلاة، وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشر أنفس: فبمكة من قريش: [1] عبد اللَّه بن شهاب. [2] المطلب ابن أزهر الزهريان. [3] السكران بن عمرو العامري.
وبأرض الحبشة منهم: [1] حطاب- بالمهملة- ابن الحارث الجمحيّ. [2] عمرو بن أمية الأسدي. [3] عبد اللَّه بن الحارث السهمي. [4] عروة بن عبد العزى. [5] عدي بن نضلة العدويان.
ومن الأنصار بالمدينة: [1] البراء بن معرور (بمهملات) . [2] أسعد بن زرارة، فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضا: إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة، فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتأريخ إذ ذاك.
ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه، وهو سويد بن الصامت، فقد ذكر ابن إسحاق: أنه لقي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليهم الإسلام فقال:
إن هذا القول حسن. وانصرف إلى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث- بضم الموحدة وإهمال العين وآخره مثلثة- وكانت قبل الهجرة، قال: فكان قومه يقولون. لقد قتل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد. وذكر لي بعض الفضلاء: أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، قلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء.
من فوائد هذا الحديث:
[1] الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا. [2] تغيير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك. [3] بيان شرف المصطفى وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال. [4] بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما صح من حديث البراء أيضا فنزل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [93/ المائدة] ، وقوله تعالى:
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [30/ الكهف] ، ولملاحظة هذا المعنى، عقّب البخاري على هذا الباب بقوله: «باب حسن إسلام المرء» فذكر الدليل على أن المسلم إذا فعل الحسنة أثيب عليها، وهو الحديث رقم (41) من الباب (31) في كتاب (الإيمان) . (فتح الباري) 1/ 128- 133 حديث رقم (40) .(3/87)
وذكره في التفسير مختصرا [ (1) ] ، وذكره في كتاب الصلاة [ (2) ] ، وفي باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 216، كتاب التفسير، باب (12) ، سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [142/ البقرة] ، حديث رقم (4486) وقال فيه: «السفهاء» : جمع سفيه، وهو خفيف العقل، وأصله من قولهم: ثوب سفيه، أي خفيف النسيخ، واختلف في المراد بالسفهاء، فقال البراء، وابن عباس، ومجاهد: هم اليهود، وأخرج ذلك عنهم الطبري بأسانيد صحيحة، وروي من طريق السدي قال:
هم المنافقون، والمراد بالسفهاء الكفار، وأهل النفاق، واليهود.
أما الكفّار فقالوا لما حولت القبلة: رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا، فإنه علم أنا على الحق.
وأما أهل النفاق فقالوا: إن كان أولا على الحق، فالذي انتقل إليه باطل وكذلك بالعكس.
وما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء، ولو كان نبيا لما خالف، فلما كثرت أقاويل هؤلاء السفهاء أنزلت هذه الآيات من قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [106/ البقرة] ، إلى قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [150/ البقرة] ، من أحاديث الباب أيضا، الأحاديث أرقام: (4490) ، (4491) ، (4492) ، (4493) ، (4494) ، بسياقات مختلفة.
[ (2) ] (فتح الباري) : 1/ 661، كتاب الصلاة، باب (31) التوجه نحو القبلة حيث كان، أي حيث وجد الشخص في سفر أو حضر، والمراد بذلك صلاة الفريضة، كما يتبين ذلك في الحديث الثاني من الباب، وهو حديث جابر، وأما حديث تحويل القبلة المذكور في هذا الباب فهو الحديث رقم (399) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 287، كتاب أخبار الآحاد، باب (1) : ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام، وقول اللَّه تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [122/ التوبة] ، ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [9/ الحجرات] ،(3/88)
وخرج البخاري ومسلم [ (1) ] من حديث عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر قال:
بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة [ (2) ] وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا [ (3) ] إلى الكعبة، وقال البخاري: فاستداروا إلى القبلة، ذكره في التفسير [ (4) ] وفي كتاب الصلاة [ (4) ] ، وفي باب إجازة خبر الواحد الصدوق [ (4) ] .
وقال ابن عبد البر: وأجمع العلماء أن شأن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأجمعوا أن ذلك كان بالمدينة، وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إنما صرف عن الصلاة إلى بيت المقدس، وأمر إلى الصلاة إلى الكعبة بالمدينة، واختلفوا في صلاته حين فرضت عليه الصلاة بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة؟ فقالت طائفة: كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت عليه الصلاة بمكة إلى أن قدم المدينة، ثم بالمدينة سبعة عشر شهرا أو نحوها حتى صرفه اللَّه إلى الكعبة.
ذكر سفيان عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يستقبل صخرة بيت المقدس، فأول [ما] [ (5) ] نسخت من القرآن القبلة، ثم الصيام الأول، قال ابن عبد البر: من حجة الذين قالوا: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إنما صلى إلى بيت المقدس بالمدينة، وأنه إنما كان يصلى بمكة إلى الكعبة، فذكر حديث البراء ثم قال: فظاهر هذا الخبر يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك، ويدلل [ (6) ] على ذلك أيضا، فذكر من حديث عبد اللَّه بن صالح، حدثنا
__________
[ () ] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية، وقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [6/ الحجرات] ، وكيف بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أمراءه واحدا بعد واحد، فإن سها أحد منهم ردّ إلى السنة، حديث رقم (7251) ، حديث رقم (7252) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 13، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (2) باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، حديث رقم (526) ، ونحوه حديث رقم (527) .
[ (2) ] في (خ) : «الليل» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «فاستداروها» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] سبق الإشارة إليهم.
[ (5) ] زيادة للسياق، وفي (خ) «فأول أنه» ، وهو خطأ من الناسخ.
[ (6) ] في (خ) «ويدل» ولعل الصواب ما أثبتناه.(3/89)
معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أول ما نسخ اللَّه من القرآن القبلة، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود، أمره اللَّه أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهرا، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو اللَّه وينظر إلى السماء، فأنزل اللَّه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ (1) ]- يعني نحوه- فارتاب اليهود من ذلك وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [ (2) ] ؟ فأنزل اللَّه: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ (2) ] ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ (1) ] ، وقال: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ [ (3) ] يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [ (4) ] ، قال ابن عباس: ليميز أهل اليقين من أهل الشك، قال ابن عبد البر: ففي قول ابن عباس هذا من الفقه: أن الصلاة لم ينسخ منها شيء قبل القبلة، وفيه أنه كان يصلي بمكة إلى الكعبة، وهو ظاهره أنه لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة وهو محتمل غيره [ (5) ] .
__________
[ (1) ] سورة البقرة، آية/ 144.
[ (2) ] سورة البقرة، آية/ 142.
[ (3) ] في (خ) «ممن» .
[ (4) ] سورة البقرة، آية/ 143.
[ (5) ] قال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة، عن عطاء عنه: وروي عن أبي العالية، والحسن، وعطاء الخراسانىّ، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلّم نحو ذلك.
وقال ابن جرير، وقال آخرون: بل أنزل اللَّه هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جلّ ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له تعالى المشارق والمغارب، وإنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [7/ المجادلة] .
قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الّذي فرض عليهم، التوجه إلى المسجد الحرام، هكذا قال، وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان: إن أراد علمه تعالى فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذنا من اللَّه أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وشدة الخوف، حدثنا أبو كريب، أخبرنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك- هو ابن أبي سليمان- عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.(3/90)
__________
[ () ] ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق، عن عبد اللَّه بن أبي سليمان به، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر، وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: «فإن كان خوف أشدّ من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» . قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقد روى من طريق آخر عن جابر، فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب، حدثني أحمد بن عبد اللَّه بن الحسن، قال: وجدت في كتاب أبي: أخبرنا عبد الملك العزرمي، عن عطاء، عن جابر قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ها هنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فسكت، وأنزل اللَّه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
ثم
رواه من حديث محمد بن عبيد اللَّه العزرمي عن عطاء، عن جابر به، وقال الدار الدّارقطنيّ: قرئ على عبد اللَّه بن عبد العزيز وأنا أسمع: حدثكم داود بن عمر، وأخبرنا محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا، فاختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حدة، وجعل أحدنا يخط بين يديه، لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فلم يأمرنا بالإعادة وقال: «قد أجازت صلاتكم» ،
ثم قال الدار الدّارقطنيّ: كذا قال عن محمد بن سالم. وقال غيره: عن محمد بن عبد اللَّه العزرمي، عن عطاء، وهما ضعيفان.
ورواه ابن مردويه أيضا، من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعث سرية فأخذتهم ضبابة، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة، ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس، أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاءوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حدّثوه، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين خطؤه ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء واللَّه أعلم.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، كما
حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه» .
قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال: فنزلت: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، قال قتادة: فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل اللَّه: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وهذا غريب واللَّه تعالى أعلم.
وقيل إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة، كما حكاه القرطبي عن قتادة، وذكر القرطبي: أنه لما مات صلى عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب، قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه:
[أحدها] : أنه صلى اللَّه عليه وسلّم شاهده حين سوى عليه طويت له الأرض.(3/91)
وقال أبو إسحاق الحربي: ثم قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة في ربيع الأول فصلى إلى بيت المقدس تمام سنة إحدى عشرة أشهر، وصلى من سنة ثنتين ستة أشهر ثم حولت القبلة في رجب.
__________
[ () ] [الثاني] : أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه، صلى عليه، واختاره ابن العربيّ، قال القرطبي:
ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه، وقد أجاب ابن العربيّ عن هذا، لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت، وهذا جواب جيد.
[الثالث] : أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك. واللَّه تعالى أعلم.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية، من حديث أبي معشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق» ، وله مناسبة ها هنا. وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر- واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني- به: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» .
وقال الترمذي: وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة، وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر قبل حفظه،
ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي، أخبرنا المعلى بن منصور، أخبرنا عبد اللَّه ابن جعفر المخزومي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ،
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وحكى عن البخاري، أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح،
قال الترمذي: وقد روى عن غير واحد من الصحابة: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ، منهم: عمر ابن الخطاب، وعلي، وابن عباس، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة» ،
ثم قال ابن مردويه: حدثنا على بن أحمد بن عبد الرحمن، أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم، أخبرنا شعيب بن أيوب، أخبرنا ابن نمير عن عبد اللَّه بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» .
وقد رواه الدار الدّارقطنيّ والبيهقي،
وقال: المشهور عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قوله: قال ابن جرير:
ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي، فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما حدثنا القاسم، أخبرنا الحسين، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، قال ابن جرير: ومعنى قوله:
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله: عَلِيمٌ فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم. (تفسير ابن كثير) : 1/ 162- 165.(3/92)
وقال موسى بن عقبة وإبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن ابن عبد الرحمن ابن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى.
وقال الواقدي: إنما صرفت صلاة العصر يوم الثلاثاء في النصف من شعبان.
وذكر أبو بكر أحمد بن علي الرازيّ الحنفي في كتاب أحكام القرآن [ (1) ] : أن من الناس من يقول: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان مخيّرا في أن يصلي إلى حيث شاء، وإنما كان توجهه إلى بيت المقدس على وجه الاختيار لا على وجه الإيجاب حتى أمر بالتوجه إلى الكعبة، وكان قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ (2) ] في وقت التخيير قبل الأمر بالتوجه إلى الكعبة، واللَّه الموفق.
***
__________
[ (1) ] «أن نفرا قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة، وكان فيهم البراء ابن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبي الآخرون وقالوا: إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس، فلما قدموا مكة سألوا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال له: قد كنت على قبلة- يعني بيت المقدس- لو ثبت عليها أجزأك، ولم يأمره باستئناف الصلاة، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين» (التفسير الكبير للفخر الرازيّ) ج 4 ص 111.
[ (2) ] 115/ البقرة.(3/93)
ذكر من قرن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الملائكة
خرج الإمام أحمد من حديث ابن عدي عن داود عن عامر الشعبي: نزلت عليه صلى اللَّه عليه وسلّم النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة والشيء. لم ينزل [من] [ (1) ] القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه [عشرين، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة] [ (1) ] .
ولحديث ابن سعد من حديث وهيب بن خالد عن داود بن أبي هند عن عامر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، وكان معه إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين قرن بنبوته ثم عزل عنه إسرافيل عليه السلام، وقرن به أيضا جبريل عليه السلام بمكة عشر سنين مهاجره بالمدينة، قال ابن سعد: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وأن علماءهم وأهل السير منهم يقولون: لم يقرن به صلى اللَّه عليه وسلّم غير جبريل صلوات اللَّه وسلامه عليه من حيث أنزل عليه صلى اللَّه عليه وسلّم الوحي إلى أن قبض صلى اللَّه عليه وسلّم، وصحح الحاكم ذلك، واللَّه سبحانه الموفق بمنه.
***
__________
[ (1) ] زيادة من (دلائل النبوة للبيهقي) ج 1 ص 391.(3/94)
فصل في ذكر الفضائل التي خصّ اللَّه تعالى بها نبيّه ورسوله محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم وشرفه بها على جميع الأنبياء
اعلم أن اللَّه تعالى فضّل رسوله محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم بفضائل عديدة ميّزه بها وشرّفه على من عداه من الأنبياء عليهم السلام، فجعله رحمة للعالمين، ولم يخاطبه باسمه وإنما خاطبه بالنّبوّة والرسالة التي لا أجلّ منها ولا أعظم، ونهى تعالى الأمة أن يخاطبوه باسمه، ودفع عنه ما قذفه به المشركون، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم يذكر له ذنبا ولا زلة، وأخذ الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا به إن أدركوه، وأمر الناس أن يتأسوا به فعلا وقولا، وفرض طاعته على الكافة، وقرن اسمه تعالى باسمه، وقدم نبوته قبل خلق آدم عليه السلام، ونوه باسمه من عهد آدم، وشرّف أصله، وكرّم حسبه ونسبه، وطيب مولده، وسماه بخير الأسماء، وأقسم بحياته، وأفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء، فآدم ومن دونه تحت لوائه، وخصّه بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر وبالحوض المورود، وجعله أعظم الأنبياء تبعا، وأعطاه خمسا لم يعطهن أحدا قبله، وبعث بجوامع الكلم، وأولى مفاتيح خزائن الأرض، وأمدّه اللَّه بالملائكة حتى قاتلت معه، وختم به الأنبياء، وجعل أمته خير الأمم، وذكره في كتب الأنبياء وصحفهم، وأنطق العلماء بالبشارة به حتى كانت بعثته صلى اللَّه عليه وسلّم تنتظرها الأمم، وسمع الأخبار بنبوته صلى اللَّه عليه وسلّم من هواتف الجن ومن أجواف الأصنام ومن رجز الكهان، صلى اللَّه تعالى عليه وعلى جميع الأنبياء وعظّم وكرّم.
***(3/95)
فأما أنه صلى اللَّه عليه وسلّم رحمة للعالمين
فقد قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (1) ] ، وذلك أن أعداءه أمنوا من العذاب مدة حياته، قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [ (2) ] ، فلم يعذبهم اللَّه تعالى حتى ذهب عنهم إلى ربه، فأنزل بهم ما أوعدهم من قبل وأشد، وذلك قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [ (3) ] .
خرج الحرث بن أبي أسامة من حديث على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: بعثني اللَّه رحمة وهدى للعالمين،
وهو هدي الدعاء والبيان.
ورواه محمد بن إسحاق من حديث الفرح بن فضالة عن علي بن يزيد به ولفظه: إن اللَّه بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين،
وهو هدى التعريف والاستهداء.
وقال يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قيل يا رسول اللَّه، ألا تدعو على المشركين؟ قال: إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا،
فإن قيل: كيف يكون رحمة للعالمين وقد أنزل بمن عاداه الذل والصّغار، فحطّم بعد الرفعة، وأهانهم بعد المنعة، وصيرهم بعد الملك إلى الهلك، بأن حوى أموالهم، وسبى حريمهم، وملك معاقلهم، وقتل حماتهم، ثم إن أصحابه من بعده دوخوا ممالك الأرض بدعوته، فاجتاحوا العرب من بني حنيفة وغيرهم عند ارتدادهم عن ملته، ومزقوا ملك كسرى وملك فارس، وأذلوا الفرس، وشردوا قيصر ملك الروم عن الشام والجزيرة، وقتلوا الروم والفرس أبرح قتل، وغلبوا قبط مصر وجبروهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بعد ما ملكوا ديارهم وأموالهم
__________
[ (1) ] الأنبياء: 107.
[ (2) ] الأنفال: 33.
[ (3) ] الزخرف: 41.(3/96)
بمصر، وأزاحوا البربر عن بلاد المغرب وانتزعوها منهم ومن القوط الجلالقة، فلم يتركوا نوعا من أنواع العذاب حتى أحلّوه بمن ذكرنا من الأمم، وهم سكان البسيطة ومعظم الخليقة من البشر؟.
قلنا: هذا اعتراض من لم ترض نفسه بالحكمة، حتى غفل عن ترتيب حكمة الباري تعالى في مصنوعاته، ولم يعلم ما تعطيه حقائق الأشياء، وذلك أن المحالّ إنما تقبل على قدر الاستعداد المهيأ فيها، وبيان ذلك أن اللَّه تعالى وصف كتابه العزيز بأنه هدى للناس، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [ (1) ] ، وهذا عام مطّرد باعتبار القوة والصلاحية، أي في قوته وصلاحيته أن يهدي جميع الناس، وهو عام مخصوص بمن لم يهتد باعتبار الفعل، إذ كثير من الناس لم يهتد به، ثم وصف تعالى كتابه بوصفين متضادين في وروده على الناس بحسب قبول قلوبهم له على قدر استعدادها، قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [ (2) ] ، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [ (3) ] ، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [ (4) ] ، فانظر- أعزك اللَّه- كيف كانت عين القرآن واحدة، وأثره في قلوب الناس مختلف، فيزيد المؤمن به إيمانا على إيمانه، ويزداد به الكافر كفرا على كفره حتى يموت كافرا، وانظر كيف تكون شفاء ورحمة لقوم وخسارا لآخرين، وكيف يهتدي به قوم ويكون عمى على قوم؟، وذلك بحسب ما أعطاه اللَّه من الاستعداد والمهيأ للقبول، وقد كشف لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قناع هذا المعنى ببليغ بيانه:
فخرج البخاري [ (5) ] ..
__________
[ (1) ] البقرة: 185.
[ (2) ] التوبة: 124، 125.
[ (3) ] الإسراء: 82.
[ (4) ] فصلت: 44.
[ (5) ] (فتح الباري) : 1/ 232، كتاب العلم، باب (20) فضل من علم وعلّم، حديث رقم (79) .(3/97)
ومسلم [ (1) ] ...
__________
[ (1) ]
قال المقريزي- رحمه اللَّه- بعد أن ساق هذا الحديث: «اللفظ لمسلم» ، ولفظ مسلم: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عامر الأشعري، ومحمد بن العلاء [واللفظ لأبي عامر] ، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن بريد عن أبي بردة، عن أبي موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن مثل ما بعثني به اللَّه عزّ وجلّ من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلا والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها، وسقوا، ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين اللَّه، ونفعه بما بعثني اللَّه به، فعلم، وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى اللَّه الّذي أرسلت به» .
(مسلم بشرح النووي) : 16/ 51- 53، كتاب الفضائل، باب (5) ، بيان مثل ما بعث به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من الهدى والعلم، حديث رقم (2282) .
أما الغيث فهو المطر، وأما العشب والكلأ والحشيش، فكلها أسماء للنبات لكن الحشيش مختص باليابس والرطب. وقال الخطابي وابن فارس: الكلأ يقع على اليابس، وهذا شاذ ضعيف. وأما الأجادب- فبالجيم والدال المهملة- وهي الأرض التي تنبت كلأ. وقال الخطابي هي الأرض التي تمسك الماء، فلا يسرع فيه النضوب.
قال ابن بطال، وصاحب المطالع، وآخرون: هو جمع جدب، على غير قياس، كما قالوا في حسن:
جمعه محاسن، والقياس: أن محاسن جمع محسن، وكذا قالوا: مشابه جمع شبه، وقياسه: أن يكون جمع مشبه، قال الخطابي: وقال بعضهم: أحادب- بالحاء المهملة والدال- قال: وليس بشيء. قال:
وقال بعضهم: أجارد- بالجيم والراء والدال-. قال: وهو صحيح المعنى.
قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه: أنها جرداء هزرة، لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم: إنما هي أخاذات- بالخاء والذال المعجمتين وبالألف- وهو جمع أخاذة، وهي الغدير الّذي يمسك الماء. وذكر صاحب (المطالع) هذه الأوجه التي ذكرها الخطابي، فجعلها روايات منقولة.
وقال القاضي في (الشرح) : لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره، إلا بالدال المهملة من الجدب، الّذي هو ضد الخصب. قال: وعليه شرح الشارحون. وأما القيعان فبكسر القاف- جمع القاع، وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث، كما شرح به صلى اللَّه عليه وسلّم، ويجمع أيضا على أقوع، وأقواع، والقيعة- بكسر القاف- بمعنى القاع. قال الأصمعي: قاعة الدار: ساحتها.
وأما الفقه في اللغة فهو الفهم. يقال منه: فقه- بكسر القاف- يفقه فقها، بفتحها كفرح يفرح فرحا، وقيل: المصدر فقها- بإسكان القاف- وأما الفقه الشرعي، فقال صاحب (العين) ، والهروي، وغيرهما: يقال منه فقه- بضم القاف- وقال ابن دريد: بكسرها كالأول.
والمراد بقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فقه في دين اللَّه» ، هذا الثاني، فيكون مضموم القاف على المشهور، وعلى(3/98)
__________
[ () ] قول ابن دريد بكسرها، وقد روى بالوجهين، والمشهور الضم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء» ، فهكذا هو في جميع نسخ مسلم «طائفة طيبة» . ووقع في البخاري: «فكانت منه نقية قبلت الماء»
- بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة- وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري. ورواه الخطابي وغيره: «ثغبة» - بالثاء المثلثة والغين المعجمة والباء الموحدة- قال الخطابي: وهو مستنقع الماء في الجبال والصخور، وهو الثغب أيضا، وجمعه ثغبان. قال القاضي وصاحب (المطالع) : هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى، لأنه إنما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلا لما ينبت، والثغبة لا تنبت.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وسقوا»
فقال أهل اللغة: سقى وأسقى: بمعنى لغتان، وقيل: سقاه: ناوله ليشرب، وأسقاه: جعل له سقيا.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ورعوا»
فهو بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري «وزرعوا» ، وكلاهما صحيح، واللَّه تعالى أعلم.
أما معاني الحديث ومقصوده: فهو تمثيل الهدى الّذي جاء به صلى اللَّه عليه وسلّم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:
فالنوع الأول، من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيي بعد أن كان ميتا وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم، فيحفظه، فيحيا قلبه، ويعمل به، ويعلمه غيره، فينفع وينفع.
والنوع الثاني، من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل، يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج، متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث، من الأرض السباخ، التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم، واللَّه تعالى أعلم. وفي هذا الحديث أنواع من العلم، منها:
[1] ضرب الأمثال.
[2] فضل العلم والتعليم.
[3] شدة الحث عليهما.
[4] ذم الإعراض من العلم.
واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) .(3/99)
والنّسائي [ (1) ] من حديث سويد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: أن مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب فمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلا، فذلك مثل من فقه معاني دين اللَّه ونفعه بما بعثني به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللَّه الّذي أرسلت به.
اللفظ لمسلم، ذكره في كتاب المناقب، وذكره البخاري في كتاب العلم وقال فيه: كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء، وقال فيه: فشربوا وسقوا وزرعوا، وقال فيه: ونفعه بما بعثني اللَّه، وقال بعده: قال إسحاق: وكان منها طائفة قبلت الماء قاع يعلوه الماء.
__________
[ (1) ] لم أجده في (النسائي) بهذه السياقة، لكن
أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري، ضمن حديث طويل أوله: عبد اللَّه حدثني أبي، حدثني عبد اللَّه بن محمد- وسمعته أنا من عبد اللَّه بن محمد- حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: «ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة، وقال: احترق بيت بالمدينة على أهله، فحدث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بشأنهم فقال: إنما هذه النار عدوّ لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم، قال: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
إن مثل ما بعثني اللَّه عزّ وجلّ به من الهدى والعلم ... » وساق الحديث بنحو سياقه البخاري ومسلم.
(مسند أحمد) : 5/ 544، حديث رقم (19076) .
قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لما جاء به من الدين، مثلا بالغيث العام الّذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه صلى اللَّه عليه وسلّم، فكما أن الغيث يحي البلد الميت، فكذا علوم الدين تحيي القلب الميّت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم، المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع، لكنه أدّاه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع به الناس.
ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المجودتين، لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفراد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. (الأمثال في الحديث النبوي) : 378- 379، حديث رقم (326) والتعليق عليه.(3/100)
فانظر ما أبلغ هذا المثال النبوي وأبينه لما نحن بصدده، فهذه عين الماء الّذي نزل من السماء واحدة، وأثره في الأرض مختلف على قدر ما أعطاها الحكيم الخبير سبحانه من الاستعداد، وهيأ فيها من القبول حتى قبلت [كل] [ (1) ] قطعة منها الماء بحسب استعدادها، فأنبتت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات التي يفضل بعضها على بعض في الأكل، وقبلت قطعة أخرى من الأرض ذلك الماء بعينه، فأنبتت بحسب استعدادها كلأ وعشبا ترعاه الأنعام، وفقدت قطعة أخرى هذا الاستعداد المهيئ لقبول الإنبات، فأمسكت الماء ولم تغيره عن أصله لطيبها حتى استقى منه الناس فشربوا وحملوا وسقوا أنعامهم، وكانت قطعة أخرى من الأرض لم يجعل اللَّه تعالى فيها من الاستعداد لقبول الإنبات شيئا، وسلبها مع ذلك الطيب والاعتدال، حتى انحرفت عنه فلم تخرج نبتا ولا أمسكت ماء، بل أحالته لخبثها أجاجا وملحا لا ينتفع به، فكما اختلفت الأرض في الاستعداد واختلفت في القبول، وهكذا نفوس الناس لما اختلفت في الاستعداد لقبول الخير والهدى، اختلفت في قبوله، وعين الهدى واحدة، ولكن أثره في نفوس الناس مختلف، فواحد قبل هدى اللَّه الّذي جاء به نبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم حال ما جاء به من غير أن يدعى إليه ولا طلب منه دليلا عليه كخديجة بنت خويلد، وأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وزيد الحبّ، رضي اللَّه عنهم، وذلك بحسب قوة استعدادهم لقبول الهدى، وقد عبّر عن هذا الاستعداد في اصطلاح القرآن بالهداية، ويقال له التوفيق أيضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [ (2) ] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [ (3) ] ، أي والذين اهتدوا يعني قبلوا الهداية العامة الإيمانية بقابليتهم الأصلية، وأقبلوا بكلية مواطنهم إليها، زادهم اللَّه هدى بما أدركهم من عناية مدد الحضرة الرحمانية بالهداية الخاصة من مقام الإحسان، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ يعني أعطاهم تقوى نفوسهم بأن جعلوا حكم توحيدهم الباطن في قلوبهم وقاية تصون أنفسهم عن التلبس من أحشاء الانحرافات المبعدة لهم عن جناب
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الحجرات: 7.
[ (3) ] محمد: 17.(3/101)
موجدهم تقدّس وتعالى.
وآخرون آتاهم اللَّه تعالى من هذا الاستعداد دون ما أتى من ذكرنا، فاحتاجوا إلى أن يدعوا إلى اللَّه ويدلّوا على الطريق إليه، وهم الذين دخلوا في دين الإسلام من المهاجرين والأنصار، وقصر هذا الاستعداد في قلوب آخرين حتى احتاجوا في دخولهم في الإيمان إلى أن أظهر لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من آياته ومعجزاته ما قادهم إلى الإيمان به طوعا، وانحط فريق عن هذه الرتب لضعف الاستعداد عندهم لقبول الهدى، فلم يدخلوا فيه إلا كرها من تحت السيف، كمسلمة الفتح الذين قيل لهم:
«الطلقاء» [ (1) ] .
وعدمت طوائف من الناس هذا الاستعداد جملة فشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى وعاندوا الحق بعد ما وضح، وصدّوا عن سبيل اللَّه من آمن به، وبذلوا جهدهم في إطفاء نور اللَّه- رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- حتى ماتوا وهم كافرون من أجل أنه لم يكن فيهم من الاستعداد المهيء لقبول الهدى شيء، قلّ ولا جلّ، بل كانوا في ورود الهدى عليهم بمنزلة الأرض الخبيثة التي أحاطت ماء الغيث العذب الطهور إلى السباخ الرديء، وبمنزلة من به آفة في معدته من خلط رديء، [فأحالت] [ (2) ] أطيب المآكل وأنفعها سما مهلكا وداء عياء.
وانظر- رحمك اللَّه- إلى الآية الواحدة من كتاب اللَّه تعالى فإنّها ترد على الأسماع، فواحد يفهم أمرا واحدا، وآخر لا يفهم منها ذلك الأمر بل يفهم أمرا آخر، وآخر يفهم منها أمورا كثيرة، ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين فيها بها، فالآية واحدة العين، والسامعون لها مختلفون في القبول، وذلك لاختلاف استعداد أفهامهم فيها.
واوع سمعك أمثالا أفصّلها مما قد ألفته من المحسوسات: منها أن الشمس تبسط أنوارها على الموجودات كلها فتقبل المحال ذلك النور على قدر الاستعداد، فالجسم
__________
[ (1) ] إشارة إلى
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم يوم الفتح: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
[ (2) ] زيادة للسياق.(3/102)
المبرود يسخن بها فيتلذذ بذلك، والجسم المحرور يزيد في كمية حرارته فيتألم بها، فالنور واحد لهما، وكل واحد منهما يتألم بما به ينعم الآخر بعينه، فلو كان النور لإعطائه حقيقة واحدة، وإنما ذلك لاستعداد القابل.
وهكذا تجد الشمس تسوّد وجه القصّار [ (1) ] وتبيض الثوب الّذي يقصره، فإن استعداد الثوب تعطي الشمس فيه التبييض، ووجه القصّار تعطي الشمس فيه التسويد، وكذلك ترى الشمس تذيب الشمع والشحم، وتجفف الطين والثوب المبلول، فإن استعداد كل واحد من هذه المذكورات تعطيه الشمس بحسب قبوله، ومن ذلك الهواء، إذا هبّ فإنه في هبوبه يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب ونحوه مما من شأنه أن يقبل الاشتعال، وهكذا نفخك يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب، وربما كان ذلك بنفخة واحدة، وذلك أن اختلافهما في الاستعداد يوجب اختلافهما في القبول، والهواء واحد في عينه، ومن هذا القبيل العطايا الإلهية، قال تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [ (2) ] أي ممنوعا، فهو سبحانه معط على الدوام، والمحالّ تقبل على قدر ما أعطاها اللَّه تعالى من الاستعدادات، فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء اللَّه تعالى ليس بممنوع، إلا أنك تحب أن يعطيك مالا يقبله استعدادك، وتنسب المنع إليه- سبحانه- فيما طلب منه، ولا تجعل ما لك من الاستعداد وتقول: إن اللَّه تعالى على كل شيء قدير، وتصدق في ذلك، ولكنك تغفل عن ترتيب الحكمة الإلهية وما تعطيه حقائق الأشياء والكل من عند اللَّه، فمنعه عطاء، وعطاؤه منع، ولكن بقي أن تعلم بكذا أو من كذا.
وإذا تدبرت هذه الأمثلة انجلت لك شبهة ما أورده أهل الزيغ والإلحاد على عموم أن رسالة محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رحمة للعالمين، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال أبو عبد اللَّه محمد بن علي المعروف بالحكيم الترمذي: إن الأنبياء والرسل
__________
[ (1) ] القصّارة المحوّر للثياب لأنه يدقها بالقصرة التي هي القطعة من الخشب وحرفته القصارة، والمقصرة:
خشبة القصّار. (لسان العرب) : 5/ 104.
[ (2) ] الإسراء: 20.(3/103)
صفوة الخلق، وأما محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه [نور] [ (1) ] ورحمة، قال اللَّه تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (2) ] ، فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى اللَّه عليه وسلّم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق لما بعثه سبحانه وتعالى أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور، وسائر الأنبياء عليهم السلام لم يحلوا هذا المحل، ولذلك
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا رحمة مهداة،
فأخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من اللَّه تعالى، وقوله: مهداة، أي هدية من اللَّه سبحانه وتعالى للخلق، واللَّه الموفق.
***
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الأنبياء: 107.(3/104)
وأما مخاطبة اللَّه له بالنّبوّة والرسالة ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه
فإن ذلك أبان اللَّه تعالى به عن إجلال قدر نبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وتمجيده وتعظيمه، فإنه لا أجلّ من النبوة، ولا أعظم خطرا منها، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ [ (1) ] ، وقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [ (2) ] ، وقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [ (3) ] ، وقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [ (4) ] ، وخاطب سبحانه الأنبياء بأسمائهم، وأخبر عنهم بأسمائهم، فقال تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [ (5) ] ، وقال في الإخبار عنه:
وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [ (6) ] ، وقال، يا نُوحُ اهْبِطْ [ (7) ] ، وقال في الإخبار عنه: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ [ (8) ] ، وقال: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا [ (9) ] ، وقال في الإخبار عنه: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [ (10) ] ، وقال:
يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي [ (11) ] ، وقال في الإخبار عنه:
فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [ (12) ] ، وقال: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [ (13) ] ، وقال في الإخبار عنه: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ [ (14) ] ، وقال: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [ (15) ] ، وقال: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا (بعذاب اللَّه) [ (16) ] ، وقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ [ (17) ] ، وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ (18) ] ،....
__________
[ (1) ] الأحزاب: 45.
[ (2) ] الأنفال: 64.
[ (3) ] آل عمران: 176.
[ (4) ] المائدة: 67.
[ (5) ] الأعراف: 19.
[ (6) ] طه: 121.
[ (7) ] هود: 48.
[ (8) ] هود: 42.
[ (9) ] هود: 76.
[ (10) ] البقرة: 127.
[ (11) ] الأعراف: 144.
[ (12) ] القصص: 15.
[ (13) ] المائدة: 110.
[ (14) ] الصف: 6.
[ (15) ] هود: 53.
[ (16) ] الأعراف: 77.
[ (17) ] ص: 26.
[ (18) ] ص: 34.(3/105)
وقال: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ [ (1) ] ، وقال: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ [ (2) ] ، فلم يخاطب أحدا منهم ولا أخبر عنه إلا باسمه، وكل موضع ذكر فيه محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم أضاف إليه ذكر الرسالة، فقال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (3) ] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [ (4) ] ، وقال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [ (5) ] ، وقال: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [ (6) ] ، فسماه ليعلم من جحده أن أمره وكتابه هو الحق، ولأنهم لم يعرفوه إلا بمحمد، فلو لم يسمه لم يعلم اسمه من الكتاب، وكأن تسمية اللَّه له بمحمد زيادة في جلالة قدره وتنبيها على مزيد شرفه، لأن اسمه عليه السلام مشتق من اسم اللَّه تعالى، كما مدحه به عمه أبو طالب بقوله:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
ولما جمع اللَّه تعالى بين ذكر محمد وإبراهيم عليهما السلام، سمي خليله باسمه وكنّي حبيبه محمدا بالنّبوّة فقال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [ (7) ] ، فأبان سبحانه بذلك عن شرف مقدار محمد صلى اللَّه عليه وسلّم وعلو رتبته عنده، ثم قدمه اللَّه عز وجل في الذكر على من تقدمه في البعث، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ... [ (8) ] ، إلى قوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [ (9) ] ، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ [ (10) ] الآية،
وقد روى من طرق عن سعيد بن بشير، حدثنا قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [ (11) ] ، قال: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث،
فانظر كيف خاطب اللَّه سبحانه محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم بالنّبوّة والرسالة، ولم يخاطب غيره من الأنبياء إلا باسمه، إلا أن يكون محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم في جملتهم فيشركهم معه
__________
[ (1) ] مريم: 7.
[ (2) ] مريم: 20.
[ (3) ] آل عمران: 144.
[ (4) ] الفتح: 29.
[ (5) ] الأحزاب: 40.
[ (6) ] محمد: 2.
[ (7) ] آل عمران: 68.
[ (8) ] النساء: 163.
[ (9) ] النساء: 163.
[ (10) ] الأحزاب: 7.
[ (11) ] الأحزاب: 7.(3/106)
في الخطاب والخبر، ليبين تعالى لعباده ارتفاع رتبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على جميع الأنبياء، وعلوّ مكانته على مكاناتهم كلهم، إذ الكناية عن الاسم غاية التعظيم للمخاطب، لأن من بلغ به الغاية في التعظيم كني عن اسمه بأخص أوصافه وأجلّها، واللَّه الموفق.(3/107)
وأما دفع اللَّه عن الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم ما قرفه به المكذبون، ونهي اللَّه تعالى العباد عن مخاطبته باسمه
اعلم أن الأمم السالفة كانت تخاطب أنبياءهم بأسمائهم، كقولهم: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [ (1) ] ، وقولهم: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً [ (2) ] ، وقولهم: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [ (3) ] ، وقولهم:
يا صالِحُ ائْتِنا [ (4) ] ، فشرف اللَّه الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم بتبجيل قدره، ونهى الكافة أن يخاطبوه باسمه، فقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (5) ] ، فندبهم اللَّه تعالى إلى تكنيته بالنّبوّة والرسالة، رفعة لمنزلته وتشريفا لقدره على جميع الرسل والأنبياء، وأوجب تعالى تعزيره صلى اللَّه عليه وسلّم وتوقيره، وألزم سبحانه إكرامه وتعظيمه، قال ابن عباس: تعزروه: تبجلوه، وقال المبرد:
تعزروه: تبالغوا في تعظيمه، وقال الأخفش: تنصرونه، وقال الطبري: تعينونه، وقرأ تعززونه بزاءين من العز.
[و] [ (6) ] خرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة من حديث أبي رزق عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (7) ] قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم، قال:
فنهاهم اللَّه عن ذلك إعظاما لنبيه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: فقالوا: يا نبي اللَّه، يا رسول اللَّه.
ولأبي نعيم من حديث محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يعني كدعاء أحدكم إذا
__________
[ (1) ] الأعراف: 138.
[ (2) ] المائدة: 112.
[ (3) ] هود: 53.
[ (4) ] الأعراف: 77.
[ (5) ] النور: 63.
[ (6) ] زيادة للسياق.
[ (7) ] النور: 63.(3/108)
دعي أخاه باسمه، ولكن وقروه وعزروه وعظموه، وقولوا: يا رسول اللَّه، ويا نبي اللَّه.
وعن عاصم عن الحسن: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: لا تقولوا: يا محمد، قولوا يا رسول اللَّه.
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: لا تقولوا: يا محمد، قولوا يا رسول اللَّه.
وعن قتادة: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: أمر اللَّه سبحانه وتعالى أن يهاب نبيه صلوات اللَّه عليه وأن يعظم ويفخّم ويسوّد، وفي رواية قال: أمرهم اللَّه تعالى أن يفخموه ويشرفوه، ونهى المؤمنين أن يقولوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: راعنا سمعك، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا [ (1) ] ، قال الضحاك عن ابن عباس: لا تقولوا: راعنا، وذلك أنها سبّة بلغة اليهود، فقال: قولوا انظرنا، يريد أسمعنا، فقال المؤمنون بعدها: من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه، فانتهت اليهود بعد ذلك.
وعن أبي صالح عن ابن عباس: لا تَقُولُوا راعِنا قال: راعنا بلسان اليهود السب القبيح، فكان اليهود يقولون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذلك سرا، فلما سمعوا أصحابه يقولونه أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فسمعها منهم سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه فقال لليهود: يا أعداء اللَّه، عليكم لعنة اللَّه، والّذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لأضربن عنقه.
وعن مجاهد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا خلافا وقولوا: انظرنا، أفهمنا، بين لنا.
وعن قتادة: لا تَقُولُوا راعِنا قال: كانت اليهود تقول: راعنا استهزاء، فنهى اللَّه المؤمنين أن يقولوا كقولهم.
__________
[ (1) ] البقرة: 104.(3/109)
وعن عطية: لا تَقُولُوا راعِنا قال: كان أناس من اليهود يقولون: راعنا سمعك، حتى قالها أناس من المؤمنين، فكره لهم ما قالت اليهود، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا كما قالت اليهود وَقُولُوا انْظُرْنا واللَّه الموفق.
***(3/110)
وأما دفع اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ما قرفه المكذبون له
كان من تقدم من أنبياء اللَّه صلوات اللَّه عليهم كانوا يردون عن أنفسهم ويدفعون ما قرفهم مكذبوهم، فتولى اللَّه ذلك عن رسول اللَّه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، قال تعالى [حكاية] [ (1) ] عن قوم نوح: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (2) ] ، فقال دافعا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [ (3) ] ، وقال قوم هود: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [ (4) ] ، فقال دافعا عن نفسه: قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ [ (5) ] ، وقال فرعون لموسى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [ (6) ] ، فقال موسى مجيبا له:
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [ (7) ] ، فتولى اللَّه سبحانه وتعالى المجادلة عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين قال المشركون عنه: إنه شاعر، فقال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [ (8) ] ، ولما قالوا: كاهن قال تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [ (9) ] ، ولما قالوا: ضال، قال سبحانه وتعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [ (10) ] ، ولما قالوا عنه صلى اللَّه عليه وسلّم: إنه مجنون، قال اللَّه سبحانه وتعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [ (11) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الأعراف: 60.
[ (3) ] الأعراف: 66.
[ (4) ] الأعراف: 61.
[ (5) ] الأعراف: 67.
[ (6) ] الإسراء: 101.
[ (7) ] الإسراء: 102.
[ (8) ] يس: 69.
[ (9) ] الحاقة: 41.
[ (10) ] النجم: 2.
[ (11) ] الطور: 29.(3/111)
وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطا ولا زلّة
فقد خرج الحاكم من حديث الحكم بن أبان قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس: إن اللَّه فضل محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم على جميع الأنبياء وعلى جميع أهل السماء، وفضله على أهل الأرض، قالوا: يا ابن عباس!! بم فضله على أهل السماء؟ قال:
قال اللَّه تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ (1) ] ، وقال لمحمد: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [ (2) ] الآية، قالوا: فبم فضّله على أهل الأرض؟ قال: قال اللَّه تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ (3) ] ، الآية، وقال لمحمد: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [ (4) ] ، فأرسله إلى الجن والإنس، قال الحاكم: هذا حديث صحيح.
واعلم أن من تقدم الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، من الأنبياء ذكر اللَّه تعالى أحوالهم [و] [ (5) ] ما كان منهم يقصّه تعالى على ما غفره لهم، قال تعالى في قصه موسى: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً [ (6) ] ، وقال: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [ (7) ] ، فقصّ تعالى ما غفر له وسأل فيه المغفرة، وقال تعالى عن داود: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ (8) ] ، فقصّ تعالى على
__________
[ (1) ] الأنبياء: 29.
[ (2) ] الفتح: 1، 2.
[ (3) ] إبراهيم: 4.
[ (4) ] سبأ: 28.
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] القصص: 33.
[ (7) ] القصص: 16.
[ (8) ] ص: 21- 24.(3/112)
ما كان فيهم، ولم يقصّ على خطأ كان من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إكراما له وتشريفا، فقال عز من قائل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (1) ] ، وهذا غاية الفضل والشرف، لأنه تشريف النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه تعالى استوعب في هذه الآية جميع أنواع النعم الأخروية والدنيوية التي أنعم اللَّه بها على عباده، فلم تبق نعمة يمكن أن تكون من اللَّه تعالى على عباده إلا وقد جمعها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فإن جميع النعم الأخروية شيئان: سلبية وهي غفران الذنوب، وثبوتية وهي لا تتناهى، أشار إليها بقوله: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [ (1) ] ، وجميع النعم الدنيوية شيئان: دينية أشار إليها بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [ (1) ] ، ودنيوية، وإن كانت هنا المقصود بها الدين، وهي قوله:
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (1) ] ، وقدم الأخروية على الدنيوية، وقدم في الدنيوية الدينية على غيرها تقديما للأهم فالمهم، فانتظم بذلك تعظيم قدر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بإتمام نعم اللَّه تعالى عليه، المتفرقة في غيره، ولهذا قال: جعل ذلك غاية الفتح المبين الّذي عظمه وفخمه بإسناده إليه بنون العظمة، وجعله خاصا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بقوله:
لك.
وقد أشار ابن عطية إلى هذا فقال: وإنما المعنى: التشريف بهذا الحكم، ولو لم يكن له ذنب البتة. انتهى.
وقد ذكر الناس أقوالا أخر، منها: ما يجب تأويله، ومنها ما يجب ردّه، فمن ذلك ما روى عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ أي ما يكون، وهذا يمكن تأويله على ما قدمناه، أي مما يكون لو كان، والمعنى أنك يا سيد المرسلين بحالة لو كان لك ذنوب ماضية ومستقبلة لغفرنا جميعها لك لشرفك عندنا.
ومنها قول مقاتل: لِيَغْفِرَ لَكَ ما كان في الجاهلية، وهذا مردود، لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليس له جاهلية، ومن قال: ليغفر لك ما كان قبل النبوة فهو مردود
__________
[ (1) ] أول سورة الفتح.(3/113)
أيضا، لأنه صلى اللَّه عليه وسلّم معصوم قبل النبوة وبعدها.
ومنها قول سفيان الثوري: ليغفر لك ما كان في الجاهلية ما علمت وما لم تعلم، وهو مردود بمثل الّذي قبله، ومنها قول عطاء الخراسانىّ: ليغفر لك ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك على حذف مضاف.
ومنها ما حكى عن مجاهد: ليغفر لك ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد، وهذا قول باطل، فإنه لم يكن في قصه مارية وامرأة زيد ذنب أصلا، وقد أوردنا ما جاء في قصتيهما عند ذكر أزواجه وسراريه صلى اللَّه عليه وسلّم، وليس فيهما ما يعدّ زلة ولا ذنبا، ومن اعتقد ذلك فقد أخطأ.
ومنها قول الزمخشريّ: جميع ما فرط منك، وهذا مردود بشيئين: أحدهما:
عصمة الأنبياء، وقد أجمعت الأمة على عصمتهم فيما يتعلق بالتبليغ وفي غير ذلك من الكبائر ومن الصغائر الرذيلة التي تحط مرتبتهم، ومن المداومة على الصغائر، فهذه الأربعة مجمع عليها، واختلفوا في الصغائر التي لا تحط مرتبتهم، فذهبت المعتزلة، وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع لأنا مأمورون بالاقتداء في كل ما يصدر منهم في قول وفعل، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ونؤمر بالاقتداء بهم فيه؟
وتجاسر قوم على الأنبياء فنسبوا إليهم تجويزها عليهم مطلقا، وهم محجوجون بما تقدم من الإجماع، ثم إن الذين جوزوا الصغائر لم يجوزوها بنص ولا دليل، وإنما أخذوا ذلك من هذه الآية وأمثالها، وقد ظهر بجواب هذه، وفي كل موضع من الباقيات يذكر جوابه إن شاء اللَّه تعالى.
والذين جوزوا الصغائر التي ليست برذائل، قال ابن عطية: اختلفوا هل وقع ذلك من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أو لم يقع؟ قال كاتبه: والحق الّذي لا مرية فيه أنه لم يقع، وكيف يستحيل خلاف ذلك وأحواله صلى اللَّه عليه وسلّم منقسمة إلى قول وفعل؟ أما القول، فقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [ (1) ] ، وأما الفعل،
__________
[ (1) ] النجم: 3- 4.(3/114)
فإجماع الصحابة المعلوم منهم قطعا على اتباعه والتأسي بما يفعله في كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير، لما عندهم في ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله عليه السلام في السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم صلى اللَّه عليه وسلّم أو لم يعلم.
والثاني: أنا لو سلمنا بعدم العصمة- وحاش للَّه- فإنه لا يناسب ما تشير إليه الآية من التعظيم والامتنان، وجعل ذلك غاية الفتح المبين، المقرون بالتعظيم، فحمله على ذلك مخل بالبلاغة، والمعنى الّذي حملنا عليه الآية يناسب البلاغة، فوجب المصير إليه، وقوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (1) ] أعيد لفظه لمّا بعد عما عطف عليه، وليكون المبتدأ والمنتهي بالاسم الظاهر، والضميران في الوسط، وأتت هذه النعم الأربع بلفظ الغيبة، وجاء الفتح قبلها بضمير المتكلم تعظيما لأمر الفتح، لأن المغفرة وإن كانت عظيمة فهي عامة، قال تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [ (2) ] وكذلك إتمام النعمة، قال تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [ (3) ] ، وهكذا الهداية، قال تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ (4) ] ، ومثله النصر، قال تعالى:
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [ (5) ] ، وأما الفتح: فإنه لم يتفق لغير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقيل في الاسم مع النصر: إنه تعظيم له، ولهذا قلّ ما ذكر اللَّه تعالى النصر من غير إضافة إليه أو اقتران باسمه ليطمئن القلب بذكر اللَّه تعالى، فيحصل الصبر، وبه يحصل النصر، واللَّه يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقال سفيان عن عيينة قال: عن ميسرة قال ابن عبد اللَّه: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب، قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [ (6) ] ، وقال عبد اللَّه بن يزيد المصري: ليس هذا لنبي قبله ولا بعده، يعني قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [ (6) ] ، فبدأ سبحانه بالعفو قبل العقاب.
__________
[ (1) ] الفتح: 3.
[ (2) ] النساء: 48.
[ (3) ] المائدة: 3.
[ (4) ] البقرة: 142.
[ (5) ] الصافات: 172.
[ (6) ] التوبة: 43.(3/115)
وأما أخذ اللَّه تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وينصروه إن أدركوه
فقد قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [ (1) ] .
قوله: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ ما، بمعنى الّذي، قال النحاس: التقدير على قول الخليل: الّذي آتيتكموه ثم حذف الهاء لطول الاسم، والإصر: العهد.
وعن أبي أيوب عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لم يبعث اللَّه نبيا [من لدن] [ (2) ] آدم فمن بعده إلا أخذ اللَّه العهد عليه في محمد لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه، فقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ...
وعن سعيد عن قتادة: قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... الآية، هذا ميثاق قد أخذه اللَّه على النبيين أن يصدّقوا بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب اللَّه ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب اللَّه ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ويصدقوه وينصروه.
وقال أسباط عن السدي: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ الآية، قال: لم يبعث اللَّه نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن
__________
[ (1) ] المائدة: 83.
[ (2) ] زيادة للسياق.(3/116)
بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ولينصرنه إن خرج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرونه هم إن خرج وهم أحياء.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم- يعني على أهل الكتاب- وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه- يعني بتصديق محمد صلى اللَّه عليه وسلّم- إذا جاءهم، وإقرارهم به على أنفسهم فقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلى آخر الآية.
وقال أسباط عن السدي في قوله: لَما آتَيْتُكُمْ: يقول لليهود: أخذت ميثاق النبيين لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم وهو الّذي ذكر في الكتاب عندكم، فهذا كما ترى، وقد أخذ اللَّه الميثاق على جميع الأنبياء عليهم السلام إن جاءهم رسول مصدق لما معهم وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلّم آمنوا به ونصروه، فلم يكن أحد منهم ليدرك الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم إلا وجب عليه الإيمان به ونصره على أعدائه لأخذه الميثاق منهم، فجعلهم تعالى كلهم أتباعا لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم يلزمهم الانقياد له والطاعة لأمره لو أدركوه.
وقد نصّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على معنى ما قلنا،
فروى هشيم عن مجالد عن الشعبيّ عن جابر عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: «أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ومعي كتاب أصبته من بعض أهل الكتاب فقال: والّذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا اليوم ما وسعه إلا أن يتبعني» [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
رواه البخاري عن يحى بن بكير، وعن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، وقال البيهقي في (الشّعب) : وقد روينا عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، أن عمر أتاه فقال: إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوّكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتّباعي.
قال أبو عبيد: قال ابن عون فقلت للحسن: متهوكون؟ قال: متحيرون.
وأخبرنا أحمد بن الحسن القاضي، حدثنا أبو علي حامد بن محمد الرفّاء، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا حماد بن زيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلوا» . زاد القاضي في روايته: «واللَّه لو كان موسى عليه السلام حيا ما حلّ له إلا أن يتبعني» .
وروى عن جبير بن نفير، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في محو ما كتب من قول اليهود(3/117)
وقال بعض العارفين باللَّه تعالى. وبهذا يتبين لك سيادة محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على جميع الأنبياء [والمرسلين من] [ (1) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم [ (2) ] ولا فخر،
وفي رواية مسلم [ (3) ] : أنا سيد الناس يوم القيامة،
فثبتت له السيادة والشرف على
__________
[ () ] (بريقه والنهي عن ذلك.
(شعب الإيمان للبيهقي) : 1/ 199- 200، باب في الإيمان بالقرآن والكتب المنزلة، ذكر حديث جمع القرآن، حديث رقم (176) ، (178) ، (179) ، وحديث رقم (5205) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأنا أبو عبد اللَّه الصنعاني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، أن حفصة جاءت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بكتاب فيه قصص يوسف في كتف، فجعلت تقرأ عليه، والنبي صلى اللَّه عليه وسلّم يتلون وجهه فقال: «والّذي نفسي بيده، لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم» . (المرجع السابق) : 4/ 308- 309، باب حفظ اللسان، فصل في ترك قراءة كتب الأعاجم. ونحوه في (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) 3/ 114- 115، باب الزجر عن النظر في كتب أهل الكتاب، حديث رقم (3024) .
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه، قال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد اللَّه بن ثابت قال: «جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي من جوامع التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال عبد اللَّه: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال عمر: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم رسولا، قال: فسرّي عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ثم قال: والّذي نفسي بيده، لو أصبح فيكم موسى، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين» . (مسند أحمد) : 4/ 513- 514، حديث رقم (15437) .
[ (1) ] زيادة للسياق، ومكانها مطموس في (خ) .
[ (2) ]
(المستدرك) : 3/ 133، 134، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (4625/ 223) : حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا محمد بن معاذ، حدثنا أبو حفص عمر بن الحسن الراسي، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا سيد ولد آدم، وعليّ سيد العرب» .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وفي إسناده عمر بن الحسن، وأرجو أنه صدوق، ولولا ذلك لحكمت بصحته على شرط الشيخين، وله شاهد من
حديث عروة عن عائشة رقم (4626/ 224) : أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر القاري ببغداد، حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، حدثنا الحسين بن علوان، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ادعوا لي سيد العرب» فقلت: يا رسول اللَّه! ألست سيد العرب؟ قال: «أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب» .
وله شاهد آخر من
حديث جابر رقم (4627/ 225) : قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ادعوا لي سيد العرب، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: ألست سيد العرب يا رسول اللَّه؟ فقال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب» .
[ (3) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 66- 69، كتاب الإيمان، باب (84) ، حديث رقم (327) ،(3/118)
أبناء جنسه من البشر،
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين [ (1) ] ،
فأخبره اللَّه تعالى بمرتبته، وأنه عليه السلام إذ ذاك صاحب شرع، فإنه
قال: كنت نبيا
ولم
__________
[ () ] وحديث رقم (328) ، قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد الناس يوم القيامة» ،
ضمن حديث طويل معروف باسم (حديث الشفاعة) ، وسيأتي ذكره مشروحا إن شاء اللَّه تعالى في فصل [اختصاصه بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر] .
[ (1) ]
المعروف أن هذا الحديث بلفظ: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» ، أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن لال، ومن طريقه الديلميّ، كلهم من حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة به مرفوعا.
وله شاهد من
حديث ميسرة الفجر، بلفظ:
«كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» ، أخرجه أحمد، والبخاري في (التاريخ) ، والبغوي، وابن السكن، وغيرهما في (الصحابة) ، وأبو نعيم في (الحلية) ، وصححه الحاكم، وكذا هو بهذا اللفظ عند الترمذي وغيره عن أبي هريرة: متى كنت أو كتبت نبيا؟ قال: «وآدم» ، وذكره. وقال الترمذي:
إنه حسن صحيح، وصححه الحاكم أيضا* وفي لفظ: «وآدم منجدل في طينته» ،
وفي صحيحي ابن حبان والحاكم، من حديث العرباض بن سارية مرفوعا: «إني عند اللَّه لمكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته» .
وكذا أخرجه أحمد، والدارميّ في مسنديهما، وأبو نعيم والطبراني، من حديث ابن عباس، قال: قيل: يا رسول اللَّه، متى كتبت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» .
وأما الّذي على الألسنة بلفظ
«كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» ،
فلم نقف عليه بهذا اللفظ، فضلا عن زيادة:
«وكنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين» .
وقد قال شيخنا- الحافظ ابن حجر- في بعض الأجوبة عن الزيادة: إنها ضعيفة، والّذي قبلها قوي. (المقاصد الحسنة) : 520- 521، حديث رقم (837) .
وقال الزركشي: لا أصل له بهذا اللفظ، قال السيوطي في (الدر) : وزاد العوام: «ولا آدم ولا ماء ولا طين» ، لا أصل له أيضا، وقال القاري: يعني بحسب مبناه، وإلا فهو صحيح باعتبار معناه.
وروى الترمذي أيضا عن أبي هريرة، أنهم قالوا: يا رسول اللَّه، متى وجبت لك النبوة؟ قال:
«وآدم بين الروح والجسد» ، وفي لفظ: متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد» . وعن الشعبي، قال رجل: يا رسول اللَّه متى استنبئت؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ مني الميثاق» .
وقال التقي السبكي: فإن قلت: النبوة وصف، لا بدّ أن يكون الموصوف به موجودا، وإنما يكون بعد أربعين سنة، فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله؟ قلت: جاء أن اللَّه تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون بقوله: «كنت نبيا» ، إلى روحه الشريفة، أو حقيقته، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعرفها خالقها، ومن أمدّه بنور آلهي.
ونقل العلقميّ عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده مرفوعا أنه قال: «كنت نورا بين يدي ربي عزّ وجلّ قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. (كشف الخفا ومزيل الالتباس) : 2/ 129، حديث رقم (2007) .(3/119)
يقل: كنت إنسانا، ولا كنت موجودا، أو ليست النبوة إلا بالشرع المقدر عليه من عند اللَّه تعالى؟ فأخبر سبحانه وتعالى أنه عليه السلام صاحب النبوة قبل وجوده في الأنبياء في الدنيا وهو روح قبل اتخاذه تعالى الأجسام الإنسانية، فكانت الأنبياء عليهم السلام في هذا العالم نواب محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من آدم إلى عيس عليهما السلام، وإلى هذا الإشارة بقوله عليه السلام: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني، وكذلك لو كان محمد صلى اللَّه عليه وسلّم موجودا بجسمه من لدن آدم عليه السلام إلى زمان وجوده، لكان جميع بني آدم تحت شريعته، ولهذا لم يبعث بشريعة عامة إلا هو صلى اللَّه عليه وسلّم، فإنه الملك والسيد، وكل رسول إنما بعث إلى قوم مخصوصين، ولم تعم، فمن زمن آدم إلى زمن بعثة محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وإلى يوم القيامة ملكه، وله يوم القيامة التقدم أيضا على جميع الرسل مع السيادة، فكانت روحانيته صلى اللَّه عليه وسلّم روحانية كل رسول موجودة، والإمداد يأتي إليهم من روحه الطاهرة بما يظهر منهم من الشرائع والعلوم في زمن وجودهم رسلا، وكان تشريعهم الشرائع كما كان علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وغيرهما من الصحابة رضي اللَّه عنهم يقضون في زمان وجود جسم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكما يكون عيسى عليه السلام حين ينزل آخر الزمان بشرع محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، لكن لما لم يوجد صلى اللَّه عليه وسلّم في الحسّ نسب كل شرع إلى من بعث به، وهو في الحقيقة شرع محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وإن كان مفقود العين، كما يكون صلى اللَّه عليه وسلّم مفقود العين في زمان نزول عيسى وحكمه بالشرع المحمدي، وكون محمد صلى اللَّه عليه وسلّم نسخ اللَّه بشرعه جميع الشرائع، لا يخرجها النسخ عن أن تكون من شرعه، فإن اللَّه تعالى قد أشهدنا في القرآن والسنة النسخ مع إجماعنا واتفاقنا على أنه شرعه، فنسخ بالمتأخر، فكان هذا النسخ الموجود في القرآن والسنة المحمدية تنبيها لنا على أن نسخه لجميع الشرائع المتقدمة لا يخرجها عن كونها شرعا له، وكان نزول عيسى آخر الزمان حاكما بغير شرعه الّذي كان عليه في زمان رسالته، وحكمه بشرع محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أدلّ دليل على أنه لا حكم لأحد من الأنبياء مع وجود محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أو وجود ما قرره من الحكم، فخرج من هذا كله أن محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم ملك وسيد على جميع بني آدم، وأن جميع من تقدمه كان ملكا له، والحاكمون فيه كانوا نوابا عنه، فإن قلت: قال اللَّه تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ(3/120)
اقْتَدِهْ [ (1) ] ، قلت: هذا صحيح، فقد قال تعالى: فَبِهُداهُمُ، وهداهم من اللَّه وهو شرعه صلى اللَّه عليه وسلّم، أي الزم شرعك الّذي أظهرته نوّابك من إقامة الدين وعدم التفرق فيه، ولم يقل سبحانه: فبهم أقتد، وكذا قال سبحانه: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ (2) ] وهو الدين، فهو صلى اللَّه عليه وسلّم مأمور باتباع الدين، فإن أصل الدين إنما هو من اللَّه تعالى لا من غيره، وأين هذا من قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني؟ فأضاف الاتباع إليه، وأمر هو صلى اللَّه عليه وسلّم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء، فإن السلطان الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النائب بمراسمه، فهو الحاكم في الحقيقة غيبا وشهادة، مما قيل في شرفه:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب [ (3) ]
فانظر ما أبدع هذا الفضل الّذي لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، الّذي لم ينتبه إليه إلا من شاء اللَّه، وقليل ما هم، واللَّه يختص برحمته من يشاء.
***
__________
[ (1) ] الأنعام: 90.
[ (2) ] النحل: 123.
[ (3) ] البيت للنابغة الذبيانيّ.(3/121)
وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى اللَّه عليه وسلّم
فاعلم أن الإيمان به صلى اللَّه عليه وسلّم هو التصديق بنبوته وإرسال اللَّه تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به من اللَّه وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول اللَّه، فإذا اجتمع التصديق بالقلب والنطق بالشهادة باللسان، تم الإيمان به والتصديق له، قال اللَّه تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [ (1) ] ، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (2) ] ، وقال:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ [ (3) ] الآية، فالإيمان بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم واجب لا يتم الإيمان إلا به، ولا يصح الإسلام إلا معه، وقد تقرر بما تقدم ثبوت نبوته وصحة رسالته، فوجب الإيمان به وتصديقه فيما أتى به وتعيّن ذلك، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً [ (4) ] ، وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ (5) ] ، وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [ (6) ] ، وقال: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [ (7) ] ، أي على رسالتك يشهد لك بإظهار المعجزات على صدقك، إذ المعجزة في قوة قول اللَّه تعالى: صدق عبدي في أنه رسول، والثانية مقررة للأولى، لأنه إنما تثبت عموم دعوته بإخباره، وما ورد على لسانه، وخبره إنما يقبل إذا ثبت صدقه، وصدقه إنما ثبت بالمعجزات، فأذن نظم الدليل هكذا: محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أتي بالمعجزات فهو صادق، وكل صادق يجب قبول خبره بعموم دعوته، وهو المطلوب.
وخرج مسلم من حديث يزيد بن زريع قال: حدثنا روح عن العلاء بن
__________
[ (1) ] التغابن: 8.
[ (2) ] الفتح: 8.
[ (3) ] الفتح: 13.
[ (4) ] الفتح: 13.
[ (5) ] سبأ: 28.
[ (6) ] الأعراف: 158.
[ (7) ] النساء: 79.(3/122)
عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 314- 315، كتاب الإيمان، باب (8) الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى اللَّه تعالى، وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشعائر الإسلام، حديث رقم (32) ، (33) ، (34) ، (35) ، (36) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه فمن قال لا إله إلا اللَّه فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على اللَّه» ،
قال الخطابي رحمه اللَّه: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا اللَّه، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف.
قال: ومعنى حسابه على اللَّه: أي فيما يستسرون به ويخفونه، دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة. قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسّر الكفر قبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل. ويحكى ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل رضي اللَّه عنهما. هذا كلام الخطابي.
وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا اللَّه، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بها مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلا اللَّه، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في
الحديث الآخر: «وأني رسول اللَّه، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة» .
هذا كلام القاضي عياض.
قال الحافظ ابن حجر: ولا بدّ مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، كما جاء
في الرواية الأخرى لأبي هريرة، هي مذكورة في الكتاب: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بي، وبما جئت به» .
واللَّه أعلم.
واختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق- وهو الّذي ينكر الشرع جملة- فذكروا فيه خمسة أوجه، لأصحابنا أصحها، والأصوب منها قبولها مطلقا للأحاديث الصحيحة المطلقة.(3/123)
على اللَّه [ (1) ] .
وقال البخاري: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه. ذكره في كتاب الإيمان.
__________
[ (1) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فإذا فعلوا ذلك» ،
فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «عصموا»
أي منعوا، وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الّذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حسابهم على اللَّه» ،
أي في أمر سرائرهم، ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام، أو على سبيل التشبيه، أي هو كالواجب على اللَّه في تحقيق الوقوع، وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم فيه، ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد، الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.
فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك مؤدي الجزية والمعاهد؟
الجواب من أوجه:
أحدها: دعوى النسخ، بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ.
ثانيها: أن يكون من العام الّذي خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب. فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم.
ثالثها: أن يكون من العام الّذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله صلى اللَّه عليه وسلّم «أقاتل الناس» ، أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: «أمرت أن أقاتل المشركين» . فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعادين ولا فيمن منع الجزية، أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية، بدليل الآية.
رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها، التعبير عن إعلاء كلمة اللَّه، وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة.
خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها.
سادسها: أن يقال الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا بما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتي فيه ما في الثالث وهو آخر الأجوبة. واللَّه تعالى أعلم (فتح الباري) : 1/ 102- 105، كتاب الإيمان باب (17) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم (25) .(3/124)
وخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن بريد عن يحى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنيّ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن [الحميري] [ (1) ] حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسألناه عن ما يقول [هؤلاء] [ (2) ] في القدر فوفق لنا عبد اللَّه بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، كان أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، [قال:
فإذا] [ (3) ] لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والّذي يحلف به
__________
[ (1) ] في (خ) : «الحميدي» والتصويب من رواية مسلم.
[ (2) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (3) ] في (خ) : «فقال إذا» والتصويب من رواية مسلم.
قوله: «فاكتنفته أنا وصاحبي» ، يعني صرنا في ناحيتيه، ثم فسّره فقال: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، وكنفا الطائر جناحاه، وفي هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم، وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به.
قوله: «فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ» معناه يسكت ويفوضه إليّ لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني، فقد جاء عنه في رواية «لأني كنت أبسط لسانا» .
قوله: «ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم» ، هو بتقديم القاف على الفاء، ومعناه يطلبونه ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل معناه يجمعونه، رواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان «يتفقرون» - بتقديم الفاء- وهو صحيح أيضا، معناه يبحثون عن غامضه، ويستخرجون خفيّه. وروى في غير مسلم: «يتقفون» بتقديم القاف، وحذف الراء، وهو صحيح أيضا، ومعناه يتتبعون.
قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: «يتقعرون» بالعين، وفسّره بأنهم يطلبون قعره، أي غامضه وخفيّه. ومنه تقعّر في كلامه إذا جاء بالغريب منه، وفي رواية أبي يعلي الموصلي: «يتفقهون» بزيادة الهاء، وهو ظاهر.
قوله: «وذكر من شأنهم» . هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحى بن يعمر، والظاهر أنه من ابن بريدة الراويّ، عن يحى بن يعمر، وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء، وصفهم بالفضيلة في العلم، والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به.
قوله: «يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف» ، هو بضم الهمزة والنون، أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من اللَّه تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل، وهذا القول قول غلاتهم، وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضلّ وافترى. عافانا اللَّه وسائر المسلمين.(3/125)
عبد اللَّه بن عمر لو أن لأحد مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل اللَّه ما قبله اللَّه منه حتى يؤمن بالقدر، ثم
قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال بينما نحن عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فعجبنا له، يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال:
صدقت، قال: [فأخبرني] [ (1) ] عن الإحسان، قال: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: [فأخبرني] [ (1) ] عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها، [قال:] [ (2) ] [أمارتها] [ (3) ] أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة [العالة] [ (4) ] رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: اللَّه
__________
[ () ] قوله: «قال- يعني ابن عمر رضي اللَّه عنهما-: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والّذي يحلف به عبد اللَّه بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل اللَّه منه حتى يؤمن بالقدر» ، هذا الّذي قاله ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ظاهر في تكفير القدرية.
قال القاضي عياض رحمه اللَّه: هذا في القدرية الأول، الذين نفوا تقدم علم اللَّه تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة.
قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة، فيكون من قبيل كفران النعم، إلا أن قوله: ما قبله اللَّه منه، ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر، إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل عمله لمعصيته وإن كان صحيحا، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة، غير محوجة إلى القضاء عند جمهور العلماء، بل بإجماع السلف، وهي غير مقبولة، فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 1/ 259، كتاب الإيمان، حديث رقم (1) .
[ (1) ] في (خ) : «أخبرني» والتصويب من رواية مسلم.
[ (2) ] زيادة للسياق من رواية مسلم.
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] زيادة من رواية مسلم.(3/126)
ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. هذا الحديث انفرد به مسلم [ (1) ] ، ولم يخرجه البخاري، وأخرجه أبو داود من طريق ابن بريدة بمثله
أو
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر اللَّه سبحانه وتعالى، وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه، حديث رقم (1) .
قوله: «لا يرى عليه أثر السفر» ضبطناه بالياء المثناة من تحت، المضمومة، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العدوي هنا: «نرى» بالنون المفتوحة، وكذا هو في مسند أبي يعلي الموصلي، وكلاهما صحيح.
قوله: «ووضع كفيه على فخذيه» ، معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس على هيئة المتعلم. واللَّه تعالى أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ،
هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى اللَّه عليه وسلّم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه، على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها، إلا أتي به،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: أعبد اللَّه في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان،
فإن التتميم المذكور في حال العيان، إنما كان لعلم العبد باطلاع اللَّه سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذه الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى، في إتمام الخشوع والخضوع، وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم، واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال اللَّه تعالى مطلعا عليه في سرّه وعلانيته.
قال القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه.
قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة، ألّفنا كتابنا الّذي سميناه: [المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان] ، إذ لا يشذّ شيء من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات، عن أقسامه الثلاثة. واللَّه تعالى أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ،
فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما، إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه، وتقواه، ووفور علمه.
قوله: «أن تلد الأمة ربتها» ، وفي الرواية الأخرى «ربها» على التذكير، وفي الأخرى «بعلها»
وقال: يعني السراري، ومعنى ربها وربتها، سيدها ومالكها، وسيدتها ومالكتها، قال الأكثرون من العلماء: هو إخبار عن كثره السراري وأولادهم، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال(3/127)
__________
[ () ] الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما يعلمه بقرينة الحال، أو عرف الاستعمال.
وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي، وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشترين، حتى يشتريها ابنها ولا يدري، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد، فإنه متصور في غيرهن، فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير سيدها بشبهة، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد.
وأما بعلها، فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد، فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه. قال أهل اللغة: بعل الشيء ربه ومالكه. وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى:
أَتَدْعُونَ بَعْلًا: أي ربّا، وقيل: المراد بالبعل في الحديث، الزوج، ومعناه نحو ما تقدم، أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا أيضا معنى صحيح، إلا أن الأول أظهر، لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى كان أولى، واللَّه أعلم.
واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة، والأخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أنكر عليهما، فإنه ليس كل ما أخبر صلى اللَّه عليه وسلّم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما، فإن تطاول الرعاء في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشّر، والمباح والمحرم، والواجب وغيره، واللَّه أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» ،
أما العالة فهم الفقراء، والعائل الفقير، والعيلة الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر، والرعاء بكسر الراء وبالمد، ويقال فيهم الرعاة بضمّ الراء وزيادة الهاء بلا مدّ، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والقافة، تبسط لهم الدنيا، حتى يتباهون في البنيان. واللَّه أعلم.
قوله: «فلبث مليا» هكذا ضبطناه، لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير من الأصول المحققة «لبثت» بزيادة تاء المتكلم، وكلاهما صحيح، وأما «مليا» بتشديد الياء، فمعناه وقتا طويلا، وفي رواية أبي داود والترمذي، أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي شرح السنة للبغوي بعد ثالثة، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله
في حديث أبي هريرة بعد هذا بم أدبر الرجل فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ردّوا عليّ الرجل، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «هذا جبريل»
فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي اللَّه عنه لم يحضر قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي اللَّه عنه بعد ثلاث، إذا لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين، واللَّه أعلم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» ،
فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها(3/128)
نحوه، وقال فيه: فلبثت مليا [ (1) ]
وخرجه الترمذي بنحو حديث مسلم وقال في آخره: فلقيني النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك بثلاث فقال: يا عمر، أتدري من السائل؟
ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم [ (2) ] .
قال القاضي عياض: فقد قرر أن الإيمان محتاج [ (3) ] إلى العقد بالجنان، والإسلام
__________
[ () ] دينا. واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف، والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام. ومن فوائد هذا الحديث:
[1] أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع.
[2] أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله، غير هائب منه ولا منقبض.
[3] أنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله. (المرجع السابق) : 1/ 269- 275.
[ (1) ] (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 887، باب (17) في القدر، حديث رقم (3928- 4695) ، (تحفة الأحوذي) : 12/ 300، كتاب السنة، باب (16) ، حديث رقم (4681) .
[ (2) ]
وأخرجه أيضا ابن ماجة، (صحيح ابن ماجة) : 1/ 16- 17، حديث رقم (53- 63) ، (54- 64) ، وقال في آخره: «ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذلك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا اللَّه، فتلا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] .
وأخرجه أيضا النسائي، وقال في أوله: «عن أبي هريرة وأبي ذر قالا: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، وإنا لجلوس ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مجلسه، إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها، وأطيب الناس ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلّم في طرف البساط فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام. قال: أدنو يا محمد،.. فما زال يقول: أدنو مرارا حتى وضع يده على ركبتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: يا محمد، أخبرني ما الإسلام ... وساق الحديث باختلاف يسير. (صحيح سنن النسائي) : 3/ 1025- 1026، كتاب (47) الإيمان وشرائعة، باب (6) صفة الإيمان والإسلام، حديث رقم (4618) .
وأخرجه الإمام أحمد في المسند، وقال في آخره بعد قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم، قال: وسأله رجل من جهينة، أو مزينة فقال: يا رسول اللَّه، فيما نعمل؟ أفي شيء قد خلا أو مضى؟
أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا أو مضى، فقال رجل أو بعض القوم: يا رسول اللَّه فيما نعمل؟ قال: أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار. (مسند أحمد) : 1/ 46، مسند عمر بن الخطاب، حديث رقم (185) .
[ (3) ] في (خ) «يحتاج» ، وما أثبتناه من (الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض) .(3/129)
به مضطر إلى النطق باللسان، وهذه الحالة المحمودة التامة، وأما الحال المذمومة:
فالشهادة باللسان دون تصديق القلب، وهذا هو النفاق، قال: وللفرق بين القول والعقد ما جعل في حديث جبريل عليه السلام، الشهادة من الإسلام، والتصديق من الإيمان، وبقيت حالتان [أخريان بين هذين] [ (1) ] .
إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم [ (2) ] قبل اتساع وقت للشهادة بلسانه، فاختلف فيه فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة به، ورآه بعضهم مؤمنا مستوجبا للجنة لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان [ (3) ] ، فلم يذكر سوى ما في القلب، وهذا مؤمن بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره، وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.
الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها جملة، ولا استشهد في عمره ولا مرة، فهذا اختلف فيه أيضا فقيل: هو مؤمن لأنه مصدق، والشهادة من جملة الأعمال، فهو عاص بتركها غير مخلد [في النار] [ (4) ] ، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده بشهادة، إذ الشهادة إنشاء عقد وإلزام إيمان، وهي مرتبطة مع العقد، ولا يتم التصديق مع المهملة إلا بها، وهذا هو الصحيح.
وخرج الحاكم من حديث عبد الرازق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن هيثم، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار،
فجعلت أقول:
أين [ (5) ] تصديقها في كتاب اللَّه، [وقلّ ما سمعت حديثا عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلا وجدت
__________
[ (1) ] تكملة من المرجع السابق.
[ (2) ] في (خ) و (الشفا) «يحترم» بالحاء، وما أثبتناه أجود للسياق، حيث اخترم فلان عنّا: مات وذهب، واخترمته المنية من بين أصحابه: أخذته من بينهم، واخترمهم الدهر وتخرّمهم أي اقتطعهم واستأصلهم، ويقال: خرمته الخوارم إذا مات. (لسان العرب) : 12/ 172 مادة خرم.
[ (3) ] في (خ) : «الإيمان» ، وما أثبتناه من (الشفا) .
[ (4) ] زيادة للسياق من هامش المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) : «أن» ، ما أثبتناه من (المستدرك) : 2/ 372، كتاب التفسير، تفسير سورة هود عليه السلام، حديث رقم (3309/ 446) .(3/130)
تصديقه في كتاب اللَّه تعالى] [ (1) ] ، حتى وجدت هذه الآية: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ (2) ] ، قال: الأحزاب الملل كلها، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
***
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وليست في (المستدرك) .
[ (2) ] هود: 17.(3/131)
وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتي به صلى اللَّه عليه وسلّم
قال اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ (1) ] ، وقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ (2) ] ، فجمع تعالى بينهما بواو العطف المشتركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [ (3) ] ، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [ (4) ] ، وقال:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (5) ] ، وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [ (6) ] الآية، وقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ (7) ] ، فجعل طاعة رسوله طاعته تعالى، وقرن طاعته بطاعة رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه، فبيّن أنه سبحانه وتعالى فرض على الكافة بأسرها طاعة رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء، كما فرض تعالى طاعته ولم يقل من طاعتي، أو من كتابي أو بأمري، وحين فرض أمره ونهيه صلى اللَّه عليه وسلّم على الخلق طرا كفرض من التنزيل، لا يزاد في ذلك، ولا يطلب فيه تنبيه، كما أخبر تعالى عن قوم موسى عليه السلام أنهم قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [ (8) ] ، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أولى بأمته وبأموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم منهم بأنفسهم، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ (9) ] ، وقع ذلك منهم بوفاقهم وكراهيتهم، فإنه تعالى حكم على من وجد في نفسه شيئا من
__________
[ (1) ] النساء: 59، وفي (خ) : «ورسوله» .
[ (2) ] آل عمران: 32.
[ (3) ] النور: 54.
[ (4) ] النساء: 80.
[ (5) ] الحشر: 7.
[ (6) ] النساء: 69.
[ (7) ] النساء: 64.
[ (8) ] البقرة: 55.
[ (9) ] الأحزاب: 6.(3/132)
حكمه صلى اللَّه عليه وسلّم وقضائه بالخروج من الإيمان، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (1) ] ، فأقسم سبحانه وتعالى بأن أحدا لا يؤمن حتى يحكّم رسوله محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم مع تحكيمه إياه لا يجد في نفسه كرها لما قضى به عليه مما هو مخالف لهواه، بل يرضى بما حكم به، ويسلّم لأمره تسليما لا شائبة فيه من اعتراض ولا تعقيب.
وانظر- أعزك اللَّه وهداك- كيف أقسم تعالى بإضافة الرب إلى كاف الخطاب، يتبين لك تعظيمه تعالى للرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، حتى هنا: غاية، أي ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين، وفِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، في كل أمر دنيوي وأخروي وقع بينهم فيه تنازع وتجاذب، ومعنى يُحَكِّمُوكَ: يجعلوك حكما، وفي الكلام حذف تقديره: فتقضي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا، أي ضيقا من حكمك.
وقال مجاهد: شكّا، لأن الشاكّ في ضيق من أمره حتى يلوح له الشأن، وقال الضحاك: إثما، أي سبب إثم، والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضى، وقيل: هما وحزنا، ويسلموا: أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك لا يعارضون فيه بشيء، قاله ابن عباس رضي اللَّه عنهما والجمهور.
وقيل: معناه ويسلموا: أي سارعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي، وأكد تعلق الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة.
قال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول في التزام محبته والتسليم لما جاء به، وقالوا: وما أرسل اللَّه من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه، وقالوا: من يطع الرسول في سنته يطع اللَّه في فرائضه.
وسئل سهل بن عبد اللَّه عن شرائع الإسلام فقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [ (2) ] ، وقال السمرقندي: يقال: أطيعوا اللَّه في فرائضه والرسول في سننه، وقيل: أطيعوا اللَّه فيما حرّم عليكم والرسول فيما بلغكم، ويقال: أطيعوا اللَّه
__________
[ (1) ] النساء: 65.
[ (2) ] الحشر: 7.(3/133)
بالشهادة له بالربوبية، والنبي بالشهادة له بالنّبوّة.
وخرج البخاري في كتاب الأحكام من حديث الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع [من] [ (1) ] أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصى أميري فقد عصاني [ (2) ] . وخرجه مسلم [ (3) ] مثله
__________
[ (1) ] زيادة في السياق.
[ (2) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه» ،
هذه الجملة منتزعه من قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، أي أني لا آمر إلا بما أمر اللَّه به، فمن فعل ما آمره به فإنما أطاع من أمرني أن آمره، ويحتمل أن يكون المعنى لأن اللَّه أمر بطاعتي فمن أطاعني فقد أطاع أمر اللَّه له بطاعتي، وفي المعصية كذلك. والطاعة هي الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهي عنه، والعصيان بخلافه.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني» ، في رواية (همام) ، و (الأعرج) وغيرهما عند مسلم: «ومن أطاع الأمير» ،
ويمكن رد اللفظين لمعنى واحد، فإن كل من يأمر بحق وكان عادلا فهو أمير الشارع، لأنه تولى بأمره وبشريعته، ويؤيده توحيد الجواب في الأمرين، وهو
قوله: صلى اللَّه عليه وسلّم: «فقد أطاعني» ،
أي عمل بما شرعته، وكأن الحكمة في تخصيص أميره بالذكر، أنه المراد وقت الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث.
وأما الحكم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ووقع
في رواية همام أيضا: «ومن يطع الأمير فقد أطاعني» بصيغة المضارعة، وكذا «ومن يعص الأمير فقد عصاني»
وهو أدخل في إرادة تعميم من خوطب ومن جاء بعد ذلك.
قال ابن التين: قيل: كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة، فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال هذا القول يحثهم على طاعة من يؤمرهم عليهم، والانقياد لهم، إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولا هم البلاد، فلا يخرجوا عليهم، لئلا تفترق الكلمة.
قال الحافظ في الفتح: هي عبارة الشافعيّ في (الأم) ، ذكره في سبب نزولها، وعجبت لبعض شيوخنا الشراح من الشافعية، فكيف قنع بنسبة هذا الكلام إلى ابن التين، معبرا عنه بصيغة «قيل» ، وابن التين إنما أخذه من كلام الخطابي؟
ووقع عند أحمد، وأبي يعلي، والطبراني، من حديث ابن عمر، قال: «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في نفر من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع اللَّه، وأن من طاعة اللَّه طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد، قال: فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم» . وفي لفظ: «أئمتكم» .
وفي الحديث وجوب طاعة ولاه الأمور، وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة في الأمر بطاعتهم، المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد، واللَّه أعلم. (فتح الباري) :
13/ 139- 141، كتاب الأحكام، باب (1) أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، حديث رقم (7137) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 464، كتاب الإمارة، باب (8) وجوب طاعة الأمراء من غير(3/134)
سواء، فطاعة الرسول من طاعة اللَّه، إذ اللَّه أمر بطاعته، وطاعته امتثال لما أمر اللَّه به وطاعة له.
وقد حكى اللَّه تعالى عن الكفار في دركات [ (1) ] جهنم يوم تقلب وجوههم في النار يقولون: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [ (2) ] فتمنوا طاعته حيث لا ينفعهم التمني.
وخرج البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم [ (3) ] .
وخرجه البخاري من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان
__________
[ () ] معصية وتحريمها في المعصية، حديث رقم (32) ، (33) :
قال الإمام النووي: أجمع العلماء على وجوبها في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، قال العلماء:
المراد بأولي الأمر، من أوجب اللَّه طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم. وقيل: هم العلماء، وقيل: هم الأمراء والعلماء، وأما من قال: الصحابة خاصة فقد أخطأ. (المرجع السابق) .
[ (1) ] دركات النار: منازل أهلها، والنار دركات، والجنة درجات، والدّرك إلى أسفل، والدّرج إلى فوق.
(لسان العرب) : 10/ 422 مادة درك.
[ (2) ] الأحزاب: 66.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 118، كتاب الفضائل، باب (37) توقيره صلى اللَّه عليه وسلّم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك، حديث رقم (130) .
قال الإمام النووي: مقصود أحاديث الباب أنه صلى اللَّه عليه وسلّم نهاهم عن إكثار السؤال والابتداء بالسؤال عما لا يقع، ذكره ذلك لمعان:
* منها أنه ربما كان سببا لتحريم شيء على المسلمين فيلحقهم به المشقة.
* ومنها أنه ربما كان في الجواب ما يكرهه السائل ويسوؤه، ولهذا أنزل اللَّه تعالى في ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ* ومنها أنهم أحفوه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمسألة، والحفوة المشقة والأذى، فيكون ذلك سببا لهلاكهم.
(المرجع السابق) .(3/135)
قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ذكره في كتاب الاعتصام [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 312، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (2) ، الاقتداء بسنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7288) .
قال الإمام النووي: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها.
وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبّر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود، إذ لا يتصور منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه.
* واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن [ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه] ، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد.
فإن قيل: أن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل، والّذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة، لا يدل على المدعي مع الاعتناء به، بل هو من جهة الكف، إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي.
وعبّر الطوفي في هذا الموضوع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف، واستدل له بجواز أكل المضطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.
وقال ابن فرج في (شرح الأربعين) : قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فاجتنوه» ، هو على إطلاقه، حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، كما نطق به القرآن.
والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.(3/136)
__________
[ () ] وادعى بعضهم أن قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي، أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار.
وزعم بعضهم أن قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، نسخ قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ. والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بحق تقاته، امتثال أمره واجتناب نهية مع القدرة لا مع العجز.
واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل الواجب والمندوب.
وأجيب بأن قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ، يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر.
وقال الفاكهاني: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.
واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه. وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به، لم يرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن.
واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه، وقيل: يقتضيه، وقيل: يتوقف فيما زاد على مرة، وحديث الباب قد يتمسك به لذلك، لما في سببه أن السائل قال في الحج: أكل عام؟ فلو كان مطلقة يقتضي التكرار أو عدمه لم يحسن السؤال ولا العناية بالجواب. وقد يقال: إنما سأل استظهارا أو احتياطا.
وقال المازري: يحتمل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد تكرار، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة الأمر. وقد تمسك به من قال بإيجاب العمرة، لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة، فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة.
* واستدل به على أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم كان يجتهد في الأحكام
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لو قلت نعم لوجبت» ،
وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحى إليه ذلك في الحال.
* واستدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة، حتى يثبت المنع من قبل الشارع.
* واستدل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك.
قال البغوي في (شرح السنة) : المسائل على وجهين:
أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز، بل مأمور به لقوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما.
ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث، واللَّه تعالى أعلم،(3/137)
وخرج البخاري ومسلم من حديث أبي أمامة عن بريدة عن أبي بريدة عن أبي موسى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إنما مثلي ومثل ما بعثني اللَّه به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينيّ وإني أنا النذير العريان، فالنجاء [النجاء] [ (1) ] ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني [فاتبع] [ (2) ] ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق.
لفظهما فيه متقارب، ولم يقل فيه مسلم: فنجوا. ذكره البخاري في كتاب الاعتصام [ (3) ] .
..
__________
[ () ] ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف،
فعند أحمد من حديث معاوية: «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم نهي عن الأغلوطات» ،
قال الأوزاعي: هي شداد المسائل، وقال الأوزاعي أيضا: «إن اللَّه إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليظ، فلقد رأيتهم أقل الناس علما» .
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: «المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل» ، وقال ابن العربيّ: «كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع» ، قال: «وإنه لمكروه إن لم يكن حراما، إلا للعلماء، فإنّهم فرعوا ومهدوا، فنفع اللَّه من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم.
وينبغي أن يكون محل الكراهية للعالم، إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله، واللَّه المستعان.
* واستدل به على أن الاشتغال بالأهم المتاح إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه في الحال، فكأنه قال:
عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع.
فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن اللَّه ورسوله، ثم يجتهد في تفهم ذلك، والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العلميات، يتشاغل بتصديقه واعتقاد أحقيته، وإن كان من العمليات، بذل وسعه في القيام به فعلا وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عن سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع، مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال. (المرجع السابق) :
325- 328.
[ (1) ] في (خ) : «النجاء» مرتين خلافا لرواية البخاري.
[ (2) ] في (خ) : «واتبع» ، وما أثبتناه من رواية البخاري.
[ (3) ] (فتح الباري) : 13/ 311، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب (2) الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7283) .(3/138)
وفي كتاب الرقاق [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 11/ 383، كتاب الرقاق، باب (26) الانتهاء عن المعاصي، حديث رقم (6482) .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما بعثني اللَّه» ،
العائد محذوف، والتقدير بعثني اللَّه به إليكم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أتى قوما»
التنكير فيه للشيوع.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «بعيني» ،
بالإفراد، وللكشميهني بالتثنية بفتح النون والتشديد، قيل: ذكر العينين إرشادا إلى أنه تحقّق عنده ما أخبر عنه، تحقّق من رأى شيئا بعينه، لا يعتريه وهم، ولا يخالطه شك.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وإني أنا النذير العريان» ،
قال ابن بطال: النذير العريان، رجل من خثعم، حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة، فقطع يده ويد امرأته، فانصرف إلى قومه فحذرهم، فضرب به المثل في تحقيق الخبر.
قال الحافظ في الفتح: وسبق إلى ذلك يعقوب بن السكيت وغيره، وسمّى الّذي حمل عليه (عوف ابن عامر اليشكري) ، وأن المرأة كانت من بني كنانة، وتعقب باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث، لأنه ليس فيها أنه كان عريانا.
وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن كعب، لما قتل المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود- وكان جار المنذر- خشيت على قومها، فركبت جملا ولحقت بهم وقالت: أنا النذير العريان.
ويقال: أول من قاله أبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة وقد سقط لحمه. وذكر أبو بشر الآمدي:
أن زنبرا- بزاي ونون ساكنة ثم موحدة- ابن عمرو الخثعميّ، كان ناكحا في آل زبيد، فأرادوا أن يغزوا قومه، وخشوا أن ينذر بهم، فحرسه أربعة، فصادف منهم غرة، فقذف ثيابه وعدا، وكان من أشدّ الناس عدوا فأنذر قومه.
وقال غيره: الأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فسلبوه وأسروه، فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقة لهذه القرائن، فضرب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك، لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقة، تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه.
ويؤيد
ما أخرجه الرامهرمزيّ في الأمثال، وعند أحمد أيضا بسند جيد، من حديث عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه قال: «خرج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم فنادى ثلاث مرات: أيها الناس، مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم، فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو، فأقبل لينذر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم ثلاث مرات» . وأحسن ما فسّر به الحديث من الحديث.
وأخرجه أبو الشيخ بنحوه في كتاب (الأمثال في الحديث النبوي) ، وقال: رجاله رجال الصحيح.
ص 297، حديث رقم (253) .
وهذا كله يدل على أن العريان من التعري، وهو المعروف في الرواية.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فالنجاء النجاء» ،
بالمد فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية، وبالقصر فيهما تخفيفا، وهو منصوب على الإغراء، أي اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك(3/139)
وخرج البخاري من حديث سعيد بن ميناء قال: حدثنا- أو سمعت- جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول: جاءت ملائكة إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا:
[بأن] [ (1) ] لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل [من] [ (2) ] المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل [من] [ (2) ] المأدبة، فقالوا:
أولوها له بفقهها، [قال] [ (3) ] بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] ، فمن أطاع محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] فقد أطاع اللَّه، ومن عصى محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] فقد عصى اللَّه، ومحمد فرق بين
__________
[ () ] الجيش. قال الطيبي: في كلامه أنواع من التأكيدات:
* أحدها: «بعيني» . * ثانيهما: «وإني أنا» . * ثالثها: «العريان» ، لأنه الغاية في قرب العدو، ولأنه الّذي يختص في إنذاره بالصدق.
قوله: «فأطاعه طائفه» ، كذا فيه بالتذكير، لأن المراد بعض القوم.
قوله: «فأدلجوا» ، بهمزة قطع ثم سكون، أي ساروا أول الليل، أو ساروا الليل كله، على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة.
قوله: «على مهلهم» ، بفتحتين، والمراد به الهينة والسكون، وبفتح أوله وسكون ثانيه الإمهال، وليس مرادا هنا، وفي رواية مسلم «على مهلتهم» بزيادة تاء تأنيث، وضبطه النووي بضم الميم وسكون الهاء وفتح اللام.
قوله: «وكذبته طائفة» ، قال الطيبي: عبّر في الفرقة الأولى بالطاعة، وفي الثانية بالتكذيب، ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق، ويشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان.
قوله: «فصبّحهم الجيش» ، أي أتاهم صباحا، هذا أصله، ثم كثر استعماله، حتى استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان.
قوله: «فاجتاحهم» ، بجيم ثم حاء مهملة، أي استأصلهم، من جحت الشيء أجوحه إذا استأصلته، والاسم: الجائحة، وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة لأنها مهلكة.
قال الطيبي: شبه صلى اللَّه عليه وسلّم نفسه بالرجل، وإنذاره بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه، بمن كذّب الرجل في إنذاره ومن صدّقه.
[ (1) ] كذا في (خ) ورواية البخاري: «إن» .
[ (2) ] زيادات من رواية البخاري.
[ (3) ] كذا في (خ) ، ورواية البخاري «فقال» .(3/140)
الناس [ (1) ] [ (2) ] ...
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 13/ 310، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب
[ (2) ] الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7281) .
قوله: «حدثنا أو سمعت» ، القائل ذلك سعيد بن ميناء، والشّاك هو سليم بن حيان، شك في أيّ الصيغتين قالها شيخه سعيد.
قوله: «جاءت ملائكة» ، لم أقف على أسمائهم ولا أسماء بعضهم، ولكن
في رواية سعيد بن أبي هلال المعلقة عقب هذا عن الترمذي أن الّذي حضر في هذه القصة جبريل وميكائيل، ولفظة: «خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي..» ،
فيحتمل أنه كان مع كل منهما غيره. واقتصر في هذه الرواية على من باشر الكلام منهم ابتداء وجوابا، ووقع في حديث ابن مسعود عند الترمذي، وحسنه وصححه ابن خزيمة: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم توسّد فخذه فرقد، وكان إذا نام نفخ، قال: فبينا أنا قاعد، إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، اللَّه أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفة منهم عند رأس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وطائفة منهم عند رجليه.
قوله: «إن لصاحبكم هذا مثلا قال: فاضربوا له مثلا» ، كذا للأكثر، وسقط لفظ «قال» من رواية أبي ذر.
قوله: «فقال بعضهم: إنه نائم ... إلى قوله: يقظان» ، قال الرامهرمزيّ: هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال: رجل يقظ، إذا كان ذكي القلب، وفي حديث ابن مسعود، فقالوا بينهم: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا.
وفي رواية سعيد بن أبي هلال: فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: «اسمع سمع أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك» . ونحوه في حديث ربيعة الجرشي، عند الطبراني، زاد أحمد في حديث ابن مسعود، فقالوا: اضربوا له مثلا، ونؤول أو نضرب وأولوا، وفيه: ليعقل قلبك.
قوله: «مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة» ، في حديث ابن مسعود: «مثل سيد بنى قصرا» ، وفي رواية أحمد: «بنيانا حصينا ثم جعل فيها مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجاب أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه- أو قال- عذبه» . وفي رواية أحمد «عذب عذابا شديدا.
والمأدبة بسكون الهمزة وضم الدال بعدها موحدة، وحكى بالفتح، وقال ابن التين: عن أبي عبد الملك الضم والفتح لغتان فصيحتان،
وقال الرامهرمزيّ نحوه في حديث «القرآن مأدبة اللَّه»
قال:
وقال لي أبو موسى الحامض: من قاله بالضم أراد الوليمة، ومن قاله بالفتح أراد أدب اللَّه الّذي أدب به عباده. قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يتعين الضم.
قوله: «فبعث داعيا» ، في رواية سعيد: «ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه» .
قوله: «فقال بعضهم: أوّلوها بفقهها» ، قيل: يؤخذ منه حجة لأهل التعبير، أن التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه. قال ابن بطال: قوله: «أولوها له» يدل على أن الرؤيا ما عبرت في النوم، أ. هـ.
وفيه نظر لاحتمال الاختصاص بهذه القصة، لكون الرائي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، والمرئي الملائكة، فلا يطرد ذلك في حق غيرهم.(3/141)
__________
[ () ] قوله: «فقالوا: الدار الجنة» ، أي الممثل بها، زاد في رواية سعيد بن أبي هلال: «فاللَّه هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول اللَّه» . وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: «أما السيد فهو اللَّه رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، ومحمد الداعي» ، فمن اتبعه كان في الجنة.
قوله: «فمن أطاع محمدا فقد أطاع اللَّه» ، أي لأنه رسول صاحب المأدبة، فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة، وهو كناية عن دخول الجنة، ووقع بيان ذلك في رواية سعيد، ولفظه: «وأنت يا محمد رسول اللَّه، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها» .
قوله: «ومحمد فرق بين الناس» ، كذا لأبي ذر بتشديد الراء فعلا ماضيا، ولغيره بسكون الراء والتنوين، وكلاهما متجه. قال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركّب بالمركّب، مع قطع النظر عن مطابقة المفردات من الطرفين. أ. هـ.
وقد وقع في غير هذه الطريق ما يدل على المطابقة المذكورة، زاد في حديث ابن مسعود: «فلما استيقظ قال: سمعت ما قال هؤلاء، هل تدري من هم؟ قلت: اللَّه ورسوله أعلم، قال: هم الملائكة، والمثل الّذي ضربوا: الرحمن بنى الجنة ودعا إليها عباده»
الحديث.
تنبيه:
قال الحافظ في الفتح: تقدم في كتاب المناقب من وجه آخر عن سليم بن حيان بهذا الإسناد، «قال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة»
الحديث. وهو حديث آخر، وتمثيل آخر، فالحديث الّذي في المناقب- وهو الحديث رقم (3534) - يتعلق بالنّبوّة وكونه صلى اللَّه عليه وسلّم خاتم النبيين. وهذا يتعلق بالدعاء إلى الإسلام، وبأحوال من أجاب أو امتنع، وقد وهم من خلطهما كأبي نعيم في (المستخرج) ، فإنه لما ضاق عليه مخرج حديث الباب، ولم يجده مرويا عنده، أورد حديث اللبنة، ظنا منه أنهما حديث واحد، وليس كذلك لما بينته.
وسلّم الإسماعيلي من ذلك، فإنه لما لم يجده في مروياته،
أورده من روايته عن الفربري، بالإجازة عن البخاري بسنده، وقد روى يزيد بن هارون بهذا السند حديث اللبنة، أخرجه أبو الشيخ في (كتاب الأمثال) ، من طريق أحمد بن سنان الواسطي عنه، وساق بهذا السند حديث «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا» أ
لحديث، لكنه عن أبي هريرة لا عن جابر، وقد ذكر الرامهرمزيّ حديث الباب في (كتاب الأمثال) معلقا فقال: وروى يزيد بن هارون، فساق السند ولم يوصل سنده بيزيد، وأورد معناه من مرسل الضحاك بن مزاحم.
[ (2) ] زاد في رواية البخاري بعد قوله: «ومحمد فرّق بين الناس» ، تابعه قتيبة عن ليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال «عن جابر، خرج علينا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ... » .
قوله: «تابعه قتيبة عن ليث» ، يعني ابن سعد، «عن خالد» ، يعني ابن يزيد، وهو أبو عبد الرحيم المصري أحد الثقات.
قوله: «عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال: خرج علينا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وظاهر أن بقية الحديث مثله، وقد بينت ما بينهما من الاختلاف، وقد وصله الترمذي عن قتيبة بهذا السند، ووصله أيضا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، وأبو نعيم من طريق أبي العباس(3/142)
__________
[ () ] السراج، كلاهما عن قتيبة، ونسب السراج في روايته الليث وشيخه كما ذكرته. قال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد اللَّه.
قال الحافظ ابن حجر: وفائدة إيراد البخاري له، رفع التوهم عمن يظن أن طريق سعيد بن ميناء موقوفة، لأنه لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فأتى بهذه الطريق لتصريحها، ثم قال الترمذي: وجاء من غير وجه عن النبي بإسناد أصحّ من هذا. قال: وفي الباب عن ابن مسعود، ثم ساقه بسنده وصححه، وقد بينت ما فيه أيضا بحمد اللَّه تعالى. ووصف الترمذي له بأنه مرسل، يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني، فإنه بنحو سياقه وسنده جيد، وسعيد بن أبي هلال غير سعيد بن ميناء الّذي في السند الأول، وكل منهما مدني، لكن ابن ميناء تابعي، بخلاف ابن أبي هلال.
والجمع بينهما إما بتعدد المرئي، وهو واضح، أو بأنه منام واحد، حفظ فيه بعض الرواة ما لم يحفظ غيره، وتقدم طريق الجمع بين اقتصاره على جبريل وميكائيل في حديث، وذكره الملائكة بصيغة الجمع في الجانبين الدال على الكثرة في آخر، وظاهر رواية سعيد بن أبي هلال أن الرؤيا كانت في بيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لقوله: «خرج علينا فقال: إني رأيت في المنام» .
وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان بعد أن خرج إلى الجن فقرأ عليهم، ثم أغفى عند الصبح فجاءوا إليه حينئذ. ويجمع بأن الرؤيا كانت على ما وصف ابن مسعود، فلما رجع إلى منزله خرج على أصحابه فقصها، وما عدا ذلك فليس بينهما منافاة، إذ وصف الملائكة برجال حسان، يشير إلى أنهم تشكلوا بصورة الرجال.
وقد أخرج أحمد والبزار والطبراني، من طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، نحو أول حديث سعيد بن أبي هلال، لكن لم يسمّ الملكين، وساق المثل على غير سياق من تقدم، قال:
«إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر، انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك، إذ أتاهم رجل فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء، أتتبعوني؟ قالوا: نعم، فانطلق بهم فأوردهم، فأكلوا، وشربوا، وسمنوا، فقال لهم: إن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة: صدق، واللَّه لنتبعه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه» .
وهذا إن كان محفوظا قوى الحمل على التعدد، إما للمنام وإما لضرب المثل، ولكن عليّ بن زيد ضعيف من قبل حفظه. قال ابن العربيّ في حديث ابن مسعود: إن المقصود «المأدبة» ، وهو ما يؤكل ويشرب، ففيه رد على الصوفية الذين يقولون: لا مطلوب في الجنة إلا الوصال، والحق أن لا وصال لنا إلا بانقضاء الشهوات الجسمانية والنفسانية والمحسوسة والمعقولة، وجماع ذلك كله في الجنة.
(أ. هـ) .
وليس ما ادّعاه من المرد بواضح، قال: وفيه أن من أجاب الدعوة أكرم، ومن لم يجبها أهين، وهو بخلاف قولهم: من دعوناه فلم يجبنا فله الفضل علينا، فإن أجابنا فلنا الفضل عليه، فإنه مقبول في النظر، وأما حكم العبد مع المولى، فهو كما تضمنه هذا الحديث. (المرجع السابق) : 317- 320.(3/143)
وله من حديث فليح: حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي، قالوا: [يا رسول اللَّه] [ (1) ] ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي [ (2) ] » . ذكره والّذي قبله في كتاب الاعتصام.
***
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين تكملة من رواية البخاري.
[ (2) ] (فتح الباري) : 13/ 310، كتاب الاعتصام بالسنة، باب (2) الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث رقم (7280) .
قوله: «فليح» ، بالفاء والمهملة، مصغر، هو ابن سليمان المدني، وشيخه هلال بن علي، هو الّذي يقال له ابن ميمونة.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبي» ،
بفتح الموحّدة، أي امتنع، وظاهره أن العموم مستمر، لأن كلّا منهم لا يمتنع من دخول الجنة، ولذلك قالوا: «ومن يأبى» فبين لهم أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول، مجاز عن الامتناع عن سننه، وهو عصيان الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم.
وأخرج أحمد والحاكم من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج، عن أبي هريرة رفعه «لتدخلن الجنة إلا من أبي وشرد على اللَّه شراد البعير» ،
وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن أبي أمامة عن الطبراني، وسنده جيد، والموصوف بالإباء وهو الامتناع، إن كان كافرا فهو لا يدخل الجنة أصلا، وإن كان مؤمنا، فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل، إلا من شاء اللَّه تعالى.(3/144)
وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهداه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقد قال اللَّه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ (1) ] فوعد تعالى محبته ومغفرته [للذين] [ (2) ] اتبعوا الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم وآثروه على أهوائهم وما تجنح إليه نفوسهم، قال الحسن: إن أقواما قالوا: يا رسول اللَّه، إنا نحب اللَّه، فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية، وقيل إن كعب بن الأشرف وغيره قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، ونحن أشد حبا للَّه، فأنزل اللَّه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية، وقال الزجاج: معناه إن كنتم تحبون اللَّه أن تقصدوا طاعته فافعلوا ما أمركم، إذ محبة العبد للَّه والرسول طاعته لهما ورضاه بما أمر، ومحبة اللَّه لهم عفوه عنهم وإنعامه عليهم برحمته، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ (3) ] ، فأمر تعالى الكافة بمتابعته صلى اللَّه عليه وسلّم، ووعدهم الاهتداء باتباعه لأنه اللَّه تعالى أرسله بالهدى ودين الحق ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية، أي ينقادون لحكمك، يقال: سلم واستسلم وامتثل إذا انقاد، فجعل تعالى صحة إيمان خليقته بانقيادهم له صلى اللَّه عليه وسلّم ورضائهم بحكمه وترك الاعتراض عليه. وقال سهل في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [ (4) ] قال: بمتابعة السنة.
وخرج أبو داود من حديث ثور بن يزيد قال: حدثني خالد بن معدان قال:
حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الأعراف: 158.
[ (4) ] الفاتحة: 7.(3/145)
سارية [ (1) ] وهو ممن نزل فيه: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [ (2) ] ، فتكلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة تامة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول اللَّه [كأن] [ (3) ] هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا، فقال: أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ...
__________
[ (1) ] هو العرباض بن سارية السلمي، من أعيان أهل الصّفّة، سكن حمص، وروى أحاديث، روي عنه جبير بن نفير، وأبو رهم السّمعي، وعبد الرحمن بن عمرو السّلمي، وحبيب بن عبيد، وحجر بن حجر، ويحى بن أبي المطاع، وعمر بن الأسود وعدّة. ابن وهب: حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن سعد بن إبراهيم، عن عروة بن رويم، عن العرباض بن سارية- وكان يحب أن يقبض- فكان يدعو: اللَّهمّ كبرت سني، ووهن عظمي، فاقبضني إليك. قال: فبينا أنا يوما في مسجد دمشق أصلي، وأدعو أن أقبض، إذا أنا بفتى من أجمل الرجال، وعليه دوّاج [ثوب] أخضر، فقال: ما هذا الّذي تدعو به؟
قلت: كيف أدعو يا ابن أخي؟ قال: قل اللَّهمّ حسن العمل وبلّغ الأجل. فقلت: ومن أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا «رتبابيل» الّذي يسلّ الحزن من صدور المؤمنين، ثم التفت فلم أر شيئا. قال أحمد بن حنبل: كنية العرباض، أبو نجيح.
روى إسماعيل بن عيّاش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، قال: قال عتبة بن عبد: أتينا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم سبعة من بني سليم، أكبرنا العرباض بن سارية فبايعناه. [رجاله ثقات] .
إسماعيل بن عيّاش: حدثنا أبو بكر بن عبد اللَّه، عن حبيب بن عبيد، عن العرباض: قال: لولا أن يقال: فعل أبو نجيح، لألحقت مالي سبلة، ثم لحقت واديا من أودية لبنان عبدت اللَّه حتى أموت.
شعبة: عن أبي الفيض؟ سمع أبا حفص الحمّصي يقول: أعطى معاوية المقداد حمارا من المغنم، فقال له العرباض بن سارية: ما كان لك أن تأخذه، ولا له أن يعطيك، كأني بك في النار تحمله، فردّه.
قال أبو مسهر وغيره: توفي العرباض سنة خمس وسبعين.
* (طبقات ابن سعد) : 4/ 276، 7/ 412، (التاريخ الكبير) : 7/ 85، (الجرح والتعديل) : 7/ 39، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 330، (مرآة الجنان) : 1/ 156، (الإصابة) : 4/ 482، ترجمة رقم (5505) ، (تهذيب التهذيب) : 7/ 147، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 436، (شذرات الذهب) : 1/ 82، (سير أعلام النبلاء) :
3/ 419- 422، ترجمة رقم (71) .
[ (2) ] التوبة: 92، وتمامها: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ.
[ (3) ] تكملة من (صحيح سنن أبي داود) : 3/ 871، حديث رقم (3851- 4607) ، قال الألباني: صحيح.(3/146)
ضلالة [ (1) ] . وأخرجه الترمذي [ (2) ]
وقال: حديث حسن صحيح.
وخرج بقي بن مخلد من حديث زيد بن الجناب عن معاوية بن صالح قال:
حدثني الحسن بن جابر أنه سمع المقدام بن معديكرب يقول: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يوشك برجل متكئ على أريكته يحدث بحديثي يقول: بيننا وبينكم كتاب اللَّه،
__________
[ (1) ] قوله: «فسلمنا» ، أي على العرباض، «زائرين» من الزيارة، «وعائدين» من العيادة، «ومقتبسين» ، أي محصلين منك العلم، «ذرفت» ، أي دمعت، «ووجلت» ، أي خافت، «كأن هذه موعظة مودع» ، فإن المودّع- بكسر الدال- عند الوداع، لا يترك شيئا مما يهم المودّع- بفتح الدال- أي كأنك تودعنا بها، لما رأى من مبالغته صلى اللَّه عليه وسلّم في الموعظة، «فماذا تعهد» ، أي توصي، «وإن عبدا حبشيا» أي وإن كان المطاع عبدا حبشيا.
قال الخطابيّ: يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبدا حبشيا، ولم يرد بذلك أن يكون الإمام عبدا حبشيا.
وقد ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «الأئمة من قريش» ،
وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح في الوجود،
كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من بنى للَّه مسجدا ولو مثل مفحص قطاة، بنى اللَّه له بيتا في الجنة» ،
وقدر مفحص القطاة لا يكون مسجدا لشخص آدمي، ونظائر هذا الكلام كثير.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وعضوا عليها بالنواجذ» ،
جمع ناجذة بالذال المعجمة، قيل: هو الضرس الأخير، وقيل: هو مرادف السن، وهو كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها. وقال الخطابي: وقد يكون معناه أيضا الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات اللَّه، كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وإياكم ومحدثات الأمور» ،
قال الحافظ ابن رجب في كتاب (جامع العلوم والحكم) : فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك
بقوله: «وكل بدعة ضلالة» .
والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة.
فقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وكل بدعة ضلالة» ،
من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي اللَّه عنه في التراويح: «نعمت البدعة هذه» ، وروى عنه أنه قال: «إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة» ، ومن ذلك أذان الجمعة الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقرّه عليّ، واستمر عمل المسلمين عليه. وروى عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في التراويح. (عون المعبود) : 12/ 234، كتاب السنه، باب التمسك بالسنة، حديث رقم (4594) .
[ (2) ] قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وليس في حديثهما ذكر حجر بن حجر، غير أن الترمذي أشار إليه تعليقا، وقال الترمذي: حسن صحيح.
والخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: والمحدث على قسمين: محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بالإرادة فهذا باطل، وما كان على قواعد الأصول أو مردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة.
(المرجع السابق) : 235.(3/147)
وما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول اللَّه مثل ما حرم اللَّه [ (1) ] .
وخرج البخاري في كتاب الأدب [ (2) ] وفي كتاب الاعتصام [ (3) ] من حديث الأعمشي، حدثنا مسلم عن مسروق [قال] [ (4) ] : قالت عائشة رضي اللَّه عنها: صنع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا [فرخص] [ (5) ] فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فخطب فحمد
__________
[ (1) ]
أخرج أبو داود نحوه في كتاب السنة، باب لزوم السنة، حديث رقم (3848- 4604) : عن المقدام بن معديكرب، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السّبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» .
وحديث رقم (3849- 4605) :، عن أبي رافع عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب اللَّه اتبعناه. (صحيح سنن أبي داود للألباني) : 3/ 870- 871.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «على أريكته»
أي على سريره المزين بالحلل والأثواب، وأراد بهذه الصفة أصحاب الترفة والدعة، الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم من مظانه. قال الخطابي: في الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم شيء كان حجة بنفسه، فأما ما رواه بعضهم أنه قال: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على الكتاب فإن وافقه فخذوه، فإنه حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة.
قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وحديث أبي داود أتم من حديثهما. (عون المعبود) 12/ 231، حديث رقم (4591) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 628، باب (72) من لم يواجه الناس بالعتاب، حديث رقم (6101) .
[أي حياء منهم] .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 13/ 342، باب (5) ما يكره من التعمق والتنازع والغلوّ في الدين والبدع، لقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، حديث رقم (7301) .
قوله: «صنع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم شيئا فترخص فيه» ، في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش:
«رخّص النبي في أمر» .
قوله: «فتنزه عنه قوم» ، في رواية مسلم من طريق جرير عن الأعمش «فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا» .
قوله: «فخطب» ، في رواية أبي معاوية «فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فغضب حتى بان الغضب في وجهه.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] في (خ) : «ترخص فيه» .(3/148)
اللَّه ثم قال: [ما بال] [ (1) ] أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو اللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدهم [له] [ (1) ] خشية. وخرجه مسلم بنحوه أو قريب منه [ (2) ] .
وخرج الترمذي من حديث سفيان عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن
__________
[ (1) ] تكملة من البخاري.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 115، كتاب الفضائل، باب (35) علمه صلى اللَّه عليه وسلّم باللَّه تعالى وشدة خشيته، حديث رقم (127) ، (128) .
قوله: «ما بال أقوام» ، في رواية جرير «ما بال رجال»
قال ابن بطال: هذا لا ينافي الترجمة، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين، كأن يقول: ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا، فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة، وهي مخاطبة من فعل ذلك، لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم، صار كأنه لم يخاطب.
قوله: «يتنزهون عن الشيء أصنعه» ، في رواية جرير «بلغهم عني أمر ترخّصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه» ، وفي رواية أبي معاوية: «يرغبون عما رخص لي فيه» .
قوله: «فو اللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدهم له خشية» ،
جمع بين القوة العملية، والقوة العلمية، أي أنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند اللَّه، وليس كذلك، إذ هو أعلمهم بالقربة، وأولادهم بالعمل بها.
قال ابن بطال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلّم رفيقا بأمته، فلذلك خفف عنهم العتاب، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، ولو كان ذلك حراما لأمرهم بالرجوع إلى فعله.
قال الحافظ ابن حجر: أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميز الّذي صدر منه ذلك سترا عليه، فحصل منه الرّفق من هذه الحيثية، لا بترك العتاب أصلا، وأما استدلاله بكون ما فعلوه غير حرام، فواضح من جهة أنه لم يلزمهم بفعل ما فعله هو.
وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، وذم التعمق والتنزه عن المباح، وحسن العشرة عند الموعظة، والإنكار والتلطف في ذلك.
قال الإمام النووي في شرح مسلم: فيه الحث على الاقتداء به صلى اللَّه عليه وسلّم، والنهي عن التعمق في العبادة، وذم التنزه عن المباح شكّا في إباحته.
* وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع. وإن كان المنتهك متأولا تأويلا باطلا.
* وفيه حسن المعاشرة بإرسال التعزير والإنكار في الجمع، ولا يعين فاعله، فيقال: ما بال أقوام ونحوه.
* وفيه أن القرب إلى اللَّه تعالى سبب لزيادة العلم به وشدة خشيته.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فو اللَّه لأنا أعلمهم باللَّه وأشدهم له خشية» ،
فمعناه أنهم يتوهمون أن سننهم عما فعلت أقرب لهم عند اللَّه، وإن فعل خلاف ذلك، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم باللَّه وأشدهم له خشية، وإنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى، والخشية له على حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس، وتكلف أعمال لم يأمر بها. واللَّه أعلم.(3/149)
عبد اللَّه بن يزيد عن عبد اللَّه بن عمرو [بن العاص] [ (1) ] رضي اللَّه [عنهما] [ (2) ] قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية [ليكوننّ] [ (3) ] في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، [وستفترق] [ (4) ] أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي يا رسول اللَّه؟ قال:
[من كان على] [ (5) ] ما أنا عليه وأصحابي.
قال أبو عيسى: هذا حديث مفسّر غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه [ (6) ] . قال الترمذي: الإفريقي ضعيف عند أهل الحديث،
__________
[ (1) ] تكملة من (جامع الأصول) : 10/ 33.
[ (2) ] في (خ) : «عنه» .
[ (3) ] في (خ) : «لكان» .
[ (4) ] في (خ) : «وتفترق» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] تكملة من المرجع السابق، حديث رقم 7491.
[ (6) ]
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ليأتينّ على أمتي» ،
من الإتيان وهي المجيء بسهولة، وعدّى بعلي لمعنى الغلبة المؤدية إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ [الذاريات: 42] .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حذو النعل بالنعل»
استعارة في التساوي، وقيل: الحذو القطع والتقدير أيضا، يقال: حذوت النعل بالنعل إذا قدرت كل واحدة من طاقاتها على صاحبتها لتكونا على السواء، ونصبه على المصدر، أي يحذونهم حذوا مثل حذو النعل بالنعل، أي تلك المماثلة المذكورة في غاية المطابقة والموافقة، كمطابقة النعل بالنعل.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حتى إذا كان منهم من أتى أمه» ،
حتى: ابتدائية، والواقع بعده جملة شرطية، وإتيان الأم كناية عن الزنا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين مله» ،
سمى صلى اللَّه عليه وسلّم طريقة كل واحد منهم «ملة» اتساعا، وهي في الأصل ما شرع اللَّه لعباده على ألسنة أنبيائه ليتوصلوا به إلى القرب من حضرته تعالى، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ولا تكاد توجد مضافة إلى اللَّه تعالى، ولا إلى آحاد أمة النبي، بل يقال: ملة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم أو ملتهم كذا، ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، لأنهم لما عظم تفرقهم، وتدنّيت كل فرقة منهم بخلاف ما تديّن به غيرها، كانت طريقة كل منهم كالملة الحقيقية في التدين، فسميت باسمها مجازا.
وقيل: الملة كل فعل وقول اجتمع عليه جماعة، وهو قد يكون حقا، وقد يكون باطلا، والمعنى أنهم يفترقون فرقا، تتديّن كل واحدة منها بخلاف ما تتديّن به الأخرى.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة» ،
قيل: فيه إشارة لتلك المطابقة، مع زيادة هؤلاء في ارتكاب البدع بدرجة. وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إلا ملة» ، بالنصب، أي إلا أهل ملة، «قالوا: من هي» ؟ أي تلك الملة أي أهلها الناجية.
قوله: «هذا حديث حسن غريب» ، في سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب، وحديث عبد اللَّه بن عمرو هذا أخرجه أيضا الحاكم(3/150)
ضعفه يحى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي.
وخرج الترمذي من حديث محمد بن عبد اللَّه الأنصاري عن أبيه عن علي بن زيد عن سعيد بن [المسيب] [ (1) ] قال: قال أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: قال [لي] [ (2) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني، وذلك من سنتي ومن [أحيا] [ (3) ] سنتي فقد [أحياني] [ (4) ] ومن [أحياني] [ (5) ] كان معي في الجنة
- وفي الحديث قصة طويلة- قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ومحمد بن عبد اللَّه الأنصاري ثقة، وأبوه ثقة، وعلي بن زيد صدوق إلا أنه [ربما] [ (6) ] يرفع الشيء الّذي يوقفه
__________
[ () ]
وفيه: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
واعلم أن أصول البدع كما نقل في (المواقف) ثمانية:
[1] المعتزلة القائلون بأن العباد خالقوا أعمالهم، وبنفي الرؤية، وبوجوب الثواب والعقاب، وهم عشرون فرقة.
[2] الشيعة المفرطون في محبة علي كرم اللَّه وجهه وهم اثنان وعشرون فرقة.
[3] الخوارج المفرطة المكفّرة له رضي اللَّه عنه، ومن أذنب كبيرة وهم عشرون فرقة.
[4] المرجئة القائلة بأن لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهي خمس فرق.
[5] والنجّارية الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، فرقة أيضا.
[6] المعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق.
[7] والجبرية القائلة بسلب الاختيار عن العباد فرقة واحدة.
[8] والمشبهة الذين يشبهون الحق بالخلق في الجسمية والحلول. فرقة أيضا، فتلك ثلاث وسبعون فرقه، والفرقة الناجية هم أهل السنة البيضاء المحمدية، والطريقة النقية الأحمدية. (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) : 7/ 333- 334، أبواب الإيمان باب (18) افتراق هذه الأمة، حديث رقم (27779) .
وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) : 1/ 129، حديث رقم (444/ 155) ذكره في كتاب العلم. قال في التخليص: رواه ثابت بن محمد العابد، عن الثوري، عن ابن أنعم الإفريقي، عن عبد اللَّه بن يزيد عنه. وقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثنا كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف بن يزيد، عن أبيه، عن جده مرفوعا: «لتسلكن سنن من قبلكم، إن بني إسرائيل افترقت ... »
الحديث.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) ، وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط من (خ) ، وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (3) ] في (خ) : «أحب» .
[ (4) ] في (خ) : «أحبني» .
[ (5) ] في (خ) : «أحبني» وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (6) ] زيادة من صحيح الترمذي.(3/151)
غيره. [قال] [ (1) ] : وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة:
[أخبرنا] [ (1) ] علي بن زيد وكان رفاعا، ولا يعرف لسعيد بن المسيب [عن أنس] [ (2) ] رواية إلا في هذا الحديث بطوله. وقد روى عباد [بن ميسرة] [ (3) ] المقبري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب، قال أبو عيسى: وذاكرت محمد بن إسماعيل [ولم] [ (4) ] يعرفه، ولم يعرف لسعيد بن المسيب، عن أنس هذا الحديث ولا غيره، ومات أنس [بن مالك] [ (5) ] سنة ثلاث وتسعين، ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين، مات سنة خمس وتسعين واللَّه أعلم [ (6) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) ، وفي (خ) : «حدثنا» وما أثبتناه من صحيح الترمذي.
[ (2) ] زيادة من صحيح الترمذي.
[ (3) ] في (خ) : «عباد بن ميسرة المقبري» .
[ (4) ] في (خ) : «فلم» .
[ (5) ] تكملة من صحيح الترمذي.
[ (6) ] والحديث أخرجه الترمذي في (الجامع الصحيح) في أبواب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة.
قوله: «قال لي» ، أي وحدي أو مخاطبا لي من بين أصحابي، «يا بني» بضم التاء تصغير ابن، وهو تصغير لطف ومرحمة، ويدل على جواز هذا لمن ليس ابنه، ومعناه اللطف، وأنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة.
قوله: «إن قدرت» ، أي استطعت، والمراد: اجتهد قد ما تقدر «أن تصبح وتمسي» ، أي تدخل في وقت الصباح والمساء، والمراد جميع الليل والنهار «ليس في قلبك» الجملة حال من الفاعل، تنازع فيه الفعلان، أي وليس كائنا في قلبك «غش» بالكسر ضد النصح، الّذي هو إرادة الخير للمنصوح له.
قوله: «لأحد» وهو عام للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه، ويسعى في خلاصه من ورطة الهلاك باليد واللسان، وللتألف بما يقدر عليه من المال. كذا ذكره الطيبي.
قوله: «فافعل» ، جزاء كناية عما سبق في الشرط، أي افعل نصيحتك «وذلك» ، أي خلو القلب من الغش، قال الطيبي: وذلك إشارة إلى أنه رفيع المرتبة أي بعيد التناول «من سنتي» أي طريقتي، «ومن أحيا سنتي» أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل، «فقد أحياني ومن أحياني» كذا في النسخ الحاضرة من الإحياء في المواضع الثلاثة.
وأورد صاحب المشكاة هذا الحديث نقلا عن الترمذي بلفظ «من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» ، ومن الإحباب في المواضع الثلاثة، فالظاهر أنه قد وقع في بعض نسخ الترمذي هكذا، واللَّه تعالى أعلم.
قال محققه: ولعل المقريزي- رحمه اللَّه- قد نقل من إحدى هذه النسخ ذلك اللفظ الّذي حققناه وصوبناه من الرواية الأخرى حسب الهوامش السابقة على متن هذا الحديث.
قوله: «كان معي في الجنة» ، أي معية مقاربة لا معية متحدة في الدرجة، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ(3/152)
ومخالفة أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وتبديل سنته ضلال وبدعة، يوعد اللَّه تعالى على ذلك بالخذلان والعذاب، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [ (1) ] ، وقال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [ (2) ] .
والآثار المسندة والموقوفة أيضا كثيرة جدا وفي استيعابها خروج عما نحن بصدده، وفيما أوردته كفاية إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه سبحانه وتعالى الموفق بمنه.
***
__________
[ () ] أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 169] .
قوله: «وعلي بن زيد صدوق» ، وضعّفه غير واحد من أئمة الحديث، «وكان رفّاعا» بفتح الراء وتشديد الفاء، أي كان يرفع الأحاديث الموقوفة كثيرا «وقد روى عباد» بن ميسرة «المنقري» بكسر الميم وسكون النون، البصري المعلم، لين الحديث، عابد من السابعة «ولا غيره» بالنصب عطف على هذا الحديث.
قوله: «ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين» مقصود الترمذي بهذا أن المعاصرة بين أنس وبين سعيد بن المسيب ثابتة، فيمكن سماعة منه. (تحفة الأحوذي) : 7/ 370- 371، أبواب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، حديث رقم (2818) .
[ (1) ] النور: 63.
[ (2) ] النساء: 115.(3/153)
وأما أمر الكافّة بالتّأسي به قولا وفعلا
فقال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [ (1) ] ، فأمر تعالى بالتأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم أمرا مطلقا، لم يستثن من التأسي به شيئا بخلاف أمره تعالى بالتأسي بإبراهيم عليه [السلام] [ (2) ] ، فإنه استثنى بالتأسي به، قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [ (3) ] ، فحثّ تعالى المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام والذين معه من أنبياء اللَّه فيما ذكر تعالى، ثم استثنى من التأسي به استغفاره عليه السلام لأبيه، فنهى المؤمنين عن التأسي به في ذلك. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، قال: نهوا أن يتأسوا به في استغفاره لأبيه، فيستغفروا للمشركين. وقال مطرف عن مجاهد: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يقول تعالى: ائتسوا به في كل شيء ما خلا قوله لأبيه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فلا تأتسوا بذلك منه، فإنّها كانت عن موعدة وعدها إياه.
وقال معمر عن قتادة: يقول: لا تأتسوا بذلك منه فإنه كان عليه موعدا، وتأسوا بأمره كله. وقال ابن وهب: قال ابن زيد: قول اللَّه تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ قال: يقول: ليس لكم في هذه أسوة. وقال محمد بن علي الترمذي:
الأسوة في الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول أو فعل.
وقال الإمام محمد بن عمر الرازيّ: اختلفوا في أن فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم بمفرده،
__________
[ (1) ] الأحزاب: 21.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الممتحنة: 4.(3/154)
هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنه للوجوب وهو قول ابن شريج وأبي سعيد الاصطخري، وأبي على ابن خيران.
وثانيها: أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعيّ رحمه اللَّه.
وثالثها: أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه اللَّه.
ورابعها: أنه يتوقف على الكل، وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة، وهو المختار لنا، إنا إذا جوّزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبا له ولنا، وحينئذ لا يجوز لنا فعله، وإن لم نجوز الذنب عليهم جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا، وبتقدير أن يكون واجبا جوزنا أن يكون ذلك من خواصه، وأن لا يكون، ومع احتمال هذه الأقسام امتنع الجزم بواحد منها، واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن والإجماع والمعقول، أما القرآن: فسبع آيات.
[أولها] : قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، والأمر حقيقة الفعل، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.
وثانيها: قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وهذا يجري مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به، ولا معنى للتأسي إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله.
وثالثها: قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ، وظاهر الأمر للوجوب، والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله.
ورابعها: قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، دلت الآية على أن محبته تعالى مستلزمة للمتابعة، لكن المحبة واجبة بالإجماع، ولازم الواجب واجب، فمتابعه واجبة.
وخامسها: قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، فإذا فعل فعلا فقد أتانا بالفعل، فوجب علينا أن نأخذه.
وسادسها: قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ ... ،(3/155)
دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول، والآتي بمثل ما فعله الغير لأجل أن ذلك الغير فعله طائع لذلك الغير، فوجب أن يكون ذلك واجبا.
وسابعها: قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [ (1) ] ، بين أنه تعالى إنما زوجه لها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهو المطلوب.
وأما الإجماع فلأن الصحابة بأجمعهم اختلفوا في الغسل بالتقاء الختانين، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: فعلته أنا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فاغتسلنا، فرجعوا إلى ذلك، وإجماعهم على الرجوع حجة، وهو المطلوب.
وإنما كان ذلك لفعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقد أجمعوا ها هنا على أن مجرد الفعل للوجوب، ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل، وخلعوا نعالهم لما خلع، وأمرهم عام الحديبيّة بالتحلل فتوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة رضي اللَّه عنها فقالت: اخرج إليهم فاحلق واذبح، ففعل، فحلقوا وذبحوا مسارعين، وأنه خلع خاتمه فخلعوا، وأن عمر رضي اللَّه عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللَّه يقبلك لما قبلتك، وأما خلع الخاتم فهو مباح، فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم.
والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الضرر قطعا، وها هنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما، وإذا احتمل الأمران لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا.
وعن الثاني إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيما، ولذلك يقبح من العبد أن يفعل كل ما يفعله سيده، واحتج القائلون بالندب بالقرآن والإجماع والمعقول.
أما القرآن: فقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فلو كان التأسي به واجبا لقال عليه، ولما لم يقل ذلك وقال لكم دل على عدم الوجوب، ولما أثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك، فلم يكن
__________
[ (1) ] الأحزاب: 37.(3/156)
مباحا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل الأمصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب.
وأما المعقول: فهو أنه يفيد أن فعله إما أن يكون راجح العدم أو مساوي العدم أو مرجوح العدم، والأول باطل لما ثبت أنه لا يوجد منه الذنب، والثاني باطل ظاهر، لأن الاشتغال به عبث، والعبث مزجور عنه لقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [ (1) ] ، فتعين الثالث، وهو أن يكون مرجوح العدم.
ثم لما تأملنا أفعاله صلى اللَّه عليه وسلّم وجدنا بعضها مندوبا وبعضها واجبا، والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجوب وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل، فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب.
والجواب عن الأول ما تقدم: أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجوب الّذي أوقعه، فلو فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي.
وعن الثاني أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل، فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر.
وعن الثالث: لا نسلّم أن فعل المباح عبث، لأن العبث هو الخالي عن العرض، وإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا، بل من حيث النفع به خرج عن العبث، فلم قلتم بأنه خلّى عن العرض، ثم حصول العرض في التأسي بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم متابعته في أفعاله بيّن، فلا يعد من أقسام العبث.
واحتج القائلون بالإباحة بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه صلى اللَّه عليه وسلّم ثبت أن فعله لا بد وأن يكون مباحا أو مندوبا أو واجبا، وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل، فأما رجحان جانب الفعل يثبت على وجوده دليلا لأن الكلام فيه، وثبت على عدمه دليل، لأن هذا الرجحان كان معدوما، والأصل
__________
[ (1) ] المؤمنون: 115.(3/157)
في كل شيء بقاؤه، فقد ثبت بهذا أنه لا حرج في فعله قطعا، ولا رجحان في فعله ظاهرا، فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله صلى اللَّه عليه وسلّم أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي كونها واجبة أو مندوبة، فبقي معمولا به في الباقي، وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك، للآية الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما إذا كان من خواصه، فبقي معمولا به في الباقي.
والجواب هنا: أنه في حقه صلى اللَّه عليه وسلّم كذلك، فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك؟ واللَّه أعلم.
قال جمهور الفقهاء والمعتزلة: التأسّي واجب، ومعنى ذلك أنا إذا علمنا أن الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجوب، وإن علمنا أنه مستقل به كنا متعبدين بالتنفل به، وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته، وجاز لنا أن لا نفعله.
وقال أبو على بن خلاد- تلميذ أبي هاشم من المعتزلة-: نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها كالمناكحات والمعاملات، ومن الناس من أنكر ذلك في الكل، احتج أبو الحسن بالقرآن والإجماع.
أما القرآن فقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الّذي فعل ذلك الغير، ولم يفرق اللَّه تعالى بين أفعال النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة.
وأما الإجماع: فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه صلى اللَّه عليه وسلّم في قبلة الصائم، وفي من أصبح جنبا لم يفسد صومه، وفي تزويج النبي ميمونة رضي اللَّه عنها وهو حرام، وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن يمتثل بها في طريقه.
ولقائل أن يقول: على الدليل الأول، الأمر يفيد التأسي به مرة واحدة، كما أن قول القائل لغيره: لك في الدار ثوب حسن، يفيد ثوبا واحدا، فإن قلت: هذا إن ثبت تم عرضا من التعبد بالتأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم في الجملة، ولأنه يفيد إطلاق كون الشيء أسوة لنا، ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة لزيد إلا إذا لم يجز لزيد وصف أن يتبعه إلا في واحد، وإنما يطلق ذلك أن لو كان ذلك الإنسان لزيد قدوة يهتدي به في(3/158)
أموره كلها ما خصه الدليل.
قلت: الجواب عن الأول: أن أحدا لا ينازع في التأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم في الجملة، لأنه لما قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم، فقد أجمعوا على وقوع التأسي به، والآية ما دلت إلا على المرة الواحدة، فكان التأسي به صلى اللَّه عليه وسلّم في هذه الصورة كافيا في العمل بالآية، لا سيما والآية إنما وردت على صيغة الإخبار عما مضى، وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى.
والجواب عن الثاني: أنك إن أردت أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة إلا إذا كان أسوة في كل شيء فهو ممنوع، ثم يدل على فساده وجهان:
الأول: أنه من يعلم من إنسان نوعا واحدا من العلم يقال له: إن لك في فلان أسوة حسنة في كل شيء، ويقال لك في فلان أسوة حسنة في هذا الشيء دون ذاك ولو اقتضى اللفظ العموم لكان الأول تكرار، والثاني نقصا، وإن أردت أنه يصح إطلاق اسم الأسوة إذا كان أسوة في بعض الأشياء فهذا مسلّم، ولكنه صلى اللَّه عليه وسلّم أسوة لنا في أقواله وأفعاله التي أمرنا بالاقتداء بها كقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم» .
والجواب عن الحجة الثانية: أن قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ يطلق في الاتباع فلا يفيد العموم في كل الاتباعات، والأمر لا يقتضي التكرار، فلا يفيد العموم في كل الأزمنة، فإن قلت: ترتب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة لذلك الحكم، فماهية المتابعة علة الأمر بها، قلت: فعلى هذا لو قال السيد لعبده:
اسقني، يلزمه أن يكون أمرا له يجمع أنواع السقي في كل الأزمنة، وفي هذه الأمثلة كثرة، وما ذكرناه في فساد ما قالوا، وأما الإجماع فقد سبق الكلام عليه، قال: لما عرفت أن التأسّي مطابقة المتأسّى به في الوجه وجب معرفة الوجه الّذي عليه وقع فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم وهو ثلاثة: الندب والإباحة والوجوب.
أما الإباحة فتعرف بطرق أربعة:
أحدها: أن ينص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على أنه مباح.
وثانيها: أن تقع امتثالا لأنها دالة على الإباحة.(3/159)
وثالثها: أن تقع بيانا لأنها دالة على الإباحة.
ورابعها: أنه لما ثبت أنه لا ندب ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل، ويعرف نفي كيفية الوجوب والندب بالبقاء على الأصل، فحينئذ نعرف كونه مباحا. أما الندب فيعرف بتلك الثلاثة الأدلة مع أربعة أخرى.
أحدها: أن يعلم من قصده صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قصد القربة بذلك الفعل، فيعلم أنه راجح الوجود، ولم يعرف انتفاء الوجوب بحكم الاستصحاب فيثبت الندب.
وثانيها: أن ينص على أنه كان مخيّرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت أنه ندب، لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب.
وثالثها: أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة.
ورابعها: أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ، فيكون إدامته صلى اللَّه عليه وسلّم دليلا على كونه طاعة، وإخلاله به من غير نسخ دليل على عدم الوجوب.
وأما الوجوب، فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع خمسة أخرى:
أحدها: الدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر قد ثبت وجوبه، لأن التخيير لا يقع بين الواجب وما ليس بواجب.
وثانيها: أن يكون قضاء لعبادة ثبت وجوبها.
وثالثها: أن يكون على وقوعه أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب كالصلاة بأذان وإقامة.
ورابعها: أن يكون جزاء الشرط موجب كفعل ما وجب نذره.
وخامسها: أن يكون لو لم يكن واجبا لم يجز كالجمع بين الركوعين في الكسوف.
قال: الفعل إذا عارضه معارض، فمعارض فعله صلى اللَّه عليه وسلّم إما أن [يكون] [ (1) ] قولا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/160)
أو فعلا، أما القول: فإما أن يعلم أن المقدم هو القول أو الفعل، ولا يعلم واحد منهما.
أما القسم الأول: وهو أن يكون المتقدم هو القول والفعل المعارض إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه، فإن كان متعاقبا له فإما أن يكون القول متناولا له خاصة، أو لأمّته خاصة، أو له ولهم معا، لا يجوز أن يتناوله خاصة إلا على قول من يجوّز نسخ الشيء قبل حضور وقته، فإن تناول أمته خاصة وجب المصير إلى القول دون الفعل، وإلا لكان القول لغوا ولا يلغو الفعل لأن حكمه ثابت في الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم، وإن كان الخطاب يعمه وإياهم، ذلك فعله على أنه مخصوص من القول، وأمته داخلة فيه لا محالة وإن كان الفعل متراخيا عن القول، فإن كان القول عاما لنا وله صار مقتضاه منسوخا عنا وعنه، وإن تناول ما دونه كان ناسخا عنا دونه، لأن القول لم يتناوله، وإن تناوله دوننا كان منسوخا عنه دوننا، ثم يلزمنا مثل فعله لوجوب التأسي به.
القسم الثاني: أن يكون هو الفعل، فالقول المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه، فإن كان متعقبا: فإما أن يكون الفعل متناولا له خاصة، أو لأمنه خاصة، أو عاما فيه وفيهم، فإن كان متناولا له خاصة وقد كان الفعل المتقدم على لزوم مثله لكل مكلف في المستقبل فيصير ذلك القول المخصص به مخصصا له عن ذلك العموم، وإن كان متناولا لأمته خاصة، دل على أن حكم الفعل مختص به دون أمته، وإن كان عاما فيه وفيهم دلّ سقوط حكم الفعل عنه [و] [ (1) ] عنهم، وأما إن كان القول متراخيا عن الفعل، فإن كان القول متناولا له ولأمته فيكون القول ناسخا لحكم الفعل عنه وعن أمته، أو يتناول أمته دونه فيكون منسوخا عنهم دونه أو يتناوله دون أمته، فيكون منسوخا عنه دون أمته.
القسم الثالث: إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فهاهنا يقدم القول على الفعل ويدل عليه وجهان.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.(3/161)
أحدهما: أن القول أقوى من الفعل، والأقوى راجح، إنما قلنا أنه موافى لأن دلالة القول تستغني على الفعل، ودلالة الفعل لا تستغني عن القول، والمستغني أقوى من المحتاج.
والثاني: أنا نقطع بأن القول قد يتناولها، وأما الفعل فبتقدير أن [يتراخى] [ (1) ] كان متناولا لنا معلوم، وبتقدير أن يتناولنا [أو] [ (2) ] لا يتناولنا، وكون [الفعل] [ (2) ] متناولا لنا معلوم، وكون الفعل متناولا لنا مشكول، والمعلوم مقدم لنا [على] [ (2) ] المشكول.
فرع: نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة، ثم جلس في البيت لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس، فعند الشافعيّ- رحمه اللَّه- أن نهيه مخصوص بفعله حتى يجوز استقبال القبلة واستدبارها في البيوت لكل أحد، وعند الكرخي: يجب إجراء النهي على إطلاقه في الصحراء والبنيان، وكان ذلك من خواص النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وتوقف القاضي عبد الجبار في المسألة.
وحجة الشافعيّ: أن النهي عام ومجموع الدليل الّذي يوجب علينا أن نفعل مثل فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم مع كونه مستقبل القبلة في البنيان عند قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي، والخاص مقدم على العام، فوجب القول بالتخصيص، أما إذا كان الفعل للفعل فعلا آخر، فذاك على وجهين.
الأول: أن يفعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم فعلا فيعلم بالدليل أن غيره مكلف به ثم نراه بعد ذلك قد أقر الناس على فعل ضده، فنعلم أنه خارج منه.
الثاني: إذا علمنا أن ذلك الفعل مما يلزم أمثاله للرسول صلى اللَّه عليه وسلّم في مثل تلك الأوقات ما لم يرد ناسخ، ثم يفعل صلى اللَّه عليه وسلّم ضده في مثل ذل الوقت، فنعلم أنه قد نسخ عنه.
تنبيه: التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دلّ على أن ذلك الفعل لازم لغيره، فإنه لازم له في مستقبل الأوقات، وإنما يقال: أن ذلك الفعل قد لحقه
__________
[ (1) ] في (خ) «يتراخا» .
[ (2) ] زيادة للسياق.(3/162)
النسخ، يعني أنه قد زال التعبد بمثله، فإن التخصيص قد لحقه على معنى أن المكلفين لا يلزمهم مثله واللَّه أعلم. وأنه قال في جواب [من سأل] [ (1) ] أم سلمة رضي اللَّه عنها عن قبلة الصائم: ألا أخبرتيه أني أقبّل وأنا صائم، وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه، وأعظم مراتب فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم أن يكون واجبا عليه وعلى أمته، فوجب حمله عليه ببيان الأول أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر الخوف عن النفس بالكلية، ودفع الضرر واجب ببيان الثاني، أن أعظم مراتب الفعل أن يكون واجبا على الكل.
الثاني: أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم في الجملة، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له بدليل العرف، والتعظيمان مشتركان في هذا القدر من المناسبة، فيجمع بينهما بالقدر المشترك فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله، والجواب عن الأول: أنا لا نسلّم أن الأمر حقيقة في الفعل، فليس حمله على ذلك بأولى من حمله على هذا سلمناه، لكن هاهنا ما يمنع حمله على الفعل من وجهين: الأول أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة، وذكر الدعاء يمنع منه، فإن الإنسان إذا قال لعبده: لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري، فهم منه أنه أراد بالأمر القول الثاني، وهو أنه قد أريد به القول بالإجماع، ولا يجوز حمله على الفعل، إلا أن اللفظ المشترك لا يجوز حمله على معنييه سلمنا ذلك، ولكنها راجعة إلى اللَّه تعالى لأنه أقرب المذكورين، فإن قلت: القصد هو الحث على اتباع الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم لأنه تعالى قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [ (2) ] ، فحث بذلك على الرجوع إلى أقواله وأفعاله، ثم عقب ذلك بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [ (2) ] ، فعلمنا أنه حث بذلك على التزام ما كان دعاء اللَّه من الرجوع إلى أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، وأيضا فلم لا يجوز الحكم بصرف الكناية إلى اللَّه والرسول؟ قلت: الجواب عن الأول صرف الضمير إلى اللَّه تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضا، ولأنه لما حثّ على الرجوع إلى أقوال الرسول وأفعاله
__________
[ (1) ] ما بين القوسين مثبت في هامش (خ) .
[ (2) ] النور: 63(3/163)
ثم حذر عن مخالفة أمر اللَّه تعالى كان ذلك تأكيدا لما هو المقصود من متابعة الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم.
وعن الثاني: أن الهاء كناية عن واحد، فلا يجوز عوده إلى اللَّه تعالى وإلى الرسول معا، سلمنا عود الضمير إلى الرسول فلم قلت أن الإتيان بمثل فعله مخالفة لأمره. فإن قلت يدل عليه أمران:
الأول: أن المخالفة ضد الموافقة، لكن موافقة الغير هو أن يفعل مثل فعله، فمخالفته هو أن لا يفعل مثل فعله.
الثاني: وهو أن المعقول من المختلفين هما اللذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر، والعدم والوجود لا يقوم أحدهما مقام الآخر بوجه أصلا، فكانا في غاية المخالفة، فثبت أن عدم الإتيان بمثل فعله مخالف للإتيان بمثل فعله من كل الوجوه.
قلت: هب أنها في أصل الوضع كذلك، لكنها في عرف الشرع ليست كذلك، ولهذا لا يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين، بل هي عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله إذا كان الإتيان به واجبا، وعلى هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مخالفة إلا إذا فعله على الوجوب، وإذا بينا ذلك بهذا لزم الدور وهو محال.
والجواب عن الثاني: لم قلتم أن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقا يكون تأسيا به، بل عندنا كما يشترط في التأسي المساواة في الصورة يشترط فيه المساواة في الكيفية، حتى لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسيين به، وعلى هذا لا يكون مطلق فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم سببا للوجوب في حقنا لأن فعله قد لا يكون واجبا فيكون فعلنا إياه على سبيل الوجوب قادحا في التأسي به.
فالجواب عن الثالث: أن قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ، إما أن لا يفيد العموم أو يفيد، فإن كان الأول سقط التمسك به، وإن كان الثاني فبتقدير أن لا يكون ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا، وجب أن نعتقد فيه أيضا هذا الاعتقاد، فالحكم بالوجوب يناقضه، فوجب أن لا يتحقق، وهذا هو الجواب عن التمسك بقوله تعالى:(3/164)
فَاتَّبِعُونِي [ (1) ] .
والجواب عن الخامس: لا نسلّم أن قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [ (2) ] يتناول الفعل، ويدل عليه وجهان.
الأول: أن قوله تعالى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (2) ] على أنه عني بقوله:
ما آتاكُمُ ما أمركم.
الثاني: أن الإتيان إنما يتأتى بالقول لأنا نحفظه، وامتثاله يصير كأننا أخذناه، فكأنه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطاناه.
والجواب عن السادس: أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور به أو بالمراد على اختلاف المذهبين، فلم قلت: أن مجرد فعل الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم يدل على أنّا أمرنا بمثله أو أريد منا مثله؟ والجواب عن الإجماع من وجوه.
الأول: أن هذه آحاد ولا تفيد العلم، ولهم أن يقولوا: هب أنها تفيد الظن، لكن ما حصل ظن كونه دليلا ترتب عليه ظن ثبوت الحكم، فيكون العمل به دافعا للضرر المظنون فيكون واجبا، إلا أن أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة والحج، فلعله صلى اللَّه عليه وسلّم كان قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء في هذه الأمور،
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ،
وعليه خرج مسألة التقاء الختانين [ (3) ] ،
وقال: «خذوا عني مناسككم» ،
وعليه يقبل عمر رضي اللَّه عنه الحجر،
وقال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» .
وأما عن الوصال [ (4) ] : فإنّهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله بيان الواجب، فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة.
وأما خلع النعل: فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا، وأيضا لا يمتنع أن يكونوا
__________
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] الحشر: 7.
[ (3) ] بوجوب الغسل من الإكسال، والإكسال: هو الجماع بدون إنزال.
[ (4) ] الوصال لغة: يكون في عفاف الحب ودعارته (ترتيب القاموس) ج 4 ص 620، وشرعا: تتابع الصوم من غير إفطار بالليل. قال (الخطابي) في (معالم السنن) : الوصال من خصائص ما أبيح لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وهو محظور على أمته. راجع (عون المعبود شرح سنن أبي داود) ج 6 ص 487.(3/165)
لما رأوه قد خلع نعله مع قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ (1) ] ظنوا أن خلعها مأمور به غيرهم، لأنه لو كان مباحا ما ترك له المستنون في الصلاة على
أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قال لهم: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: لأنك خلعت نعلك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى،
فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الّذي وقع عليه فعله صلى اللَّه عليه وسلّم ثم يتبعوه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
***
__________
[ (1) ] الأعراف: 31.(3/166)
وأما اقتران اسم النبي صلى اللَّه عليه وسلّم باسم اللَّه تعالى
فإنه سبحانه قرن اسمه تعالى باسمه صلى اللَّه عليه وسلّم في كتابه العزيز عند ذكر طاعته ومعصيته، وفرائضه وأحكامه، ووعده ووعيده، قال اللَّه تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ (1) ] ، وقال: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [ (2) ] ، وقال:
يُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [ (3) ] ، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (4) ] ، وقال: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [ (5) ] ، وقال:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (6) ] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (7) ] ، وقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (8) ] ، وقال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (9) ] ، وقال: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ [ (10) ] ، وقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (11) ] ، وقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (12) ] ، وقال: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (13) ] ، [وقال] :
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[ (6) ] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (7) ] ، وقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (8) ] ، وقال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (9) ] ، وقال: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ [ (10) ] ، وقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (11) ] ، وقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (12) ] ، وقال: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (13) ] ، [وقال] : وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (14) ] ، وقال: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ (15) ] ، وقال: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ (16) ] ، وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [ (17) ] ، وقال:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ (18) ] ، وقال: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ
__________
[ (1) ] النساء: 59.
[ (2) ] المائدة: 92. وفي (خ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[ (3) ] التوبة: 71، وفي (خ) وَرَسُولَهُ أُولئِكَ.
[ (4) ] التوبة: 62.
[ (5) ] الأنفال: 24.
[ (6) ] الأحزاب: 36.
[ (7) ] الأحزاب: 57.
[ (8) ] التوبة: 1.
[ (9) ] التوبة: 3.
[ (10) ] التوبة: 63.
[ (11) ] التوبة: 16. وفي (خ) يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
[ (12) ] المائدة 33.
[ (13) ] التوبة: 29.
[ (14) ] الأنفال: 13.
[ (15) ] الأنفال: 1.
[ (16) ] النساء: 59.
[ (17) ] التوبة: 59.
[ (18) ] الأنفال: 41.(3/167)
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [ (1) ] ، وقال: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (2) ] ، وقال: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [ (3) ] ، فقرن تعالى اسمه الكريم باسم رسوله محمد في جميع الأحكام والأصول، تعظيما لقدره وتشريفا له على غيره صلى اللَّه عليه وسلّم.
***
__________
[ (1) ] التوبة: 74.
[ (2) ] التوبة: 90.
[ (3) ] الأحزاب: 37.(3/168)
وأما تقدم نبوته صلى اللَّه عليه وسلّم قبل تمام خلق آدم عليه السلام
فخرج الترمذي من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قالوا: يا رسول اللَّه! متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد [ (1) ] ،
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه، هذا آخر كلام الترمذي.
وقد رواه عباد بن جويرية عن الأوزاعي مرسلا، واختلف على الوليد بن مسلم فيه، فرواه بعضهم عنه مرسلا، ورواه بعضهم عنه فأسنده كما تقدم ذكره.
ولأبي نعيم من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل عن ميسرة، عن عبد اللَّه بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: متى كنت يا رسول اللَّه نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد [ (1) ] .
وله من حديث حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عبد اللَّه بن شقيق عن رجل أنه سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. كذا رواه حماد ولم يسم ميسرة، وتابعه عليه عن خالد الحذاء وهب بن خالد [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم [ (2) ] ، عن الصنابجي قال عمر رضي اللَّه عنه: متى جعلت نبيا؟ قال: وآدم منجدل في الطين.
وله من حديث نصر بن مزاحم، حدثنا قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي،
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها.
[ (2) ] عروة بن رويم اللخمي أبو القاسم الأردني، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: عامة أحاديث مرسلة.(3/169)
عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قيل: يا رسول اللَّه! متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد.
تفرد به نصر بن مزاحم.
وله من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إني عبد اللَّه في أم الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته.
وفي رواية: أنا عبد اللَّه خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. وفي رواية: إني عبد اللَّه مكتوب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. وفي رواية: إني عبد اللَّه لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث عثمان بن سعيد الدارميّ قال: قلت لأبي اليمان:
حدثك أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية السلمي قال: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إني عبد اللَّه في أول الكتاب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسآتيكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي بي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث سعيد عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث [ (3) ] .
وفي الصحيحين [ (4) ] من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) ج- 1 ص 8- 9، وفي (خ) «بخاتم»
[ (2) ] (المستدرك للحاكم ج 2 ص 600 وله شاهد على صحته ص 609.
[ (3) ] سبق تخريجه وشرحه.
[ (4) ] ذكره البخاري في كتاب الجمعة، باب (2) هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ وقال ابن عمر: إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة، حديث رقم (896) :
حدثنا مسلم ابن إبراهيم قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا ابن طاوس عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون والسابقون يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الّذي اختلفوا فيه فهدانا اللَّه، فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» فسكت. (897) : ثم قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده» .(3/170)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة»
الحديث. وله طرق [ (1) ] ، قال أبو نعيم: وكان صلى اللَّه عليه وسلّم آخرهم في البعث، وبه ختمت النبوة، وهو
__________
[ () ] وأخرجه مسلم من كتاب الجمعة باب (6) هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث رقم (19) :
وحدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم الجمعة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الّذي كتبه اللَّه علينا، هدانا اللَّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد.
وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة وابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة»
بمثله.
وحديث رقم (20) : حدثنا قتيبة بن سعيد، وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا، فهدانا اللَّه له، قال يوم الجمعة، فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى»
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة» ،
قال العلماء: معناه الآخرون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول الجنة، فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم» ،
هو بفتح الباء الموحدة وإسكان المثناة تحت، قال أبو عبيد: لفظه «بيد» تكون بمعنى غير، وبمعنى على، وبمعنى من أجل، وكله صحيح هنا، ويقال: «ميد» بمعنى «بيد» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «هذا اليوم الّذي كتبه اللَّه علينا هدانا اللَّه له» ،
فيه دليل لوجوب الجمعة، وفيه فضيلة هذه الأمة.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «اليهود غدا» ،
أي عيد اليهود غدا، لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث فيقدر فيه معنى يمكن تقديره خبرا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فهذا يومهم الّذي اختلفوا فيه هدانا اللَّه» ،
قال القاضي: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين، ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف اجتهادهم في تعيينه، ولم يهدهم اللَّه له، وفرضه على هذه الأمة مبينا، ولم يكله إلى اجتهادهم، ففازوا بتفضيله. قال: وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بالجمعة، وأعلمهم بفضلها فناظروه أن السبت أفضل، فقيل له: دعهم.
قال القاضي: ولو كان منصوصا لم يصح اختلافهم فيه، بل كان يقول: خالفوا فيه. قال الإمام النووي: ويمكن أن يكون أمروا به صريحا، ونصّ على عينه، فاختلفوا فيه، هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله، وأبدلوه وغلطوا في إبداله. (مسلم بشرح النووي) : 6/ 391، كتاب الجمة، باب (6) هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث رقم (19) ، (20) ، (21) .
[ (1) ] باقي طرق الحديث في المرجع السابق، حديث رقم (22) ، (23) ، كلها بسياقات قريبة من بعضها مع التقديم والتأخير والزيادة والنقصان لكن بمعنى واحد، وذكره أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 49، باب ما روي في تقديم نبوته صلى اللَّه عليه وسلّم قبل خلق آدم عليه السلام، حديث رقم (11) ، والنسائي في الجمعة، باب إيجاب يوم الجمعة، حديث رقم (1366) .(3/171)
__________
[ () ] قال الحافظ السيوطي: قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون» ،
أي الآخرون زمانا، الأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشروا، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وقيل: المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، وقيل المراد به السبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، والأول أقوى. «بيد» بموحدة ثم تحتية ساكنه مثل «غير» وزنا، ومعنى، وإعرابا، وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة.
وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعيّ رحمه اللَّه، عن الربيع، عنه، أن معنى «بيد» من أجل، وكذا ذكره ابن حبان والبغوي، عن المزني عن الشافعيّ، وقد استبعده القاضي عياض، ولا بعد فيه.
والمعنى إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم. ويشهد لهم ما في (فوائد المقري) بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا، ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أورثوا الكتاب من قبلنا. وقال الراويّ: هي بمعنى «على» أو «مع» .
قال القرطبي: إن كانت بمعنى «غير» فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى «مع» ، فنصب على الظرف، وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهي من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم. «أنهم أوتوا الكتاب قبلنا» اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل: «وأوتيناه» المراد الكتاب، مرادا به القرآن، «وهذا اليوم الّذي كتب اللَّه عليهم» ، أي فرض عليهم تعظيمه، «فاختلفوا فيه» ، قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض اللَّه عليه وهو مؤمن، وإنما يدل واللَّه تعالى أعلم على أنه فرض عليهم يوم الجمعة ووكل على اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة.
وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا فاختلفوا، هل يلزم تعيينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدّي، في قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قال: إن اللَّه فرض على اليهود يوم الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن اللَّه لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعله عليهم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «اليهود غدا والنصارى بعد غد» ، قال القرطبي «غدا»
منصوب على الظروف، وهو متعلق بمحذوف تقديره: اليهود يعظمون غدا وكذا بعد غد ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة، وقدر ابن مالك تقييد اليهود غدا. (حاشية الحافظ السيوطي على سنن النسائي) : 3/ 95- 96، كتاب الجمعة، باب إيجاب الجمعة، حديث رقم (1366) .
وقال الإمام السندي:
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نحن الآخرون السابقون» ،
أي الآخرون زمانا في الدنيا، الأولون منزلة وكرامة يوم القيامة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة إياهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وقيل: المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، وقيل: المراد بالسبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أوتوا الكتاب» ،
اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا(3/172)
السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في النبوة، ففي هذا الخبر الفضيلة العظيمة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، لما أوجب اللَّه تعالى له النبوة قبل تمام خلق آدم الّذي هو أبو البشر، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم اللَّه ملائكته ما سبق في علمه وقضائه من بعثته صلى اللَّه عليه وسلّم في آخر الزمان، فمن حاز هذه الفضيلة حق له الصبر على مواصلة الدعوة واحتمال الأذية ممن ردها، وإعظام من قبلها، واستفراغ الوسع في احتمال كل عارض وشدة وبلوى تعرض دون إقامتها، إذ الفضيلة سابقة على فضائل من تقدمه من الأنبياء في العهد والخلق الأول.
وقال بعض العارفين باللَّه: لما خلق اللَّه الأرواح المدبرة للأجسام عند حركة الفلك أول ما خلق الزمان بحركته، كان أول ما خلق روح محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم صدرت الأرواح الفلكية عن الحركات الفلكية، فكان لها وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة، وأعلمه اللَّه بنبوته، وآدم لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين، فاقتضى
قوله: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
أن يكون وجوده حقيقة، فإنه لا يكون العدم بين أمرين موجودين لانحصاره، والمعدوم لا يوصف بالحصر في شيء، ثم انتهى الزمان في حقه عليه السلام إلى وجود جسمه وارتباط الروح به، فظهر محمد صلى اللَّه عليه وسلّم بكليته جسما وروحا، فكان له الحكم أولا باطنا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل عليهم السلام، ثم صار له الحكم ظاهرا فنسخ كل شرع وإن كان المشرع واحدا، وهو صاحب الشرع، فإنه قال: «كنت نبيا» ..،
__________
[ () ] على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف لنا، أي فصار كتابنا ناسخا لكتابهم، وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم.
أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنه فيه، ولا شرف لهم فيه، أو هو شرف لنا أيضا من حيث قلة انتظارنا أمواتا في البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل للتقدم ليس بكلي. قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وهذا اليوم» ، الظاهر أنه أوجب عليهم يوما بعينه والعبادة فيه، فاختاروا لأنفسهم أن يبدل اللَّه لهم يوم السبت، فأجيبوا إلى ذلك، وليس بمستبعد من قوم قالوا لنبيهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فهدانا اللَّه» ،
بالثبات عليه حين شرع لنا العبادة فيه،
«اليهود غدا»
أي يعبدون اللَّه في يوم الجمعة. فأخذ المصنف قوله: «كتب اللَّه» ، الوجوب، والظاهر أن الحكم بالنظر إلى واحد، فحيث إن ذلك الحكم هو الوجوب بالنسبة إلى قوم تعين أنه الوجوب بالنظر إلى الآخرين، واللَّه تعالى أعلم (المرجع السابق) .(3/173)
ما قال: كنت إنسانا، ولا كنت موجودا، وليست النبوة إلا بالشرع المقرر من عند اللَّه، فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود الأنبياء في الدنيا كما تقرر فيما تقدم، فكانت استدارته إليها دورته بالاسم الباطن، وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر،
فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض» [ (1) ] ،
__________
[ (1) ]
ذكره البخاري في مواضع متفرقة من صحيحه يتمم بعضها بعضا، لكن أخرجه مسلم بتمامه في كتاب القسامة باب (9) تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (29) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحى بن حبيب الحارثي «وتقاربا في اللفظ» قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الّذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا:
اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة، قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:
أليس البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعن بعدي كفارا- أو ضلالا- يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل بلغت» ؟ قال ابن حبيب في روايته: «ورجب مضر» وفي رواية أبي بكر: «فلا ترجعوا بعدي» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الّذي بين جمادى وشعبان» ،
أما ذو القعدة، فبفتح القاف، وذو الحجة بكسر الحاء، هذه اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء، وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدّها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب، يقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة، وجماهير العلماء، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الّذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها هذا الحديث الّذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ورجب شهر مضر الّذي بين جمادى وشعبان» ،
وإنما قيّده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة للبس عنه، قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الّذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى مضر.
وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبا وشعبان(3/174)
__________
[ () ] الرجبين، وقيل كانت تسمى جمادى ورجبا جمادين، وتسمى شعبان رجبا.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض» ،
فقال العلماء:
معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى اللَّه عليه وسلّم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الّذي بعده، وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرّموا ذا الحجة لموافقة الحساب الّذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن الاستدارة قد صادفت ما حكم اللَّه تعالى به يوم خلق السموات والأرض.
وقال أبو عبيد: كانوا ينسئون أي يؤخرون، وهو الّذي قال اللَّه تعالى فيه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه.
قوله: «ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم.. إلى آخره» ،
هذا السؤال، والسكوت، والتفسير، أراد به التفخيم، والتقرير، والتنبيه على عظم مرتبه هذا الشهر، والبلد، واليوم، وقولهم: «اللَّه ورسوله أعلم» ، هذا من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» .
المراد بهذا كله بيان توكيد غليظ تحريم الأموال والدماء، والأعراض، والتحذير من ذلك.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ،
قيل في معناه سبعة أقوال:
[1] أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق.
[2] المراد كفر النعمة، وحق الإسلام.
[3] أنه يقرب من الكفر، ويؤدي إليه.
[4] أنه فعل كفعل الكفار.
[5] المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا، ودوموا مسلمين.
[6] حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار: المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفّر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتاب (تهذيب اللغة) : يقال للابس السلاح كافر.
[7] قال القاضي عياض رحمه اللَّه: ثم إن الرواية «يضرب» برفع الباء، هكذا هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا.
ونقل القاضي عياض رحمه اللَّه، أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال القاضي: وهو إحالة للمعنى، والصواب الضم، قال الإمام النووي: وكذا قال أبو البقاء العكبريّ: إنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا يضرب، واللَّه تعالى أعلم.(3/175)
يعني في نسبة الحكم لنا ظاهرا كما كان في الدورة الأولى منسوبا إلينا باطنا، وإن كان في الظاهر منسوبا لمن نسب إليه من الأنبياء، ولما كانت العرب تنسئ [ (1) ] في الشهور فترى المحرّم منها حلالا والحلال منها محرّما، جاء محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم برد الزمان إلى أصله الّذي حكم إليه به عند خالقه، فبين الحرم من الشهور على حد ما خلقها اللَّه
__________
[ () ] وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا» ،
فقال القاضي: قال الصبري: معناه بعد فراقي من موقفي هذا، وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الّذي أمرتكم به، أو يكون تحقق صلى اللَّه عليه وسلّم أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ،
فيه وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، فيجب تبليغه بحيث ينتشر.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» ،
احتج به العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم من الشيوخ الذين لا علم لهم عندهم ولا فقه، إذا ضبط ما يحدث به. (مسلم بشرح النووي) : 2/ 415- 416، كتاب الإيمان، باب (29) بيان معنى
قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ،
حديث رقم (118) ، (المرجع السابق) : 11/ 180، كتاب القسامة، باب (9) . تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (29) .
[ (1) ] النسيء: يقال نسأه وأنسأه، إذا أخّره، حكاه الكسائي. قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخّرته، ثم حوّل إلى نسيء، كما حوّل مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ، وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة.
وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشريّ لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر.
وقال الطبريّ: النسيء بالهمز معناه الزيادة. قال أبو حيان: فإذا قلت: أنسأ اللَّه أجله بمعنى أخّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفا للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدرا كان الإخبار عنه بمصدر واضحا، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة، أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وأخبر أن النسيء زيادة في الكفر، أي جاءت مع كفرهم باللَّه، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا. قال تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] ، كما أن المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا. قال تعالى: فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] ، وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة.(3/176)
عليه، فلهذا
قال: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض» ،
كذلك استدار الزمان فأظهر محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم جسما وروحا، فنسخ [ (1) ] من شرعه المتقدم ما أراد أن ينسخ منه. وأبقى ما أراد اللَّه أن يبقى عليه، وذلك النّسخ في الأحكام لا في الأصول، ولما كان ظهوره صلى اللَّه عليه وسلّم [بالميزان] [ (2) ] وهو العدل في الكون وهو معتدل حار رطب كان زمان ملته متصلا بالآخرة، وكان العلم في أمته أكثر مما كان.
في الأوائل، وأعطي صلى اللَّه عليه وسلّم علم الأولين وعلم الآخرين، فكان الكشف في هذه الأمة
__________
[ () ] وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يُضِلُّ مبنيا للمفعول، وهو مناسب لقوله: زُيِّنَ، وباقي السبعة مبنيا للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد، وقتادة، وعمرو بن ميمون، ويعقوب: يُضِلُّ أي اللَّه، أي يضل به الذين كفروا أتباعهم.
ورويت هذه القراءة عن الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء:
يُضِلُّ بفتحتين، من ضللت بكسر اللام، أضلّ بفتح الضاد منقولا، فتحها من فتحة اللام، إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي فضل نحن.
ومعنى تحريمهم عاما وتحليله عاما: لا يراد أن ذلك كان مداولة في الشهر بعينه، عام حلال وعام حرام، وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شقّ عليهم توالي الأشهر الحرم، أحل لهم المحرم، وحرم صفرا بدلا من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل، حرّم المحرم على حقيقته، وأحلّ صفر، ومشت الشهور مستقيمة، وإن هذه كانت حال القوم.
وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثة.
وعن ابن عباس: إن أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب وغيّر دين إبراهيم عليه السلام. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة.
والموطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التي حرّم اللَّه، وهي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الّذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الّذي هو أربعة، في أشخاص أشهر معلومة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم. يقال: تواطئوا على كذا، إذا اجتمعوا عليه، كأن كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومن الإيطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد.
قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة التي خصّ بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر. باختصار من (البحر المحيط) : 5/ 416- 418.
[ (1) ] النسخ إبطال الشيء وإقامة آخر مكانه، وفي التنزيل: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، والآية الثانية ناسخة والأولى منسوخة، والشيء ينسخ الشيء أي يزيله ويكون مكانه. (لسان العرب) : 3/ 61.
[ (2) ] في (خ) «بالميراث» ، وما أثبتناه أجود للسياق.(3/177)
أكثر مما كان في غيرها، لغلبة البرد واليبس على سائر الأمم قبلنا، وإن كانوا أذكياء وعلماء فآحاد مهم معينون بخلاف الأمة المحمدية، ألا ترى كيف ترجمت هذه الأمة جميع علوم الأمم، ولو لم يكن المترجم عالما بالمعنى الّذي دل عليه لفظ المتكلم به لما صح أن يكون مترجما، ولا كان ينطبق على ذلك اسم الترجمة، فقد علمت هذه الأمة علم من تقدم، واختصت بعلوم لم تكن للمتقدمين، ولهذا
أشار صلى اللَّه عليه وسلّم بقوله: «فعلمت علم الأولين» ، وهم الذين تقدموه، ثم قال: «وعلم الآخرين» ،
وهو علم ما لم يكن عند المتقدمين، وهو ما تعلمته أمته من بعده إلى يوم القيامة، فقد أخبر عليه السلام أن عندنا علوما لم تكن قبل، فقد ثبت له صلى اللَّه عليه وسلّم السيادة في الدنيا في العلم، وثبت له أيضا السيادة في الحكم حيث
قال: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» ،
وتبين ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، وحكمه فينا بالقرآن، فصحّت لنبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم السيادة في الدنيا بكل وجه ومعنى.
ثم أثبت له السيادة على سائر الناس يوم القيامة بفتحه باب الشفاعة، ولا يكون ذلك [لنبي في [ (1) ] يوم القيامة] إلا له صلى اللَّه عليه وسلّم، فقد شفع صلى اللَّه عليه وسلّم في الرسل والأنبياء أن تشفع، نعم، وفي الملائكة، فأذن اللَّه تعالى عند شفاعته عليه السلام في ذلك لجميع من له شفاعة من ملك ورسول ونبي ومؤمن أن يشفع، فهو صلى اللَّه عليه وسلّم أول شافع بإذن اللَّه تعالى، وأرحم الراحمين، أخرج من النار من لم يعمل خيرا قط كما ورد في الحديث الصحيح، فأي شرف أعظم من دائرة تدار يكون آخرها أرحم الراحمين، وآخر الدائرة متصل بأولها، ولا شرف أعظم من شرف محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، حيث كان ابتداء الأشياء، وبه كملت، وما أعظم شرف المؤمن حيث ثلث شفاعته بشفاعة أرحم الراحمين، فلا دائرة أوسع من دائرة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فإن له الإحاطة-[ولأمته بحكم التبعية فلها الاحاطة] [ (2) ]- بسائر الأمم، ولذلك كانوا شهداء على الناس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ولا يكون ذلك لنبي إلا في يوم القيامة» ، وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] ما بين القوسين من هامش (خ) .
[ (3) ] إشارة إلى قوله تعالى: وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] .(3/178)
[وأعطى] [ (1) ] اللَّه محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم ما لم يعط غيره، فمن ذلك القرآن لم يبدل [ولم يحرف] [ (2) ] ، ولا نسخت شريعته بل ثبتت محفوظة، واستقرت بكل عين ملحوظة، يستشهد بها على كل طائفة، وخصّ صلى اللَّه عليه وسلّم بعلم الأولين والآخرين، وبالتؤدة والرّفق والرحمة وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [ (3) ] ، وما غلظ على من غلظ إلا بالأمر الإلهي حين قيل له جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، فصحت له السيادة على العالم بما تقرر، فإنه لم يحصل لغيره.
قال تعالى: يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [ (5) ] ، وقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [ (6) ] ، فلذلك ثبت القرآن ولم يحرف، وكذا علمه الإحاطي لم يكن لغيره ممن تقدمه. ومما خص به: السيف الّذي بعث به، وقتال الملائكة معه، فإن ذلك لم يكن لغيره، وهو من رتبة الكمال، وبعث من قوم ليس لهم همّ إلا في قرى الضيفان ونحر الجزور، والقتال الدائم الّذي لم يكن في غيرهم من الناس، وبهذا ولهذا كانوا يتمدحون كما هو معروف في أشعارهم، ولا خفاء عند كل أحد بفضل العرب على العجم بالكرم والشجاعة، وإن كان في العجم كرماء وشجعان كما في العرب بخلاء وجبناء لكن آحاد، والكلام يقع في الغالب لا في النادر، فهذا أمر لا ينكره أحد.
ومما اختص به صلى اللَّه عليه وسلّم أنه حببت إليه النساء [ (7) ] ، فإن حبهن بكون اللَّه تعالى حببهن إليه، فكان يحبهن. ومن سنته النكاح لا التبتل، وجعل النكاح عبادة، وحبب إليه أيضا الطيب [ (7) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «وأعطا» .
[ (2) ] في (خ) «ولا حرف» .
[ (3) ] الأحزاب: 43.
[ (4) ] التوبة: 73، التحريم: 9.
[ (5) ] البقرة: 75.
[ (6) ] الحجر: 9.
[ (7) ]
أخرجه النّسائيّ في كتاب عشرة النساء، باب (1) ، حب النساء، حديث رقم (3949) : حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النّسائيّ قال: أخبرنا الحسين بن عيسى القومسيّ قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا سلّام أبو المنذر عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «حبّب إليّ من الدنيا النساء والطّيب، وجعل قرة عيني في الصلاة» .
وحديث رقم (3950) : أخبرنا عليّ بن مسلم الطوسيّ قال: حدثنا سيّار قال: حدثنا جعفر قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «حبّب إليّ النّساء والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» .
قال الحافظ السيوطي: قال بعضهم: في هذا قولان: أحدهما: أنه زيادة في الابتلاء والتكليف،(3/179)
__________
[ () ] حتى يلهو بما حبب إليه من النساء، عما كلف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره.
والثاني: لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه، فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحببهن إليه على وجه اللطف به، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة.
وقال التستري في (شرح الأربعين) : «من» في هذا الحديث بمعنى «في» ، لأن هذه من الدين لا من الدنيا، وإن كانت فيها. والإضافة في رواية «دنياكم» للإيذان بأن لا علاقة له بها.
وفي هذا الحديث: إشارة إلى وفائه صلى اللَّه عليه وسلّم بأصلي الدين، وهما التعظيم لأمر اللَّه، والشّفقة على خلق اللَّه، وهما كمال لقوّتيه، النظرية والعملية، فإن كمال الأولى بمعرفة اللَّه، والتعظيم دليل عليها، لأنه لا يتحقق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة اللَّه تعالى على ما قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «المصلي يناجي ربه» ، نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها.
وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق، وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس، نفسه وبدنه، كما
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «أبدأ بنفسك ثم بمن تعول» ،
والطيب أخص الذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذّ الأشياء بالنسبة إلى البدن، مع ما يتضمن من حفظ الصحة، وبقاء النسل المستمر لنظام الوجود، ثم إن معاملة النساء، أصعب من معاملة الرجال، لأنهن أرق دينا، وأضعف عقلا، وأضيق خلقا، كما
قال صلى اللَّه عليه وسلّم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبّ الرجل الحازم منكن» .
فهو عليه الصلاة والسلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وكان صدور ذلك طبعا لا تكلفا، كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهن هذا، فما ظنك بمعاملته مع الرجال، الذين هم أكمل عقلا، وأمثل دينا، وأحسن خلقا؟.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ،
إشارة إلى أن كمال القوة النظرية أهم عنده وأشرف في نفس الأمر، وأما تأخيره فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى، وقدم الطيب على النساء، لتقدم حظ النفس على حظ البدن في الشرف.
وقال الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) : الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل نبوتهم، وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر، ففاض في العروق، التذت النفس والعروق، فأثار الشهوة وقوّاها.
وروى عن سعيد بن المسيب أن النبيين عليهم الصلاة والسلام، يفضّلون بالجماع على الناس، وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «أعطيت قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح، وأعطى المؤمن قوة عشرة» ،
فهو بالنّبوّة، والمؤمن بإيمانه، والكافر له شهوة الطبيعة فقط.
قال: وأما الطيب فإنه يزكي الفؤاد ...
وروى أحمد والترمذي من حديث أبي أيوب قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أربع من سنن المرسلين: التعطّر، والحياء، والنكاح، والسواك» .
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السّرّ في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أن اللَّه تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يستحيا من ذكره، وما لا يستحيا منه، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أشدّ الناس حياء، فجعل اللَّه تعالى له نسوة، ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله، التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال، ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا(3/180)
واختص أيضا بإعجاز القرآن، وأعطي جوامع الكلم، ولم يعط ذلك نبي قبله، واعطي كما قال: ستا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبله: بعث إلى الناس كافة فعمت رسالته، ونصر بالرعب، وأحلت له ولأمته الغنائم، وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وتربتها طهورا، ومما خصّ به أن أعطاه اللَّه مفاتيح خزائن الأرض، وخصّه بصورة الكمال فكملت به الشرائع وكان خاتم الأنبياء، ولم يكن ذلك
__________
[ () ] النوع، ومنهن عرف مسائل الغسل، والحيض، والعدة، ونحوها.
قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية، معاذ اللَّه، وإنما حبّب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب.
وأيضا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه، وحال خلوته، من الآيات البينات على نبوته، ومن جدّه، واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي، وما كان يشاهدها غيرهن، فحصل بذلك خير عظيم.
وقال الموفق عبد اللطيف البغدادي: لما كانت الصلاة جامعة لفضائل الدنيا والآخرة، خصّها بزيادة صفة، وقدّم الطيب لإصلاحه النفس، وثنّي بالنساء لإماطة أذى النفس بهن، وثلّث بالصلاة لأنها تحصل حينئذ صافية عن الشوائب، خالصة من الشواغل. (سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي) : 7/ 72- 73.
وقال الإمام السندي: قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حبّب إليّ من الدنيا النساء» ،
قيل: إنما حبب إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطلع عليه الرجال من أحواله، ويستحيا من ذكره.
وقيل: حبب إليه زيادة في الابتلاء في حقه، حتى لا يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف به من أداء الرسالة، فيكون أكثر لمشاقه، وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك.
وأما الطيب، فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة، وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج، وكمال الخلقة، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم أشدّ اعتدالا من حيث المزاج، وأكمل خلقة.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «قرة عيني في الصلاة» ،
إشارة إلى أن تلك المحبة، غير ما نعقله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى، بل هو مع تلك المحبة منقطع إليه تعالى، حتى أنه بمناجاته تقر عيناه، وليس له قريرة العين فيما سواه.
فمحبته الحقيقية ليست إلا لخالقه تبارك وتعالى،
كما قال: صلى اللَّه عليه وسلّم: «لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر، وإن صاحبكم لخليل الرحمن»
- أو كما قال- وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء حقوق العبوديّة، بل للانقطاع إليه تعالى، يكون من الكمال، وإلا يكون من النقصان، فليتأمّل.
وعلى ما ذكر، فالمراد بالصلاة، هي ذات ركوع وسجود، ويحتمل أن المراد في صلاة اللَّه تعالى عليّ، أو في أمر اللَّه تعالى الخلق بالصلاة عليّ. واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 73- 74.(3/181)
لغيره [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
هذا الحديث أخرج البخاري في كتاب التيمم، باب (1) ، حديث رقم (335) : أخبرنا سيار قال:
حدثنا يزيد الفقير قال: أخبرنا جابر بن عبد اللَّه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
قوله: «حدثنا يزيد الفقير» ، هو ابن صهيب يكنى أبا عثمان، التابعي مشهور، قيل له الفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره، ولم يكن فقيرا من المال، قال صاحب المحكم: رجل فقير مكسور فقار الظهر، ويقال له: فقير بالتشديد أيضا.
فائدة: مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن عباس وأبي موسى وأبي ذر، من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «لم يعطهن أحد قبلي» ،
زاد في كتاب الصلاة عن محمد بن سنان: «من الأنبياء» ، وفي حديث ابن عباس: «لا أقولهن فخرا» ، ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن
روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: «فضلت على الأنبياء بست» ،
فذكر أربعا من هذه الخمس، وزاد ثنتين كما سيأتي بعد.
وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك.
ولا يعترض بأن نوحا عليه السلام، كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليهم، لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الّذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.
وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: «أنت أول رسول إلى أهل الأرض» ،
فليس المراد به به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات، على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض، فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم فأجيب، وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبّئ في زمن نوح غيره.
ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى اللَّه عليه وسلّم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه، أو بعده، فينسخ بعض شريعته، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد، بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسيره(3/182)
__________
[ () ] سورة هود قال:
وغير ممكن أن تكون نبوّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته، ووجّهه ابن دقيق العيد بأن توحيد اللَّه تعالى يجوز أن يكون عامّا في حق بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاما، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم.
ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، [وهذا الاحتمال الأخير أظهر مما قبله، لقول اللَّه تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، وقوله تعالى:
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً] فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم.
وغفل الداوديّ الشارح غفلة عظيمة فقال:
قوله: «لم يعطهن أحد»
يعني لم تجمع قبله، لأن نوحا بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يعط أحد واحدة منهن. وكأنه نظر في أول الحديث وغفل عن آخره، لأنه
نص صلى اللَّه عليه وسلّم على خصوصيته بهذه أيضا لقوله: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة» ، وفي رواية مسلم: «وكان كل نبي» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «نصرت بالرعب» ، زاد أبو أمامة: «يقذف في قلوب أعدائي» ، أخرجه الإمام أحمد.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «مسيرة شهر» ،
مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ
رواية عمرو بن شعيب: «ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر» ،
فالظاهر اختصاصه به مطلقا، وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وجعلت لي الأرض مسجدا» ،
أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك.
قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيري مسجدا، ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى عليه السلام، كان يسبح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداوديّ.
وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض، إلا فيما يتيقنوا نجاسته، والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع، ويؤيده
رواية عمرو بن شعيب بلفظ: «وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم» ،
وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما
أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب فيه: «ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وطهورا» ،
استدلّ به على أن الطهور هو المطهر لغيره، لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها.
وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود، بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعا: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» ،
ومعنى طيبة طاهرة،(3/183)
__________
[ () ] فلو كان معنى طهورا طاهرا للزم تحصيل الحاصل.
واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف، قال الحافظ في (الفتح) : «وفيه نظر» . قال محققه: «ليس للنظر المذكور وجه، والصواب أن التيمم رافع للحدث كالماء، عملا بظاهر الحديث المذكور، وما جاء في معناه، وهو قول جم غفير من أهل العلم. واللَّه تعالى أعلم. (أ. هـ) .
وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أمامة بقوله: «وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فأيما رجل» ، «أيّ» مبتدأ فيه معنى الشرط، و «ما» زائدة للتأكيد، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابا، ووجد شيئا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به، ولا يقال:
هو خاص بالصلاة، لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: «فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء، وجد الأرض طهورا ومسجدا. وعند الإمام أحمد: «فعنده طهوره ومسجده» . وفي رواية عمرو بن شعيب: «فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» .
واحتج من خصّ التيمم بالتراب، بحديث حذيفة عند الإمام مسلم بلفظ: «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» ، وهذا خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب، ودلّ الافتراق في اللفظ، حيث حصل التأكيد من جعلها مسجدا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا، كما في حديث الباب.
ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ «التربة» على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ «التراب» ، أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي: «وجعل التراب لي طهورا» ، أخرجه الإمام أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوى القول بأنه خاص بالتراب، أن الحديث سبق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه. قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «فليصل» ، عرف مما تقدم أن المراد فليصل بعد أن تيمم.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأحلت لي الغنائم» ،
وللكشميهني «المغانم» وهي رواية الإمام مسلم، قال الخطابي:
كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.. وقيل: المراد أنه خصّ بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم المغانم أصلا.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت الشفاعة» ،
قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام منها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي وغيره.
وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل. وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، قاله عياض. والّذي يظهر لي أن هذه مع الأولى، لأنه يتبعها بها.
وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أن يشفع لأهل الصغائر والكبائر، وغيره إنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر. ونقل عياض أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد.
وقد وقع في حديث ابن عباس: «وأعطيت الشفاعة، فأخّرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك باللَّه شيئا» .
وفي حديث عمرو بن(3/184)
__________
[ () ] شعيب: «فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا اللَّه» ،
والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصّة في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضا بالشفاعة الأولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك لاقتضائها الراحة المستمرة.
وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس في كتاب التوحيد: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال:
لا إله إلا اللَّه» . ولا يعكر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: «وعزتي» فيقول: «ليس ذلك، وعزتي.. إلخ» ،
لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج كما في المرات الماضية، بل كانت الشفاعة سببا في ذلك.
وأما
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وبعثت إلى الناس عامة» ، فوقع في رواية مسلم: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود» ،
فقيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها،
رواية أبي هريرة عند مسلم: «وأرسلت إلى الخلق كافة» .
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : أول حديث أبي هريرة هذا: «فضّلت على الأنبياء بست» ، فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهم: «وأعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون» ،
فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث خصال: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة»
وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى، وهي الخصلة المهمة بينها
ابن خزيمة والنسائي، وهي: «وأعطيت هذه الآيات من سورة البقرة من كنز تحت العرش» ،
يشير إلى ما حطه اللَّه عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث علي: «أعطيت أربعا لم يعطهنّ أحد من أنبياء اللَّه: أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم»
وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: «فضّلت على الأنبياء بست: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» ،
وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: «فضّلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني اللَّه عليه فأسلّم»
قال: ونسيت الأخرى، قال الحافظ ابن حجر: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة. ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد تقدم طريق الجمع بين هذه الروايات، وأنه لا تعارض فيها.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابورىّ في كتاب (شرف المصطفى) ، أن عدد الّذي اختص به نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم عن الأنبياء ستون خصلة. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم:
[1] مشروعية تعديد نعم اللَّه.
[2] إلقاء العلم قبل السؤال.
[3] أن الأصل في الأرض الطهارة.
[4] أن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك.
وأما
حديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فضعيف، أخرجه الدار الدّارقطنيّ من حديث(3/185)
فبهذا وأمثاله انفرد بالسيادة الجامعة للسيادات كلها، والشرف المحيط الأعم صلى اللَّه عليه وسلّم. وكان من رتبة الكمال الّذي اختص به عليه السلام في جميع أموره: الكمال في [العبوديّة] [ (1) ] فكان عبدا صرفا لم تقم بذاته ربانية على أحد، وهي التي أوجبت له السيادة، وهي الدليل على شهوده على الدوام، وقد قالت عائشة رضي اللَّه عنها:
«كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يذكر اللَّه على كل أحيانه» ، وهو أمر يختص بباطن الإنسان وقوله، وقد يظهر خلاف ذلك بأفعاله مع تحققه بالمقام، فيلتبس على من لا معرفة له بالأحوال. واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
***
__________
[ () ] جابر.
واستدل به صاحب (المبسوط) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي وقال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كل منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته. قال محققه:
وحديث جابر، يغني عنه ما
رواه ابن ماجة، وابن حبان، والحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس مرفوعا: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر» ،
وما
رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: «أن رجلا أعمى سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يصلي في بيته، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب» ،
وهذا في الفرائض كما هو معلوم، أما النافلة فلا تختص بالمسجد بل هي في البيت أفضل، إلا ما للشرع دليل على استثنائه. واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) :
1/ 574 كتاب التيمم باب (1) حديث (335) .
[ (1) ] في (خ) : «العبودة» .(3/186)
ذكر التنويه [ (1) ] بذكر رسول صلى اللَّه عليه وسلّم من زمن آدم عليه السلام
فخرج الحاكم من حديث عمر بن أوس الأنصاري، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: «أوحى اللَّه إلى عيسى:
يا عيسى، آمن بحمد ومن أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلق آدم، ولولا محمد ما خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا اللَّه فسكن [ (2) ] » قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد.
وذكر إبراهيم بن طهمان [ (3) ] عن بديل بن ميسرة عن عبد اللَّه بن شقيق عن
__________
[ (1) ] ناه الشيء ينوه: ارتفع وعلا، عن ابن جني، فهو نائه. ونهت بالشيء نوها، ونوّهت به، ونوّهته تنويها: رفعته. ونوّهت باسمه: رفعت ذكره. (لسان العرب) : 13/ 550.
[ (2) ] (المستدرك) : 2/ 671، كتاب تواريخ المتقدمين، حديث رقم (4227/ 237) : حدثنا علي بن حمشاد العدل إملاء، حدثنا هارون بن العباس الهاشمي، حدثنا جندل بن والق، حدثنا عمرو بن أوس الأنصاري، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «أوحى اللَّه إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى، آمن بمحمد، وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه فسكن» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. قال في (التخليص) : أظنه موضوعا على سعيد.
[ (3) ] هو إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني أبو سعيد، ولد في بهراة وسكن نيسابور، وقدم بغداد، ثم سكن مكة إلى أن مات. روي عن أبي إسحاق السبيعي، وأبي إسحاق الشيبانيّ، وعبد العزيز بن صهيب، وأبي جمرة نصر بن عمران الضبعي، ومحمد بن زياد الجمحيّ، وأبي الزبير، والأعمش، وشعبة، وسفيان والحجاج بن الحجاج الباهلي، وجماعة.
وروى عنه حفص بن عبد اللَّه السلمي، وخالد بن نزار، وابن المبارك، وأبو عامر العقدي، ومحمد بن سنان العوفيّ، ومحمد بن سابق البغدادي وغيرهم. وروى عنه صفوان بن سليم، وهو من شيوخه.
قال ابن المبارك: صحيح الحديث. وقال أحمد وأبو حاتم وأبو داود: ثقة. زاد أبو حاتم: صدوق حسن الحديث. وقال ابن معين والعجليّ: لا بأس به. وقال عثمان بن سعيد الدارميّ: كان ثقة في الحديث، لم يزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويوثقونه.
وقال صالح بن محمد: ثقة، حسن الحديث، يميل شيئا إلى الإرجاء في الإيمان، حبب اللَّه حديثه(3/187)
ميسرة قال: قلت: يا رسول اللَّه، متى كنت نبيا؟ قال: لما خلق اللَّه الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول اللَّه، خاتم الأنبياء، وخلق اللَّه الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب على أبوابها اسمي، والأوراق والقباب والختام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه اللَّه نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره اللَّه تعالى أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه.
وخرج الطبراني من حديث عبد اللَّه بن مسلم، حدثنا إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يا رب، بحق محمد صلى اللَّه عليه وسلّم إلا غفرت لي، فأوحى اللَّه إليه: وما محمد، ومن محمد؟ فقال: يا رب، إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك، فقال: نعم، قد غفرت لك، وهو آخر الأنبياء من ذريتك، ولولاه ما خلقتك.
قال البيهقي:
__________
[ () ] إلى الناس، جيد الرواية. وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيح الحديث، حسن الرواية، كثير السماع، ما كان بخراسان أكثر حديثا منه، وهو ثقة.
وقال يحى بن أكثم القاضي: كان من أنبل الناس ممن حدّث بخراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم وأوسعهم علما.
وقال أحمد: كان يرى الإرجاء، وكان شديدا على الجهمية. وقال أبو زرعة: ذكر عند أحمد، وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ.
وقال الدار الدّارقطنيّ: ثقة، إنما تكلموا في الإرجاء. وقال البخاري في (التاريخ) : حدثني رجل، حدثني علي بن الحسن بن شقيق، سمعت ابن المبارك يقول: أبو حمزة السكري، وإبراهيم بن طهمان العلم والحديث.
قال البخاري: وسمعت محمد بن أحمد يقول: سألت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل عن إبراهيم فقال:
صدوق اللهجة. وقال ابن حبان في (الثقات) : قد روى أحاديث مستقيمه تشبه أحاديث الأثبات، وقد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات.
قال الحافظ ابن حجر: الحق فيه أنه ثقة صحيح الحديث إذا روى عنه ثقة، ولم يثبت غلوه في الإرجاء ولا كان داعية إليه، بل ذكر الحاكم أنه رجع عنه. (تهذيب التهذيب) :
1/ 112- 114، ترجمة رقم (231) باختصار.(3/188)
تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه، وهو ضعيف [ (1) ] .
قال كاتبه: هو أبو زيد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، ضعّفه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وهو ممن احتمله وصدقه بعضهم، وهو ممن يكتب حديثه. وخرجه الحاكم من حديث عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر بنحو أو قريب منه، ثم قال: حديث صحيح الإسناد.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث سعيد بن جبير أنه قال: اختصم ولد آدم أي الخلق أكرم علي اللَّه تعالي؟ فقال بعضهم: آدم خلقه اللَّه بيده وأسجد له ملائكته، وقال آخرون: بل الملائكة الذين لم يعصوا اللَّه، فذكروا ذلك لآدم، فقال: لما نفخ في الروح لم يبلغ قدمي حتى استويت جالسا، فبرق لي العرش، فنظرت فيه: محمد رسول اللَّه، فذاك أكرم الخلق علي اللَّه.
وروى الحسين بن [علي] بن أبي طالب مرفوعا: أهل الجنة ليست لهم كني إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد توقيرا وتعظيما.
وقال محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة: حدثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب قال: أوحي اللَّه تعالي إلي آدم عليه السلام: أنا اللَّه، وبكة [ (2) ] أهلها خيرتي، وزوارها وفدي كنفي، أعمر [بيتي] [ (3) ] بأهل السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا، يعجون بالتكبير عجيجا، ويرجون بالتلبية رجيجا، ويثجون بالبكاء ثجا، فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني وضافني، ووفد إليّ، ونزل بي، وحق لي أتحفه بكرامتي، أجعل ذاك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضي علي يديه عمارته، وأبسط له سقايته، وأريه حله وحرمه،
__________
[ (1) ] (المستدرك للحاكم) وقال: حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد ابن أسلّم في هذا الكتاب، وقال (الحافظ الذهبي) في (التلخيص) : «قلت: بل موضوع وعبد الرحمن واه» ج 2 ص 615.
[ (2) ] من أسماء مكة المكرمة: بكة، وأم القرى.
[ (3) ] في (خ) «أعمره» ، وما بين القوسين زيادة للسياق.(3/189)
وأعلمه مشاعره، ثم تعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلي بني من ولدك يقال له محمد، وهو خاتم النبيين، فأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته، ومن سألك عني يومئذ فأنا الشعث الغبر الموفين بنذورهم، المقبلين إلي ربهم.
وقال سعيد بن عمرو الأنصاري عن أبيه عن كعب الأحبار قال: لما أراد اللَّه أن يخلق محمدا صلى اللَّه عليه وسلّم أمر جبريل فأتاه بالقبضة التي هي موضع قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فعجنت بماء التسنيم، وثم غمست في أنهار الجنة وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمدا وفضله قبل أن تعرف آدم، ثم كان نور [محمد] [ (1) ] يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له يا آدم، هذا سيد ولدك من المرسلين، فلما حملت [حواء] [ (2) ] بشيث انتقل النور من آدم إلي [حواء] [ (2) ] ، وكانت تلد في كل بطن ولدين إلّا شيثا فإنه ولدته وحده كرامة لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم لم [يزل] [ (3) ] ينتقل من طاهر إلي طاهر إلي أن ولد صلى اللَّه عليه وسلّم.
وقال ورقاء بن عمر عن ابن أبي الحجيج عن عطاء بن السائب ومجاهد عن مرة الهمزاني عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه، أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وأهبطت إلي الأرض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب نوح، وقذفت في النار في صلب إبراهيم، لم يلتق لي أبوان قط علي سفاح، لم يزل ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلي الأرحام النقية مهذبا، لا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، فأخذ اللَّه لي بالنّبوّة ميثاقي، وفي التوراة بشّر بي، وفي الإنجيل شهر اسمي، تشرق الأرض لوجهي، والسماء لرؤيتي [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «محمدا» وما أثبتناه حق اللغة.
[ (2) ] في (خ) : «حوى» .
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] يشهد لهذا الأثر ما أخرجه كل من:
البخاري: في كتاب المناقب، باب (23) ، حديث رقم (3557) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الّذي كنت منه» .
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا» ،
القرن الطبقة من الناس المجتمعين في عصر واحد» ، ومنهم من حدّه بمائة سنة، وقيل: بسبعين، وقيل بغير ذلك. فحكى الحربي الاختلاف فيه من عشرة إلي مائة وعشرين، ثم تعقب الجميع وقال: الّذي أراه أن القرن كل أمة هلكت(3/190)
__________
[ () ] حتى لم يبق منها أحد. وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «قرنا» ، بالنصب حال للتفصيل.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «حتى كنت من القرن الّذي كنت منه» ، في رواية الإسماعيلي: «حتى بعثت من القرن الّذي كنت فيه» .
.. والقرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم علي ملة، أو مذهب، أو عمل. ويطلق القرن علي مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها، ذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين، وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن بسر عند مسلم، ما يدل علي أن القرن مائة وهو المشهور.
وقال صاحب المطالع: القرن أمة هلكت، فلم يبق منهم أحد، وثبتت المائة في حديث عبد اللَّه بن بسر، وهو ما عند أكثر أهل العراق. ولم يذكر صاحب (المحكم) الخمسين، وذكر من عشر إلي سبعين، ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال، وبه صرح ابن الأعرابي وقال: إنه مأخوذ من الأقران، ويمكن أن يحمل عليه المختلف من الأقوال المتقدمة ممن قال إن القرن أربعون فصاعدا، أما من قال إنه دون ذلك فلا يلتئم علي هذا القول واللَّه أعلم.
والمراد بقرن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في هذا الحديث الصحابة.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وبعثت في خير قرون بني آدم» ، وفي رواية بريدة عند الإمام أحمد: «خير هذه الأمة القرن الّذي بعثت فيهم» ،
وقد ظهر أن الّذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة، أو دونها، أو فوقها بقليل، علي الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى اللَّه عليه وسلّم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا وتسعين.
وأما قرن التابعين، فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم، فإن اعتبر منها، كان نحوا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان واللَّه تعالي أعلم.
واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلي حدود العشرين ومائتين، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلي الآن، وظهر قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «ثم يفشو الكذب» ظهورا بينا، حتى يشمل الأقوال، والأفعال، والمعتقدات، واللَّه المستعان. (فتح الباري) : 6/ 712، 7/ 6- 7.
ومسلم: في كتاب الفضائل، باب (1) ، فضل نسب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث رقم (2276) : حدثنا محمد بن مهران الرازيّ، ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم، جميعا عن الوليد، قال ابن مهران: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد، أنه سمع وائلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إن اللَّه اصطفي كنانة من ولد إسماعيل، واصطفي قريشا من كنانة، واصطفي من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وباب (2) تفضيل نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم علي جميع الخلائق، حديث رقم (2278) ، حدثني الحكم بن موسي أبو صالح، حدثنا هقل- يعني ابن زياد- عن الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني عبد اللَّه بن فروخ، حدثني أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع»(3/191)
__________
[ () ] قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه اصطفي كنانة» ،
قال الإمام النووي: استدل به أصحابنا علي أن غير قريش من الغرب ليس بكفء لهم، ولا غير بني هاشم كفؤ لهم، إلا بني المطلب فإنّهم هم وبنو هاشم شيء واحد، كما صرح به في الحديث الصحيح.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع» ،
قال الهروي: السيد هو الّذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الّذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمّل عنهم مكارهم، ويدفعها عنهم.
وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «يوم القيامة» ، مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى مناع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار، وزعماء المشركين.
وهذا التقييد قريب من معني قوله تعالي: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك، أو من يضاف إليه مجازا، فانقطع كل ذلك في الآخرة.
قال العلماء:
وقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم» ،
لم يقله فخرا، بل صرّح بنفي الفخر في غير مسلم،
في الحديث المشهور: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ،
وإنما قاله لوجهين:
أحدهما: امتثال قوله تعالي: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
والثاني: أنه من البيان الّذي يجب عليه تبليغه إلي أمته، ليعرفوه ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه صلى اللَّه عليه وسلّم بما يقتضي مرتبته، كما أمرهم اللَّه تعالي.
الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم علي الخلائق كلهم، لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم أفضل الآدميين وغيرهم. وأما
الحديث الآخر: «لا تفضلوا بين الأنبياء» ،
فجوابه من خمسة أوجه:
أحدهما: أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به.
والثاني: قاله أدبا وتواضعا.
والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلي تنقيص المفضول.
والرابع: إنما نهي عن تفضيل يؤدي إلي الخصومة والفتنة، كما هو المشهور في سبب الحديث.
والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى، ولا بدّ من اعتقاد التفضيل، فقد قال تعالي: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «وأول شافع وأول مشفع» ،
إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان، فيشفع الثاني منهما قبل الأول. واللَّه تعالي أعلم.
والترمذي: في أبواب المناقب، باب (20) ما جاء في فضل النبي صلى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (3850) :
حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: «جاء العباس إلي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وكأنه سمع شيئا،(3/192)
قال جامعه قد أشار إلي هذا الحديث العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه في شعره المشهور عنه،
خرج أبو بكر الشافعيّ قال: حدثني أبو الشيخ محمد بن الحسين الأصفهاني، وعبد اللَّه بن محمد بن ياسين قالا: حدثنا زكريا بن يحي بن عمر بن حصن بن حمير عن منهب بن حارث بن خريم بن أوس بن حارثة قال:
قال: خريم بن أوس: هاجرت إلي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت فسمعت العباس رضي اللَّه عنه يقول: يا رسول اللَّه إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
فقل لا يفضض اللَّه فاك،
فأنشأ العباس يقول:
__________
[ () ] فقام النبي صلى اللَّه عليه وسلّم علي المنبر فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول اللَّه عليك السلام، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب. إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» ،
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروي عن سفيان الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، نحو حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب.
قوله: «جاء العباس» ، أي غضبان «وكأنه سمع شيئا» ، أي من الطعن في نسبه أو حسبه،
«فقال: من أنا؟»
استفهام تقرير علي جهة التبكيت، «فقالوا: أنت رسول اللَّه، فلما كان قصده صلى اللَّه عليه وسلّم بيان نسبة وهم عدلوا عن ذلك المعني، ولم يكن الكلام في ذلك المبني،
«أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب» ،
يعني وهما معروفان عند العارف المنتسب.
قال الطيبي: قوله: «فكأنه سمع» ، مسبب عن محذوف، أي جاء العباس غضبان بسبب ما سمع طعنا من الكفار في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، نحو قوله تعالي: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، كأنهم حقّروا شأنه، وأن هذا الأمر العظيم الشأن لا يليق إلا بمن هو عظيم من إحدى القريتين، كالوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي مثلا، فأقرهم صلى اللَّه عليه وسلّم، علي سبيل التبكيت، علي ما يلزم تعظيمه وتفخيمه، فإنه الأولى بهذا الأمر من غيره، لأن نسبه أعرف. ومن ثم لما قالوا:
أنت رسول اللَّه، ردّهم بقوله: أنا محمد بن عبد اللَّه. (تحفة الأحوذي) : 10/ 54.
وابن الأثير في (جامع الأصول) : 8/ 536، حديث رقم (6338) ، رقم (6339) .
والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 345، حديث رقم (1791) ، حديث رقم (1793) .
وأبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط) : 8/ 198، عند تفسير قوله تعالي من سورة الأعراف:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، قال ابن عباس: في أصلاب آدم، ونوح، وإبراهيم، حتى خرجت.
وابن كثير في (التفسير) : 3/ 365، وروى البزار وابن أبي حاتم، من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ: يعني تقلبه من صلب نبي إلي صلب نبي، حتى أخرجه نبيا.(3/193)
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد ولا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
وردت نار الخليل فكنتما ... تجول فيها فليس تحترق
نقلت من صالب إلي رحم ... إذا مضي عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... من خندف علياء تحتها النّطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي ... النور وسبل الرشاد نخترق
قوله: (في الظلال) ، يريد ظلال الجنة حيث كان كونه صلى اللَّه عليه وسلّم في صلب آدم عليه السلام.
ويشير بقوله: (مستودع) ، إلي موضع آدم وحواء من الجنة، وقيل المستودع: النطفة في الرحم.
ويشير بقوله: (يخصف الورق) إلي قوله تعالي حكاية عن آدم وحواء:
فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [ (1) ] .
وفي رواية: (وأهلها الغرق) ،
كأنه عني أهل الأرض أو البلاد لتقدم ذكرها، ويكون الضمير في قوله: (نسرا وأهله) ، عائد علي قوم نوح المغرقين، يريد:
كنت يا محمد في صلب آدم وهو في الجنة، ثم لما هبط إلي الأرض هبطت في صلبه، وتنقلت من بعده في الأصلاب حتى ركبت مع نوح عليه السلام السفينة وأنت في صلبه، لما غرق قوم نوح بالطوفان من أجل كفرهم باللَّه عز وجل، وعباده الأصنام التي هي ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وعبّر عن السفينة بالسفين، وهو جمع سفينة، يقال: سفينة وسفين، وتجمع علي سفن والسفائن أيضا.
وقوله: (وردت نار الخليل) ، يريد أنك كنت في صلب إبراهيم عليه السلام
__________
[ (1) ] الأعراف: 22.(3/194)
لما ألقي في النار فلم تحرقه.
وقوله: (تنقل) ،
وفي رواية: نقلت من صالب إلي رحم، يريد من صلب ذكر إلي رحم امرأة،
وفي الصلب ثلاث لغات: بضم الصاد وإسكان اللام، وصلب بضم الصاد واللام جميعا، وصلب بفتح الصاد واللام معا، حكي هذه الأخيرة في (مختصر العين) .
وقد روى (تنقل من صلب) ،
ورواية (صالب) أشهر، والصالب بمعني الصلب لغة قليلة.
وقوله: (إذا مضي عالم بدا طبق) ، يريد بالطبق القرن لأنهم طبق الأرض، فينقرضون ويأتي طبق آخر.
وقوله: (حتى احتوى بيتك المهيمن من خندف) ، قيل: حتى احتوى بيتك المهيمن أي يا مهيمن من خندف علياء فأقام البيت مقامه صلى اللَّه عليه وسلّم لأن بيته إذا حل بهذا المكان فقد حل هو به، وهو كما يقال: بيته أعزّ بيت، وإنما يراد صاحبه، واعترض علي هذا بأنه إذا عبر بالبيت عنه صلى اللَّه عليه وسلّم فإنه كما قال زياد الأعجم.
إن السماحة والمروءة والنّدى ... في قبة ضربت علي ابن الحشرج
فإن هذا وإن كان ممكنا، لا ضرورة تدعو إليه، إذ بقاؤه علي ظاهره ممكن، وهو مدح أهل بيته صلى اللَّه عليه وسلّم وهو داخل فيهم، فإن مدح بيت الرجل قد يكون أبلغ في مدحه.
فإن قيل: هذا مثل من العباس، أي جعلك اللَّه عاليا وجعل خندف كالنطاق لك، قيل: هذا لا يقتضيه اللفظ إلا بإكراه وتقديم وتأخير، بأن يكون تقديره:
حتى احتويت واحتوى بيتك علياء تحتها النطق من خندف، وإنما الوجه أن يكون المعني: احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء كل النطق تحتها، أو يعلق من خندف بعلياء أي علياء من خندف كل نطاق دونها أو تحتها.
والنّطق: هي أوساط الجبال العالية.
والمهيمن: الشاهد، كأنه حتى احتوى شرف بيتك الشاهد منه الفرع الّذي(3/195)
هو أنت علي طيب الأصل، ويمكن أن يكون قد عبّر بالنطق عن ذوات النطاق، والنطق: جمع نطاق، والنطاق: إزار له تكة تنتطق به المرأة، وكأنه لما قال: أنه احتوى علياء خنندف، والقبيلة إنما سميت بالمرأة، حسن أن يقال: أن هذه العلياء التي احتواها دونها علياء كل ذات نطاق، هي أم الشخص أو القبيلة، ويمكن أن يكون مأخوذا من نطاق البيت وهو ما يراد عليه من خشب يجمع أركانه، فكأنه لما وصف شرفه الليالي وكني عنه البيت، رشّحه إلي ذكر النطاق المستعمل للبيت، أي تحت علياء بيته نطاق كل بيت.
وقيل معناه: حتى احتويت يا مهيمن من خندف علياء، يريد النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأقام البيت مقامه، لأن البيت إذا حل بهذا المكان فقد حلّ به صاحبه، وأراد بيته شرفه، والمهيمن من نعته، كأنه قال: حتى احتوى شرفك الشاهد علي فضلك علياء الشرف من نسب ذوي خندف إلي تحتها النطق- وهي أوساط الجبال العالية- وخندف: هي امرأة إلياس بن مضر بن نزار، فنسب إليها ولد الناس [ (1) ] .
وقيل: أراد بقوله: النطق، العفاف من لبس المرأة النطاق ليحصنها، فيكون النطق بمعني نطاق، أي تحتها نطاق العفاف، وقيل: النطق، جمع ناطق، وقيل:
النطق: جمع نطاق، وهو الّذي يشده الإنسان علي وسطه، ومنه المنطق، وهذا من العباس رضي اللَّه تعالى عنه مثل، أي جعلك اللَّه عاليا، وجعل خندف كالنطاق لك. واللَّه أعلم.
وقد روى أن جبير بن مطعم قال: لما بعث اللَّه تعالي نبيه صلى اللَّه عليه وسلّم فظهر أمره بمكة خرجت إلي الشام، فلما كنت ببصرى أتاني جماعة من النصارى فقالوا لي:
من أهل الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: فتعرف هذا الّذي تنبأ فيكم؟ قلت:
__________
[ (1) ] هي ليلي بنت حلوان بن عمران، وكان إلياس خرج في نجعة فنفرت إبله أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، وخرج عامر فتصيدها وطبخها، وانقمع عمير في الخباء، وخرجت أمهم تسرع، فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فقالت: ما زلت أخندف في إثركم، فلقبوا: مدركة، وطابخة، وقمعة، وخندف (ترتيب القاموس) : ج 2 ص 115، (الأعلام للزركلي) : ج 6 ص 116، (معجم قبائل العرب) : ج 1 ص 40.(3/196)
نعم، قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا فيه تماثيل وصور فقالوا: انظر، هل ترى صورة هذا الّذي بعث؟ فنظرت، فلم أر صورته فقلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير، فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فإذا أنا بصورة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وصفته، وإذا أنا بصفة أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه وصورته وهو آخذ بعقب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقالوا لي: هل ترى صورته؟ فقلت: نعم، وقلت: لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون، قالوا: هو هذا؟ قلت: نعم، وأشاروا إلى جبهة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قلت: اللَّهمّ نعم، أشهد أنه هو، قالوا: هل تعرف هذا؟ قلت: نعم، قالوا لي: نشهد أن هذا صاحبكم وهذا الخليفة بعده [ (1) ] .
وقال موسى بن عقبة: إن هشام بن العاص ونعيم بن عبد اللَّه ورجل آخر بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه، قالوا: فدخلنا على جبلة بن الأهثم وهو بالغوطة، فإذا عليه ثياب سود، وإذا كل شيء حوله أسود، قالوا:
يا هشام، كلمه، فكلمه ودعاه إلى اللَّه تعالى، فقال: ما هذه الثياب السود؟ قال:
لبستها نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها!! قال: قلنا اتئد- أو كلمة تشبهها- حتى تمنع مجلسك، فو اللَّه لنأخذنه منك وملك الملك الأعظم إن شاء اللَّه، أخبرنا بذلك نبينا، قال: فأنتم إذن السمراء، قلنا: السمراء؟ قال: لستم هم، قلنا: ومن هم؟ قال: هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل، قلنا: نحن هم واللَّه، قال: فكيف صومكم؟ فوصفنا له صومنا، فقال: فكيف صلاتكم؟
فوصفنا له صلاتنا، فقال: فاللَّه يعلم لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه قطعة طابق وقال: قوموا، فأمر بنا إلى الملك، فانطلقنا، فلقينا الرسول بباب المدينة فقال: إن شئتم آتيتكم ببغال، وإن شئتم آتيتكم ببراذين، فقلنا: لا واللَّه لا ندخل
__________
[ (1) ] ونحوه باختلاف يسير في (دلائل النبوة للبيهقي) ج 1 ص 385، 386 وسنده: «أخبرني الشيخ أبو الفتح رحمه اللَّه من أصله قال: أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح الهروي قال: حدثنا يحى بن محمد ابن صاعد قال: حدثنا عبد اللَّه بن شبيب أبو سعيد الربعي قال: حدثنا محمد بن عمر بن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه سعيد بن محمد بن جبير عن أبيه قال: سمعت أبي جبير بن مطعم يقول ... » وأورد الحديث.(3/197)
عليه إلا كما نحن، فأرسل إليهم أن يأتون، فأرسل: أن خلّ سبيلهم، فدخلنا معتمّين متقلدين السيوف على الرواحل، فلما كنا بباب الملك، إذا هو في غرفة له عالية، فنظر إلينا، قال: فرفعنا رءوسنا فقلنا: لا إله [إلا] اللَّه، فاللَّه يعلم لنقضت الغرفة كلها حتى كأنها غدق نفضته الريح، فأرسل: إن هذا ليس لكم أن تجهروا بدينكم عليّ، وأرسل إلينا: أن ادخلوا، فدخلنا، فإذا هو على فراش إلى السقف، وإذا عليه ثياب حمر، وإذا كل شيء عنده أحمر، وإذا عنده بطارقة الروم، وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول، فقلنا: لا واللَّه ما نكلمه برسول، وإنما بعثنا إلى الملك، فإذا كنت تحب أن نكلمك فأذن لنا نكلمك، فلما دخلنا عليه ضحك، فإذا هو رجل فصيح بالعربية، فقلنا: لا إله إلا اللَّه، فاللَّه يعلم لقد نقض السقف حتى رفع رأسه هو وأصحابه فقال: ما أعظم كلامكم عندكم، فقلنا: هذه الكلمة؟
قال: التي قلتماها قبل؟ قلنا: نعم، قال: فإذا قلتموها في بلاد عدوكم نقضت سقوفهم؟ قلنا: لا، قال: فإذا قلتموها في بلادكم نقضت سقوفكم؟ قلنا لا، وما رأيناها فعلت هذا، وما هو إلا شيء عبرت به، فقال: ما أحسن الصدق! فما تقولون إذا فتحتم المدائن؟ قلنا: نقول: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، قال:
تقولون: لا إله إلا اللَّه ليس معه شيء، واللَّه أكبر من كل شيء؟ قلنا: نعم، قال:
فما منعكم أن تحيوني بتحية نبيكم؟ قلنا: إن تحية نبينا لا تحل لكم، وتحيتك لا تحل لنا فنحييك بها، قال: وما تحيتكم؟ قلنا: تحية أهل الجنة، قال: وبها كنتم تحيون نبيكم؟ قلنا: نعم، قال: وبها كان يحييكم؟ قلنا نعم، قال: فمن كان يورث منكم؟ قلنا: من كان أقرب قرابة، قال: وكذلك ملوككم؟ قلنا: نعم، فأمر لنا بنزل كثير ومنزل حسن، فمكثنا ثلاثا ثم أرسل إلينا ليلا، فدخلنا عليه وليس عنده أحد، فاستعاد كلامنا فأعدنا عليه، فإذا عنده مثل الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار، ففتح منها بابا، واستخرج منه خرقة حرير سوداء، فيها صورة بيضاء، فإذا رجل طوّال أكثر الناس شعرا فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال:
هذا آدم، ثم أعاد وفتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء فإذا رجل ضخم الرأس عظيم، له شعر كشعر القبط، أعظم الناس أليتين، أحمر العينين فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح، ثم أعاده وفتح بابا آخر فاستخرج(3/198)
حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أبيض الرأس واللحية، كأنه يبتسم، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم، ثم أعاده وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، وإذا واللَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول اللَّه، وبكينا، واللَّه يعلم أنه قام قائما ثم جلس وقال: واللَّه إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو كأننا ننظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب ولكني عجلته لأنظر ما عندكم، ثم أعاده وفتح بابا آخر، واستخرج خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل مقلص الشفتين غائر العينين، متراكم الأسنان كث اللحية عابس، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى، وإذا جنبه رجل يشبهه غير أن في عينيه قيلا وفي رأسه استدارة، فقال: هذا هارون، ثم رفعهما، وفتح بابا آخر واستخرج منه خرقة سوداء فيها صورة حمراء أو بيضاء، فإذا رجل أحمر أحمش الساقين أخفش العينين، ضخم البطن مقلد سيفا، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود، ثم أعاده وفتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل راكب على فرس، طويل الرجلين قصير الظهر، كل شيء منه جناح تحفه الريح، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان، ثم أعاده ففتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء، فيها صورة بيضاء، فإذا صورة شاب تعلوه صفرة، صلت الجبين حسن اللحية، يشبهه كل شيء منه، قال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى ابن مريم، ثم أعاده وأمر بالربعة فرفعت، فقلنا: هذه صورة نبينا قد عرفناها، فإنا قد رأيناه، فهذه الصورة التي لم نرها كيف نعرفها أنى هي؟ قال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه صورة نبي نبي، فأخرج إليه صورهم في خرق الحرير من الجنة، فأصابها ذو القرنين في خزانة آدم في مغرب الشمس، فلما كان دانيال، صورها هذه الصّور، فهي بأعيانها، فو اللَّه لو تطيب نفسي في الخروج عن ملكي ما باليت أن أكون عبدا لأشدّكم ملكة، ولكن عسى أن تطيب نفسي، قال: فأحسن جائزتنا وأخرجنا [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وفي المرجع السابق: «فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثناه بما رأيناه وما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين، لو أراد اللَّه به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلّم عندهم» ص 390.(3/199)
وقد رواه شرحبيل بن مسلم الخولانيّ عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص، قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه ورجلا آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة، فنزلنا على جبلة بن الأهتم الغساني، فذكروه ... وزاد بعد قوله في صورة نبينا عليه السلام وذكر موسى وهارون: ففتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا:
لا، قال: هذا لوط، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة أجنأ، خفيف العارضين حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟
قلنا: لا، قال: هذا إسحاق، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة تشبه صورة إسحاق، إلا أن بشفته السفلى خالا، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا:
لا، قال: هذا يعقوب، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه أقنى الأنف حسن القامة، يعلو وجهه النور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها صورة آدم، كأن وجهه الشمس، قال: هل تعرفون هذا؟ [قلنا: لا، قال:] [ (1) ] هذا يوسف. ثم ذكر قصة داود وسليمان وعيسى مثل حديث موسى ابن عقبة، وزاد: قال: فلما قدمنا على أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه حدثناه بما رأيناه وما قال لنا وما أرانا، فبكى أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه وقال: مسكينا، لو أراد اللَّه به خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال تعالى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق ص 291.
[ (2) ] وأخرج الإمام أحمد في (المسند) ، من حديث رجل من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا إسماعيل عن الجريريّ، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب(3/200)
__________
[ () ] قال: «جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما فرغت من بيعتي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهودي ناشرا التوراة يقرؤها، يعزى بها نفسه على ابن له في الموت، كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه: هكذا، أي لا، فقال ابنه: إني والّذي أنزل التوراة، لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فقال: أقيموا اليهود عن أخيكم، ثم ولى كفنه، وحنطه، وصلى عليه» . (المرجع السابق) : 6/ 571، حديث رقم (22981) .
وذكر ابن كثير في (التفسير) ، عند قوله تعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، باختلاف يسير، وقال في آخره:
هذا حديث جيد، قوي له شاهد في الصحيح عن أنس (تفسير ابن كثير) : 2/ 262.
وأما حديث صور الأنبياء، فقد أخرجه ابن كثير في (التفسير) ، عن الحاكم صاحب (المستدرك) :
أخبرنا محمد بن عبد اللَّه بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ابن إدريس، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام ابن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة- يعني غوطة دمشق- فنزلنا على جبلة بن الأهتم الغسّاني، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: واللَّه لا نكلم رسولا وإنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال:
تكلموا، فكلمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثياب سود، فقال له هشام: وما هذه الثياب التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، قلنا: ومجلسك هذا لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء اللَّه، أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، قال:
لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فملئ وجهه سوادا فقال: قوموا، وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة قال لنا الّذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال، قلنا: واللَّه لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك، فأمرهم أن ندخل على رواحلنا، فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، فاللَّه يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح.
قال: فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقة من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه، فضحك فقال: ما عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم؟، وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيّا بها لا يحل لنا أن نحيك بها، قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليكم، قال: فكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها، قال: فكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها، قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله(3/201)
__________
[ () ] إلا اللَّه واللَّه أكبر، فلما تكلمنا بها- واللَّه يعلم- لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال:
فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، أكلّ ما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم؟
قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك، قال لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم، وإني قد خرجت من نصف ملكي، قلنا: لم؟.
قال: لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة، وأنها تكون من حيل الناس، ثم سألنا عما أراد، فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا، فأمر لنا بمنزل حسن، ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا، فأرسل إلينا ليلا، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة، مذهبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا، فاستخرج حريرة سوداء، فنشرناها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين، عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق اللَّه. فقال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرا.
ثم فتح باب آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية، كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال:
هذا إبراهيم عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا واللَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: وبكينا، قال: واللَّه يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال واللَّه إن لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم، لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سمحا، وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، متقلص الشفة، كأنه غضبان، فقال:
هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى عليه السلام، وإلى جنبه صورة تشبهه، إلا أنه مدهان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون بن عمران عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم، سبط، ربعة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة، أقنى خفيف العارضين حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسحاق عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب عليه السلام.(3/202)
__________
[ () ] ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم صلى اللَّه عليه وسلّم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة كصورة آدم، كأن وجهه الشمس، فقال: تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسا، فقال، هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود عليهما السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شاب شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى ابن مريم عليه السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور، لأنا نعلم أنها على ما صوّرت عليه الأنبياء عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله؟ فقال: إن آدم عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما واللَّه إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدا لا [يترك] ملكه حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرّحنا.
فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه، فحدثناه بما أرانا وبما قال لنا، وبما أجازنا، قال:
فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد اللَّه به خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلّم عندهم. (تفسير ابن كثير) : 2/ 262- 263، تفسير الآية (157) من سورة الأعراف.
وهكذا أورده أيضا الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 385- 390، باب ما وجد من صورة نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلّم مقرونة بصورة الأنبياء قبله بالشام، عن الحاكم إجازة، فذكره، وإسناده لا بأس به.
وذكر أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 50- 56، بنحوه وقال في آخره: قال الشيخ رضي اللَّه عنه: ففي هذه القصة علم أهل الكتابين بصفة نبينا صلى اللَّه عليه وسلّم، وباسمه، وبعثته.
وانتفاض الغرفة حين أهلّوا بلا إله إلا اللَّه، وما يوجد من المعجزات بعد موت الأنبياء، كما يوجد أمثالها قبل بعثتهم، إعلاما وإيذانا بقرب مبعثهم ومجيئهم. (المرجع السابق) .(3/203)
وأما شرف أصله، وتكريم حسبه ونسبه، وطيب مولده
فخرج مسلم والترمذي من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار شداد، أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. وقال الترمذي: واصطفى هاشما من قريش،
وقال: هذا حديث حسن غريب [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح [ (1) ] .
وقد خرج الفسوي من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد ابن على أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن اللَّه اختار العرب، ثم اختار منهم كنانة أو النضر بن كنانة، ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم.
وهو حديث مرسل.
وله أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه ابن الحرث بن نوفل، عن العباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه إن قريشا إذا التقوا، لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا
__________
[ (1) ] سبق تخريج هذه الأحاديث والتعليق عليها بالشرح.(3/204)
لا نعرفها!! فغضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك غضبا شديدا ثم قال: والّذي نفس محمد بيده، لا يدخل الجنة قلب رجل الإيمان حتى يحبكم للَّه ولرسوله، وقلت:
يا رسول اللَّه، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كناس الأرض، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه عز وجلّ يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم حين جعل القبائل جعلني في خير قبيلة، ثم جعلني حين جعل البيوت في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا [ (1) ] .
وخرج الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت: يا رسول اللَّه! إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كناسة الأرض، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل، فجعلني في خير القبيلة، ثم في خير البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. انفرد به الترمذي وقال: هذا حديث
__________
[ (1) ] ونحوه في أبواب المناقب من (سنن الترمذي) : 10/ 54 حديث رقم (3849) ، وقال فيه «فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض» ، أي كصفة نخلة نبتت في كناسة من الأرض، والمعنى أنهم طعنوا في حسبك.
قال الجزري في (النهاية) : 4/ 145: كبا، فيه: «ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت عنده له كبوة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم» .
الكبوة: الوقفة كوقفة العاثر، أو الوقفة عند الشيء يكرهه الإنسان. ومنه «كبا الزّند» إذا لم يخرج نارا.
ومنه حديث أم سلمة قالت لعثمان: «لا تقدح بزند كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أكباها» ، أي عطّلها من القدح فلم يور بها.
وفي حديث العباس «قال: يا رسول اللَّه، إن قريشا جعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض» قال شمر: لم نسمع الكبوة، ولكنا سمعنا الكبا، والكبة، وهي الكناسة والتراب الّذي يكنس من البيت.
وقال الزمخشريّ في (الفائق) : 3/ 242: وعنه صلى اللَّه عليه وسلّم أنه قيل له: أين ندفن ابنك؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون، وكان قبر عثمان عند كبا بني عمرو بن عوف.
وقال أصحاب الفراء: الكبة المزبلة، وجمعها كبون، وأصلها كبوة، من كبوت البيت إذا كنسته، وعلى الأصل جاء الحديث، إلا أن المحدّث لم يضبط الكلمة فجعلها كبوة بالفتح، وإن صحت الرواية فوجهها أن تطلق الكبوة، وهي الكسحة، على الكساحة.(3/205)
حسن. وعبد اللَّه بن الحرث هو ابن نوفل [ (1) ] .
ورواه أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد، فزاد في إسناده: المطلب ابن أبي وداعة.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال: قال العباس: بلغه صلى اللَّه عليه وسلّم بعض ما يقول الناس، قال: فصعد المنبر فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا.
وقد خرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث قال: حدثني المطلب بن ربيعة أن العباس دخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مغضبا وأنا عنده فقال: ما أغضبك؟ فذكر نحوه وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال: ورواه جرير عن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث عن المطلب بن ربيعة وهو الصواب. قال كاتبه: وهكذا رواه يزيد بن عطاء عن يزيد بن أبي زياد
كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
[وخرج] [ (2) ] أبو بكر بن أبي شيبة من حديث ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحارث، عن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب قال: بلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن قوما نالوا منه وقالوا له: إنما مثل محمد كمثل نخلة تنبت في كناس، فغضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم [و] [ (2) ] قال: إن اللَّه خلق خلقه فجعلهم فرقتين، فجعلني في خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلا، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إني خيركم قبيلا وخيركم بيتا. قال البيهقي:
كذا قال عن ربيعة بن الحرث، وقال غيره: عن المطلب بن ربيعة بن الحرث، وابن ربيعة إنما هو عبد المطلب بن ربيعة له صحبة، وقد قيل: عن المطلب بن أبي وداعة.
ثم ذكر حديث أبي نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا سفيان عن يزيد ابن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال:
__________
[ (1) ] سبق الإشارة إليه وشرحه.
[ (2) ] زيادة للسياق.(3/206)
قال العباس: بلغه بعض ما يقول الناس،
وفي رواية: عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- وبلغه بعض ما يقول الناس- فصعد المنبر فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه وقال: من أنا؟ قالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه ابن عبد المطلب، إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد من حديث حسين بن محمد، حدثنا يزيد بن عطاء عن يزيد بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث قال: أتى ناس من الأنصار النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم: إنما محمد مثل نخلة تنبت في كنا، قال: حسين: الكنا، الكناسة، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أيها الناس! من أنا؟ قالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، قال: فما سمعناه ينتمي قبلها إلا أن اللَّه خلق خلقه فجعلني في خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا [ (1) ] .
وخرجه الترمذي من حديث سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد اللَّه بن الحرث، عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال: جاء العباس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وكأنه سمع شيئا فقام النبي فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول اللَّه، قال: أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فريقين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا.
انفرد به الترمذي وقال: هذا حديث حسن [صحيح غريب] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريج وشرح نظائر هذه الأحاديث على خلاف في السياقات لكن بنفس المعنى.
[ (2) ] زيادة من رواية الترمذي، (تحفة الأحوذي) : 10/ 54- 55، حديث رقم (3850) ، وسبق شرحه.(3/207)
وللفسوي من حديث قيس عن الأعمش عن عباية بن ربعي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه عز وجل خلق الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسما، وذلك قوله: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ [ (1) ] ، أَصْحابُ الشِّمالِ [ (2) ] ، فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين [أثلاثا] [ (3) ] فجعلني في خيرهم ثلثا، فذلك قوله عزّ وجلّ:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [ (4) ] ، وَالسَّابِقُونَ [ (5) ] ، فأنا من السابقين وأنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قول اللَّه عز وجل: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ (6) ] ، فأنا [ (7) ] أتقى ولد آدم وأكرمهم على اللَّه ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرهم [ (8) ] ، بيتا، فذلك قوله عز وجل: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [ (9) ] ، فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب [ (10) ] .
وخرج البيهقي من حديث محمد بن ذكوان عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: إنا لقعود بفناء النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إذ مرت [ (11) ] امرأة، فقال بعض
__________
[ (1) ] الواقعة: 38.
[ (2) ] الواقعة: 41، وفي (خ) : «وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال» ، وما أثبتناه موافق للتنزيل.
[ (3) ] في (خ) : «ثلاثا» والتصويب من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] الواقعة: 8
[ (5) ] الواقعة: 10، وفي (خ) بين الآيتين قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، والسياق يقتضي عدم إثباتها.
[ (6) ] الحجرات: 13
[ (7) ] في (دلائل البيهقي) : «وأنا» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «في خيرها»
[ (9) ] الأحزاب: 33.
[ (10) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 170- 171، وقال: «فيه غرابة ونكارة» .
ورواية عباية بن ربعي- من غلاة الشيعة- له عن علي: «أنا قسيم النار» ،
وحديث الصراط، قال الخريبي: «كنا عند الأعمش فجاءنا يوما وهو مغضب، فقال: «ألا تعجبون من
موسى بن طريف يحدث عن عباية عن علي: «أنا قسيم النار» .
وذكره العقيلي في (الضعفاء الكبير) : 3/ 415، وقال: روى عنه موسى بن طريف، كلاهما غاليان ملحدان.
[ (11) ] زيادة من (دلائل البيهقي) : 1/ 172.(3/208)
القوم: هذه [ابنة] [ (1) ] رسول اللَّه، فقال أبو سفيان: مثل محمد في نبي هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فجاء يعرف في وجهه الغضب فقال: ما بال أقوال تبلغني عن أقوام؟! إن اللَّه عز وجل خلق السموات سبعا، فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق واختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث عبد الواحد، أنبأنا كريم بن وائل، حدثتني ربيبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- زينب بنت أبي سلمة- قالت: قلت لها: أرأيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أكان من مضر؟ قالت: فممّن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «امرأة» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (2) ] سرده العقيلي في الضعفاء وقال: «لا يتابع عليه» ، ومن رواته يزيد بن عوانة، عن محمد بن ذكوان، فيزيد بن عوانة، ضعّفه العقيلي، وسرد له الحديث المنكر هذا، وقال: «لا يتابع عليه» . (الميزان) :
4/ 436، أما محمد بن ذكوان الأزدي الطائي اتفقوا على ضعفه، قال البخاري: منكر الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال ابن حبان: سقط الاحتجاج به.
[ (3) ] أخرجه البخاري في أول كتاب المناقب، باب قول اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] ، وقوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] وما ينهى عن نسب الجاهلية، حديث رقم: (3491) ، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا كليب ابن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم زينب ابنة أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أكان من مضر؟ قالت: فمن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة» .
وحديث رقم (3492) ، حدثنا موسى، حدثنا عبد الواحد، حدثنا كليب، حدثتني ربيبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- زينب- قالت: «نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن الدّباء، والختم، والمقيّر، والمزفّت.
وقلت لها:
أخبريني، النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ممن كان، من مضر كان؟ قالت: فممن كان إلا من مضر؟ كان من ولد النضر بن كنانة» .
قوله: «مضر» ، هو ابن نزار بن معد بن عدنان. والنسب ما بين عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم مختلف فيه كما سيأتي، وأما من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى عدنان فمتفق عليه. وقال ابن سعد في (الطبقات) :
حدثنا هشام بن الكلبي قال: «علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: محمد بن عبد اللَّه(3/209)
ولأبي داود الطيالسي من حديث حماد بن سلمة عن عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن هيضم عن الأشعث بن قيس قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنا نزعم أنا منكم أو أنكم منا؟ فقال: نحن من بني النضر بن كنانة، لا ننتفي من أبينا ولا نقفوا أمنا،
قال: فقال الأشعث: لا أوتي برجل نفي رجلا من قريش من النّضر بن كنانة، إلّا جلدته ...
__________
[ () ] ابن عبد المطلب- وهو شيبة الحمد- بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر وإليه جماع قريش» .
«وما كان فوق فهر فليس بقرشيّ بل هو كناني، ابن مالك بن النضر واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر.
وروى الطبراني بإسناد جيد، عن عائشة قالت: «استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان» . ومضر بضم الميم وفتح المعجمة، يقال: سمي بذلك لأنه كان مولعا بشرب اللبن الماضر، وهو الحامض، وفيه نظر لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة، نعم يمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفا به حال التسمية، وهو أول من حدا الإبل.
وروى ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: «مات عدنان، وأبوه، وابنه معد، وربيعة، ومضر، وقيس، وتميم، وأسد وضبّة، على الإسلام على ملة إبراهيم عليه السلام.
وروى الزبير بن بكار من وجه آخر، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: «لا تسبوا مضر ولا ربيعة، فإنّهما كانا مسلمين» ، ولابن سعد من مرسل عبد اللَّه بن خالد، رفعه: «لا تسبوا مضر فإنه كان قد أسلم» .
قوله: «من بني النضر بن كنانة» ،
أي المذكور، وروى أحمد وابن سعد، من حديث الأشعث ابن قيس الكندي قال: «قلت: يا رسول اللَّه، أنّا نزعم أنكم منا- يعني من اليمن- فقال: نحن بنو النضر بن كنانة» . وروى ابن سعد من حديث عمرو بن العاص، بإسناد فيه ضعف مرفوعا «أنا محمد بن عبد اللَّه، وانتسب حتى بلغ النضر بن كنانة، قال: فمن قال غير ذلك فقد كذب» .
وإلى النضر تنتهي أنساب قريش، وسيأتي بيان ذلك في الباب الّذي يليه [من أبواب البخاري] ، وإلى كنانة منتهي أنساب أهل الحجاز.
وقد روى مسلم من حديث واثلة مرفوعا: «إن اللَّه اصطفي كنانة من ولد إسماعيل، واصطفي من كنانة، قريشا، واصطفي من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
ولابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر: ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم.
قوله: «وأظنها زينب» كأن قائله موسي، لأن قيس بن حفص في الرواية التي قبلها قد جزم بأنها زينب، وشيخهما واحد. لكن أخرجه الإسماعيلي من رواية حبان بن هلال، عن عبد الواحد وقال:
لا أعلمها إلا زينب، فكأن الشك فيه من شيخهم عبد الواحد، كان يجزم بها تارة، ويشك تارة أخرى.(3/210)
الحد [ (1) ] .
وقال أبو محمد عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة القدامي: حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس بن مالك وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام قال: بلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أن رجالا من كندة يزعمون [أنه] [ (2) ] منهم، فقال: «إنما كان يقول [ذاك] [ (3) ] العباس وأبو سفيان بن حرب إذا قدما المدينة ليأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من آبائنا، نحن [بنو] [ (4) ] النضر بن كنانة، قال: وخطب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنا محمد بن عبد اللَّه، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، ابن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤيّ، بن غالب، بن فهر، ابن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، ابن مضر، ابن نزار» ، وما افترق الناس فريقين إلا جعلني [اللَّه] [ (5) ] في خيرهما، فأخرجت [من] [ (5) ] بين أبوين فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى [انتهيت] [ (6) ] ، إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا.
قال البيهقي: تفرد به أبو محمد عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة
__________
[ (1) ]
أخرجه ابن ماجة في (السنن) ، كتاب الحدود، باب (37) من نفي رجلا من قبيلته، حديث رقم (2612) ولفظه: عن مسلم بن الهيضم، عن الأشعث بن قيس، قال: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في وفد كندة، ولا يروني إلا أفضلهم. قلت: يا رسول اللَّه! ألستم منا؟ فقال: «نحن بنو النضر ابن كنانة، لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» ،
قال: فكان الأشعث بن قيس يقول: لا أوتي برجل نفي رجلا من قريش ومن النضر بن كنانة إلا جلدته الحدّ.
قال في (الزوائد) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، لأن عقيل بن طلحة وثّقه ابن معين والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد على شرط الإمام مسلم.
وقال في (النهاية) : «لا نقفوا أمّنا» ، أي لا نتّهمها ولا نقذفها، يقال: قفا فلان فلانا: إذا اتهمه بما ليس فيه. وقيل معناه: لا نترك النسب إلى الآباء، وننتسب إلى الأمهات. (سنن ابن ماجة) : 2/ 871. وفي (خ) : «ولا نقثوا من أمنا» ، وهو خطأ من الناسخ وما أثبتناه من المرجع السابق ومن المرجع التالي.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 6/ 276، حديث رقم (21332) بنحوه سواء.
[ (2) ] في (خ) : «أنهم» .
[ (3) ] في (خ) : «ذلك» .
[ (4) ] في (خ) : «بني» .
[ (5) ] زيادة من (دلائل البيهقي) .
[ (6) ] في (خ) : «أتيت» والتصويب من المرجع السابق.(3/211)
القدامي، وله عن مالك وغيره أفراد لم تتابع عليها.
قال كاتبه: قال ابن عدي: عن عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة بن قدامة بن مظعون أبو محمد المصيصي [ (1) ] ، عامة أحاديثه غير محفوظة، وهو ضعيف على ما تبين لي من رواياته واضطرابه، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما.
وخرج البخاري من حديث قتيبة بن سعيد، أنبأنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الّذي كنت فيه. ذكره في باب صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] .
وخرج البيهقي من حيث عمرو بن عبد اللَّه بن نوفل عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: [قال] لي جبريل عليه السلام:
قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث شعبة، حدثني عبد الملك عن طاووس عن ابن عباس [في قوله تعالي] : إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، قال: فقال سعيد بن جبير:
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن محمد بن ربيعة القدامي من أهل المصيصة، كان يقلب الأخبار، قلب على مالك أكثر من مائة حديث وخمسين حديثا، ذكره ابن حبان في (المجروحين) : 2/ 39. (دلائل النبوة البيهقي) : 174- 175.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 701، كتاب المناقب، باب (23) صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (3557) . ورواية البيهقي: «كنت فيه» .
قوله: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا» ،
القرن الطبقة من الناس المجتمعين في عصر واحد، ومنهم من حدّه بمائة سنة، وقيل بسبعين، وقيل بغير ذلك. فحكى الحربي الاختلاف فيه من عشرة إلى مائة وعشرين، ثم تعقب الجميع وقال: الّذي أراه أن القرن كل أمة هلكت حتى لم يبق منها أحد. وقوله: «قرنا» بالنصب على الحال للتفصيل. وفي رواية الإسماعيلي: «حتى بعثت من القرن الّذي كنت فيه» . (المرجع السابق) ، (دلائل البيهقي) : 1/ 175.
[ (3) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 176، وتعقّبه بقوله: «قال أحمد: هذه الأحاديث وإن كان في روايتها من لا تصح به، فبعضها يؤكد بعضا، ومعني جميعها يرجع لما روينا عن واثلة بن الأسقع وأبي هريرة.
واللَّه تعالي أعلم.(3/212)
قربي محمد، فقال: إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لم يكن بطن [ (1) ] من قريش إلا وله فيه قرابة، فنزلت [عليه] [ (2) ] فيه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم. ذكره في باب قوله تعالي:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [ (3) ] .
وخرجه في التفسير من حديث شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، سمعت طاووسا يقول: عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد
__________
[ (1) ] في (خ) : «في بطن» .
[ (2) ] زيادة من (البخاري) .
[ (3) ]
(فتح الباري) : 6/ 652، حديث رقم: (3497) ، ونحوه حديث رقم: (4818) ، حدثني محمد بن بشّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاووسا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، فقال سعيد بن جبير: قربي آل محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» .
قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، ذكر فيه حديث طاووس «عن ابن عباس، سئل عن تفسيرها، فقال سعيد بن جبير: قربي آل محمد، فقال ابن عباس: «عجلت» أي أسرعت في التفسير، وهذا الّذي جزم به سعيد بن جبير، قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعا، فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت قالوا: يا رسول اللَّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ .. الحديث، وإسناده ضعيف، وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح.
والمعني: إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش خاصة، والقربى قرابة العصوبة والرحم، فكأنه قال: احفظوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة.
وقد جزم بهذا التفسير جماعة من المفسرين، واستندوا إلى ما ذكرته عن ابن عباس من الطبري وابن أبي حاتم، وإسناده واه فيه ضعيف ورافضي.
وذكر الزمخشريّ هنا أحاديث ظاهر وضعها، وردّه الزجاج بما صح عن ابن عباس من رواية طاووس.
وقد روى سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال: أكثروا علينا في هذه الآية فكتبت إلى ابن عباس أسأله عنها، فكتب: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان واسط النسب في قريش، لم يكن حيّ من أحياء قريش إلا ولده، فقال اللَّه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى تودوني بقرابتي منكم، وتحفظوني في ذلك.
وقوله: القربى، هو مصدر، كالزلفى والبشرى، بمعني القرابة، والمراد في أهل القربى، وعبّر بلفظ في دون اللام كأنه جعلهم مكانا للمودة ومقرا لها، كما يقال: في آل فلان هوى، أي هم مكان هواي، ويحتمل أن تكون في سببية، وهذا على أن الاستثناء متّصل، فإن كان منقطعا فالمعني لا أسألكم عليه أجرا قط، ولكن أسألكم أن تودوني بسبب قرابتي فيكم. (فتح الباري) : 8/ 724- 726 باختصار من شرح الحديث رقم (4818) من كتاب التفسير.(3/213)
ابن جبير: قربي آل محمد، فقال ابن عباس: [عجلت] [ (1) ] إن رسول اللَّه [ (2) ] صلى اللَّه عليه وسلّم لم يكن [بطن] [ (3) ] من قريش إلا كان له [فيهم] [ (4) ] قرابة: إلا أن تصلوا [ (5) ] ما بيني وبينكم من القرابة.
وخرج أبو نعيم من حديث ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: لم يلتق أبواي على سفاح، لم يزل اللَّه ينتقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبا، ولا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما [ (6) ] .
وخرج البيهقي في سننه من حديث هشيم، حدثنا الملالي أو المليلي، أو كما قال عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية، ما ولدني إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام [ (7) ] .
قال أبو نعيم: ووجه الدلالة في هذه الفضيلة أن النّبوّة ملك وسياسة عامة، وذلك قوله تعالي: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [ (8) ] ، والملك في ذوي الأحساب والأخطار من الناس، وكلما كانت خصال فضله أوفر كانت الرعية بالانقياد له أسمع، وإلى طاعة مطيعة أسرع.
__________
[ (1) ] في (خ) : «علمت» .
[ (2) ] في (خ) : «إن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم» .
[ (3) ] في (خ) : «بطنا» .
[ (4) ] في (خ) : «فيهم» .
[ (5) ] في (خ) : «تصلوا قرابة ما بيني وبينكم من القرابة» والتصويبات السابقة من رواية المرجع السابق.
[ (6) ]
أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 57، الفصل الثاني، ذكر فضيلته صلى اللَّه عليه وسلّم بطيب مولده وحسبه ونسبه، حديث رقم (15) ، ولفظه: حدثنا محمد بن سليمان الهاشمي قال: أحمد بن محمد بن سعيد المروزي قال: حدثنا محمد بن عبد اللَّه، حدّثني أنس بن محمد قال: حدثنا موسي بن عيسى قال:
حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «لم يلتق أبواي في سفاح، لم يزل اللَّه عزّ وجلّ ينقلني من أصلاب طيبة إلى أرحام طاهرة صافيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما» . قال السيوطي في (الخصائص) : 1/ 93، أخرجه أبو نعيم من طرق عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
[ (7) ] أخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 190، باب نكاح أهل الشرك وطلاقهم.
[ (8) ] النساء: 54.(3/214)
وإذا كان في الملك وتوابعه نقيصة، نقص عدد أتباع رعيته، ففي اختيار اللَّه له صلى اللَّه عليه وسلّم أن أمده بكل ما بالملوك إليه حاجة، ليدعو الناس إلى اتباعه، ولذلك قال قوم شعيب: ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [ (1) ] الآية. وقال فرعون لموسى: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [ (2) ] ، فأزرى فرعون به ليثبط بذلك القوم عن اتباعه، حتى شكا موسي إلى اللَّه تعالي وسأله أن يحل العقدة عن لسانه ليفقهوا قوله، وقال: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [ (3) ] ، فدل ذلك على أن الملك لا يجعل إلا في أهل الكمال والمهابة، وهاتان الخصلتان لا توجدان في غير ذوي الأحساب.
فجل اللَّه تعالي لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم من الحظوظ أوفرها، ومن السهام أوفاها وأكثرها، ولذلك
قال عليه السلام فأنا من خيار إلى خيار،
وجعله أيضا من أفضل البقاع مولدا ومسكنا ومخرجا، وهي البقعة التي افترض اللَّه على جميع الموحدين من المستطيعين حجّها، فكان بهذا أيضا أفضلهم نفسا وحسبا ودارا صلى اللَّه عليه وسلّم، ولذلك سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن حسبه فقال: كيف حسبه فيكم؟ فقال: هو من أوسطنا حسبا، فقال له هرقل: كذلك الأنبياء.
***
__________
[ (1) ] هود: 91.
[ (2) ] الزخرف: 52.
[ (3) ] القصص: 34.(3/215)
وأما أنّ أسماءه خير الأسماء
فقد تقدم أنه محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب والفاتح والخاتم والمقفى ونبي التوبة، ونبي الملحمة، ونبي الرحمة [ (1) ] .
قال أبو نعيم: وفيما تضمنه اسمه الماحي والحاشر ونبي الرحمة والملحمة من معان لطيفة، وفوائد جليلة، فإن الماحي إذا جرى على اللفظ المفسر في الخبر أن اللَّه يمحو به الكفر، كان ذلك دلالة وبشارة بكثرة الفتوح وانتشار ضياء الإسلام في الأرضيين وصفحتيها شرقا وغربا، وأن سلطان الإسلام يكون غالبا، وسلطان الكفر دارسا عافنا، وذلك يرجع إلى معنى قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ (2) ] ، وليس معنى المحو أن يحسم الكفر أصلا حتى لا يوجد في الأرض كافرا، بل معناه أن يكونوا مقهورين باعتلاء المسلمين عليهم، حتى تكون الأقضية والأحكام والحل والعقد للمسلمين دونهم، وأن الكفار مغمورون خاملون، خاملو الذكر ساقطو الصيت والكلام، أما الذمة عقدت عليهم بصغار الجزية، وإما لخوفهم من سيوف الإسلام فيهم غزوا وجهادا، وهذا سائغ بين أهل اللسان والبيان، أن معنى المحو مرجعه إلى الخمول والكتمان، ويريدون بالمحو سقوطه وخموله لظهور العالمين والقاهرين عليهم، ومعنى المحو إن أضيف إليه صلى اللَّه عليه وسلّم فلإجراء اللَّه ذلك على يديه، فأضيف إليه كما أن الهداية مضافة إليه صلى اللَّه عليه وسلّم والهادي هو اللَّه، فكذلك الماحي في
__________
[ (1) ]
أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب (17) ما جاء في أسماء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقول اللَّه عزّ وجلّ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح: 29] ، وقوله: مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، حديث رقم (3532) ، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «ولي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» . (فتح الباري) : 6/ 688، (المرجع السابق) : 8/ 826، حديث رقم (4896 بنحوه.
[ (2) ] الفتح: 28، الصف: 9.(3/216)
الحقيقة هو اللَّه تعالى القاهر، فأضاف ذلك إلى الرسول عليه السلام، إذ جرى ذلك على يده بتمكين اللَّه تعالى له، وتسليطه على من كذبه وجحده، وهذه بشارة قد تحقق صدقها فيه لظهور المسلمين وعلوهم على من خالفهم، فتحققت الدلالة وللَّه الحمد.
ومعنى الحاشر على ما روى الخبر: أنه الّذي يحشر الناس على قدمه، أي لا نبوة بعده، وأن شريعته قائمة ثابتة إلى قيام الساعة، اهتدى بها من اهتدى، أو ضلّ عنها من ضلّ.
ومعنى نبي الرحمة مثل قوله: إنما أنا رحمة مهداة، فبعثته من اللَّه رحمة، هدى بها من شاء رحمته وهداه، وسمى كالمطر المسمى رحمة، لأن اللَّه يرحم عباده بالمطر فيسوق إليهم بالمطر الخيرات، ويوسع عليهم بها النبات والأقوات، ولا يوجب هذا الاسم أن اللَّه رحم به كل المدعوين من عباده، وذلك إنما يجري اللَّه على لسانه من الدعاء والبيان، وإن كان رحمة فصورته كعطية من قبلها فاز بنفعها، ومن تركها وردّها حرم نفعها ووجب عليه العقاب.
قال كاتبه ويؤيد هذا ما رواه البيهقي من حديث السعودي عن سعيد بن أبي سعيد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (1) ] ، قال: من آمن باللَّه ورسوله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن باللَّه ورسوله عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف، فتلك الرحمة في الدنيا.
قال أبو نعيم: ومعنى نبي الرحمة: فهو إعلام منه يكون بعده وفي زمانه من الحروب والجهاد، والقتل والسبي. ومعنى الرحمة في إرساله: أن اللَّه تعالى لم يعجل معجزته ودلائله كدلائل الماضين قبله من الأنبياء، وذلك أن الماضين من الأمم كانوا يقترحون على أنبيائهم ويتحكمون عليهم بالآيات على حسب شهوتهم واقتراحهم، فكان دأب اللَّه فيهم الاصطلام إذ لم يؤمنوا بها كقوله لما اقترحوا على عيسى المائدة:
__________
[ (1) ] الأنبياء: 106.(3/217)
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [ (1) ] ، واقتدي بهم المشركون فسألوا النبي صلى اللَّه عليه وسلّم الآيات اقتراحا وتحكما، كقولهم: اجعل الصفا لنا ذهبا، وأحيي لنا قصيا، وسيّر جبالنا لتتسع مزارعنا، وائتنا بالملائكة إن كنت من الصادقين، وأنزل علينا كتابا نقرؤه، فأنزل اللَّه تعالى ردا عليهم: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [ (2) ] ، وقال: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [ (3) ] فجعل اللَّه تعالى لرحمته بهم الآية الباقية مدة الدنيا له صلى اللَّه عليه وسلّم القرآن المعجز، وتحدى به أرباب اللغة واللسان أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية مثله، فباءوا بالعجز عن معارضته مع تمكينهم من أصناف الكلام نظما ونثرا ورجزا وسجعا، وكان القرآن معجزة له صلى اللَّه عليه وسلّم كإبراء الأكمه وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام مع تقدم قومه بصناعة الطب، وكقلب العصا حيّة لموسى وفلق البحر مع تمكن قوم فرعون وحذقهم بالسّحر.
فكان من رحمة اللَّه بهذه الأمة أن جعل أظهر دلائل نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم القرآن الّذي يعلم صدقه بالاستدلال الّذي تعرض فيه الشبهة والشكوك، لكنه لا يستأصل القوم المنكرون له كما استؤصل قوم صالح لما كفروا بالناقة، وقوم موسى بانفلاق البحر، وتلقف العصا حبالهم وعصيهم.
وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [ (4) ] ، المعنى: أن إرادتنا لاستبقاء المقترحين للإيمان منعا من إرسال الآيات التي اقترحوها بها، لعلمنا بأنا نخرج من أصلابهم من يؤمن، وإن من سبق له منا الرحمة بالإيمان فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى [ (5) ] ، فدعاهم إلى التفكر والتذكر في القرآن الّذي هو من
__________
[ (1) ] المائدة: 115.
[ (2) ] الرعد: 31.
[ (3) ] الحجر: 8.
[ (4) ] الإسراء: 59.
[ (5) ] العنكبوت: 51.(3/218)
جنس ما يعرفونه ويتعاطونه من الفصاحة والبيان.
أبان بعد هذا وجه الرحمة في تسمية اللَّه رسوله نبي الرحمة، ونبي الملحمة، والحاشر، وإن الكتاب المعجز باق عندهم بقاء الدهر، كما قال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ (1) ] ، فمن بلغ وقبل فاز ونجا، ومن رده وكذب به قوتل، ونصبت بينه القتال والملحمة حتى ينقاد لشريعته، أو يقتل لسوء اختياره، فتتم الرحمة بهذه المعاملة، ويعرف فضل هذه الأمة على غيرها بإزالة الاستئصال والاصطلام الواقعة بغيرها من الماضين من الأمم.
وذكر من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبيد اللَّه بن عطاء بن إبراهيم عن جدته: أم عطاء- مولاة الزبير بن العوام- قالت: سمعت الزبير بن العوام يقول: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (2) ] ، صاح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على أبي قبيس: يا بني عبد مناف، إني نذير لكم، فجاءت قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن سليمان سخر له الجبال والريح، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحي الموتى، فادع اللَّه أن يسيّر عنا الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا، فنتخذها محارث فنزرع ونأكل، وإلا فادع اللَّه بأن يحي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع اللَّه أن يصير هذه الصخرة التي تحتك ذهبا، فنبحث عنها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم، قال: فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال: والّذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكن خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فنزلت:
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ [ (3) ] ، فقرأ ثلاث آيات فنزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الأنعام: 19.
[ (2) ] الشعراء: 214.
[ (3) ] الإسراء: 59.
[ (4) ] الرعد: 31.(3/219)
وخرج الحاكم من حديث معمر عن قتادة أنه تلا هذه الآية: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [ (1) ] ، فقال: قال أنس: ذهب رسول اللَّه وبقيت النقمة، ولم يرى اللَّه نبيه في أمته شيئا يكرهه حتى مضى صلى اللَّه عليه وسلّم، ولم يكن نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا قد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى اللَّه عليه وسلّم. قال الحاكم: صحيح الإسناد.
***
__________
[ (1) ] الزخرف: 41.(3/220)
وأما قسم اللَّه تعالى بحياته صلى اللَّه عليه وسلّم
فقد قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (1) ] ، وإنما يقع القسم بالمعظم وبالمحبوب، قوله: لَعَمْرُكَ [ (2) ] ، أصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال، ومعناه: وبقائك يا محمد، وقيل: وحياتك. قال القاضي أبو بكر محمد بن العربيّ [ (3) ] : قال المفسرون بأجمعهم: أقسم اللَّه تعالى
__________
[ (1) ] الحجر: 72.
[ (2) ] الحجر: 72.
[ (3) ] فيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم اللَّه هنا بحياة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يتردّدون، قالوا: روى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال: ما خلق اللَّه وما ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وما سمعت اللَّه أقسم بحياة أحد غيره، وهذا كلام صحيح.
ولا أدري ما الّذي أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وما الّذي يمنع أن يقسم بحياة لوط، ويبلغ به من التشريف ما شاء؟ فكل ما يعطى اللَّه للوط من فضل، ويؤتيه من شرف، فلمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم ضعفاه، لأنه أكرم على اللَّه منه، أولا تراه قد أعطى لإبراهيم الخلّة، ولموسى التكليم، وأعطى ذلك لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فإذا أقسم اللَّه بحياة لوط، فحياة محمد أرفع، ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره لم يجر له ذكر لغير ضرورة.
المسألة الثانية: قوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ، أراد به الحياة والعيش، يقال: عمر، وعمر بضم العين وفتحها لغتان، وقالوا: إن أصلها الضم، ولكنها فتحت في القسم خاصة لكثرة الاستعمال، والاستعمال إنما هو غير القسم، فأما القسم فهو بعض الاستعمال، فلذلك صارا لغتين، فتدبروا هذا.
المسألة الثالثة: قال أحمد بن حنبل: من أقسم بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم لزمته الكفارة، لأنه أقسم بما لا يتم الإيمان إلا به، فلزمته الكفارة، كما لو أقسم باللَّه تعالى.
وقدّمنا أن اللَّه تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به،
لقوله صلى اللَّه عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف باللَّه أو ليصمت» ،
فإن أقسم بغيره فإنه آثم، أو قد أتى مكروها على قدر درجات القسم وحاله.
وقد قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤمنين منهم، يقسمون بحياتك وبعيشتك، وليس من كلام أهل الذكر، وإن كان اللَّه أقسم به في هذه القصة، فذلك بيان لشرف المنزلة، وشرف المكانة، فلا يحمل عليه سواه، ولا يستعمل في غيره.
وقال قتادة: هو من كلام العرب، وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال، وردّ القسم إليه. (أحكام القرآن لابن العربيّ) : 3/ 1130- 1131.(3/221)
بحياة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون. وقال القاضي عياض [ (1) ] : اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من اللَّه تعالى بمدة حياة محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، ومعناه: وبقائك يا محمد، وقيل: وعيشتك، وقيل:
وحياتك، وهذه نهاية التعظيم، وغاية البر والتشريف.
وخرج الحرث بن أبي أسامة من حديث عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: ما خلق اللَّه وما ذرأ نفسا أكرم على اللَّه من محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وما سمعت أن اللَّه أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال:
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (2) ] ، وفي رواية: ما حلف اللَّه بحياة أحد قط إلا بمحمد فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ (2) ] ، وقال أبو الجوزاء: ما أقسم اللَّه بحياة أحد غير محمد لأنه أكرم البرية عنده، وقال ابن عقيل الحنبلي: وأعظم من قوله لموسى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [ (3) ] ، وقوله لمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [ (4) ] ، وقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [ (5) ] ، المعنى: أقسم لا بالبلد، فإن أقسمت بالبلد فلأنك فيه. قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بتراب قدم محمد صلى اللَّه عليه وسلّم فقال:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [ (5) ] ، قال ابن عقيل: وقال تعالى:
يا موسى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [ (6) ] ، أي ولا تجيء إلا ماشيا، ومحمد ركب البراق ولا يجيء إلا راكبا.
وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: أقسم اللَّه بحياته ثم زاده شرفا فأقسم بغبار رجليه فقال تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [ (7) ] ، الآية [ (8) ] ، وقال أبو نعيم:
__________
[ (1) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 25، الفصل الرابع في قسمه تعالى بعظيم قدره صلى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] الحجر: 72.
[ (3) ] طه: 41.
[ (4) ] الفتح: 10.
[ (5) ] البلد: 1.
[ (6) ] طه: 12.
[ (7) ] العاديات: 1.
[ (8) ] (أحكام القرآن لابن العربيّ) : 4/ 1973، سورة العاديات، قال: أقسم اللَّه بمحمد صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وأقسم بحياته فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، وأقسم بخيله، وصهيلها، وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ قَدْحاً* فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً العاديات: 1- 5.(3/222)
والمعنى في هذا، أن المتعارف بين العقلاء: أن الإقسام لا يقع إلا على المعظمين والمبجلين، فتبين بهذا جلالة الرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وتعظيم أمره وما شرع اللَّه تعالى على لسانه من الشرائع، وتنبيهه عباده على وحدانيته، ودعائه إلى الإيمان به، وعرفت جلالة نبوته ورسالته بالقسم الواقع على حياته، إذ هو أعز البرية وأكرم الخليقة صلى اللَّه عليه وسلّم.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (1) ] قال: هو قسم وهو من أسماء اللَّه. وعن كعب يس* [ (1) ] قسم أقسم اللَّه به قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام يا محمد إنك لمن المرسلين، ثم قال: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [ (2) ] ، قال القاضي عياض: ومؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه، وإن كان بمعنى النداء، فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته، أقسم اللَّه تعالى باسمه، وكني به أنه من المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق.
وقال النقاش: لم يقسم اللَّه تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له صلى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
***
__________
[ (1) ] يس: 1- 2.
[ (2) ] يس: 2، 3.
[ (3) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 26.(3/223)
وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه
قال تعالى: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (1) ] ، روي عن جعفر بن محمد أنه قال: أراد اللَّه (يا سيد) مخاطبة لنبيه محمد صلى اللَّه عليه وسلّم.
فخرج مسلم من حديث الأوزاعي قال: حدثني أبو عمار قال: حدثني عبد اللَّه بن فروخ قال: حدثني أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع.
وخرج الترمذي من حديث سفيان عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ [من] ، آدم فمن تحته إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر.
.. الحديث. قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس..
الحديث بطوله [ (2) ] .
وله من حديث عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس ابن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا يأسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وخرج بقي بن مخلد من حديث سفيان عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: فضلت بخصال ست لا أقولهن فخرا، لم يعطهنّ أحد قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأخرجت لي
__________
[ (1) ] يس: 1، 2.
[ (2) ] سبق تخريج وشرح هذه الأحاديث ونحوها وشواهدها.(3/224)
خير الأمم، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب. والّذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث معمر بن راشد عن محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف، عن عبد اللَّه بن سلام قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق الأرض عنه ولا فخر، وأول شافع ومشفع، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتى آدم فمن دونه [ (1) ] .
وله من حديث أبي معمر إسماعيل بن إبراهيم القطيعي قال: أنبأنا عبد اللَّه ابن جعفر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا صاحب لواء الحمد بيدي ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، آخذ بحلقة باب الجنة فيؤذن لي فيستقبلني وجه الجبار تعالى فأخرّ له ساجدا فيقول:
يا محمد ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: رب أمتي [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سبق تخريج وشرح هذه الأحاديث ونحوها وشواهدها.
[ (2) ]
أخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 479- 480، باب ما جاء في تحدّث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بنعمة ربه عزّ وجلّ لقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، وما جاء في خصائصه صلى اللَّه عليه وسلّم على طريق الاختصار: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس قال: سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إني أول الناس تنشق الأرض عن جبهتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا آتي باب الجنة فآخذ بحلقيها فيقولون: من هذا؟ فأقول: أنا محمد، فيفتحون لي، فأجد الجبّار فأسجد له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، وتكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفّع، فأرفع رأسي فأقول: أمّتي، أمّتي يا رب، فيقول: اذهب إلى أمتك، فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة» .
وذكر الحديث فيمن كان في قلبه نصف حبّه من شعير، ثم حبّة من خردل، ثم في إخراج كل من كان يعبد اللَّه لا يشرك به شيئا.
وزاد الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 610: «وفرغ اللَّه من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون اللَّه عزّ وجلّ لا تشركون به شيئا» ، فيقول الجبار عزّ وجلّ: فبعزتي لأعتقنهم من النار، فيرسل إليهم فيخرجون وقد(3/225)
وله من حديث ليث بن أبي سليم عن أبي إسحاق عن صلة عن حذيفة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، يدعوني ربي فأقول: لبيك وسعديك [تباركت لبيك] [ (1) ] وحنانيك، [والمهدي] [ (2) ] من هديت وعبدك بين يديك، [لا ملجأ ولا منجأ] [ (3) ] منك إلا إليك، تباركت رب البيت [ (4) ] . [قال: وإن قذف المحصنة ليهدم عمل مائة سنة] [ (5) ] .
ومن حديث خديج عن أبي إسحاق عن صلة، عن حذيفة قال: قال أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إبراهيم خليل اللَّه، وموسى كلمه اللَّه تكليما، وعيسى كلمة اللَّه وروحه، فما أعطيت يا رسول اللَّه؟ قال: ولد آدم كلهم تحت رايتي، فأنا أول من يفتح له باب الجنة.
ومن حديث سلام بن سليم عن عبد اللَّه بن غالب عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد الناس يوم القيامة [ (6) ] .
وفي رواية روح بن مسافر عن أبي إسحاق
__________
[ () ] امتحشوا، فيدخلون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في غثاء السيل، ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء اللَّه عزّ وجلّ، فيذهب بهم فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الجبار:
بل هؤلاء عتقاء الجبار عزّ وجلّ» حديث رقم (12060) .
[ (1) ] تكملة من (المستدرك) .
[ (2) ] في (خ) : «والهادي» والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «لا منجا ولا ملجأ» والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 618، حديث رقم (8712/ 37) ، وقال في آخره: «وقد أخرجه له مسلم شاهدا» ، وقال الذهبي في (التلخيص) : «قد استشهد مسلم بليث بن أبي سليم.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (المستدرك) .
[ (6) ]
أخرجه الحاكم في (المستدرك) : 1/ 83، حديث رقم (82/ 82) من كتاب الإيمان، وهذا الحديث يشهد لكثير من أحاديث الباب التي لم نقف لها على تخريج ولفظه: «أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد ابن عبد اللَّه الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبادة بن الصامت قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي، حتى آتي باب الجنة فأستفتح، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيقال: مرحبا بمحمد، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا انظر إليه» .
قال الحاكم: هذا حديث كبير في الصفات والرؤية، على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي في (التلخيص) على شرطهما ولم يخرجاه.
ونحوه في (دلائل البيهقي) : 5/ 479- 480، ونحوه أيضا في (المسند) : 3/ 609، حديث رقم (12060) .(3/226)
أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر.
وفي رواية زكريا بن عدي قال: حدثنا سلام عن أبي إسحاق عن عبد اللَّه عن حذيفة قال: محمد سيد الناس يوم القيامة.
وله من حديث عبد الأعلى قال: حدثنا سعد عن قتادة عن أنس، أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، [وأنا] [ (1) ] أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، ولواء الحمد معى، تحته آدم ومن دونه ومن بعده من المؤمنين [ (2) ] .
وفي رواية يعلى بن الفضل قال: حدثنا زياد بن ميمون عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، فأخرج من قبري وحولي المهاجرون والأنصار، ينفضون التراب عن رءوسهم، وأنا أول شافع وأول مشفع، ولا تزال لي دعوة عند ربي مستجابة، وأنا لكم عند النفخة الثانية [ (3) ] .
وفي رواية منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب عن زياد النميري عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر، ولواء الحمد بيدي ولا فخر [ (4) ] .
وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح عن زياد النميري عن أنس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ومعي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تفتح له أبواب الجنة ولا فخر، فأتي فآخذ بحلقة باب الجنة
__________
[ (1) ] تكملة من رواية أبي نعيم.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 64، حديث رقم (23) ، وأخرجه أيضا الترمذي من حديث أبي سعيد الخدريّ، حديث رقم (3148) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة في (الزهد) ، باب ذكر الشفاعة مختصرا، والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 463، حديث رقم (2542) ، (2687) ، وقال أحمد محمد شاكر: إسناده صحيح، وقال في (مجمع الزوائد) : 10/ 372:
فيه على بن زيد وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه البيهقي في (الدلائل) : 5/ 481، ضمن حديث طويل أوله: «ما من نبي إلا وله دعوة تنجّزها في الدنيا، وإني ادّخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة..» وذكر الحديث بنحوه وزيادة.
[ (3) ] لم أجده بهذه السياقة، وسيأتي الكلام على النفختين بعد قليل.
[ (4) ] سبق الإشارة إليه.(3/227)
فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتح، فيستقبلني الجبار تعالى، فأخر له ساجدا فيقول: يا محمد، قل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه [ (1) ] .
وفي رواية منصور بن أبي الأسود عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أولهم خروجا إذا بعثوا، وقائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا شافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الكرامة ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور [ (2) ] .
وفي رواية حبان بن علي عن ليث عن عبيد اللَّه بن زحر، عن الربيع بن أنس عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه القبور يوم القيامة ولا فخر، لواء الحمد بيدي ولا فخر، مفاتيح الجنة يومئذ بيدي ولا فخر، آدم ومن دونه من النبيين تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر، يطوف عليّ ألف خادم كأنهن بيض مكنون [ (2) ] .
وفي رواية جرير والثوري وزائدة، عن [المختار] [ (3) ] بن فلفل عن أنس قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعا [ (4) ] .
وفي رواية الحميدي وسفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيفتحها اللَّه [ (5) ] .
وفي رواية خلف بن هشام قال: أخبرنا عيسى بن ميمون عن عسل
__________
[ (1) ]
في (دلائل البيهقي) : 5/ 479، باختلاف يسير، وفيه: «عن جبهتي يوم القيامة ولا فخر» .
[ (2) ]
(المرجع السابق) : 84 بنحوه، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 64، حديث رقم (24) وفيه: «الكرامة ومفاتيح الجنة ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف عليّ ألف خادم كأنهن بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» .
والبيض المكنون: المستور عن الأعين. ولفظهما فيه متقارب.
[ (3) ] في (خ) : «المختال» ، والتصويب من صحيح مسلم.
[ (4) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 72، حديث رقم (330) من كتاب الإيمان، باب (85) في قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا» .
[ (5) ] (مسند الحميدي) : 2/ 506- 507، حديث رقم (1204) . وأخرجه أيضا الترمذي في آخر حديث الشفاعة، حديث رقم (3148) وقال في آخره: قال سفيان: ليس عن أنس إلا هذه الكلمة:
«فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها» ، قال أبو عيس: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى(3/228)