ـ[إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع]ـ
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ)
المحقق: محمد عبد الحميد النميسي
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م
عدد الأجزاء: 15
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
الكتاب: إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ)
المحقق: محمد عبد الحميد النميسي
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م
عدد الأجزاء: 15
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
[المجلد الأول]
[مقدمة المحقق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 29] .
صدق اللَّه العظيم(المقدمة/1)
الإهداء
إلى صاحب الخلق العظيم.. والخلق القويم.. إلي سيدنا ومولانا محمد، الفاتح لما أغلق.. والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق.. والهادي إلى صراط مستقيم.. وعلي آله وصحبه حقّ قدره ومقداره العظيم.
أهدي هذا الجهد المتواضع من عنايتي بسيرته العطرة، راجيا أن أنال به الشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر، آملا أن ألقاه علي الحوض- إن كنت أهلا لذلك- وحتى ذلك الحين، له مني صلاة وسلاما دائمين إلي يوم الدين، في كل نفس، ولمحة، وطرفة عين، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.(المقدمة/2)
دعاء
«لا أحوجك اللَّه إلي اقتضاء ثمن معروف أسديته، ولا ألجأك إلي قبض عوض عن جميل أوليته، ولا جعل يدك السفلي لمن كانت عليه هي العليا. وأعاذك من عز مفقود، وعيش مجهود. وأحياك ما كانت الحياة أجمل لك، وتوفاك إذا كانت الوفاة أصلح لك، بعد عمر مديد، وسموّ بعيد، وختم بالحسنى عملك، وبلغك في الأولى أملك، وسدد فيها مضطربك، وأحسن في الأخرى منقلبك، إنه سميع قريب، جواد مجيب» . التقي المقريزيّ، (السلوك في معرفة دول الملوك) : 1/ 1.(المقدمة/3)
تقديم
* بقلم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد جميل غازي [إن الحمد للَّه نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا وأن محمدا عبد اللَّه ورسوله] .
أما بعد:
- فهذا كتاب من كتب التراث الإسلامي، عهد إلي بمراجعة تحقيقه، تمهيدا لإخراجه للدارسين والباحثين من أبناء هذه الأمة، والمنتفعين بعلمها وثقافتها، وهو واحد من الكتب التي منيت بما مني بها كثير من تراثنا الفكري والحضاريّ من الإهمال والضياع والتشويه.
- إنه كتاب: إمتاع الأسماع بما للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع.
لمؤلفه: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبي العباس الحسيني. العبيدي، تقي الدين المقريزي، رحمه اللَّه.
إنني أعلم- ويعلم مؤرخو الفكر البشري، وراصدو خطو الحركة الثقافية الإنسانية علي أرض اللَّه- ما لهذا التراث الإسلامي من ثراء، وقوة، وجدية، وقدرة علي الإعطاء، والإثراء، والزيادة.
وإنني أعلم- أيضا- مدى ما يعانيه هذا التراث المجيد من ضياع وإهمال، علي الرغم من كثرة المؤسسات القائمة علي نشره وإذاعته هذه المؤسسات التي يعمل كثير منها بدافع الكسب المادي قبل كل شيء، وفوق أي اعتبار- ولا يهمها أن يخرج الكتاب علي الناس موثقا أو غير موثق، محققا(المقدمة/4)
أو غير محقق، بريئا من التحريف، أو يعتريه التحريف، في كل صفحاته وفقراته.
لقد عانى التراث العربيّ من هذه المؤسسات الكثيرة، وما زال يعاني، وكم كنا نود أن تقوم هيئة عليا لوضع برنامج لأولويات نشر التراث، يكون ملزما لجميع الناشرين، بحيث لا يخرج الكتاب الواحد في عدة طبعات في آن واحد!! في الوقت الّذي لا تري النور ألوف من المخطوطات!! وبحيث لا يخرج الكتاب علي الناس محرفا، غير مقروء قراءة صحيحة، تلك مهمة هيئة عليا، ننتظر أن تقوم، إن صلحت النيات، وقويت الرغبة في الخير، وأريد لهذه الأمة أن تسلك مسالك الصلاح والإصلاح.
وهذا الكتاب الّذي بين أيدينا، وأحد من آثار المقريزي العلمية، وجزء من تراثه الكبير. والمقريزي مؤخر، أديب، فقيه، رواية، له أثر كبير في نفسي، ونفوس الكثيرين من دراسيه وعارفي فضله.
ولقد وقفت وتعرفت علي كثير من أعماله التاريخية، والأدبية، والدينية، رأيته عالما جليلا، تأثر بمن سبقوه، وأثر فيمن جاءوا بعده، وكان لتأثره وتأثيره أثر كبير في إنتاجه الثقافي الّذي أربى علي مائتي مجلد!! إن المقريزي علم من الأعلام الذين ينبغي أن نعني بدراستهم، ونهتم بتراثهم وآرائهم، وقد آلمني- أثناء دراستي للرجل، ولحياته- أن أجد كتب التراجم قد هجرت الرجل هجرا غير جميل، فلم تشر إليه إلا إشارات عابرة لا تكفي في تكوين فكرة عن الرجل، أو إلقاء ضوء علي حياته! الأمر الّذي يجعل الدارسين لحياة الرجل، والكاتبين لترجمته، يجدون عناء شديدا فيما يقصدون إليه، ويريدون له، فإنّهم ينقبون فيما كتبه الرجل، لا فيما كتب عنه، فما كتبه كثير، وما كتب عنه قليل، بل دون القليل!.(المقدمة/5)
إن المقريزي معلم من معالم الكتابة التاريخية الإسلامية، له آراؤه الصائبة، ورؤيته الواضحة، ومنهجه البين، وشخصيته المتميزة، وتراثه، كان، وسيظل مثابة تهوي إليها عقول الدارسين، والباحثين، ورواد المعرفة، مع أن الّذي طبع منه ونشر قليل وضئيل، إذا قيس بما لم يطبع ولم ينشر. ولذا، فإن من حق المقريزي علينا- نحن الذين درسناه، وعرفناه، واستفدنا من علمه- أن نعني بتراثه، نشرا، وإخراجا، حتى يكون متاحا، وميسرا للعلماء وطلاب العلم، حيثما كانوا من ارض اللَّه. وقبل أن ارفع القلم عن هذه المقدمة القصيرة، أتمهل لأنوه بالمجهود المشكور الّذي قام به الأخ المحقق:
الأستاذ الشيخ/ محمد عبد الحميد النميسي، لقد عكف علي هذا الكتاب الكبير، المترامي الأطراف، في السيرة، والخصائص، والشمائل، دارسا لفصوله، محققا لأصوله، شارحا لغريبه، مناقشا لآرائه مخرجا لنقوله، وقد أحسن فيما قصد إليه، فجزاه اللَّه عن العلم وأهله خير الجزاء.
وإنني إذ أنهي هذه المقدمة، أرجو أن أكون قد وفقت، فيما إليه قصدت والحمد للَّه الّذي بحمده تتم الصالحات. ويا رب العالمين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين.
دكتور محمد جميل غازي رئيس المركز الإسلامي العام لدعاة التوحيد والسنة بمصر وكبير الباحثين بالمجلس الأعلى للثقافة [سابقا](المقدمة/6)
ترجمة المقريزي [ (1) ]
اسمه:
هو أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم تقي الدين المقريزي، [بفتح الميم نسبة إلي مقريز- محلة من بعلبكّ] البعلي ثم المصري الفقيه المؤرخ الشافعيّ.
__________
[ (1) ] مصادر ترجمة المقريزي:
- (هدية العارفين للبغدادي) : 5/ 127.
- (السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي) : 1/ 22- 23، 3/ 52 وما بعدها.
- (الدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر) : 2/ 291- دار الجيل- بيروت.
- (إنباء الغمر لابن حجر) : 9/ 171- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة.
- (دراسات عن المقريزي) ، د. محمد مصطفى زيادة، د. جمال الدين الشيال، في آخرين، هيئة الكتاب- القاهرة.
- (المقريزي مؤرخا) : د. محمد كمال الدين عز الدين علي، رقم (6) من سلسلة المؤرخين، عالم الكتب- القاهرة.
- (أربعة مؤرخين، وأربعة مؤلفات من دولة الممالك الجراكسة) : د. محمد كمال الدين عز علي رقم (53) من سلسلة تاريخ المصرين- هيئة الكتاب- القاهرة.
- (الحسبة في مصر الإسلامية من الفتح العربيّ إلي نهاية العصر المملوكي) : د. سهام مصطفى أبو زيد- هيئة الكتاب القاهرة.
- (البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك) : أحمد عبد الرزاق أحمد، دراسة عن الرشوة- هيئة الكتاب- القاهرة.
- (المقريزي وكتابه درر العقود الفريدة- في تراجم الأعيان المفيدة) : دراسة وتحقيق د. محمد كمال الدين عز الدين علي- عالم الكتب- القاهرة.
- (ضوء الساري في معرفة خبر تميم الداريّ) للمقريزي: المقدمة، تحقيق وتعليق د. محمد أحمد عاشور.
- (معرفة ما يجب لآل البيت النبوي للمقريزي) : المقدمة، تحقيق وتعليق د. محمد أحمد عاشور، هو والّذي قبله، طبع دار الاعتصام- القاهرة.(المقدمة/7)
مولده:
ولد سنة 766 هـ (1364 م) بحارة برجوان، بقسم الجمالية، بمحافظة القاهرة، بمصر.
نشأته:
نشأ المقريزي في أسرة معروفة بالاشتغال بالعلم في دمشق وبعلبكّ والقاهرة. وعبر عشرين سنة- هي سنوات طفولته ومراهقته وشبابه- شهد المقريزي حوادث ذلك العصر الآفل من نافذته الفكرية المصرية البعيدة عن شئون الدولة المملوكية وأمرائها الذين جعلوا من السلاطين الأطفال وأشباه الأطفال وقتذاك، ستارا رقيقا شفافا ساذجا يعملون من ورائه لتحقيق مطامعهم.
ثقافته:
وفي وسط تلك الحوادث الصاخبة المتقلبة، عكف الشاب أحمد المقريزي على الدراسة التقليدية لأبناء طبقته، وهي دراسة علوم الدين وحفظ القرآن ومعرفة النحو ودراسة الفقه والتفسير، والحديث، وبعض العلوم الأخرى مثلي التاريخ، وتقويم البلدان، والأدب، والحساب.
مصادر ثقافته:
ترجع مصادر ثقافة المقريزي إلي:
1- أنه كان يملك مكتبة كبيرة ضخمة تضم العديد من الكتب في مختلف أنواع العلم والمعرفة المتداولة في عصره، والدليل واضح في الكثرة الكثيرة من المراجع التي أشارت في مؤلفاته إلي أنه رجع إليها وأخذ عنها.
2- أنه ولى وظائف كثيرة مختلفة، مكنته من التعرف علي دولاب العمل وكيف يدار، وعلي مختلف النظم الإدارية والمالية، وعلي أحوال الشعب الاجتماعية والاقتصادية.
3- اشتغاله بعلمي الحديث والتاريخ، وهما علمان يعتمدان أصلا علي الجرح والتعديل، والنقد والتحليل، والتثبت من كل قول، أو رواية أو حقيقة علمية.(المقدمة/8)
شخصية المقريزي:
أودع المقريزي في صفحة العنوان من كتاب [السلوك لمعرفة دول الملوك] ، شيئا من صفاته الشخصية، حيث يقول بعد كتابة اسم الكتاب واسمه هو، وكأنما يخاطب نفسه:
[لا أحوجك اللَّه إلي اقتضاء ثمن معروف أسديته، ولا ألجأك إلي قبض عوض عن جميل أوليته، ولا جعل يدك السفلي لمن كانت عليه هي العليا، وأعاذك من عز مفقود، وعيش مجهود، وأحياك ما كانت الحياة أجمل لك، وتوفاك إذا كانت الوفاة أصلح لك، بعد عمر مديد، وسمو بعيد، وختم بالحسنى عملك، وبلغك في الأولى أملك، وسدد فيها مضطربك، وأحسن في الأخرى منقلبك، إنه سميع قريب، جواد منيب] .
الوظائف التي تولاها المقريزي:
التحق المقريزي بالخدمة الحكومية، بعد أن غدا بحكم طبقته وتعليمه من [أهل العلم والمعرفة] وهي التسمية المخصصة لهذه الطبقة تمييزا لها عن طبقة [أهل السيف] وهم المماليك وحدهم، دون غيرهم من سكان البلاد المصرية والشامية جميعا.
وأول عهد المقريزي بالخدم الحكومية كأبيه من قبله: [ديوان الإنشاء بالقلعة] ، وهو الديوان الّذي يقابله في العصر الحاضر [وزارة الخارجية] ، فعمل المقريزي الشاب سنة 1388 م موقعا- أي كاتبا- وهي وظيفة لا يبلغها وقتذاك سوى أصحاب الموهبة والمعرفة والتفوق في اللغة والأدب والتاريخ. ثم تعين المقريزي نائبا من نواب الحكم- أي قاضيا- عند قاضي قضاة الشافعية بسبب ما اشتهر عنه من الحماسة للمذهب الشافعيّ منذ أيام دراسته، وتحوله عن مذهب الحنفية الّذي نشأ فيه، ثم صار المقريزي إمام الجامع الحاكم الفاطمي، وهي وظيفة في ذلك العصر.
وتولى المقريزي بعد ذلك وظيفة مدرس للحديث بالمدرسة المؤيدية، وهي وظيفة يقابلها في المصطلح الجامعي في العصر الحاضر [أستاذ ذو كرسي] .(المقدمة/9)
- وربما كان تعين أحمد المقريزي في تلك الوظيفة التعليمية بتوصية خاصة من أستاذه [عبد الرحمن بن خلدون] لدى صديقه [السلطان برقوق] .
ثم انتقل المقريزي من التدريس إلي الحسبة حين عينه [السلطان برقوق] سنة 1398 م محتسبا للقاهرة والوجه البحري، فانتقل بذلك من دائرة الإدارة والاختلاط بمختلف طبقات المجتمع، ذلك أن وظيفة المحتسب التي يقابلها في الوقت الحاضر عدة وظائف وزارية شملت وقت ذاك النظر في الأسعار الجارية، وأحوال النقود، وضبط الموازين والمكاييل والمقاييس، ومراقبة الآداب العامة ونظافة الشوارع، وتنظيم حركة المرور، مع الإشراف علي المدارس والمدرسين والطلاب، والعناية بالمساجد والحمامات والوكالات، فضلا عن مراقبة أصحاب الصناعات الفنية من الأطباء، والصيادلة، والمعلمين [أي المهندسين المعماريين] .
ويضاف إلي هذه الواجبات الكثيرة الداخلة في اختصاص المحتسب أحوال الباعة الجائلين، والمتعيشين، والشحاذين، والمتعطلين الذين كانوا خطرا دائما علي الأمن.
ويتضح من ضخامة هذه الوظيفة ومسئوليتها أن أحمد بن علي المقريزي الّذي تعين عليها بأمر [السلطان برقوق] ، لا بدّ أنه اشتهر وقتذاك بالكفاية والدقة في الإدارة والأمانة في تطبيق الأحكام الشرعية.
غير أنه لم يلبث أن تنحى عن هذه الوظيفة مرتين في عامين متتالين، إذ ضاق بمسئوليتها التي شغلت وقته ليلا ونهارا، وصرفته عن القراءة، وتطلبت منه الجلوس في دكة المحتسب-[بوابة المتولي الحالية]- للفصل في شكاوى السوق والسوقة، وتوقيع عقوبات علي المخالفين، وإصدار الأوامر إلي العرفاء والأعوان والنقباء، مع العلم بأن وظيفة [محتسب القاهرة] شملت الوجه البحري كله.
مؤلفات المقريزي:
ترك المقريزي- رحمه اللَّه- مؤلفات عديدة، في مجال التاريخ، والأنساب، والعقائد، والفقه، والأدب، والعلوم البحتة، زادت علي(المقدمة/10)
نحو مائتي مجلدة كبار في مكتبات العالم، أو المثبت عنواناته لدى من ترجم له، أو اعتني بالفهرسة العامة للمؤلفات العربية، ويمكن إجمال مؤلفاته علي النحو التالي:
1- (اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء) :
أرخ فيه المقريزي للدولة الفاطمية منذ قيامها في المغرب العربيّ، وحتى سقوطها في مصر، مترجما لخلفائها، مشيرا من خلال ترجماتهم إلي الحوادث الواقعة في زمانهم، وقد انتظمتها عدة حوليات متتابعة، مقدما لترجماتهم بالحديث عن أولاد علي بن أبي طالب وأعقابهم، مع تحقيق نسب الخلفاء الفاطميين، والتعريف بنشأة دولتهم في المغرب العربيّ، ومذيلا عليها بالتعريف برسوم دولتهم في مصر، وما عابه الفقهاء والمؤرخون عليهم، فضلا عما صار إليه أمر أهليهم وذويهم، بعد سقوط دولتهم في مصر.
نشره بالقاهرة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فيما بين سنتي (1967) ، (1973) ، في ثلاثة أجزاء بتحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، والدكتور محمد حلمي عبد الهادي.
2- (أخبار قبط مصر) :
وهو في تاريخ الأقباط، مستخرج من كتاب (المواعظ والاعتبار) .
نشره هماكر بأمستردام سنة (1824) ، ونشره وستنفيلد بغوطا سنة (1845) .
3- (الإخبار عن الأعذار) :
عالج المقريزي من خلاله موضوعا تاريخيا اجتماعيا، يدور حول ما يقام من ولائم في البناء [الزواج] ، والختان. ذكره السخاوي في (الضوء اللامع) : 2/ 22.
4- (إزالة التعب والعناء في معرفة الحال في الغناء) :
ذكره ابن تغري بردي في (المنهل الصافي) : 1/ 398، السخاوي في (الضوء اللامع) : 2/ 23(المقدمة/11)
* منه نسخة في دار الكتب [فهرس الخديوية] : 7/ 564، ونسحة بالمكتبة الوطنية بباريس.
5- (الإشارة والإيماء في حل لغز الماء) :
وهو رسالة لطيفة الحجم، كتبها المقريزي يوم الثلاثاء، لأربع عشر ليلة خلت من المحرم سنة (823 هـ، 1420 م) علي سبيل التسلية، مستعرضا من خلالها معارفه الأدبية، واللغوية، والبلاغية، والفقهية، والعلمية البحتة، وهي تدور حول حل [تفسير] لغز الماء. لكن يعيب هذا المؤلف ما تخلل مادته من التسليم ببعض الخرافات ومستغربات الحدوث، مع احتوائه علي بعض المعاني المستغلقة، بعيدة المرمى، تحتاج إلى إيضاح.
* توجد منه عدة نسخ خطية، في مسودتين، تحتفظ بهما مكتبة جامعة القاهرة، تحت رقمي (22075) و (26247) ضمن مجموع رسائل المقريزي- رحمه اللَّه- ومنه نسخة في دار الكتب المصرية [فهرس الدار] : 3/ 12، ونسخة في مكتبة نور العثمانية في استامبول برقم (4937/ 015) .
6- (الإشارة والإعلام ببناء الكعبة البيت الحرام) :
أو تاريخ بناء الكعبة* ذكره المقريزيّ- رحمه اللَّه- في (الذهب المسبوك) : 26. منه نسخة خطية في دار الكتب الظاهرية بدمشق، وهي بخط المؤلف برقم (4805) ، وليدن برقم (943) .
7- (إغاثة الأمة بكشف الغمة) :
وهي رسالة لطيفة الحجم، فرغ المقريزيّ- رحمه اللَّه- من تأليفها في المحرم سنة (808 هـ، 1405 م) كما ذكره هو في (إغاثة الأمة) : 43، 86، علي أثر المجاعات والكوارث الاقتصادية، التي لحقت بمصر فيما بين عامين (796 هـ) ، (808 هـ) عارضا من خلالها لما حل بمصر من غلاء، وما ترتيب عليه من مجاعات أو كوارث مجيحة فيما قبل نشوء الإسلام وبعده، حتى سنة ثمان وثمانمائة للهجرة، محصيا منها ستا وعشرين حادثة، خصّ مصر(المقدمة/12)
الإسلامية منها عشرين، وردت علي سبيل التمثيل لا الحصر وقد أشير من خلالها إلي أن فيها ما هو أشدّ وأنكى من المحن المعاصرة، معللا لهذه المحن بأسباب طبيعية، كقصور جري النيل في مصر، وعدم نزول المطر في الشام، والعراق، والحجاز، وما يصيب الغلال من الآفات وسمائم الرياح.
وأخرى غير طبيعية، ترجع إلى سوء تدبير ولاة الأمور، وتتحصر في أمور ثلاثة، هي:
1- ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشاء.
2- غلاء إيجار الأطيان الزراعية علي مبلغ ما تغله الأرض من محصول.
3- رواج الفلوس النحاسية.
وفي هذا العامل الأخير يكمن لب المشكلة وحلها في رأي المقريزيّ- رحمه اللَّه- ولذا صرف جل اهتمامه إليه، مستطردا منه إلي ثلاثة موضوعات، هي:
1- النقد الإسلامي، وتطور سك العملة، وأثره في النظام النقدي في مصر.
2- نشأة الفلوس المضروبة من النحاس الأحمر في مصر، وتراجع الدراهم المضروبة من الذهب لعدم ضربها، وسبكها حليا.
3- أسعار النقد [ذهبا وفضة] ، وبعض السلع الرئيسية من المحاصيل الزراعية.
لكن شاب هذه الرسالة- كذلك- تسليم المقريزيّ- رحمه اللَّه- من خلال مادتها بكثير مما جاء في مصادره من المبالغات، أو مستغربات الحدوث، في مصر والشام. ومن ذلك إشارته إلي نطق ثور جبة عسال- قرية من قرى دمشق بالشام-.
منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية [فهرس الدار] : 5/ 36، ونسخة خطية في مكتبة نور العثمانية برقم (4937/ 1) .
نشره في القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 2، 1957 م، بتحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، والدكتور جمال الدين الشيال.(المقدمة/13)
8- (الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام) :
هو رسالة لطيفة الحجم، كتبها المقريزي- رحمه اللَّه- أثناء مجاورته في مكة سنة تسع وثلاثين وثمانمائة (1435- 1436 م) ، مرتبا لها علي مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة قصيرة جدا، اقتصر فيها علي الصلاة والتسليم.
* منه نسخ خطية في: مكتبة جامعة ليدن برقم (992) ، (993) ، مكتبة نور العثمانية برقم (4937/ 11) ، دار الكتب المصرية برقم (500) [فهرس الدار] :
(5/ 38) مكتبة باريس، نسخة تاريخها (841 هـ) . وظهرت لهذا الكتاب طبعتان: نشره رينك، ليدن، سنة (1790 م) ، نشر في القاهرة سنة (1313 هـ) .
9- (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع) :
وهو مؤلف مطول في سيرة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، جمع مادته من مصادر رئيسية ومتعددة، محررا فيه الخلاف حول كثير من الوقائع، مع العناية بتحقيق الكثير من المسائل الفقهية المتصلة بحوادث السيرة، حدّث به المقريزيّ في مكة، أثناء مجاورته فيها سنتي (834 هـ) (1431 م) ، (839 هـ) (1436 م) .
توجد منه نسخ خطية محتفظ بها في مكتبة كوبريللي- تركيا برقم (1004) ، كتبت في شوال سنة (839 هـ 1561 م) ، كوبريللي زاده محمد باشا كتابخانه سند محفوظ، صحيفة (66) وهي في جزء واحد ضخم، تقع في ستة أجزاء ضخمة، ضمت (919) ورقة، مقاسها 27* 40 سم، ومسطرتها نحو 35 سطرا، وعنها مصورتي: دار الكتب المصرية في القاهرة، برقم (886) تاريخ، ومعهد إحياء المخطوطات العربية في القاهرة، برقم (63) تاريخ، لكن عدد صفحاتها كما هو تحت يدي (1839) صفحة نسخة بمكتبة غوطا برقم (1830) ، وهي في ستة أجزاء، وهذه النسخة قد اعتمدناها في التحقيق، وهي ناقصة، وقد أنكر أمناء مكتبة غوطا أن تكون في ستة أجزاء، نسخة في مكتبة ليدن، برقم (871) ، وهي نسخة صغيرة ناقصة جدا، كما توجد نسخة أخرى في خزانة عموجة حسين باشا في الآستانة، برقم (354) طبع الجزء(المقدمة/14)
الأول منه بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، القاهرة (1941) ، علي نفقة السيدة قوت القلوب الدمر داشية. ثم طبع نفس الجزء مصورا علي الأوفست في دولة قطر بإشراف الشيخ عبد اللَّه الأنصاري. ثم طبع الجزء الأول مرة أخرى بتحقيقنا، نشرته دار الأنصار بالقاهرة (1981) ، ثم أعيد نشر الكتاب كاملا بالمقدمة والفهارس في سبعة عشر مجلدا، نشرته دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، (1998) .
10- (الأوزان والأكيال الشرعية) :
وهي رسالة في الموازين والمكاييل، منها نسخة خطية في: مكتبة ليدن، برقم (1014) ، دار الكتب المصرية، [فهرس الخديوية] :
(5/ 186) .
* نشرها تيكس، روستوك بألمانيا سنة (1797 م) ، (1800 م) .
11- (البيان المفيد في الفرق بين التوحيد والتلحيد) :
منه نسختان خطيتان في ليدن، [فهرس أمين المدني] برقم 188، وهي بخط المؤلف، دار الكتب المصرية، [فهرس الخديوية] : 7/ 565، لكن جاء في فهرس المخطوطات المصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة، أن هذه المخطوطة تصنيف أحد علماء المائة الثامنة الهجرية، وأن المقريزي- رحمه اللَّه- ناسخها فقط، (فهرس المخطوطات المصورة) :
1/ 119، عمود 2.
12- (البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب) :
هي رسالة لطيفة الحجم، كتبها المقريزي- رحمه اللَّه- سنة (841 هـ 1437 م) مشيرا من خلالها إلي القبائل العربية التي دخلت مصر مع الفتح العربيّ، وأماكن وجودها في عصره، مقررا أن العرب الذين شهدوا فتح مصر قد أبادهم الدهر، وجهلت أكثر أعقابهم، وقد بقيت من العرب بقايا بأرض مصر حضرت لديه ست عشرة قبيلة، وهي ثعلبة، وجرم، وسنيس، وجذام وبني هلال، وبلى وجهينة، وقريش، وكنانة والأنصار، وعوف، وفزارة، ولواته، ولخم، وحرام، وبني سليم، غير مرتب لها(المقدمة/15)
علي حروف المعجم، ولا علي أصول الأنساب: [قحطانية وعدنانية] ، أو بحسب منازلهم في مصر، فأتت أشبه شيء بمذكرات كتبت علي عجل، وعلي غير نظام واضح.
* منه نسخة خطية في: دار الكتب المصرية [فهرس الدار] : 5/ 64، مكتبة جامعة كمبرج، برقم (157) ، مكتبة نور العثمانية، برقم (4937/ 10) ، مكتبة ليدن، برقم (975) ، المكتبة الوطنية في باريس، برقم (1725) ، مكتبة فينة برقم (910) . ظهرت لهذا الكتاب طبعتان:
نشره وستنفلد، غوطا سنة (1847 م) ، نشر في القاهرة سنة (1334 هـ) ، ثم أعاد نشره محققا الدكتور عبد الحميد عابدين، القاهرة، عالم الكتب، ط 1 سنة 1961، مع دراسة عن تاريخ العروبة في وادي النيل.
12- (التاريخ الكبير المقفى في تاريخ أهل مصر والواردين عليها) :
هو معجم تأريخي ضخم، أتي في ست عشرة مجلدة، ترجم المقريزي- رحمه اللَّه- فيه لمشاهير أهل مصر، فيما قبل الإسلام وبعده حتى وقته، علي اختلاف طبقاتهم وأجناسهم، ممن استقروا فيها، أو تحولوا عنها إلي غيرها من البلدان [ميتا محنطا] أو [رأسا مقطوعة] ، حيث يقول [لما دخل المعز لدين اللَّه أبو تميم معد إلي القاهرة، كان معه توابيت آبائه: المنصور إسماعيل- هذا- والقائم أبي القاسم محمد، والمهدي عبيد اللَّه، فدفنهم بتربة القصر من القاهرة، فلذلك ذكرته في كتابي هذا] . (المقفى) : كما ترجم لخلف بن جبير، أحد ثوار المغرب، وقد قتل في المغرب، وطيف برأسه في القيروان، ثم حملت إلي مصر فطيف بها في القاهرة. (المقفى) ، أشار المقريزي- رحمه اللَّه- إلى هذا الكتاب في (إمتاع الأسماع) : 12/ 266 بتحقيقنا.
* منه نسخة خطية في مكتبة باريس، برقم (2144) ، بخط المؤلف- رحمه اللَّه- ميونخ برقم (957) ، ليدن، بأرقام (1032) ، (1847) ، (1851) ، تم نشره بتحقيق محمد اليعلاوي، بيروت، الغرب الإسلامي، ط 1، سنة 1987.
13- (تاريخ بناء الكعبة) :(المقدمة/16)
منه نسخة خطية في: دار الكتب الظاهرية في دمشق، وهي بخط المؤلف، ونسخة في مكتبة ليدن، برقم (943) ، نسخة بالظاهرية في دمشق، برقم (4805) .
14- (تجريد التوحيد المفيد) :
هو مؤلف لطيف الحجم، يدور موضوعة حول علم التوحيد، أجمل المقريزي- رحمه اللَّه- الإشارة إليه في مقدمته بقوله وبعد، فهذا كتاب جم الفوائد، بديع الفرائد، ينتفع به من أراد اللَّه والدار الآخرة، سميته: تجريد التوحيد المفيد، واللَّه أسأل العون علي العمل بمنه وكرمه.
وهذا المؤلف علي وجازته لم يأت مؤرخنا فيه بموضوع ديني تقليدي، وإنما أحاط فيه إلي جانب ذلك بالتعريف بكثير من الفرق الإسلامية، ذاكرا من خلالها مذاهبها وأدلتها، مناقشا لها.
* منه نسخة خطية في مكتبة جامعة القاهرة، برقم (26247/ 11) ، مكتبة البلدية بالإسكندرية، برقم (99/ 6) فنون، ومكتبة نور عثمانية، برقم (5937/ 02) ، مكتبة باريس برقم 012، مكتبة جامعة برنستن [مجموعة كاريت] برقم (01496) ، مكتبة ليدن [هوتسما] ، برقم (993) .
وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة سنة (1343 هـ) ، ثم طبع في المطبعة المنيرية بالقاهرة، سنة (1373 هـ) بتحقيق طه الزيني.
15- (التذكرة) :
هو مؤلف في التاريخ- كما يوهم ملخصه- أشار إليه ابن تغري بردي في (المنهل الصافي) : 1/ 398، غلي أنه كمل منه ثمانون مجلدا.
16- (تراجم ملوك المغرب) :
احتوى علي بعض ترجمات ملوك المغرب العربيّ، وقد يكون مذكرات جمعها المقريزي- رحمه اللَّه- من المصادر للانتفاع بها في بعض مؤلفاته، مقدمة تحقيق (اتعاظ الحنفاء) : 1/ 14، بتحقيق الدكتور جمال الدين الشيال. فيه أخبار أبي حمو، وأخلافه من ملوك تلمسان.
17- (تلقيح العقول والآراء، في تنقيح، أخبار الجلة الوزراء) :(المقدمة/17)
ذكره المقريزي- رحمه اللَّه- في (الخطط) : 1/ 443، 2/ 223.
18- (جني الأزهار من الروض المعصار) :
منه نسخة خطية في مكتبة برلين، برقم (6049) ، مكتبة فينه، برقم (1266) ، دار الكتب المصرية، [فهرس الدار] : 6/ 25، مكتبة باريس، نسخة تاريخها (841 هـ) .
19- (حصول الإنعام والمير، في سؤال خاتمة الخير) :
هي رسالة لطيفة الحجم، يدور موضوعها حول سؤال العبد ربه- تعالى- أن يختم له ولأخيه المؤمن بخير، مستلهما ذلك من قول يوسف- عليه السلام- مناجيا ربه: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] .
20- (الخبر عن البشر) :
هو مؤلف ضخم، جعله المقريزي- رحمه اللَّه- مدخلا لكتاب (إمتاع الأسماع) ، مؤرخا من خلاله للخليفة حتى ظهور الإسلام، هادفا من وراء ذلك إلي التعريف بقبائل العرب، وتمييزها من سائر الأجناس، ليعرف لها حقها من المحبة والإعظام، والتجلة والإكرام لكونه صلّى اللَّه عليه وسلّم هاشميا، قرشيا، عربيا.
قال عنه المقريزي- رحمه اللَّه-: ثم لما رأيت فضل اللَّه علي- بما علمني وفهمني- عظيما، ومنته وطوله- بما رزقني من كثرة الأشراف علي مقالات الخليقة- جسيما، جعلته كتابا مستقلا، لاتساعه وكثرة فوائده، وشرف أوضاعه، وسميته: (الخبر عن البشر) : ورقة 4 أ، مخطوطة تونس.
وترجع أهمية هذا الكتاب- كذلك- إلى احتوائه- فضلا عن ذلك- علي مادة رئيسية، تكشف عن مفهوم المقريزي- رحمه اللَّه- لموضوع ((علم التاريخ)) ، وأقسامه، وإقراره بفوائده، وتحمسه للدفاع عنه.
ومنه/ نسخة خطية في ليدن، برقم 01080، ونسخة في مكتبة أياصوفيا في الآستانة، تقع في ستة أجزاء متسلسلة، أرقام (3362) حتى (3341) ، وتشمل الأجزاء 1، 4، 5، 6 [غير متسلسلة] . (دفتر كتب خانة أياصوفيا) : ص 202، (دفتر فاتح كتبخانه سي) : ص 248.(المقدمة/18)
21- (خلاصة التبر في كتاب السر) :
أشار إليه المقريزي- رحمه اللَّه- في (الخطط) : 2/ 63.
22- (درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة) :
هو معجم في ترجمات أعيان عصر المقريزي- رحمه اللَّه- أشار في مقدمته إلي دافعه لتأليفه، قائلا وبعد، فإنّي ما ناهزت من سنى العمر الخمسين، حتى فقدت معظم الأصحاب والأقربين، فاشتد حزني لفقدهم، وتنغص عيشي من بعدهم، فعزيت النفس عن لقائهم بتذكارهم، وعوضتها عن مشاهدتهم باستماع أخبارهم، وأمليت ما حضرني من أنبائهم في هذا الكتاب وسميته (درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة) .
* له نسخة في مكتبة غوطا، المجلد الأول منها بخط المؤلف- رحمه اللَّه-، ونسخة في الموصل، لدى الدكتور محمود الجليلي، في جزأين، تاريخهما (878 هـ) وعن هذه النسخة الأخيرة تم نشر (300) ترجمة- حيث يحتوي الكتاب علي [556] ترجمة- بعالم الكتب- بيروت سنة (1412 هـ 1992 م) ، بتحقيق الدكتور محمد كمال الدين عز الدين علي، بعد تصديره بدراسة وافية عن المؤلف والكتاب بشكل موسوعي يستحق التقدير.
23- (الدرر المضيئة في تاريخ الدولة الإسلامية) :
منه نسخة خطية في كمبرج، برقم (365) ، أشار إليه السخاوي في (الضوء اللامع) : 2/ 23.
24- (الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك) :
رسالة لطيفة الحجم يدور موضوعها حول التأريخ لمن حج من الخلفاء والملوك في خلافته أو ملكه، فرغ المقريزي- رحمه اللَّه- من تصنيفها في ذي القعدة سنة (841 هـ 1438 م) ، مرتبا لها علي مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة:(المقدمة/19)
- أما المقدمة، فقد أشار فيها إلي تسميته للكتاب، مهديا إياه إلي شخصية كبيرة في عصره، عزمت علي الحج، لم يفصح عن اسمها.
- وأما الفصول، فقد أجمل في أولها الإشارة إلي [حجة الوداع] ، لكونه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو الّذي بين للناس معالم دينهم، مشيرا من خلال ذلك إلي بعض شعائر الحج والعمرة، كالقران، والتمتع، والهدي.
وجعل ثانيها من حج من الخلفاء في خلافته، مترجما من خلاله بترجمات قصيرة لثلاثة عشر خليفة، مؤرخا لحجهم.
وجعل ثالثها للترجمة لثلاثة عشر ملكا أو سلطانا ممن حج في ملكه أو سلطنته، منذ انقسمت الخلافة الإسلامية إلي دويلات يحكمها ملوك، وحتى عهد الأشرف شعبان- أحد سلاطين المماليك- مع التأريخ لحجهم.
- وأما الخاتمة، فقد أتت مقتضبة للغاية، تبين عن الفراغ من كتابته، وانتهاء مادته، علي النحو التالي:
" ... واللَّه- سبحانه- هو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى اللَّه علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم- والحمد للَّه رب العالمين) .
* منه له نسخة خطية في: مكتبة الاسكوريال [في أسبانيا] ، برقم (1771) ، مكتبة كمبرج، برقم (442) ، (443) ، مكتبة نور عثمانية، برقم (6/ 4937) .
26- (رسالة في حرص النفوس علي الذكر) :
رسالة لطيفة الحجم، أنشأها المقريزي- رحمه اللَّه- هادفا من خلالها إلي الترغيب في عمل الخير، مقدما لموضوعه بقوله:
".. وبعد فهذه مقالة لطيفة، وتحفة سنية شريفة، في حرص النفوس الفاضلة علي بقاء الذكر، أسأل اللَّه- تعالى- أن يجعل لنا ثناء حسنا في الصالحين، وأن يحبونا بالزلفى إلي يوم الدين بمنه وكرمه) .
متبعا ذلك بموضوع الكتاب، وقد أشار من خلال مادته إلي أن البقاء من أعظم وأحسن صفات اللَّه- تعالى- في حين ليس للعبد من نفسه إلا العدم، والفاضل هو الّذي يحرص علي بقاء ذكره دائما، علي النحو الوارد في القرآن الكريم(المقدمة/20)
علي لسان إبراهيم- عليه السلام- وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] .
* منه نسخة خطية في: خزانة ولي الدين في الآستانة، ضمن مجموع خطي يشمل خمس عشرة رسالة كلها للمقريزي- رحمه اللَّه- برقم (3195) راجع دفتر كتابخانه. ولي الدين، صحيفة (195) ، مكتبة جامعة القاهرة برقم (11/ 26247) . وقد نشره في القاهرة الخانجي سنة (1955) بتحقيق الدكتور جمال الدين الشيال.
* منه نسخة خطية في خزانة ولي الدين في الآستانة، وقد جاء في (تاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان: 3/ 187، أن اسم هذا المخطوط: (مقالة لطيفة في حرص النفوس الفاضلة علي بقاء الذكر) ، وأنه محفوظ في المتحف البريطاني في لندن.
27- (السلوك في معرفة دول الملوك) :
منه نسخة خطية في: دار الكتب المصرية [فهرس الدار] : 5/ 129، المكتبة الظاهرية بدمشق، مجلد رقم (7304) ، مكتبة كوبريللي برقم (1137) ، مكتبة بني جامع [ضمن المكتبة السليمانية في استامبول] ، برقم (887) ، مكتبة باتنا في الهند، برقم 1/ 166 (2223) ، مكتبة غوطا، برقم (1620) ، (1621) ، مكتبة باريس، برقم (1726) ، (1728) ، مكتبة الفاتيكان، (5/ 725) ، مكتبة جستربتي في دبلن، [فيها المجلد الثامن منه] برقم (4102) ، مكتبة المتحف البريطاني، الذيل: (480) .
طبع هذا الكتاب بكماله في القاهرة في أربعة أجزاء علي النحو التالي:
- الجزء الأول في ثلاثة أقسام، بتحقيق محمد زيادة (1934- 1939) .
- الجزء الثاني في ثلاثة أقسام، بتحقيق محمد زيادة (1941- 1958) .
- الجزء الثالث في ثلاثة أقسام، بتحقيق سعيد عاشور (1970- 1972) .
- الجزء الرابع في ثلاثة أقسام، بتحقيق سعيد عاشور (1972- 1973) .
28- (شارع النجاة) :(المقدمة/21)
أشار السخاوي في (الضوء اللامع) : 2/ 23، إلي أنه يشتمل علي جميع ما اختلفت فيه البشر من أصول ديانتهم وفروعها، مع أدلتها، وتوجيه الحق منها، ذكره المقريزي- رحمه اللَّه- في (الذهب المسبوك) ، 5، 7.
29- (شذور العقود في ذكر النقود) :
رسالة لطيفة الحجم، انقسمت إلي مقدمة وخاتمة، فيما بينها ثلاثة فصول.
- أما المقدمة فقد أشار فيها إلى موضوع الكتاب: «نبذة لطيفة في أمور النقود الإسلامية» . وأنه أنشأه تلبية [للأمر العالي] الّذي يرجح أن يكون شخصية كبيرة في بلاط المؤيد [شيخ المحمودي] .
- وأما الفصل الأول فقد جعله للحديث عن [النقود القديمة] ، التي كانت علي وجه الدهر، وجعل الفصل الثاني للتعريف ب [النقود الإسلامية]- نشأتها وتطورها- وجعل الفصل الثالث للحديث عن [النقود المصرية] ، وهو في هذه الفصول الثلاثة يشير إلى أنواع النقود، وأوزانها، وأعيرتها، وزيوفها، وما حدث فيها من التغيير والتبديل، علي اختلاف عصورها.
* منه نسخة خطية في: مكتبة نور العثمانية، برقم (4937) ، مكتبة برلين، برقم (6024) ، مكتبة ليدن، برقم (1012) ، (1013) ، مكتبة كمبرج، برقم (475) ، مكتبة الأسكوريال، برقم (1771) .
وقد ظهرت لهذا الكتاب طبعات مختلفة:
- نشرها تيكسن في روستك (1797 م) .
- نشرها أحمد فارس الشديقان، مطبعة الجوائب استامبول، (1298 هـ) ، ضمن ثلاث رسائل.
- نشرها ماير، الإسكندرية (1933) .
- نشرها محمد آل بحر العلوم، النجف (1938) ثم توالت طبعات لهذا الكتاب في النجف، فكانت الخامسة سنة (1967) .
- نشرها الأب أنستاس ماري الكرملي، ضمن كتابه (النقود العربية وعلم النميات، القاهرة (1939 م) .(المقدمة/22)
30- (ضوء الساري في معرفة خبر تميم الداريّ) :
رسالة لطيفة الحجم، يدور موضوعها حول صحابي جليل، هو [تميم ابن أوس الداريّ]- رحمه اللَّه- وكان نصرانيا، جاء الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورأى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأسلم، وروي الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه حديث [الجساسة والمسيخ الدجال] ، فانفرد هو من دون الصحابة بذلك، وكانت روايته صلّى اللَّه عليه وسلّم من باب رواية [الفاضل عن المفضول، والمتبوع عن تابعه] ، وقد استعرض المقريزي- رحمه اللَّه- من خلال مادتها الحديث عن أنساب الناس وأنساب العرب، وقدوم وفد الداريين علي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإسلام تميم، وتحديثه- عليه السلام- عنه، وإقطاعه إياه قريتي [جبرون وعينون] ، ولم يكن فتحهما حدث بعد!! وما كان من أحوال تميم في الجاهلية والإسلام، معددا لمآثره، مؤرخا لوفاته بسنة أربعين للهجرة، مناقشا من خلال تلك الرسالة [قضية الهبة] ، مناقشة فقهية قضائية، مختتما لها بالتعريف بما آل إليه مصير [حبرون وعينون] حتى وقته.
* له نسخة خطية في خزانة ولي الدين بالآستانة. تم طبع هذا المخطوط تحت اسم (ضوء الساري في خبر تميم الداريّ) ، بتحقيق الأستاذ محمد أحمد عاشور، في دار الاعتصام بالقاهرة وبيروت، سنة (1392 هـ) ، اعتمادا علي نسختين خطيتين: الأولى منقولة من الخزانة الوليدية في الآستانة- لعلها نفس خزانة ولي الدين آنفة الذكر- ويدل علي ذلك الرقم الّذي بينه المحقق، فهو نفس رقم المجموع الّذي منه (ضوء الساري) ، والأخرى منقولة عن المكتبة الأهلية في باريس.
31- (الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة) :
رسالة لطيفة الحجم، استفاد المقريزي- رحمه اللَّه- مادتها في مكة، أثناء مجاورته فيها سنة (839 هـ 1436 م) من بعض القادمين عليه من أهل حضرموت، ابتدأها بمقدمة موجزة، أشار فيها إلي ذلك قائلا:(المقدمة/23)
«وبعد، فهذه جملة من اخبار وادي حضرموت، علقتها بمكة- شرفها اللَّه تعالى- أيام مجاورتي بها في عام [تسعة وثلاثين وثمانمائة] ، حدثني بها ثقات من قدم مكة من أهل حضرموت» .
ثم أتبعها بوصف جغرافي موجز لبلاد حضرموت، وما تردد في بعض المصادر من الاختلاف في نسب [حضرموت] ، وما شهرت به هذه البلاد من مزروعات أو حيوان [كالماشية والإبل] ، مذيلا عليها بطائفة كبيرة من الروايات الشفهية، المتضمنة الكثير من الخرافات أو مستغربات الحدوث، مما وثق مؤرخنا به، كنحو قوله:
«وفي جبال ظفار قوم يقال لهم القمر، أهل بادية، وقد جرت العادة في ظفار أنها تمطر ثلاثة أشهر متوالية ليلا ونهارا، مطرا غزيرا جدا فإذا أراد أحد أن يسافر في مدة المطر إلي جهة من الجهات، طلب واحدا من القمر، ودفع له مالا ليدفع عنه المطر، ثم سار معه والمطر نازل، فيصير عن يمينه وشماله ولا يصيبه هو ولا أحماله منه قطرة واحدة، حتى يبلغ حيث يريد.
له نسخة خطية في مكتبة جستربتي- برقم (4118/ 02) ، مكتبة نور العثمانية، برقم (4937/ 4) ، مكتبة ليدن، برقم (810) ، مكتبة كمبرج، برقم (654) ، (655) ، معهد المخطوطات العربية في الكويت، برقم (776/ 02) ، المصورة عن مخطوطة (شستربتي) ، ومخطوطة ولي الدين في مصورتها المحتفظ بها لدى جامعة القاهرة، برقم (26247) ، وقد نشرها [نوسكوى] مع ترجمة لاتينية في بون سنة (1866) .
32- (عجائب تيمور) :
33- (عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط) :
أشار إليه المقريزي- رحمه اللَّه- في صدر كتابه (اتعاظ الحنفاء) : 1/ 4 بقوله: «ضمنته ما وقفت عليه، وأرشدني اللَّه- سبحانه- إليه من أحوال مدينة الفسطاط، منذ افتتح أرض مصر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصارت دار إسلام، إلي أن قدمت جيوش الإمام المعز لدين اللَّه أبي تميم معد من بلاد المغرب، مع عبده وقائده وكاتبه، أبي الحسين جوهر القائد الصقلي، في سنة(المقدمة/24)
ثمان وخمسين وثلاثمائة، ونزلت في شمالي الفسطاط بالمناخ، وأسس مدينة القاهرة، وحل بها» ، كما ذكره أيضا في (السلوك) : 1/ 28.
وقد اشتمل هذا المؤلف علي فترة من تاريخ مصر الإسلامية، امتدت فيما بين الفتحين الإسلامي والفاطمي لها.
34- (قرض سيرة المؤيد لابن ناهض) :
ذكره السخاوي في (الضوء اللامع) : 2/ 23.
35- (ما شاهده وسمعه مما لم ينقل في كتاب) :
يبدو أنه احتوى علي كثير من النوادر التاريخية وغير التاريخية، مما عايشه المقريزي- رحمه اللَّه- أو أخبر به، علي النحو المدرك من قول السخاوي: « ... ومن أعجب ما فيه أنه كان في رمضان سنة (إحدى وتسعين وسبعمائة) مارا بين القصرين، فسمع العوام يتحدثون أن الظاهر برقوق خرج من سجنه بالكرك، واجتمع عليه الناس. قال: فضبطت ذلك اليوم فكان كذلك. (الضوء اللامع) : 2/ 25- 24.
36- (مجمع الفرائد ومنبع الفوائد) :
ذكره السخاوي، مشيرا إلي أنه يشتمل علمي على العقل والنقل، المحتوي علي فني الجد والهزل، بلغت مجلداته نحو المائة، بينما أشار ابن تغري بردي إلي أنه كمل منه نحو ثمانين مجلدا كالتذكرة.
(الضوء اللامع) : 2/ 23، (المنهل الصافي) : 1/ 398.
37- (مختصر الكامل في معرفة الضعفاء والمتروكين من الرواة لابن عدي) :
* منه نسخة خطية بخط المقريزي- رحمه اللَّه- مؤلف هذا المختصر، كتبها سنة (759 هـ) ، وهي في مكتبة مراد ملا باستامبول، برقم (569) ، وعنها مصورة معهد إحياء المخطوطات العربية في القاهرة، برقم (456) تاريخ. أشار إليه المقريزي- رحمه اللَّه- في (إمتاع الأسماع) : 11/ 311 بتحقيقنا.
38- (معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق علي من عداهم) :(المقدمة/25)
رسالة لطيفة الحجم، يدور موضوعها حول ما يجب لآل البيت النبوي علي المسلمين من حبهم وإجلالهم، ونصرتهم ومودتهم، فرغ المقريزي- رحمه اللَّه- من تأليفها في ذي القعدة سنة (841 هـ 1438 م) مرتبا لها علي مقدمة، أشار فيها إلي دافعه إلي تأليفها قائلا:
« ... وبعد فإنّي لما رأيت أكثر الناس في حق آل البيت مقصرين، وعما لهم من الحق معرضين، ولمقدارهم مضيعين، وبمكانتهم من اللَّه- تعالى- جاهلين، أحببت أن أقيد في ذلك نبذة تدل علي عظم مقدارهم، وترشد المتقي للَّه- تعالى- علي جليل أقدارهم ليقف عند حده، ويصدق بما وعدهم اللَّه ومن به عليهم من صادق وعده» .
تتبعها فصول خمسة، شارحة من خلال أقوال أئمة اللغة والتفسير لخمس آيات قرآنية، مع ما أتصل بها من الأحاديث النبويّة، عالج موضوعة من خلالها، وهي قوله تعالى:
- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] .
- وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] .
- وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً [الكهف: 82] .
- جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد: 23] .
- قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] .
مختتما لهذه الرسالة بعدد من الرؤى والحكايات الشفهية- التي أمده بها شيوخه ورفقته- وتدور كلها حول الحث علي حب آل البيت النبوي وتعظيمهم.
* منه نسخة خطية في فينه، برقم (890) . طبع في دار الاعتصام، ط 2 سنة 1973 م بالقاهرة وبيروت بتحقيق محمد أحمد عاشور.
39- (المقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية) :
مؤلف علمي بحت يبحث في المعادن، أشار المقريزي- رحمه اللَّه-(المقدمة/26)
من خلاله إلي كروية الأرض، وحركتها، وإحاطة الماء باليابسة من سائر جهاتها، والأجسام المتولدة عليها، وتكويناتها، وصفاتها، وأمكنة وجودها، والقيمة العلمية والمادية والطبية لها.
ومنه نسخة خطية في مكتبة نور عثمانية، برقم (4937/ 9) ، ومكتبة باريس، نسخة تاريخها (842 هـ) ، مكتبة كمبرج، برقم (1082) ، مكتبة جامعة القاهرة، برقم (26247/ 10) .
40- (منتخب التذكرة في التاريخ) :
مؤلف في التاريخ الإسلامي العام، اقتصر فيه المقريزي- رحمه اللَّه- علي ذكر العرب والفرس، دون غيرهم من الأمم المطيفة بهم في أطراف الأرض، اختصره من مؤلف أبسط منه سماه (التذكرة) ، فكان ما أودعه في هذا المؤلف اللب منه.
* منه نسخة خطية في: دار الكتب المصرية، (فهرس الدار) : (5/ 368) ، مكتبة باريس برقم (1514) عرب، ونسخة أخرى بدار الكتب المصرية، برقم (1658) ، تاريخ عن مخطوطة مكتبة باريس ذات الرقم (1514) عرب، وتقع في نحو 166 ورقة لطيفة الحجم، مزدوجة الصفحات، باستثناء أولها وآخرها، مسطرتها نحو أربعة عشر سطرا.
41- (المنتقى من أخبار مصر لابن ميسر) :
يضم الفترة فيما بين سنتي (439 هـ 1047 م) ، (553 هـ 1159 م) ، انتقاه المقريزي- رحمه اللَّه- في ربيع الأول للآثار الشرقية سنة (814 هـ 1411 م) .
* طبع في القاهرة- المعهد الفرنسي للآثار الشرقية سنة (1981) بتحقيق أيمن فؤاد سيد.
42- (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)
وتعرف بخطط المقريزي:
منها نسخة خطية في: دار الكتب المصرية، (فهرس الخديوية) :
(1/ 162) ، المكتبة العمومية بدمشق، الأرقام (3437) ، (5696) ، (5697) ، (7004) ، مكتبة أياصوفيا باستامبول، الأرقام (3471) ، (3484) ، مكتبة(المقدمة/27)
طوب قبو سراي باستامبول، الأرقام (2947) ، (2954) ، مكتبة محمد الفاتح باستامبول برقم (4495) ، (4499) ،.. وغير ذلك.
* طبع في مجلدين، بولاق (1270 هـ) ، وقد أعادت مكتبة المثنى ببغداد طبعه بالأوفست، طبع في أربعة أجزاء، مطبعة النيل- القاهرة (1324- 1326 هـ) ، طبعت منه خمسة أجزاء بتحقيق المستشرق الآثاري فييت، القاهرة (1911- 1927) ولم تتم.
وظهرت لهذا الكتاب طبعات جزئية، نذكر منها:
- أخبار قبط مصر، وقد سبقت الإشارة إليه.
- (القول الإبريزي للعلامة المقريزي) ، نشره مينا إسكندر، وهو يتضمن تاريخ الأقباط وأحوالهم- نقلا عن (خطط المقريزي) .
43- (نبذ تاريخية) :
ليس مؤلفا مستقلا- علي ما يبدو- ولكنه ملتقطات مما جمعه المقريزي- رحمه اللَّه- من المصادر، ليضمنه بعض مؤلفاته.
منه نسخة خطية بمكتبة بلدية الإسكندرية برقم (2125 د/ 259) ، تقع في (52) ورقة مقاسها نحو (13* 16 سم) ، وعنها مصورة معهد إحياء المخطوطات العربية في القاهرة برقم (845) تاريخ.
44- (نحل عبر النحل) :
رسالة لطيفة الحجم، يدور موضوعها حول النحل، وما يتخلف منه من عسل وشمع، مستلهما منه العبرة والعظة لبني الإنسان، وقد رتبت علي مقدمة وعشرة فصول وخاتمة.
أما المقدمة فقد أشار فيها إلي موضوع الكتاب قائلا: (( ... وبعد، فهذا قول وجيز في ذكر النحل، وما أودع فيه البارئ- جلت قدرته- من غرائب الحكمة وعجائب الصنع، ليعتبر أولو الأبصار، ويتذكر أرباب الاعتبار)) وأما الفصول- فقد اتصلت بعلوم: الحيوان، واللغة، والتفسير، والحديث، والفقه، والطب، والبيطرة، والنبات، والاقتصاد، والتاريخ، والأدب، فيجمل المقريزي- رحمه اللَّه- فيها الحديث عن النحل من الناحية(المقدمة/28)
الحيوانية، ذاكرا أسماءه، وألوانه، وأحجامه، وصفاته، وخلاياه، وآفاته، وعلاجها، وعسله، وأنواعه وأصنافه- وجامعه، [مشتاره] وآلاته التي يستعين بها في جمعه، وما يرعاه النحل من أزهار وأنوار، وما ينتجه من شمع، مفصحا عن مركزه الاقتصادي في مصر الإسلامية، وما ورد في النحل والعسل من الآيات القرآنية، والأحاديث النبويّة، وأقوال الحكماء، والفقهاء والمفسرين، وما اتصل بالشمع من الحوادث التاريخية، سواء بالاستصباح [الإضاءة] به لدى الخلفاء، والسلاطين، والفقهاء، أو باستخدامه في القصور، والمواكب السلطانية، وحفلات العرس والزواج، أو بالختم به على تركات الموتى من أولاد الخلفاء، مختتما بذلك بما أنشئ في [الشمع] من أشعار وأما الخاتمة فقد أشار فيها إلى انتهاء مادة الكتاب باكتماله، قائلا:
(( ... تمت بحمد اللَّه وعونه وحسن توفيقه، وصلى اللَّه علي سيدنا محمد، وعلي آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا دائما إلي يوم الدين، سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
منه نسخة خطية في: مكتبة نور عثمانية برقم (4937/ 03) ، مكتبة كمبرج، برقم (664) ، (923) ، مكتبة جستربتي في دبلن، برقم (4118/ 02) ، وقد طبع في القاهرة، مكتبة الخانجي، سنة (1946) بتحقيق د. جمال الدين الشيال.
45- (النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم) :
رسالة لطيفة الحجم، يدور موضوعها حول استئثار بني أمية وبني هاشم بالخلافة من دون [علي بن أبي طالب] وبنيه، أشار المقريزي- رحمه اللَّه- من خلالها إلى ما كان من منافرة ومنافسة بين بني أمية وبني هاشم قبل الإسلام وبعده.
* منه نسخة خطية في: دار الكتب المصرية، (فهرس الدار) 5/ 385، المكتبة الظاهرية بدمشق، برقم (3731) ، مكتبة نور عثمانية، برقم (4937) ، ومكتبة ستر اسبورج، مكتبة ليدن، برقم (885) ، مكتبة فينة، برقم (886) وقد طبع هذا الكتاب مرتين:(المقدمة/29)
الأولى في ليدن، نشره فوس، سنة (1888) ، والثانية في القاهرة سنة (1927) ثم طبع عدة طبعات آخرها بدار المعارف- القاهرة- سنة (1988) بتحقيق الدكتور حسن مؤنس. وقد أشار إليه المقريزي- رحمه اللَّه- في (إمتاع الأسماع) : بتحقيقنا 12/ 355.
46- (النحل وما فيه من غرائب الحكمة) :
منه نسخة خطية في مكتبة جامعة كمبرج، راجع (تاريخ آداب اللغة العربية) جورجي زيدان، 3/ 178، فقرة 12.
47- (نهاية الجمع لأخبار القراءات السبع) :
أشار إليه المقريزي- رحمه اللَّه- في (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 12/ 32 ولم أقف له علي مصدر آخر يشير إلي نسخ منه مخطوطة أو مطبوعة.
من هذا العرض الموجز لمجهودات المقريزي- رحمه اللَّه- في الكتابة التاريخية، نجد أنه قد ألح من خلالها علي التوكيد علي ثلاث صفات امتاز بها، وهي:
[مصريته] و [عروبته] و [إسلامه] .
أما مصريته، فتبدو في تحمسه للتأريخ لمصر في أطوارها المختلفة، فيما قبل الإسلام وبعده، حيث أنشأ فيها مؤلفا مجملا، لتاريخها، وخططها، وعمرانها- منذ القدم وحتى وفاته- وهو: (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) ، ثم عمد إلي تفصيل أكثر، أجمل فيه بالتأريخ لمصر الإسلامية، منذ الفتح الإسلامي لها وإلي قبيل وفاته، في عدة مؤلفات متتابعة، وهي: (عقد جواهر الأسفاط) و (اتعاظ الحنفاء) و (السلوك) و (المقفى) وأما عروبته، فقد كانت دافعا قويا لديه إلي إنشاء عدة مؤلفات، منها (الخبر عن البشر) و (البيان والإعراب) و (تراجم ملوك المغرب) و (الطرفة الغريبة) .
وأما إسلامه، فيتبدى- فضلا عن العاطفة الدينية الجياشة، المبثوثة في سائر مؤلفاته- في (إمتاع الأسماع) ، وقد جعله تاريخا مجملا للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم(المقدمة/30)
وسيرته، و (النزاع والتخاصم) وهو مبحث في الخلافة، و (التذكرة) و (منتخبها) و (الدرر المضيئة) و (الإمام) .
وقد جعل من هذه المؤلفات تاريخا عاما للدولة الإسلامية في مختلف أطوارها وأمصارها. بل إن أكثر رسائله ومؤلفاته الموجزة، المفردة بالتأليف في موضوع بعينه، تنزع إلي أي من هذه الصفات الثلاث.(المقدمة/31)
(ب) التعريف بكتاب إمتاع الأسماع
الأصول الخطية للكتاب:
لقد بذلت ما وسعني من جهد- بعد توفيق اللَّه تعالى- للحصول على أكبر قدر من الأصول الخطية لكتاب (إمتاع الأسماع) ، وقد تيسر لي- بفضل اللَّه تعالى- أن وجدت نسختين خطيتين بالإضافة إلي الجزء المطبوع.
فأما النسخة الأولى فقد رمزنا إليها بحرف (خ) والنسخة الثانية رمزنا إليها بحرف (ج) ، والجزء المطبوع رمزنا إليه بحرف (ط) ، وفيما يلي وصف موجز لكل من هذه الأصول:
أولا: النسخة (خ) :
هذه النسخة محفوظة بتركيا، ورقمها 1004، وهي مما وقفه الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبي عبد اللَّه محمد بن عثمان، وقد حصلنا علي صورة منها مسجلة علي الميكروفيلم من معهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إحدى منظمات جامعة الدول العربية، وعلي صفحة العنوان من هذه النسخة يوجد بعض التقريرات والملاحظات، يمكن الوقوف عليها بمناظرة صور نماذج المخطوطات في الصفحات المقبلة بعد قليل.
وصف النسخة (خ) :
تقع هذه النسخة في 1839 ورقة، قام المصور بتصويرها في تسعة أجزاء علي النحو التالي:
الجزء الأول:
ويبدأ من الورقة الأولى، إلي الورقة رقم 215 وهو من أول الكتاب إلي قوله: (فصل في ذكر شمائل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم) .
الجزء الثاني:
من الورقة 216 إلي الورقة 440، وأوله: (فصل في حسن عهده صلّى اللَّه عليه وسلّم) إلى قوله: (وأن اللَّه تجلى لموسى في سيناء) .
الجزء الثالث:(المقدمة/32)
من الورقة رقم 441 إلي الورقة رقم 651، ويبدأ بقوله عن اليهود:
(وهذه نبذة من غضب اللَّه عليهم) ، إلي قوله: (كمل الجزء الثاني [ (1) ] من كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع) .
الجزء الرابع:
من الورقة رقم 652 إلى الورقة رقم 864، ويبدأ بعد البسملة بقوله:
«أعلم أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة بنين: القاسم وعبد اللَّه وإبراهيم» ، إلى قوله «وخرج البخاري في المناقب الحديث بمعناه، وذكر نحوا منه في باب هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» .
الجزء الخامس:
من الورقة رقم 865 إلي الورقة رقم 1059، ويبدأ بقوله: «فصل في ذكر غزوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم» إلى قوله: «فصل في ذكر من أقام عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حد الزنا» .
الجزء السادس:
من الورقة رقم 1060 إلي الورقة رقم 1260، ويبدأ بقوله:
«ثم جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهم- جلوس ثم جلس فقال: استغفر اللَّه لماعز بن مالك» ،
إلى قوله: «وأوتي من البيان مثله، أي أذن له صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبين ما في الكتاب، يعم ويخص، يزيد عليه ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن» .
الجزء السابع:
من الورقة 1261 إلي الورقة رقم 1460، ويبدأ بقوله: «وقوله:
يوشك رجل شبعان علي أريكته- الحديث- يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس في القرآن له ذكر» ، إلى قوله: «فقلت: لا والّذي بعثك
__________
[ (1) ] سيزول هذا اللبس عند الكلام علي عدد أجزاء الكتاب.(المقدمة/33)
بالحق، أضع سيفي علي عاتقي ثم أضرب به حتى ألقاك أو ألحق بك، قال:
أو لا أدلك علي خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني» .
الجزء الثامن:
من الورقة رقم 1461 إلي الورقة 1660 ويبدأ بقوله: «فخرج البخاري من حديث شعيب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية» إلي قوله: «من يستعفف يعفه اللَّه، ومن يستغن يغنه اللَّه، فرجعت وقلت: لا أسأله فلانا أكثر قومي مالا، واللَّه تعالى أعلم» .
الجزء التاسع:
من الورقة رقم 1661 إلي الورقة 1839 ويبدأ بقوله: «وأما إخباره صلّى اللَّه عليه وسلّم وابصة الأسدي بما جاء يسأله عنه قبل أن يسأله» ، إلى قوله: «وتم هذا الكتاب البديع المثال، البعيد المنال، البعيد المقال، بتمام هذا الجزء السادس وهو المسمى بإمتاع الأسماع بما للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع» .
وتحتوي كل ورقة من ورقات هذه النسخة علي خمسة وثلاثين سطرا، بكل سطر منها حوالي تسعة عشر كلمة تقريبا، وهي مكتوبة بخط واضح نسبيا، كما أن أوائل الفصول أو رءوس الموضوعات مكتوبة بخط الثلث بحجم أكبر بحيث يشغل السطر منها قدر ما يشغله الثلاثة أسطر من تفاصيل الموضوع أو الخبر.
ومن الملاحظات الهامة عن هذه النسخة: تسهيل الهمزات في الناحية الإملائية، مثل «الملايكة وحينئذ» بدلا من «الملائكة وحينئذ» هذا بالإضافة إلي كتابة أسماء الأعلام بخط أكبر من الخط الآخر، كما أن الآيات القرآنية مكتوبة برواية ورش عن نافع ويتضح ذلك في الآيات التي يظهر لاختلافها عن رواية حفص أثر في الرسم، مثل: فتثبتوا بدلا من فَتَبَيَّنُوا* [الحجرات: 6] وفي قوله تعالى فلا يخاف عقباها بدلا من وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 15] .(المقدمة/34)
ثانيا: النسخة (ج)
وهذه النسخة مصورة عن النسخة المحفوظة بمكتبة غوطا برقم 440، وهي مكتوبة بخط أصغر من الخط الّذي كتبت به النسخة (خ) ، وتحتوى الورقة منها على تسعة عشر سطرا بكل سطر منها حوالي سبعة عشر كلمة تقريبا، ويبدو أن هذه النشخة مقولة عن النسخة (خ) ، غير أن الناسخ كتب أوائل الفصول ورءوس الموضوعات وأسماء الأعلام بخطر كبير وبمداد أحمد، بدليل أنه لم يظهر في التصوير الفوتوغرافي، وقد قمنا باستكمالها من النسخة (خ) .
وتبدأ هذه النسخة (بفصل في موالي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم) ، وتنتهي بقوله:
(كان صفوان بن المعطل بن ربيعة بن خزاعيّ بن محارب بن مرة بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم الذكوانيّ أبو عمرو، على ساقة العسكر يلتقط من متاع المسلمين حتى يأتيهم به) .
وعدد ورقات هذه النسخة 225 الورقة الأولى منها تقابل في النسخة (خ) الورقة رقم 718، والأخيرة منها تلقى مع نهاية الورقة رقم 943 من النسخة (خ) .
ثالثا: الجزء المطبوع:
هذا الجزء عبارة عن (551) صفحة من القطع الكبير، يقابل في النسخة الخطية (خ) : من الصفحة الأولى وحتى السطر الثاني والعشرين من صفحة (179) وقد رمزنا إليه بالحرف (ط) ، أي أنه أقل من تسع الكتاب الأصلي، وقد تم طبع هذا الجزء عام 1941 م، بدار التأليف- القاهرة، علي نفقة السيدة قوت القلوب الدمر داشية، بتحقيق الأستاذ المرحوم محمود محمد شاكر.
ولم أهمل هذا الجهد الّذي قام به فضيلته، فلم يفتني الاستئناس بالجزء المطبوع، علي الرغم مما به من ملاحظات نوهت عنها في مكانها.
هذا بالإضافة إلي أنه اكتفى بنهاية السيرة النبويّة، واتخذ من وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهاية للجزء الأول دون مراعاة التقسيم الأصلي للكتاب، سواء أجزاء(المقدمة/35)
المؤلف، أو أجزاء تصوير المخطوطة، كما بيناه عند كلامنا عن [عدد أجزاء الكتاب] .
عدد أجزاء الكتاب:
يقول (حاجي خليفة) في (كشف الظنون) ج 1 ص 166 عن كتاب إمتاع الأسماع «وهو كتاب نفيس في ست مجلدات حدث به في مكة» ، وذلك ما نقله الناسخ علي صفحة العنوان من النسخة (خ) .
وقد لاحظنا من خلال الجزء المطبوع أن الصفحة من المخطوطة يتم طبعها في ثلاث صفحات من القطع الكبير، فلو قمنا بطبع الكتاب في ست مجلدات فإن المجلد الواحد قد يتجاوز الألف صفحة، وهذا أمر غير مقبول عمليا.
اسم الكتاب والمؤلف:
ظهر كتاب إمتاع الأسماع في كثير من كتب التصانيف والمؤلفات بأكثر من اسم، فضلا عن أن النسخة الخطية (ج) قد أثارت إشكالا علي صفحة العنوان منها حيث يقول ناسخها: «هذا كتاب إمتاع الأسماع للشيخ تقي الدين المقريزي» ويقول في زاوية أخرى من الصفحة ذاتها: «نقل العلقميّ أن كتاب الإمتاع لأبي حيان التوحيدي» ، وبخط آخر «ونقل الدميري أيضا أن الإمتاع لأبي حيان» ، وفي موضع آخر من ذات الصفحة: «لكن نقل الشمس الشامي في (سيرته) أن (الإمتاع) للمقريزي» .
ودفعا لهذا الإشكال فإننا نذكر ما أورده صاحب كشف الظنون بصفحة 166، 167 عن المؤلفات المشابهة أو المقاربة في الاسم لكتاب الإمتاع للمقريزي، وهي:
1- (إمتاع الأسماع والأبصار) - لأبي العباس أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني الشافعيّ المتوفى سنة 923 هـ.
2- (إمتاع الأسماع فيما للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحفدة والمتاع) - للشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المؤرخ المتوفى سنة 845 هـ، «وهو كتاب نفيس في ستة مجلدات حدث به في مكة» .(المقدمة/36)
3- (الإمتاع والمؤانسة) - للشيخ أبي حيان علي بن محمد التوحيدي المتوفى 380 هـ.
4- (الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع) - للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ.
5- الامتاع في أحكام السماع- لكمال الدين أبي الفضل جعفر بن تغلب الأدفوي الشافعيّ المتوفى سنة 749 هـ.
هذا بالإضافة إلي ما ذكره البغدادي في الجزء الأول من (هدية العارفين) ضمن مؤلفات المقريزي ص 127 باسم: (إمتاع الأسماع فيما للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحفدة والأتباع) .
والعمدة في تسمية هذا الكتاب، ما ذكره المقريزي نفسه في الصفحة الأولى والأخيرة من النسخة الخطية الكاملة للكتاب حيث يقول: «فقد سميته إمتاع الأسماع بما للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع» .(المقدمة/37)
منهج المقريزيّ في جمع مادة كتاب إمتاع الأسماع
اعتمد المقريزيّ في جمع مادة كتاب إمتاع الأسماع على النقول من المصادر الصحيحة بدء من الكتب الستة الصحيحة، وكتاب المستدرك للحاكم النيسابورىّ، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، واعتمد في تسجيل الدلائل والمعجزات على كتاب دلائل النبوة للبيهقي، ودلائل النبوة لأبي نعيم، فضلا عن مؤلفاته التي أشار إليها في (إمتاع الأسماع) ، وقام بحسم وشرح المسائل الفقهية العارضة في ثنايا الكتاب على مذهب الإمام الشافعيّ- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
وكان رحمه اللَّه- حريصا على التدرج في تدوين صحة الخبر أو الأثر مبتدئا بالأخبار والآثار ذات الأسانيد العالية ثم ينتقل إلى ما دونها من درجات الصحة حيث يقول في بعض عناوين الفصول: [إن صح الخبر] أو [إن ثبتت الرواية] هذا بالنسبة للمتن.
وأما بالنسية لسلسلة الرواة فإنه يدلي بدلوه جرحا أو تعديلا لرواة الحديث أو الأثر بقوله: [قال مؤلفه] ، وذلك بموضوعية شديدة وانحياز إلى الحق وقد ساعده على ذلك ثقافته الشمولية، وفكره الموسوعيّ في علم الحديث ورجاله، كما بينا ذلك في [الوظائف التي تولاها المقريزي] ، فضلا على مؤلفاته الجمة التي أشرنا إليها آنفا. رحمه اللَّه رحمة واسعة وجزاه عن السيرة النبويّة خير الجزاء.(المقدمة/38)
منهج التحقيق
1- قمت بمقابلة النسخ المخطوطة والجزء المطبوع، مع اختيار النسخة (خ) كأم، معالجا لما وجدته من تصحيف أو تحريف أو سقط، مع تصويب النص.
2- قمت بتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، وعزو الأقوال الواردة إلى أصحابها ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
3- قمت بشرح الألفاظ اللغوية الغامضة مبينا معناها تسهيلا للقارئ الكريم على استيعاب المعنى، مع مراجعة المراجع التي أشار إليها المقريزي في فقرات كتابه.
4- وضعت بعض العناوين الجانبية للموضوعات التي لم يرد لها عنوان في الأصل مع مراجعة النصوص على مظانها من كتب المغازي والسير والتواريخ.
5- عقبت على بعض المواضع بالقدر الّذي تدعو إلى الضرورة بما تقتضيه الأمانة العلمية، وتجنبت الإكثار من ذلك خشية التدخل في مسار الكتاب، والخروج به عن أهدافه من كثرة النقد والتزيد.
وبعد فإنني أقدم هذا الجهد المتواضع في خدمة السيرة النبويّة للقارئ الكريم، فله غنمه، وعليّ غرمه، فإن كان هناك توفيق فمن اللَّه تبارك وتعالى وإن تكن الأخرى فمن نفسي.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ صدق اللَّه العظيم حدائق الزيتون- القاهرة في ليلة القدر 1419 هـ محمد عبد الحميد النميسي(المقدمة/39)
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وصلى اللَّه على نبينا محمد الّذي منّ به على عباده المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأرسله بالشرع العام، إلى جميع الأنام ليكون رحمة للعالمين، ونجاة لمن اتبعه من خزي الدنيا وليكون في الآخرة من الفائزين، فبلّغ صلّى اللَّه عليه وسلّم الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وأعد لجهاد أعداء اللَّه تعالى الأسلحة والعتاد، وارتبط في سبيل اللَّه عز وجل المسوّمة الجياد، لمحاربة من حادّ اللَّه ورسوله بنفسه تارة، وندب لهم آونة من صحابته من رضيه لذلك واختاره، حتى ظهر أمر اللَّه وهم كارهون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للَّه رب العالمين.
اللَّهمّ صل عليه من نبي كان يأكل الطيبات من الطعام، وينكح المبرءات من العيوب والآثام، ويستخدم الموالي من الأرقاء والأحرار، ويصرفهم في مهنته ومهماته الجليلات الأقدار، ويركب البغلة الراتعة ويلبس الحبرة والقباء [ (1) ] ، ويمشي منتعلا وحافيا من مسجده إلى نحو قباء [ (2) ] ، ويدخر لأهله مما أفاء اللَّه عليه أقوات سنة كاملة، ويجعلها تحت أيديهم محرزة حاصلة، ويؤثر بقوته وثوبه أهل الحاجة والمساكين، ثقة منه بخير الرازقين، اللَّهمّ وابعثه مقاما محمودا يغبطه الأولون والآخرون، وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومتبعيه إلى يوم الدين يا رب العالمين.
وبعد، فغير جميل بمن تصدر للتدريس والإفتاء، وجلس للحكم بين الناس وفصل القضاء، أن يجهل من أحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونسبه وجميل سيرته ورفيع منصبه، وما كان له من الأمور الذاتية والعرضية ما لا غنى [ (3) ] لمن صدقه وآمن به عن معرفته، ولا بد لكل من اتسم بالعلم من درايته، فقد أدركنا وعاصرنا وصحبنا ورأينا كثيرا منهم [وهم] [ (4) ] عن هذا النبأ العظيم معرضون، ولهذا النوع الشريف من العلم تاركون، وبه جاهلون، فجمعت في هذا المختصر من أحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جملة أرجو أن تكون إن شاء اللَّه كافية، ولمن وفقه- سبحانه- من
__________
[ (1) ] الحبرة: برد يمان، مخطط. والقباء: ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق عليه.
[ (2) ] قباء: هي قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة. (معجم البلدان، ج 4 ص 342)
[ (3) ] في (خ) غنا.. بالألف.
[ (4) ] زيادة يقتضيها السياق.(1/3)
داء الجهل شافية، التقط كتابا جامعا وبابا من أمهات العلم مجموعا، كان له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعه، [يحده] [ (1) ] ، مع تعرضه لمطاعن البغاة ولأغراض المنافسين، ومع عرضه عقله الكدود [ (2) ] على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة [ (3) ] وتحكيمه فيه المتأولين والحسدة، ومع ذلك فقد سميته «إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع» صلّى اللَّه عليه وسلّم، واللَّه أسأل التوفيق لديمة [ (4) ] العمل بالسنة، ومرافقة الذين أنعم اللَّه عليهم في بحبوحة الجنة، بمنه وكرمه.
__________
[ (1) ] هكذا بالأصل، والأولى حذفها ليستقيم السياق، أو لعلها (يجده) بالجيم المعجمة وقد أصابها تصحيف.
[ (2) ] الكدود: الرجل لا ينال خيره إلا بعسر. (المعجم الوسيط ج 2 ص 779) .
[ (3) ] الجهابذة: جمع جهباذ، وهو النقّاد الخبير بغوامض الأمور (المرجع السابق ج 1 ص 141) .
[ (4) ] الدّيمة: المطر يطول زمانه في سكون (المرجع السابق ج 1 ص 305) ، في حديث عائشة، وسئلت عن عمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعبادته فقالت: كان عمله ديمة (النهاية لابن الأثير ج 2 ص 147) ، (البخاري في الصوم، باب هل يخص شيئا من الأيام) .(1/4)
أسماؤه وكناه وألقابه
هو سيد ولد آدم أبو القاسم، وأبو إبراهيم، وأبو قثم [ (1) ] ، وأبو الأرامل:
(محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم) [ (2) ] وأحمد، والماحي [ (3) ] ، والحاشر [ (4) ] ، والعاقب [ (5) ] ، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم [ (6) ] .
نسب أبيه
ابن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. (وهو قريش على الصحيح) [ (7) ] ، ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان [ (8) ] ، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، خيرة رب العالمين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد المرسلين، صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (9) ] .
__________
[ (1) ] القثم: بمعنى الإعطاء، يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم (تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 9) .
[ (2) ] بياض في (خ) .
[ (3) ] وأما الماحي فإن اللَّه محا به سيئات من اتبعه (ابن سعد ج 1 ص 105) .
[ (4) ] فأما حاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد (المرجع السابق) .
[ (5) ] وأما العاقب فإنه عقب الأنبياء. (المرجع السابق) .
[ (6) ] يعني نبي القتال، وهو كقوله الآخر:
«بعثت بالسيف» ،
والملحمة: الحرب وموضع القتال، جمع ملاحم (النهاية لابن الأثير ج 4 ص 240) ، وسيأتي فصل خاص بأسمائه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (7) ] وإلى فهر جماع قريش، وما كان فوق فهر فليس يقال له قرشيّ، يقال له كنانيّ (ابن سعد ج 1 ص 55) .
[ (8) ] وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم بغير شك، غير أن أهل النسب يختلفون في الأسماء ما بين عدنان وإسماعيل، وربما جرى منهم في أكثر الأسماء تصحيف أو اختلاف (تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 8) .
[ (9) ] ورد أن نسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنه: «محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ومناف أعظم أصنامهم، وبه سمّي عبد مناف، واسمه المعتق بن قصيّ، وهو مجمّع، واسمه زيد بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدّ بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن حمل بن قيدار(1/5)
نسب أمه
أم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلّم) آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ابن مرة بن كعب [ (1) ] ، حملت به في شعب أبي طالب [ (2) ] (وقيل عند الجمرة الكبرى، وقيل الوسطى) في ليلة رجب ليلة الجمعة [ (3) ] ، وقيل حملت به في أيام التشريق.
مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة في دار عرفت بدار ابن يوسف، من شعب بني هاشم، يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، وقيل لليلتين خلتا منه، وقيل ولد في ثالثة، وقيل في عاشرة، وقيل في ثامنة، وقيل ولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من رمضان حين طلع الفجر، وقد شذّ بذلك الزبير بن بكار، إلا أنه موافق لقوله: إن أمه صلّى اللَّه عليه وسلّم حملت به أيام التشريق، فيكون حملها مدة تسعة أشهر على
__________
[ () ] ابن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر، وهو تاريح بن ناحور بن أسرع بن أرغوي بن والغ بن شالخ بن أركشد بن سام بن نوح بن لمك بن المتوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، ابن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث، وهو هبة اللَّه بن آدم المصطفى عليه السلام وعلى جميع الأنبياء. فهذا نسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد اختلف في أسماء الرجال من فوق عدنان، فزاد بعضهم، ونقص، وقدّموا، وأخّروا، واللَّه أعلم بالصحيح» .
(التعريف في الأنساب والتنويه لذوي الأحساب) ص 36.
[ (1) ] ابن لؤيّ بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا. وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا (ابن هشام ج 1 ص 292) .
[ (2) ] ويزعمون فيما يتحدث الناس واللَّه أعلم أن آمنة بنت وهب أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت تحدث أنها أتيت حين حملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. (ابن هشام ج 1 ص 293) .
ومن طريق محمد بن عمر عن علي بن زيد عن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة عن أبيه عن عمته قالت:
كنا نسمع أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما حملت به أمه آمنة بنت وهب كانت تقول: ما شعرت بأني حملت به ولا وجدت له ثقلا كما يجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي. وربما كانت تقول: وأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري! فقال: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيّها. (عيون الأثر ج 1 ص 25) .
[ (3) ] «وذلك يوم الاثنين» (ابن سعد ج 1 ص 98) ، (صفة الصفوة ج 1 ص 23) ، (عيون الأثر ج 1 ص 25) .(1/6)
العادة الغالبة. وذلك عام الفيل، وقيل بعد قدوم الفيل مكة بخمسين يوما، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل قدوم الفيل للنصف من المحرم قبل مولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشهرين إلا أياما، وقيل ولد بعد الفيل بثمانية وخمسين يوما، وقيل بعده بعشر سنين، وقيل بعده بثلاثين عاما، وقيل قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل قبله بأربعين عاما، وقيل ولد يوم الفيل، وقيل ولد سنة ثلاث وعشرين للفيل، وقيل في صفر، وقيل يوم عاشوراء، وقيل في ربيع الآخر [ (1) ] .
والراجح أنه ولد عام الفيل في الثانية والأربعين من ملك كسرى أنوشروان ابن قباذ بن نيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الخشن بن بهرام بن سابور ابن سابور ذي الأكتاف.
وكان على الحيرة يوم ولد صلّى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن المنذر بن امرئ القيس وهو عمرو ابن هند، وذلك قبل ولاية النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس على الحيرة بنحو من سبع عشرة، وهي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإسكندر بن فيلبس المجدوني على دارا، وهي سنة ألف وثلاثمائة وستة عشرة لابتداء ملك نصر، ووافق يوم مولده العشرين من نيسان، وولد بالغفر [ (2) ] من المنازل وهو مولد الأنبياء، ويقال كان طالعة برج الأسد والقمر فيه.
صفة مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم
وتركوا عليه جفنة كبيرة فانفلقت عنه فلقتين، فكان ذلك من مبادئ أمارات النبوة في نفسه الكريمة، ويقال ولد مختونا، مسرورا [ (3) ] مقبوضة أصابع يده،
__________
[ (1) ] اتفقوا على أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول عام الفيل. واختلفوا فيما مضى من ذلك الشهر لولادته على أربعة أقوال: أحدها: أنه ولد لليلتين خلتا منه، والثاني: لثمان خلون منه، والثالث: لعشر خلون منه، والرابع: لاثنتي عشرة خلت منه. (صفة الصفوة ج 1 ص 24) .
[ (2) ] الغفر: منزل للقمر ثلاثة أنجم صغار في برج السنبلة، وهي المنزل الخامس عشر من منازل القمر (المعجم الوسيط ج 2 ص 656) . قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
(آية 39/ يس) .
[ (3) ] وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ولد مختونا مسرورا، وروي في ذلك حديث لا يصح، ذكره أبو الفرج بن الجوزي في «الموضوعات» وليس فيه حديث ثابت، وليس هذا من خواصه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن كثيرا من الناس يولد مختونا. القول الثاني: أنه ختن صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم شقّ قلبه الملائكة عند ظئرة حليمة.
القول الثالث: أن جدّه عبد المطلب ختنه يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه محمدا. (زاد المعاد ج 1 ص 80) .(1/7)
مشيرا بالسبابة كالمسبح بها، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وقال: «ليكون لابني هذا شأن» . وقيل: إن جده ختنه يوم سابعه، وقيل: ختنه جبريل عليه السلام، وختم حين وضع الخاتم.
مدة حمله صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكانت مدة الحمل به تسعة أشهر، وقيل: عشرة، وقيل: ثمانية، وقيل:
سبعة، وقيل: ستة. وعقّ [ (1) ] عنه بكبش يوم سابعه، وسماه محمدا [ (2) ] .
__________
[ () ] ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان، ومسرورا أي مقطوع السّرّة من بطن أمه (البداية والنهاية ج 2 ص 324) .
[ (1) ] عقّ عن ولده: ذبح ذبيحة يوم سبوعه (المعجم الوسيط ج 2 ص 616) .
[ (2) ] فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو اللَّه ويشكر ما أعطاه، وروي أنه قال يومئذ:
الحمد للَّه الّذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه باللَّه ذي الأركان
حتى أراه بالغ البنيان ... أعيذه من شر ذي شنئان
من حاسد مضطرب العيان
(ابن سعد ج 1 ص 103) ، (صفة الصفوة ج 1 ص 26) وفي رواية أخرى:
الحمد للَّه الّذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه باللَّه ذي الأركان
حين يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنئان ... من حاسد مضطرب العنان
ذي همة ليس له عينان ... حتى أراه دافع السان
أنت الّذي سميت في القرآن ... في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على البيان
(البداية والنهاية ج 2 ص 324) ، (الروض الأنف ج 1 ص 184) ، (ابن هشام ج 1 ص 296) .
وفي هامش البداية والنهاية «حتى أرى منه رفيع الشان» والأردان: جمع ردن: والرّدن: مقدم كم القميص أو أسفله. وطيب الأردان: كناية عن العفّة والنّقاء. والشنآن: البغضاء (هامش ص 26 من ج 1 صفة الصفوة) ، (لسان العرب ج 1 ص 102) مادة: شنأ.
قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (آية 2/ المائدة) ، وقال تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا (آية 8/ المائدة) .(1/8)
موت أبيه
ومات عبد اللَّه بن عبد المطلب- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حمل في بطن أمه- بالمدينة، وقيل: بالأبواء بين مكة والمدينة، والأول هو المشهور، وقيل: مات بعد ولادته بثمانية وعشرين يوما، وقيل: بسبعة أشهر، وقيل: بسنة، وقيل: بسنتين، وقيل: بشهرين، والأول أثبت.
رضاعه وإخوته في رضاعه
أرضعته أمه صلّى اللَّه عليه وسلّم سبعة أيام [ (1) ] ، ثم أرضعته «ثويبة» [ (2) ] مولاة «أبي لهب»
__________
[ (1) ] في (خ) أيام أمه، والصواب ما أثبتناه.
[ (2) ] قال عروة: «وثويبة مولاة لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما مات أبو لهب، أريه بعض أهله بشرّ حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت هذه بعتاقتي ثويبة» . ذكرها ابن مندة في الصحابة، وقال: اختلف في إسلامها، وقال أبو نعيم: لا نعلم أحدا ذكر إسلامها غيره، والّذي في السير أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعد ما تزوج خديجة، رضي اللَّه عنها، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة، إلى أن كان بعد فتح خيبر، ماتت، ومات ابنها مسروح. قوله: «وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» ظاهره أن عتقه لها كان قبل إرضاعها، والّذي في السير يخالفه، وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة، وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل. وحكى السهيليّ أيضا أن عتقها كان قبل الإرضاع. قوله: «أريه» بضم الهمزة وكسر الراء وفتح التحتانية، على البناء للمجهول. قوله: «بعض أهله» بالرفع على أنه النائب عن الفاعل. وذكر السهيليّ أن العباس قال: لما مات أبو لهب، رأيته في منامي بعد حول في شرّ حال فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولد يوم الاثنين، وكانت بشّرت أبا لهب بمولده فأعتقها. قوله: «بشرّ حيبة» بكسر المهملة، وسكون التحتانية، بعدها موحّدة، أي سوء حال. وقال ابن فارس: أصلها الحوبة وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حيبة، منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. ووقع في «شرح السنة للبغوي» بفتح الحاء، ووقع عند «المستملي» بفتح الخاء المعجمة، أي في حالة خائبة من كل خير، وقال «ابن الجوزي» : هو تصحيف. وقال «القرطبي» : يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر المهملة، وهو المعروف. وحكي في المشارق عن رواية «المستملي» بالجيم، ولا أظنه إلا تصحيفا، وهو تصحيف كما قال. قوله: «ماذا لقيت؟» أي بعد الموت، قوله: «لم ألق بعدكم غير أني» ، كذا في الأصول بحذف المفعول، وفي رواية الإسماعيلي: «لم ألق بعدكم رخاء» ، وعند عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري: «لم ألق بعدكم راحة» ، قال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري، ولا يستقيم الكلام إلا به. قوله: «غير أني سقيت في هذه» كذا في الأصول بالحذف أيضا، ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة، وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، وفي رواية الإسماعيلي المذكورة، وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع. وللبيهقي في الدلائل من طريق كذا مثله بلفظ «يعني النقرة» ، وهي ذلك إشارة(1/9)
بلبن ابنها «مسروح» أياما قلائل [ (1) ] وكانت أرضعت قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمه «حمزة بن عبد المطلب» [ (2) ] ، وأرضعت بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «أبا سلمة بن عبد
__________
[ () ] إلى حقارة ما سقي من ماء. قوله: «بعتاقتي» بفتح العين، وفي رواية عبد الرزاق «بعتقي» وهو أوجه، والوجه الأولى أن يقول: «بإعتاقي» لأن المراد التخليص من الرق.
وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، ولكنه مخالف لظاهر القرآن، قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (آية 23/ الفرقان) ، وأجيب:
أولا: بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، ولعلّ الّذي رآها لم يك إذ ذاك أسلم، فلا يحتج به. وثانيا:
على تقدير القبول، فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم مخصوصا من ذلك، بدليل قصة أبي طالب كما تقدم، أنه خفف عنه، فنقل من الغمرات إلى الضّحضاح.
وقال البيهقي: ما ورد من بطلان الخبر للكفار، فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار، ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الّذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم، سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.
وأما القاضي عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض.
قلت: وهذا لا يرد الاحتمال الّذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر، فما المانع تخفيفه؟.
وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا، وبمن ورد النص فيه. وقال ابن المنير في الحاشية: هنا قضيتان: إحداهما محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره، لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.
والثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال، تفضلا من اللَّه تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل اللَّه عليه بما شاء، كما تفضل على أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا. قلت: وتتمّة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن وقع من الكافر من البرّ له ونحو ذلك. واللَّه أعلم. (فتح الباري ج 9 ص 173، 174- كتاب النكاح- باب: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
[ (1) ] في (خ) «دلائل» وكتب تحتها بخط آخر «قلائل» .
[ (2) ] هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، الإمام البطل الضرغام، أسد اللَّه أبو عمارة، وأبو يعلي القرشي الهاشمي، المكّي، ثم المدنيّ، البدريّ، الشهيد، عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخوه من الرضاعة.
قال ابن إسحاق: لما أسلم حمزة علمت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
(ابن هشام) 2/ 129، (ابن الأثير) في أسد الغابة 2/ 52، (الهيثمي) 9/ 267 ونسبه للطبرانيّ وقال: مرسل ورواته ثقات، وأخرجه (الحاكم) 3/ 193.
قال أبو إسحاق: عن حارثة بن مضرّب، عن علي قال: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ناد حمزة،(1/10)
الأسد» [ (1) ] ، ثم بعد رضاعه من «ثويبة» أرضعته «أم كبشة» [ (2) ] ، حليمة بنت أبي ذؤيب عبد اللَّه بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصية ابن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن السعدية» بلبن زوجها الحارث [ (3) ] بن عبد العزى السعدي، وأرضعت معه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عمه «أبا سفيان [ (4) ] بن الحارث بن عبد
__________
[ () ] فقلت: من هو صاحب الجمل الأحمر؟ فقال حمزة: هو عتبة بن ربيعة، فبارز يومئذ حمزة عتبة فقتله.
(ابن سعد) 3/ 8 الطبقة الأولى على السابقة في الإسلام ممن شهد بدرا، وأخرجه (الحاكم) مطوّلا 3/ 194 وصححه، وهو كما قال. ولكن الذهبي قال: لم يخرجا لحارثة، وقد وهّاه ابن المديني، وقد أخطأ رحمه اللَّه في نقله توهية حارثة بن مضرب عن ابن المديني، فإنه لم يثبت عنه، وحارثة وثّقه أحمد، وابن معين، وابن حبان، وروى حديثة أصحاب السّنن، والبخاري في الأدب المفرد.
[ (1) ] هو أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، السيد الكبير، أخو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، وابن عمته برّة بنت عبد المطلب، وأحد السابقين الأولين، هاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، ومات بعدها بأشهر، وله أولاد صحابة، كعمر وزينب، ولما انقضت عدة زوجته أم سلمة، تزوج بها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وروت عن زوجها أبي سلمة القول عند المصيبة وكانت تقول: من خير من أبي سلمة، وما ظنّت أن اللَّه يخلفها في مصابها به بنظيره، فلما فتح عليها بسيد البشر، اغتبطت أيما اغتباط. مات كهلا في سنة ثلاث من الهجرة، رضي اللَّه عنه.
(مسند أحمد) 4/ 27، (ابن سعد) 3/ 239، (الجرح والتعديل) 5/ 107، (حلية الأولياء) 2/ 3، (تهذيب الأسماء واللغات) 2/ 240 رقم 360، (تهذيب التهذيب) 5/ 251 رقم 487، (الإصابة) 4/ 152 رقم 4786.
[ (2) ] هي حليمة بنت عبد اللَّه بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصية بن سعد بن بكر ابن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، (تهذيب الأسماء واللغات) 2/ 239 رقم 729.
[ (3) ] هو الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصيّة بن سعد بن بكر، يكنى أبا ذؤيب.
(المرجع السابق) .
[ (4) ] هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أخو نوفل وربيعة، تلقى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الطريق قبل أن يدخل مكة مسلما، فانزعج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأعرض عنه، لأنه بدت منه أمور في أذية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فتذلل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى رقّ له، ثم حسن إسلامه، ولزم هو والعباس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين إذ فرّ الناس، وأخذ بلجام البغلة، وثبت معه.
وكان أخا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة، أرضعتهما حليمة، سمّاه هشام بن الكلبي، والزبير: «مغيرة» ، وقالت طائفة: اسمه كنيته، وإنما المغيرة أخوهم.
وقيل: كان الذين يشبّهون بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، جعفر، والحسن بن علي، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث [و
قد روى عنه ولده عبد الملك، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يا بني هاشم إياكم والصدقة، لا تعملوا عليها فإنّها لا تصلح لكم، وإنما هي أوساخ الناس» (أبو نعيم عن عبد اللَّه بن المغيرة الهاشمي، عن أبيه، وأكثر من عرف من الصحابة) . (كنز العمال) 16534] ،
وعبد اللَّه بن المغيرة من أهل مصر، يروي عن الثوري، روى عنه المقدام بن داود الرعينيّ، يغرب وينفرد. قال ابن حبان في:(1/11)
المطلب» أياما بلبن ابنها عبد اللَّه، ثم فطمته صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد سنتين.
وكان حمزة بن عبد المطلب مسترضعا في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما وهو عند أمه حليمة، وكان حمزة رضيع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وجهين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية، وكانت ابنتها الشيماء تحضنه معها.
وكان أخوه من الرضاعة عبد اللَّه بن الحارث، وهو الّذي شرب مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنيسة بنت الحارث، والشيماء وهي حذافة [ (1) ] بنت الحارث [ (2) ] .
مدة رضاعه
فأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم عند حليمة في بني سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان نحوا من أربع سنين [ (3) ] .
شق صدره
وشق فؤاده المقدس هناك ومليء حكمة وإيمانا بعد أن أخرج حظّ الشيطان منه،
__________
[ () ] (الثقات ج 8 ص 344) ، وقال العقيلي: يحدث بما لا أصل له، وقال ابن يونس: منكر الحديث (لسان الميزان ج 3 ص 448) .
وكان أبو سفيان من الشعراء، وفيه يقول حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة، فقد برح الخفاء
هجوت محمّدا فأجبت عنه ... وعند اللَّه في ذاك الجزاء
والبيتان من قصيدة طويلة لحسان بن ثابت، قالها يوم فتح مكة، مطلعها:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
وتبلغ هذه القصيدة ثلاثين بيتا، والجواء وذات الأصابع موضعان بالشام، وعذراء على بريد من دمشق، قتل بها حجر بن عدي وأصحابه، والمغلغلة: الرسالة المكتوبة.
(ديوان حسان بن ثابت) ص 71، (ابن هشام) ج 5 ص 85، (ابن سعد) ج 4 ص 49، (الاستيعاب) ج 4 ص 1673 رقم 3002، (الإصابة) ج 7 ص 179 رقم 10022.
[ (1) ] في ابن هشام «خذامة بكسر الخاء المنقوطة» ج 1 ص 298.
[ (2) ] (زاد المعاد) 1/ 83.
[ (3) ] ذكر ابن الجوزي أن حليمة أعادته إلى أمه بعد سنتين وشهرين (صفة الصفوة ج 1 ص 63) وقال ابن قتيبة: (لبث فيهم خمس سنين) (المعارف ص 132) (انظر تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 13) .(1/12)
وروى البخاري [ (1) ] في الصحيح: شق صدره صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة المعراج، وقد استشكله أبو محمد بن حزم [ (2) ] . ويقال: إن جبريل عليه السلام ختنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما طهر قلبه الشريف. ثم ردته حليمة بعد شق فؤاده إلى أمة آمنة وهو ابن خمس سنين وشهر، وقيل: ابن أربع سنين، وقيل: سنتين وشهر.
خروج آمنة وموتها
ثم خرجت به آمنة إلى المدينة تزور أخواله بها فماتت بالأبواء [ (3) ] وهي راجعة إلى مكة، وله صلّى اللَّه عليه وسلّم ست سنين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وقيل: وعمره أربع سنين، وقيل: ثمانية أعوام، والأول أثبت [ (4) ] .
كفالة جده
فكفله بعد آمنة جده عبد المطلب بن هاشم وكان يرى من نشوئه ما يسره فيدنيه، حتى كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يدخل عليه إذا خلا وإذا نام وجلس على فراشه، فإذا أراد بنو عبد المطلب منعه قال عبد المطلب: دعوا ابني، فإنه يؤنس ملكا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] حديث شق الصدر: (البخاري) ج 2 ص 327 في باب الإسراء- (مسلم) ج 2 ص 216 في باب الإسراء- (سنن الدارميّ) ج 1 ص 8- (مسند أحمد) ج 3 ص 121، ص 149، ص 288- (المستدرك للحاكم) ج 2 ص 616 وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك.
[ (2) ] هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن سفيان بن يزيد الفارسيّ، مولى زيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، القرشيّ، الأندلسيّ، الإمام العلامة، المحقق، المدقق، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن حزم، ولد بعد صلاة الصبح في آخر يوم من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانية وثلاثمائة (383 هـ) بقرطبة بالأندلس، وتوفي بقريته، وهي من غرب الأندلس، على خليج البحر الأعظم، في شهر جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وأربعمائة (457 هـ) (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم/ المقدمة.
[ (3) ] الأبواء: بالفتح ثم السكون وواو وألف ممدودة، قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم البلدان ج 1 ص 101، 102) .
الأبواء: في الشمال عن الجحفة على ثمان فراسخ (تقويم البلدان ص 81) .
[ (4) ] ماتت أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وله ست سنين وقيل: أربع (تهذيب الأسماء واللغات ج 1 ص 24) وذكر ابن هشام: أنها توفيت وله صلّى اللَّه عليه وسلّم ست سنين (ابن هشام ج 1 ص 305) وقيل: توفيت أمه وهو ابن أربع سنين (تلقيح فهوم أهل الأثر ص 13) .
[ (5) ] نص ابن سعد: «دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا» (ابن سعد ج 1 ص 118) وفي ابن هشام: «دعوا ابني، فو اللَّه إن له لشأنا» (ابن هشام ج 1 ص 306) و (ابن كثير ج 2 ص 282) (البداية(1/13)
رمده
ورمد عليه السلام في سنة سبع من مولده فخرج به عبد المطلب إلى راهب فعالجه وأعطاه ما يعالج به وبشّر بنبوته [ (1) ] .
حضانة أم أيمن وموت جده وكفالة عمه
وحضنته بعد أمه أم أيمن بركة الحبشية مولاة أبيه، حتى مات عبد المطلب وله صلّى اللَّه عليه وسلّم من العمر ثماني سنين، وقد أوصى به إلى ابنه أبي طالب [ (2) ] لأنه كان أخا عبد اللَّه لأمه، فكفله عمه أبو طالب بن عبد المطلب وحاطه أتم حياطة.
حليته وخلقه في صغره
وكان بنو أبي طالب يصبحون غمصا رمصا [ (3) ] ويصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم صقيلا دهينا [ (4) ] ، وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان تصبيحهم أول البكرة فيجلسون وينهبون، ويكف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده لا ينهب معهم، فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يصبح في أكثر أيامه فيأتي زمزم فيشرب منه شربة، فربما عرض عليه الغداء فيقول: لا أريده، أنا شبعان.
مخرجه الأول إلى الشام
وخرج به إلى الشام في تجارة وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة
__________
[ () ] والنهاية) «دعوا ابني إنه يؤسس ملكا» .
[ (1) ] ذكر صاحب (تاريخ الخميس) ج 1 ص 239 في وقائع السنة السابعة من مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ومن وقائع هذه السنة ما روي أنه أصاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن عنه، فقيل لعبد المطلب:
إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه فناداه وديره مغلق فكان لا يجيبه، فتزلزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه فخرج مبادرا، وقال: يا عبد المطلب، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخرّ ديري، وارجع به واحفظوه لا يغتاله بعض أهل الكتاب ثم عالج» .
[ (2) ] في (خ) «المطلب» والصحيح ما أثبتناه. فأبو طالب أخو عبد اللَّه لأبيه وأمه، راجع: (المعارف لابن قتيبة) ص 118.
[ (3) ] الغمص: ما سال من العين من رمص (المعجم الوسيط ج 2 ص 662) .
الرّمص: وسخ أبيض جامد يجتمع في موق العين (المرجع السابق ج 1 ص 327) .
[ (4) ] في ابن سعد «رمصا شعثا» ، «دهينا كحيلا» (ج 1 ص 120) .(1/14)
أيام، وقيل ابن تسع سنين فبلغ به بصرى [ (1) ] ، وذلك فيما يقال لعشر خلون من ربيع الأول سنة ثلاث عشر للفيل. فرأى أبو طالب ومن معه من آيات نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم ما زاده في الوصاة به والحرص عليه: من تظليل الغمام له، وميل الشجرة بظلها عليه.
خبر بحيرا الراهب
وبشر به بحيرا الراهب (واسمه سرجس من عبد القيس) ، وأمر أبا طالب أن يرجع به لئلا تراه اليهود فيرمونه بسوء، فكانت هذه أول بشرى بنبوته، وهو لصغره غير واع إليها ولا متأهب لها، وقيل: خرج مع عمه وله تسع سنين، والأول أثبت [ (2) ] .
أول أمره مع خديجة في التجارة
وكان حكيم بن حزام [ (3) ] قد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسوق حباشة، واشترى منه بزّا من بز [ (4) ] تهامة [ (5) ] وقدم مكة. فذلك حين أرسلت خديجة إلى رسول اللَّه
__________
[ (1) ] بصرى: بالشام من أعمال دمشق. (معجم البلدان ج 1 ص 522) .
وذكر ابن الجوزي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل تيماء، وهي واحة في شمالي جزيرة العرب (صفة الصفوة ج 1 ص 33) .
[ (2) ] أورد هذا الخبر بتمامه: ابن الجوزي في (صفوة الصفوة ج 1 ص 33- 35) - ابن هشام (السيرة النبويّة ج 1 ص 319- 322) - الطبري (التاريخ ج 2 ص 277- 279) - ابن كثير (البداية والنهاية ج 2 ص 345- 349) - ابن سيد الناس (عيون الأثر ج 1 ص 40- 43) .
[ (3) ] حكيم بن حزام بن خويلد، وهو ابن أخي خديجة، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وغزا حنينا والطائف، وكان من أشراف قريش، وعقلائها، ونبلائها، وكان الزبير ابن عمه، قال البخاري في «التاريخ» : عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام. قال الذهبي: لم يعش في الإسلام إلا بضعا وأربعين سنة، باع دار الندوة من معاوية بمائة ألف، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم يا ابن أخي إلا التقوى، إني اشتريت بها دارا في الجنة، أشهدكم أني قد جعلتها للَّه. مات سنة أربع وخمسين، بلغ عدد مسندة (40) حديثا، له في الصحيحين أربعة أحاديث متفق عليها. (مسند أحمد ج 4 ص 401- 403) ، (المعارف: 311) ، (الجرح والتعديل:
3/ 202) ، (المستدرك: 3/ 482- 485) ، (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 166) ، (تهذيب التهذيب: 2/ 447) ، (شذرات الذهب: 1/ 60) .
[ (4) ] البزّ: نوع من الثياب والسلاح. (المعجم الوسيط ج 1 ص 54) .
[ (5) ] تهامة بالكسر، قال أبو المنذر: تهامة تساير البحر، منها مكة، قال: والحجاز ما حجز بين تهامة(1/15)
صلّى اللَّه عليه وسلّم تدعوه أن يخرج في تجارة إلى سوق حباشة [ (1) ] . وبعثت معه غلامها ميسرة، فخرجا فابتاعا بزا من بز الجند [ (2) ] وغيره مما فيها من التجارة، ورجعا إلى مكة فربحا ربحا حسنا، ويقال إن أبا طالب كلم خديجة حتى وكلت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتجارتها.
مشاركته السائب في التجارة
وكان يشارك السائب بن أبي السائب صيفي بن عابد [ (3) ] بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، فلما كان يوم الفتح جاءه فقال عليه السلام: (مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري)
ومعنى يداري: يشاحن ويخاصم صاحبه.
رعيه الغنم
وكان بعد ذلك يرعى غنما لأهل مكة على قراريط، قيل: كل شاة بقيراط، وقيل: قراريط موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة [ (4) ] .
مشهده حرب الفجار [ (5) ]
وشهد حرب الفجار الأيام سائرها إلا يوم نخلة، وكان يناول عمه- الزبير
__________
[ () ] والعروض.
قال الأصمعي: وإنما سمي الحجاز حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد. (معجم البلدان ج 2 ص 74) .
[ (1) ] حباشة: بالضم والشين المعجمة، سوق من أسواق العرب في الجاهلية، ذكره في حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لما استوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبلغ أشدّه وليس له مال كثير استأجرته خديجة إلى سوق حباشة.
[ (2) ] الجند: بالتحريك، قال أبو سنان اليماني: « ... وأعمال اليمن في الإسلام مقسومة على ثلاثة ولاة:
فوال على الجند ومخاليفها، وهو أعظمها، ووال على صنعاء ومخاليفها، وهو أوسطها، ووال على حضرموت ومخاليفها، وهو أدناها» . (معجم البلدان ج 2 ص 196) .
[ (3) ] هكذا في (خ) ، وفي ابن هشام:
قال ابن إسحاق: «السائب بن أبي السائب بن عابد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم» (ابن هشام ج 3 ص 268) .
[ (4) ]
روى البخاري في كتاب (الإجارة) : باب رعي الغنم على قراريط: «عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» .
(صحيح البخاري ج 1 ص 32) وذكره ابن ماجة بلفظ آخر، (صحيح سنن ابن ماجة للألباني ج 2 ص 727 باب الصناعات حديث رقم 2149) .
[ (5) ] الفجار بكسر الفاء، «وإنما سمّي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان- كنانة وعسقلان- من(1/16)
بن عبد المطلب- النبل، وكان عمره صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عشرين سنة [ (1) ] ، وقيل: أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة [ (2) ] .
مخرجه الثاني إلى الشام في تجارة خديجة
ثم أجر نفسه من خديجة- بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب [ابن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر] [ (3) ]- سفرتين بقلوصين [ (4) ] . وخرج ثانيا إلى الشام في تجارة ومعه غلامها ميسرة- لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة خمس وعشرين من الفيل- وقد بلغ خمسا وعشرين سنة- حتى أتى بصرى فرآه نسطور الراهب وبشر بنبوته ميسرة. ورأى ميسرة من شأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما بهره فأخبر سيدته خديجة بما شاهد وبكلام الراهب [ (5) ] ، فرغبت خديجة رضي اللَّه عنها إليه أن يتزوجها لما رجت في ذلك من الخير.
زواجه بخديجة
فتزوج بخديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما في عقب صفر [و] سنّه ست وعشرين، (وقيل: كانت [ (6) ] سنّه إحدى وعشرين سنة وقيل: ثلاثين، وقال ابن جريج: وله سبع وثلاثون سنة، وقال البرقي: سبع وعشرون سنة قد راهق الثلاثين، ولها من العمر أربعون سنة وعمره خمس وعشرون سنة، وقيل:
ثلاث وعشرون، والأول أثبت [ (7) ] ) على اثنتي عشرة أوقية ونش [ (8) ] ، وقيل:
__________
[ () ] المحارم بينهم» . (البداية والنهاية ج 2 ص 353) ويقول السهيليّ: «والفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة، وذلك أنه كان قتالا في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعا، فسمي: الفجار (الروض الأنف ج 1 ص 209) ، (أيام العرب في الجاهلية: ص 322- 337) .
[ (1) ] ابن كثير في (البداية والنهاية ج 2 ص 353) .
[ (2) ] ابن هشام في (السيرة ج 1 ص 324) .
[ (3) ] تكملة النسب من ابن هشام.
[ (4) ] القلوص «من الإبل» الفتية المجتمعة الخلق، وذلك حين تركب إلى التاسعة من عمرها، ثم هي ناقة» (المعجم الوسيط ج 2 ص 755) .
[ (5) ] الخبر بتمامه في (ابن سعد) ج 1 ص 156.
[ (6) ] في (خ) «كان» ، والصحيح ما أثبتناه لأن السن مؤنثة.
[ (7) ] في ابن هشام «خمسا وعشرين سنة» (ج 2 ص 5) ونحوه في (عيون الأثر ج 1 ص 47) .
[ (8) ] الأوقية جزء من اثني عشر جزءا من الرطل المصري (المعجم الوسيط ج 1 ص 33) الأوقية أربعون(1/17)
عشرون بكرة [ (1) ] . وكان الّذي سفر بينهما نفيسة بنت منية أخت يعلي بن منية، وقيل: بل سفر بينهما ميسرة، وقيل: بل مولاة مولّدة. وكان الّذي زوّج خديجة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمها عمرو بن أسد بن عبد العزى وقال: محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب يخطب خديجة ابنة خويلد! هذا الفحل لا يقدح أنفه [ (2) ] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، فيما يحسب حماد: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر خديجة وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعاما وشرابا ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة: إن محمد بن عبد اللَّه يخطبني فزوّجني إياه، فزوجها، فخلّقته [ (3) ] وألبسته، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، فلما سري عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة فقال: ما شأني؟ ما هذا؟! قالت: زوجتني محمد بن عبد اللَّه، فقال: أنا أزوج يتيم أبي طالب! لا لعمري، فقالت خديجة:
ألا تستحي! تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران.
فلم تزل به حتى رضي. وقد ردّ هذا القول بأن أباها توفي قبل الفجار [ (4) ] .
شهوده حلف الفضول [ (5) ]
وشهد صلّى اللَّه عليه وسلّم حلف الفضول مع عمومته في دار عبد اللَّه بن جدعان بن عمرو
__________
[ () ] درهما، والنش نصف أوقية، أو عشرون درهما (لسان العرب ج 6 ص 353) .
[ (1) ] البكر: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة، وفي المثل: «جاءوا على بكرة أبيهم» أي جميعا (المعجم الوسيط ج 1 ص 67) ، (جمهرة الأمثال ج 1 ص 316) .
[ (2) ] في الروض الأنف «هو الفحل الّذي لا يقدع أنفه» ج 1 ص 212. وهذا المثل يضرب للشريف لا يردّ عن مصاهرة ومواصلة. والقدح: الكف (مجمع الأمثال للميداني ج 2 ص 395) المثل رقم 4552.
[ (3) ] خلّقه: ملّسه وسوّاه. وأتم خلقه وطيبه بالخلوق. (المعجم الوسيط ج 1 ص 252) .
[ (4) ] «المحفوظ عند أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (ابن سعد ج 1 ص 133) وذكر نحوه ابن كثير في (البداية والنهاية ج 2 ص 361) والسهيليّ في (الروض الأنف ج 1 ص 213) ، والطبري في (التاريخ ج 2 ص 282) .
[ (5) ] كان حلف الفضول بعد الفجار، وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة، وذكر ابن قتيبة: «والفضول جمع فضل وهي أسماء الذين تحالفوا وهم الفضيل بن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة، وكانوا قد تعاهدوا باللَّه ليكونن(1/18)
ابن كعب [ (1) ] بن تميم بن مرة.
تحكيمه في أمر الحجر الأسود
وكان اللَّه تعالى قد صانه وحماه من صغره، وطهّره وبرّأه من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خلق جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه وأمانته، بحيث أنه لما بنيت الكعبة بعد هدم قريش لها في سنة خمس وثلاثين، وقيل: سنة خمس وعشرين من عمره صلّى اللَّه عليه وسلّم وذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة وبعد الفجار بخمس عشرة سنة- ووصلوا إلى موضع الحجر الأسود، اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه، [فأرادت [ (2) ]] كل قبيلة رفعه إلى موضعه، واستعدوا للقتال وتحالفوا على الموت، ومكثوا على ذلك أربع ليال.
فأشار عليهم أبو أمية [ (3) ] حذيفة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم- وهو أسنّ قريش يومئذ- أن يجعلوا بينهم حكما أول من يدخل من باب المسجد،
فكان أول من دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأخبروه الخبر، فقال: [هلموا [ (4) ]] لي ثوبا، فأتي بثوب- يقال إنه كساء أبيض من متاع الشام كان له صلّى اللَّه عليه وسلّم- فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم أرفعوه جميعا، ففعلوا حتى بلغوا به موضعه فوضعه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده ثم بني عليه.
ويقال: كان الثوب الّذي وضع فيه الحجر للوليد بن المغيرة.
أول ما بدئ به من النبوة
ولما أراد اللَّه رحمة العباد، وكرامته صلّى اللَّه عليه وسلّم بإرساله إلى العالمين، كان أوّلا يرى
__________
[ () ] يدا واحدة مع المظلوم على الظالم» (ابن هشام ج 1 ص 264، 265 بتصرف) .
[ (1) ] ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤيّ (تمام النسب من ابن هشام ج 1 ص 264) .
[ (2) ] في (خ) فأراد.
[ (3) ] في ابن هشام «أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه ... » ج 2 ص 19.
[ (4) ] كذا في (خ) وصحتها (هلمّ) ، وهي كلمة دعاء، أي تعال، وهي من أسماء الأفعال، تلزم لفظا واحدا في كل حالاتها عند الحجازيين: [للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى] (المعجم الوسيط ج 2 ص 992، 993) والنصّ في (ابن هشام ج 2 ص 19) : «هلمّ إليّ» والآية 150 الأنعام:
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ، 18 الأحزاب: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، وانظر أيضا (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي) ج 5 ص 341.(1/19)
ويعاين من آثار فضل اللَّه أشياء: فشق في صغره بطنه واستخرج ما في قلبه من الغل والدنس، فكان يعاين الأمر معاينة ثم كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه. فكان يلتفت يمينا ويسارا فلا يرى أحدا [ (1) ] .
وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة قومها بذلك. ثم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [ (2) ] . فكان أول شيء رآه من النبوة في المنام بطنه طهّر وغسل ثم أعيد كما كان.
تحنثه بحراء وبدء الوحي
وحبّب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما كان يفعل ذلك متعبدو [ (3) ] ذلك الزمان، فيقيم فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها يتحنث [ (4) ] بحراء ومعه خديجة، فيقال: إنه أول ما رأى جبريل عليه السلام بأجياد [ (5) ] فصرخ به: يا محمد يا محمد.
بعثته
ثم فجأة [ (6) ] الحق وهو بغار حراء [ (7) ] يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من رمضان
__________
[ (1) ] أخرج الترمذي نحوه في صحيح سنن الترمذي للألباني ج 3 ص 192 حديث رقم 3885 وقال في آخره: «صحيح» .
[ (2) ] المرجع السابق حديث رقم 3893، وقال في آخره: «حسن صحيح» .
[ (3) ] في (خ) «متعبدوا» بألف بعد الواو، والمعروف عند أهل اللغة أن جمع المذكر السالم تحذف منه ألف واو الجماعة إذا أضيف.
[ (4) ] تحنّث: تعبد، وفعل ما يخرج به الحنث، والحنث: الذنب (المعجم الوسيط ج 1 ص 201) (وهذه اللفظة في (خ) : يتجنب» ) .
[ (5) ] قال أبو القاسم الخوارزمي: أجياد موضع بمكة يلي الصفا، وهو أحد جبال مكة غربيّ المسجد الحرام.
وقال الأصمعي: هو الموضع الّذي كانت به الخيل التي سخرها اللَّه لإسماعيل عليه السلام (معجم البلدان ج 1 ص 130) .
[ (6) ] قوله: «فجأه الحق وهو بغار حراء» أي جاءه بغتة على غير موعد كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ آية 86/ القصص، (البداية والنهاية ج 3 ص 6) ، وفي (ط) «فجئه» والتصويب من (المعجم الوسيط) : «فجأه الأمر فجأ، وفجأة، وفجاءة: بغته (ج 2 ص 674) .
[ (7) ] وحراء: يقصر ويمد، ويمنع ويصرف، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المار إلى منى، له قلة مشرقة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية. (معجم البلدان ج 2 ص 269) .(1/20)
وقيل: لأربع وعشرين ليلة مضت منه، وله من العمر أربعون سنة. وهذا مروي عن عبد اللَّه بن عباس [ (1) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن عباس، حبر الأمّة وفقيه العصر، وإمام التفسير، ابن عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: العباس ابن عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤيّ بن غالب بن فهر القرشيّ الهاشميّ المكيّ الأمير رضي اللَّه عنه.
مولده بشعب بني هاشم، قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم نحوا من ثلاثين شهرا، وحدّث عنه بجملة صالحة، وعن عمر، وعليّ، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وخلق.
وقرأ على أبيّ، وزيد. قرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة. روى عنه ابنه عليّ، وابن أخيه عبد اللَّه بن معبد، ومواليه، عكرمة، ومقسم، وكريب، وأنس بن مالك، وطاووس، وخلق سواهم.
وكان وسيما جميلا، مديد القامة، مهيبا، كامل العقل، ذكيّ النفس، من رجال الكمال.
انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صحّ عنه أنه قال:
كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء.
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأسي، ودعا لي بالحكمة. قال الزبير بن بكّار:
توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولابن عباس ثلاث عشرة سنة. قال أبو سعيد بن يونس: غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبي سرح، وروى من أهل مصر خمسة عشر نفسا.
قال ابن عباس: «ضمني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى صدره وقال: اللَّهمّ علّمه الحكمة» ،
والحكمة: الإصابة في غير النبوة، وفي لفظ: «علّمه الكتاب» ، وهو يؤيد من فسّر الحكمة هنا بالقرآن.
واختلف في المراد بالحكمة هنا، فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن اللَّه، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب بالصواب، وقيل غير ذلك. وكان ابن عباس من أعلم الناس بتفسير القرآن.
وروى أبو زرعة الدمشقيّ في تاريخه، عن ابن عمر قال: «هو أعلم الناس بما أنزل اللَّه على محمد» .
وقال مجاهد: ما رأيت أحدا قطّ مثل ابن عبّاس، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة. ومسندة ألف وستمائة وستون حديثا، وله من ذلك في الصحيحين خمسة وسبعون. وتفرّد البخاري له بمائة وعشرين حديثا، وتفرّد مسلم بتسعة أحاديث. توفّي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين، وعاش إحدى وسبعين سنة.
* سير أعلام النبلاء: 3/ 331- 359، التاريخ الكبير: 5/ 3، التاريخ الصغير: 1/ 26، الجرح والتعديل: 5/ 116، المستدرك: 3/ 533، حلية الأولياء: 1/ 314، جمهرة أنساب العرب: 19، 20، تاريخ بغداد: 1/ 173، جامع الأصول: 9/ 63، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 274، وفيات الأعيان: 3/ 62- 64، خلاصة تذهيب الكمال: 2/ 69، تاريخ الصحابة: 148، 149، أسماء الصحابة الرواة: 40، فتح الباري: ج 7 ص 125، 126 باب ذكر ابن عباس رضي اللَّه عنهما، حديث رقم 3756.(1/21)
وجبير بن مطعم [ (1) ] ، وقباث بن أشيم [ (2) ] ، ...
__________
[ (1) ] هو جبر بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ. شيخ قريش في زمانه، أبو محمد، ويقال: أبو عديّ القرشيّ النوفليّ، ابن عم النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم.
من الطلقاء الذين حسن إسلامهم. وقد قدم المدينة في فداء الأسارى من قومه، وكان موصوفا بالحلم ونبل الرأي كأبيه.
وكان أبوه هو الّذي قام في نقض صحيفة القطيعة، وكان يحنو على أهل الشّعب، ويصلهم في السر، ولذلك
يقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النّتنى لتركتهم له» .
وهو الّذي أجار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رجع من الطائف حتى طاف بعمرة، ثم كان جبير شريفا مطاعا، وله رواية أحاديث. ووفد على معاوية في أيامه.
توفي جبير بن مطعم سنة ثمان وخمسين على خلاف في ذلك.
* سير أعلام النبلاء: 3/ 95- 99، التاريخ الكبير: 2/ 223، المعارف: 485، الجرح والتعديل: 2/ 512، جمهرة أنساب العرب: 116، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 146، مرآة الجنان:
1/ 127، خلاصة تذهيب الكمال: 1/ 161، شذرات الذهب: 1/ 64، صحيح البخاري، كتاب الخمس، باب ما منّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأسارى من غير أن يخمس، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم ابن عديّ حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» حديث رقم 3139 (فتح الباري ج 6 ص 298، 299) . وهو في (مسند الحميدي) رقم 558، وفي (صحيح سنن أبي داود) للألباني رقم 2338 ج 2 ص 12.
[ (2) ] هو قباث بن أشيم بن عامر بن الملوح بن يعمر وهو الشدّاخ بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، شهد بدرا مع المشركين، وكان له فيها ذكر، ثم أسلم بعد ذلك، وشهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعض المشاهد، وكان على مجنّبة أبي عبيدة بن الجراح يوم اليرموك، ونزل الشام بعد ذلك.
روى عنه عامر بن زياد الليثي، وأبو الحويرث، فرواية عامر عنه مرفوعة في فضل صلاة الجماعة، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: أخبرني أبو خالد الرّحبيّ، يعني ثور بن يزيد، عن ابن سيف الكلاعي عن عبد الرحمن بن زياد عن قباث بن أشيم الليثي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «صلاة رجلين يؤمّ أحدهما صاحبه أزكى عند اللَّه من صلاة ثمانية تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عند اللَّه من صلاة مائة تترى، قال ابن شعيب: فقلت لأبي خالد: ما تترى؟
قال: متفرقين.
وأما أبو الحويرث فإنه قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي:
يا قباث أنت أكبر أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكبر مني وأنا أسنّ منه، ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وتنبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رأس أربعين من الفيل» .
قال البخاري وابن أبي حاتم: قباث بن أشيم له صحبة. وأخرج أبو نعيم في (الدلائل) قصة إسلامه بعد الخندق مطولة، وفيها علم من أعلام النبوة.
وحديث: «صلاة رجلين..» : أخرجه البخاري في التاريخ الكبير. وحديث أبي الحويرث، فأورده(1/22)
وعطاء [ (1) ] ، وسعيد بن المسيب [ (2) ] ، ...
__________
[ () ] البيهقي في (الدلائل) ، والترمذي في باب ما جاء في ميلاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال عنه الألباني في ضعيف سنن الترمذي: «ضعيف الإسناد» ، هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق.
* ضعيف سنن الترمذي: 484، سنن الترمذي: 5/ 550، جامع الأصول: 11/ 216، 217، الدلائل للبيهقي: 1/ 79، 2/ 131، الدلائل لأبي نعيم: 1/ 143، طبقات ابن سعد: 7/ 411، تاريخ الصحابة: 216، الاستيعاب: 3/ 1303، المؤتلف والمختلف: 4/ 1922، التاريخ الكبير: 7/ 192، الجرح والتعديل: 7/ 143، الإصابة: 5/ 407، 408.
[ (1) ] هو عطاء بن يسار الهلاليّ أبو محمد المدنيّ القاصّ، مولى ميمونة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو أخو سليمان، وعبد الملك، وعبد اللَّه بن يسار.
روى عن معاذ بن جبل، وفي سماعه منه نظر، وعن أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن الحكم السلمي، وأبي أيوب، وأبي قتادة، وأبي واقد الليثي، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ، وعبد اللَّه بن عمرو، وعبد اللَّه بن عباس، وأبي رافع مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعائشة، وعامر بن سعد بن أبي وقاص وهو من أقرانه، وجماعة.
روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، ومحمد بن عمر بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، وهلال بن علي، وزيد بن أسلم، وشريك بن أبي نمر، ومحمد بن أبي حرملة، وعمرو ابن دينار، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ويزيد بن عبد اللَّه بن قسيط، وحبيب بن أبي ثابت، وصفوان بن سليم، وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل، وآخرون.
قال البخاريّ وابن سعد: سمع من ابن مسعود. وقال أبو حاتم: لم يسمع منه. وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. روى الواقدي: أنه مات سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقال غيره: سنه (94) ، وقال ابن سعد: وهو أشبه، وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103) ، وهو ابن (84) سنة، جزم بذلك ابن يونس في تاريخ مصر، وذكره ابن حبّان في (الثقات) وقال: قدم الشام، فكان أهل الشام يكنونه بأبي عبد اللَّه، وقدم مصر، فكان أهلها يكنونه بأبي يسار، وكان صاحب قصص، وعبادة، وفضل، كان مولده سنة (19) ، ومات سنة (103) ، وكان موته بالإسكندرية.
* العقد الفريد: 7/ 353، المعارف: 459، طبقات الحفاظ: 41، 42، الثقات: 5/ 199، سير أعلام النبلاء: 4/ 448، 449، الجرح والتعديل: 6/ 338، التاريخ الكبير: 6/ 461، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 335، تهذيب التهذيب: 7/ 194، خلاصة تهذيب الكمال: 2/ 232، شذرات الذهب: 1/ 125، مرآة الجنان: 1/ 214.
[ (2) ] هو سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة، الإمام العلم، أبو محمد القرشيّ المخزوميّ، عالم أهل المدينة، وسيّد التابعين في زمانه.
ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي اللَّه عنه، وقيل: لأربع مضين منها بالمدينة.
رأى عمر، وسمع عثمان، وعليا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى، وسعدا، وعائشة، وأبا هريرة، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأم سلمة، وخلقا سواهم. وقيل: إنه سمع من عمر.
وروى عن أبيّ بن كعب مرسلا، وسعد بن عبادة كذلك، وأبي ذرّ وأبي الدرداء كذلك، وبلال كذلك.(1/23)
__________
[ () ] وروايته عن عليّ، وسعد وعثمان، وأبي موسى، وعائشة، وأم شريك، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وحكيم بن حزام، وعبد اللَّه بن عمرو، وأبيه المسيّب، وأبي سعيد، في «الصحيحين» .
وروايته عن حسان بن ثابت، وصفوان بن أمية، ومعمر بن عبد اللَّه، ومعاوية، وأم سلمة، في «صحيح مسلم» .
وروايته عن جبير بن مطعم، وجابر، وغيرهما في «صحيح البخاري» .
وروايته عن عمر، في «السنن الأربعة» .
وروى أيضا عن زيد بن ثابت، وسراقة بن مالك، وصهيب، والضحاك بن سفيان، وعبد الرحمن ابن عثمان التّيميّ، وروايته عن عتّاب بن أسيد في «السنن الأربعة» ، وهو مرسل.
وأرسل عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن أبي بكر الصديق، وكان زوج بنت أبي هريرة، وأعلم الناس بحديثه.
قال الحافظ الذهبيّ: وكان ممّن برّز في العلم والعمل، وقع لنا جملة من عالي حديثه.
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق القرافي، أنبأنا الفتح بن عبد اللَّه الكاتب، أنبأنا محمد بن عمر الشافعيّ، ومحمد بن أحمد الطرائفي، ومحمد بن علي بن الداية، قالوا: أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد ابن المسلمة، أنبأنا عبيد اللَّه بن عبد الرحمن الزّهريّ سنة ثمانين وثلاث مائة، أنبأنا جعفر بن محمد الفريابيّ، حدثنا إبراهيم بن الحجّاج السّامي، حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وإن صلى، وزعم أنّه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» .
هذا صحيح عال، فيه دليل على أن هذه الخصال من كبار الذنوب، أخرجه مسلم في الإيمان، باب خصال المنافق من كبار الذنوب.
أخرجه مسلم برقم (59) ، (110) في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، وهذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكلا، من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الّذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف صلّى اللَّه عليه وسلّم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد اللَّه تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون، وهو الصحيح المختار، أن معناه: أن هذه الخصال نفاق، وصاحبها شبيه المنافقين في هذه الخصال، ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدّثه، ووعده، وائتمنه من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار.
وعن عبد العزيز بن المختار، عن عليّ بن زيد، حدثني سعيد بن المسيّب بن حزن، أن جدّه حزنا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «ما اسمك؟ قال: حزن، قال: بل أنت سهل» قال: يا رسول اللَّه، اسم سمّاني به أبواي وعرفت به في الناس، فسكت عنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال سعيد: فما زلنا تعرف الحزونة فينا أهل البيت.
والحزن: ما غلظ من الأرض، وهو ضد السهل، واستعمل في الخلق، يقال: فلان حزون، أي(1/24)
__________
[ () ] في خلقه غلظة وقساوة.
هذا حديث مرسل، ومراسيل سعيد محتجّ بها، لكن عليّ بن زيد ليس بالحجة، وأما
الحديث فمروي بإسناد صحيح، متصل، ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له: «ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل» ، فقال: لا أغيّر اسما سمّانيه أبي.
قال سعيد: فما زالت تلك الحزونة فينا بعد.
أخرجه البخاري في الأدب، باب اسم الحزن، قال ابن بطال: فيه أن الأمر بتحسين الأسماء، وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب. وقال ابن التين: معنى قول ابن المسيب: «فما زالت فينا الحزونة» ، يريد امتناع التسهيل فيما يريدونه. وقال الداوديّ: يريد الصعوبة في أخلاقهم، فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد ينعدم منهم، إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في اللَّه.
قال أحمد بن حنبل، وغير واحد: مرسلات سعيد بن المسيّب صحاح.
وقال قتادة، ومكحول، والزهري، وآخرون، واللفظ لقتادة: ما رأيت أعلم من سعيد بن المسيّب.
وقال عليّ بن المديني: لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من ابن المسيّب، هو عندي أجلّ التابعين.
عبد الرحمن بن حرملة: سمعت ابن المسيّب يقول حججت أربعين حجّة.
قال يحيى بن سعيد الأنصاري: كان سعيد يكثر أن يقول في مجلسه: اللَّهمّ سلّم سلّم.
معن: سمعت مالكا يقول: قال سعيد بن المسيّب: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
أبو إسحاق الشيبانيّ: عن بكير بن الأخنس، عن سعيد بن المسيّب، قال: سمعت عمر على المنبر وهو يقول: لا أجد أحدا جامع فلم يغتسل، أنزل أو لم ينزل، إلا عاقبته. رجاله ثقات.
وفيه حجّة لم يقول إن سعيدا رأى عمر وسمع منه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) حديثا وقع له بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فيه تصريح سعيد بسماعه من عمر.
قال الواقدي: حدثنا عبد اللَّه بن جعفر، وغيره من أصحابنا، قالوا: استعمل ابن الزّبير جابر ابن الأسود بن عوف الزّهريّ على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيّب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد، دعه.
وكان جابر بن الزبير قد تزوج الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه: واللَّه ما ربّعت على كتاب اللَّه، وإنّك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره. فما مكث إلا يسيرا حتى قتل ابن الزّبير.
عن أبي عيسى الخراساني: عن ابن المسيّب، قال: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم.
أنبأنا أبو نعيم، حدثنا القطيعيّ، حدثنا عبد اللَّه بن أحمد، حدثنا الحسن بن عبد العزيز، قال: كتب إلى ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن عبد اللَّه الكناني، أن سعيد بن المسيّب زوّج ابنته بدرهمين.
قال الواقديّ: كان سعيد بن المسيّب من أعبر الناس للرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأخذته أسماء عن أبيها، ثم ساق الواقديّ عدة منامات، منها:
حدثنا عبد اللَّه بن جعفر، عن عبيد اللَّه بن عبد الرحمن بن السائب، قال رجل لابن المسيّب: إنه رأى(1/25)
وأنس بن مالك [ (1) ] ، وهو صحيح عند أهل السير والعلم بالأثر.
__________
[ () ] كأنه يخوض النار، قال: لا تموت حتى تركب البحر، وتموت قتيلا. فركب البحر، وأشفى على التهلكة، وقتل يوم قديد. (وقديد موضع بين مكة والمدينة، فيه كانت الوقعة سنة (130) بين أهل المدينة وبين أبي حمزه الخارجي، فقتل منهم مقتلة عظيمة) .
العطّاف: عن ابن حرملة، قال: قال سعيد: لا تقولوا مصيحف، ولا مسيجد، ما كان للَّه فهو عظيم حسن جميل.
الواقديّ: أنبأنا طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيّب، عن أبيه: قال سعيد بن المسيّب: قلة العيال أحد اليسارين. وفي لفظ آخر: أحد اليسارين.
مالك: عن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيّب عن آية، فقال سعيد: لا أقول في القرآن شيئا. قال الذهبي: ولهذا قلّ ما نقل عنه في التفسير.
معاوية بن صالح: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب قال: أوصيت أهلي بثلاث: أن لا يتبعني راجز ولا نار، وأن يعجلوا بي، فإن يكن لي عند اللَّه خير فهو خير مما عندكم.
أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن قيس الزيّات، عن زرعة بن عبد الرحمن، قال: قال سعيد بن المسيب: يا زرعة إني أشهدك على ابني محمد لا يؤذننّ بي أحدا، حسبي أربعة يحملونني إلى ربي.
مات سعيد بن المسيّب بالمدينة وهو بن خمس وسبعين سنة سنة أربع وتسعين وكان يقال لهذه السنة:
سنة الفقهاء، لكثرة من مات منهم فيها.
* طبقات ابن سعد: 5/ 119- 143، التاريخ الكبير: 3/ 510- 511، المعارف: 437، الجرح والتعديل: 4/ 59- 61، حلية الأولياء: 2/ 161- 175، تهذيب الأسماء واللغات:
219- 221، وفيات الأعيان: 2/ 375- 378، تهذيب التهذيب: 4/ 74- 77، طبقات الحفاظ: 25، خلاصة تذهيب الكمال: 1/ 390- 391، سير أعلام النبلاء:
4/ 217- 246، شذرات الذهب: 1/ 102، صفة الصفوة: 2/ 57- 58، البداية والنهاية: 9/ 117- 119، مرآة الجنان: 1/ 185- 187، معجم البلدان: 4/ 355، تاريخ الطبري: 7/ 393، لسان العرب: 13/ 117 (مادة حزن) ، مسلم بشرح النووي:
2/ 406- 408 كتاب الإيمان باب خصال المنافق، فتح الباري 10/ 702 باب (107) اسم الحزن حديث رقم (9610) .
[ (1) ] هو أنس بن مالك بن النّضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، الإمام، المفتي، المقرئ، المحدّث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاريّ، الخزرجيّ، النّجاريّ، المدنيّ، خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتا.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم علما جمّا، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاذ، وأسيد بن الحضير، وأبي طلحة، وأمه أم سليم بن ملحان، وخالته أم حرام، وزوجها عبادة بن الصامت، وأبي ذرّ، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وفاطمة النبويّة، وعدة.
وروى عنه خلق عظيم، منهم: الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ، وخلق كثير، وبقي أصحابه الثقات إلى ما بعد الخمسين ومائة.
وكان أنس يقول: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين، وكنّ(1/26)
__________
[ () ] أمّهاتي يحثثنني على خدمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصحب أنس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أتمّ الصحبة، ولازمة أكمل الملازمة منذ هاجر، وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة.
لم يعدّه أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيا، ما قاتل، بلى بقي في رحال الجيش، فهذا وجه الجمع.
قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ابن أم سليم، يعني أنسا. وقال أنس ابن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسّفر.
مسندة ألفان ومائتان وستة وثمانون، اتّفق له البخاري ومسلم على مائة وثمانين حديثا، وانفرد البخاري بثمانين حديثا. ومسلم بتسعين، وروى له الأربعة، وجملة مرويّاته (2286) حديثا.
قال أنس رضي اللَّه عنه: خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين، فما ضربني، ولا سبّني، ولا عبس في وجهي، رواه الترمذي بأطول من هذا.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أكثر ماله وولده،
قال أنس: واللَّه إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادون على نحو من مائة اليوم، قال بعضهم: بلغ مائة وثلاث سنين.
ذكر صلاح الدين الصّفديّ في (الوافي) ، أن عليّ بن زيد بن جدعان قال: كنت في دار الإمارة والحجّاج يعرض الناس أيام ابن الأشعث، فدخل أنس بن مالك، فلمّا دنا من الحجّاج قال الحجّاج:
يا خبثه! جوّال في الفتن، مرّة مع عليّ بن أبي طالب، ومرة مع ابن الزّبير، ومرة مع ابن الأشعث، واللَّه لأستأصلنّك كما تستأصل الصمغة، ولأجرّدنّك كما يجرّد الضّبّ! فقال له أنس: من يعني الأمير، أصلحه اللَّه؟ قال: إيّاك أعني، أصمّ اللَّه سمعك! فاسترجع أنس وشغل عنه، فخرج أنس وتبعته وقلت: ما منعك أن تجيبه؟ فقال: واللَّه لولا أني ذكرت كثرة ولدي، وخشيته عليهم، لأسمعته في مقامي هذا ما لا يستحسن لأحد من بعدي.
وكتب إلى عبد الملك: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لعبد الملك أمير المؤمنين من أنس بن مالك خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصاحبه. أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجرا من القول وأسمعني نكرا، ولم أكن لما قال أهلا، إنه قال لي كذا وكذا، وإني أقسمت. بخدمتي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشر سنين كوامل: لولا صبية صغار ما باليت أيّة قتلة قتلت، وو الله، لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلا خدم نبيهم لأكرموه! فخذ لي على يده، وأعني عليه، والسلام.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب استشاط غضبا، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإنك عبد من ثقيف، طمحت بك الأمور، فعلوت فيها وطغيت، حتى عدوت قدرك، وتجاوزت طورك، يا ابن المستفرمة بعجم الزّبيب، لأغمزنك غمز الليث، ولأخبطنّك خبطة، ولأركضنك ركضة تودّ معها لو أنك رجعت في مخرجك من وجار أمك.
أما تذكر حال آبائك ومكاسبهم بالطائف، وحفرهم الأبار بأيديهم، ونقلهم الحجارة على ظهورهم؟
أم نسيت أجدادك في اللؤم والدناءة وخساسة الأصل، وقد بلغ أمير المؤمنين ما كان منك إلى أبي حمزة أنس بن مالك خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القريب، وصاحبه في المشهد والمغيب، جرأة منك على اللَّه ورسوله، وأمير المؤمنين والمسلمين، وإقداما على أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعليك لعنة اللَّه من عبد أخفش العينين، أصكّ الرجلين، ممسوح الجاعرتين، لقد هممت أن أبعث إليك من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتي بك أبا(1/27)
__________
[ () ] حمزة، فيحكم فيك بما يراه.
ولو علم أمير المؤمنين أنك اجترمت إليه جرما، أو انتهكت له عرضا غير ما كتب إليه، لفعل ذلك بك. فإذا قرأت كتابي هذا، فكن له أطوع من نعله، واعرف حقّه، وأكرمه وأهله، ولا تقصرنّ في شيء من حوائجه، فو اللَّه لو أن اليهود رأت رجلا خدم العزير، أو النّصارى رأت رجلا خدم المسيح، لوقّروه وعظّموه، فتبا لك، لقد اجترأت ونسيت العهد، وإياك أن يبلغني عنك خلاف ذلك، فأبعث إليك من يضربك بطنا لظهر، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصّلا إليه ليكتب إليّ برضاه عنك! ولِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وكتب عبد الملك إلى أنس: لأبي حمزة أنس بن مالك، خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، من عبد الملك، سلام عليك، أما بعد، فإنّي قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت في أمر الحجاج، وإني واللَّه ما سلطته عليك ولا على أمثالك. وقد كتبت إليه ما يبلغك، فإن عاد لمثلها فعرّفني حتى أحلّ به عقوبتي، وأذلّه بسطوتي، والسلام عليك.
ثم أرسل إلى إسماعيل بن عبد اللَّه بن أبي المهاجر، ودفع إليه الكتابين، وقال: اذهب إلى أنس والحجاج، وابدأ بأنس، وقل له: أمير المؤمنين يسلم عليك ويقول لك: قد كتبت إلى عبد بني ثقيف كتابا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، واستعرض حوائجه، فركب إسماعيل البريد، فلما دفع الكتاب إلى الحجاج، جعل يقرأه ويتمعّر وجهه، ويرشح عرقا، ويقول: يغفر اللَّه لأمير المؤمنين! ثم قال: نمضي إلى أنس، فقال له: على رسلك، ثم مضي إلى أنس وقال له: يا أبا حمزة، قد فعل أمير المؤمنين معك ما فعل، وهو يقرأ عليك السلام، ويستعرض حوائجك.
فبكى أنس وقال: جزاه اللَّه خيرا، كان أعرف بحقي، وأبرّ بي من الحجاج. قال: وقد عزم الحجاج على المجيء إليك، فإن رأيت أن تتفضل عليه فأنت أولى بالتفضل.
فقام أنس ودخل إلى الحجاج إليه واعتنقه وأجلسه على سريره، وقال: يا أبا حمزة، عجلت عليّ بالملامة، وأغضبت أمير المؤمنين، وأخذ يعتذر إليه ويقول: قد علمت شعب أهل العراق، وما كان من ابنك مع ابن الجارود، ومن خروجك مع ابن الأشعث، فأردت أن يعلموا أني أسرع اليهم بالعقوبة إذ قلت لمثلك ما قلت.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد، زعمت أننا الأشرار، واللَّه سمّانا الأنصار، وزعمت أننا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّأنا الدار والإيمان، واللَّه يحكم بيننا وبينك، وما وكلتك إلى أمير المؤمنين إلا حيث لم يكن لي به قوة، ولا آوي إلى ركن شديد.
ودعا لعبد الملك وقال: إن رأيت خيرا حمدت، وإن رأيت شرّا صبرت، وباللَّه استعنت.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، فأصلح اللَّه أمير المؤمنين وأبقاه، ولا أعدمناه، وصلني الكتاب يذكر فيه شتمي وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من أمير المؤمنين، ويذكر استطالتي على أنس، جرأة مني على أمير المؤمنين، وغرّة مني بمعرفة سطواته ونقماته، وأمير المؤمنين أعزّه اللَّه في قرابته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحقّ من أقالني عثرتي، وعفا عن جريمتي، ولم يعجّل عقوبتي، ورأيه العالي في تفريج كربتي، وتسكين روعتي، أقاله اللَّه العثرات: قد رأى إسماعيل بن أبي المهاجر خضوعي لأنس، وإعظامي إيّاه.... واعتذر إليه اعتذارا كثيرا.(1/28)
وقيل: بعث وله من العمر ثلاث وأربعون سنة، وقيل: أربعون ويوم [ (1) ] ، وقيل: وعشرة أيام وقيل: وشهرين [ (2) ] ، وقال ابن شهاب: بعث على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، فكان بين مبعثه وبين الفيل سبعون سنة.
قال إبراهيم بن المنذر: هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا، وذلك أن
__________
[ () ] ولما قدم الحجاج العراق أرسل إلى أنس فقال: يا أبا حمزة، إنك قد صحبت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورأيت من عمله وسيرته ومنهاجه، فهذا خاتمي، فليكن في يدك، فأرى برأيك، ولا أعمل شيئا إلا بأمرك.
فقال له أنس: أنا شيخ كبير، قد ضعفت ورققت، وليس في اليوم ذاك. فقال: قد علمت، لفلان وفلان، فأبالي أنا؟ فانظر إن كان في بنيك ممّن تثق بدينه وأمانته وعقله! قال ما في بنيّ من أثق لك به! وكثر الكلام بينهما.
وقال الحجاج يوما من جملة كلام: لقد عبت فما تركت شيئا، ولولا خدمتك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكتاب أمير المؤمنين لكان لي ولك شأن من الشأن، فقال أنس: هيهات! إني لما خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علمني كلمات لا يضرّني معهنّ عتوّ جبّار، فقال له الحجاج: يا عمّاه لو علمتنيهنّ! فقال أنس: لست لذلك بأهل، فدسّ إليه الحجاج ابنه محمدا، ومعه مائتي ألف درهم، ومات الحجاج قبل أن يظفر بالكلمات.
وقال أنس: دفنت من صلبي مائة ولد، وإنّ نخلي ليثمر في السنة مرتين، وعشت حتى استحييت من أهلي وأنا أرجو الرابعة- المغفرة- لأن
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: اللَّهمّ أكثر ماله، وولده، وأطل عمره، واغفر له ذنبه، وبارك له فيما أعطيته.
وقال ابن سعد: كان يصلي حتى تتفطّر رجلاه دما، وكان مجاب الدعوة، يدعو فينزل الغيث، وكان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله وعياله وولده، فيختم بحضرتهم.
بلغ مائة وثلاث سنين، وتوفّي على الصحيح سنة ثلاث وتسعين للهجرة.
* مرآة الجنان: 1/ 182، البداية والنهاية: ص 131 من الفهارس (فهرس الوفيات) ، تهذيب التهذيب: 1/ 329- 331، الإصابة: 1/ 126- 129، خلاصة تذهيب الكمال:
1/ 105، شذرات الذهب: 1/ 100- 101، الثقات: 3/ 4، أسماء الصحابة الرواة: 39، تلقيح الفهوم: 363، تاريخ الصحابة: 28- 29، صفة الصفوة: 1/ 361- 362، الإعلام بوفيات الأعلام: 51، الوافي بالوفيات: 9/ 411- 416، سير أعلام النبلاء:
3/ 395- 406، طبقات ابن سعد: 7/ 17- 26، التاريخ الكبير: 2/ 27، التاريخ الصغير:
1/ 209، المعارف: 308، الجرح والتعديل: 2/ 286، المستدرك: 3/ 573، الاستيعاب:
1/ 109- 111، جامع الأصول: 9/ 88، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 127.
[ (1) ] في (خ) «ويوما» والرفع أصح للعطف على نائب الفاعل.
[ (2) ] في ابن هشام: نقلا عن ابن إسحاق «أربعين سنة» ج 1 ص 216 وفي (البداية والنهاية) «أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه، (ج 3 ص 4) .(1/29)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولد عام الفيل لا يختلفون في ذلك، ونبّئ على رأس أربعين من الفيل، وذلك على رأس مائة وخمسين سنة من عام حجة الغدر [ (1) ] ولستّ عشرة سنة من ملك أبرويز، ويقال: بل لعشرين سنة مضت من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وعلى الحيرة إياس بن قبيصة الطائي عاملا للفرس على العرب ومعه النخيرجان [ (2) ] الفارسيّ على رأس سنتين وأربعة أشهر من ملكهما، وعلى اليمن يومئذ باذان [ (3) ] أبو مهران.
أول ما نزّل من القرآن
فعلم صلّى اللَّه عليه وسلّم من حينئذ أن اللَّه بعثه نبيا، وذلك أن جبريل عليه السلام أتاه بغار حراء فقال له: اقرأ، قال: لست بقارئ، فغته [ (4) ] حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله، فقال: اقرأ، قال: لست بقارئ، فعل ذلك به ثلاث مرات ثم قال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [ (5) ] فرجع بها صلّى اللَّه عليه وسلّم ترجف بوادره، فأخبر بذلك خديجة رضي اللَّه عنها وقال: قد خشيت على عقلي، فثبتته وقالت:
أبشر! كلا واللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل [ (6) ] وتعين على نوائب الدهر- في أوصاف أخر جميلة عددتها من أخلاقه- تصديقا منها له وإعانة على الحق، فهي أول صدّيق له صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقيل: أول ما أنزل عليه من القرآن: البسملة وفاتحة الكتاب [ (7) ] وقيل: هي مدنية. وقيل: لما فجأه الحق وأتاه جبريل قال له: يا محمد، أنت يا رسول
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ولم يرد لها ذكر في المراجع المعتمدة.
[ (2) ] في (خ) «الحرجان» .
[ (3) ] في (خ) «ساذام» وهو خطأ والصواب «باذان، أو باذام» (ط) ص 13 «هامش» .
[ (4) ] في المعجم الوسيط
«فأخذني جبريل فغتني حتى بلغ مني الجهد» :
أي ضغطني ضغطا شديدا (ج 2 ص 644) .
[ (5) ] الآيات من (1- 5) من سورة العلق وهي أول ما نزل من القرآن على الإطلاق.
[ (6) ] الكلّ: تقول: «وكلّ فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه» (التفسير الكبير للفخر الرازيّ ج 20 ص 86) .
[ (7) ] ذكر الطبري في تفسيره « ... عن عطاء بن يسار، قال: أول سورة نزلت من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ج 30 ص 252.(1/30)
اللَّه [ (1) ] .
وقيل: أول ما أتى جبريل النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له برسالة اللَّه يوم الاثنين لسبع عشر خلت من رمضان، فعلمه الوضوء والصلاة، وعلمه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
فترة الوحي
والتحقيق أن جبريل عليه السلام لما جاءه بغار حراء وأقرأه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ورجع إلى خديجة، مكث ما شاء اللَّه أن يمكث لا يرى شيئا وفتر عنه [ (2) ] الوحي، فاغتم لذلك وذهب مرارا ليتردى من رءوس الجبال شوقا منه إلى ما عاين أول مرة من حلاوة مشاهدة وحي اللَّه إليه. فقيل: إن فترة الوحي كانت قريبا من سنتين، وقيل: كانت سنتين ونصفا، وفي تفسير عبد اللَّه بن عباس كانت أربعين يوما، وفي كتاب معاني القرآن للزجاج كانت خمسة عشر يوما، وفي تفسير مقاتل ثلاثة أيام، ورجّحه بعضهم وقال: ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه [ (3) ] .
تتابع الوحي وبدء الدعوة
ثم تبدي له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته وبشره أنه رسول اللَّه حقا، فلما رآه فرق منه،
وذهب إلى خديجة رضي اللَّه عنها فقال: «زمّلوني ...
دثّروني ... » ،
فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [ (4) ] فكانت الحالة الأولى بغار حراء حالة نبوة وإيحاء، ثم أمره اللَّه تعالى في هذه الآية أن ينذر قومه ويدعوهم إلى اللَّه عزّ وجلّ. فشمّر صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ساق الاجتهاد، وقام في طاعة اللَّه أتم قيام، يدعو إلى اللَّه تعالى الصغير والكبير،
__________
[ (1) ] هكذا في (خ) ولعلها «أنت رسول اللَّه» .
[ (2) ] في (خ) «عن عنه» والصحيح ما أثبتناه.
[ (3) ] في (تنوير المقياس من تفسير ابن عباس) ص 513: «حبس اللَّه عنه الوحي خمس عشرة ليلة لتركه الاستثناء، فقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه» وفي (البداية والنهاية) ج 3 ص 17 «وقد قال بعضهم:
كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا» .
وفي تفسير الطبري ج 3 ص 232: «لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فعير بذلك، فقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه. فأنزل اللَّه: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3/ الضحى)
[ (4) ] 1- 4/ المدثر.(1/31)
والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فكان فيما قاله عروة بن الزبير، ومحمد بن شهاب، ومحمد بن إسحاق: من حين أتت النبوّة وأنزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ (1) ] إلى أن كلّفه اللَّه الدعوة، وأمره بإظهارها فيما أنزل عليه من قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [ (2) ] وقوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (3) ] ، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [ (4) ]- ثلاث سنين، لا يظهر الدعوة إلا للمختصين به، منهم خديجة وعلى وزيد وأبو بكر رضي اللَّه عنهم، فدعا ثلاث سنين مستخفيا، وقيل: دعا مستخفيا أربع سنين ثم أعلن الدعاء وصدع بالأمر.
إسلام خديجة
ويقال: إن اللَّه ابتعثه نبيا في يوم الاثنين لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، وقد مضى من مولده صلّى اللَّه عليه وسلّم أربعون سنة ويوم.
ويقال: علّمه جبريل عليه السلام الوضوء والصلاة في يوم الثلاثاء وأقرأه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ (1) ] فأتى خديجة رضي اللَّه عنها فأخبرها بما أكرمه اللَّه، وعلمها الوضوء والصلاة فصلت معه، فكانت أول خلق صلى معه.
إسلام أبي بكر
ثم استجاب له عباد اللَّه من كل قبيلة، فكان حائز قصب السبق: «أبو بكر عبد اللَّه بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب [ (5) ] بن غالب القرشي التيمي رضي اللَّه عنه» فآزره في دين اللَّه وصدقه فيما جاء به، ودعا معه إلى اللَّه على بصيرة، فاستجاب لأبي بكر رضي اللَّه عنه جماعة منهم:.
__________
[ (1) ] 1- 5/ العلق.
[ (2) ] 94/ الحجر.
[ (3) ] 214/ الشعراء.
[ (4) ] 89/ الحجر.
[ (5) ] ابن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة (المعارف) ص 167.(1/32)
أوائل المسلمين
«عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي [ (1) ] القرشي الأموي» ، و «طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة [ (2) ] القرشي التيمي» و «سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب [ (3) ] بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، و «الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي [ (4) ] الأسدي» ، و «عبد الرحمن ابن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث [ (5) ] بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري» : فجاءهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى استجابوا له بالإسلام وصلّوا، فصار المسلمون ثمانية نفر، أول من أسلم وصلى للَّه تعالى.
إسلام علي وزيد الحبّ
وأما «علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي» ، فلم يشرك باللَّه قط، وذلك أن اللَّه تعالى أراد به الخير فجعله في كفالة ابن عمه سيد المرسلين محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (6) ] ، فعند ما أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الوحي، وأخبر خديجة رضي اللَّه عنها وصدقت، كانت هي وعلي بن أبي طالب، و «زيد بن حارثة بن شراحيل ابن عبد العزى بن امرئ القيس [ (7) ] بن عامر بن عبد ودّ بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة الكلبي» حب رسول
__________
[ (1) ] ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب (السهيليّ) ج 1 ص 288.
[ (2) ] ابن مرة بن كعب بن لؤيّ (السهيليّ) ج 1 ص 289.
[ (3) ] في بعض كتب السيرة: ابن «وهب» بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ.
الزيادة من (السهيليّ) ج 1 ص 288.
[ (4) ] ابن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة (المعارف) ص 219.
[ (5) ] هكذا في (خ) وفي (المعارف) ابن عوف بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. ص 235.
[ (6) ] في (خ) بعد قوله و «سلم» كلمة «الوحي» وهي زيادة من الناسخ اقتضى السياق حذفها.
[ (7) ] ابن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ودّ بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة الكلبي (الإصابة) ج 1 ص 45 في ترجمة أسامة بن زيد.
إمتاع الأسماع ج 1- م 2(1/33)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- يصلون معه. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها [ (1) ] قريش. وكان إذا صلى في سائر اليوم بعد ذلك قعد علي أو زيد رضي اللَّه عنهما يرصدانه.
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى، وكانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة.
فلم يحتج عليّ رضي اللَّه عنه أن يدعى، ولا كان مشركا حتى يوحّد فيقال أسلم، بل كان- عند ما أوحى اللَّه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- عمره ثماني سنين، وقيل: سبع سنين، وقيل: إحدى عشر سنة. وكان مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزله بين أهله كأحد أولاده يتبعه في جميع أحواله. وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه أول من أسلم ممن له أهليّة الذبّ عن رسول اللَّه والحماية والمناصرة.
هذا هو التحقيق في المسألة لمن أنصف وترك الهوى من الفريقين، وقد قال عمر مولى غفرة [ (2) ] : سئل محمد بن كعب [القرظي] [ (3) ] عن أول من أسلم، على بن أبي طالب أو أبو بكر؟ فقال: سبحان اللَّه! عليّ أولهما إسلاما، وإنما اشتبه على الناس لأن عليا أول ما أسلم كان يخفي إسلامه من أبي طالب، وأسلم أبو بكر فأظهر إسلامه، فكان أبو بكر أول من أظهر إسلامه، وكان علي أولهما إسلاما، فاشتبه على الناس- وكذلك أسلمت خديجة وزيد بن حارثة [ (4) ] .
إسلام ورقة بن نوفل
ثم أسلم القسّ ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وصدّق بما وجد من الوحي، وتمنى أن لو كان جذعا [ (5) ] ، وذلك أول ما نزل الوحي.
__________
[ (1) ] في (خ) لا ينكرها.
[ (2) ] في (تهذيب التهذيب) : عمر بن عبد اللَّه المدني مولى غفرة ج 7 ص 471 ترجمة رقم 783، وفي (خ) «عفرة» .
[ (3) ] محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي، زيادة من (تهذيب التهذيب) ج 9 ص 420 ترجمة رقم 689.
[ (4) ] راجع (الروض الأنف) ج 1 ص 284، 285 باب أول من أسلم، ونشأة علي بن أبي طالب.
[ (5) ] الجذع من الرجال: الشاب الحدث. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 113.(1/34)
إسلام الأرقم
ودخل من شرح اللَّه صدره للإسلام على بصيرة فأسلم الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف [ (1) ] بن أسد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم سابع سبعة [ (2) ] ، وقيل: بعد عشرة [ (3) ] وفي داره كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مستخفيا من قريش، وكانت على الصفا، فأسلم فيها جماعة كثيرة.
إيذاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكانت قريش لما بلغهم ما أكرم اللَّه به رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من النبوة راعهم ذلك وكبر عليهم، ولم ينكروا عليه شيئا من أمره حتى عاب آلهتهم وسفّه أحلامهم، وذمّ آباءهم وأخبر أنهم في النار، فأبغضوه عند ذلك وعادوه، وتعرضوا لمن آمن به.
فأخذهم سفهاء أهل مكة بالأذى والعقوبة، وصان اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفا في قومه مطاعا فيهم، نبيلا بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يعلمون من محبته له، وكان من حكمة اللَّه تعالى بقاء أبي طالب على دين قومه لما في ذلك من المصلحة.
إيذاء المسلمين
هذا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو إلى اللَّه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، لا يصده عن ذلك صادّ، ولا يرده عنه رادّ، ولا يأخذه في اللَّه لومة لائم. واشتد أذى المشركين على من آمن، وفتنوا جماعة منهم، حتى إنهم كانوا يضربونهم ويلقونهم في الحرّ، ويضعون الصخرة العظيمة على صدر أحدهم في الحر، وكان أحدهم إذا أطلق لا يستطيع أن يجلس لشدة الألم. ويقولون لأحدهم وهو يعذب في اللَّه: اللات إلهك من دون اللَّه؟ فيقول مكرها: نعم!، وحتى إن الجعل ليمرّ فيقولون: وهذا إلهك من دون اللَّه؟ فيقول: نعم!.
ومرّ الخبيث أبو جهل: «عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن
__________
[ (1) ] في (خ) عبد مناة، والتصويب من (الإصابة) ج 1 ص 43.
[ (2) ] ذكره الحاكم في (المستدرك) ج 3 ص 52.
[ (3) ] (الإصابة) ج 1 ص 40 ترجمة رقم 73.(1/35)
مخزوم بن يقظة بن مرة» بسميّة «أم عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين العبسيّ» وهي تعذب في اللَّه هي وزوجها ياسر بن عامر، وابنها عمار بن ياسر فطعنها بحربة في فرجها فقتلها [ (1) ] .
الذين أعتقهم أبو بكر من الموالي المعذبين
وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه إذا مر بأحد الموالي وهو يعذب في اللَّه اشتراه من مواليه وأعتقه للَّه، فمن هؤلاء: بلال وأمه حمامة [ (2) ] ، وعامر بن فهيرة، وأم عبس، ويقال: أم عبيس فتاة بني تيم بن مرة، (وهي أم عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف) ، وزنيرة (زنّيرة بكسر الزاي وتشديد النون مع كسرها على وزن فعّيلة، وقيل: بفتح الزاي وسكون النون ثم باء موحدة مفتوحة) ، وسمية بنت خبّاط [ (3) ] (بباء موحدة، قاله ابن ماكولا) ، والنهدية وابنتها، وجارية لبني عدي كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يعذبها على الإسلام قبل أن يسلم.
حتى قال له أبوه أبو قحافة: يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أعتقت قوما جلدا يمنعونك! فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إني أريد ما أريد [ (4) ] فقال: نزلت فيه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [ (5) ] إلى آخر السورة.
همّ قريش بقتله عند البيت
هذا وقد اشتد مكر قريش برسول اللَّه وهموا بقتله، فعرضوا على قومه ديته حتى يقتلوه، فحماه اللَّه برهطه من ذلك، فهموا أن يقتلوه في الزحمة [ (6) ] بقول
__________
[ (1) ] ذكر ابن الجوزي أنها «أول شهيدة في الإسلام» (صفة الصفوة) ج 2 ص 60.
[ (2) ] في (خ) «حامة» والصحيح ما أثبتناه من (ابن هشام بشرح السهيليّ) ج 2 ص 67.
[ (3) ] في (خ) «خباءة» وهو خطأ.
[ (4) ] في ابن هشام «أريد ما أريد للَّه عز وجل» ج 2 ص 161.
[ (5) ] الآيتان 17- 18 من سورة الليل.
[ (6) ] كان يوم الزحمة قبل الهجرة بقليل، يقول ابن سيد الناس في كتاب (عيون الأثر) ج 1 ص 177 باب ذكر يوم الزحمة نقلا عن ابن إسحاق «ولما رأت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منعة فحزروا خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب ... » .(1/36)
قبائل قريش كلها، وأحاطوا به وهو يطوف بالبيت ويصلى، حتى كادت أيديهم أن تخبط به أو تلتقي عليه، فصاح أبو بكر: أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللَّه وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟
فقال: دعهم يا أبا بكر، فو الّذي نفسي بيده، إني بعثت إليهم بالذبح، فتفرجوا عنه. فكانت فتنة شديدة وزلزال شديد، فمن المسلمين من عصمه اللَّه ومنهم من افتتن.
أول من جهر بالقرآن ومن رجع عن الإسلام
ويقال: أول من جهر بالقرآن عبد اللَّه بن مسعود فضرب. ورجع عن الإسلام خمسة وهم: أبو قيس بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة بن الأسود، والوليد بن الوليد بن المغيرة.
الهجرة الأولى إلى الحبشة
فلما اشتد البلاء أذن اللَّه لهم في الهجرة إلى الحبشة، فكان أول من خرج من مكة فارا بدينه إلى الحبشة: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتبعه الناس.
فخرج أحد عشر رجلا وأربع نسوة متسللين حتى انتهوا إلى الشعيبة [ (1) ] ، منهم الراكب والماشي، فوفّق لهم ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار. وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه: عن قبيصة بن ذؤيب أن أبا سلمة ابن عمة رسول اللَّه أول من هاجر بظعينته [ (2) ] إلى أرض الحبشة.
وقيل: أول من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك، وذلك في رجب سنة خمس من المبعث، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان وبلغهم أن قريشا أسلمت، فعاد منهم قوم وتخلف منهم قوم. فلما قدم الذين قدموا إلى مكة بلغهم
__________
[ (1) ] الشعيبة: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز وهو كان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة.
(معجم البلدان ج 3 ص 351) .
[ (2) ] الظعينة: الراحلة يرتحل عليها. والهودج. والزوجة (المعجم الوسيط ج 2 ص 576) .(1/37)
أن إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا مكة في شوال سنة خمس من النبوة، وما منهم من أحد إلا بجوار أو مستخفيا.
وأقام المسلمون بمكة وهم في بلاء، فخرج جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وجماعات- بلغ عددهم بمن خرج أولا اثنين وثلاثين- فآواهم أصحمة النجاشي ملك الحبشة وأكرمهم.
بعثة قريش لإرجاع المسلمين من الحبشة
فلما علمت قريش بذلك بعثت في أثرهم عبد اللَّه بن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، وعمرو بن العاص، بهدايا وتحف إلى النجاشي ليردهم عليهم فأبى ذلك، فشفعوا إليه بقواده فلم يجبهم إلى ما طلبوا فوشوا إليه أن هؤلاء يقولون في عيسى عليه السلام قولا عظيما: يقولون إنه عبد.
فأحضر المسلمين إلى مجلسه وزعيمهم جعفر فقال: ما تقولون في عيسى؟
فتلا عليه جعفر سورة كهيعص [ (1) ] فلما فرغ أخذ النجاشيّ عودا من الأرض وقال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل ولا هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم شيوم [ (2) ] بأرضي من سبّكم غرّم، وقال لعمرو وعبد اللَّه: لو أعطيتموني دبرا من ذهب (يعني جبلا من ذهب) ما سلمتهم إليكما. ثم أمر فردت عليهما هداياهما ورجعا بشرّ خيبة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أول سورة مريم عليها السلام.
[ (2) ] شيوم: كلمة حبشية معناها آمنون.
[ (3) ] وقد أورد الحافظ أبو نعيم الأصبهاني هذا الخبر مفصلا في (دلائل النبوة) ج 1 ص 243 حديث رقم (193) ، حيث قال:
حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا محمد بن عمر بن خالد الحراني قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزّبير في خروج جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة، قال:
فبعثت قريش في آثارهم عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص السّهميّ، وأمروهما أن يسرعا السّير حتى يسبقاهم إلى النجاشيّ، ففعلا، فقدما على النجاشيّ فدخلا عليه، فقالا له: إن هذا الرجل الّذي بين أظهرنا، وأفسد فينا، تناولك ليفسد عليك دينك، وملكك وأهل سلطانك، ونحن لك ناصحون، وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك فبعثنا قومنا إليك لننذرك فساد ملكك، وهؤلاء نفر من أصحاب الرجل الّذي خرج فينا، ونخبرك بما نعرف من خلافهم(1/38)
__________
[ () ] الحق، أنهم لا يشهدون أن عيسى بن مريم إلها، ولا يسجدون لك إذا دخلوا عليك، فادفعهم إلينا فلنكفيكهم.
فلما قدم جعفر وأصحابه، وهم على ذلك من الحديث، وعمرو وعمارة عند النّجاشيّ، وجعفر وأصحابه على ذلك الحال، قال: فلما رأوا أن الرجلين قد سبقا ودخلا، صاح جعفر على الباب يستأذن حزب اللَّه، فسمعها النجاشيّ، فأذن لهم، فلما دخلوا وعمرو وعمارة عند النجاشيّ، قال: أيّكم صاح عند الباب؟ فقال جعفر: أنا هو، فأمره فعاد لها.
فلما دخلوا وسلّموا تسليم أهل الإيمان، ولم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد: ألم نبين لك خبر القوم، فلما سمع النجاشيّ ذلك أقبل عليهم، فقال: أخبروني أيها الرّهط ما جاء بكم؟
وما شأنكم؟ ولم أتيتموني ولستم بتجار ولا سؤّال؟ وما نبيكم الّذي خرج؟ وأخبروني ما لكم؟ لم لا تحيّوني كما يحييني من أتاني من أهل بلدكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقام جعفر بن أبي طالب- وكان خطيب القوم- فقال: إنما كلامي ثلاث كلمات، إن صدقت فصدقني، وإن كذبت فكذّبني، فأمر أحدا من هذين الرجلين فليتكلم ولينصت الآخر، قال عمرو: أنا أتكلم، قال النجاشيّ: أنت يا جعفر فتكلم قبله.
فقال جعفر: إنما كلامي ثلاث كلمات، سل هذا الرجل أعبيد نحن أبقنا من أربابنا؟ فقال النجاشيّ:
أعبيد هم يا عمرو؟ قال عمرو: بل أحرار كرام، قال جعفر: سل هذا الرجل هل أهرقنا دما بغير حقّه؟
فادفعنا إلى أهل الدم. فقال: هل أهرقوا دما بغير حقه؟ فقال: ولا قطرة واحدة من دم. ثم قال جعفر:
سل هذا الرجل أخذنا أموال الناس بالباطل؟ فعندنا قضاء؟ فقال النجاشيّ: يا عمرو، إن كان على هؤلاء قنطار من ذهب فهو عليّ. فقال عمرو: ولا قيراط، فقال النجاشي: ما تطالبونهم به؟ قال عمرو: فكنا نحن وهم على دين واحد، وأمر واحد، فتركوه ولزمناه.
فقال النجاشيّ: ما هذا الّذي كنتم عليه فتركتموه وتبعتم غيره؟
فقال جعفر: أما الّذي كنا عليه فدين الشيطان، وأمر الشيطان، نكفر باللَّه ونعبد الحجارة، وأما الّذي نحن عليه فدين اللَّه عزّ وجلّ، نخبرك أن اللَّه بعث إلينا رسولا كما بعث إلى الذين من قبلنا، فأتانا بالصدق والبر، ونهانا عن عبادة الأوثان، فصدّقناه وآمنا به واتبعناه، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وأرادوا قتل النبي الصادق، وردّنا في عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا، ولو أقرّنا قومنا لاستقررنا، فذلك خبرنا.
وأما شأن التحية: فقد حيّيناك بتحية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والّذي يحييّ به بعضنا بعضا،
أخبرنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تحية أهل الجنة السلام
فحييناك بالسلام، وأما السجود، فمعاذ اللَّه أن نسجد إلا للَّه، وأن نعدلك به.
وأما في شأن عيسى ابن مريم: فإن اللَّه عزّ وجلّ أنزل في كتابه على نبينا، أنه رسول قد خلت من قبله الرسل، ولدته الصديقة العذراء البتول الحصان، وهو روح اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم، وهذا شأن عيسى ابن مريم.
فلما سمع النجاشيّ قول جعفر أخذ بيده عودا، ثم قال لمن حوله: صدق هؤلاء النفر، وصدق نبيّهم، واللَّه ما يزيد عيسى ابن مريم على ما يقول هذا الرجل ولا وزن هذا العود، فقال لهم النجاشيّ: امكثوا فإنكم(1/39)
وقد ذكر محمد بن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة أبا موسى الأشعري، وأنكر ذلك الواقدي وغيره. وهذا ظاهر لا يخفى على من دون ابن إسحاق، فإن أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة إلى عند جعفر، كما ثبت في الصحيح وغيره. وقد قيل إن قريشا بعثت عمرو بن العاص وعبد اللَّه بن أبي ربيعة بعد وقعة بدر، فلما
__________
[ () ] سيوم- والسيوم: الآمنون- قد منعكم اللَّه، وأمر لهم بما يصلحهم.
فقال النجاشيّ: أيّكم أدرس للكتاب الّذي أنزل على نبيكم؟ قالوا، جعفر، فقرأ عليهم سورة مريم (عليها السلام) ، فلما سمعها عرف أنه الحق، وقال النجاشيّ: زدنا من هذا الكلام الطيب، ثم قرأ عليه سورة أخرى، فلما سمعها عرف الحق، وقال: صدقتم وصدق نبيكم صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنتم واللَّه صدّيقون، امكثوا على اسم اللَّه وبركته، آمنين ممنوعين، وألقى عليهم المحبّة من النجاشيّ.
فلما رأى ذلك عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص سقط في أيديهما، وألقى اللَّه بين عمرو وعمارة العداوة في مسيرهما قبل أن يقدما على النجاشيّ ليدركا حاجتهما التي خرجا لها من طلب المسلمين، فلما أخطأهما ذلك، رجعا بشرّ ما كانا عليه من العداوة وسوء ذات البين، فمكر عمرو بعمارة، فقال: يا عمارة، إنك رجل جميل وسيم، فأت امرأة النجاشيّ فتحدّث عندها إذا خرج زوجها، تصيبها فتعيننا على النجاشيّ، فإنك ترى ما وقعنا فيه من أمرنا، لعلنا نهلك هؤلاء الرهط.
فلما رأى ذلك عمارة انطلق حتى أتى امرأة النجاشيّ، فجلس إليها يحدثها، وخالف عمرو بن العاص إلى النجاشيّ فقال: إني لم أكن أخونك في شيء علمته إذ أطلعت عليه، وإن صاحبي الّذي رأيت لا يتمالك عن الزنا إذا هو قدر عليه، وإنه قد خالف إلى امرأتك، فأرسل النجاشيّ إلى امرأته، فإذا هو عندها، فلما رأى ذلك أمر به فنفخ في إحليله سحر، ثم ألقى في جزيرة البحر فعاد وحشيا مع الوحش، يرد ويصدر معها زمانا، حتى ذكر لعشيرته، فركب أخوه، فانطلق معه بنفر من قومه، فرصدوه حتى إذا ورد أوثقوه فوضعوه في سفينة ليخرجوا به، فلما فعلوا به ذلك مات، وأقبل عمرو إلى مكة قد أهلك اللَّه صاحبه، ومنع حاجته.
هذا الحديث مرسل، وفيه ابن لهيعة وهو صدوق، ولكنه خلط بعد احتراق كتبه، ولكن أورده الهيثمي في (مجمع الزوائد) 6/ 27 بسياقة أخرى فيها تقديم وتأخير وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 1/ 115، و (السيرة) 2/ 179- 180.
وفي هذا الحديث من الفقه: الخروج عن الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين، وإن لم يكن إسلام، فإن الأحباش كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد اللَّه، وقد تبين ذلك في الحديث.
وسمّوا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى اللَّه عليهم بالسبق، فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وجاء في التفسير: أنهم الذين صلوا القبلتين، وهاجروا الهجرتين.
وقد قيل أيضا: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، فانظرا كيف أثنى اللَّه عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت اللَّه الحرام إلى دار كفر لما كان فعلهم ذلك احتياطا على دينهم، ورجاء أن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم، يذكرونه آمنين مطمئنين.(1/40)
سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببعث قريش عمرا وابن أبي [ (1) ] ربيعة، بعث عمرو بن أمية الضمريّ وكتب معه إلى النجاشي، فقرأ كتابه ثم دعا جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا.
هذا قول سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير. وقال أبو الأسود عن عروة:
إن بعثتهم عمرو بن العاص كانت عند خروج المهاجرين إلى الحبشة، وكان بين خروج المهاجرين إلى الحبشة وبين وقعة بدر خمس سنين وأشهر. وقيل: كانت بعثتهم عمرو بن العاص مرتين، مرة مع عمارة بن الوليد [ (2) ] ومرة مع عبد اللَّه بن أبي ربيعة بن المغيرة، قاله أبو نعيم الحافظ.
أعداء رسول اللَّه من قريش
هذا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقيم بمكة يدعو إلى اللَّه، وكفار قريش تظهر حسده وتبدي صفحتها في عداوته وأذاه، وتخاصم وتجادل وتردّ من أراد الإسلام عنه.
وكان أشد قريش عداوة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جيرانه، وهم: أبو جهل بن هشام بن المغيرة، وعمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو ابن خال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والحارث بن قيس ابن عدي بن سعد بن سهم السهمي، والوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وأميّة وأبىّ ابنا خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص ابن كعب بن لؤيّ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والعاص بن وائل بن هاشم [ (3) ] ابن سعيد بن سهم السّهمي والد عمرو بن العاص، والنّضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة ابن سعيد [ (4) ] بن سهم بن عمرو بن هصيص، وزهير بن أبي أمية حذيفة بن المغيرة، وهو ابن عمة [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والعاص بن سعيد العاص بن أمية، وعدّى بن
__________
[ (1) ] في (خ) «ابن ربيعة» .
[ (2) ] في (ط) «بين الوليد» وهو خطأ.
[ (3) ] في (خ) «هشام» وهي رواية ابن إسحاق، وأوردها ابن حجر في (الإصابة) «هاشم» في ترجمة عمرو بن العاص رقم 5877.
[ (4) ] في (خ) «وسعد» .
[ (5) ] عاتكة بنت عبد المطلب.(1/41)
الحمراء الخزاعيّ، وأبو البختري العاص بن هشام بن (الحارث) [ (1) ] بن أسد بن عبد العزى، وعقبة بن أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أمية، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى، وابن الأصداء [ (2) ] الهذلي، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف، (وطعيمة بن عديّ) [ (3) ] أخو مطعم بن عديّ، والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف [ (4) ] ، والحارث بن مالك (وقيل: عمرو، وهو ابن الطّلاطلة، وهي أمه) [ (5) ] ابن عمرو بن الحارث (وهو غبشان) بن عبد عمر بن بوىّ بن ملكان [ (6) ] ، وركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب [ (7) ] ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي.
وكان الذين تنتهي إليهم عداوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة بن أبي (معيط) [ (8) ] . وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب [ (9) ] ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، ذوي عداوة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكنهم لم يكونوا يفعلون كما فعل هؤلاء، فلما أسلم حمزة بن عبد المطلب، عرفت قريش أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عزّ، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
__________
[ (1) ] ما بين القوسين زيادة من ابن هشام ج 2 ص 5 «أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد» .
وفي ابن سعد ج 1 ص 210 «أبو البختري بن هاشم» وفي (خ) «أبو البختري العاص بن هشام» .
[ (2) ] هكذا في ابن سعد ج 3 ص 9 «ابن الأصداء الهذلي» وفي المرجع السابق ج 1 ص 201 «ابن الأصدى الهذلي» . وهو الّذي نطحته الأروى.
[ (3) ] زيادة من (ط) وهو من أصحاب يوم الزحمة.
[ (4) ] في (خ) العبارة من قوله «أخو عدي ... إلى عبد مناف» تكرار من الناسخ.
[ (5) ] في (خ) : «وقيل عمرو بن الطلاطلة بن عمرو» والصواب ما أثبتناه.
[ (6) ] وفي ابن سعد ج 6 ص 228 «اسمه الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر» .
[ (7) ] في (خ) «ابن عبد المطلب» .
[ (8) ] سقط في (خ) وصوابه من ابن سعد ج 1 ص 165، 201، 202، 211، 228، ج 2 ص 13، 23 وغير ذلك.
[ (9) ] ابن عم النبي وأخوه من الرضاعة، وفي طبقات ابن سعد ج 1 ص 271 (أبو سفيان بن حرب) .
وذكر ابن سيد الناس في «عيون الأثر» ج 1 ص 110 «وكان المجاهرون بالظلم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولكل من آمن به من بني هاشم: عمه أبا لهب وابن عمه أبا سفيان بن الحارث، ومن بني عبد شمس:
عتبة وشيبة ابنا ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأبا سفيان بن حرب وابنه حنظلة ... » .(1/42)
إسلام عمر بن الخطاب
وأسلم عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد اللَّه بن قرط ابن رزاح بن عديّ بن كعب القرشي العدوي رضي اللَّه عنه، ويقال: إنه أسلم بعد تسعة وأربعين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد ثلاثة وثلاثين رجلا، وكان إسلامه بعد هجرة الحبشة، وكان المسلمون لا يقدرون يصلون عند الكعبة.
عزّ الإسلام بعمر وحمزة
فلما أسلم عمر رضي اللَّه عنه قاتل قريشا حتى صلى عندها، وصلى معه المسلمون، وقد قووا بإسلامه وإسلام حمزة رضي اللَّه عنهما، وجهروا بالقرآن ولم يكونوا قبل ذلك يقدرون أن يجهروا به، ففشا الإسلام وكثر المسلمون.
أمر الصحيفة
وبلغ أهل مكة فعل النجاشي بالقادمين عليه وإكرامهم، فساء ذلك قريشا وائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه ألا يناكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وكتبوا بذلك صحيفة وختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة.
وقيل: بل كانت عند أمّ الجلاس مخرّبة [ (1) ] الحنظلية خالة أبي جهل، ذكره ابن سعد [ (2) ] ، وعند ابن عقبة: كانت عند هشام بن عبد العزى. فيقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هشام عبد مناف، ويقال: النّضر بن الحارث، ويقال: بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ، فدعا عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فشلت يده.
__________
[ (1) ] في (خ) «محرمة» وهو خطأ والتصويب من (ابن سعد) .
[ (2) ] (الطبقات الكبرى) ج 1 ص 209.(1/43)
انحياز بني هاشم وبني المطلب إلى شعب أبي طالب
وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم ليلة هلال المحرم سنة سبع من النبوة- إلا أبا لهب وولده. فإنّهم ظاهروا قريشا على بني هاشم- فصاروا في شعب أبي طالب محصورين مضيقا عليهم أشد التضييق نحوا من ثلاث سنين، وقد قطعوا عنهم الميرة [ (1) ] والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، وكان حكيم بن حزام [ (2) ] بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي تأتيه العير تحمل الحنطة من الشام فيقبلها [ (3) ] الشّعب ثم يضرب أعجازها فتدخل عليهم فيأخذون ما عليها من الحنطة.
الهجرة الثانية إلى الحبشة
ثم هاجر المسلمون ثانيا إلى أرض الحبشة وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا- إن كان عمار بن ياسر فيهم-[ (4) ] وثماني عشرة امرأة.
نقض الصحيفة
ثم سعى في نقض الصحيفة أقوام من قريش. وكان أحسنهم في ذلك بلاء هشام ابن عمرو (بن ربيعة) [ (5) ] بن الحارث بن حبيّب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، مشى في ذلك إلى زهير بن أبي أمية، وإلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وإلى أبي البحتري بن هشام، وإلى زمعة بن الأسود بن المطلب ابن أسد، وكان سهل بن بيضاء [ (6) ] الفهري هو الّذي مشى إليهم حتى اجتمعوا
__________
[ (1) ] الميرة: ما يجلب من الطعام.
[ (2) ] ابن أخي خديجة رضي اللَّه عنها.
[ (3) ] أي يجعل وجوهها قبالة الشعب لتسلكه.
[ (4) ] ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) : «أنه هاجر إلى أرض الحبشة وصلى القبلتين وهو من المهاجرين الأولين» ج 8 ص 226.
[ (5) ] في (الإصابة) «ابن ربيعة بن الحارث بن حنيّف» ج 10 ص 250 وفي (خ) ، (ط) (ابن حبيّب) .
[ (6) ] ذكره ابن حجر في (الإصابة) برقم 3513 ج 4 ص 269 وابن عبد البر في الاستيعاب برقم 1080 ج 4 ص 270.(1/44)
عليه، واتّعدوا [ (1) ] خطم الحجون [ (2) ] بأعلى مكة، وتعاهدوا هناك على القيام في نقض الصحيفة، وما زالوا حتى شقوها، فإذا الأرضة قد أكلتها إلا ما كان من «باسمك اللَّهمّ» . وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أخبر عمه أبا طالب بأن اللَّه قد أرسل على الصحيفة الأرضة فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر اللَّه تعالى.
وعن موسى بن عقبة عن الزّهري أن النبي قال لعمه: إن الأرضة لم تترك اسما للَّه إلا لحسته، وبقي فيها ما كان من (جور) [ (3) ] أو ظلم أو قطيعة رحم.
فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه من الشعب كان له من العمر تسع وأربعون سنة، وكان خروجهم في السنة العاشرة، وقيل: مكثوا في الشعب سنتين، ويقال: إن رجوع من كان مهاجرا بالحبشة إلى مكة كان بعد الخروج من الشعب.
موت خديجة وأبي طالب (عام الحزن)
ومات عقيب ذلك أبو طالب وخديجة، فمات أبو طالب أوّل ذي القعدة، وقيل: في نصف شوال، ولرسول اللَّه من العمر تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، وماتت خديجة رضي اللَّه عنها قبله بخمسة وثلاثين يوما، وقيل:
كان بينهما خمسة وخمسون يوما، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: كان موتهما بعد الخروج من الشّعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما،
فعظمت المصيبة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بموتهما وسمّاه «عام الحزن» وقال: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب،
لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه- حاميا له ولا ذابا عنه- (غير أبي طالب) [ (4) ] .
خروجه إلى الطائف
فخرج ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف في شوال سنة عشر من النبوة يلتمس من ثقيف النصر لأنهم كانوا أخواله، فكلّم سادتهم، وهم: عبد ياليل ومسعود
__________
[ (1) ] في (خ) (وأبعدوا) ، (اتعدوا) : تواعدوا.
[ (2) ] الحجون: جبل بأعلى مكة عنده أهلها، وقال السكري: مكان من البيت على ميل ونصف. (معجم البلدان) ج 2 ص 225.
[ (3) ] مكان هذه الكلمة بياض بالأصل (خ) وما أثبتناه يتمم المعنى.
[ (4) ] زيادة يتم بها المعنى.(1/45)
وحبيب بنو عمر بن عمير، ودعاهم إلى نصره والقيام معه على من خالفه. فردّوا عليه ردا قبيحا، وأغروا به سفاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجلي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لتدميان، وزيد يقيه بنفسه حتى لقد شجّ في رأسه شجاجا، فرجع عنهم يريد مكة، حتى إذا كان بنخلة [ (1) ] قام يصلي من جوف الليل.
إسلام النفر من جنّ نصيبين
فمر به من جن نصيبين اليمن سبعة نفر فاستمعوا إليه (وهو يقرأ القرآن ثم ولّوا- بعد فراغه من صلاته) [ (2) ]- إلى قومهم منذرين، قد آمنوا فأجابوا.
إقامته بنخلة
وأقام بخلة أياما،
فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم مكة وهم أخرجوك؟ فقال: يا زيد، إن اللَّه جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن اللَّه ناصر دينه ومظهر نبيه.
ويقال: كان إيمان الجن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وله من العمر خمسون سنة وثلاثة أشهر، وذكر ابن إسحاق أن إسلام الجن قبل الهجرة بثلاث سنين.
عودته إلى مكة في جوار المطعم بن عديّ
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما عاد من الطائف وانتهى إلى حراء بعث رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره.
إسلام الطفيل الدوسيّ ذي النور
ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة فأقام بها وجعل يدعو إلى اللَّه، فأسلم (الطفيل) [ (3) ] بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم [ (4) ] بن فهم الدوسيّ، ودعا له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يجعل اللَّه له آية، فجعل اللَّه له في وجهه
__________
[ (1) ] واد بمكة (معجم البلدان ج 5 ص 277) .
[ (2) ] في (خ) «فاستمعوا إليه بعد فراغه من صلواتهم إلى قومهم» والصواب ما أثبتناه، راجع (تفسير الطبري) ج 26 ص 30 (عند تفسير سورة الأحقاف الآية 29) .
[ (3) ] بياض بالأصل (خ) .
[ (4) ] في (خ) «سالم» والتصويب من (الاستيعاب) رقم 1274 ج 5 ص 220.(1/46)
نورا، فقال: يا رسول اللَّه، أخشى أن يقولوا هذا مثلة، فدعا له فصار النور في سوطه، فهو المعروف بذي النور.
إسلام بيوت من دوس
ودعا الطفيل قومه دوسا إلى اللَّه، فأسلم بعضهم، وأقام في بلاده حتى قدم على) [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد فتح خيبر في نحو ثمانين بيتا.
الإسراء والمعراج وفرض الصلوات
(ثم أسري) [ (2) ] برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بجسده- على الصحيح من قول صحابة- من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا البراق صحبة جبريل عليه سلام، فنزل ثم (أمّ) [ (3) ] بالأنبياء عليهم السلام ببيت المقدس فصلى بهم. ثم عرج تلك الليلة من هناك إلى السموات السبع ورأى بها الأنبياء على منازلهم، ثم عرج إلى سدرة المنتهى ورأى جبريل عليه السلام على الصورة التي خلقه اللَّه بها، وفرضت) [ (4) ] عليه الصلوات الخمس تلك الليلة.
وكان الإسراء في قول محمد بن شهاب الزّهري قبل الهجرة بثلاث سنين، قيل: بسنة واحدة، وقيل: وله من العمر إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر، قيل: كان الإسراء بين بيعتي الأنصار في العقبة، وقيل: كان بعد المبعث بخمسة عشر شهرا، وقال الحربي: كان ليلة سبعة وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة.
وعورض من قال: إنه كان قبل الهجرة بسنة، بأن خديجة صلت معه بلا خلاف، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، والصلاة إنما فرضت ليلة الإسراء، وأجيب بأن صلاة خديجة كانت غير المكتوبة، بدليل حديث مسلم [ (5) ] أنه صلى ببيت المقدس ركعتين قبل أن يعرج إلى السماء، فتبين أن الصلاة كانت مشروعة
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها التصويب. انظر ابن هشام ج 2 ص 24.
[ (2) ] بياض في (خ) والتكملة من (ط) .
[ (3) ] بياض في (خ) ، وما أثبتناه من (ط) ، وانظر (ابن هشام) ج 2 ص 33 «رواية الحسن لحديث الإسراء» .
[ (4) ] بياض في (خ) وانظر (ابن هشام) ج 2 ص 39 و (مسلم بشرح النووي) ج 2 ص 238.
[ (5) ] (صحيح مسلم بشرح النووي) ج 2 ص 209 باب الإسراء وفرض الصلوات.(1/47)
في الجملة، كما كان قيام الليل واجبا قبل الإسراء بلا خلاف، وفي رواية عن الزهري: كان بعد المبعث.
ومما يقوي قول الحربي أنه عين الليلة من الشهر من السنة، فإذا تعارض خبران أحدهما فصّل القصة والآخر أجملها، ترجحت رواية من فصّل بأنه أوعى لها.
وقال ابن إسحاق: أسري برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل، ويقال كان ليلة السبت لسبع عشر خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم نائم في بيته ظهرا. وقيل: كان ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة من شعب أبي طالب، وكانت سنّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين الإسراء اثنتين وخمسين سنة [ (1) ] .
وقيل- وقد حكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية رضي اللَّه عنهم-: إن الإسراء كان بروحه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: كان بجسده إلى بيت المقدس، ومن هناك إلى السموات بروحه. وقيل: أسري به وهو نائم في الحجر، وقيل: كان في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وفرضت الصلوات الخمس ركعتين ركعتين، وإنما كانت قبل الإسراء صلاة بالعشي، ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين ركعتين.
فلم يرع برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس من صبيحة ليلة الإسراء فصلى به الظهر، ولهذا سميت الأولى، ثم صلى بقية الخمس في أوقاتها فصارت بعد الإسراء خمسا ركعتين ركعتين حتى أتمت أربعا بعد الهجرة إلى المدينة بشهر. وقد اختلف أهل العلم: هل رأى محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء أم لا؟ فلما أصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم في قومه بمكة أخبرهم بما أراه اللَّه عز وجل من آياته، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم إياه واستضراؤهم عليه، وارتدّ جماعة ممن كان أسلم وسألوه أمارة، فأخبرهم بقدوم عير يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب، فدعا اللَّه فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف، قال ابن إسحاق: ولم تحبس الشمس إلا له ذلك اليوم وليوشع بن نون.
__________
[ (1) ] ذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة) ج 1 ص 108: «فلما أتت له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أسري به» .(1/48)
عرض نفسه على القبائل
(ثم عرض) [ (1) ] نفسه على القبائل أيام الموسم ودعاهم إلى الإسلام، وهم:
بنو عامر، وغسّان، وبنو فزارة، وبنو مرّة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم [ (2) ] ، وأبو الحيسر أنس بن أبي رافع [ (3) ] . وقد اقتص الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة، ويقال:
إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدأ بكندة فدعاهم إلى الإسلام، ثم أتى كلبا، ثم بني حنيفة، ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟
هذا، وعمه أبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذّاب! وكان أحياء العرب يتحامونه لما يسمعون من قريش فيه: إنه كاذب، إنه ساحر، إنه كاهن، إنه شاعر!! أكاذيب يقترفونه بها حسدا من عند أنفسهم وبغيا، فيصغي إليهم من لا تمييز له من أحياء العرب. وأما الألباء فإنّهم إذا سمعوا كلامه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتفهّموه شهدوا بأن ما يقوله حقّ وصدق، وأن قومه يفترون عليه الكذب، فيسلمون.
أول أمر الأنصار
وكان مما صنع اللَّه للأنصار- وهم الأوس والخزرج- أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم بني قريظة والنّضير- يهود المدينة- أن نبيا مبعوث في هذا الزمان، ويتوعّدون الأوس والخزرج به إذا حاربوا فيقولون: إنا سنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وكانت الأنصار- وهم الأوس والخزرج- تحج البيت فيمن يحجه من العرب، فلما رأوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو الناس إلى اللَّه رأوا أمارات الصدق عليه لائحة، فقالوا: واللَّه هذا الّذي توعّدكم يهود به فلا تسبقنكم إليه.
__________
[ (1) ] بياض في (خ) ، والتكملة من ابن هشام ج 2 ص 50.
[ (2) ] في (خ) : الحطيم، والتصويب من ابن سعد ج 8 ص 150.
[ (3) ] في ابن هشام ج 2 ص 54: «أبو الحيسر أنس بن رافع» .(1/49)
سويد بن الصامت
وكان سويد بن الصامت [ (1) ] بن خالد بن عطية بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأوسي، وهو ابن خالة عبد المطلب بن هاشم: أمه ليلى بنت عمرو من بني عديّ بن النجار، وهي خالة عبد المطلب بن هاشم، قد قدم مكة فدعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقرأ عليه القرآن، فلم يبعد منه ولم يجب، ثم قدم إلى المدينة فقتل في بعض حروبهم يوم بعاث [ (2) ] .
إسلام إياس بن معاذ
ثم قدم أبو الحيسر أنس، وقيل: بشر بن رافع «مكة» في فتية من قومه بني عبد الأشهل يطلبون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعاهم إلى الإسلام، فقال منهم إياس بن معاذ- وكان شابا حدثا-:
يا قوم واللَّه خير مما جئنا له، فضرب أبو الحيسر وجهه وانتهره فسكت. وقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانصرف القوم إلى المدينة ولم يتمّ لهم حلف، فمات إياس مسلما فيما يقال [ (3) ] .
أصحاب العقبة الأولى
ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقي عند العقبة من منى في الموسم ستة نفر، كلهم من الخزرج، وهم يحلقون رءوسهم، فجلس إليهم فدعاهم إلى اللَّه وقرأ عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: إنه النبي الّذي توعدكم [ (4) ] به يهود فلا تسبقنّكم إليه، فاستجابوا للَّه ولرسوله وآمنوا وصدّقوا، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن
__________
[ (1) ] في ابن هشام ج 2 ص 52 «ابن صامت» . وفي الإصابة ج 5 ص 41 «ابن الصامت» وهو لم يعدّ من الصحابة لأنه لم يلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤمنا.
[ (2) ] في (خ) «بغاث» وهو تصحيف، ويوم بعاث: بين الأوس والخزرج في الجاهلية (ابن سعد) ج 1 ص 219، (أيام العرب في الجاهلية) : ص 73- 84.
[ (3) ] في (الاستيعاب) ج 1 ص 235: «فأخبرني من حضر عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل للَّه ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلما، و (ابن هشام) ج 2 ص 54.
[ (4) ] في (خ) «يوعدكم» وما أثبتناه من (ابن هشام) ج 2 ص 55.(1/50)
عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وعوف بن الحارث بن رفاعة ابن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم (ويقال له: عوف بن عفراء) ، ورافع ابن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، وقطبة بن عامر بن حديدة (ويقال: قطبة بن عمرو بن حديدة) بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن الخزرج، وعقبة بن عامر بن نابي [ (1) ] بن حرام، وجابر بن عبد اللَّه رياب [ (2) ] بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عديّ بن غنم بن كعب بن سلمة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا مبادرة إلى الخير.
إسلام الأنصار
ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة فذكروا لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودعوهم إلى الإسلام، ففشا فيهم، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
أمر العقبة الثانية
فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر- منهم تسعة من الخزرج، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة (أخو عوف بن عفراء) ، وذكوان بن عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت ابن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، ويزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة (ويقال:
يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة من بني فران (بن بلي) [ (3) ] ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة وكنيته أبو عبد الرحمن- وثلاثة من الأوس، وهم:
أبو الهيثم مالك بن التيهان بن مالك بن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم (وكان يقال
__________
[ (1) ] في (خ) : «ابن ثابي» والتصويب من (ط) وفي ابن هشام: «عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام» ج 2 ص 57.
[ (2) ] في (خ) «رباب» وفي (ط) «رئاب» وما أثبتناه من (الاستيعاب) ج 2 ص 108.
[ (3) ] في (خ) ما بين القوسين «من بني» وفي (ط) «بن بليّ» وما أثبتناه من (الاستيعاب) ج 11 ص 64.(1/51)
لأبي الهيثم: ذو السيفين من أجل أنه كان يتقلد بسيفين في الحرب) ، وعويم بن ساعدة بن عائش بن قيس بن النعمان بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف ابن عمرو بن عوف، والبراء بن معرور [ (1) ] بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد ابن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة- فأسلموا.
بيعة العقبة الثانية
وقد كان معه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ أبو بكر وعلي رضي اللَّه عنهما، فبايعوه عند العقبة على الإسلام كبيعة النساء [ (2) ] ، وذلك قبل أن يؤمر بالقتال فبعث معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدريّ [ (3) ] ، ويقال: وعبد اللَّه بن أم مكتوم، ليعلّما من أسلم القرآن ويدعوا [ (4) ] إلى اللَّه.
إسلام بني عبد الأشهل
فنزلا بالمدينة على أبي أمامة أسعد بن زرارة فخرج بهما إلى دار بني ظفر، واجتمع عليهما رجال ممن أسلم، فأتاهم أسيد بن حضير الكتائب بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وسعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن زيد بن عبد الأشهل، وهما سيّدا بني عبد الأشهل. فدعاهما مصعب إلى الإسلام فهداهما اللَّه وأسلما، ودعيا قومهما إلى اللَّه، فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وقد أسلموا- إلا الأصيرم عمرو بن ثابت بن وقش- فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد.
أول المهاجرين بالمدينة
ويقال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، ثم أتى بعده عمرو
__________
[ (1) ] في (خ) «بن معر» وما أثبتناه من (ابن هشام) ج 2 ص 61.
[ (2) ] بيعة النساء في الآية 12 من سورة الممتحنة.
[ (3) ] في (خ) «العبديّ» وفي (الإصابة) ج 9 ص 208 ترجمة رقم 7996 «ابن قصي بن كلاب العبدري» نسبة إلى عبد الدار.
[ (4) ] في (خ) «ليعلمان، ويدعوان» وهو خطأ من الناسخ، وما أثبتناه حق اللغة.(1/52)
ابن أم مكتوم [ (1) ] . ولم يزل مصعب بن عمير يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها عدّة مسلمون- إلا بني أمية بن زيد (وخطمة) ووائل وواقف، فإنّهم تأخر إسلامهم.
أول من جمّع بالمسلمين
وكان مصعب يؤمّ بمن أسلم، وجمع بهم يوما وهم أربعون نفسا في هزم حرة نقيع الخضمات [ (2) ] ، وبهذا جزم أبو محمد بن حزم.
وعند ابن إسحاق: أن أول من جمع بهم أسعد بن زرارة، ثم عاد إلى مكة وأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمن أسلم، فسرّه ذلك.
بيعة العقبة الأخيرة
ثم كانت بيعة العقبة ثانيا وقد وافى الموسم خلق من الأنصار ما بين مشرك ومسلم، وزعيمهم البراء بن معرور. فتسلل منهم جماعة مستخفين لا يشعر بهم أحد، واجتمعوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذي الحجة وواعدوه أوسط أيام التشريق بالعقبة وهم ثلاثة وسبعون [ (3) ] رجلا وامرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو [ (4) ] وأسماء بنت عمر بن عدي بن نابي.
وجاءهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه عمه العباس، وهو على دين قومه، وأبو بكر وعليّ رضي اللَّه عنهما، فأوقف العباس عليا على فم الشّعب عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا له، وتكلم العباس أولا يتوثق لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [فقال: يا معشر الخزرج، إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز
__________
[ (1) ] عبد اللَّه بن أم مكتوم، وعمرو بن أم مكتوم: اسمان لشخص واحد، يقول ابن حجر في «الإصابة» ج 7 ص 83 «وقال ابن سعد: أهل المدينة يقولون: اسمه عبد اللَّه، وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو، واتفقوا على نسبه» .
[ (2) ] في (خ) «بقيع الخضمات» ، والتصويب من (ابن هشام) ج 2 ص 58.
[ (3) ] «وقال ابن إسحاق: إنما شهدها سبعون رجلا وامرأتان» (تلقيح فهوم أهل الأثر) ص 423.
[ (4) ] في المرجع السابق «أم أبان نسيبة بنت كعب» وفي (خ) «نسيبة بنت عمرو بن كعب» ، وفي (ابن هشام) ج 2 ص 63 «أم عمارة» .(1/53)
إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قالت الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اللَّه فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلا] [ (1) ] القرآن ورغبهم في الإسلام، وشرط عليهم أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم. فأخذ البراء بن معرور بيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: والّذي بعثك لنمنعك مما نمنع منه أزرنا [ (2) ] ، فبايعنا يا رسول اللَّه، فنحن واللَّه أهل الحرب. فاعترض الكلام أبو الهيثم بن تيهان فقال: يا رسول اللَّه إننا بيننا وبنى الناس حبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت [ (3) ] إن أظهرك اللَّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم، في كلام آخر.
وتكلم العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم ابن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، فأحسن ما شاء في شد العقد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: ابسط يدك. فبايعوه.
أول من بايع
وكان أوّلهم مبايعة أبو أمامة أسعد بن زرارة، وقيل: أو الهيثم بن التّيهان، وقيل: البراء بن معرور، وقيل: إن العباس بن عبد المطلب هو الّذي كان يأخذ عليهم البيعة. وكانت بيعتهم على أن يمنعوه صلّى اللَّه عليه وسلّم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم [ (4) ] .
أمر النقباء الاثني عشر
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم اثنى عشر نقيبا هم: أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغرّ [ (5) ] ، (وعبد اللَّه بن رواحة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة
__________
[ (1) ] هذه التكملة ساقطة من (خ) وأكملناها من ابن هشام ج 2 ص 63.
[ (2) ] الأزر: جمع إزار وهو الثوب، كناية عن النساء كالفراش، وقد تكون كناية عن الأنفس.
[ (3) ] يريدون بها الشك، ورجاء أن لا يكون ذلك.
[ (4) ] الأزر هنا: كناية عن الأنفس.
[ (5) ] في (خ) «الأعز» والتصويب من (ابن هشام) ج 2 ص 65.(1/54)
ابن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج) [ (1) ] ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد اللَّه بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة [ (2) ] (وهو والد جابر بن عبد اللَّه وقد أسلم ليلتئذ) ، وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي سلمة (ويقال ابن أبي حزيمة) بن ثعلبة ابن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس ابن حارثة بن لوازن بن عبد ودّ بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج، وعبادة بن الصامت، فهؤلاء تسعة من الخزرج. ومن الأوس ثلاثة:
أسيد بن الحضير، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط [ (3) ] ابن كعب بن حارثة بن غنم بن السّلم [ (4) ] بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير [ (5) ] بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف ابن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس (وهو أبو لبابة، وقيل اسمه مبشر [ (6) ] بن عبد المنذر) ، ويقال: بل الثالث من الأوس: أبو الهيثم مالك بن التّيهان [ (7) ] ، وكانت هذه البيعة على حرب الأحمر والأسود [ (8) ] ،
فلما تمت بيعتهم استأذنوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يميلوا على أهل منى بأسيافهم، فقال: لم نؤمر بذلك. فرجعوا وعادوا إلى المدينة.
بدء الهجرة إلى المدينة
واشتد الأذى على من بمكة من المسلمين فأذن لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الهجرة
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق لتمام العدد وهو ساقط من (خ) .
[ (2) ] في (خ) «سليمة» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) «ابن الحارث» والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) «ابن أسلم» والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) «زنيرا، وفي (ط) «زنبر» وفي المرجع السابق «زنير» وفي (الإصابة) ج 3 ص 282 يقول ابن حجر في الترجمة رقم 1952: «رفاعة بن زنبر بزاي ونون وموّحدة وزن جعفر. ذكره ابن ماكولا. وقال: له صحبة. واستدركه ابن الأثير، وأنا أظن أنه رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر» .
ويقول في ج 3 ص 284 في الترجمة رقم 1958 «رفاعة بن عبد المنذر.. أحد ما قيل في اسم لبابة» .
[ (6) ] في (خ) «بشر» ، وفي (ط) «مبشر» .
[ (7) ] يقول ابن سعد في (الطبقات) ج 1 ص 220: «ومن الأوس رجلان: أو الهيثم بن التّيّهان من بليّ حليف في بني عبد الأشهل، ومن بني عمرو بن عوف عويم بن ساعدة» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء» .(1/55)
إلى المدينة، فبادروا إلى ذلك وتجهزوا إلى المدينة في خفاء [ (1) ] وستر وتسللوا، (فيقال: إنه كان بين أولهم وآخرهم أكثر من سنة) وجعلوا يترافدون [ (2) ] بالمال والظهر ويترافقون. وكان من هاجر من قريش وحلفائهم (يستودع دوره وماله) [ (3) ] رجلا من قومه، فمنهم من حفظ من أودعه، ومنهم من باع، فممن حفظ وديعته [ (4) ] هشام بن الحارث بن حبيب، فمدحه حسان.
أوّل من هاجر بعد العقبة الأخيرة
وخرج أول الناس أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم [ (5) ] ، ومعه امرأته أم سلمة [ (6) ] هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، فاحتبست دونه ومنعت من اللحاق به، ثم هاجرت بعد سنة، وقيل: بل هاجر أبو سلمة رضي اللَّه عنه قبل العقبة الأخيرة. وقيل: أول من هاجر مصعب بن عمير [ (7) ] ثم هاجر عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثم هاجر عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم تلاحق المسلمون بالمدينة يخرجون من مكة أرسالا [ (8) ] حتى لم يبق بمكة إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما- أقاما بأمره لهما- وإلا من اعتقله المشركون كرها.
ائتمار قريش به صلّى اللَّه عليه وسلّم وخروجه واستخلافه عليا
فحذرت قريش خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واشتوروا بدار الندوة، وكانوا خمسة عشر رجلا، وقيل: كانوا مائة رجل، أيحسبوه في الحديد ويغلقوا عليه بابا؟ أو يخرجوه من مكة؟ أو يقتلوه؟ ثم اتفقوا على قتله. ويسمى اليوم الّذي اجتمعوا
__________
[ (1) ] في (خ) «خفي» .
[ (2) ] يترافدون: يتعاونون، والظّهر: ما يركب.
[ (3) ] ما بين القوسين زيادة يتم بها المعنى، وفي (خ) مكان هذه الزيادة «درره» .
[ (4) ] في (خ) «وداعته» .
[ (5) ] «واسمه عبد اللَّه» (ابن هشام) ج 2 ص 80.
[ (6) ] ثم هي بعد ذلك أم المؤمنين زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (7) ] ذكره ابن الجوزي في (تلقيح فهوم أهل الأثر) ص 467.
[ (8) ] جمع رسل بفتحتين، أي يتبع بعضهم بعضا.(1/56)
فيه يوم الزحمة [ (1) ] ، فأعلمه اللَّه بذلك.
فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه. فلما رآهم صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر عليا بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أن ينام على فراشه ويتشح [ (2) ] ببرده الحضرميّ الأخضر، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك.
فقام عليّ مقامه عليه السلام وغطي ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه [ (3) ] وفيه نزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [ (4) ] وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذ حفنة من تراب وجعله على رءوسهم وهو يتلو الآيات من:
يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (5) ] إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (5) ] . فطمس اللَّه تعالى أبصارهم فلم يروه، وانصرف. وهم ينظرون عليا فيقولون: إن محمدا لنائم، حتى أصبحوا، فقام علي من الفراش [ (6) ] ، فعرفوه. وأنزل اللَّه تعالى في ذلك:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [ (7) ] ،
وسأل أولئك الرهط عليا رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: لا أدري،
أمرتموه بالخروج فخرج، فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم (دخلوا عليه) [ (8) ] فأدى أمانة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
هجرة الرسول وأبي بكر
ولما خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى أبا بكر فأعلمه أنه يريد الهجرة. وقد جاء أنه أتى أبا بكر بالهاجرة [ (9) ] وأمره أن يخرج من عنده، وأعلمه أن اللَّه قد أذن له في الخروج،
فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: الصحبة يا رسول اللَّه؟ قال: الصحبة.
فبكى من
__________
[ (1) ] راجع (عيون الأثر) ج 1 ص 177.
[ (2) ] كذا في (خ) والصواب: «يتسجى» أي يتغطى.
[ (3) ] في (خ) «بنفسه» ، وشرى نفسه أي باعها.
[ (4) ] الآية 207/ البقرة.
[ (5) ] الآيات من 1- 9/ يس.
[ (6) ] في (خ) عن الفرس.
[ (7) ] الآية 30/ الأنفال
[ (8) ] كذا في (خ) ولعلها «ثم خلوا عنه» .
[ (9) ] الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر (المعجم الوسيط) ج 2 ص 973.(1/57)
الفرح. فاستأجر عبد اللَّه بن أريقط الليثي من بني الدّئل من بني عبد بن عديّ، ليدلهما على الطريق. وخرجا من خوخة [ (1) ] في بيت أبي بكر، ومضيا إلى غار بجبل ثور، فلم يصعدا الغار حتى قطرت قدما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دما، لم يتعود الحفية ولا الرعية ولا الشقوة [ (2) ] ، وعادت قدما أبي بكر كأنهما صفوان.
وعمّى اللَّه على قريش خبرها فلم يدروا أين ذهبوا. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يريح [ (3) ] عليهما غنمه، وكانت أسماء ابنة أبي بكر رضي اللَّه عنها تحمل لهما الزاد إلى الغار، وكان عبد اللَّه بن أبي بكر يتسمع لهما ما يقال عنهما بمكة ثم يأتيهما بذلك.
وجاءت قريش في طلبهما إلى ثور وما حوله، ومرّوا على باب الغار وحاذت أقدامهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبا بكر رضي اللَّه عنه، وقد نسج العنكبوت وعششت حمامتان على باب الغار، وذلك تأويل قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [ (4) ] .
وبكى أبو بكر رضي اللَّه عنه وقال: يا رسول اللَّه، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا. فقال له: يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللَّه ثالثهما؟.
وعمّى اللَّه على قريش، وقد قفا [ (5) ] كرز بن علقمة بن هلال بن جريبة [ (6) ] بن عبد نهم [ (7) ] بن حليل بن حبشيّة أثر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انتهى إلى الغار، فرأى عليه نسج العنكبوت، فقال: ها هنا انقطع الأثر، فلم يهتدوا إليهما، ورجعوا فنادوا بأعلى مكة وأسفلها: من قتل محمدا وأبا بكر فله مائة من الإبل.
ويقال: جعلوا لمن جاء بأحدهما أو قتله ديته، فلما مضت ثلاث لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر وهما في الغار أتاهما دليلهما، وقد سكن الطلب عنهما ومعهما بعيرهما، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدهما من أبي بكر رضي اللَّه عنه بالثمن، وقد
__________
[ (1) ] باب صغير كالنافذة.
[ (2) ] الحفية: المشي بغير نعل، والرّعية: أرض فيها حجارة ناتئة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 356.
[ (3) ] يريح الإبل والغنم: يردها من العشي إلى مراحلها حيث تأوي ليلا.
[ (4) ] الآية 40/ التوبة.
[ (5) ] قفا الأثر: تتبعه.
[ (6) ] في (خ) «حرينة» .
[ (7) ] في (خ) «فهم» والتصويب من (ط) .(1/58)
كان أبو بكر قد أعدّهما قبل ذلك، وأعد جهازه وجهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منتظرا متى يأذن اللَّه لرسوله في الخروج، وعلف ناقتيه أربعة أشهر، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجدعاء.
وروي في حديث مرسل أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا البرير (يعني الأراك) ،
وخرجا من الغار سحر ليلة الاثنين لأربع خلون من ربيع الأول، وقيل: أول يوم منه، وقيل: كانت هجرته في صفر، وسنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث وخمسون سنة على الصحيح، وقيل: خمس وخمسون، وقيل: خمسون، ومعهما سفرة أتت بها أسماء ابنة أبي بكر. وكان خروجه من الغار في الصبح، فصلى عليه السلام بأصحابه جماعة، فكان صلّى اللَّه عليه وسلّم أول من (جمع بالمسلمين في صلاة الفجر) [ (1) ] وساروا وقد أردف أبو بكر رضي اللَّه عنه عامر بن فهيرة، وسار عبد اللَّه بن أريقط أمامهما على راحلته حتى قالوا يوم الثلاثاء بقديد، وذلك بعد العقبة بشهرين وليال. وقال الحاكم [ (2) ] : بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب [ (3) ] أنه قال: كان بين ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشهر أو قريب منها. كانت بيعة الأنصار رسول اللَّه ليلة العقبة في ذي الحجة، وكان عمره لما هاجر ثلاث وخمسون سنة.
خبر سراقة
ولما مروا بحيّ مدلج بصر بهم سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو ابن تيم بن مدلج [ (4) ] ، فركب جواده ليأخذهم، حتى إذا قرب من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] بياض في (خ) وما أثبتناه من (ط) .
[ (2) ] المستدرك للحاكم ج 2 ص 625.
[ (3) ] هو: ابن شهاب الزهري: عالم الحجاز والشام، مات سنة (123 هـ) (ط) ص 41.
[ (4) ] في الإصابة ج 4 ص 127: ابن مدلج، بن مرة، بن عبد مناة بن كنانة الكناني المدلجي: أسلم يوم الفتح، ومات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين وهو القائل مخاطبا لأبي جهل:
أبا حكم واللَّه لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
وذكر السهيليّ في الروض الأنف ج 2 ص 233 وابن كثير في البداية والنهاية ج 3 ص 228 البيتين السابقين بالزيادة الآتية بعدهما:(1/59)
وسمع قراءته ساخت يدا فرسه في الأرض إلى بطنها، وكانت أرضا صلبه، وثار من تحتها مثل الدخان، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني اللَّه، ولك علي أن أراد عنك الطلب فدعا له، فتخلص فعاد يتبعهم، فدعا عليه الثانية، فساخت قوائم فرسه أشد من الأول. فقال: يا محمد، قد علمت أن هذا من دعائك عليّ، فادع لي ولك عهد اللَّه أن أردّ عنك الطلب، فدعا له فخلص،
وقرب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا رسول اللَّه خذ سهما من كنانتي فإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك. فلما أراد أن يعود عنه قال: كيف بك يا سراقة إذا سوّرت بسواري كسرى! قال: كسرى بن هرمز! قال: نعم.
وسأل سراقة أن يكتب له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا، فكتب له أبو بكر رضي اللَّه عنه، ويقال: بل كتب له عامر بن فهيرة، في أديم [ (1) ] ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما هاهنا، ويرد عنهم الطلب.
إسلام بريدة وقومه
ولقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة وهم يريدون موقع سحابة [ (2) ] فأسلموا بعد ما دعاهم إليه، واعتذروا بقلة اللبن معهم وقالوا: مواشينا شصص، أي جافّة [ (3) ] وجاءوه [ (4) ] بلبن فشربه وأبو بكر، ودعا لهم بالبركة.
__________
[ () ]
عليك فكف القوم عني فإنني ... أخال لنا يوما ستبدي معالمه
بأمر تود النصر فيه فإنّهم ... وإن جميع الناس طرا مسالمه
وفي رواية أخرى:
عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طرا يسالمه
وقد قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ قال: فلما أتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه: دعا سراقة فألبسه،
فقال سراقة: الحمد للَّه الّذي سلبهما كسرى بن هرمز (من الإصابة بتصرف) .
ونسبه في (خ) «ابن عمرو بن مالك بن تيم» والصواب ما أثبتناه من الإصابة.
[ (1) ] الأديم: الجلد المدبوغ يكتب فيه.
[ (2) ] في (خ) «لحاية» .
[ (3) ] في (خ) «حانة» .
[ (4) ] في (خ) «وجاءه أبو بكر بلبن» .(1/60)
خبر أم معبد
ولقي أيضا أوس بن حجر الأسلمي، فحمله صلّى اللَّه عليه وسلّم على جمل وبعث معه غلاما له يقال مسعود (بن هنيدة) [ (1) ] ليؤديه إلى المدينة. ومرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخيمتي أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف [ (2) ] بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو وهو أبو خزاعة، فقال [ (3) ] عندها. وأراها اللَّه تعالى من آيات نبوته في الشاة- وحلبها لبنا كثيرا وهي حائل [ (4) ] في سنة مجدبة- ما بهر عقلها. ويقال: إنها ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، وسفّرتهم منها بما وسعته سفرتهم [ (5) ] وبقي عندها أكثر لحمها.
وقالت أم معبد: لقد بقيت الشاة التي مسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرعها إلى عام الرمادة- وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة- وكنا نحلبها صبوحا [ (6) ] وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير [ (7) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 2 ص 98.
[ (2) ] في (خ) «خفيف» ، وذكر ابن حجر في ترجمة أخيها «حبيش» رقم 1603 ج 2 ص 210 «ابن خالد بن سعد منقذ بن ربيعة» .
[ (3) ] من القيلولة، وهي النوم نصف النهار.
[ (4) ] في (خ) «حافل» وهو خطأ، والحائل التي لم تحمل سنتين فجفّ لبنها.
[ (5) ] السّفرة: طعام يصنع للمسافر وما يحمل فيه هذا الطعام (المعجم الوسيط) ج 1 ص 433.
[ (6) ] الصّبوح: شراب الصباح (المعجم الوسيط) ج 1 ص 505.
والغبوق: ما يشرب بالعشي وما يحلب بالعشي (المرجع السابق) ج 2 ص 643.
[ (7) ] وذكر أبو نعيم في (دلائل النبوّة) ج 2 ص 337، حديث رقم 238:
حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا على بن عبد العزيز، وحدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن محمد بن عقبة الشيبانيّ، ومحمد بن موسى الحلواني، وحدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق السراج قال:
حدثنا مكرم بن محرز الكعبي الخزاعي، قال: حدثني أبي محرز بن مهدي، عن هشام عن أبيه هشام، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج من مكة، خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر ابن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد اللَّه بن أريقط، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين،
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم، قال: بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أفتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلبا فاحلبها.(1/61)
__________
[ () ] فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ضرعها بيده، وسمى اللَّه عزّ وجلّ، ودعا لها في شاتها، فتفاجّت عليه، ودرّت، واجترّت، فدعا بإناء يريض الرّهط، فحلب فيها ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقي أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم أراضوا.
ثم حلب ثانيا بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، ثم ارتحلوا عنها، فقال: ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، مخّهنّ قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب حائل، ولا حلوبة في البيت، قالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، فقال: صفيه لي يا أمّ معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطح، وفي لحيته كثافة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تحدّرن، ربعة، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، هو انظر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد.
قال أبو معبد: هو واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. فأصبح صوت بمكة عاليا، يسمعون ولا يدرون من صاحبه:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصيّ ما زوى اللَّه عنهم ... به من فعال لا تجازي وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... عليه صريحا صرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردد في مصدر ثم مورد
فلما سمع حسّان بن ثابت الأنصاري الهاتف، شبّ يجاوب الهاتف وهو يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقدّس من يسري إليه ويغتدي
ترحّل عن قوم فضلّت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدد
هداهم بعد الضلالة ربّهم ... فأرشدهم، ومن يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلّال قوم تسفّهوا ... عمايتهم، هاد به كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلّت عليهم بأسعد
نبي يرى ما يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كلّ مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته، من يسعد اللَّه يسعد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
والأبيات باختلاف يسير في (ديوان حسان) ص 376- 377.(1/62)
__________
[ () ] قال أبو أحمد بن بشر بن محمد: حدثنا عبد بن وهب قال: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله:
شرح غريب هذا الحديث:
البرزة من النساء: الجلدة، تظهر للناس ويجلس إليها القوم.
مرملين مسنتين: المرمل: الّذي قد نفد زاده، والمسنتين: هم الذين أصابتهم السّنة، وهي المجاعة.
قال أبو عبيد: إذا قال: يال فلان: فذلك في الاستغاثة بالفتح، ويال المسلمين، وإذا أراد التعجب والنداء قال: يال فلان بالكسرة.
كسر الخيمة: هو مؤخرها، وفيه لغتان: كسر وكسر، وقال بعضهم: الكسر هو في مقدمة الخيمة.
فتفاجّت عليه: فرّجت رجليها كما تفعل التي تحلب.
بريض الرهط: أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه.
فحلب فيها ثجّا: يعني سيلا، وكذلك كل سيل، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد سئل عن الحج فقال: العجّ والثّجّ، فالعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ سيل دماء الهدي.
أراضوا: أصل هذا في صبّ اللبن على اللبن، والمعنى: شرب لبن صبّ على لبن.
غادره عندها: تركه.
يسوق أعنزا تساوكن هزلا: التّساوك المشي الضعيف.
والشاة عازب: يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى:
الحيّل: التي ليست بحوامل، جمع حائل.
ظاهر الوضاءة: يعني الجمال، والوضيء: الجميل.
والمتبلّج الوجه: الّذي فيه إضاءة ونور.
لم تعبه ثجلة: معناه عظم البطن، تقول: فليس هو كذلك.
لم تزر به صعلة: تريد صغر الرأس، يقال: رجل صعل.
وسيم قسيم: كلاهما هو الجمال.
في عينيه دعج: هو سواد الحدقة، يقال: رجل أدعج وامرأة دعجاء.
في أشفاره عطف: وكذلك كل مستطيل مسترسل.
في صوته صهل: وهو شبيه بالبحح، وليس بالشديد منه، ولكنه حسن، وبذلك توصف الظباء.
في عنقه سطع: هو الطول، يقال منه: رجل أسطع وامرأة سطعاء، وهذا مما يمدح به الناس.
والأزجّ: هو المقوس الحاجبين، وأما الأقرن: فهو الّذي التقى حاجباه بين عينيه.
منطقه لا نزر ولا هذر: فالنزر: القليل، والهذر: الكثير، تقول قصد بين ذلك.
لا تقتحمه عين من قصر: تقول: لا تزدريه فتنبذه، ولكن تقبله وتهابه.
محفود محشود: فالمحفود: المخدوم، قال تعالى: بَنِينَ وَحَفَدَةً، ومحشود: هو الّذي قد حشده أصحابه، وحفّوا حوله، وأطافوا به صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) 3/ 9، من طرق كلها عن حزام بن هشام بسنده وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ثم ذكر ما يستدل به على صحته وصدق رواته.(1/63)
مقدمه إلى المدينة
وكان المهاجرون قد استبطئوا قدوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبلغ الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم، وكانوا كل يوم يخرجون إلى الحرة ينتظرونه فإذا اشتد الحر عليهم رجعوا، فلما كان يوم الاثنين- الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من المبعث- وافى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة حين اشتد الضّحاء [ (1) ] ، ونزل إلى جانب الحرة وقد عاد المهاجرون والأنصار بعد ما انتظروه على عادتهم.
فكان بين المبعث إلى أول يوم من المحرم الّذي كانت الهجرة بعده اثنتا عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرون يوما، وذلك ثلاث وخمسون سنة تامة من أول عام الفيل.
وقيل: قدم صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول، وقيل: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه حين اشتد الضحاء، وقيل: دخل لهلال ربيع الأول، وقيل: يوم الاثنين لليلتين خلتا منه، وقال ابن شهاب للنصف منه، وذلك سنة أربع وخمسين من عام الفيل، وهو اليوم العشرون من أيلول سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة للإسكندر الأكبر (وهو الرابع من تير ماه) [ (2) ] .
عمره يوم بعثته وهجرته
وقيل: أقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة بعد المبعث عشر سنين، منها خمس سنين يخفي ما جاء به، وخمس سنين يعلن بالدعاء إلى اللَّه تعالى. وقيل: بعث وله خمس وأربعون سنة فأقام بمكة عشرا وبالمدينة ثمانيا، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين، وهذا قول شاذ.
ولم يختلفوا أنه بعث على رأس أربعين سنة من عمره، وأنه أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين، وإنما اختلفوا في إقامته بمكة بعد ما أوحي إليه، وأصح ذلك ما رواه سعيد بن جبير، وعكرمة، وعمرو بن دينار، وأبو جمرة نصر بن عمران الضبعي، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث عشرة سنة [ (3) ] ، ووافق ذلك ما رواه على بن الحسين عن أبيه عن عليّ مثل ذلك، فإن أصح ما قيل: أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
__________
[ (1) ] الضحاء: يرتفع النهار ويشتد وقد الشمس.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجدها فيما عندي من مراجع.
[ (3) ] تاريخ الطبري ج 2 ص 387.(1/64)
أول من رآه من أهل المدينة
وكان أول من بصر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من يهود كان على سطح أطم [ (1) ] له فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة [ (2) ] ، هذا جدكم الّذي تنتظرون، فخرج الأنصار بالمهاجرين في سلاحهم، فلقوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، وحيّوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتحية النبوة وقالوا: اركبا آمنين، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] وأبو بكر رضي اللَّه عنه وحفوا حولهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبيّ اللَّه فاستشرفوا [ (4) ] نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظرون إليه، وأقبل يسير حتى نزل على أبي القيس (كلثوم) بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، وقيل: بل نزل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت.
فجاء المسلمون يسلمون عليه وأكثرهم لم يره بعد، فكان بعضهم يظنه أبا بكر. حتى قام أبو بكر رضي اللَّه عنه حين اشتد الحر يظلل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثوب، فتحقق الناس حينئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
إقامته بقباء
وأقام في بني عمرو بن عوف الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ثم خرج يوم الجمعة، ويقال: بل أقام (بقباء) [ (5) ] في بني عمرو بن عوف ثلاثا وعشرين ليلة، ويقال: بل أقام بقباء أربع عشرة ليلة، ويقال: خمسا، ويقال: أربعا، ويقال:
ثلاثا فيما ذكر الدولابي.
إسلام عبد اللَّه بن سلام ومخيريق
وأسس حينئذ مسجد قباء، وأتاه عبد اللَّه بن سلام فأسلم (ثم أسلم) [ (6) ]
__________
[ (1) ] الأطم: الحصن أو البيت المرتفع.
[ (2) ] بنو قيلة: هم الأنصار، وقيلة: جدة لهم.
[ (3) ] في (خ) «فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتحية النبوة وأبو بكر» وهو خطأ من الناسخ.
[ (4) ] الاستشراف: الخروج للقاء.
[ (5) ] بياض في (خ) .
[ (6) ] زيادة للسياق.
إمتاع الأسماع ج 1- م 3(1/65)
مخيريق اليهودي [ (1) ] .
خبر ناقة رسول اللَّه
وركب بأمر اللَّه تعالى وسار على ناقته والناس معه عن يمينه وشماله قد حشدوا ولبسوا السلاح، وذلك ارتفاع النهار من يوم الجمعة،
فجعل كلما مر بقوم من الأنصار قالوا: هلم يا رسول اللَّه إلى القوة والمنفعة والثروة، فيقول لهم خيرا، ويقول: دعوها فإنّها مأمورة، وفي رواية: إنها مأمورة خلوا سبيلها
فلما أتى مسجد بني سالم جمّع بمن كان معه من المسلمين، وهم إذ ذاك مائة، وقيل: كانوا أربعين، وخطبهم، وهي أول جمعة أقامها صلّى اللَّه عليه وسلّم في الإسلام.
أول خطبة للرسول بالمدينة
وكانت أول خطبة خطبها أنه قام فيهم فحمد اللَّه، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن واللَّه ليصعقنّ [ (2) ] أحدكم ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنّ له ربه- ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرنّ [ (3) ] يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقة من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
والسلام على رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته.
منزله على أبي أيوب الأنصاري
ثم ركب ناقته فلم تزل سائرة به، وقد أرخى زمامها، حتى جاءت دار بني
__________
[ (1) ] في (عيون الأثر) ج 1 ص 208: «قال ابن إسحاق: وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال، وكان يعرف صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفته وما يجد من علمه» .
وفي المرجع السابق: «وقال الواقدي: كان مخيريق أحد بني النضير، حبرا عالما فآمن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجعل ماله له وهو سبعة حوائط» أي بساتين.
[ (2) ] يعني يخر ميتا أو كالميت.
[ (3) ] في (خ) فلينظر. والتصويب من (ابن هشام) ج 2 ص 105.(1/66)
النجار- موضع مسجده الآن- فبركت ثم نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول.
وقيل: إن جبّار بن صخر من بني سلمة- وكان من صالحي المسلمين- جعل ينخسها لتقوم منافسة لبني النجار أن ينزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عندهم فلم تقم، فنزل صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها، وحمل أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف [ (1) ] بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري رحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى منزله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فكانت عنده.
أول ما أهدي إليه
وأول هدية أتته قصعة مثرودة خبزا وسمنا ولبنا جاءه بها زيد بن ثابت من عند أمه، فأكل وأصحابه. ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة وفيها عراق [ (2) ] لحم. فأقام في بيت أبي أيوب سبعة أشهر، وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة وجفنة أسعد ابن زرارة كل ليلة، وجعل بنو النجار يتناوبون حمل الطعام إليه [ (3) ] مقامه في منزل أبي أيوب، وبعثت إليه أم زيد بن ثابت بثردة مروّاة سمنا ولبنا، ونزل أسامة بن زيد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في دار أبي أيوب.
مسجده وحجره
واشترى صلّى اللَّه عليه وسلّم موضع مسجده وكان مربدا [ (4) ] لسهل وسهيل ابني عمرو- وكانا يتيمين في حجر أسعد بن زرارة- بعشرة دنانير، وفي الصحيح أن بني النجار بذلوه للَّه تعالى، فبناه مسجده المعروف الآن بالمدينة. وبنى الحجر لأزواجه بجانب المسجد وجعلها تسعا: بعضها مبني بحجارة قد رصّت، وسقفها من جريد مطين بطين، ولكل بيت حجرة، وكانت حجرته صلّى اللَّه عليه وسلّم أكسية من شعر مربوطة في خشب من عرعر [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «عبد مناف» ، وما أثبتناه من (ط) .
[ (2) ] العراق: عظام عليها لحوم رقيقة طيبة.
[ (3) ] في (خ) عليه.
[ (4) ] كل مكان أو فناء تحبس فيه الإبل يسمى (مربدا) .
[ (5) ] العرعر: جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات (المعجم الوسيط) ج 2 ص 595.(1/67)
منزل أبي بكر
ونزل أبو بكر رضي اللَّه عنه بالسّنح على خبيب بن إساف (ويقال: يساف) ابن عتبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج (بن الأوس) [ (1) ] الأنصاري، وقيل: على خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغرّ.
مقدم عليّ ومنزله
وقدم علي رضي اللَّه عنه من مكة للنصف من ربيع الأول ورسول اللَّه بقباء لم يرم [ (2) ] بعد وقدم معه صهيب. وذلك بعد ما أدى عليّ عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الودائع التي كانت عنده، وبعد ما كان يسير الليل ويمكن النهار حتى تفطرت [ (3) ] قدماه، فاعتنقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك حتى قتل رضي اللَّه عنه.
ونزل على كلثوم بن الهدم، وقيل: على امرأة، والراجح أنه نزل مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
منزل عثمان
ونزل عثمان بن عفان برقية ابنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزل سعد بن خيثمة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتيهم هنالك.
بعثة زيد بن حارثة إلى مكة
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة، ودفع إليهما بعيرين وخمسمائة درهم أخذها من أبي بكر يشتريان بها ما يحتاجان إليه.
وبعث أبو بكر معهما عبد اللَّه بن أريقط الديليّ ببعيرين أو ثلاثة، وكتب إلى عبد اللَّه بن أبي بكر أن يحمل أهله: أم رومان، وعائشة، وأسماء. فاشترى زيد
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح لأنه من الأوس لا من الخزرج.
[ (2) ] من رام يريم: برح وفارق، وأكثر ما يستعمل منفيا.
[ (3) ] تشققت.(1/68)
بالخمسمائة ثلاثة أبعرة بقديد [ (1) ] ، وقدم مكة فإذا طلحة بن عبيد اللَّه يريد الهجرة، فقدما المدينة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بابنتيه: فاطمة، وأم كلثوم، وبزوجته سودة بنت زمعة، وبأسامة بن زيد، وأمه أم أيمن رضي اللَّه عنهم.
وكانت رقية ابنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد (هاجر) [ (2) ] بها عثمان رضي اللَّه عنها قبل ذلك. وحبس أبو العاصي زوجته زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وخرج مع زيد وأبي رافع عبد اللَّه بن أبي بكر بعيال أبي بكر رضي اللَّه عنه.
موادعة يهود
ووادع [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بالمدينة من يهود، وكتب بذلك كتابا، وأسلم حبرهم عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، وكفر عامتهم وهم ثلاث فرق: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار- وقد أتت لهجرته ثمانية أشهر- فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثا مقدّما على القرابة. وكان الذين آخى بينهم تسعين رجلا: خمسة وأربعين من المهاجرين، وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: خمسين من هؤلاء وخمسين من هؤلاء، ويقال: إنه لم يبق من المهاجرين أحد إلا آخى بينه وبين أنصاريّ.
وقال ابن الجوزي: «وقد أحصيت جملة من آخى النبي بينهم، فكانوا مائة وستة وثمانين رجلا» ذكرهم في كتاب التلقيح [ (4) ] ، وكانت المؤاخاة بعد مقدمه بخمسة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر.
نسخ توارث المؤاخاة وفرض الزكاة
ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر. ونزل تمام الصلاة أربعا بعد شهر من مقدم
__________
[ (1) ] قديد: موضع قرب مكة (معجم البلدان) ج 4 ص 313.
[ (2) ] مطموسة في (خ) .
[ (3) ] في (خ) : «وأودع» .
[ (4) ] في (خ) : «النقيج» ، واسمه «تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير» ، أو «تلقيح فهوم أهل الآثار في مختصر التاريخ والأخبار» .(1/69)
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فتمت صلاة المقيم أربعا بعد ما كانت ركعتين، وأقرت صلاة المسافر ركعتين، وفرضت الزكاة أيضا- رفقا بالمهاجرين رضي اللَّه عنهم- في هذا التاريخ، كما ذكره أبو محمد بن حزم، وقال بعضهم: إنه أعياه فرض الزكاة متى كان.
تحوله من بيت أبي أيوب إلى حجره
وتحول صلّى اللَّه عليه وسلّم من منزل أبي أيوب رضي اللَّه عنه إلى حجره لما فرغت، بعد إقامته عنده سبعة أشهر، وخط لأصحابه في كل أرض ليس لأحد، وفيما وهبت له الأنصار من خططها، وأقام قوم من المسلمين- لم يمكنهم البناء- بقباء على من [ (1) ] نزلوا عنده.
زواجه عائشة
وبنى بعائشة رضي اللَّه عنها بعد مقدمه بتسعة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر، وقيل: بثمانية عشر شهرا في يوم الأربعاء من شوال، وقيل: في ذي القعدة، بالسنح في بيت أبي (بكر) [ (2) ] .
الأذان للصلوات وتمام الصلاة
وأري عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه (الأذان للصلوات) [ (2) ] ، وقيل:
كان ذلك في السنة الثانية.
وبعد شهر من مقدمه المدينة زيد في صلاة الحضر لاثنتي عشرة خلت من ربيع، قال الدولابي: يوم الثلاثاء، وقال السهيليّ: بعد الهجرة بعام أو نحوه.
فرض القتال
ولما استقر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة بين أظهر الأنصار رضي اللَّه عنهم وتكفلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر، رمتهم العرب قاطبة عن قوس واحدة وتعرضوا لهم من كل جانب.
__________
[ (1) ] في (خ) «ما» .
[ (2) ] ساقطة من (خ) .(1/70)
وكان اللَّه عز وجل قد أذن للمسلمين في الجهاد بقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (1) ] ، فلما صاروا إلى المدينة، وكانت لهم شوكة وعضد، كتب اللَّه عليهم الجهاد بقوله سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ (2) ] .
أول لواء عقد بعد فرض القتال
وكان أول لواء عقده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- على رأس سبعة أشهر من مقدمه إلى المدينة- لعمه حمزة بن عبد المطلب على ثلاثين راكبا، شطرين: خمسة عشر من المهاجرين، وخمسة عشر من الأنصار، إلى ساحل البحر من ناحية العيص [ (3) ] (وقيل: لم يبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدا من الأنصار حتى غزا بنفسه إلى بدر، وذلك أنه ظن أنهم لن ينصروه إلا في الدار، وهو الثّبت) [ (4) ] .
سرية حمزة إلى سيف البحر
فبلغوا سيف البحر يعترضون عيرا لقريش قد جاءت من الشام تريد مكة، فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب. فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى بينهم مجدي بن عمر (الجهنيّ) [ (5) ] حتى انصرف الفريقان بغير قتال، وعاد حمزة رضي اللَّه عنه بمن معه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبروه بما حجز بينهم مجديّ، وأنهم رأوا منه نصفة [ (6) ] . (وقدم رهط مجدي على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فكساهم وذكر مجدي بن عمرو فقال: إنه- ما علمت- ميمون النقيبة مبارك الأمر، أو قال: رشيد الأمر) .
وكان لواء حمزة أبيض، يحمله أبو مرثد كنّاز [ (7) ] بن حصين، ويقال ابن حصن بن يربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن طريف الغنوي.
__________
[ (1) ] الآية 39/ الحج.
[ (2) ] الآية 216/ البقرة، وفي (خ) ، إلى قوله تعالى: «خَيْرٌ لَكُمْ» .
[ (3) ] موضع في بلاد بني سليم به ماء ويقال له ذنبان العيص (معجم البلدان) ج 4 ص 173.
[ (4) ] الثّبت: الصحيح.
[ (5) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (6) ] إنصافا.
[ (7) ] في (خ) (كعاد) وفي (ط) (كناز) وفي (تلقيح الفهوم) ص 48 «وحامله أبو مرثد كدّاز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب» .(1/71)
سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ
ثم عقد لواء أبيض لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف [ (1) ] وبعثه، وهو أسفل ثنية المرة [ (2) ] ، على رأس ثمانية أشهر في شوال، فحمل اللواء مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف، فخرج في ستين راكبا من قريش كلهم من المهاجرين، فلقى مكرز بن حفص، وقيل: عكرمة بن أبي جهل، وقيل: أبا سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ، وأبو سفيان في مائتين.
أول من رمى في الإسلام بسهم
وكان أول من رمى في الإسلام بسهم سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه [ (3) ] :
نثر كنانته وتقدم أمام أصحابه وقد ترسوا عنه فرمى بما في كنانته، وكان فيها عشرون سهما، ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة، ولم يكن بينهم يومئذ إلا هذا، لم يسلّوا سيفا. ثم انصرف كل منهما، وفر يومئذ من الكفار إلى المسلمين: المقداد ابن الأسود الكندي، وعتبة بن غزوان. وقيل: إن لواء عبيدة [ (4) ] هذا هو أول لواء عقده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار
[ثم عقد] [ (5) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم لواء لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار [ (6) ] حمله أبو معبد المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد البهراني [ (7) ] [وهو المقداد بن الأسود، نسبة إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب
__________
[ (1) ] في (خ) «عبد مناف» مكررة مرتين وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] «الثنية في الأصل كل عقبة في الجبل مسلوكة» وثنية المرة بأسفلها ماء الحجاز (معجم البلدان) ج 2 ص 85.
[ (3) ] (تلقيح الفهوم) ص 465.
[ (4) ] في (خ) «أبي عبيدة» .
[ (5) ] بياض في (خ) .
[ (6) ] في (خ) «الخرا» ، وفي (معجم البلدان) ج 2 ص 350: «الخرّار: موضع بالحجاز يقال: هو قرب الجحفة، وقيل: واد من أودية المدينة، وقيل: ماء بالمدينة، وقيل: موضع بخيبر» .
[ (7) ] نسبة إلى البهراء من غير قياس (هامش ط) ص 53.(1/72)
ابن عبد مناف لأنه كان تبناه] فخرج في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر في عشرين أو أحد وعشرين رجلا من المهاجرين على أقدامهم، وقيل: بل كانوا ثمانية، فكانوا يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا صبح خمس الخرار [ (1) ] من الجحفة قريبا من خم، يريدون عير قريش ففاتتهم.
وقد جعل الواقدي هذه السرايا جميعها في السنة الأولى من الهجرة، وجعلها محمد بن إسحاق في السنة الثانية، وجعل غزوة ودان بعد سرية سعد بن أبي وقاص.
غزوة رسول اللَّه: ودان- الأبواء
ثم غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ودان] [ (2) ] وهو جبل بين مكة والمدينة، بينه وبين الأبواء ستة أميال، فخرج في صفر على رأس أحد عشر شهرا يعترض عيرا لقريش، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه، فبلغ الأبواء، فلم يلق كيدا، فوادع بني ضمرة [بن بكر] [ (3) ] بن عبد مناة بن كنانة مع سيدهم مخشي [ (4) ] بن عمرو- على ألا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه أحدا، وكتب بينه وبينهم [ (5) ] كتابا ورجع، فكانت غيبيته خمس عشرة ليلة. ويقال لهذه أيضا: غزاة الأبواء، وهي أول غزاة غزاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفسه. وكان لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذه الغزاة أبيض يحمله حمزة رضي اللَّه عنه.
زواج علي فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وفي صفر هذا زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه بابنته فاطمة عليها السلام.
غزوة بواط
ثم كانت غزوة بواط من ناحية رضوى في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر
__________
[ (1) ] في (خ) «الخزار» وخم: واد بين مكة والمدينة عند الجحفة. (معجم البلدان) ج 2 ص 389.
[ (2) ] بياض في (خ) .
[ (3) ] زيادة من (ابن هشام) ج 2 ص 170.
[ (4) ] في (خ) «مجدي» والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) «وبينه» .(1/73)
شهرا [من مهاجره] [ (1) ] ، فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير. وخرج معه صلّى اللَّه عليه وسلّم مائتان من أصحابه وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، وقيل:
السائب بن عثمان بن مظعون، ورجع ولم يلق كيدا.
غزوة سفوان، وهي بدر الأولى
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا [من مهاجره] [ (2) ] في طلب كرز بن جابر الفهري- وقد أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء ونواحيها- حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر ولم يدركه، وهي بدر الأولى. وكان يحمل اللواء علي رضي اللَّه عنه، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، ويقال: كانت سفوان بعد العشيرة بنحو عشر ليال.
غزوة العشيرة
[ثم غزا غزوة] [ (2) ] العشيرة [ (3) ] في جمادى الآخرة، ويقال جمادى الأولى على رأس ستة عشر شهرا [من مهاجره] [ (4) ] خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم يعترض عيرا لقريش حين أبدأت [ (5) ] إلى الشام، ومعه خمسون ومائة رجل، ويقال: خرج معه مائتا رجل، يتعقبون ثلاثين بعيرا، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل اللواء حمزة. وكان قد جاءه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر بفصول [ (6) ] العير من مكة تريد الشام، قد جمعت قريش أموالها في تلك العير. فبلغ صلّى اللَّه عليه وسلّم ذا العشيرة [ (7) ] ببطن ينبع، فأقام بقية الشهر
__________
[ (1) ] ساقطة من (خ) والتصويب من (تلقيح الفهوم) ص 49.
[ (2) ] بياض في (خ) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المغازي) ج 1 ص 12 «ذي العشيرة» ، وفي (التلقيح) ص 50 «ذات العشيرة» «ويقال بالسين» .
وفي «ابن هشام» : ج 2 ص 176 «ويقال فيها أيضا العسيرة والعسيراء، وفي البخاري أن قتادة سئل عنها فقال: «العشير» .
والعشيرة «من ناحية ينبع بين مكة والمدينة» معجم البلدان ج 4 ص 127.
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ] في (خ) «أبدت» والصواب «أبدأت» بمعنى خرجت من أرض غيرها.
[ (6) ] الفصول: مصدر فصل بمعنى خرج، قال تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ 94/ يوسف.
[ (7) ] في (خ) «العشراء» .(1/74)
وليالي مما بعده، وصالح بني مدلج وحلفاءهم بني ضمرة، ورجع ولم يلق كيدا.
وهذه هي العير التي خرج في طلبها صلّى اللَّه عليه وسلّم لما عادت وكانت وقعة بدر.
تكنية علي بن أبي طالب أبا تراب
وفي هذه السفرة
كنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أبا تراب، في قول بعضهم، وقد مر به نائما تسفي عليه الريح التراب فقال: قم يا أبا تراب، ألا أخبرك بأشقى الناس أجمعين: عاقر الناقة، والّذي يضربك على هذا فيخضب هذه! [يعني على رأسك فيخضب لحيتك بدمك] وفي صحيح البخاري: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجده في المسجد نائما وقد ترب جنبه فجعل يمسح [ (1) ] التراب عن جنبه ويقول: قم أبا تراب [ (2) ] .
سرية عبد اللَّه بن جحش إلى نخلة
ثم كانت سرية أميرها عبد اللَّه بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة ابن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي إلى بطن نخلة [وهو بستان ابن عامر الّذي يقرب مكة] [ (3) ] في رجب على رأس سبعة عشر شهرا،
دعاه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين صلى العشاء فقال: واف مع الصبح معك سلاحك أبعثك وجها،
قال:
فوافيت الصبح وعليّ سيفي وقوسي وجعبتي ومعي درقتي، فصلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس الصبح ثم انصرف، فيجدني قد سبقت واقفا عند بابه، وأجد نفرا من قريش،
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبي بن كعب فدخل عليه فأمره فكتب كتابا [ (4) ] ، ثم دعاني فأعطاني صحيفة من أديم خولاني [ (5) ] فقال: قد استعملتك على هؤلاء النفر،
__________
[ (1) ] في (خ) «تحت» .
[ (2) ] «قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض أهل العلم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما سمى عليا أبا تراب: أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها ولم يقل لها شيء تكرهه، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه» (ابن هشام) ج 2 ص 178.
[ (3) ] (معجم البلدان) ج 5 ص 278.
[ (4) ] (المغازي) ج 1 ص 13 «فأمره صلّى اللَّه عليه وسلّم وكتب كتابا» .
[ (5) ] «خولان: من مخاليف اليمن» ، «وقرية قرب دمشق» ، فلعل الأديم منسوب إلى أحدهما (معجم البلدان) ج 2 ص 407.(1/75)
فامض، حتى إذا سرت ليلتين فانشر كتابي ثم امض لما أنت فيه [ (1) ] ، قلت:
يا رسول اللَّه أي ناحية؟ قال: اسلك النجدية تؤم [ (2) ] ركبة [ (3) ] فانطلق عبد اللَّه في ثمانية- وقيل: اثنى عشر من المهاجرين- كل اثنين يتعاقبان بعيرا، حتى إذا كان ببئر ابن ضميرة نشر الكتاب فإذا فيه: سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم اللَّه وبركاته، ولا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك، وامض لأمري فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة على اسم اللَّه وبركاته: فترصد بها عير قريش. فلما قرأه عليهم قالوا أجمعين: نحن سامعون مطيعون للَّه ولرسوله ولك، فسر على بركة اللَّه.
فسار حتى جاء نخلة فوجد عيرا لقريش فيها عمرو بن الحضرميّ خارجا نحو العراق، والحكم بن كيسان المخزومي، وعثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة المخزومي، ونوفل بن عبد اللَّه بن المغيرة المخزومي، فهابهم أصحاب العير، وأنكروا أمرهم، فحلق عكاشة ابن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي [حلقه عامر بن ربيعة] ثم وافى ليطمئن القوم. فقال المشركون:
لا بأس! قوم عمّار [ (4) ] ، فأمنوا وقيدوا ركابهم وسرحوها، وتشاور المسلمون في أمرهم- وكان آخر يوم من رجب ويقال أول يوم من شعبان [ (5) ] فقالوا: إن تأخرتم عن هذا اليوم دخلوا الحرم [ (6) ] فامتنعوا، وإن أصبتموهم ففي الشهر الحرام. فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا وقاتلوهم. فرمى واقد [ (7) ] بن عبد اللَّه [بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد ابن مناة بن تميم التميمي اليربوعي الحنظليّ] عمرو بن الحضرميّ فقتله. وشد القوم عليهم، فأسروا عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وحكم ابن كيسان- وكان الّذي أسر الحكم بن كيسان المقداد بن عمرو، فدعاه رسول اللَّه إلى الإسلام فأسلم وقتل ببئر معونة شهيدا. وأعجزهم نوفل بن عبد اللَّه بن
__________
[ (1) ] (المغازي) ج 1 ص 13 «ثم امض لما فيه» .
[ (2) ] تؤم: تقصد.
[ (3) ] في (خ) «ركيه» وفي المغازي «ركية، وركبة» بين مكة والطائف «معجم البلدان» ج 3 ص 63.
[ (4) ] عمّار: معتمرون يريدون أداء العمرة.
[ (5) ] في (الكامل) ج 2 ص 114 «آخر يوم من رجب» وفي (المغازي) ج 1 ص 14 «وكان آخر يوم من رجب ويقال: آخر يوم من شعبان» وفي (ابن سعد) ج 2 ص 10 «وشكوا في ذلك اليوم أهو من الشهر الحرام أم لا؟» وفي (ابن هشام) ج 2 ص 179 «وذلك في آخر يوم من رجب» .
[ (6) ] أي الأشهر الحرم.
[ (7) ] في (خ) «وافد» .(1/76)
المغيرة- واستاقوا العير- وكانت محملة خمرا وأدما وزبيبا- حتى قدموا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام. فأوقف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العير فلم يأخذ منها شيئا، وحبس الأسيرين،
وقال لأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، فسقط [ (1) ] في أيديهم وظنوا أنهم قد هلكوا.
وبعثت قريش إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فداء أصحابهم فقال: لن نفديهما حتى يقدم صاحبانا، يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب [ (2) ] بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف [بن الحارث] بن مازن المازني، وكانا زميلين،
فضلّ ببجران [ (3) ] (وهي ناحية معدن بني [ (4) ] سليم) بعيرهما، فأقاما يومين يبغيانه فلم يشهدا نخلة.
ثم قدما المدينة ففادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ الأسيرين بأربعين أوقية لكل واحد، وكان عبد اللَّه بن جحش قد قسم في رجوعه من نخلة أربعة أخماس ما غنم بين أصحابه، وعزل الخمس لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
أول خمس وأول غنيمة وأول قتيل وأول أسير
فكان أول خمس خمّس في الإسلام، وأول غنيمة، وأول قتيل وأول أسير كان في الإسلام ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقف غنائم أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وأعطى كل قوم حقهم [ (5) ] .
وفي هذه الغزاة نزل قول اللَّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [ (6) ] .
__________
[ (1) ] «سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» : ندموا على ما فعلوا «انظر الآية 149/ الأعراف» .
[ (2) ] في (خ) «لسيب» .
[ (3) ] في (خ) «بحران» .
[ (4) ] في (خ) «ابن سليم» .
[ (5) ] (ابن سعد) ج 2 ص 11.
[ (6) ] الآية 217/ البقرة، وفي (خ) إلى قوله تعالى: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.(1/77)
ويقال ودى [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن الحضرميّ، والصحيح أنه لم يده.
أول من سمي أمير المؤمنين في الإسلام
وفي هذه السرية سمي عبد اللَّه بن جحش أمير المؤمنين.
وذكر أبو بكر بن شيبة في مصنفه: حدثنا أبو أمامة، عن مجالد، عن زياد ابن علاقة [ (2) ] عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال: لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة جاءت جهينة فقالت: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأمنك [ (3) ] وتأمنّا، فأوثق لهم ولم يسلموا [ (4) ] فبعثنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رجب- ولا نكون مائة- وأمرنا أن نغير على حي من كنانة إلى جنب جهينة. قال: فأغرنا عليهم، وكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة [فمنعونا] [ (5) ] وقالوا: لم تقاتلوا في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقالوا: نأتي رسول اللَّه فنخبره، وقال بعضنا:
لا بل نقيم هاهنا، وقلت أنا، في أناس معي: لا بل نأتي عير قريش هذه فنصيبها [ (6) ] ، فانطلقنا إلى العير-[وكان الفيء إذ ذاك- من أخذ شيئا فهو له- فانطلقنا إلى العير] [ (7) ]
وانطلق أصحابنا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمرا وجهه فقال: أذهبتم [ (8) ] من عندي جميعا وجئتم متفرقين! إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة. لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش.
فبعث علينا عبد اللَّه بن جحش الأسدي فكان أول أمير [أمر] [ (9) ] في الإسلام.
أول ما نسخ من الشريعة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة
وفي شعبان على رأس ستة عشر شهرا، وقيل: على رأس سبعة عشر
__________
[ (1) ] وديه: أعطى ديته لوليه (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1022.
[ (2) ] حديث زياد عن سعد بن أبي وقاص حديث مرسل لأنه لم يدرك سعدا، وقد مات سنة 135 وقد قارب المائة. (هامش ط) ص 58.
[ (3) ] في (المسند) ج 1 ص 178 «حتى نأتيك» .
[ (4) ] المرجع السابق «فأسلموا» .
[ (5) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (6) ] المرجع السابق «فتقتطعها» .
[ (7) ] زيادة للإيضاح من المرجع السابق.
[ (8) ] في (خ) «ذهبتم» والتصويب من (المسند) .
[ (9) ] زيادة من المرجع السابق.(1/78)
شهرا [ (1) ] ، حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فكان أول شيء نسخ من الشريعة القبلة [ (2) ] ، وأول من صلى إليها أبو سعيد رافع، ويقال: الحارث، ويقال: أوس بن المعلى بن نفيع بن المعلى بن لوذان بن خالد بن زيد بن ثعلبة الزرقيّ الأنصاري وصاحب له [ (3) ] . ثم صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس الظهر إليها يومئذ.
ويقال حولت القبلة في يوم الاثنين النصف من رجب بعد زوال الشمس، قبل قتال بدر بشهرين، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسجد بني سلمة [ (4) ] ، وقد صلى بأصحابه من صلاة الظهر ركعتين، فتحول في صلاته واستقل الميزاب من الكعبة، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي المسجد «مسجد القبلتين» . ويقال: صرفت في الظهر من يوم الثلاثاء للنصف من شعبان سنة اثنتين في منزل البراء بن معرور، وقيل: صرفت في صلاة الصبح.
فرض صيام رمضان وزكاة الفطر
وفي شعبان هذا فرض صوم رمضان وزكاة الفطر قبل العيد بيومين، وقال ابن سعد: قبل فرض زكاة الأموال، وقيل: إن الزكاة فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة. وكان المسلمون يصومون عاشوراء، فلما فرض رمضان لم يؤمروا بصيام عاشوراء ولم ينهوا عنه.
غزوة بدر الكبرى
وفي شهر رمضان هذا كانت غزوة بدر، وهي الوقعة العظيمة التي فرق اللَّه
__________
[ (1) ] القول الأول ذكره الطبري بسنده عن سعيد بن المسيب، والقول الثاني ذكره أيضا بسنده عن البراء.
راجع (تفسير الطبري) ج 2 ص 3، و (تفسير القرطبي) ص 532، 533 (ط. الشعب) وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) ج 3 ص 252 «في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا» .
[ (2) ] راجع (تفسير القرطبي) ص 534.
[ (3) ] ذكر ابن سيد الناس في (عيون الأثر) ج 1 ص 238 أن «عباد بن نهيك بن إساف الشاعر بن عدي ابن زيد بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو النبيت بن مالك الأوس» «هو الّذي صلى مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلتين في الظهر ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة يوم صرفت القبلة، ثم أتى قومه بني حارثة وهم ركوع في صلاة العصر فأخبرهم بتحويل القبلة فاستداروا إلى الكعبة.
[ (4) ] في (خ) «بني سليمة» .(1/79)
تعالى فيها بين الحق والباطل، وأعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله.
ما فيها من دلائل النبوة
وجمعت الآيات الكثيرة والبراهين الشهيرة: بتحقيق اللَّه ما وعدهم من إحدى الطائفتين، وما أخبرهم به من ميلهم إلى العير دون الجيش، ومجيء المطر عند الالتقاء، وكان للمسلمين نعمة وقوة، وعلى الكفار بلاء ونقمة، وإمداد اللَّه المؤمنين بجند من السماء حتى سمعوا أصواتهم حين قالوا: أقدم حيزوم، ورأوا الرءوس ساقطة من الكواهل من غير قطع ولا ضرب، وأثر السياط في أبي جهل وغيره، ورمى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم المشركين بالحصى والتراب حتى عمّت رميته الجمع، وتقليل اللَّه المشركين في عيون المسلمين ليزيل عنهم الخوف ويشجعهم على القتال، وإشارة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مصارع المشركين بقوله: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فرأى المسلمون ذلك على ما أشار إليه وذكره،
وقوله عليه الصلاة والسلام لعقبة بن أبي معيط: إن وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا [ (1) ] فحقق اللَّه ذلك،
وإخباره عمه العباس بما استودع أم الفضل من الذهب، فزالت عن العباس رضي اللَّه عنه الشبهة في صدقه وحقيقة نبوته، فازداد بصيرة ويقينا في أمره صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتحقيق اللَّه للمؤمنين [من الأسرى] [ (2) ] وعده إذ يقول: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [ (3) ] ، فأعطى العباس بدل عشرين أوقية- عشرين غلاما تجروا بماله، وإطلاع اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم على ائتمار عمير ابن وهب وصفوان بن أمية بمكة على قتله عليه السلام فعصمه اللَّه من ذلك، وجعله سببا لإسلام عمير بن وهب وعوده إلى مكة داعيا للإسلام ... إلى غير هذا من الآيات والمعجزات التي أعطاها اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأراها من معه من المؤمنين فزادتهم بصيرة ويقينا، ورد عين قتادة بعد ما سالت على حدقته، وقيل: كان ذلك في وقعة أحد. فكانت غزوة بدر أكرم المشاهد.
أول الخروج إلى بدر
وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تحين انصراف العير التي خرج من أجلها إلى
__________
[ (1) ] قتله صبرا: حبسه حتى مات (المعجم الوسيط) ج 1 ص 506.
[ (2) ] زيادة من (ط) .
[ (3) ] من الآية 70/ الأنفال.(1/80)
العشيرة وإقبالها من الشام، ندب أصحابه للخروج إلى العير وأمر من كان ظهره [ (1) ] حاضرا بالنهوض، ولم يحتفل لها احتفالا كبيرا، وكان قد بعث طلحة بن عبيد اللَّه ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة القرشي التيمي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد اللَّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤيّ القرشي العدوي قبل خروجه من المدينة بعشر ليال يتحسسان [ (2) ] خبر العير فبلغا التجبار [ (3) ] من أرض الحوراء [ (4) ] فنزلا على كشد [ (5) ] الجهنيّ فأجارهما وأنزلهما وكتم [ (6) ] عليهما حتى مرت العير، ثم خرج بهما يخفرهما حتى أوردهما ذا المروة، فقدما المدينة ليخبرا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبر العدو فوجداه قد خرج. وكان قد ندب المسلمين وخرج بمن معه يوم السبت الثاني عشر من رمضان بعد تسعة عشر شهرا من مهاجره، [وقيل: خرج لثمان خلون من رمضان وذلك بعد ما وجه طلحة بن عبد اللَّه وسعيد بن زيد بعشر ليال] فخرج معه المهاجرون وخرجت الأنصار ولم يكن غزا بأحد منهم قبل ذلك.
فنزل بالبقع [ويقال لها بئر أبي عنبة، وهي على ميل من المدينة] ، والتقيا على أربع مراحل من المدينة، وهي بيوت السقيا، يوم الأحد لثنتي عشرة خلت من رمضان.
عرض المقاتلة وردّ الصغار
فضرب عسكره هناك وعرض المقاتلة [ (7) ] ، فرد عبد اللَّه بن عمرو، وأسامة بن
__________
[ (1) ] الظهر: ما يركب.
[ (2) ] في (خ) «يتحسسان» . وفي (تاريخ الطبري) ج 2 ص 433 «يتجسسان» ، وفي (المغازي) ج 1 ص 19 والتحسس بالحاء: أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم: هو أن تفحص عنها بغيرك،
وفي الحديث: «لا تجسسوا ولا تحسسوا» (ابن هشام) ج 2 هامش ص 182.
[ (3) ] كذا في (ط) وفي (ابن سعد) ج 2 ص 11.
[ (4) ] الحوراء: مرفأ سفن مصر إلى المدينة، وفي قول الأصمعي: ماء لبني نبهان من طيِّئ قرب ماء يقال له القلب لبني ربيعة من بني نمير (معجم البلدان) ج 2 ص 316 وفي (المغازي) «بالنخبار» ج 1 ص 19.
[ (5) ] في (خ) «كشد» بالشين والدال (والمغازي) ج 1 ص 19 وفي الإصابة ج ص 287 «كسد» بالسين المهملة ترجمة رقم 7398.
[ (6) ] في (خ) «وكتمه» .
[ (7) ] في (خ) «المقابلة» .(1/81)
زيد، ورافع بن خديج بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الأنصاري الخزرجي [ (1) ] ، والبراء بن عازب بن حارث بن عدي بن جشم بن مجدعة [ (2) ] بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري [الأوسي] [ (3) ] الحارثي، وأسيد بن حضير ابن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي، وزيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك الأغرّ الأنصاري الخزرجي، وزيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري النجاري، ولم يجزهم. وعرض عمير بن أبي وقاص فاستصغره فقال: ارجع، فبكى، فأجازه. فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة.
وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يستقوا من بئر السقيا وشرب من مائها، وصلى عند بيوت السقيا.
دعاؤه لأهل المدينة وتحريم حرمها
ودعا يومئذ لأهل المدينة فقال: اللَّهمّ إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لأهل مكة، وإني محمد عبدك ونبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم [ (4) ] وثمارهم، اللَّهمّ وحبب إلينا المدينة، واجعل ما بها من الوباء بخم [ (5) ] ، اللَّهمّ إني حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة.
عيونه وخروج المسلمين إلى المشركين
وقدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عدي بن أبي الزغباء سنان بن سبيع بن ثعلبة بن ربيعة الجهنيّ، وبسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن عمرو بن سعد بن ذبيان
__________
[ (1) ] رافع هذا «أوسيّ» «وليس خزرجيّ» ، وترجمته رقم 1802 في الإصابة ج 3 ص 36 كما يلي:
«رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسيّ الحارثي» .
[ (2) ] قال في (الإصابة) «ولم يذكر ابن الكلبي في نسبه مجدعة وهو أصوب» ج 1 ص 234 ترجمة رقم 615.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] الصاع والمدّ من المكاييل.
[ (5) ] خمّ: على ميلين من الجحفة.(1/82)
الذبيانيّ [الجهنيّ] [ (1) ] من بيوت السقيا.
واستخلف على المدينة وعلى الصلاة عبد اللَّه بن أم مكتوم، وراح عشية الأحد من بيوت السقيا، وخرج المسلمون معه وهم ثلاثمائة وخمسة، ويقال كانت قريش ستة وثمانين رجلا، والأنصار مائتين وسبعة وعشرين رجلا. وقيل: كانت قريش ثلاثة وسبعين رجلا، والأنصار أربعين ومائتي رجل، وتخلف عنه ثمانية ضرب لهم بسهامهم وأجورهم.
هذا الحديث رواه محمد بن حرب، حدثنا الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم الزرقيّ، عن عاصم بن عمرو، عن علي ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كنا بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ائتوني بوضوء، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال: اللَّهمّ إن إبراهيم عبدك وخليلك دعا لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعو لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين.
قلة الظّهر يوم بدر ودعاؤه للمقاتلة
وكانت الإبل سبعين بعيرا، فكانوا يتعاقبون الإبل- الاثنين والثلاثة والأربعة- فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد، ويقال: زيد بن حارثة مكان مرثد [ (2) ] ، يتعاقبون بعيرا واحدا. وحمل سعد بن عبادة على عشرين جملا،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم حين فصل [ (3) ] من بيوت السّقيا: «اللَّهمّ إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة [ (4) ] فأغنهم من فضلك،
فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم [ (5) ] ، وأصابوا فداء الأسرى فاغتنى به كل عائل.
__________
[ (1) ] كذا في (المغازي) ج 1 ص 24.
[ (2) ] كذا في (المغازي) ج 1 ص 24.
[ (3) ] فصل: رحل.
[ (4) ] العالة: جمع عائل وهو الفقير.
[ (5) ] الأزواد: جمع زاد وهو الطعام.(1/83)
تعبئة الجيش وعدّه
واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المشاة وهم في السّاقة [ (1) ] قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول، وأمره حين فصل من السقيا أن يعدّ المسلمين، فوقف لهم عند بئر أبي عنبة فعدهم ثم أخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقدّم أمامه عينين له إلى المشركين يأتيانه بخبر عدوه، وهما بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء- وهما من جهينة حليفان للأنصار- فانتهيا إلى ماء بدر فعلما الخبر، ورجعا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وسلك من السقيا بطن العقيق حتى نزل تحت شجرة بالبطحاء، فقام أبو بكر رضي اللَّه عنه فبنى مسجدا فصلى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأصبح يوم الاثنين ببطن ملل.
وقال لسعد بن أبي وقاص، وهو بتربان: يا سعد، انظر إلى الظبي ففوّق له بسهم [ (2) ] ، وقام صلّى اللَّه عليه وسلّم فوضع ذقنه بين منكبي سعد وأذنيه، ثم قال:
ارم! اللَّهمّ سدد رميته.
فما أخطأ سهم سعد عن نحر الظبي، فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخرج سعد يعدو فأخذه وبه رمق فذكاه [ (3) ] وحمله حتى نزل قريبا، فأمر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقسم بين أصحابه [ (4) ] .
أفراس المسلمين ببدر
وكان معهم فرسان، فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، وفرس للمقداد بن عمرو ابن ثعلبة البهراني، ويقال: فرس للزبير، ولم [يكن معهم] [ (5) ] إلا فرسان، ولا خلاف أن المقداد له فرس يقال له «سبحة» ، ويقال لفرس مرثد «السّيل» ولحقت قريش بالشام في عيرها [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الساقة: مؤخرة الجيش (المعجم الوسيط) ج 1 ص 464.
[ (2) ] في (المغازي) ج 1 ص 26 «فأفوّق له بسهم» ، واستغربه محقق (ط) .
[ (3) ] الذكاة: الذبح أو النحر (المعجم الوسيط) ج 1 ص 314.
[ (4) ] الخبر بتمامه في (المغازي) ج 1 ص 26، 27، وقد قال محقق (ط) أنه لم يجد هذا الخبر فيما بين يديه من كتب.
[ (5) ] زيادة للبيان، ونصّ الواقدي: «ولم يكن إلا فرسان» (المغازي) ج 1 ص 27.
[ (6) ] قال (ابن هشام) ج 2 ص 224: «وحدثني بعض أهل العلم أنه كان مع المسلمين يوم بدر من الخيل فرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يقال له السّيل، وفرس المقداد بن عمرو البهراني، وكان يقال له بعزجة، ويقال: سبحة، وفرس الزبير بن العوام وكان يقال له اليعسوب» ، «ومع المشركين مائة فرس» .(1/84)
عير قريش وما فيها
وكانت العير ألف بعير فيها أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعثت به في العير، فيقال: إن فيها لخمسين ألف دينار، ويقال:
أقل. فأدركهم رجل من جذام بالزرقاء من ناحية معان [ (1) ]- وهم منحدرون إلى مكة- فأخبرهم أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم قد كان عرض لعيرهم في بدأتهم، وأنه تركه مقيما ينتظر رجعتهم وقد حالف عليهم أهل الطريق ووادعهم.
خوف أصحاب العير وإرسالهم إلى مكة يستنجدون
فخرجوا خائفين الرّصد، وبعثوا ضمضم بن عمرو حين فصلوا من الشام- وكانوا قد مروا به وهو بالساحل معه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا- وأمره أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض لعيرهم، وأمره أن يجدّع [ (2) ] بعيره إذا دخل مكة، ويحول رحلة [ (2) ] ، ويشق قميصه من قبله ودبره [ (2) ] ، ويصيح: الغوث الغوث، ويقال: بعثوه من تبوك. وكان في العير ثلاثون رجلا من قريش فيهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول: يا معشر قريش، يا آل لؤيّ بن غالب، اللطيمة [ (3) ] ، قد عرض لها محمد في أصحابه، الغوث الغوث، واللَّه ما أرى أن تدركوها. وقد جدّع أذني بعيره، وشق قميصه، وحوّل رحله.
تأهب قريش لنجدة العير
فلم تملك قريش من أمرها شيئا حتى نفروا على الصعب والذلول، وتجهزوا في ثلاثة أيام، ويقال في يومين، وأعان قويّهم ضعيفهم. وقام سهيل بن عمرو، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وحنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان، يحضون الناس، فقال سهيل: يا آل غالب، أتاركون أنتم محمدا
__________
[ (1) ] الزرقاء: موضع بالشام بناحية معان، ... وهي أرض شبيب التبعي الحميري، (معجم البلدان) ج 3 ص 137.
[ (2) ] أي يقطع أذنيه إنذارا بالشّر، وهذا كله من عاداتهم في الإنذار بالشّر.
[ (3) ] اللطيمة: عير تحمل المسك والبز وغيرهما للتجارة (المعجم الوسيط) ج 2 ص 827 وفي (البداية والنهاية) ج 3 ص 258 «اللطيمة اللطيمة» .(1/85)
والصباة [ (1) ] من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأموالكم؟ من أراد مالا فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة. فمدحه أمية بن [أبي] [ (2) ] الصلت بأبيات، ومشى نوفل ابن معاوية الديليّ إلى أهل القوة من قريش فكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج، فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة: هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت.
وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار وثلاثمائة دينار قوّى بها في السلاح والظهر، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا وقواهم وخلفهم في أهله بمعونة، وكان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثا، ومشوا إلى أبي لهب فأبي أن يخرج أو يبعث أحدا، ويقال: إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة- وكان له عليه دين- فقال اخرج، وديني لك، فخرج عنه [ (3) ] . [وكان الدين أربعة آلاف درهم] [ (4) ] .
استقسامهم بالأزلام وكراهية الخروج إلى بدر
واستقسم أميّة بن خلف وعتبة وشيبة عند هبل بالآمر والناهي من الأزلام فخرج القدح [ (5) ] الناهي عن الخروج. وأجمعوا [ (6) ] المقام حتى أزعجهم أبو جهل، واستقسم زمعة بن الأسود فخرج الناهي، وكذلك خرج لعمير بن وهب، وخرج حكيم ابن حزام وهو كاره لمسيره، وقد خرج له القدح الناهي، فلما نزلوا مرّ الظهران [ (7) ] نحر أبو جهل جزرا [ (8) ] ، فكانت جزور منها بها حياة فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها. وأخذ عدّاس [ (9) ] يخذل شيبة وعتبة ابني ربيعة
__________
[ (1) ] جمع «صاب» غير مهموز، كقاضي وقضاة، فقد كانت قريش تسمّى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصابيء، والمسلمين الصباة.
[ (2) ] زيادة للبيان والتصويب.
[ (3) ] (المغازي) ج 1 ص 33.
[ (4) ] زيادة من تاريخ الطبري ج 2 ص 430 «بتصرف» .
[ (5) ] القدح: قطعة من الخشب كانت تستعمل في الميسر، الاستقسام هو إطاعة ما يخرج في هذه القداح من أمر أو نهي. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 717 بتصرف.
[ (6) ] في (خ) «أجمعوا» وفي المغازي «فأجمعوا» ج 1 ص 33، وأجمعوا: عزموا.
[ (7) ] في (خ) «من الظهران» ومرّ الظهران: موضع على مرحلة من مكة (معجم البلدان) ج 5 ص 104.
[ (8) ] جزر: جمع جزور، وهي الناقة المنحورة.
[ (9) ] هو غلام نصراني كان لعتبة وشيبة ابنا ربيعة. والتخذيل: تثبيط الناصر عن النّصرة.(1/86)
عن الخروج، والعاصي بن منبّه بن الحجاج. وأبى أمية بن خلف أن يخرج فأتاه عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل فعنّفاه، فقال: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، فابتاعوا له جملا بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير فغنمه المسلمون [ (1) ] . وما كان أحد منهم أكره للخروج من الحارث بن عامر.
رؤيا ضمضم وعاتكة بنت عبد المطلب
ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه، ورأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها التي ذكرت في ترجمتها [ (2) ] . فكره أهل الرأي المسير
__________
[ (1) ] «فصار في سهم خبيب بن إساف» (المغازي) ج 1 ص 36.
[ (2) ] هي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمّة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، كانت زوج أبي أمية بن المغيرة والد أم سلمة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورزقت منه عبد اللَّه وقريبة، وغيرهما.
قال أبو عمر: اختلف في إسلامها، والأكثر يأبون ذلك، وفي ترجمة أروى: ذكرها العقيلي في الصحابة، وكذلك ذكر عاتكة.
وأما ابن إسحاق فذكر أنه لم يسلم من عماته صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا صفية. وذكرها ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، واستدل على إسلامها بشعر لها تمدح فيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتصفه بالنّبوّة.
وقال الدارقطنيّ في كتاب الإخوة: لها شعر تذكر فيه تصديقها، ولا رواية لها.
وقال ابن مندة- بعد ذكرها في الصحابة: روت عنها أم كلثوم بنت عقبة، ثم ساق من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أم كلثوم بنت عقبة، عن عاتكة بنت عبد المطلب، قصة المنام الّذي رأته في وقعة بدر.
وذكر الزبير بن بكار أنها شقيقة أبي طالب وعبد اللَّه. وقال ابن سعد أسلمت عاتكة بمكة، وهاجرت إلى المدينة، وهي صاحبة الرؤيا المشهورة في قصة بدر.
قال ابن إسحاق: فأخبرني من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة ابن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، واللَّه لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منه شرّ ومصيبة، فأكتم عني ما أحدّثك به، فقال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، وحتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه.
فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، صرخ بمثلها: ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث:
ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار إلا دخلتها منه فلقة.
قال العباس: واللَّه إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة- وكان صديقا له- فذكرها له، واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة،(1/87)
ومشى بعضهم إلى بعض، فكان من أبطئهم عن ذلك الحارث بن عامر، وأمية ابن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وحكيم بن حزام، وأبو البختري، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه، حتى بكتهم أبو جهل بالجبن، وأعانه عقبة بن أبي معيط، والنّضر بن الحارث بن كلدة، فأجمعوا المسير.
خروج قريش والمطعمون في طريقهم
وخرجت قريش بالقيان والدّفاف يغنين في كل منهل وينحرون الجزر وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا. وكان المطعمون: أبو جهل، نحر عشرا- وأمية بن خلف، نحر تسعا- وسهيل بن عمرو بن عبد شمس أخو بني عامر بن لؤيّ، نحر عشرا- وشيبة بن ربيعة، نحر عشرا- ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، نحرا عشرا- والعباس بن عبد المطلب، نحر عشرا- وأبو البختري العاص بن هشام بن الحارث ابن أسد، نحر عشرا. وذكر موسى بن عقبة أن أول من نحر لقريش أبو جهل بن هشام بمرّ الظهران، عشر جزائر- ثم نحر لهم صفوان بن أمية بعسفان تسع جزائر- ثم نحر لهم سهيل بن عمرو بقديد، عشر جزائر- ومضوا من قديد إلى مناة من البحر [ (1) ] فظلوا فيها وأقاموا يوما، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسع جزائر- ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر- ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم قيس بن قيس [ (2) ] تسع جزائر- ثم نحر عباس بن عبد المطلب
__________
[ () ] ففشا الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
شرح غريب هذا الحديث:
مثل به بعيره: قام به.
يا لغدر: بضم الغين والدال، جمع غدور، تحريضا لهم، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم، وفتحت لام الاستغاثة، لأن المنادي قد وقع موقع الاسم المضمر، ولذلك بني، فلما دخلت عليه لام الاستغاثة- وهي لام الجرّ فتحت كما تفتح لام الجرّ إذا دخلت على المضمرات.
أبي قبيس: اسم جبل، سمّي باسم رجل هلك فيه من جرهم، اسمه: قبيس بن شالخ.
ارفضّت: تفتّتت.
(الإصابة ج 8 ص 13 ترجمة رقم 11451، (الاستيعاب) ج 4 ص 11778، (ابن هشام) ج 3 ص 153- 154.
[ (1) ] مناة: صخرة كانوا يعظمونها ويعبدونها.
[ (2) ] أخو سليم بن قيس (ذكره ابن سعد) ج 3 ص 489.(1/88)
عشر جزائر- ثم نحر لهم الحارث بن عامر بن نوفل تسعا- ثم نحر لهم أبو البختريّ على ماء بدر عشر جزائر- ونحر مقيس السهمي على ماء بدر تسعا- ثم شغلتهم [ (1) ] الحرب فأكلوا من أزوادهم [ (2) ] .
عدة أفراسهم وإبلهم
وقادوا مائة فرس عليها مائة دارع سوى دروع في المشاة، وكانت إبلهم سبعمائة بعير، وهم كما ذكر اللَّه تعالى عنهم بقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [ (3) ] وأقبلوا في تجمل عظيم وحنق زائد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم، وقد أصابوا من قبل عمرو بن الحضرميّ والعير التي كانت معه.
وصول عير قريش إلى بدر
وأقبل أبو سفيان بالعير ومعها سبعون رجلا منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، فكانت عيرهم ألف بعير تحمل المال، وقد خافوا خوفا شديدا حين دنوا من المدينة واستبطئوا ضمضم بن عمرو والنفير [ (4) ] ، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر، جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر- وكانوا باتوا [ (5) ] من وراء بدر آخر ليلتهم وهم على أن يصبّحوا بدرا إن لم يعترض لهم- فما انقادت لهم العير حتى ضربوها بالعقل [ (6) ] ، وهي ترجع الحنين تزاور [ (7) ] إلى ماء بدر- وما
__________
[ (1) ] في (خ) «شغلهم» .
[ (2) ] ذكره ابن قتيبة في (المعارف) ص 145 «أسماء المطعمين من قريش في غزوة بدر: العباس بن عبد المطلب، وعتبة بن ربيعة، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عديّ، وأبو البختري ابن هشام، وحكيم بن حزام، والنضر بن الحارث بن كلدة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، فنزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ (من الآية 36/ الأنفال) .
[ (3) ] آية 47/ الأنفال، وفي (خ) وَرِئاءَ النَّاسِ الآية.
[ (4) ] النفير: القوم ينفرون للقتال. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 940.
[ (5) ] في (خ) «بتوا» .
[ (6) ] في (خ) «العفل» والتصويب من (المغازي) ج 1 ص 40 والعقل: جمع عقال، وهو الرباط الّذي تربط به قوائم الدابة.
[ (7) ] في (خ) «تزاودا» ولعل الصواب ما أثبتناه. وتزاور: أي تميل بأعناقها وتعدل.(1/89)
بها إلى الماء حاجة، لقد شربت بالأمس- وجعل أهل العير يقولون: هذا شيء ما صنعته معنا منذ خرجنا، وغشيتهم تلك الليلة الظلمة حتى ما يبصر أحد منهم شيئا. فأصبح أبو سفيان ببدر قد تقدم العير وهو خائف من الرصد، فضرب وجه عيره فساحل بها [ (1) ] ، وترك بدرا يسارا وانطلق سريعا، وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل، يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزر. وهمّ عتبة وشيبة أن يرجعا ثم مضيا وقد عنفهما أبو جهل.
رؤيا جهيم بن الصلت
فلما كانوا بالجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف في منامه رجلا أقبل على فرس معه [ (2) ] بعير حتى وقف عليه فقال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأبو البختري، وأبو الحكم، ونوفل بن خويلد، في رجال سماهم. وأسر سهيل بن عمرو، وفرّ الحارث بن هشام، وقائل يقول: واللَّه إني لأظنكم [ (3) ] إلى مصارعكم، ثم رآه كأنه ضرب في لبّة [ (4) ] بعيره فأرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه بعض دمه.
فشاعت هذه الرؤيا في العسكر، فقال أبو جهل: هذا نبيّ آخر من بني المطلب: سيعلم غدا من المقتول، نحن أو محمدا وأصحابه.
نجاة عير قريش وإصرار النفير على البقاء ببدر
وأتاهم قيس بن امرئ القيس من أبي سفيان يأمرهم بالرجوع، ويخبرهم أن قد نجت عيرهم: فلا تجزروا [ (5) ] أنفسكم أهل يثرب، فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك، إنما خرجتم لتمنعوا العير وأموالكم، وقد نجاها اللَّه. فعالج قريشا فأبت الرجوع وردوا القيان من الجحفة. وقال أبو جهل: لا واللَّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم
__________
[ () ] قال تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ من الآية 17/ الكهف. أي تميل.
[ (1) ] أي قصد بها الساحل.
[ (2) ] في (ط) «ومعه» .
[ (3) ] في (خ) «لا أظنكم» .
[ (4) ] اللبة من عنق البعير فوق صدره ومنها يذبح.
[ (5) ] أي لا تجعلوا أنفسكم ذبائح لأهل مكة.(1/90)
ثلاثا، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا. وعاد قيس إلى أبي سفيان وقد بلغ الهدّة [ (1) ]- على تسعة أميال من عقبة عسفان- فأخبره بمضي قريش، فقال: وا قوماه!! هذا عمل عمرو ابن هشام [يعني أبا جهل] [ (2) ] ، كره أن يرجع لأنه ترأس على الناس فبغى، والبغي منقصة وشؤم، إن أصاب محمد النفير ذللنا.
رجوع الأخنس ببني زهرة عن بدر
ورجع الأخنس بن شريق [واسمه أبي بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج ابن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة] ببني زهرة من الأبواء [ (3) ]- وكانوا نحو المائة وقيل ثلاثمائة- فلم يشهد بدرا أحد من بني زهرة إلا رجلان هما عمّا مسلم ابن شهاب بن عبد اللَّه [ (4) ] وقتلا كافرين، ويقال: إن الأخنس بن شريق خلا بأبي جهل لما تراءى الجمعان فقال: أترى محمدا يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على اللَّه وقد كنا نسميه الأمين لأنه ما كذب قط! ولكن إذا كانت في عبد مناف السقاية والرفادة والمشورة، ثم تكون فيهم النبوة، فأي شيء بقي لنا؟ فحينئذ انخنس الأخنس ببني زهرة [ (5) ] ورجعت بنو عدي قبل ذلك من مرّ الظهران.
الهاتف بمكة بنصر المسلمين
وذكر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل أن قريشا حين توجهت إلى بدر مرّ هاتف من الجن على مكة في اليوم الّذي أوقع بهم المسلمون وهو ينشد بأنفذ صوت ولا يرى شخصه [ (6) ] :
__________
[ (1) ] الهدّة بالتشديد: موضع بين مكة والطائف (معجم البلدان) ج 5 ص 395.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] كذا في (خ) والصواب أنهم رجعوا من الجحفة. راجع (تاريخ الطبري) ج 2 ص 438 و (ابن سعد) ج 2 ص 14، ولم يذكر من الأبواء إلا (الواقدي في المغازي) ج 1 ص 45.
[ (4) ] يقول ابن قتيبة في (المعارف) ص 153: «وكان قوم من زهرة» قد خرجوا، فقام «الأخنس بن شريق الثقفي» فيهم- وكان حليفا لهم- فأشار عليهم بالرجوع، فرجعوا ولم يشهد بدرا منهم أحد» .
[ (5) ] في (خ) «بني زهرة» وانخنس: تأخر مستخفيا فرجع.
[ (6) ] هذه الأبيات في (المغازي للواقدي) ج 1 ص 119 على هذا النحو:(1/91)
أزار الحنفيون بدرا وقيعة ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤيّ وأبرزت ... خرائد يضربن الترائب حسّرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
فقال قائلهم: من الحنفيون؟ فقال: هم محمد وأصحابه، يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف، ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين.
خبر الأعرابي بعرق الظّبية
وأصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صبيحة أربع عشرة بعرق الظبية [ (1) ] فجاء من تهامة أعرابي فسئل عن أبي سفيان فقال: ما لي به علم، فقالوا له: تعال سلّم على رسول اللَّه، قال: وفيكم رسول اللَّه؟ قالوا: نعم، قال: فأيكم هو؟ قالوا: هذا،
قال: أنت رسول اللَّه؟ قال: نعم،
قال: فما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا؟
فقال سلمة بن سلامة بن وقش: نكحتها فهي حبلى منك، فكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقالته وأعرض عنه. ثم سار صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من رمضان، فصلى عند بئر الروحاء، ولما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة.
دعاؤه على أبي جهل وزمعة
وقال: اللَّهمّ لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللَّهمّ لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللَّهمّ وأسخن عين أبي زمعة بزمعة، اللَّهمّ وأعم بصر أبي زمعة، اللَّهمّ لا تفلتن سهيلا، اللَّهمّ أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين.
__________
[ () ]
أزار الحنفيون بدرا مصيبة ... سينقض منها ركن كسرا وقيصرا
أرنت له صمّ الجبال وأفزعت ... قبائل ما بين الوتير وخيبرا
أجازت جبال الأخشبين وجرّدت ... حرائر يضربن الترائب حسّرا
الوتير: موضع في ديار خزاعة (معجم ما استعجم) ص 836.
[ (1) ] عرق الظّبية: بين مكة والمدينة (معجم البلدان) ج 4 ص 108.(1/92)
خروجه وأمره بالإفطار من الصوم
واستعمل صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ورده من الروحاء، وقدم خبيب بن يساف [ (1) ] بالروحاء مسلما.
وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم فصام يوما أو يومين ثم نادى مناديه: يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا، وذلك أنه قد قال لهم قبل ذلك:
أفطروا فلم يفعلوا.
خبر العير الّذي برك
وكان رفاعة وخلّاد ابنا رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الأنصاريان، وعبيد بن زيد بن عامر بن العجلان بن عمرو يتعاقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم وأعيا،
فمر بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه برك علينا بكرنا، فدعا بماء فتمضمض وتوضأ في إناء ثم قال: افتحا فاه، ففعلا، ثم صبه في فيه [ (2) ] ، ثم على رأسه وعنقه، ثم على حاركه وسنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال: اركبا، ومضى، فلحقاه وإن بكرهم لينفر [ (3) ] بهم، حتى إذا كانوا بالمصلى راجعين من بدر برك عليهم فنحره خلاد، فقسم لحمه وتصدق به.
المشورة قبل بدر
ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فاستشار الناس، فقام أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قال: يا رسول اللَّه، إنها واللَّه قريش وعزها، واللَّه ما ذلت منذ عزت، واللَّه ما آمنت منذ كفرت، واللَّه لا تسلم عزها أبدا ولتقاتلنك، فاتهب [ (4) ] لذلك أهبته، وأعدّ لذلك عدته، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللَّه، امض لأمر اللَّه فنحن معك، واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها:
__________
[ (1) ] «يساف» و «إساف» .
[ (2) ] في فيه: في فمه.
[ (3) ] في (خ) «ليغفر بهم» .
[ (4) ] كذا في (المغازي) ج 1 ص 48 وفي (ط) «فأتهب» .
وقد أغفلت غالبية كتب السيرة مقالة عمر هذه ولم يزيدوا على قوله: «ثم قام عمر فقال فأحسن» إلا الواقدي في (المغازي) كما أثبتنا.(1/93)
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (1) ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما [ (2) ] مقاتلون، والّذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد [ (3) ] لسرنا، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيرا، ودعا له بخير.
مشورة الأنصار
ثم
قال أشيروا عليّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وكان يظنهم لا ينصرونه إلا في الدار، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه [ (4) ] مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، فقام [ (5) ] سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول اللَّه تريدنا! قال: أجل،
قال: إنك عسى أن تكون قد خرجت عن أمر قد أوحي إليك [في غيره] [ (6) ] فإنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي اللَّه لما أردت، فو الّذي بعثك بالحق لو استعرضت (بنا) [ (7) ] هذا البحر (فخضته) [ (7) ] لخضناه معك ما بقي منا رجل، وصل من شئت واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت، والّذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قط وما لي بها من علم، وما نكره أن نلقى عدونا، إنا لصبر عند الحرب، صدق [ (8) ] عند اللقاء، لعل اللَّه يريك منا بعض ما تقر به عيناك. وفي رواية [ (9) ] أن سعد بن معاذ قال: إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا يا رسول اللَّه أنك ملاق عدوا ما تخلفوا، ولكن إنما ظنوا أنها العير، نبني لك عريشا فتكون فيه ونعد عندك [ (10) ] رواحلك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا اللَّه وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا.
فقال له
__________
[ (1) ] اقتباس من الآية 24/ المائدة.
[ (2) ] في (خ) «معكم» .
[ (3) ] برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال، وقيل: بلد باليمن (معجم البلدان) ج 1 ص 399 وفي (الروض الأنف) ج 3 ص 45 «أنها مدينة بالحبشة» .
[ (4) ] في (خ) «يمنعوها» .
[ (5) ] في (خ) «فقال» .
[ (6) ] كذا في (خ) وفي (المغازي) ج 1 ص 48 وقال محقق (ط) إنه لم يعرف صوابه!!.
[ (7) ] زيادة من (ابن هشام) و (الواقدي) .
[ (8) ] جمع صدق: وهو الثابت عند اللقاء.
[ (9) ] هي رواية الواقدي، قال: «فحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد» .
[ (10) ] كذا في (خ) و (ط) و (ابن هشام) ، وفي (المغازي) : «ونعدّ لك رواحلك» .(1/94)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيرا، وقال: أو يقضي اللَّه خيرا من ذلك يا سعد!.
دلالته على مصارع المشركين يوم بدر
فلما فرغ سعد من المشورة
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سيروا على بركة اللَّه، فإن اللَّه قد وعدني إحدى الطائفتين، واللَّه لكأنّي انظر إلى مصارع القوم، ثم أراهم مصارعهم يومئذ: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فما عدا كل رجل مصرعه، فعلم القوم أنهم يلاقون القتال وأن العير تفلت، ورجوا النصر لقول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
عقد الألوية
ومن يومئذ عقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الألوية وهي ثلاثة: لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان سوداوان [ (1) ] : إحداهما مع عليّ، والأخرى مع رجل من الأنصار، وأظهر السلاح، وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود، وسار من الروحاء.
وتعجل ومعه قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر [ (2) ] بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس الظفري، ويقال: بل كان معه معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أديّ بن سعد بن على ابن أسد بن ساردة بن يزيد [ (3) ] بن جشم بن الخزرج الأنصاري، وقيل: بل كان معه عبد اللَّه بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن
__________
[ (1) ] في (خ) «سوداوتان» ، وأمر الأولوية هنا على خلاف ما في كتب السيرة، ففي (المغازي) ج 1 ص 58: «كان لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ الأعظم- لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولواء الخزرج من الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ» ، ونحوه في (تلقيح فهوم أهل الأثر) ص 51 وفي (ابن هشام) ج 2 ص 186 «قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال ابن هشام: وكان أبيض. قال ابن إسحاق: وكان أمام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رايتان سوداوان، إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار» . وفي (تلقيح الفهوم) ص 51: «وعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ الألوية، وكان لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعظم، ولواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ» .
[ (2) ] في (خ) «كعب» وهو خطأ والتصويب من (الإصابة) ج 8 ص 138 ترجمة قتادة بن النعمان برقم 707.
[ (3) ] في (خ) «زيد» وما أثبتناه من (الاستيعاب) ج 10 ص 104 ترجمة رقم 2416.(1/95)
ابن النجار المازني.
خبر سفيان الضمريّ
فلقي سفيان الضمريّ
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من الرجل؟ فقال: بل من أنتم؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأخبرنا ونخبرك، قال: وذاك بذاك؟ قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
نعم. قال: فسلوا عما شئتم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أخبرنا عن قريش، فقال:
بلغني أنهم خرجوا يوم كذا وكذا من مكة، فإن كان الّذي أخبرني صادقا فإنّهم بجنب هذا الوادي. قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأخبرنا عن محمد وأصحابه، قال:
خبرت أنهم خرجوا من يثرب يوم كذا وكذا، فإن كان الّذي أخبرني صادقا فإنّهم بجانب هذا الوادي، قال الضمريّ: فمن أنتم؟ قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن من ماء، وأشار بيده نحو العراق، فقال (الضمريّ) [ (1) ] من ماء العراق؟ ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أصحابه،
ولا يعلم واحد من الفريقين بمنزل صاحبه، بينهم قوز [ (2) ] من رمل، ومضى فلقيه بسبس وعدي بن أبي الزغباء فأخبراه خبر العير.
خبر العيون وسقاء قريش
ونزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو رضي اللَّه عنهم يتحسسون [ (3) ] على الماء، وأشار لهم إلى ظريب [ (4) ]
وقال أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الّذي يلي الظرب
[ (4) ] فوجدوا على تلك القليب [ (5) ] روايا [ (6) ] قريش فيها سقاؤهم، فأفلت عامتهم وفيهم عجير، فجاء قريشا فقال: يا آل غالب، هذا ابن أبي كبشة وأصحابه قد أخذوا سقّاءكم، فماء العسكر وكرهوا ذلك، والسماء تمطر
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح وهذه الرواية مطابقة لرواية الواقدي في (المغازي) ج 1 ص 50 خلاف ما أثبته محقق (ط) .
[ (2) ] القوز: الكثيب العالي من الرمل (المعجم الوسيط) ج 2 ص 766.
[ (3) ] في (خ) «يتجسسون» بالجيم.
[ (4) ] ظريب: تصغير ظرب: ككتف، ما نتأ من الحجارة وحدّ طرفه، أو الجبل المنبسط أو الصغير (ترتيب القاموس) ج 3 ص 120.
[ (5) ] القليب: البئر القديمة لا يعلم حافر لها.
[ (6) ] الروايا من الإبل: حوامل الماء.(1/96)
عليهم، وأخذ تلك الليلة [أبو] [ (1) ] يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتى بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يصلي فقالوا: (نحن) [ (2) ] سقّاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهم فضربوهم، فقالوا: نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، فأمسكوا عنهم.
فسلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم، ثم أقبل عليهم يسألهم، فأخبره أن قريشا خلف هذا الكثيب.
عدة المشركين يوم بدر
وأنهم ينحرون يوما عشرا ويوما تسعا، واعلموه بمن خرج من مكة،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: القوم بين الألف والتسعمائة، وقال: هذه مكة قد ألقت [إليكم] [ (3) ] أفلاذ كبدها.
المشورة في منزل الحرب
واستشار أصحابه في المنزل، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن (حرام بن) [ (4) ] كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري: انطلق بنا إلى أدنى ماء (إلى) [ (5) ] القوم فإنّي عالم بها وبقلبها [ (6) ] ، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح [ (7) ] ، ثم نبني عليها حوضا ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونغوّر [ (8) ] ما سواها من القلب.
فقال: يا حباب، أشرت بالرأي، ونهض بمن معه فنزل على القليب ببدر،
وبات تلك الليلة يصلي إلى جذم [ (9) ] شجرة هناك- وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان- وفعل ما أشار به الحباب.
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 2 ص 189.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] زيادة لا بد منها.
[ (4) ] زيادة من نسبه.
[ (5) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 15.
[ (6) ] القلب: جمع قليب.
[ (7) ] لا ينزح: لا ينفذ وفي (ابن سعد) «قد عرفت عذوبة مائه لا ينزح» ج 2 ص 15 وما أثبتناه من (خ) و (ط) وهي رواية الواقدي في (المغازي) ج 1 ص 53.
[ (8) ] نغوّر: نفسد، في (ابن سعد) ج 2 ص 15 «نعوّر» ، وفي (المغازي) ج 1 ص 53 «نغوّر» ، وفي (ط) «نعوّر» .
[ (9) ] جذم الشجرة: ما يبقى من جذعها بعد أن يقطع أعلاه.
إمتاع الأسماع ج 1- م 4(1/97)
المطر يوم بدر
وبعث اللَّه السماء، فأصاب المسلمين ما لبّد الأرض ولم يمنع من السير، وأصاب قريشا من ذلك ما لم يقدروا أن يرتحلوا منه، وإنما بينهم قوز من رمل [ (1) ] ، وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على المشركين.
النّعاس الّذي أصاب المسلمين
وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم فناموا حتى إن أحدهم [تكون] [ (2) ] ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه، واحتلم رفاعة بن رافع ابن مالك حتى اغتسل آخر الليل. وبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم عمار بن ياسر وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما فأطافا بالقوم، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورين، وأن السماء تسحّ عليهم [ (3) ] .
بناء عريش رسول اللَّه
وبني لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- لما نزل القليب- عريش من جريد. وقام سعد ابن معاذ على بابه متوشح السيف. ومشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على موضع الوقعة، وعرض على أصحابه مصارع رءوس الكفر من قريش مصرعا مصرعا، يقول: هذا مصرع فلان، و [هذا] [ (4) ] مصرع فلان، فما عدا واحد منهم مضجعه الّذي حدّ له الرسول. وعدّل صلّى اللَّه عليه وسلّم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخل صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر رضي اللَّه عنه، وأصبح ببدر يوم الجمعة السابع عشر، وقيل: الثامن عشر من رمضان قبل أن تنزل قريش، فطلعت قريش وهو يصفهم، وقد أترعوا حوضا.
ودفع رايته إلى مصعب بن عمير فتقدم حيث أمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يضعها، ووقف صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس، فنزل صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعدوة [ (5) ] الشامية، ونزلوا بالعدوة اليمانية. فجاء
__________
[ (1) ] القوز: الكثيب العالي من الرمل (المعجم الوسيط) ج 2 ص 766.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] السّحّ: الصّب والسيلان من فوق (ترتيب القاموس) ج 2 ص 527.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] العدوة: شاطئ الوادي وجانبه الصلب.(1/98)
رجل فقال: يا رسول اللَّه إني أرى أن تعلو الوادي، فإنّي أرى ريحا قد هاجت من أعلى الوادي، وإني أراها بعثت بنصرك.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد صففت صفوفي ووضعت رايتي، فلا أغير ذلك. ثم دعا ربه تعالى
فنزل عليه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (1) ] يعني بعضهم على إثر بعض.
خبر سواد بن غزية
ولما عدل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصفوف تقدم سواد بن غزية أمام الصف، فدفع النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في بطنه فقال: استو يا سواد، فقال: أوجعتني والّذي بعثك بالحق أقدني [ (2) ] ، فكشف صلّى اللَّه عليه وسلّم عن بطنه وقال: استقد، فاعتنقه وقبّله. فقال:
ما حملك على ما صنعت؟ فقال: حضر من أمر اللَّه ما قد ترى، وخشيت القتل، فأردت أن أكون آخر عهدي [ (3) ] بك [أن يمس جلدي جلدك] [ (4) ] وأن أعتنقك، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يسوّى الصفوف وكأنما يقوم بها القداح [ (5) ] .
الريح التي بعثت والملائكة
وجاءت ريح شديدة، ثم هبت ريح أشد منها، ثم هبت ريح ثالثة أشد منهما:
فكانت الأولى جبريل عليه السلام في ألف مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام في ألف عن ميمنته، والثالثة إسرافيل في ألف عن ميسرته. ويقال:
جاء جبريل في ألف من الملائكة في صور الرجال، وكان في خمسمائة من الملائكة في الميمنة، وميكائيل في خمسمائة من الميسرة، ووراءهم مدد من الملائكة لم يقاتلوا، وهم الآلاف المذكورون في سورة آل عمران [ (6) ] ، وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة. وكان الرجل يرى الملك على صورة رجل يعرفه،
__________
[ (1) ] الآية 9/ الأنفال.
[ (2) ] أقدني: أعطني القود، وهو القصاص.
[ (3) ] في (خ) «عهد» وما أثبتناه من (المغازي) ج 3 ص 271.
[ (4) ] في (تاريخ الطبري) ج 2 ص 447 «فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك» ونحوه في (البداية والنهاية) ج 3 ص 271.
[ (5) ] القداح: جمع قدح.
[ (6) ] الآيات من 123 إلى 127 آل عمران.(1/99)
وهو يثبته ويقول له: ما هم بشيء، فكر عليهم [ (1) ] ، وهذا معنى قوله تعالى:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [ (2) ] ، وفي مثل هذا قال حسان رضي اللَّه عنه:
ميكال معك وجبرئيل كلاهما ... مدد لنصرك من عزيز قادر [ (3) ]
ألوية بدر
ويقال كان على الميمنة أبو بكر رضي اللَّه عنه، والثابت أنه لم يكن على الميمنة والميسرة أحد، وكان لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأعظم- لواء المهاجرين- مع مصعب ابن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ.
ومع قريش ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز (بن عمير) [ (4) ] ، ولواء مع النضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة.
خطبته يوم بدر
وخطب صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنّي أحثكم على ما حثكم اللَّه عليه، وأنهاكم عما نهاكم عنه، فإن اللَّه عظيم شأنه، يأمر بالحق ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله، على منازلهم عنده، به يذكرون وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل الحق لا يقبل اللَّه فيه من أحد إلا ما ابتغي به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج اللَّه به الهمّ، وينجي به من الغمّ، وتدركون النجاة في الآخرة، فيكم نبي اللَّه يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع اللَّه عز وجل على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن اللَّه يقول: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [ (5) ] . انظروا الّذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته، وأعزكم [به] [ (6) ] بعد ذلة، فاستمسكوا به يرض به ربكم عنكم، وابلوا
__________
[ (1) ] الكرّ: الإقدام على العدوّ.
[ (2) ] في (خ) إلى قوله تعالى: الرُّعْبَ والآية 12/ الأنفال.
[ (3) ] في (خ) جبريل، ولم يرد ذكر هذا البيت في الأشعار التي قيلت في غزوة بدر ولا في كتب السيرة ولا في ديوان حسان بن ثابت ولا في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة عند ترجمته لحسان بن ثابت.
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ] من الآية 10/ غافر.
[ (6) ] زيادة للإيضاح.(1/100)
ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبوا وعدكم به من رحمته ومغفرته، فإن وعده حق وقوله صدق وعقابه شديد. وإنما أنا وأنتم باللَّه الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر اللَّه لي وللمسلمين.
دعاؤه على قريش
ولما رأى صلّى اللَّه عليه وسلّم قريشا تصوب من الوادي- وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوأ للقوم منزلا-
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إنك أنزلت عليّ الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين، وأنت لا تخلف الميعاد، اللَّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك [ (1) ] وتكذب رسولك، اللَّهمّ فنصرك الّذي وعدتني، اللَّهمّ أحنهم الغداة [ (2) ] .
بعثة عمر إلى قريش يعرض عليهم الرجوع
ولما نزل القوم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إليهم يقول: ارجعوا، فإنه إن يلي هذا الأمر مني غيركم، أحب إلي من أن تلوه مني، [وأن] [ (3) ] أليه من غيركم أحب [إليّ] من [أن] [ (3) ] أليه منكم، فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفا فاقبلوه، واللَّه لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف [ (4) ] ، فقال أبو جهل: واللَّه لا نرجع بعد أن أمكننا اللَّه منهم، [ولا نطلب أثرا بعد عين، ولا يعترض لعيرنا بعد هذا أبدا] [ (5) ] .
النفر الذين شربوا من الحوض
وأقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض- منهم حكيم بن حزام- فأراد المسلمون طردهم
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوهم، فوردوا الماء فشربوا، فما شرب منهم أحد إلا قتل،
إلا ما كان من حكيم بن حزام نجا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] حاده: خالفه وعصاه ونازعه.
[ (2) ] أحنهم: من أحانه اللَّه: أهلكه.
[ (3) ] زيادات يقتضيها السياق.
[ (4) ] النّصف: الإنصاف وإعطاء الحق.
[ (5) ] زيادة من (المغازي) ج 1 ص 61.
[ (6) ] في (تاريخ الطبري) ج 2 ص 441 «نجا على فرس يقال له الوجيه، وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والّذي نجاني يوم بدر» وفي (ابن هشام) ج 2 ص 93: «لا والّذي نجاني من يوم بدر» .(1/101)
بعثة عمير بن وهب لحرز المسلمين وما قاله لقريش
وبعثت قريش عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن الجمحيّ ليحرز [ (1) ] المسلمين، فلما لم ير لهم مددا ولا كمينا، رجع فقال: القوم ثلاثمائة إن زادوا [زادوا] [ (2) ] قليلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان، ثم قال: يا معشر قريش! البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ [ (3) ] إلا سيوفهم، ألا ترون خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ [ (4) ] الأفاعي، واللَّه ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منكم رجلا، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم.
فبعثوا أبا سلمة الجشمي، فأطاف على المسلمين بفرسه، ثم رجع فقال: واللَّه ما رأيت جلدا ولا عدادا ولا حلقة ولا كراعا، ولكني رأيت قوما لا يريدون أن يؤوبوا إلى أهليهم، قوما مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، زرق [ (5) ] العيون كأنها [ (6) ] الحصى تحت الحجف [ (7) ] ، فروا رأيكم.
حكيم بن حزام يؤامر قريشا على الرجوع
فمشى حكيم بن حزام في الناس ليرجعوا فوافقه عتبة بن ربيعة، وأبي أبو جهل وهبّ [ (8) ] إلى عامر الحضرميّ أخي المقتول بنخلة، وحثه على أخذه بأثر أخيه، فقام ثم حثا على استه التراب بعد ما اكتشف وصرخ: وا عمراه! فأفسد على الناس الرأي الّذي رآه عتبة ودعاهم إليه.
بدء القتال يوم بدر وأول من قتل
ثم حرّش بين الناس، وحمل فناوش المسلمين وشبت الحرب. فخرج إليه مهجع
__________
[ (1) ] في (خ) «ليجوز» ، ويحرز: بقدر العدد بالتخمين.
[ (2) ] زيادة من (ط) ورواية (الواقدي) بغير هذه الزيادة.
[ (3) ] في (خ) مطموسة، وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 16 (والمغازي) ج 1 ص 63.
[ (4) ] التلمظ: تحريك اللسان في الفم بعد الأكل والتمطق بالشفتين.
[ (5) ] في (خ) «زرق زرق» تكرار من الناسخ.
[ (6) ] في (خ) «كأنهم» .
[ (7) ] الحجف: جمع حجفة، وهي جلود يطارق بعضها ببعض حتى تغلظ فتكون درقة كالدرع.
[ (8) ] في (خ) «ووهب» .(1/102)
مولى عمر [بن الخطاب] [ (1) ] فقتله عامر، فكان مهجع أول من استشهد يوم بدر، وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة قتله حبّان بن العرقة، ويقال: عمير بن الحمام قتله خالد بن الأعلم العقيلي.
مناشدة رسول اللَّه ربه
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في العريش وأصحابه على صفوفهم، فاضطجع فغشيه نوم غلبه-
وكان قد قال: لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم [ (2) ] فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم
- فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه قد دنا القوم، وقد نالوا منا، فاستيقظ صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر
ويقول: اللَّهمّ إن تظهر على هذه العصابة يظهر الشرك ولا يقم لك دين،
وأبو بكر يقول: واللَّه لينصرنك اللَّه وليبيضن وجهك. وقال عبد اللَّه بن رواحة:
يا رسول اللَّه، إني أشير عليك- ورسول اللَّه أعظم وأعلم باللَّه من أن يشار عليه- إن اللَّه أجلّ وأعظم من أن ينشد وعده.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ابن رواحة، ألا أنشد اللَّه وعده، إن اللَّه لا يخلف الميعاد.
ولم يذكر ابن إسحاق ولا الواقدي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قاتل،
وخرّج الفريابي، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما كان يوم بدر وحضر الناس، أمّنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما كان منا أحد أقرب إلى المشركين منه، وكان أشد الناس بأسا [ (3) ] .
الأسود بن عبد الأسد: مقتله عند الحوض
فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد [ (4) ] المخزومي- حين دنا من الحوض-: أعاهد اللَّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه، فشدّ حتى دنا منه، فاستقبله حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطنّ [ (5) ] قدمه، فزحف الأسود حتى وقع في الحوض فهدمه برجله الصحيحة وشرب منه، وحمزة يتبعه
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح.
[ (2) ] كثب وأكثب: إذا دنا من القوم وقاربهم.
[ (3) ] (مسند أحمد) ج 1 ص 126.
[ (4) ] في (خ) «الأسدي» .
[ (5) ] أي ضربه ضربة سريعة بالسيف قطعت رجله، ويسمع للضربة طنين.(1/103)
فضربه في الحوض فقتله، فدنا بعضهم من بعض وخرج عتبة، وشيبة والوليد، ودعوا إلى المبارزة.
المبارزة وخروج الأنصار وكراهية رسول اللَّه ذلك ودعوته للمهاجرين
فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار فتيان وهم: معاذ ومعوّذ وعوف بنو عفراء، ويقال ثالثهم عبد اللَّه بن رواحة [ (1) ] فاستحيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكره أن يكون أول قتال- لقي فيه المسلمون المشركين- في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة [ (2) ] ببني عمه وقومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم،
وقال لهم خيرا. ثم نادى منادي المشركين: يا محمد، أخرج لنا [ (3) ] الأكفاء من قومنا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الّذي بعث به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور اللَّه.
فقام علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فمشوا إليهم [ (4) ] . وكان علي رضي اللَّه عنه معلما بصوفة بيضاء، فقال عتبة لابنه: قم يا وليد، فقام فقتله علي، ثم قام عتبة فقتله حمزة، ثم قام شيبة فقام إليه عبيدة فضربه شيبة فقطع ساقه، فكرّ حمزة وعلي فقتلا شيبة واحتملا عبيدة إلى الصف [ (5) ] فنزلت فيهما [ (6) ] هذه الآية:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُ
__________
[ (1) ] وهي رواية (الواقدي) ج 1 ص 68 إلا أنه استدرك ذلك بقوله: «والثبت عندنا أنهم بنو عفراء» .
وفي (تاريخ الطبري) ج 2 ص 445 أن ثالثهم ابن رواحة.
[ (2) ] في (المغازي) ج 1 ص 68 «لبني» .
[ (3) ] في (خ) ، (المغازي) «لنا» وفي (ط) «إلينا» .
[ (4) ] في (ابن سعد) «فمشوا إليه» ج 2 ص 17 وفي (المغازي) «فمشوا إليهم» ج 1 ص 58.
[ (5) ]
«فلما أتوا به النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول اللَّه؟ قال: بلى،
قال: لو رآني أبو طالب لعلم إننا أحق منه بقوله:
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل»
(الكامل لابن الأثير) ج 1 ص 125.
وفي (المغازي) ج 1 ص 70:
«كذبتم وبيت اللَّه نخلي محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وفي (ابن هشام) «كذبتم وبيت اللَّه نبزي محمدا» أي لا يبزي والمعنى لا يقهر.
[ (6) ] في (المغازي) ج 1 ص 70 «ونزلت هذه الآية» .(1/104)
مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [ (1) ] .
استفتاح أبي جهل
واستفتح أبو جهل يومئذ فقال: اللَّهمّ أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا يعلم، فأحنه الغداة. فأنزل اللَّه تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ (2) ] . وقال يومئذ:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سنّي
لمثل هذا ولدتني أمي [ (3) ]
إبليس يذمر المشركين ثم نكوصه على عقبيه
وتصور إبليس في صورة سراقة (بن مالك) [ (4) ] ، بن جعشم (المدلجي) [ (4) ] يذمر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس، فلما أبصر عدوّ اللَّه الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون [ (5) ] فتشبث به الحارث بن هشام وهو يرى أنه سراقة، فضرب في صدر الحارث، فسقط، وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر، [ورفع يديه وقال: يا رب، موعدك الّذي وعدتني] [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الآية 19/ الحج وفي (خ) إلى قوله تعالى فِي رَبِّهِمْ.
[ (2) ] الآية 19/ الأنفال وفي (خ) إلى قوله تعالى: [ «الفتح» ، «الآية» ] .
[ (3) ] في (البداية والنهاية) ج 3 ص 283 «ما تنقم الحرب الشموس مني» .
وفي (ابن هشام) ج 2 ص 200 «ما تنقم الحرب العوان مني» .
والحرب العوان جمع عون: الحرب الشديدة التي قوتل فيها مرة بعد أخرى، والبازل من الإبل الّذي خرج سنه فهو في ذلك يصل لذروة مرحلة الشباب.
[ (4) ] زيادة من نسبه.
[ (5) ] وذلك معنى الآية 48/ الأنفال، وهي قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ....
[ (6) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 71.(1/105)
شعار المسلمين في القتال وإعلامهم
وأقبل أبو جهل يحض المشركين على القتال بكلام كثير [ (1) ] وجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن» وشعار الخزرج «يا بني عبد اللَّه» والأوس «يا بني عبيد اللَّه» .
ويقال: كان شعار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا منصور أمت» [ (2) ]
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن الملائكة قد سوّمت فسوّموا [ (3) ] ، فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم، وكان أربعة يعلمون في الزحوف [ (4) ] ،
فكان حمزة معلما بريشة نعامة، وعلي معلما بريشة نعامة «وعليّ معلما بصوفة بيضاء، والزبير معلما بعصابة صفراء- وكان يحدّث أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر- وكان أبو دجانة معلما بعصابة حمراء.
خبر قتال الملائكة يوم بدر
وقال سهيل بن عمرو: ولقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين، يقتلون ويأسرون، وقال أبو أسيد الساعدي [بعد أن ذهب بصره] [ (5) ] ، لو كنت معكم الآن ببدر [ومعي بصري] [ (5) ] لأريتكم الشّعب الّذي خرجت منه الملائكة. وكان [ (6) ] ابن عباس يحدّث عن رجل من بني غفار حدثه، قال: أقبلت أنا وابن عم لي يوم بدر حتى أصعدنا في [ (7) ] جبل ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة [ (8) ] ، فننتهب مع من ينتهب، فبينا نحن في الجبل إذ رأيت سحابة دنت منا «فسمعت فيها حمحمة الخيل وقعقعة الحديد، وسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات، وأما
__________
[ (1) ] من هذا الكلام الكثير: «لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم فإنما كان على ميعاد من محمد وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى مديد ما نصنع بقومه» من (المغازي) ج 1 ص 71.
[ (2) ] في (ابن هشام) ج 2 ص 201
«أحد أحد» .
[ (3) ] أي اتخذوا سيما وهي العلامة، قال تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ من الآية 29/ الفتح.
[ (4) ] في (خ) «الرجوف» . والزحوف: جمع زحف وهو لقاء العدو، والقلانس: جمع قلنسوة، وهي مما يلبس في الرأس.
[ (5) ] زيادات للإيضاح.
[ (6) ] في (خ) «فكان» . وما أثبتناه من (ط) و (ابن هشام) .
[ (7) ] الخبر في (المغازي) ج 1 ص 76.
[ (8) ] الدّبرة: الهزيمة. وفي (المغازي) ج 1 ص 76 «الدائرة» .(1/106)
أنا فكدت أهلك، فتماسكت واتبعت البصر حيث تذهب السحابة، فجاءت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، ثم رجعت وليس فيها شيء مما كنت أسمع.
وقال أبو رهم الغفاريّ عن ابن عم له: بينا أنا وابن عم لي على ماء بدر- فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش- قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى معسكر محمد وأصحابه، فانطلقنا نحو المجنّبة اليسرى من أصحابه ونحن نقول: هؤلاء ربع قريش. فبينما نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا إليها، فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: أقدم حيزوم، وسمعناهم يقولون: رويدا تتامّ أخراكم. فنزلوا على ميمنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم جاءت أخرى مثل [ذلك] [ (1) ] فكانت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنظرنا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه فإذا هم الضّعف على قريش فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وحسن إسلامه.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما رئي الشيطان يوما [هو] [ (2) ] فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة- وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام- إلا ما رئي يوم بدر،
وقيل: ما رأى يوم بدر، قال: أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: هذا جبريل يسوق الريح كأنه دحية الكلبي، إني نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور.
وقال عبد الرحمن بن عوف: رأيت يوم بدر رجلين، عن يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم يليهما ثالث من خلفه، ثم ربعهما رابع أمامه. وعن صهيب: ما أدري كم يد مقطوعة أو ضربة جائفة [ (3) ] لم يدم كلمهما [ (4) ]- يوم بدر- قد رأيتها.
وعن أبي بردة بن نيار قال: جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتهم بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللَّه، أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإنّي رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه فتدهدى [ (5) ] أمامه فأخذت رأسه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذاك فلان من الملائكة.
وكان ابن عباس يقول: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وعن ابن عباس: كان الملك يتصور في صورة من
__________
[ (1) ] في (المغازي) ج 1 ص 77 «تلك» .
[ (2) ] زيادة من (المغازي) ج 1 ص 77.
[ (3) ] الجائفة: التي تبلغ الجوف.
[ (4) ] الكلم: الجرح.
[ (5) ] تدهدي: تدحرج (النهاية) ج 2 ص 143.(1/107)
يعرفون من الناس يثبتونهم فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء. وذاك قول اللَّه تبارك وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ (1) ] .
وعن حكيم بن حزام: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص [ (2) ] بجاد [ (3) ] من السماء قد سد الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيّد به محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة.
نهي الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قتل بني هاشم ورجال من قريش
ونهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عن قتل بني هاشم، فقال: من لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله.
ونهى عن قتل العباس بن عبد المطلب، ونادى مناديه:
من أسر أمّ حكيم بنت حزام فليخل سبيلها فإن رسول اللَّه قد أمنها. وكان قد أسرها رجل من الأنصار وكتفها بذؤابتها [ (4) ] فلما سمع المنادي خلى سبيلها. ونهى أيضا عن قتل أبي البختري فقتله أبو داود المازني، ويقال: قتله المجدّر بن ذياد [ (5) ] . ونهى عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل، فقتله خبيب بن يساف ولا يعرفه. ونهى عن قتل زمعة بن الأسود، فقتله ثابت بن الجذع [ (6) ] ولا يعرفه.
دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم رميه المشركين بالحصى
ولما التحم القتال كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رافعا يديه يسأل اللَّه النصر وما وعده.
وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذ من الحصا كفا فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه، اللَّهمّ ارعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم.
فانهزم أعداء اللَّه لا يلوون على شيء، وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلون ويأسرون، وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه، ما يدري أين يتوجه، والملائكة يقتلونهم، وذلك قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
__________
[ (1) ] آية 12/ الأنفال.
[ (2) ] وادي بين مكة والمدينة فيه قرى ونخل (معجم البلدان) ج 2 ص 382.
[ (3) ] البجاد: كساء مخطط (المعجم الوسيط) ج 1 ص 38.
[ (4) ] الذؤابة: الضفيرة من الشعر.
[ (5) ] في (خ) «زياد» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 80.
[ (6) ] في (خ) «الجزع» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 81.(1/108)
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ (1) ] .
أسر عقبة بن أبي معيط وقتله
وجمح بعقبة بن أبي معيط فرسه، فأخذه عبد اللَّه بن سلمة العجلانيّ. فأمر النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا،
وصدق اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في قوله لعقبة: إن وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا
. أسر أمية بن خلف
وبينا عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه يجمع أدراعا بعد أن ولّى الناس إذا أمية بن خلف وابنه عليّ، فأخذ يسوقهما أمامه إذ بصر به بلال فنادى يا معشر الأنصار، أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوت إن نجوت. فأقبلوا حتى طرح أمية على ظهره، فقطع الحباب بن المنذر أرنبة أنفه، وضربه خبيب بن يساف حتى قتله، وقتل عمار بن ياسر عليّ بن أمية بن خلف. وقتل الزبير بن العوام عبيدة ابن سعيد بن العاص، وقتل أبو دجانة عاصم بن أبي عوف بن ضبيرة [ (2) ] السهمي، وقتل عليّ رضي اللَّه عنه عبد اللَّه بن المنذر بن أبي رفاعة، وحرملة بن عمرو وهو يراهما أبا جهل. وقتل حمزة رضي اللَّه عنه أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة وهو يراهما أبا جهل، [وكان أبو جهل في مثل الحرجة (وهو الشجر الملتف) والمشركون يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه] .
قتل أبي جهل
فصمد معاذ بن الجموح إلى أبي جهل، وأبو جهل يرتجز:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سنّي
لمثل هذا ولدتني أمّي
__________
[ (1) ] الآية 17/ الأنفال، وفي (خ) إلى قوله تعالى: رَمى *.
[ (2) ] ويقال: ابن صبيرة، بالصاد المهملة.(1/109)
فضربه فطرح رجله من الساق، فأقبل عليه عكرمة بن أبي جهل فضربه على عاتقه فطرح يده من العاتق، وبقيت الجلدة، فوضع/ معاذ عليها رجله وتمطى (بها) [ (1) ] عليها حتى قطعها. وضربه مع معاذ معوّذ وعوف ابنا عفراء، فنفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معاذا سيف أبي جهل ودرعه.
ولما وضعت الحرب أوزارها أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يلتمس أبو جهل فوجده عبد اللَّه بن مسعود في آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وضربه فقطع رأسه وأتى به بسلبة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فسرّ به وقال: اللَّهمّ قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك.
ويقال إن معاذا ومعوّذا ابني عفراء أثبتا أبا جهل، وضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق، وقد رأي في كتفيه آثار السياط.
فوقف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على مصرع ابني عفراء فقال: يرحم اللَّه ابني عفراء، فإنّهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول اللَّه، ومن قتله معهما؟ قال: الملائكة، ودافة [ (2) ] ابن مسعود.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اكفني نوفل بن خويلد، فأسره جبار ابن صخر، ولقيه علي فقتله، فقال عليه السلام: الحمد للَّه الّذي أجاب دعوتي فيه.
وقتل علي أيضا العاص بن سعيد. وانقطع سيف عكاشة بن محصن فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عودا فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتل به حتى هزم اللَّه المشركين، فلم يزل عنده حتى هلك.
وانكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب [ (3) ] فقال: اضرب به، فإذا سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم خيبر.
فرق المسلمين
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تصافوا للقتال: من قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا،
فلما انهزم [المشركون] [ (4) ] كان الناس ثلاث فرق: فرقة قامت عند
__________
[ (1) ] زيادة يتم بها المعنى.
[ (2) ] دافه: أجهز عليه وحرّر قتله، (لسان العرب) ج 9 ص 103 مادة: دأف.
[ (3) ] العراجين: جمع عرجون، وهي شماريخ النخل، وابن طاب: ضرب من النخل بالمدينة (هامش ط) ص 92.
[ (4) ] زيادة يقتضيها السياق.(1/110)
خيمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر معه فيها، وفرقة أغارت على النهب تنهب، وفرقة طلبت العدو فأسروا وغنموا.
اختلاف المسلمين في الغنائم، وما نزل من القرآن في ذلك
وكان سعد بن معاذ ممن أقام على خيمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فقال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] :
ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الأجر ولا جبن [ (2) ] عن العدو، ولكن خفنا أن يرى [ (3) ] موضعك فتميل عليك خيل من خيل المشركين ورجال من رجالهم، وقد أقام عند خيمتك وجوه من المهاجرين والأنصار ولم يشذّ أحد منهم، والناس كثير، ومتى تعط هؤلاء لا يبقى لأصحابك شيء، والأسرى والقتلى كثير، والغنيمة قليلة.
فاختلفوا، فأنزل اللَّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ (4) ] فرجع الناس وليس لهم من الغنيمة شيء، ثم أنزل اللَّه تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ (5) ] فقسمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ويقال: لما اختلفوا في غنائم بدر أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بها أن [ (6) ] تردّ في القسمة، فلم يبق منها شيء إلا ردّ، فظن أهل الشجاعة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخصهم بها دون أهل الضعف، [ (7) ] ثم أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تقسم بينهم على سواء
فقال سعد: يا رسول اللَّه، أتعطي فارس القوم الّذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟
ونادى مناديه: من قتل قتيلا فله سلبه، وأمر بما وجد في العسكر وما أخذوا بغير قتال فقسمه بينهم، ويقال: أمر أن تردّ الأسرى والأسلاب وما أخذوا في المغنم، ثم أقرع بينهم، في الأسرى وقسم الأسلاب التي ينفل [ (8) ] الرجل نفسه في المبارزة، وما أخذوه من العسكر قسمه بينهم. والثبت من هذا: أن كل ما جعله لهم فإنه سلّمه لهم، وما لم يجعل قسمه بينهم.
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] في (خ) «جنبا» ولعلها «زهادة في الأجر ولا جبنا» .
[ (3) ] أي يخلو ممن يحرسه.
[ (4) ] أول سورة الأنفال.
[ (5) ] الآية 41/ الأنفال.
[ (6) ] في (خ) «بأن» .
[ (7) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 100.
[ (8) ] في (الواقدي) «نفّل» وفي (خ) «لفتل» .(1/111)
جمع الغنائم وقدرها وقسمتها
وجمعت الغنائم واستعمل عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن كعب بن عمرو المازنيّ وقسمها بسير [ (1) ] ، وقيل: بل استعمل عليها خبّاب بن الأرتّ، وكان فيها إبل ومتاع وأنطاع [ (2) ] وثياب، وكانت السّهمان على ثلاثمائة وسبعة عشر سهما، والرجال ثلاثمائة وثلاثة عشر، والخيل فرسان لهم أربعة أسهم، وثمانية نفر لم يحضروا ضرب لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم بسهامهم وأجورهم: ثلاثة من المهاجرين وهم: عثمان بن عفان- خلّفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ابنته رقية فماتت يوم قدم زيد بن حارثة- وطلحة ابن عبيد اللَّه وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بعثهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتحسسان العير تلقاء [ (3) ] الحوراء، ومن الأنصار أبو لبابة بن عبد المنذر خلفه على المدينة، وعاصم بن عديّ، خلّفه على قباء وأهل العالية، والحارث بن حاطب أمره بأمر في بني عمرو بن عوف، وخوّات بن جبير كسر بالروحاء [ (4) ] ، والحارث بن الصّمّة كسر بالروحاء. وروي أن سعد بن عبادة ضرب له بسهمه [ (5) ] وأجره، وضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه وأجره، وضرب لرجل من الأنصار، ولرجل آخر، وهؤلاء الأربعة لم يجمع عليهم [ (6) ] ، وضرب أيضا لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر.
وكانت الإبل التي أصابوا مائة بعير وخمسين بعيرا، وكان معهم أدم كثير [ (7) ] حملوه للتجارة فغنمه المسلمون، وأصابوا قطيفة حمراء [ (8) ] وكانت الخيل التي غنمت عشرة أفراس، وأصابوا سلاحا وظهرا وجمل أبي جهل فصار للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يزل
__________
[ (1) ] سير: بفتح أوله وثانيه: كثيب بين المدينة وبدر (معجم البلدان) ج 3 ص 296.
[ (2) ] جمع نطع: بساط من الجلد (المعجم الوسيط) ج 2 ص 930.
[ (3) ] في (المغازي) ج 1 ص 101 «بلغا الحوراء» «وراء ذي المروة بينها وبينها ليلتان على الساحل، وبين ذي المروة والمدينة ثمانية برد أو أكثر قليلا» .
[ (4) ] الروحاء، «من عمل الفرع على نحو من أربعين يوما» (معجم البلدان) ج 3 ص 76.
[ (5) ] (المغازي) ج 1 ص 101: «و
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم حين فرغ من القتال ببدر: لئن لم يكن شهدها سعد بن عبادة، لقد كان فيها راغبا» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «وهؤلاء الأربعة ليس بمجتمع عليهم كاجتماعهم على الثمانية» .
[ (7) ] الطعام خلطة بالإدام (المعجم الوسيط) ج 1 ص 10.
[ (8) ] في (المغازي) ج 1 ص 102 «فقال بعضهم: ما لنا لا نرى القطيفة؟ ما نرى رسول اللَّه إلا أخذها.
فأنزل اللَّه عز وجلّ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ إلى آخر الآية 16/ آل عمران.(1/112)
عنده يضرب في إبله ويغزو [ (1) ] عليه حتى ساقه في هدي [ (2) ] الحديبيّة. وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صفيّ [ (3) ] من الغنيمة قبل أن يقسم منها شيء، فتنفّل سيفه ذا الفقار وكان لمنبّه بن الحجاج. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم قد غزا إلى بدر بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب، ودرعه ذات الفضول وأحذى [ (4) ] مماليك حضروا بدرا ولم يسهم لهم، وهم ثلاثة: غلام لحاطب بن أبي بلتعة، وغلام لعبد الرحمن بن عوف، وغلام لسعد بن معاذ، ويقال: شهد بدرا من الموالي عشرون رجلا. واستعمل صلّى اللَّه عليه وسلّم شقران غلامه على الأسرى فأحذوه من كل أسير، ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم.
أسر سهيل بن عمرو وفراره ثم يأسره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأسر سهيل بن عمرو ففرّ بالروحاء من مالك بن الدخشم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من وجده فليقتله،
فوجده النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يقتله، وأمر فربطت يداه إلى عنقه ثم قرنه إلى راحلته فلم يركب خطوة حتى قدم المدينة.
وأسر أبو بردة بن نيار رجلا يقال له معبد بن وهب من بني سعد بن ليث [ (5) ] ، فلقيه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قبل أن يتفرق الناس فقال: أترون يا عمر أنكم قد غلبتم!! كلا واللات والعزى. فقال عمر: عباد اللَّه المسلمين!! أتتكلم وأنت أسير في أيدينا! ثم أخذه من أبي بردة فضرب عنقه، ويقال: إن أبا بردة قتله.
أمر الأسرى يوم بدر
ولما أتي بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا
__________
[ (1) ] في (خ) «يغزا» .
[ (2) ] الهدي: ما أهدي إلى بيت اللَّه الحرام لينحر.
[ (3) ] الصفيّ: ما يصطفيه الرئيس من الغنيمة قبل قسمتها (المعجم الوسيط) ج 1 ص 518.
[ (4) ] في (خ) «واحدا» وأحذاه: أعطاه (المعجم الوسيط) ج 1 ص 163.
[ (5) ] كذا في (خ) وفي (المغازي) ج 1 ص 105 (وما أثبتناه) ، وفي (ابن هشام) ج 2 ص 256 «قال ابن إسحاق: ومعبد بن وهب، حليف لهم من بني كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث» .(1/113)
عمرو، كأنه شقّ عليك الأسرى أن يؤسروا؟
فقال: نعم يا رسول اللَّه، كانت أول وقعة التقينا فيها والمشركون، فأحببت أن يذلهم اللَّه، وأن نثخن فيهم القتل.
قتل النضر بن الحارث
وأسر المقداد بن الأسود النضر بن الحارث، فعرض على رسول اللَّه بالأثيل [ (1) ] ، وقد سار من بدر فقتله علي رضي اللَّه عنه بالسيف صبرا. وأسر عمرو ابن أبي سفيان بن حرب، فقيل لأبي سفيان: ألا تفدي عمرا! فقال: حنظلة قتل وأفتدي [ (2) ] عمرا، فأصاب بمالي وولدي؟ لا أفعل، ولكن أنتظر حتى أصيب منهم رجلا فأفديه.
أسر المشركين سعد بن النعمان
فأصاب سعد بن النعمان [بن زيد] [ (3) ] بن أكّال أحد بني عمرو بن عوف جاء معتمرا، فلما قضى عمرته صدر- وكان معه المنذر بن عمرو- فطلبهما [ (4) ] أبو سفيان فأدرك سعدا فأسره وفاته المنذر. ففي ذلك يقول ضرار بن الخطاب:
تداركت سعدا عنوة فأسرته ... وكان شفاء لو تداركت منذرا
وقال في ذلك أبو سفيان:
أرهط ابن أكّال أجيبوا دعاءه ... تفاقدتم، لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو بن عوف أذلة ... لئن لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا [ (5) ]
ففادوه سعدا بابنه عمرو.
__________
[ (1) ] الأثيل: موضع قرب المدينة، وهناك عين ماء لجعفر بن أبي طالب بين بدر ووادي الصفراء (معجم البلدان) ج 1 ص 94.
[ (2) ] في (خ) «وأقتديه» .
[ (3) ] زيادة من نسبه.
[ (4) ] في (خ) «فطلبهم» .
[ (5) ] هذان البيتان في (ابن هشام) ج 2 ص 213 وفي (ابن الأثير) ج 2 ص 133 هكذا:
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة ... لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا(1/114)
مقالة عمر في سهيل بن عمرو
ولما أسر سهيل بن عمرو قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه، انزع ثنيته يدلع [ (1) ] لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا أمثّل به فيمثّل اللَّه بي وإن كنت نبيا، ولعله يقوم مقاما لا تكرهه،
فقام سهيل بن عمرو حين جاءه وفاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بخطبة أبي بكر رضي اللَّه عنه بمكة كأنه كان سمعها،
فقال عمر رضي اللَّه عنه حين بلغه كلام سهيل: أشهد أنك رسول اللَّه! يريد قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لعله يقوم مقاما لا تكرهه.
تخيير رسول اللَّه في أمر الأسرى
وكان علي رضي اللَّه عنه يقول: أتى جبريل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر فخيره في الأسرى أن تضرب أعناقهم أو يؤخذ منهم الفداء. ويستشهد منهم في قابل عدتهم، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه [ (2) ] فقال ما أعلمه جبريل، فقالوا: بل نأخذ الفدية نستعين بها ويستشهد منا فيدخل الجنة. فقبل منهم الفداء وقتل منهم عدتهم بأحد. ولما حبس الأسرى بعثوا إلى أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما ليكلما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمرهم، فأخذ أبو بكر يكلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيهم، ويليّن أن يمنّ عليهم أو يفاديهم، وأخذ عمر يحث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ضرب أعناقهم، فقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم الفداء وأمّن أبا عزّة عمرو بن عبد اللَّه بن عثمان [ (3) ] الجمحيّ الشاعر وأعتقه بعد ما أعطى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ألا يقاتله ولا يكثّر عليه أبدا.
طرح قتلى بدر في القلب
وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقلب فعوّرت [ (4) ] وطرحت القتلى فيها إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمّنا فانتفخ، ولما أرادوا أن يلقوه تزايل [لحمه فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اتركوه] [ (5) ] .
__________
[ (1) ] دلع اللسان دلوعا: خرج من الفم واسترخى (المعجم الوسيط) ج 1 ص 293.
[ (2) ] في (ط) «وأصحابه» .
[ (3) ] في (خ) «عمر بن عبد اللَّه بن عمير» . وفي (المغازي) ج 1 ص 110 «أبا عزّة عمرو بن عبد اللَّه بن عمير الجمحيّ» .
[ (4) ] في المرجع السابق «أن نغور» .
[ (5) ] زيادة من المرجع السابق، وتزايل: تفكك لحمه وتفرق.(1/115)
موقف رسول اللَّه على قتلى بدر وما قاله
ثم
وقف عليهم فناداهم: يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعدكم [ (1) ] ربكم حقا فإنّي قد وجدت ما وعدني ربي حقا؟ بئس القوم كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس! قالوا [ (2) ] : يا رسول اللَّه تنادي قوما قد ماتوا! قال: قد علموا أن ما وعدهم ربّهم حق.
وقال السدّي عن مقسم عن ابن عباس: وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على قتلى بدر فقال: جزاكم للَّه عني من عصابة شرا، فقد خوّنتموني [ (3) ] أمينا وكذبتموني صادقا. ثم التفت إلى أبي جهل فقال: هذا أعتى على اللَّه من فرعون، إن فرعون لما أيقن [ (4) ] بالهلكة وحّد اللَّه، وإن هذا لما أيقن بالهلكة دعا باللات والعزّى.
وكان انهزام القوم حين زالت الشمس، فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببدر وأمر عبد اللَّه بن كعب ببعض الغنائم وحملها، وندب نفرا من أصحابه أن يعينوه، ثم صلى العصر وراح فمرّ بالأثيّل [ (5) ] قبل غروب الشمس فنزل وبات به. وكان ذكوان بن عبد قيس [ (6) ] يحرس المسلمين تلك الليلة حتى كان آخر الليل ارتحل. فلما كان بعرق الظّبية أمر عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح فضرب عنق عقبة بن أبي معيط، ويقال: بل أمر عليّ بن أبي طالب فضرب عنقه، والأول أشهر.
قسمة الغنائم
ولما نزل بسير وهو شعب بالصّفراء قسم الغنائم بين أصحابه، وتنفلّ سيفه ذا الفقار وكان لمنبّه بن الحجّاج فكان صفيّه، وأخذ سهمه مع المسلمين وفيه جمل أبي جهل. وكان مهريا [ (7) ] ، فكان يغزو عليه ويضرب في لقاحه.
__________
[ (1) ] في (خ) «ما وعد» .
[ (2) ] في (خ) «قال» ، وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 112.
[ (3) ] في (خ) «خرنتموني» وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] في (خ) «لمالها» .
[ (5) ] يقول (الواقدي) ج 1 ص 117: «الأثيل واد طوله ثلاثة أميال وبينه وبين بدر ميلان، فكأنه بات على أربعة أميال من بدر» .
[ (6) ] في (خ) «ذكوان بن قيس» والتصويب من المرجع السابق.
[ (7) ] نسبة إلى مهرة بن حيوان، وهم قبيلة عظيمة تنسب إليها الإبل (هامش ط) ص 98.(1/116)
وبالصفراء مات عبيدة بن الحارث رضي اللَّه عنه. واستقبل طلحة وسعيد بن زيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتربان [ (1) ] [فيما بين ملل والسيالة] وهو منحدر من بدر يريد المدينة.
بشرى أهل المدينة بنصر رسول اللَّه
وقدم زيد بن حارثة وعبد اللَّه بن رواحة من الأثيل إلى المدينة فجاء يوم الأحد شدّ [ (2) ] الضحى فنادى عبد اللَّه: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول اللَّه وقتل المشركين وأسرهم، ثم اتّبع دور الأنصار فبشرهم. وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القصواء يبشر أهل المدينة فلم يصدق المنافقون ذلك وشنّعوا، وقدم شقران بالأسرى وهم في الأصل سبعون. وتلقى الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرّوحاء يهنئونه بفتح اللَّه، فقدم المدينة صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤيدا مظفّرا منصورا قد أعلى اللَّه كلمته ومكّن له وأعزّ نصره، ودخلها من ثنية الوداع في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان فتلقاه الولائد بالدفوف وهنّ يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا للَّه داع
إسلام المنافقين
فأذلّ اللَّه بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين واليهود، فلم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضع عنقه.
وأسلم حينئذ بشر كثير من أهل المدينة، ومن ثم دخل عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول [ (3) ] وجماعته من المنافقين في دين الإسلام تقيّة [ (4) ] .
نوح قريش على قتلاها
وناحت قريش على قتلاها بمكة شهرا، وجزّ النساء شعورهن، وجعل صفوان
__________
[ (1) ] في (خ) «بغرثا» .
[ (2) ] شد الضحى: حين يرتفع قبل الزوال.
[ (3) ] في (خ) «أبي بن سلول» ، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه لأن سلول جدته.
[ (4) ] في (خ) «مقيد» ، والتقية: إظهار الصلح والاتفاق وإضمار الخلاف والمعاندة حذرا أو جبنا.(1/117)
ابن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح لعمير بن وهب بن خلف بن وهب الجمحيّ- وهو المضرّب- إن قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يتحمل بدينه ويقوم بعياله، وحمله على بعير وجهّزه.
خبر عمير بن وهب ومقدمه المدينة لقتل رسول اللَّه ثم إسلامه وعودته إلى مكة
فقدم عمير المدينة ودخل المسجد متقلدا سيفه يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأدخله عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: ما أقدمك يا عمير؟ قال:
قدمت في أسير عندكم تقاربونا فيه، قال: فما بال السيف؟ قال: قبحها اللَّه من سيوف، وهل أغنت من شيء؟ إنما أنسيته [ (1) ] حين نزلت وهو في رقبتي. فقال:
اصدق، ما أقدمك؟ قال: ما قدمت إلا في أسيري، قال: فما شرطت لصفوان ابن أمية في الحجر؟ ففزع عمير، قال: ماذا شرطت له؟ قال: تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك، واللَّه حائل بينك وبين ذلك. قال عمير:
أشهد أنك رسول اللَّه وأنك صادق. وأسلم، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره،
فعاد عمير إلى مكة يدعو الناس إلى الإسلام، فأسلم معه بشر كثير.
مقدم جبير بن مطعم في فداء أسرى قريش
وقد جبير بن مطعم في فداء الأسرى، وقدم أربعة عشر من قريش، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فداء الرجل أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف [درهم] [ (2) ] ، ومنهم من منّ عليه لأنه لا مال له.
خبر زينب بنت رسول اللَّه في فداء زوجها
وبعثت زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بقلادة لها كانت لخديجة رضي اللَّه عنها من جزع ظفار [ (3) ]- مع أخيه عمرو بن الربيع،
__________
[ (1) ] في (خ) و (المغازي) «نسيته» .
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] الجزع: خرز فيه بياض وسواد. وظفار: بلدة باليمن. وذكر (الواقدي) ج 1 ص 130 أن هذه(1/118)
فرقّ لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا إليها متاعها فعلتم،
قالوا: نعم، فأطلقوا أبا العاص وردّوا القلادة إلى زينب. وأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب فوعده ذلك. وكان الّذي أسره عبد اللَّه بن جبير بن النعمان أخو خوّات بن جبير، وفكّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن السائب بن عبيد، وعبيد بن عمرو بن علقمة بغير فدية، وقد أسرهما سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي لأنه لا مال لهما، ولم يقدم لهما أحد.
أسرى قريش وفداؤهم بتعليم الغلمان الكتابة
وكان في الأسرى من يكتب، ولم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة، وكان منهم من لا مال له، فيقبل منه أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة ويخلي سبيله.
فيومئذ تعلّم زيد بن ثابت الكتابة في جماعة من غلمان الأنصار. خرّج [ (1) ] الإمام أحمد من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول اللَّه [ (2) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، قال: فجاء غلام يبكي إلى أبيه [ (3) ] فقال ما شأنك؟ قال ضربني معلمي، قال: الخبيث!! يطلب بذحل [ (4) ] بدر، واللَّه لا تأتيه أبدا. وقال عامر الشعبي:
كان فداء الأسرى [من] [ (5) ] أهل بدر أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت [ممن] [ (5) ] علّم.
عدة من استشهد يوم بدر
واستشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون، وقيل: أربعة وسبعون أحصي
__________
[ () ] القلادة كانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القلادة عرفها ورقّ لها، وذكر خديجة ورحم عليها.
[ (1) ] (المسند) ج 1 ص 247.
[ (2) ] في (خ) «النبي» ، وهذا نصّ المسند.
[ (3) ] في (خ) «قال» .
[ (4) ] في (خ) «يدخل» ، والذحل: الثأر أو العداوة والحقد (المعجم الوسيط) ج 1 ص 309.
[ (5) ] زيادة للسياق.(1/119)
منهم تسعة وأربعون أسيرا [ (1) ] .
قتل عصماء بنت مروان
وكانت عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد تحت يزيد بن زيد بن حصن الخطميّ، وكانت تؤذي رسول اللَّه وتعيب الإسلام وتحرض على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالت شعرا [ (2) ] ، فنذر عمير بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة [واسمه عبد اللَّه بن جشم بن مالك بن الأوس] الخطميّ لئن ردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر إلى المدينة ليقتلنها. فلما رجع صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر جاءها عمير ليلا حتى دخل عليها في بيتها [وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه في صدرها، فجسها بيده- وكان ضرير البصر- ونحّى الصبي عنها] [ (3) ] ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها،
وأتى فصلى الصبح مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. فلما انصرف نظر إليه وقال: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول اللَّه [قال: نصرت اللَّه ورسوله يا عمير، فقال:
هل عليّ شيء من شأنها يا رسول اللَّه؟ فقال] [ (4) ] لا ينتطح فيها عنزان. فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقال لأصحابه: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر اللَّه ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي، فقال عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه: انظروا إلى هذا الأعمى الّذي تشرّى [ (5) ] في طاعة اللَّه فقال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] : لا تقل الأعمى ولكنه البصير.
فلما رجع عمير وجد بينها في جماعة يدفنونها فقالوا: يا عمير، أنت قتلتها؟ قال: نعم، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فو الّذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم. فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، فمدح حسان عمير
__________
[ (1) ] ذكر ابن قتيبة في (المعارف) ص 155: «وعدة من قتل من المشركين يوم بدر خمسون رجلا وأسر أربعة وأربعين رجلا» .
[ (2) ] ذكر (الواقدي) هذا الشعر في (المغازي) ج 1 ص 172:
فباست بني مالك والنّبيت ... وعوف وباست بني الخزرج
أطعتم أتاويّ من غيركم ... فلا من مراد ولا مذحج
ترجونه بعد قتل الرّءوس ... كما يرتجى مرق المنضج
والأتاوي: الغريب- ومراء ومذحج: قبيلتان من قبائل اليمن.
[ (3) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 28.
[ (4) ] زيادة من (المغازي) ج 1 ص 173.
[ (5) ] تشرّى: إذا شرى (أي باع) نفسه في سبيل اللَّه.(1/120)
ابن عدي [ (1) ] ، وكان قتل عصماء لخمس بقين من رمضان فرجع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر على رأس تسعة عشر شهرا.
فرض زكاة الفطر
وقام رسول اللَّه قبل يوم الفطر بيومين خطيبا فعلّم الناس زكاة الفطر، وخرج إلى المصلى يوم الفطر فصلى بالناس صلاة الفطر والعنزة [ (2) ] بين يديه، وهي أول صلاة صلاها في يوم العيد.
قتل أبي عفك اليهودي
ثم كان قتل أبي عفك اليهودي في شوال على رأس عشرين شهرا، وكان شيخا من بني عمرو بن عوف قد بلغ عشرين ومائة سنة [ (3) ] ، وكان يحرّض على عداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يدخل في الإسلام، وقال شعرا [ (4) ] ، فنذر سالم بن عمير بن ثابت ابن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف الأنصاري أحد
__________
[ (1) ] هذه هي الأبيات من (الواقدي) ج 1 ص 174:
بني وائل وبني واقف ... وخطمة دون بني الخزرج
متى ما دعت أختكم ويحها ... بعولتها والمنايا تجي
فهزّت فتى ماجدا عرقه ... كريم المداخل والمخرج
فضرّجها من نجيع الدماء ... قبيل الصباح ولم يحرج
فأوردك اللَّه برد الجنان ... جذلان في نعمة المولج
ونجيع الدماء: ما كان إلى السواد أو دم الجوف.
[ (2) ] العنزة: عصا قصيرة في سنان ولها زج في أسفلها، وهذه العنزة كانت تحمل بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكانت للزبير بن العوام قدم بها من الحبشة فأخذها منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم (هامش ط) ص 103.
[ (3) ] في (خ) «سنة سنة» تكرار.
[ (4) ] ذكره (الواقدي) ج 1 ص 175 وهو:
قد عشت حينا وما إن أرى ... من الناس دارا ولا مجمعا
أجمّ عقولا وآتي إلي ... منيب سراعا إذا ما دعا
فسلّبهم أمرهم راكب ... حراما حلالا لشتى معا
فلو كان بالملك صدّقتكم ... وبالنصر تابعتم تبّعا(1/121)
البكاءين [ (1) ] من بني النجار ليقتلنّه أو يموت دونه، وطلب له غرة [ (2) ] ، حتى كانت ليلة صائفة- ونام (أبو عفك) [ (3) ] بالفناء في بني عمرو بن عوف- فأقبل [ (4) ] سالم فوضع السيف على كبده فقتله.
غزوة بني قينقاع وإجلاؤهم
ثم كان إجلاء بني قينقاع [ (5) ]- أحد طوائف اليهود بالمدينة- في شوال بعد بدر، وقيل: في صفر سنة ثلاث، وجعلها محمد بن إسحاق بعد غزوة «قرارة الكدر» . وكان سببها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما قدم المدينة مهاجرا وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينهم كتابا، وألحق كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانا، وشرط عليهم شروطا منها: ألا يظاهروا عليه عدوا.
فلما قدم من بدر بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العهد، فجمعهم [بسوق بني قينقاع] [ (6) ] وقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يوقع اللَّه بكم مثل وقعة قريش، فو اللَّه إنكم لتعلمون أني رسول اللَّه،
فقالوا: يا محمد لا يغرنك من لقيت، إنك قهرت قوما أغمارا [ (7) ] وإنا واللَّه أصحاب الحرب، ولئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا.
سبب إجلائهم
فبينما هم على ما هم عليه- من إظهار العداوة ونبذ العهد- جاءت امرأة رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ في حليّ لها، فجاء أحد بني قينقاع فحل درعها من ورائها بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها، فاتبعه رجل من المسلمين فقتله، فاجتمع عليه بنو قينقاع وقتلوه، ونبذوا العهد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وحاربوا، وتحصنوا في حصنهم. فأنزل اللَّه تعالى:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [ (8) ]
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا أخاف [ (9) ] بني قينقاع
فسار إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم السبت
__________
[ (1) ] البكاءون: هم السبعة الذين نزل فيهم قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ الآية 92/ التوبة.
[ (2) ] في (خ) «عزة» .
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] في (خ) «أقبل» .
[ (5) ] في (خ) «قينقا» .
[ (6) ] زيادة للإيضاح.
[ (7) ] أغمار: جمع غمر، وهو الجاهل الّذي لا تجربة عنده.
[ (8) ] الآية 58/ الأنفال.
[ (9) ] في (خ) «أخافه من» .(1/122)
النصف من شوال بعد بدر ببضع وعشرين يوما، وهم سبعمائة مقاتل: منهم ثلاثمائة متدرّعون بدروع الحديد، ولم يكن لهم حصون ولا معاقل، وإنما كانوا تجارا وصاغة، وهم حلفاء لعبد اللَّه بن أبيّ بن سلول، وكانوا أشجع يهود فكانوا أول من غدر من اليهود، فحاصرهم خمس عشرة ليلة حتى نزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر بهم فربطوا، واستعمل على رباطهم وكتافهم المنذر بن قدامة السّلمي من بني غنم بن السّلم بن مالك بن الأوس، ثم خلّى عنهم بشفاعة عبد اللَّه بن أبي بن سلول، وأمرهم أن يجلوا من المدينة، فأجلاهم محمد بن مسلمة الأنصاريّ، وقيل: عبادة بن الصامت، وقبض أموالهم، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سلاحهم ثلاث قسيّ [ (1) ] وهي الكتوم والروحاء والبيضاء، وأخذ درعين: الصّغديّة وفضة، وثلاثة أسياف وثلاثة أرماح. ووجدوا في منازلهم سلاحا كثيرا وآلة الصياغة، وخمّس [ (2) ] ما أصاب منهم، وقسم ما بقي على أصحابه. وخرجوا بعد ثلاث فلحقوا بأذرعات [ (3) ] بنسائهم وذراريهم، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى هلكوا، وقال الحاكم: هذه وبني النضير واحدة وربما اشتبها على من [ (4) ] لا يتأمل.
واستخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة بني قينقاع على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، وكان أبيض، ولم تكن الرايات يومئذ.
غزوة السّويق
ثم كانت غزوة السّويق، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحد الخامس من ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا في مائتين من المهاجرين والأنصار، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، فغاب [ (5) ] خمسة أيام. وذلك أن المشركين لما رجعوا إلى مكة من بدر حرّم أبو سفيان صخر بن حرب الدّهن حتى يثأر من محمد وأصحابه بمن أصيب من قومه، فخرج في مائتي راكب، وقيل: في أربعين راكبا، فجاءوا بني النضير- في طرف المدينة- ليلا، ودخلوا على سلّام بن مشكم فسقى
__________
[ (1) ] جمع قوس.
[ (2) ] أخذ خمس الغنيمة.
[ (3) ] أذرعات: بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان (معجم البلدان) ج 1 ص 130.
[ (4) ] في (خ) «اشتبها ولا يتأمل» .
[ (5) ] في (خ) «ففات» .(1/123)
أبا سفيان خمرا وأخبره من أخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخرج [أبو سفيان] [ (1) ] سحرا، فوجد رجلا من الأنصار في حرث فقتله وأجيره- وهذا الأنصاري هو معبد بن عمرو- وحرّق بيتين بالعريض، وحرق حرثا لهم وذهب. فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمن معه في أثره، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق [ (2) ]- وهي عامة أزوادهم- يتخففون منها لسرعة سيرهم خوفا من الطلب، فجعل المسلمون يأخذونها. فسمّيت غزوة السويق لهذا.
أول عيد ضحى فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة. وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الأضحى بالمصلى، وضحى بشاة، وقيل: بشاتين، وضحّى معه ذوو اليسار. قال جابر ضحينا في بني سلمة سبع عشرة أضحية، وهو أول عيد ضحى فيه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
كتاب المعاقل والديات
وكتب صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذه السنة المعاقل [ (3) ] والديات، وكانت معلّقة بسيفه.
زواج فاطمة بنت رسول اللَّه وغزوة قرارة الكدر
ويقال: فيها بنى عليّ بفاطمة رضي اللَّه عنهما، على رأس اثنتين وعشرين شهرا ثم كانت غزوة قرارة الكدر، ويقال: قرقرة بني سليم وغطفان، خرج إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للنصف من محرم على رأس ثلاثة وعشرين شهرا، هذا قول محمد بن عمر الواقدي [ (4) ] ، وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة اثنين. وقال [ (5) ] ابن حزم:
لم يقم منصرفة من بدر بالمدينة إلا سبعة أيام، ثم خرج يريد بني سليم وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، واستخلف على المدينة عبد اللَّه بن أم مكتوم.
وذلك أنه بلغه أن بقرارة الكدر جمعا من غطفان وسليم، فأخذ عليهم الطريق فلم
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح.
[ (2) ] الجرب: جمع جراب، وهو وعاء يكون فيه الزاد، والسّويق: طعام يتخذ من الحنطة والشعير.
[ (3) ] المعاقل والديات: ما شرع اللَّه من العوض في الجنايات وغيرها.
[ (4) ] في (المغازي) ج 1 ص 182.
[ (5) ] في (خ) «ويقال» .(1/124)
يجد في المجال أحدا، فأرسل في أعلى الوادي نفرا من أصحابه واستقبلهم في بطن الوادي فوجد رعاء [ (1) ] فيها غلام يقال له يسار، فسألهم، فأخبره يسار أن الناس ارتفعوا إلى المياه، فانصرف وقد ظفر بالنّعم [ (2) ] يريد المدينة، فأدركه يسار وهو يصلي الصبح فصلى وراءه، وطابت به أنفس المسلمين لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقبله وأعتقه. وقدم المدينة، وقد غاب خمس عشرة ليلة، وأخذ خمس النعم- وكانت خمسمائة- وقسم باقيها، وقيل: بل أصاب كل رجل منهم سبعة أبعرة، وكانوا مائتي رجل، وكان قسمها بصرار على ثلاثة أميال من المدينة.
سرية قتل كعب بن الأشرف
ثم كان قتل كعب بن الأشرف اليهودي لأربع عشرة من شهر ربيع الأول على رأس خمسة عشر شهرا [ (3) ] وذلك أنه كان من بني نبهان بن طيِّئ حليفا لبني قريظة، وأمه من بني النضير، وكان عدوّا للَّه ولرسوله يهجو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، ويحرّض عليهم كفار قريش في شعره، ثم خرج إلى مكة بعد بدر فجعل يرثي [قتلى بدر ويحرّض] [ (4) ] قريشا، وعاد إلى المدينة.
سبب قتله
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اكفني ابن الأشرف بما شئت- في إعلانه الشرّ وقوله الأشعار- وقال: من لي بابن الأشرف فقد آذاني. فقال محمد بن مسلمة: أنا به يا رسول اللَّه، وأنا أقتله، قال: فافعل.
وأمره بمشاورة سعد بن معاذ، فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عباد بن بشر بن وقش بن رغبة بن زعورا ابن عبد الأشهل، وأبو نائلة سلكان بن سلامة والحارث بن أوس [بن معاذ، وأبو عبس بن جبر أحد بني حارثة] [ (5) ]
فقالوا: يا رسول اللَّه، نحن نقتله فأذن لنا فلنقل، قال: قولوا [ (6) ] .
فأتاه أبو نائلة وهو في نادي قومه- وكان هو ومحمد بن
__________
[ (1) ] جمع راع.
[ (2) ] في (خ) «بنعم» .
[ (3) ] كذا بالأصل والصواب من (المغازي) ج 1 ص 184 ومن (ابن سعد) ج 2 ص 31 «خمسة وعشرين شهرا من مهاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ] زيادة من (ابن هشام) ج 3 ص 10.
[ (6) ] قال يقول: كناية عن بعض الكذب في الحديث.(1/125)
مسلمة أخويه من الرضاعة- فتحدثا وتناشدا الأشعار حتى قام القوم، فقال له:
كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس، وضاع العيال، فقال كعب: قد كنت أحدثك بهذا أن الأمر سيصير إليه، قال أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بها فنبتاع منك طعاما وتمرا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة، واكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد، قال: لا أذكر منه حرفا، لكن اصدقني، ما الّذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه، قال:
سررتني، فماذا ترهنونني! قال الحلقة [ (1) ] ، فرضي. وقام أبو نائلة من عنده على ميعاد. فأتى أصحابه فأجمعوا أن يأتوه إذا أمسى لميعاده،
وأخبروا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فمشى معهم ووجههم من البقيع [ (2) ] ، وقال: امضوا على بركة اللَّه وعونه،
وذلك بعد أن صلوا العشاء في ليلة مقمرة مثل النهار، فأتوا ابن الأشرف فهتف به أبو نائلة- وكان حديث عهد بعرس [ (3) ]- فوثب ونزل من حصنه إليهم، فجعلوا يتحادثون ساعة، ثم مشوا قبل شرج العجوز [ (4) ] ليتحادثوا بقية ليلتهم، فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال: ما أطيب عطرك هذا!! ثم مشى ساعة وعاد لمثلها وأخذ بقرون [ (5) ] رأسه فضربه الجماعة بأسيافهم، ووضع محمد بن مسلمة مغولا [ (6) ] معه في سرة كعب حتى انتهى إلى عانته، فصاح صيحة أسمعت جميع آطام اليهود، فأشعلوا نيرانهم.
واحتز الجماعة رأس كعب واحتملوه وأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقد قام يصلي ليلته بالبقيع- فلما بلغوه كبروا فكبّر صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم قال: أفلحت الوجوه، فقالوا:
ووجهك يا رسول اللَّه. ورموا برأس كعب بين يديه، فحمد اللَّه على قتله،
وتفل على جرح الحارث بن أوس، وكان قد جرح ببعض سيوف أصحابه فبرأ من وقته.
وأصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف فقال: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه،
فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا،
__________
[ (1) ] الحلقة: السلاح عامة والدروع خاصة.
[ (2) ] بقيع الغرقد بالمدينة.
[ (3) ] يعني ابن الأشرف.
[ (4) ] شرج العجوز: موضع قرب المدينة. (معجم البلدان) ج 3 ص 334.
[ (5) ] ضفائر رأسه.
[ (6) ] سيف دقيق قصير ماض يكون في جرف سوط يشده القاتل على وسطه ليغتال به الناس.(1/126)
(وخافوا أن يبيّتوا كما بيت ابن الأشرف) [ (1) ] .
مقتل ابن سنينة
وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة حليفا لحويصّة بن مسعود [قد أسلم] [ (2) ] ، فعدا [أخوه] [ (3) ] محيّصة [بن مسعود] [ (4) ] على ابن سنينة فقتله، فجعل أخوه حويّصة يضربه ويقول: أي عدو اللَّه أقتلته!! أما واللَّه لربّ شحم في بطنك من ماله، فقال محيصة: [فقلت [ (5) ]] واللَّه لو أمرني بقتلك الّذي أمرني بقتله لقتلتك [قال: أو اللَّه لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، واللَّه لو أمرني بضرب عنقك لضربتها، قال: واللَّه إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويّصة] [ (6) ] .
فجاءت يهود إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يشكون ذلك [ (7) ] ، فقال: إنه لو فر كما فرّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف.
ودعاهم أن يكتب [بينه و] [ (8) ] بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينهم وبينه كتابا. وحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف.
غزوة ذي أمر بنجد
ثم كانت غزوة ذي أمر [ (9) ] بنجد، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في يوم الخميس
__________
[ (1) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 190.
[ (2) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ] زيادة من ابن هشام ج 3 ص 13.
[ (6) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 191، 192 وزاد: «فأسلم حويصة يومئذ، فقال محيّصة- وهي ثبت، لم أر أحدا يدفعها- يقول:
يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله ... لطبقت ذفراه بأبيض قاضب
حسام كلون الملح أخلص صقله ... متى ما تصوبه فليس بكاذب
وما سرّني أنّي قتلتك طائعا ... ولو أن لي ما بين بصرى ومأرب
«والذفرى: عظم ناتئ خلف الأذن» .
[ (7) ] يعني في قتل ابن الأشرف، وفي (خ) «يشكو» .
[ (8) ] زيادة للسياق.
[ (9) ] في (خ) «ذي أمو» .(1/127)
الثامن عشر من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا في قول الواقدي [ (1) ] ، وذكر ابن إسحاق أنها كانت في المحرم سنة ثلاث، ومعه أربعمائة وخمسون، فيهم عدّة أفراس. واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه. وذلك أنه بلغه أن جمعا- من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وبني محارب بن خصفة بن قيس- بذي أمر قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطرافه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجمعهم دعثور بن الحارث من بني محارب. فأصاب (رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم) [ (2) ] رجلا منهم بذي القصة يقال له جبار من بني ثعلبة فأسلم، وسار معهم يدلهم على عورات القوم حتى أهبطهم من كثيب، فهربت الأعراب فوق الجبال، فنزل صلّى اللَّه عليه وسلّم ذي أمر، فأصابهم مطر كثير، فذهب صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجته فأصابه المطر فبلّ ثوبه فنزعه ونشره على شجرة ليجف واضطجع تحتها والأعراب تنظر إليه.
خبر دعثور الّذي أراد قتل رسول اللَّه
فبادر دعثور وأقبل مشتملا على السيف حتى قام على رأس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيف مشهورا وقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ قال: اللَّه. ودفع جبريل عليه السلام في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقام به على رأسه فقال:
من يمنعك مني؟ فقال: لا أحد، وأسلم،
وحلف لا يكثّر عليه جمعا أبدا ثم أدبر، فأعطاه سيفه. فأتى قومه ودعاهم إلى الإسلام، وفيه نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ (3) ] . وعاد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة فكانت غيبته أحد عشرة ليلة.
زواج أم كلثوم بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وفي ربيع الأول هذا تزوج عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه بأم كلثوم بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودخل بها في جمادى الآخرة، رضي اللَّه عنها.
__________
[ (1) ] (المغازي) ج 1 ص 193 (وتلقيح الفهوم) ص 54 وذكر (الطبري) في تاريخه ج 2 ص 487 «وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفرا كلّه أو قريبا من ذلك» ذكر هذا في أحداث السنة الثالثة من الهجرة.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] الآية 11/ المائدة، وفي (خ) «عنكم الآية» .(1/128)
غزوة بني سليم بالفرع
ثم كانت غزوة بني سليم ببحران [ (1) ] من ناحية الفرع، خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم في السادس من جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا في ثلاثمائة رجل، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يظهر وجها، فأغذ [ (2) ] السير، حتى إذا كان دون بحران [ (1) ] بليلة لقي رجلا من بني سليم فأخبره أن القوم افترقوا، فحبسه مع رجل وسار حتى ورد بحران [ (1) ] وليس بها أحد، فأقام أياما ورجع ولم يلق كيدا، وأرسل [ (3) ] الرجل. فكانت غيبته عشر ليالي [ (4) ] .
سرية زيد بن حارثة إلى القردة
ثم كانت سرية زيد بن حارثة إلى القردة [ (5) ]- وهي أول سرية خرج زيد (ابن حارثة) [ (6) ] فيها أميرا، سار لهلال جمادى الآخرة على رأس سبعة وعشرين شهرا- يريد صفوان بن أمية وقد نكب [ (7) ] عن الطريق- وسلك على جهة العراق يريد الشام بتجارة فيها أموال لقريش، خوفا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعترضها. فقدم نعيم بن مسعود الأشجعي على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير فشرب معه، ومعهم سليط بن النعمان [ (8) ] يشرب، ولم تكن الخمر قد حرّمت، فذكر نعيم خروج صفوان في عيره وما معهم من الأموال، فخرج (سليط) [ (9) ] من ساعته وأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فأصابوا العير وأفلت أعيان القوم. فقدموا بالعير فخمسها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبلغ الخمس عشرين ألف
__________
[ (1) ] في (خ) «نجران» في كل المواضع.
[ (2) ] في (خ) «أغد» وأغذّ السير: أسرع.
[ (3) ] أرسله: أطلقه.
[ (4) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ليال ج 1 ص 197.
[ (5) ] القردة: بالتحريك، ماء أسفل مياه الثلبوت بنجد في الرّمّة لبني نعامة (معجم البلدان) ج 4 ص 333.
[ (6) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 197، ومن (الطبري) ج 2 ص 492.
[ (7) ] نكب: عدل.
[ (8) ] زعم محقق (ط) أنه لم يجد «سليط بن النعمان» هذا في الصحابة، وأنه لم يجد الخبر!! ونقول:
هذا الخبر بتمامه في: (المغازي للواقدي) ج 1 ص 198- 199، و (البداية والنهاية لابن كثير) ج 4 ص 4- 5.
[ (9) ] زيادة للإيضاح.
إمتاع الأسماع ج 1 م 5.(1/129)
درهم، وقسم ما بقي على أهل السرية، وكان فيمن أسر فرات بن حيان [ (1) ] فأسلم.
زواج حفصة أم المؤمنين
وفي شعبان من هذه السنة تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما، وقال أبو عبيد: سنة اثنتين، ويقال: بعد أحد.
زواجه زينب أم المساكين
وتزوج زينب أم المساكين في رمضان قبل أحد بشهر، وفي نصف رمضان ولد الحسن بن على رضي اللَّه عنهما.
غزوة أحد
ثم كانت غزوة أحد يوم السبت لسبع خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا [ (3) ] ، وقيل: كانت لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وقيل: كانت للنصف منه، وعن مالك بن أنس: كانت بعد بدر بسنة، وعنه أيضا كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، وهي وقعة امتحن اللَّه عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميز فيها المؤمنين والمنافقين.
ما فيها من دلائل النبوة
وكان فيها من دلائل النبوة: تحقيق
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمية بن خلف: بل أنا أقتلك، فقتله،
وردّ عين قتادة إلى موضعها بعد سقوطها، غسل الملائكة لحنظلة وظهور ذلك للأنصار، فرأوا الماء يقطر من رأسه رفعا للجنابة التي كانت عليه، وما اعتراهم من النعاس مع قرب العدو منهم وذلك خلاف عادة من انهزم من عدوه،
__________
[ (1) ] [و
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين حين أعطى المؤلفة قلوبهم: «إن من الناس ناسا نكلهم إلى إيمانهم منهم الفرات بن حيان» ] (المعارف) ص 324.
[ (2) ] ذكره (الطبري) في التاريخ ج 2 ص 499 في أحداث السنة الثالثة.
[ (3) ] في رواية (الواقدي) ج 2 ص 199 (والطبري) في التاريخ ج 2 ص 499، وابن سعد في (الطبقات) ج 2 ص 36.(1/130)
واستخلف صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة ابن أم مكتوم.
سبب قتال أحد
وذلك أنه لما عاد المشركون من بدر إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة- وكذلك كانوا يصنعون- لم يحركها ولا فرّقها فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشا كثيفا لقتال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وباعوها. وكانت ألف بعير، والمال خمسون ألف دينار، وكانوا يربحون في الدينار دينارا، فأخرجوا منها أرباحهم، فنزل فيهم قول اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [ (1) ] .
بعثة قريش تستنفر العرب
وبعثوا- عمرو بن العاص وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزّبعرى، وأبا عزّة عمرو بن عبد اللَّه الجمحيّ الّذي منّ عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر- إلى العرب يستنفرونها، فألبوا العرب وجمعوها.
خروج قريش من مكة
وخرجوا من مكة ومعهم الظّعن [ (2) ]- وهن خمس عشرة امرأة- وخرج نساء مكة ومعهن الدفوف يبكين قتلى بدر وينحن عليهم. وحشدت بنو كنانة، وعقدوا ثلاثة ألوية، وخرجوا من مكة لخمس مضين من شوال في ثلاثة آلاف [رجل فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس] [ (3) ] وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة.
كتاب العباس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع رجل من بني
__________
[ (1) ] الآية 36/ الأنفال، وفي (خ) «ثم يغلبون الآية» .
[ (2) ] جمع ظعينة، وهي المرأة تكون في هودجها.
[ (3) ] ما بين القوسين في (خ) «ومائتي فرس وسبعمائة دارع» ، وقد أثبتناه بعد إعادة السياق.(1/131)
غفار يخبره بذلك، فقدم عليه وهو بقباء فقرأه عليه أبيّ بن كعب واستكتم أبيا [ (1) ] .
ونزل [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس فقال: واللَّه إني لأرجو أن يكون في ذلك خير [ (3) ] .
وقد أرجفت اليهود والمنافقون وشاع الخبر. وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر وقد فارقوا قريشا من ذي طوى، فأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر وانصرفوا.
خبر أبي عامر الفاسق
وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلا [من الأوس] [ (4) ] إلى مكة وحرّض قريشا وسار معها وهو يعدها أن قومه يؤازرونهم- واسم أبي عامر هذا عبد عمرو [ (5) ] بن صيفيّ الراهب، وكان رأس الأوس في الجاهلية، وكان مترهبا، فلما جاء الإسلام خذل فلم يدخل فيه، وجاهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعداوة فدعا عليه، فخرج من المدينة إلى مكة، وهمّت قريش وهي بالأبواء أن تنبش قبر آمنة أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم كفهم اللَّه عنه.
بث العيون
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- أنسا ومؤنسا ابني فضالة ليلة الخميس عينين، فاعترضا لقريش بالعقيق [ (6) ] ، وعادا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبراه. ونزل المشركون ظاهر المدينة يوم الأربعاء فرعت إبلهم آثار الحرث والزرع يوم الخميس ويوم الجمعة حتى لم يتركوا خضراء. وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحباب بن المنذر بن الجموح فنظر إليهم وعاد وقد حرز عددهم وما معهم،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تذكروا من شأنهم حرفا، حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، اللَّهمّ بك أجول وبك أصول.
المناوشة قبل أحد
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة فلقى عشرة أفراس طليعة فراشقهم
__________
[ (1) ] في (خ) «ابنا» .
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] في (خ) «خيرا» .
[ (4) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 205.
[ (5) ] في (خ) «عمرو بن صيني» .
[ (6) ] «والعرب تقول لكل مسيل ماء شقّه السيل في الأرض فأنهره ووسعه، عقيق وفي بلاد العرب أربعة أعقّة وهي أودية عادية شقّتها السيول» ، والمراد في هذا الخبر هو: عقيق بناحية المدينة، (معجم البلدان) ج 4 ص 138- 139.(1/132)
بالنّبل والحجارة حتى انكشفوا عنه، وعدا إلى قومه بني عبد الأشهل فأخبرهم ما لقي، وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة لست مضين من شوال عليهم السلاح في المسجد بباب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خوفا من بيات [ (1) ] المشركين، وحرست المدينة حتى أصبحوا.
رؤيا رسول اللَّه وخطبته
ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم رؤيا، فلما أصبح يوم الجمعة واجتمع الناس خطب على المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم [ (2) ] من عند ظبته [ (3) ] ، ورأيت بقرا تذبح، ورأيت كأني مردف كبشا. فقال الناس: يا رسول اللَّه، فما أولتها؟ قال:
أما الدرع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبة في نفسي، وأما البقر المذبح فقتلى في أصحابي، وأما أني مردف كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء اللَّه. وفي رواية: وأما انقصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي. وقال:
أشيروا عليّ.
اختلاف المسلمين في الخروج إلى العدو
ورأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة فواقفه عبد اللَّه بن أبيّ والأكابر من الصحابة مهاجرهم وأنصارهم، وقال عليه السلام: امكثوا في المدينة واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة- فنحن أعلم بها منهم- ورموا من فوق الصياصي والآطام [ (4) ] .
وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن، فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا، وقال حمزة وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك ابن ثعلبة، في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول اللَّه أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر
__________
[ (1) ] البيات: أن يوقعوا بالناس ليلا.
[ (2) ] انقصم: تكسر.
[ (3) ] الظبة: حد السيف من قبل ذبابه وطرفه.
[ (4) ] الصياصي: جمع صيصية وهي الحصن. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 531 والآطام: جمع أطم وهو البيت المرتفع (المرجع السابق) ج 1 ص 21.(1/133)
في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللَّه عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو اللَّه به، فساقه اللَّه إلينا في ساحتنا.
كراهية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للخروج
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرى من إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح. وقال حمزة: والّذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم [ (1) ] بسيفي خارجا من المدينة، وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما. وتكلم مالك ابن سنان والد أبي سعيد الخدريّ، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وإياس بن أوس ابن عتيك، في معنى الخروج للقتال. فلما أبوا إلا ذلك صلى [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجمعة بالناس وقد وعظهم وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص [ (3) ] إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج كثير. ثم صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي [ (4) ] ورفعوا النساء في الآطام: ودخل صلّى اللَّه عليه وسلّم بيته ومعه أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما فعمماه ولبساه. وقد صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره.
خبر ندامة المسلمين على استكراههم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم للخروج
فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا للناس: قلتم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم فيه له هوى أو رأي فأطيعوه، فبينا هم على ذلك إذ خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد لبس لأمته [ (5) ] ، ولبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها بمنطقة (من أدم) [ (6) ] من حمائل سيف، واعتم وتقلد السيف،
فقال الذين يلحون: يا رسول اللَّه، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه، انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم اللَّه فلكم
__________
[ (1) ] جالد بالسيف: ضرب بسرعة كأنه يجلد بسوط.
[ (2) ] في (خ) «صلى اللَّه» .
[ (3) ] الشخوص: الخروج.
[ (4) ] العوالي: ضيعة بينها وبين المدينة أربعة ليال (معجم البلدان) ج 4 ص 166.
[ (5) ] اللأمة: أداة الحرب ولباسها.
[ (6) ] ما بين القوسين كان في (خ) بعد قوله: «حمائل سيف» .(1/134)
النصر ما صبرتم.
ووجد مالك بن عمرو النّجّاري [ (1) ]- وقيل بل هو محرز بن عامر بن مالك ابن عدي بن عامر بن غنم بن عدي النجار، وهو قول ابن الكلبي- قد مات، ووضعوه عند موضع الجنائز فصلّى عليه.
الألوية يوم أحد
ثم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى حباب بن المنذر بن الجموح- ويقال إلى سعد بن عبادة- ودفع لواء المهاجرين إلى على بن أبي طالب، ويقال: إلى مصعب بن عمير [ (2) ] رضي اللَّه عنهم.
ثم ركب فرسه وتقلد القوس وأخذ قباءه [ (3) ] بيده. والمسلمون عليهم السلاح فيهم مائة دارع، وخرج السعدان أمامه يعدوان- سعد بن عبادة وسعد بن معاذ- والناس عن يمينه وشماله، حتى انتهى إلى رأس الثنية.
كتيبة عبد اللَّه بن أبي وحلفاؤه من يهود
[حتى إذا كان بالشيخين التفت فنظر إلى] [ (4) ] كتيبة خشناء لها زجل [ (5) ] فقال: ما هذه؟ فقالوا: هؤلاء حلفاء عبد اللَّه بن أبي بن سلول من يهود، فقال:
لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك،
ومضى فعسكر بالشيخين [ (6) ]- وهما أطمان-، والمشركون بحيث يرونه، فاستعدوا لحربه، وهمّ بنو سلمة وبنو حارثة ألا يخرجوا إلى أحد ثم خرجا.
خيل المسلمين
وكان المسلمون ألفا فيهم مائة دارع، وفرسان: أحدهما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] وهو قول (الواقدي) ج 1 ص 214.
[ (2) ] في (خ) «عمرو» .
[ (3) ] في (المغازي) ج 1 ص 215 «وأخذ قناة بيده» .
[ (4) ] في (خ) مكان ما بين القوسين «رأى» وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 99.
[ (5) ] زجل: صوت وجلبة.
[ (6) ] موضع سمّي كذلك لأن شيخا وشيخة كانا يجلسان عليه يتناجيان هناك.(1/135)
والآخر لأبي بردة بن نيار.
عرض الغلمان وردّهم عن القتال
وعرض عليه غلمان: عبد اللَّه بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب (وعمرو بن حزم) [ (1) ] ، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدريّ، (وسعد بن حبتة الأنصاري) [ (2) ] ، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج، فردّهم، ثم أجاز رافع بن خديج لأنه رام،
فقال سمرة بن جندب لزوج أمه مري بن سنان: أجاز رسول اللَّه رافع بن خديج وردّني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
تصارعا، فصرع سمرة رافعا فأجازه،
ونزل عبد اللَّه بن أبيّ ناحية.
الحرس والأدلاء
فلما فرغ العرض وغابت الشمس، أذّن بلال بالمغرب، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه، ثم أذّن بالعشاء فصلى بهم، واستعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر.
وقال حين صلى العشاء: من يحفظنا الليلة؟ فقام ذكوان بن عبد قيس فلبس درعه وأخذ درقته، فكان يطيف بالعسكر ليلته، ويقال:
بل كان يحرس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يفارقه. ونام صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى [ (3) ] كان السحر قال:
أين الأدلاء؟ من رجل يدلنا على الطريق [و] [ (4) ] يخرجنا على القوم من كثب؟
فقام أبو حثمة الحارثي، ويقال: أوس بن قيظي، ويقال: محيصة، وأبو حثمة أثبت- فقال: أنا يا رسول اللَّه.
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 3 ص 18.
[ (2) ] أغفله (الواقدي) و (ابن هشام) ، وذكر ابن سيد الناس في (عيون الأثر) ج 2 ص 6 «وسعد ابن حبته- بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق تاء التأنيث- جد أبي يوسف الفقيه وهو سعد بن بحير- بفتح الحاء الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون الياء- ابن معاوية حليف بني عمرو بن عوف» وذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) ج 4 ص 36 ترجمة رقم 923.
[ (3) ] في (الواقدي) ج 1 ص 217 «فلما كان في السحر» ، وفي (ابن هشام) «حتى إذا كان السحر» .
[ (4) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 8.(1/136)
نبوءة رسول اللَّه بسل السيوف
فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم فركب فرسه فسلك به في بني حارثة، فذبّ فرس أبي بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلّاب [ (1) ] سيفه فسل سيفه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا صاحب السيف، شم شيفك، فإنّي إخال السيوف ستسلّ فيكثر سلها [ (2) ] .
ولبس من الشيخين درعا واحدة حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعا أخرى ومغفرا وبيضة فوق المغفر، ولما نهض صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشيخين زحف المشركون على تعبئة، وقد رأس فيهم أبو سفيان صخر بن حرب لعدم أكابرهم الذين قتلوا ببدر، ووافى عليه السلام أحدا وقد حانت الصلاة وهو يرى المشركين، فأذن بلال وأقام، وصلى عليه السلام بأصحابه الصبح صفوفا.
انخزال ابن أبي ورجوعه
وانخزل [ (3) ] ابن أبيّ في كتيبة وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ حتى عاد إلى المدينة ومعه ثلاثمائة، فبقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سبعمائة، وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبي [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذلك ومن أن يستعين بمشرك.
تعبئة جيش المسلمين
وصفّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه وجعل الرماة خمسين رجلا، عليهم عبد اللَّه ابن جبير، [ويقال: بل جعل عليهم سعد بن أبي وقاص، وابن جبير أثبت] [ (5) ] ، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو
__________
[ (1) ] كلّاب السيف: المسمار أو الحلقة التي تكون في قائم السيف وتكون فيها علاقته.
[ (2) ] هذه رواية (الواقدي) ج 1 ص 218، وأما رواية (الطبري) ج 2 ص 506 فهي كما نقلها عن (ابن إسحاق) : «فذبّ فرس بذنبه، فأصاب كلاب سيف، فاستلّه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان يحب الفأل ولا يعتاف- لصاحب السيف: شم سيفك، فإنّي أرى السيوف ستسلّ اليوم» . ورواية (ابن الأثير) في (الكامل) ج 2 ص 151: «وذبّ فرس بذنبه فأصاب كلّاب سيف صاحبه، فاستله، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سيوفكم، فإنّي أرى السيوف ستسلّ اليوم» .
[ (3) ] انخزل: انقطع ثم انفرد ثم تراجع (هامش ط) وفي (المغازي) «ارتحل» .
[ (4) ] تقول: «أبى ذلك» ، «أبى من ذلك» متعديا بنفسه أو بحرف جر.
[ (5) ] ما بين القوسين في (خ) بعد قوله «الغنوي» وهذا حق موضعها.(1/137)
الغنوي [ (1) ] ، وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة.
تعبئة المشركين يوم أحد
وأقبل المشركون: على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجنّبتان مائتا فارس، وعلى الخيل صفوان بن أمية، ويقال: عمرو ابن العاص، وعلى رماتهم- وكانوا مائة- عبد اللَّه بن أبي [ (2) ] ربيعة. ودفعوا لواءهم إلى طلحة بن أبي طلحة: واسمه عبد اللَّه بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصيّ.
تسوية صفوف المسلمين
ومشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رجليه يسوي الصفوف حتى كأنما يقوّم بها القداح، إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر.
فلما استوت دفع اللواء إلى مصعب ابن عمير فتقدم به بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد
ثم قام فخطب الناس فقال: يا أيها الناس: أوصيكم بما أوصاني اللَّه في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم إنكم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الّذي عليه ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجدّ والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه [ (3) ] ، قليل من يصبر عليه إلا من عزم اللَّه له رشده، فإن اللَّه مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللَّه. وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم، وإن الاختلاف والتنازع والتثبط من أمر العجز والضعف مما لا يحب اللَّه ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس: حدد في صدري [ (4) ] أن من كان على حرام فرّق اللَّه بينه وبينه ورغب له عنه غفر اللَّه له ذنبه، ومن صلى عليّ صلى اللَّه عليه وملائكته عشرا،
__________
[ (1) ] لعله المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة، ذكره صاحب (الإصابة) ترجمة رقم 8219 ج 9 ص 285، ولم أجده في ما عندي من كتب السيرة أو الرجال باسم «الغنوي» .
[ (2) ] في (خ) «ابن ربيعة» والتصويب من (المغازي) ج 1 ص 220.
[ (3) ] في نسخة من (المغازي) : «شديد كربه» .
[ (4) ] حدد: أي قد امتنع بي ولزمني.(1/138)
ومن أحسن من مسلم أو كافر وقع أجره على اللَّه في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا، ومن استغنى عنها [ (1) ] استغنى اللَّه عنه، واللَّه غني حميد.
ما أعلم من عمل يقربكم إلى اللَّه إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا اللَّه ربكم، وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر ما عنده إلا بطاعته. قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبها [ (2) ] من الأمر لا يعلمها كثير من الناس إلا من عصم اللَّه، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أو شك أن يقع فيه، وليس ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى اللَّه محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى [ (3) ] تداعى إليه سائر الجسد [ (4) ] ، والسلام عليكم.
أول من أنشب الحرب
وأول من أنشب الحرب أبو عامر. طلع في خمسين من قومه مع عبيد قريش فنادى: يا للأوس، أنا أبو عامر، فقالوا: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق! فقال:
لقد أصاب قومي بعدي شر! فتراموا بالحجارة ساعة حتى ولّى. ودعا طلحة ابن أبي طلحة إلى البراز فبرز له علي رضي اللَّه عنه فقتله، فكبر المسلمون وسرّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتله: فإنه هو كبش الكتيبة.
نساء المشركين وغناؤهم
وكانت نساء المشركين- قبل التقاء الجمعين- أمام صفوفهم يضربن بالأكبار والدّفاف والغرابيل، ثم يرجعن فيكن في مؤخر الصف، فإذا دنا القوم بعضهم من بعض تأخر النساء وقمن خلف الصفوف: فجعلن كلما ولّى رجل حرضنه وذكرنه
__________
[ (1) ] في (خ) «استغنى عن اللَّه» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 222.
[ (2) ] في (خ) «شبهات» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 222.
[ (3) ] في (خ) «إذا اشتكى» مكررة.
[ (4) ] في (ط) «جسده» . وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 222.(1/139)
قتلاهم ببدر، ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النّمارق [ (1) ]
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سمع قولهن قال: اللَّهمّ إني بك أجول وأصول، وفيك أقاتل، حسبي اللَّه ونعم الوكيل،
ويقال: إن هندا قامت في النسوة يضربن بالدفوف وتقول:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأديار
ضربا بكل بتار
وتقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
[إلى آخره..
النمارق، جمع نمرقة بضم النون والراء، وربما كسرت النون، حكاه يعقوب: وهي الوسائد، وقد تسمى الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة، ويقال في قولها: «نحن بنات طارق» : إنما أرادت بنات الأمر الواضح المضيء كإضاءة النجم، وذلك من قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ] .
خبر قزمان
وكان قزمان [ (2) ] يعرف بالشجاعة وقد تأخر، فعيرته نساء بني ظفر فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسوي الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، فجعل يرسل نبلا كأنها الرماح، ويكت كتيت [ (3) ]
__________
[ (1) ] في (عيون الأثر) ج 2 ص 9 «ونفرش النمارق» وفي (تاريخ الطبري) ج 2 ص 510 «ونبسط النمارق» . والنمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة الصغيرة، قال تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ آية 15/ الغاشية وأضاف ابن الأثير في (الكامل) ج 1 ص 153:
«إيها بني عبد الدار ... إيها حماة الديار
ضربا بكل بتار
[ (2) ] يقول الواقدي في (المغازي) ج 1 ص 223: «وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيّره نساء بني ظفر ... إلخ» .
[ (3) ] كتّ يكتّ كتيتا: دفع من صدره صوتا شديدا يكون من شدة الغيظ. وفي اللغة: كتّت القدر كتيتا:
صوّتت عند ابتداء غليانها (المعجم الوسيط) ج 2 ص 775.(1/140)
الجمل، ثم فعل بالسيف الأفاعيل حتى قتل سبعة، وأصابته جراحة فوقع، فناداه قتادة بن النعمان، أبا الغيداق، هنيئا لك الشهادة! فقال: إني واللَّه ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلى على الحفاظ [ (1) ] أن تسير إلينا قريش حتى تطأ سعفنا [ (2) ] ، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه.
فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أهل النار، إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
خبر الرماة يوم أحد
وتقدم صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا، اللَّهمّ إني أشهدك عليهم. وأرشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم [ (3) ] على النبل.
وكان الرماة تحمي ظهور المسلمين، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فلا تقع إلا في فرس أو رجل فتولي الخيل هوارب. وشدّ المسلمون على كتائب المشركين فجعلوا يضربون حتى اختلت صفوفهم.
حملة لواء المشركين ومصارعهم
[وحمل لواءهم بعد طلحة ابنه أبو شيبة عثمان بن طلحة] [ (4) ] فحمل عليه حمزة فقتله، فحمله أخوه أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فقتله. فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله. فحمله الحارث بن طلحة فرماه عاصم فقتله. فنذرت أمهم سلافة بنت سعد بن الشّهيد- وكانت مع نساء المشركين- أن تشرب في قحف رأس عاصم الخمر، وجعلت لمن جاء به مائة من الإبل. ثم تداول حمل لوائهم عدّة، وكلهم يقتلون، وقال
__________
[ (1) ] الحفاظ: الذب عن المحارم والمنع عند الحروب (المعجم الوسيط) ج 1 ص 185 وفي (ابن هشام) ج 3 ص 34 «فو اللَّه ما قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت» .
[ (2) ] سعف النخيل، كناية عن الزرع والأرض.
[ (3) ] في (خ) «لا تقوم» . والتصويب من (الواقدي) ج 1 ص 225.
[ (4) ] كذا في (خ) وهو خطأ، وصوابه في (المغازي) ج 1 ص 226: «ثم حمل لواءهم بعد طلحة عثمان بن أبي طلحة، أبو شيبة» .(1/141)
الزبير بن بكار: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: كان لواء المشركين يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار فقتله عليّ ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه. وفي ذلك يقول الحجاج بن علاط السّلميّ ثم البهزي [بزاي] [ (1) ] :
للَّه أيّ مذبّب عن حرمة ... أعني ابن فاطمة المعمّ المخولا
جادت يداك لهم بعاجل طعنة ... فتركت طلحة للجبين مجدّلا
وشددت شدّة باسل فكشفتهم ... بالجرّ إذ يهوون أخول أخولا
وعللت سيفك بالدماء ولم تكن ... لتردّه حران [ (2) ] حتى ينهلا
قال: ثم أخذ اللواء بعد طلحة أخوه أبو سعد بن أبي طلحة فقتله سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه، ثم أخذ اللواء أخوهما عثمان بن أبي طلحة وهو أبو شيبة، فقتله حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، ثم أخذ اللواء مسافر بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله عاصم [بن ثابت] [ (3) ] بن أبي الأقلح، رماه فلما أحسّ بالموت دفع اللواء إلى أخيه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فرماه أيضا عاصم [بن ثابت [ (2) ]] ابن أبي الأقلح، فلما أحس الموت دفع اللواء إلى أخيه كلاب بن طلحة فقتله قزمان عديد [ (4) ] بني ظفر من الأنصار، ثم أخذ اللواء الحارث بن أبي طلحة فقتله قزمان،
__________
[ (1) ] ترجمته في (الإصابة) ج 2 ص 214- 216 برقم 1618.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «لتردّه في الغمد حتى ينهلا» وهذه الأبيات في ابن هشام ج 3 ص 79 على هذا النحو:
للَّه أي مذبب عن حرمة ... أعني ابن فاطمة المعم المخولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة ... تركت طليحة للجبين مجدلا
وشدت شدة باسل فكشفتهم ... بالجر إذ يهون أخول أخولا
- المذبب: الحامي.
- الحرمة: ما يجب على الإنسان أن يدافع عنه.
- ابن فاطمة: الإمام علي.
- المعم المخول: كريم الأعمام والأخوال.
- الجر: أصل الجبل.
- أخول أخولا: واحدا بعد واحد.
[ (3) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 227.
[ (4) ] يقال فلان عديد بني فلان: أي يعد فيهم وليس منهم صليبة.(1/142)
فأخذ اللواء ارطأة بن شرحبيل [ (1) ] بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فقتله مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار صاحب لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قتل مصعب بن عمير. ثم أخذ لواء المشركين أبو يزيد بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار فقتله قزمان أيضا. ثم أخذ اللواء القاسط بن شريح [ (2) ] ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فقتله قزمان أيضا. فذلك عشرة، وقيل:
سبعة من صليبتهم مشركون قتلوا يوم أحد. ثم أخذ اللواء «صؤاب» غلام لهم حبشي، فقالوا له: [لا] [ (3) ] نؤتينّ من قبلك، فقطعت يمينه فأخذ اللواء بشماله، فقطعت فالتزم القناة، وقال [ (4) ] : قضيت ما عليّ؟ قالوا: نعم، فرماه قزمان فقتله. ووقع اللواء فتفرق المشركون، فأخذت اللواء عمرة بنت علقمة الحارثية، [قال الكلبي: عمرة بنت الحارث بن الأسود بن عبد اللَّه بن عامر بن عوف بن الحارث بن عبد مناة بن كنانة] فأقامته، فتراجع المشركون فقال حسان ابن ثابت رضي اللَّه عنه، يعير بني مخزوم بالفرار، ويذكر صبر بني عبد الدار:
صلي البأس منهم إذ فررتم ... عصبة من بني قصي صميم
عمرة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع من القنا مخزوم
لم تطق حمله الزعانف منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم
وقال في صؤاب [ (5) ] :
__________
[ (1) ] كذا في (ابن سعد) ج 2 ص 41، و (الواقدي) ج 1 ص 228. وفي (ابن هشام) ج 3 ص 62 «أرطاة عبد شرحبيل» .
[ (2) ] في (خ) «القاسط ثم شرحبيل» والتصويب من (ابن هشام) ج 3 ص 62.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] في (المغازي) ج 1 ص 228 «وقال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟» .
[ (5) ] هذه الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص 372 هكذا:
فخرتم باللواء وشر فخر ... لواء حين ردّ إلى صؤاب
جعلتم فخركم فيه لعبد ... من الأم من يطا عفر التراب
حسبتهم والسفيه أخو ظنون ... وذلك ليس من أمر الصواب
بأن لقاءنا إذ حان يوم ... بمكة بيعكم حمر العياب
أقر العين إن عصبت يداه ... وما إن تعصبان على خضاب
ورواها أيضا (الطبري) ج 2 ص 513- 514 (وابن هشام) ج 3 ص 27، باختلاف يسير وقال: آخرها بيتا يروى لأبي خراش الهذلي وأنشدنيه له خلف الأحمر:(1/143)
فخرتم باللواء وشرّ فخر ... لواء حين ردّ إلى صؤاب
جعلتم فخركم فيه لعبد ... لألأم من مشى فوق التراب
وقال في إقامة الحارثية اللواء، وفي سياق الأحابيش معهم [ (1) ] :
إذا عضل [ (2) ] سيقت إلينا كأنهم ... جداية شرك معلمات الحواجب
أقمنا لهم ضربا مبيرا منكلا ... وحزناهم بالطعن من كل جانب
ولولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب [ (3) ]
وقال أبو عبيدة فيما سمع من علي:
أقمنا لكم ضربا طلخفا [ (4) ] منكّلا ... وحزناكم بالطعن من كل جانب
عصيان الرماة ودولة الحرب على المسلمين
وما ظفر اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد حتى عصوا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتنازعوا في الأمر. لقد قتل أصحاب اللواء، وانكشف المشركون منهزمين لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة، فإن المشركين لما انهزموا وتبعهم المسلمون: يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا، ووقعوا ينتهبون عسكرهم، قال بعض الرماة لبعض:
لم [ (5) ] تقيمون هاهنا في غير شيء؟ قد هزم اللَّه العدوّ وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم! فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم.
فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لكم: احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا.
فقال
__________
[ () ]
أقر العين أن عصبت يداها ... وما إن تعصبان على خضاب
في أبيات له، يعني امرأته، في غير حديث أحد.
[ (1) ] انظر الديوان ص 172.
[ (2) ] عضل: اسم قبيلة. والجداية: الصغير من ولد الظبي. شرك: موضع. انظر (ابن هشام) ج 3 هامش ص 28.
[ (3) ] الجلائب: ما يجلب إلى الأسواق ليباع فيها (المرجع السابق) .
[ (4) ] كذا في (خ) و (ط) ولعلها «طلحفا» بالحاء المهملة. والطلحف: الشديد (ترتيب القاموس) ج 3 ص 86.
[ (5) ] في (خ) «لا» .(1/144)
الآخرون: لم يرد رسول اللَّه هذا. وانطلقوا، فلم يبق منهم مع أميرهم عبد اللَّه ابن جبير إلا دون العشرة، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وكانت الريح أول النهار صبا فصارت دبورا، وبينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم، إذ دخلت الخيول تنادي فرسانها بشعارهم: يا للعزى [يا لهبل] [ (1) ] ، ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون، وكل منهم في يده أو حضنه شيء قد أخذه، فقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون في كل وجه، وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وكرّ خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل في الخيل إلى موضع الرماة، فرماهم عبد اللَّه بن جبير بمن معه حتى قتل، فجردوه ومثل به أقبح المثل [ (2) ] ، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته وخرجت حشوته [ (3) ] . وجرح عامة من كان معه، وانتقضت صفوف المسلمين.
قولهم إن محمدا قتل، وانتقاض صفوف المسلمين
ونادى إبليس عند جبل عينين [ (4) ]- وقد تصور في صورة جعال بن سراقة-: إن محمدا قد قتل: ثلاث صرخات، فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين [ (5) ] .
اختلاط الأمر على المسلمين، فيقتل بعضهم بعضا
واختلط المسلمون وصاروا يقتلون، ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون من العجلة والدّهش، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو بردة [بن نيار] [ (6) ] وما يدري، وضرب أبو زعنة [ (7) ] أبا بردة ضربتين وما يشعر والتقت أسياف المسلمين على اليمان [حسيل بن جابر] وهم لا يعرفونه حين اختلطوا، وحذيفة يقول: أبي، أبي!! حتى قتل. فقال حذيفة: يغفر اللَّه لكم وهو أرحم
__________
[ (1) ] في (خ) «إذ دخلت الخيول بالهبل تنادي فرسانها بشعارهم يا للعزى» .
[ (2) ] المثلة: التنكيل والعقوبة (المعجم الوسيط) ج 2 ص 854.
[ (3) ] الحشوة: جميع ما في البطن عدا الشحم (المرجع السابق) ج 1 ص 177.
[ (4) ] أحد جبال أحد، ويقال ليوم أحد: «يوم عينين» .
[ (5) ] الدّولة: الغلبة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 304.
[ (6) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 232.
[ (7) ] في (خ) «أبو رعنة» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 233.(1/145)
الراحمين. فزادته عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيرا، وأمر رسول اللَّه بديته أن تخرج، فتصدق حذيفة بن اليمان بديته على المسلمين. ويقال: إن الّذي أصابه عتبة بن مسعود.
وأقبل الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة!، فأقبلوا إليه عنقا [ (1) ] واحدة: لبيك داعي اللَّه!! فيضرب يومئذ جبّار بن صخر في رأسه وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم [ (2) ] فجعلوا يصيحون: أمت أمت! فكف بعضهم عن بعض، وقتل مصعب بن عمير وبيده اللواء، فقتله ابن قميئة واسمه عمرو، وقيل:
عبد اللَّه.
تفرق المسلمون ثم البشرى بسلامة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وتفرق المسلمون في كل وجه، وأصعدوا في الجبل لما نادى الشيطان: قتل محمد! فكان أول من بشرهم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سالما كعب بن مالك، فجعل يصيح ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشير إليه بإصبعه على فيه: أن اسكت. ودعا بلأمة كعب- وكانت صفراء أو بعضها- فلبسها ونزع لأمته فلبسها كعب. وقاتل كعب حتى جرح سبعة عشر جرحا لشدة قتاله. وصار أبو سفيان بن حرب يقول:
يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال ابن قميئة: أنا قتلته! قال: نسوّرك [ (3) ] كما تفعل الأعاجم بأبطالها [ (4) ] . وجعل يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك، هل يرى محمدا؟ وتصفح القتلى فقال: ما نرى مصرع محمد، كذب ابن قميئة. ولقي خالد ابن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟ قال: رأيته قبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل. قال [أبو سفيان] [ (5) ] هذا حق، كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله.
__________
[ (1) ] العنق: الجماعة من الناس، يقال جاء الناس عنقا عنقا. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 632.
[ (2) ] في (خ) «منهم» ، والتصويب من (الواقدي) ج 1 ص 234.
[ (3) ] نسوّرك: نلبسك السّوار (المعجم الوسيط) ج 1 ص 462.
[ (4) ] في (خ) «ببطلانها» . والتصويب من (المغازي) ج 1 ص 236.
[ (5) ] زيادة للإيضاح.(1/146)
نداء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين إليه
وجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه- يقول: إليّ يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول اللَّه! فما عرّج واحد عليه.
هذا، والنبل يأتيه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كل ناحية وهو في وسطها واللَّه يصرفها عنه. وعبد اللَّه بن شهاب الزهريّ يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا! ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن جنبه ما معه أحد. ثم جاوزه عبد للَّه بن شهاب فلقي صفوان بن أمية [ (1) ] فقال له:
ترحت [ (2) ] ! ألم يمكنك أن تضرب محمدا فتقطع هذه الشأفة [ (3) ] ، فقد أمكنك اللَّه منه؟ قال: وهل رأيته؟ قال: نعم! إنه إلى جنبك، قال: واللَّه ما رأيته! أحلف [ (4) ] أنه منا ممنوع، خرجنا أربعة تعاهدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.
أمر المسلمين بعد الهزيمة
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما انكشف المسلمون لم يبق معه إلا نفير [ (5) ] ، فأحدق به أصحابه من المهاجرين والأنصار، وانطلقوا به إلى الشعب وما للمسلمين لواء قائم ولا فئة ولا جمع، وإن كتائب المشركين لتحوشهم [ (6) ] مقبلة ومدبرة في الوادي يلتقون ويفترقون: ما يرون أحدا من الناس يردهم، ثم رجعوا نحو معسكرهم واشتوروا [ (7) ] في المدينة وفي طلب المسلمين، فبينا هم على ما هم فيه إذ طلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أصحابه: فكأنهم لم يصبهم شيء حين رأوه سالما.
ما نال المشركون من المسلمين
وكان ابن قميئة- لما قتل مصعب بن عمير وسقط اللواء من يده- ابتدره رجلان من بني عبد الدار: سويبط بن حرملة وأبو الروم فأخذه أبو الروم فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون. ويقال: بل دفعه رسول اللَّه
__________
[ (1) ] في (خ) «صفوان بن أمية بن شهاب» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 238.
[ (2) ] ترحت: في (خ) «قرحت» ، والصواب ما أثبتناه، وهو دعاء من التّرح، وهو الحزن.
[ (3) ] الشأفة: قرحة تخشن فتستأصل بالكي (المعجم الوسيط) ج 1 ص 469.
[ (4) ] في (المغازي) «أحلف باللَّه» ج 1 ص 238.
[ (5) ] تصغير نفر.
[ (6) ] يأخذونهم من حواليهم من كل جانب.
[ (7) ] في (الواقدي) ج 1 ص 238: «نحو معسكرهم، وتآمروا في المدينة وفي طلبنا» .(1/147)
صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. واقتتل الفريقان على الاختلاط من الصفوف، ونادى المشركون بشعارهم [يا للعزى، يا آل هبل] [ (1) ] فأوجعوا في المسلمين قتلا ذريعا، ونالوا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما نالوا. ولم يزل صلّى اللَّه عليه وسلّم شبرا واحدا بل وقف في وجه العدو، وأصحابه تثوب إليه مرة منهم طائفة، وتتفرق عنه مرة، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا.
من ثبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المسلمين في أحد
وثبت معه خمسة عشر رجلا [ (2) ] : سبعة من المهاجرين هم: أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار سبعة: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال: ثبت سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة: فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.
المبايعون على الموت
وبايعه يومئذ على الموت ثمانية: ثلاثة من المهاجرين هم: علي، والزبير، وطلحة، وخمسة من الأنصار هم: أبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد يومئذ، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم [حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من دون المهراس] [ (3) ] ويقال: ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودّع [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (2) ] كذا في (خ) و (ط) ، ورواية (ابن سعد) ج 2 ص 42، و (الواقدي) ج 1 ص 240 «أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار» .
[ (3) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 240، والمهراس: ماء بجبل أحد (انظر المرجع السابق) .
[ (4) ] غير مودّع: غير متروك، إشارة إلى قوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى آية 3/ الضحى.(1/148)
خبر المدافعين عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما لحمه القتال [ (1) ] وخلص إليه، ذبّ عنه مصعب ابن عمير، وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة،
فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من رجل يشري [ (2) ] نفسه؟
فوثب فتية من الأنصار خمسة، منهم عمارة بن زيادة بن السكن فقاتل حتى أثبت وفاءت [ (3) ] فئة من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء اللَّه.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمارة بن زياد: أدن منّي، إليّ إليّ! حتى وسّده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قدمه- وبه أربعة عشر جرحا- حتى مات.
وجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ يذمّر [ (4) ] الناس ويحضهم على القتال. وكان رجال من المشركين قد أذلقوا [ (5) ] المسلمين بالرّمي، منهم حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي،
فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لسعد بن أبي وقاص: إرم فداك أبي وأمي.
خبر حبان بن العرقة وأم أيمن
ورمى حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن- وقد جاءت تسقي الجرحى- فانكشف عنها فاستغرب [ (6) ] في الضحك، فشق ذلك على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له فقال: إرم، فوقع السهم في نحر حبّان فوقع مستلقيا وبدت عورته، فضحك صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه، ثم قال:
استقاد [ (7) ] لها سعد! أجاب اللَّه دعوتك وسدد رميتك.
وكان مالك بن زهير [ (8) ]- أخو أبي سلمة [ (9) ] الجشمي- هو وحبان بن العرقة قد أكثرا [ (10) ] في المسلمين القتل بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص مالكا أصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه فقتله، ورمى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عن قوسه حتى صارت شظايا فأخذها قتادة بن النعمان فلم تزل عنده.
__________
[ (1) ] كذا في (المغازي) ج 1 ص 240.
[ (2) ] أي يبيع نفسه للموت.
[ (3) ] رجعت.
[ (4) ] يحرض.
[ (5) ] في (خ) «أولقو» ، وأذلق: أسرع في الرمي وأضعفوا (المعجم الوسيط) ج 1 ص 314.
[ (6) ] في (خ) «استغرت» .
[ (7) ] أي انتصف.
[ (8) ] في (خ) «أخا» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، (ط) وفي (الواقدي) «أبي أسامة» ج 1 ص 241.
[ (10) ] في (خ) «أكثروا» .(1/149)
خبر عين قتادة
وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذها وردها فعادت كما كانت، ولم تضرب عليه بعدها. وكان يقول بعد ما أسنّ: هي أقوى عينيّ! وكانت أحسنهما.
مباشرته صلّى اللَّه عليه وسلّم القتال
وباشر صلّى اللَّه عليه وسلّم القتال ورمى بالنبل حتى فنيت نبله، وتكسرت سية [ (1) ] قوسه.
وقبل ذلك ما انقطع وتره وبقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس،
فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتر [ (2) ] له فقال: يا رسول اللَّه، لا يبلغ الوتر، فقال مدّه يبلغ!
قال عكاشة: فو الّذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثا على سية القوس، ثم أخذ صلّى اللَّه عليه وسلّم قوسه فما زال يرام القوم- وأبو طلحة يستره مترسا عنه- حتى تحطمت القوس.
خبر أبي طلحة
وكان أبو طلحة قد نثر كنانته- وفيها خمسون سهما- بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان راميا وكان صيّتا [ (3) ]-
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا، فلم يزل يرم بها ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلفه بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النّبل حتى فنيت نبله وهو يقول: نحري دون نحرك جعلني اللَّه فداك. فإن كان صلّى اللَّه عليه وسلّم ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم أبا طلحة! فيرمي بها سهما جيدا.
سبب تسميته أبا رهم المنحور
ورمى يومئذ أبو رهم الغفاريّ بسهم فوقع في نحره، فبصق عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبرأ، وسمّي بعد ذلك المنحور.
__________
[ (1) ] سية القوس: طرفه.
[ (2) ] يوتر للقوس: يشدّ وترها.
[ (3) ] رفيع الصوت جهيره.(1/150)
المتعاهدون من قريش على قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعرفهم المشركون بذلك، وهم: عبد اللَّه بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قميئة، وأبي بن خلف [وزاد بعضهم [ (1) ] وعبد اللَّه بن حميد بن زهير بن الحارث ابن أسد بن عبد العزى بن قصي] .
خبر ما أصاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الجراحة يوم أحد
ورمى عتبة يومئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأربعة أحجار فكسر رباعيته، أشظى [ (2) ] باطنها اليمنى السفلى، وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر [ (3) ] في وجنته، وأصيبت ركبتاه: جحشتا [ (4) ] ، وكانت حفر حفرها أبو عامر كالخنادق يكيد بها المسلمين، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا على بعضها ولا يشعر به. والثبت أن الّذي رمى وجنته صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن قميئة، والّذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
وأقبل ابن قميئة- وهو يقول: دلوني على محمد، فو الّذي يحلف به [ (5) ] لئن رأيته لأقتلنه- فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل [ (6) ] السيف- وكان عليه درعان. فوقع صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحفرة التي أمامه على جنبه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهن الضربة بثقل السيف فقد وقع لها صلّى اللَّه عليه وسلّم وانتهض، وطلحة يحمله من ورائه، وعليّ آخذ بيده حتى استوى قائما. ويقال: الّذي شج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جبهته ابن شهاب، والّذي أشظي رباعيته وأدمى شفتيه عتبة ابن أبي وقاص، والّذي دمّى وجنتيه حتى غاب الحلق في وجنته ابن قميئة وسال الدم من شجته التي [ (7) ] في جبهته حتى أخضل الدم لحيته صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وكان سالم مولى أبي حذيفة رضي اللَّه عنه يغسل الدم من وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
__________
[ (1) ] ذكره ابن الأثير في (الكامل) ج 2 ص 154- 155.
[ (2) ] الرباعية: إحدى الأسنان الأربعة التي في مقدم الفم من أعلى وأسفل، وأشظى: كسرت فصارت لها شظية.
[ (3) ] من أدوات الحرب لوقاية العنق والعاتقين.
[ (4) ] جحشت الركبة: أصيب إصابة كالخدش أو أشد.
[ (5) ] كناية عن اللات والعزى، وهو من أيمان الشرك.
[ (6) ] في (خ) «تحليل» وجلل السيف: إذا علّاه.
[ (7) ] في (خ) «الّذي» .(1/151)
كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ وهو يدعوهم إلى اللَّه عز وجل، فأنزل اللَّه تعالى:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [ (1) ] وقال:
اشتد غضب اللَّه [ (2) ] على قوم دمّوا فا [ (3) ] رسول اللَّه، اشتد غضب اللَّه على قوم دمّوا وجه رسول اللَّه، اشتد غضب اللَّه على رجل قتله رسول اللَّه، وقال: اللَّهمّ لا يحولنّ الحول على أحد منهم! فما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
فمات عتبة، وقتل ابن قميئة في المعركة. ويقال بل رمي بسهم فأصاب مصعب ابن عمير رضي اللَّه عنه قتله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما له أقمأه اللَّه؟ فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته فوجد ميتا بين الجبال.
وكان عدو اللَّه قد رجع إلى قومه فأخبرهم أنه قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وهو رجل من بني الأدرم [ (4) ] من بني فهر] وأقبل عبد اللَّه بن حميد بن زهير- حين رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على تلك الحال- يركض فرسه مقنعا في الحديد يقول: أنا ابن زهير! دلوني على محمد، فو اللَّه لأقتلنه أو لأموتن دونه. فقال له أبو دجانة: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه. وضرب فرسه عرقبها [ (5) ] ثم علاه بالسيف فقتله،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إليه ويقول: اللَّهمّ ارض عن أبي خرشة كما أنا عنه راض، وكان أبو دجانة قد ترّس عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظهره، ونبل يقع فيه وهو لا يتحرك، رضي اللَّه عنه.
نزع الحلق من وجنته صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما أصاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أصاب أقبل أبو بكر رضي اللَّه عنه يسعى، فوافاه طلحة بن عبيد اللَّه، وبدر [ (6) ] أبو عبيدة بن الجراح فأخذ بثنيته حلقة المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنيته، ثم أخذ الحلقة الأخرى [فكان أبو عبيدة في الناس أثرم [ (7) ]] ويقال: إن الّذي نزع الحلقتين من وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقبة ابن وهب بن كلدة، ويقال: أبو اليسر، وأثبت ذلك: عقبة بن وهب، فيما ذكره الواقدي [ (8) ] . وقال غيره: الصحيح أن أبا عبيدة بن الجراح وعقبة بن وهب
__________
[ (1) ] الآية 128/ آل عمران، وفي (خ) «عليهم الآية» .
[ (2) ] في (خ) «غضب علي» .
[ (3) ] أي فم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] هم بني تيم الأدرم.
[ (5) ] أي قطع عرقوبها.
[ (6) ] بدر: أسرع.
[ (7) ] في (خ) «وكان أثرم» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 247، والثرم هو سقوط الثنية أو انكسار السن من أصلها (ترتيب القاموس) ج 1 ص 402.
[ (8) ] المغازي ج 1 ص 247.(1/152)
عالجاها حتى طارت ثنيتا أبي عبيدة في معالجته لهما، فكان أحسن أهتم خلق. ولما نزعتا جعل الدم يسيل، فجعل مالك بن سنان [وهو والد أبي سعيد الخدريّ] يملج الدم بفيه ثم ازدرده [ (1) ] ،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. وقيل له: تشرب الدم؟ فقال نعم! أشرب دم رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من مسّ دمه دمي لم تصبه النار.
مسح فاطمة الدم عن وجهه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخرجت فاطمة عليها السلام في نساء، فلما رأت الّذي بوجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، وذهب علي رضي اللَّه عنه يأتي بماء وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم فأتى بماء في مجنه [ (2) ] فأراد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يشرب منه- وكان قد عطش- فلم يستطع، ووجد ريحا من الماء كرهها فقال:
هذا ماء آجن [ (3) ] ، فمضمض منه فاه للدم الّذي فيه، وغسلت فاطمة عن أبيها الدم، ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم سيف علي مختضبا فقال: إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم.
النساء يحملن الطعام ويسقين الجرحى
وخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء- وكن قد جئن أربع عشرة امرأة منهن فاطمة عليها السلام، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى، ويداوينهم [ (4) ] . ومنهن أم سليم بنت ملحان، وعائشة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها على ظهورهما القرب، ومنهن حمنة بنت جحش وكانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى، ومنهن أم أيمن تسقي الجرحى- فلم يجد محمد بن مسلمة عند النساء ماء. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عطش عطشا شديدا، فذهب محمد إلى قناة حتى استفى من حسي [ (5) ] ، فأتى بماء عذب فشرب منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعا له
__________
[ (1) ] ملج: امتصّ ورضع، ازدرد: ابتلع، تقول ملج الصبي أمه إذا رضعها (النهاية) ج 4 ص 353.
[ (2) ] المجن: الترس.
[ (3) ] الماء الآجن: الماء المتغير الطعم واللون (النهاية) ج 1 ص 26.
[ (4) ] في (خ) : و «يداويهن» .
[ (5) ] الحسي: حفيرة قريبة من القعر، قيل إنه لا يكون إلا في أرض أسفلها حجارة وفوقها رمل، فإذا(1/153)
بخير. وجعل الدم لا ينقطع،
وجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن.
دواء جرح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ [ (1) ]- وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنّ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: داوته بصوفة محترقة. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد يداوي الجرح في وجهه بعظم بال حتى يذهب أثره. ومكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر.
قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبي بن خلف
وأقبل يومئذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى [إذا] [ (2) ] دنا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعترض له ناس من المسلمين ليقتلوه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: استأخروا عنه!
وقام وحربته في يده فرماه بها بين سابغة [ (3) ] البيضة والدرع فطعنه [ (4) ] هناك، فوقع عن فرسه وكسر ضلع من أضلاعه، فاحتملوه فمات- لما ولوا [قافلين] [ (5) ]- بالطريق، وفيه نزلت: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (6) ]
وكان أبيّ بن خلف قدم المدينة في فداء ابنه وقد أسر يوم بدر، فقال: يا محمد! إن عندي فرسا أجلها فرقا [ (7) ] من ذرة كل يوم أقتلك عليها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا أقتلك عليها إن شاء اللَّه. ويقال: قال ذلك بمكة فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال:
أنا أقتله عليها إن شاء اللَّه. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، فكان يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبيّ بن خلف من خلفي فإذا رأيتموه فآذوني،
فإذا بأبيّ يركض على فرسه، وقد رأى رسول اللَّه فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته:
__________
[ () ] أمطرت نشفها الرمل فإذا انتهى إلى الحجارة أمسكته (النهاية) ج 1 ص 387.
[ (1) ] في (خ) «يرقى» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] السابغ والسابغة والتسبغة: ما توصل به من حلق الدروع فتستر العنق. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 414.
[ (4) ] في (خ) فقطعه.
[ (5) ] زيادة للإيضاح.
[ (6) ] الآية 17/ الأنفال.
[ (7) ] أجلها: أي أعلفها. (النهاية) ج 1 ص 289، والفرق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، (ترتيب القاموس) ج 3 ص 479.(1/154)
يا محمد، لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول اللَّه! ما كنت صانعا حين يغشاك، فقد جاءك! وإن شئت عطف عليه بعضنا. فأبى صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودنا أبيّ، فتناول صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة، [ويقال: من الزبير بن العوام] ، ثم انتفض [بأصحابه] [ (1) ] كما ينتفض البعير، فتطاير عنه أصحابه- ولم يكن أحد يشبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جد الجد- ثم أخذ الحربة فطعنه بها في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور، ويقول له أصحابه: أبا عامر! واللَّه ما بك بأس، ولو كان هذا الّذي بك بعين أحدنا ما ضره! فيقول: لا واللات والعزى، ولو كان هذا الّذي بي بأهل [ذي] [ (1) ] المجاز لماتوا أجمعون! أليس قال: لأقتلنك؟
فاحتملوه، وشغلهم ذلك عن طلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولحق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشعب. وقال عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه: مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ، فإنّي لأسير ببطن رابغ- بعد هويّ [ (2) ] من الليل- إذا نار تأجج لي فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجذبها يصيح: العطش! وإذا رجل يقول:
لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول اللَّه، هذا أبيّ بن خلف. فقلت: ألا سحقا [ (3) ] ويقال: مات بسرف [ (4) ] ويقال: لما تناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الزبير حمل أبيّ على رسول اللَّه ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير يحول بنفسه دون رسول اللَّه، فضرب مصعب وجه أبيّ، وأبصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجة بين سابغة البيضة والدروع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور.
قتل عثمان بن عبد اللَّه المخزومي
وأقبل عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة المخزومي على فرس أبلق يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعليه لأمة [ (5) ] كاملة- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم موجه إلى الشّعب- وهو يصيح: لا نجوت إن نجوت! فوقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعثر بعثمان فرسه في تلك
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح والسياق.
[ (2) ] الهوى: الساعة من الليل (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1002. ورابغ موضع بين المدينة، والجحفة (معجم ما استعجم) ج 1 ص 625.
[ (3) ] سحقا: بعد أشد البعد وسحق اللَّه فلانا أي أبعده، (المعجم الوسيط) ج 1 ص 420.
[ (4) ] موضع على ستة أميال من مكة (معجم البلدان) ج 3 ص 212.
[ (5) ] اللأمة: أدوات الحرب كلها من رمح وبيضة ومغفر وسيف ودرع (المعجم الوسيط) ج 3 ص 810.(1/155)
الحفرة فيقع، ويخرج الفرس عائرا [ (1) ] فأخذه المسلمون فعقروه. ومشى الحارث بن الصمة إليه فاضطربا ساعة بسيفهما، ثم ضربه الحارث على رجله فبرك، ودفف عليه وأخذ درعه ومغفره وسيفه- ولم يسمع بأحد [ (2) ] سلب يومئذ غيره-
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الحمد للَّه الّذي أحانه
[ (3) ] . وكان عبد اللَّه بن جحش أسره ببطن نخلة، فافتدى من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعاد إلى مكة حتى قدم فقتله اللَّه بأحد.
ذبح عبيد بن حاجز
[ويرى مصرعه] [ (4) ] عبيد بن حاجز العامري [فأقبل] يعدو فضرب الحارث ابن الصمة فجرحه على عاتقه، فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري إلى عبيد فناوشه ساعة ثم ذبحه بالسيف ذبحا، ولحق برسول اللَّه [ (5) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم.
سهل بن حنيف ينضح بالنبل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكان سهل بن حنيف ينضح بالنبل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال عليه السلام: نبلو سهلا فإنه سهل. ونظر صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبي الدرداء رضي اللَّه عنه والناس منهزمون فقال: نعم الفارس عويمر غير أفّة
[ (6) ] . ويقال: لم يشهد أبو الدرداء أحدا. ولقي أبو أسيرة بن الحارث بن علقمة رجلا فاختلفا ضربات [ (7) ] حتى قتله أبو أسيرة، فأقبل خالد بن الوليد على فرس أدهم أغر فطعن أبا أسيرة من خلفه: خرج الرمح من صدره فمات.
قتال طلحة بن عبيد اللَّه
وقاتل طلحة بن عبيد اللَّه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتالا شديدا- حين انهزم عنه أصحابه وكرّ المشركون فأحدقوا به من كل ناحية- وصار يذب بالسيف من بين
__________
[ (1) ] عار الفرس: انفلت فذهب على وجهه (هامش (ط) ص 141) .
[ (2) ] في (خ) «بأخذ» .
[ (3) ] أحانه: أهلكه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 1 ص 253.
[ (5) ] في (خ) «رسول اللَّه» .
[ (6) ] أغير آفة: غير جبان (المعجم الوسيط) ج 1 ص 21.
[ (7) ] في (خ) «في ضرباته» .(1/156)
يديه ومن ورائه وعن يمينه وعن شماله: يدور حوله يترس بنفسه حول رسول اللَّه، وإن السيوف لتغشاه، والنبل من كل ناحية، وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول اللَّه حتى انكشفوا،
فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لطلحة: قد أوجب
[ (1) ] . وكان طلحة أعظم الناس غناء عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ.
ورمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاتقى طلحة بيده عن وجهه المقدس فأصاب خنصره فشل خنصره. وقال حين رماه: حس [ (2) ] ! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قال بسم اللَّه لدخل الجنة والناس ينظرون! من أحب أن ينظر إلى رجل يمشى في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد اللَّه، طلحة ممن قضى نحبه.
ولما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا، أقبل رجل من بني عامر بن لؤيّ- يقال له: شيبة بن مالك المضرّب- يصيح: دلوني على محمد! فضرب طلحة عرقوب فرسه فاكتسعت [ (3) ] به، ثم طعن حدقته وقتله. وأصيب يومئذ طلحة في رأسه: ضربه رجل من المشركين ضربة وهو مقبل وأخرى وهو معرض عنه، فنزف الدم حتى غشي عليه، فنضح أبو بكر رضي اللَّه عنه الماء في وجهه حتى أفاق، فقال: ما فعل رسول اللَّه؟ قال: خيرا، هو أرسلني إليك. قال: الحمد للَّه كل مصيبة بعده جلل [ (4) ] .
قتال علي والحباب بن المنذر
وكان علي بن أبي طالب يذب عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ناحية، وأبو دجانة مالك بن خرشة بن لوذان بن عبد ودّ بن ثعلبة الأنصاري يذب من ناحية، وسعد ابن أبي وقاص يذب طائفة. وانفرد علي بفرقة فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخل وسطهم بالسيف- فضرب به وقد اشتملوا عليه- حتى أفضى إلى آخرهم، ثم
__________
[ (1) ] قد أوجب لنفسه الجنة.
[ (2) ] حسّ: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه وأحرقه غفلة كالجمرة والضربة ونحوهما (النهاية) ج 1 ص 385.
[ (3) ] في (خ) «فانعكست» ، وهي رواية الواقدي في (المغازي) ج 1 ص 255 ومعناها: سقطت من ناحية مؤخرها، ورمت به إلى الأرض.
[ (4) ] جلل: هينة قليلة.(1/157)
كرّ فيهم ثانيا حتى رجع من حيث جاء. وكان الحباب بن المنذر الجموح يحوش المشركين كما تحاش الغنم، واشتملوا عليه حتى قيل قد قتل، ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون [ (1) ] منه. وكان يومئذ معلما بعصابة خضراء في مغفره.
خبر عبد الرحمن بن أبي بكر وكان مشركا
وطلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال: من يبارز؟ وارتجز فقال:
لم يبق إلا شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلّال الشيب [ (2) ]
وفي رواية: «وناشي يشرب أرحام الشيب» فنهض إليه أبو بكر رضي اللَّه عنه وهو يقول: أنا ذلك الأشيب! ثم ارتجزه فقال:
لم يبق إلا حسبي وديني ... وصارم تقضي به يميني
فقال له عبد الرحمن: لولا أنك أبي لم أنصرف.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بكر رضي اللَّه عنه: شم شيفك، وارجع مكانك، ومتعنا بنفسك.
خبر شماس بن عثمان
كان شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي لا يرمي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ببصره] [ (3) ] يمينا ولا شمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه، حتى غشي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه اللَّه،
فذلك قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ليهزموك» ، وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 257.
[ (2) ] ذكر الواقدي هذا الخبر بغير الشعر، وذكره (ابن هشام) ج 2 ص 203 ضمن أخبار غزوة بدر، والبيت في (ابن هشام) هكذا:
لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصار يقتل ضلال الشيب
وفي (خ) «إلا صارم» .
والشكة: السلاح. واليعبوب: الفرس الكثير الجري.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] الجنة: كل ما وقى من سلاح وغيره (المعجم الوسيط) ج 1 ص 147.(1/158)
أول من أقبل بعد الهزيمة
وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث، [ويقال: قيس ابن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة] مع طائفة من الأنصار، فصادفوا المشركين فدخلوا في حومتهم، فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا، ولقد ضاربهم قيس حتى قتل نفرا فما قتلوه إلا بالرماح: نظموه، ووجد به أربع عشرة ضربة قد جافته [ (1) ] وعشر ضربات في بطنه.
خبر الداعين إلى القتال
وكان عباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم ابن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وخارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك ابن امرئ القيس بن مالك الأغر، وأوس بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان يرفعون أصواتهم، فيقول عباس: يا معشر المسلمين! اللَّه ونبيكم! هذا الّذي أصابكم بمعصية نبيكم، فيوعدكم النصر فما [ (2) ] صبرتم. ثم نزع مغفرة وخلع درعه وقال لخارجة بن زيد: هل لك فيهما؟ قال: لا، أنا أريد الّذي تريد. فخالطوا القوم جميعا، وعباس يقول: ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول اللَّه ومنا عين تطرف؟ فيقول خارجة: لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة، فقتل سفيان بن عبد شمس السلمي عباسا، وأخذت [ (3) ] خارجة الرماح، فجرح بضعة عشر جرحا، وأجهز عليه صفوان بن أمية. وقتل [ (4) ] أوس بن أرقم رضي اللَّه عنهم.
خبر أبي دجانة وخبر السيف
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه؟
قال: يضرب به العدو.
فقال عمر رضي اللَّه عنه: أنا يا رسول اللَّه، فأعرض عنه. ثم عرضه بذلك الشرط، فقام الزبير رضي اللَّه عنه، فقال: أنا، فأعرض عنه حتى وجدا [ (5) ] في أنفسهما. ثم عرضه الثالثة، فقال ذو المشهرة أبو دجانة:
__________
[ (1) ] جافته: أصابت جوفه (المرجع السابق) ج 1 ص 147.
[ (2) ] في (خ) «ما» .
[ (3) ] في (خ) «وأخذ» .
[ (4) ] في (خ) «وقيل» .
[ (5) ] وجدا: غضبا (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1013.(1/159)
أنا يا رسول اللَّه آخذه بحقه. فدفعه إليه، فصدق به حين لقي العدو، فأعطى السيف حقه، فما قاتل أحد أفضل من قتاله. لقد كان يضرب به حتى إذا كلّ عليه شحذه على الحجارة، ثم يضرب به العدو حتى رده كأنه منجل، وكان حين أعطاه السيف لبس مشهرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون- لما بلوا منه- أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية. فخرج يمشي بين الصفين واختال في مشيته،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رآه: إن هذه لمشية يبغضها اللَّه إلا في مثل هذا الموطن،
ويقال: كان يعلم رأسه بعصابة حمراء.
خبر رشيد الفارسيّ
ولقي رشيد الفارسيّ مولى بني معاوية [ (1) ] رجلا من المشركين قد ضرب سعدا مولى حاطب جزله [ (2) ] باثنتين، فضربه على عاتقه فقتله، فاعترض له أخوه يعدو [ (3) ] فقتله، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحسنت يا أبا عبد اللَّه وكنّاه يومئذ ولا ولد له.
خبر عمرو بن ثابت
وكان عمرو [ (4) ] بن ثابت بن وقش بن زغبة بن عبد الأشهل الأنصاري شاكا في الإسلام حتى كان يوم أحد فأسلم وقاتل حتى أثبت فوجد وهو بآخر رمق فقالوا: ما جاء بك؟ قال: الإسلام! آمنت باللَّه ورسوله، ثم أخذت سيفي وحضرت، فرزقني اللَّه الشهادة. ومات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لمن أهل الجنة.
خبر مخيريق
وكان مخيريق من أحبار يهود، فقال يوم السبت: يا معشر يهود! واللَّه إنكم لتعلمون أن محمدا لنبي، وأن نصره عليكم لحق! ثم أخذ سلاحه وحضر أحدا
__________
[ (1) ] في (خ) «بني معوفة» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 261.
[ (2) ] في (المغازي) «ضربة جزلة» ج 1 ص 261.
وجزله جزلا: أي قطعه (المعجم الوسيط) ج 1 ص 121.
[ (3) ] في (المغازي) ج 1 ص 261 «وأقبل يعدو كأنه كلب» .
[ (4) ] في (خ) «عمر» .(1/160)
مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقتل. وقال حين خرج: إن أحببت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد: فهي عامة صدقات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مخيريق خير يهود.
خبر عمرو بن الجموح وولده وما كان من أمر امرأته
وخرج عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة وهو أعرج، وهو يقول: اللَّهمّ لا تردني إلى أهلي!! فقتل شهيدا، واستشهد ابنه خلاد بن عمرو، وعبد اللَّه بن عمرو بن حرام [بن ثعلبة بن حرام الأنصاري الخزرجي] [ (1) ] ، أبو جابر بن عبد اللَّه، فحملتهم هند بنت عمرو بن حرام- زوجة عمرو بن الجموح- على بعير لها تريد بهم المدينة، فلقيتها عائشة رضي اللَّه عنها- وقد خرجت في نسوة تستروح الخبر، ولم يضرب الحجاب يومئذ- فقالت لها: عندك الخبر، فما وراءك؟ قالت: أما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصالح، وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء، وردّ اللَّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى اللَّه المؤمنين القتال، وكان اللَّه قويا عزيزا. قالت عائشة: من هؤلاء؟
قالت: أخي وابن أخي خلاد وزوجي عمرو بن الجموح، قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم قالت: حل [ (2) ] ، تزجر بعيرها فبرك، فقالت عائشة: لما عليه [ (3) ] ، قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك. وزجرته فقام [ (4) ] فوجهته راجعة إلى أحد فأسرع،
فرجعت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته بذلك فقال: فإن الجمل مأمور، هل قال شيئا [ (5) ] ؟
قالت [ (6) ] إن عمرا لما وجّهه إلى أحد قال: اللَّهمّ لا تردني إلى أهلي خزيان [ (7) ] وارزقني الشهادة! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم
__________
[ (1) ] زيادة من نسبه.
[ (2) ] كلمة لزجر الإبل (ترتيب القاموس) ج 1 ص 698.
[ (3) ] أي برك للذي عليه من الحمل.
[ (4) ] في (خ) بعد قولها: «فقام» ، و «برك» ولا معنى لها. ومناسبتها في رواية (الواقدي) «فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك» ج 1 ص 265.
[ (5) ] الضمير في قوله: «قال» عائد على الشهيد.
[ (6) ] في (خ) «قال» .
[ (7) ] في (خ) «خربا» ، وفي (الواقدي) ج 1 ص 266 «خريا» ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/161)
يا معشر الأنصار من لو أقسم على اللَّه لأبره: منهم عمرو بن الجموح. يا هند! ما زالت الملائكة مظلمة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن. ثم مكث صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى قبرهم. ثم قال يا هند! قد ترافقوا في الجنة، عمرو بن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد اللَّه، قالت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يجعلني معهم [ (1) ] .
أول قتيل من المسلمين يوم أحد
وقال جابر بن عبد اللَّه: كان أبي أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلميّ، فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الهزيمة.
خبر أم عمارة وقتالها يوم أحد
وكانت أم عمارة [نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف [ (2) ] بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار] امرأة غزية بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول [بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار] [ (3) ]-: قد شهدت أحدا هي وزوجها وابنها، ومعها شنّ [ (4) ] لتسقي الجرحى. فقاتلت وأبلت بلاء حسنا يومئذ- وهي حاجزة ثوبها على وسطها- حتى جرحت اثنى عشر جرحا، بين طعنة برمح أو ضربة بسيف. وذلك أنها كانت بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هي وابناها عبد اللَّه وحبيب ابنا زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو بن مبذول، وزوجها غزية بن عمرو- يذبون عنه، فلما انهزم المسلمون جعلت تباشر القتال وتذب عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيف، وترمي بالقوس. ولما أقبل ابن قميئة- لعنه اللَّه- يريد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت فيمن اعترض له، فضربها على عاتقها ضربة صار لها فيما بعد ذلك غور أجوف، وضربته هي ضربات.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لمقام نسيبة بنت
__________
[ (1) ] في المرجع السابق «عسى أن يجعلني معهم» .
[ (2) ] في (خ) مكان «عوف» «خنساء» وهو خطأ في نسبها.
وما أثبتناه من (الإصابة) ترجمة 1240 ج 13 ص 257.
[ (3) ] زيادة من (الاستيعاب) ج 3 ص 259 ترجمتها رقم (3590) .
[ (4) ] يقال: شنّ الماء على الشراب، وشنت العين الدمع (المعجم الوسيط) ج 1 ص 496.(1/162)
كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان، وقال: ما التفتّ يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني. وقال لابنها عبد اللَّه بن زيد: بارك اللَّه عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك [يعني زوج أمه] خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم اللَّه أهل بيت، قالت أم عمارة: ادع اللَّه أن نرافقك في الجنة، قال: اللَّهمّ [ (1) ] اجعلهم رفقائي في الجنة، قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
خبر حنظلة «غسيل الملائكة»
وخرج حنظلة بن أبي عامر [بن عمرو بن صيفي بن مالك بن أمية [ (2) ] بن ضبيعة بن زيد بن [ (3) ] عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس] هو حنظلة الغسيل- إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسوي الصفوف بأحد، فلما انكشف المشركون ضرب فرس أبي سفيان بن حرب فوقع [على [ (4) ]] الأرض وصاح، وحنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شعوب [ (5) ] فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه، ومشى حنظلة إليه في الرمح وقد أثبته ثم ضربه الثانية فقتله، ونجا أبو سفيان.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بن [أبي] [ (6) ] عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة.
قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء. فلما أخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك أرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنب.
خبر هند بنت عتبة
وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف- زوجة أبي سفيان بن حرب- أول من مثل بقتلى المسلمين، وأمرت نساء المشركين أن
__________
[ (1) ] في (خ) مكان «اللَّهمّ» ما نصه: «أبو مالك بن الأوس اجعلهم» والصواب: ما أثبتناه، وانظر (المغازي) ج 1 ص 273.
[ (2) ] في (خ) «أمه» .
[ (3) ] في (خ) «زيد بن مالك بن عوف» وهو خطأ، والتصويب من (ط) .
[ (4) ] في (خ) «فوقع الأرض» .
[ (5) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ج 1 ص 273، ولكن في (ابن هشام) ج 3 ص 60 «شداد ابن الأسود بن شعوب الليثي» . وفي (الكامل) ج 2 ص 158. بنحوه
[ (6) ] في (خ) «بن عامر» .(1/163)
يمثلن بهم، فجدّعن الأنوف والآذان، فمثلن بالجميع إلا حنظلة الغسيل.
أول من دخل المدينة بعد الهزيمة
ولما صاح إبليس: إن محمدا قد قتل. تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخلها بهذا الخبر أبو عبادة سعد بن عثمان بن خلدة بن مخلد بن عامر ابن زريق الأنصاري، ثم ورد بعده رجال. فجعل النساء يقلن: عن رسول اللَّه تفرّون. وجعل ابن أم مكتوم يقول: عن رسول اللَّه تفرون!! وحثت أم أيمن في وجوه بعضهم التراب وتقول: هاك المغزل، اغزل به، وهلمّ سيفك!! وقيل:
إن المسلمين لم يعدوا الجبل- وكانوا في سفحه- لم يجاوزوه [ (1) ] . وأقبل [أبو] [ (2) ] أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة وهو يقول: يوم بيوم بدر. وقتل رجلا من المسلمين فضربه علي رضي اللَّه عنه فقتله.
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: أنا ابن العواتك [ (3) ] . وقال أيضا:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
خبر أنس بن النّضر
ومر أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم ابن عدي بن النجار- وهو عم أنس بن مالك- بنفر من المسلمين قعود فقال:
ما يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول اللَّه! قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم جالد بسيفه حتى قتل رضي اللَّه عنه، فوجد به سبعون ضربة، وما عرف حتى عرفته أخته.
__________
[ (1) ] في (خ) «لم يجاوزه» .
[ (2) ] في (خ) ، وفي (الواقدي) ج 1 ص 279 «أمية» وما أثبتناه من (ابن هشام) ج 3 ص.
[ (3) ] العواتك: جمع عاتكة: وهي التي تكثر من الطيب حتى تحمّر بشرتها. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 583، وقال ابن الأثير في (النهاية) ج 3 ص 180: «والعواتك: ثلاث نسوة كن من أمهات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إحداهن: عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم عبد مناف بن قصي.
والثانية: عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم هاشم بن عبد مناف.
والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة. وبنو سليم تفخر بهذه الولادة.(1/164)
خبر خارجة بن زيد
ومرّ مالك بن الدّخشم على خارجة بن زيد أبي زهير وهو قاعد، في حشوته ثلاثة عشر جرحا، كلها قد خلصت إلى مقتل فقال: أما علمت أن محمدا قد قتل! فقال خارجة: فإن [ (1) ] كان محمد قد قتل فإن اللَّه حي لا يموت، لقد بلّغ [محمد] [ (2) ] ، فقاتل عن دينك. ومرّ على سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الأنصاري أحد النقباء- وبه اثنا عشر جرحا كلها خلص إلى مقتل- فقال:
علمت أن محمدا قد قتل!! فقال سعد: أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه، فقاتل عن دينك فإن اللَّه حي لا يموت، وقال منافق: إن رسول اللَّه قد قتل فارجعوا إلى قومكم فإنّهم داخلوا البيوت.
خبر ثابت بن الدحداحة وأصحابه: آخر من قتل يوم أحد
وأقبل ثابت بن الدّحداحة [ (3) ] (ويقال: ابن الدحداح) بن نعيم بن غنم بن إياس بن بكير والمسلمون أوزاع [ (4) ] قد سقط في أيديهم فصاح: يا معشر الأنصار!! إليّ إليّ، أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمد قد قتل فإن اللَّه حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم فإن اللَّه مظهركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي اللَّه عنهم، فيقال: إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين.
ووصل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشّعب مع أصحابه فلم يكن هناك قتال.
خبر وحشي ومقتل حمزة
وكان وحشي عبدا لابنة الحارث [ (5) ] بن عامر بن نوفل، ويقال: لجبير بن
__________
[ (1) ] في (خ) «وإن» وما أثبتناه رواية (الواقدي) ج 1 ص 280 وهو أجود.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] في (خ) «الدحداجة» و «الدحداج» .
[ (4) ] الأوزاع: الجماعات والضروب المتفرقون (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1029.
[ (5) ] في (خ) «الحرب» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 285.(1/165)
مطعم، فقالت له ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن قتلت أحد الثلاثة فأنت حر: إن قتلت محمدا، أو حمزة، أو عليا، فإنّي لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم.
فكمن لحمزة رضي اللَّه عنه إلى صخرة، وقد اعترض له سباع بن عبد العزى (واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن غبشان بن سليم) - وهو ابن أم أنمار- فاحتمله ورمى به وبرك عليه فشحطه شحط [ (1) ] الشاة. ثم قام حتى بلغ المسيل فزلت رجله عن جرف، فهز وحشي حربته وضرب بها خاصرة حمزة خرجت من مثانته فلحق بربه. فأتاه وحشي فشق بطنه وأخرج كبده فجاء بها إلى هند بنت عتبة فقال لها:
ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟ قالت: سلبي [ (2) ] ! فقال: هذه كبد حمزة! فمضغتها ثم لفظتها، ونزعت ثيابها وحليها فأعطتها وحشيا، ووعدته إذا جاء مكة أن تعطيه عشرة دنانير، وقامت معه حتى أراها مصرع حمزة فقطعت مذاكيره، وجدّعت أنفه وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين [ (3) ] حتى قدمت بذلك مكة وكبده معها.
وفي المسند للإمام أحمد قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقرت بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أكلت منها شيئا؟
قالوا: لا، قال: ما كان اللَّه ليدخل من حمزة النار. وفي رواية ابن سعد [ (4) ] : إن اللَّه قد حرم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا.
ويروى أن هندا لما أخرجت كبد حمزة لاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصاحت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهجاها حسان بن ثابت لما بلغه ذلك من قولها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] شحط القتيل في الدم: اضطرب (المعجم الوسيط) ج 1 ص 474.
[ (2) ] السلب: كل ما مع القتيل من سلاح وثياب ودابة، والمراد هنا كل ما تملك من الحلي والذهب وغيره.
(المعجم الوسيط) ج 1 ص 441.
[ (3) ] المسكة وجمعها المسك: السوار تجعله المرأة في يديها.
والمعضدة والمعضد: الدملج يكون كالسوار، تجعله على عضدها بين الكتف والمرفق. والخدمة وجمعها الخدم: الخلخال تجعله في رجلها. هامش (ط) ص 153.
[ (4) ] (الطبقات الكبرى) ج 3 ص 13.
[ (5) ] قالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشي غليل صدري(1/166)
موقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على مقتل حمزة
وجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: ما فعل عمي؟ ويكرر ذلك، فخرج الحارث ابن الصمة فأبطأ، فخرج علي رضي اللَّه عنه فوجد حمزة رضي اللَّه عنه مقتولا، فأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج يمشي حتى وقف عليه فقال: ما وقفت موقفا أغيظ إليّ من هذا! فطلعت صفية بنت عبد المطلب [ (1) ] رضي اللَّه عنها فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
[يا زبير] [ (2) ] أغن عني أمك. هذا وحمزة يحفر له فقال: إن في الناس تكشفا.
فقالت: ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رأته قالت: يا رسول اللَّه، أين ابن أمي حمزة؟ قال: هو في الناس، قالت: لا أرجع حتى انظر إليه. فجعل الزبير يجلسها حتى دفن حمزة رضي اللَّه عنه. وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أن يحزن نساءنا لتركناه للعافية [ (3) ] حتى يحشر يوم القيامة من بطون السباع وحواصل الطير.
بكاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حمزة
ويقال: لما أصيب حمزة رضي اللَّه عنه جاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه فحالت بينها وبينه الأنصار، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: دعوها، فجلست عنده،
__________
[ () ]
فشكر وحشي عليّ عمري ... حتى ترم أعظمي في قبري
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب فقالت:
خزيت في بدر وبعد بدر ... يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك اللَّه غداة الفجر ... بالهاشميّين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري ... حمزة ليثي وعليّ صقري
إذا رام شيب وأبوك غدري ... فخضبا منه ضواحي النّحر
وندرك السوء فشرّ نذر
(عيون الأثر) ج 1 ص 18.
فقال حسان:
أشرت لكاع وكان عادتها ... لؤما إذا أشرت مع الكفر
(ابن هشام) ج 3 ص 36- 37.
[ (1) ] أخت حمزة، وعمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأم الزبير بن العوام.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] العافية: طلاب الرزق من الدواب والطير (المعجم الوسيط) ج 2 ص 612.(1/167)
فجعلت إذا بكت بكى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإذا نشجت نشج [ (1) ] . وكانت فاطمة عليها السلام تبكي ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلما بكت يبكي، وقال: لن أصاب بمثلك أبدا. ثم قال: أبشرا! أتاني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد اللَّه وأسد رسوله.
المثلة بحمزة
ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم به مثلا شديدا فأحزنه ذلك المثل، ثم قال: لئن فرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم، فنزلت هذه الآية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [ (2) ] [فعفا رسول اللَّه] فلم يمثل بأحد [ (3) ] ،
وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتل حمزة وما مثل به، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشير إليه أن اجلس- وكان قائما-
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: احتسبتك عند اللَّه، ثم قال: يا أبا قتادة: إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر كبه [ (4) ] اللَّه لفيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تبطر [ (5) ] قريش لأخبرتها بما لها عند اللَّه، فقال أبو قتادة: واللَّه يا رسول اللَّه ما غضبت إلا للَّه ولرسوله حين نالوا منه ما نالوا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم.
مقتل عبد اللَّه بن جحش وخبره
وقال عبد اللَّه بن جحش بن رئاب بن يعمر [ (6) ] بن صبرة بن مرة بن كبير [ (6) ] ابن غنم بن دودان [ (6) ] بن أسد بن خذيمة الأسدي: يا رسول اللَّه! إن هؤلاء القوم قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت اللَّه فقلت: اللَّهمّ إني أقسم عليك نلقى العدو غدا فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولا قد صنع هذا بي، فتقول:
فيم [ (6) ] صنع بك هذا؟ فأقول: فيك. وأنا أسألك أخرى: أن تلي تركتي من
__________
[ (1) ] نشج نشيجا: تردد البكاء في صدره من غير انتحاب (المرجع السابق) ص 921.
[ (2) ] الآية 126/ النحل.
[ (3) ] هذه رواية (الواقدي) ج 1 ص 290.
[ (4) ] في (خ) «أكبه» .
[ (5) ] البطر: تقول بطر فلان النعمة: استخفّها فكفرها.
[ (6) ] في (خ) «رباب بن نعمان» ، «ابن كثير» ، «داود» ، «قيم» .(1/168)
بعدي. فقال: نعم. فخرج حتى قتل ومثل به. ودفن هو وحمزة [ (1) ] رضي اللَّه عنه في قبر واحد. وولي تركته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاشترى لابنه [ (2) ] مالا بخيبر، فأقبلت أخته حمنة بنت جحش. فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حمن! احتسبي، قالت: من يا رسول اللَّه؟ قال: خالك حمزة، قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، غفر اللَّه له ورحمه، هنيئا له الشهادة! ثم قال لها: احتسبي، قالت: من يا رسول اللَّه؟ قال: أخوك، قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، غفر اللَّه له ورحمه، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: احتسبي، قالت: من يا رسول اللَّه؟ قال: مصعب بن عمير، قالت وا حزناه!! وفي رواية أنها قالت: وا عقراه!! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد! ثم قال لها: لم قلت هذا؟ قالت: يا رسول اللَّه، ذكرت يتم بنيه فراعني.
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لولده أن يحسن عليهم الخلف، فتزوجت طلحة فولدت له محمد بن طلحة، فكان أوصل الناس لولدها. وكانت حمنة خرجت يومئذ إلى أحد مع النساء يسقين الماء.
طلوع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أصحابه في الشّعب
وطلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أصحابه في الشّعب بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يتكفأ في الدرع [وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مشى يتكفأ تكفؤا] [ (3) ]- وقد بدن وظاهر بين درعين- وكان يتوكأ على طلحة بن عبيد اللَّه، فما صلى الظهر يومئذ بأصحابه إلا جالسا. وقد حمله طلحة رضي اللَّه عنه- حين انتهى إلى الصخرة- حتى ارتفع عليها. ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه، فلما رأوهم ولوا في الشعب ظنا أنهم من المشركين، حتى جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامة حمراء على رأسه فعرفوه، فرجعوا أو بعضهم. وكانوا الذين ثبتوا معه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وطلعوا وهو بينهم إلى الشعب- أربعة عشر: سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار.
سرور المسلمين بسلامة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فسروا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة، وبينا هم
__________
[ (1) ] حمزة: خال عبد اللَّه بن جحش.
[ (2) ] في (المغازي) «لأمه» ج 1 ص 291.
[ (3) ] زيادة للبيان، وهي صفة مشية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وذلك أنه كان «إذا مشى كأنما ينحط من صبب» راجع (صفة الصفوة لابن الجوزي) ج 1 ص 156 صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وص 213 من هذا الكتاب.(1/169)
على ذلك ردّ المشركون فإذا هم فوقهم، وإذا كتائبهم قد أقبلت،
فندبهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يحضهم على القتال، فعدوا إليهم فانكشفوا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ (1) ] .
وأبو سفيان في سفح الجبل فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس لهم أن يعلونا فانكشفوا [ (2) ] .
خبر النّعاس
وألقى اللَّه النعاس على من مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهم سلّم [ (3) ] لمن أرادهم، لما بهم من الحزن فناموا ثم هبوا من نومهم كأن لم تصبهم قبل ذلك نكبة. وقال معتب ابن قشير، ويقال: بشير بن مليل بن زيد بن العطاف بن ضبيعة بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمرو بن عوف الأنصاري: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا! فأنزل اللَّه تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [إلى آخر الآيات] [ (4) ] قال أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن غنم [ (5) ] بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري: لقد رأيتني يومئذ- في أربعة عشر رجلا من قومي- إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أصابنا النعاس أمنة، فما منهم إلا رجل يغط غطيطا حتى إن الجحف [ (6) ] لتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم: وإن المشركين لتحتنا. وقال أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد بن مناة بن عدي ابن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري: ألقي علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي. وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذ، فكل [ (7) ] منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.
__________
[ (1) ] في (خ) «الرسل الآية» 144/ آل عمران.
[ (2) ] في (خ) «ما انكشفوا» ، وما أثبتناه رواية (الواقدي) ج 1 ص 295.
[ (3) ] السّلم: الاستسلام والتسليم، والأسر من غير حرب (المعجم الوسيط) ج 1 ص 446.
[ (4) ] الآيات من 153- 155/ آل عمران.
[ (5) ] في (خ) «ابن غزيه» وهو خطأ، ونسبه في (الإصابة) هكذا: «كعب بن عمرو بن عباد بن سواد بن عنم الأنصاري أبو اليسر» راجع (الإصابة) ترجمة رقم 7416 ج 8 ص 301.
[ (6) ] الجحف: تقول: جحف فلان مع فلان جحفا: مال.
[ (7) ] في (خ) «وكل» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 296.(1/170)
خبر أبي سفيان ومقالته وردّ عمر
ولما تحاجزوا أراد أبو سفيان بن حرب الانصراف، وأقبل على فرس حتى أشرف على المسلمين في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته: أعل هبل! ثم صاح: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال، وحنظلة بحنظلة [ (1) ] ،
فقال عمر رضي اللَّه عنه: أجيبه يا رسول اللَّه؟ فقال: بلى، فأجبه!
فقال أبو سفيان: أعل هبل! فقال عمر:
اللَّه أعلى وأجل! فقال أبو سفيان: إنها قد أنعمت فعال [ (2) ] عنها، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر رضي اللَّه عنه:
هذا رسول اللَّه، وهذا أبو بكر، وهذا عمر. فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول وإن الحرب سجال. فقال عمر: لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا! لنا العزى ولا عزى لكم! فقال عمر: اللَّه مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب فعال [ (2) ] عنها قم إليّ يا ابن الخطاب أكلمك، فقام عمر، فقال أبو سفيان: أنشدك بدينك، هل قتلنا محمدا؟ قال عمر: اللَّهمّ لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال أنت عندي أصدق من ابن قميئة، ثم
قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عنتا ومثلا، إلا أن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا، أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إذ [ (3) ] كان ذاك فلم نكرهه ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر [ (4) ] الصفراء على رأس الحول، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قل نعم! فقال عمر رضي اللَّه عنه: نعم.
انصراف المشركين ومخافة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مباغتة المدينة
فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل،
فأشفق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فبعث سعد
__________
[ (1) ] يريد حنظلة ولده، وحنظلة غسيل الملائكة.
[ (2) ] في (خ) «فقال» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 297 وعال عنها: تجاف عنها ولا تذكرها بسوء، يعني آلهتهم. (النهاية) ج 3 ص 294.
[ (3) ] في (خ) «إذا» .
[ (4) ] كذا في (خ) و (الواقدي) ج 1 ص 197. أما في (ط) «بدرا الصفراء» .(1/171)
ابن أبي وقاص لينظر: إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة. ثم قال عليه السلام: والّذي نفسي بيده لئن ساروا إليه لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم،
فذهب سعد يسعى إلى العقيق فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، بعد ما تشاوروا نهب المدينة فأشار عليهم صفوان بن أمية ألا يفعلوا فإنّهم لا يدرون ما يغشاهم، فعاد فأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قدوم أبي سفيان مكة
وقدم أبو سفيان مكة فلم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه، وحلق رأسه.
أول من قدم إلى مكة بخبر أحد
فكان أول من قدم مكة بخبر أحد وانكشاف المشركين عبد اللَّه بن [أبي] [ (1) ] أمية بن المغيرة فكره أن يأتيهم بهزيمة أهلهم، فقدم الطائف وأخبر أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا. ثم قدم وحشيّ مكة فأخبرهم بمصاب المسلمين وقد سار أربعا على راحلته، ووقف على الثنية التي تطل الحجون فنادى: يا معشر قريش! أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط، وجرحنا محمد فأثبتناه بالجراح، وقتل حمزة. فسرّوا بذلك.
قتلى المسلمين وقتلى المشركين
وقتل من المسلمين بأحد أربعة وسبعون [ (2) ] : أربعة من قريش وسائرهم من الأنصار، ويقال: خمسة من قريش. وقتل من المشركين أربعة وعشرون،
وأسر من المشركين أبو عزة عمرو [ (3) ] بن عبد اللَّه بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، ولم يؤسر منهم غيره فقال: يا محمد، منّ عليّ! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك تقول: خدعت [وفي رواية سحرت] محمدا مرتين، ثم أمر به عاصم بن ثابت فضرب عنقه،
ويقال:
__________
[ (1) ] في (خ) «بن أمية» .
[ (2) ] رواية (الواقدي) ج 1 ص 330 «سبعون» .
[ (3) ] في (خ) «عمر» .(1/172)
إن المشركين لما انصرفوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة، ثم حلوا وتركوا أبا عزّة نائما مكانه حتى ارتفع النهار، ولحقه المسلمون وهو مستنبه يتلدد، وكان الّذي أخذه عاصم بن ثابت، فأمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فضرب عنقه.
صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على شهداء أحد
ولما انصرف المشركون أقبل المسلمون على أمواتهم،
فكان حمزة رضي اللَّه عنه فيمن أتي به أولا، فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: رأيت الملائكة تغسله، لأن حمزة كان جنبا ذلك اليوم. ولم يغسّل صلّى اللَّه عليه وسلّم الشهداء، وقال: لفوهم بدمائهم وجراحهم، فإنه ليس أحد يجرح في سبيل اللَّه إلا جاء يوم القيامة جرحه لونه لون الدم وريحه ريح مسك، ثم قال: ضعوهم، أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة.
فكان حمزة أول من كبّر عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم جمع إليه الشهداء. فكان كلما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهداء، حتى صلى عليه سبعين مرة، ويقال: كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليهم حتى فعل ذلك سبع مرات. ويقال: كبّر عليهم تسعا وسبعا وخمسا. وقيل: لم يصلّ عليهم.
أخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث جابر وأنس وابن عباس رضي اللَّه عنهم: وهو مذهب مالك، والليث بن سعد والشافعيّ، وأحمد، وداود [ (2) ] : ألا يصلى على المقتول في المعركة. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم.
__________
[ (1) ] في سنن أبي داود ج 3 ص 498 حديث رقم 3135: «حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، ...
أن أنس بن مالك حدثهم أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم ولم يصلّ عليهم» وفي تعليق ابن القيم على أبي داود: «وقد ورد في الصلاة على قتلى أحد من المسلمين عدة أحاديث: منها ما أخرجه الشيخان عن عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوما يصلي أهل أحد صلاته على الميت، ومنها حديث أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى على حمزة، ومنها حديث أبي مالك الغفاريّ قال: كان قتلى أحد يؤتى منهم بتسعة عاشرهم حمزة، فيصلي عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة، وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفي (عون المعبود) ج 8 ص 311.
قال الحافظ: والخلاف في الصلاة على قتيل الكفار مشهور، قال الترمذي: قال بعضهم: يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحاق، وقال بعضهم لا يصلى عليه، وهو قول المدنيين والشافعيّ وأحمد.
والحديث سكت عنه المنذري» .
[ (2) ] صاحب مذهب مستقل، وأتباعه يعرفون بالظاهرية توفى ببغداد سنة 270 هـ[هامش (ط) ] .(1/173)
خبر دفن القتلى ودفن حمزة
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم للمسلمين، احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر. وقدموا أكثرهم قرآنا، فكانوا يقدمون أكثرهم قرآنا في القبر، ولما واروا حمزة رضي اللَّه عنه أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببردة تمدّ عليه وهو في القبر، فجعلت البردة إذا خمّروا [ (1) ] رأسه بدت قدماه، وإذا خمّروا رجليه ينكشف وجهه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: غطوا وجهه، وجعل على رجليه الحرمل [ (2) ] . فبكى المسلمون وقالوا:
يا رسول اللَّه! عم رسول اللَّه لا نجد له ثوبا؟ فقال: تفتح الأرياف والأمصار فيخرج إليها الناس ثم يبعثون إلى أهليهم، إنكم بأرض حجاز [ (3) ] جردية [الجردية التي ليس بها شيء من الأشجار] [ (4) ] والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والّذي نفسي بيده لا يصبر أحد على لوائها وشدتها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة.
مصعب بن عمير
ومر صلّى اللَّه عليه وسلّم على مصعب بن عمير وهو مقتول في بردة [ (5) ] فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة منك ولا أحن لمّة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة. ثم أمر به فقبر.
وكان كثير من الناس حملوا موتاهم إلى المدينة فدفنوهم، فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ردّوا القتلى إلى مضاجعهم. فلم يردّ أحد إلا رجل واحد أدركه المنادي ولم يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزوميّ.
موقف المسلمين للثناء على اللَّه
ولما فرغ صلّى اللَّه عليه وسلّم من دفن أصحابه ركب فرسه وخرج، والمسلمون حوله:
عامتهم جرحى، ولا مثل لبني [ (6) ] سلمة وبني عبد الأشهل ومعه أربع عشرة امرأة،
__________
[ (1) ] خمروا: غطّوا.
[ (2) ] الحرمل: نبات صحراوي.
[ (3) ] الحجاز: سمّى بذلك لأنه يحتجز بالجبال، (معجم البلدان) ج 2 ص 218.
[ (4) ] هذه الزيادة من نص (الراقدي) ج 1 ص 311.
[ (5) ] البردة: كساء مخطط يلحف به. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 48.
[ (6) ] في (خ) «ولا مثل نبي» ، وما أثبتاه عبارة (الواقدي) ج 1 ص 314.(1/174)
فلما كانوا بأصل الحرة قال:
اصطفوا فنثني على اللَّه، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال: اللَّهمّ لك الحمد كله، اللَّهمّ لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت. اللَّهمّ إني أسألك النعيم المقيم الّذي لا يحول ولا يزول، اللَّهمّ إني أسألك الأمن يوم الخوف، والغنى يوم الفاقة، عائذا بك اللَّهمّ من شر ما أعطيتنا وشرّ ما منعت منا. اللَّهمّ توفنا مسلمين. اللَّهمّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللَّهمّ عذب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك، اللَّهمّ أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق.
آمين.
دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة
وأقبل حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم
فقال: لكن حمزة لا بواكي له:
فخرج الناس ينظرون إلى سلامته، فقالت أم عامر الأشهلية:
كل مصيبة بعدك جلل [ (1) ] وجاءت أم سعد بن معاذ [وهي كبشة بنت رافع بن معاوية] [ (2) ] بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، [وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج] [ (2) ] تعدو نحو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد وقف على فرسه، وسعد ابن معاذ آخذ بعنان الفرس،
فقال سعد: يا رسول اللَّه: أمي، فقال: مرحبا بها،
فدنت حتى تأملت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالت: أما إذ رأيتك سالما فقد أشوت المصيبة [ (3) ] .
فعزاها صلّى اللَّه عليه وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها ثم قال: يا أم سعد: أبشري وبشّري أهليهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا- وهم اثنى عشر رجلا- وقد شفعوا في أهليهم، قالت: رضينا برسول اللَّه، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت:
ادع يا رسول اللَّه لمن خلفوا. قال: اللَّهمّ اذهب حزن قلوبهم، وأجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا. ثم قال: خلّ أبا عمرو الدابة. فخلى سعد الفرس، فتبعه الناس فقال: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشية، وليس منهم مجروح
__________
[ (1) ] جلل: هيّنة، قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل ومن الكثير وهو هاهنا من القليل.
[ (2) ] زيادة من النسب.
[ (3) ] أشوت المصيبة: قلت، والشوية: القليل من الكثير (المعجم الوسيط) ج 1 ص 502.(1/175)
إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان: اللون لون الدم والريح ريح المسك، فمن كان مجروحا فليقرّ في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي، عزمة مني.
فنادى فيهم سعد، عزمة من رسول اللَّه ألا يتبع رسول اللَّه جريح من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح. فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحا، ومضى سعد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاء بيته فما نزل عن فرسه إلا حملا، واتكأ على سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته، فلما أذّن بلال بصلاة المغرب خرج على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين فصلى ثم عاد إلى بيته.
خبر البكاء على حمزة
ومضى سعد بن معاذ إلى نسائه فساقهن حتى لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فبكين حمزة رضي اللَّه عنه بين المغرب والعشاء، والناس في المسجد يوقدون النيران يتكمدون [ (1) ] بها من الجراح. وأذّن بلال رضي اللَّه عنه حين غاب الشفق فلم يخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجلس بلال عند بابه حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه الصلاة يا رسول اللَّه،
فهب صلّى اللَّه عليه وسلّم من نومه وخرج، فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل، وسمع البكاء فقال: ما هذا؟ فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال: رضي اللَّه عنكن وعن أولادكن، وأمر أن ترد النساء إلى منازلهن، فرجعن بعد ليل مع رجالهن.
وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صفّ له الرجال ما بين بيته إلى مصلّاه يمشي وحده حتى دخل، وباتت وجوه الأوس والخزرج على بابه يحرسونه فرقا [ (2) ] من قريش أن تكر، ويقال: إن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه جاء بنساء بني سلمة، وجاء عبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه عنه بنساء بلحارث [بن الخزرج] [ (3) ]
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أردت هذا! ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي.
شماتة المنافقين
وجعل عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول والمنافقون يشمتون معه ويسرّون بما أصاب
__________
[ (1) ] الكمادة: خرقة تسخّن وتوضع على الورم أو موضع الوجع (المرجع السابق) ج 2 ص 798.
[ (2) ] فرقا: خوفا.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.(1/176)
المسلمين، ويظهرون أقبح القول: فيقول ابن أبيّ لابنه عبد اللَّه- وهو جريح قد بات يكوي الجراحة بالنار- ما كان خروج معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان، واللَّه لكأنّي كنت انظر إلى هذا. فقال ابنه: الّذي صنع اللَّه لرسوله [ (1) ] وللمسلمين خير.
ما قالت اليهود والمنافقون شماتة بقتلى أحد
وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط! أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذّلون عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. وسمع عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من يهود والمنافقين.
فقال عليه السلام: يا عمر، إن اللَّه مظهر دينه ومعزّ نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم، قال: فهؤلاء المنافقون! قال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه؟ قال: بلى يا رسول اللَّه! وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لنا أمرهم، وأبدى اللَّه أضغانهم عن هذه النكبة! فقال: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه يا ابن الخطاب، إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن.
ما نزل من القرآن في غزوة أحد
ونزل في غزوة أحد من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ من سورة آل عمران إلى آخرها [ (2) ] ، وكان قد نزل قبل أن يخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حد قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ (3) ] . فلم يصبروا وانكشفوا، فلم يمدّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بملك واحد يوم أحد.
__________
[ (1) ] في (خ) «ولرسوله» .
[ (2) ] قال ابن هشام: ستون آية.
[ (3) ] في (خ) تبدأ الآيات بقوله تعالى: إني ممدكم بثلاثة آلاف ... وهكذا نص (الواقدي) ج 1 ص 320، وما أثبتناه أجود.(1/177)
خبر معاوية بن المغيرة وكان هو الّذي مثّل بحمزة
وكان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قد انهزم ومضى على وجهه ونام قريبا من المدينة، فلما أصبح دخلها، وأتى عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، فلما رآه قال:
ويحك أهلكتني وأهلكت نفسك، وأدخله بيته. ثم سأل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأجله ثلاثا فإن وجد بعدهن قتل. فجهزه عثمان. وخرج بعد ثلاث فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر بالجماء [ (1) ] فرمياه حتى قتلاه، وكان هو الّذي مثّل بحمزة رضي اللَّه عنه.
غزوة حمراء الأسد
ثم كانت غزوة حمراء الأسد [ (2) ] يوم الأحد صبيحة أحد. وذلك أن عبد اللَّه ابن عمرو بن عوف المزني [ (3) ] أو في باب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الأحد، وبلال على الباب بعد ما أذّن وهو ينتظر خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما خرج أخبره المزني أنه أقبل من أهله حتى كان بملل إذا قريش قد نزلوا، فسمع أبا سفيان وأصحابه يشتورون [ (4) ] ليرجعوا حتى يستأصلوا من بقي، وصفوان يأبى ذلك عليهم. فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر وعمر رضي اللَّه عنهما وذكر لهما ذلك، فقالا: أطلب العدو يا رسول اللَّه، ولا يقتحمون على الذرية، فلما صلى الصبح يوم الأحد- ومعه وجوه الأوس والخزرج، وقد باتوا في المسجد على بابه- أمر بلالا فنادى: إن رسول اللَّه يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.
خروج جرحى أحد للغزو
فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير وكلها جريح فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا عدوكم. فقال أسيد بن حضير- وبه سبع جراحات
__________
[ (1) ] الجماء: جبل بالمدينة، على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف.
[ (2) ] حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة، إليه انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد في طلب المشركين.
(معجم البلدان) ج 2 ص 301.
[ (3) ] هذه رواية (الواقدي) في (المغازي) ج 2 ص 334 وقد ذكر (ابن هشام) ج 3 ص 44، و (الكامل) ج 2 ص 164 و (الطبري) ج 2 ص 534، ذكروا خلاف ذلك في أمر بدء هذه الغزوة.
[ (4) ] هذه اللفظة عامية، وقد أكثر (المقريزي) من استعمالها.(1/178)
يريد أن يداويها- سمعا وطاعة للَّه ولرسوله، وأخذ سلاحه ولم يعرّج على دواء، ولحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجاء سعد بن عبادة قومه، وجاء أبو قتادة إلى طائفة فبادروا جميعا. وخرج من بني سلمة أربعون جريحا- بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا [ (1) ] ، وبخراش بن الصمة عشر جراحات-
حتى وافوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لما رآهم: اللَّهمّ ارحم بني سلمة.
اللواء
ودفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لواءه إلى أبي بكر، وقيل: لعليّ رضي اللَّه عنهما، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأقام على حرسه عبّاد بن بشر.
خبر عبد اللَّه ورافع ابني سهل
وكان عبد اللَّه ورافع ابنا سهل بن رافع بن عدي بن زيد بن أمية بن زيد الأنصاريان، رجعا من أحد وبهما جراح كثيرة فخرجا يزحفان، فضعف رافع فحمله عبد اللَّه على ظهره عقبة ومشى عقبة [ (2) ] .
فدعا لهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أتياه وقال: إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكم،
ولم يخرج أحد لم يشهد أحدا سوى جابر بن عبد اللَّه، واستأذنه رجال لم يخرجوا أحدا فلم يأذن لهم.
خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما اجتمع الناس ركع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ركعتين في المسجد ودعا بفرسه على باب المسجد- وعليه الدرع والمغفر- فركب، وإذا بطلحة رضي اللَّه عنه، فقال:
يا طلحة، سلاحك. فأسرع ولبس سلاحه- وبه تسع جراحات- وأقبل فقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم: أين ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسّيالة. قال: ذلك ظننت، أما إنهم- يا طلحة- لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح اللَّه مكة علينا.
__________
[ (1) ] في (خ) «جريحا» .
[ (2) ] العقبة: المرة بعد المرة، ونصّ (الواقدي) ج 1 ص 335- 336: «فكان عبد اللَّه يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة» .(1/179)
الطلائع
وبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم هم: سليط [ (1) ] ونعمان ابنا سفيان بن خالد بن عوف بن دارم وآخر [من أسلم من بني عوير، لم يسمّ لنا] [ (2) ] فقتلوا، ومضى صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد. وكان عامة زادهم التمر. وحمّل سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه ثلاثين بعيرا حتى وافت الحمراء، وساق جزرا لينحر، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمر في النهار فيجمع الحطب، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران، فيوقد كل رجل نارا، فقد أوقدوا خمسمائة نار حتى رئيت من مكان بعيد. وذهب ذكر معسكر المسلمين ونيرانهم في كل وجه، فكان ذلك مما كبت اللَّه به عدوهم.
خبر معبد الخزاعي وانصراف المشركين
ولقي معبد بن أبي معبد الخزاعي-[وهو يومئذ مشرك، وكانت خزاعة سلما للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ]- رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في نفسك وما أصاب أصحابك، ولوددنا أن اللَّه أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك، ثم مضى، فوجد أبا سفيان وقريشا بالروحاء وهم مجمعون على الرجوع:
فأخبرهم أن محمدا وقومه وأصحابه قد تركهم يتحرقون عليهم [ (4) ] مثل النيران، وأنهم في طلبهم، فانصرفوا سراعا خائفين من الطلب لهم. وبعث أبو سفيان مع نفر من عبد القيس مرّ بهم يريدون المدينة أن يعلموا [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنهم أجمعوا الرجعة إليه،
فلما بلغوه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك قال: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل.
فنزل في ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ (6) ] ، وقوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [ (7) ] . وبعث معبد الخزاعي رجلا فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بانصراف أبي
__________
[ (1) ] في (خ) «سليكا» .
[ (2) ] زيادة في المرجع السابق ص 337.
[ (3) ] زيادة للبيان من (الواقدي) ج 1 ص 338.
[ (4) ] في (خ) «عليكم» وهو نص (الواقدي) .
[ (5) ] في (خ) «وهو يعلم» .
[ (6) ] في (خ) «فاخشوهم الآية» وهي الآية 173/ آل عمران.
[ (7) ] في (خ) «القرح الآية» . وهي الآية 172/ آل عمران، وفي رواية (الواقدي) ج 1 ص 340(1/180)
سفيان ومن معه خائفين، فانصرف صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة بعد ثلاث.
سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن
ثم كانت سرية أبي سليمة بن عبد الأسد إلى قطن: وهو جبل بناحية فيد به ماء لبني أسد بن خزيمة بنجد، وذلك في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا:
دعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لهلال المحرم واستعمله على خمسين ومائة رجل، وعقد له لواء، وأمره أن يرد أرض [ (1) ] بني أسد، وأن يغير عليهم قبل أن تلاقي عليه جموعهم، وأوصاه ومن معه بتقوى اللَّه، فسار. وكان الّذي هيّج هذا أن رجلا من طيِّئ- يقال له الوليد بن زهير بن طريف- قدم المدينة، وأخبر أن طليحة وسلمة ابني [ (2) ] خويلد تركهما قد سارا- في قومهما ومن أطاعهما- لحرب رسول اللَّه، فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذلك، بعث أبا سلمة. وخرج الطائي معه دليلا ونكّب بهم عن الطريق، وسار بهم ليلا ونهارا حتى انتهوا بعد أربع إلى قطن، فوجدوا سرحا فأخذوه وثلاثة رعاء مماليك، ونذر بهم [ (3) ] القوم فتفرقوا في كل وجه، وورد أبو سلمة الماء وقد تفرقوا عنه، فبعث في طلب النّعم والشاء فأصابوا منها ولم يلقوا أحدا، فانحدروا إلى المدينة. وأعطى أبو سلمة الطائيّ الّذي دلهم رضاه من المغنم، ثم أخرج صفيا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبدا، ثم أخرج الخمس، وقسم ما بقي بين أصحابه فأقبلوا بها إلى المدينة. ويقال: كان بين المسلمين وبين القوم قتال قتل فيه رجل من المشركين، واستشهد مسعود بن عروة.
غزوة بئر معونة
ثم كانت غزوة بئر معونة- وهي ماء لبني عامر بن صعصعة [ (4) ] ، وقيل:
قرب حرة بني سليم- في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا. وسببها أن عامر ابن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة- أبا براء ملاعب، الأسنّة
قدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهدى له فرسين وراحلتين، فقال: لا أقبل
__________
[ () ] وردت الآيتان بالترتيب الطبيعي لهما.
[ (1) ] في (خ) «أن برد الأرض» .
[ (2) ] في (خ) «بنى» .
[ (3) ] نذر بالشيء نذرا: علمه فحذره (المعجم الوسيط) ج 1 ص 912.
[ (4) ] راجع (معجم البلدان) ج 1 ص 302.(1/181)
هدية مشرك، وردهما،
وعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إني أرى أمرك هذا حسنا شريفا، وقومي خلفي، فلو أنك بعثت نفرا من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك، فإن هم اتبعوك فما أعزى أمرك!
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أخاف عليهم أهل نجد.
فقال عامر: لا تخف عليهم، أنا لهم جار أن يعرض لهم أحد من أهل نجد.
خبر القراء وخروجهم إلى بئر معونة
وكان من الأنصار سبعون رجلا شببة، يسمون القراء، كانوا إذا أمسوا أتوا ناحية المدينة فتدارسوا وصلّوا، حتى إذا كان وجاء الصبح [ (1) ] استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب فجاءوا به إلى حجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكان أهلوهم يظنون أنهم في المسجد، وأهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم، فبعثهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأمرّ عليهم المنذر بن عمرو بن حنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ودّ بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الساعدي: أحد النقباء، وكتب معه كتابا. فساروا ودليلهم المطّلب من بني سليم، حتى [إذا] [ (2) ] كانوا ببئر معونة وهو ماء من مياه بني سليم- عسكروا بها وسرّحوا ظهرهم، وبعثوا في سرحهم الحارث بن الصّمة بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن عامر، وهو مبذول، ابن مالك بن النجار، وعمرو بن أمية بن خويلد بن عبد اللَّه بن إياس بن عبيد ابن ناشرة بن كعب بن جدي بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة [جدي بضم الجيم وفتح الدال] الضمريّ، وقدّموا حرام بن ملحان، وهو مالك بن خالد بن زيد ابن حرام بن جندب [ (3) ] بن عامر بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر، فلم يقرءوا الكتاب.
خبر عامر بن الطفيل ومقتل القراء
ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله، واستصرخ بني عامر فأبوا- وكان أبو براء بناحية نجد- فاستصرخ قبائل من سليم- عصية ورعلا [ (4) ]- فنفروا معه
__________
[ (1) ] أول النهار قبيل الفجر.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) «جنيدب» .
[ (4) ] في (خ) «ورعل» .(1/182)
حتى وجدوا القراء فقاتلوهم، فقتلوا رضي اللَّه عنهم إلا المنذر بن عمرو فإنّهم أمّنوه إن شاء، فأبى أن يقبل أمانهم حتى يأتي مقتل حرام، فلما أتى مصرعه قاتلهم حتى قتل، وأقبل الحارث [بن الصمة] [ (1) ] وعمرو بن أمية بالسرح والخيل واقفة، فقاتلهم الحارث حتى قتل بعد ما قتل منهم عدة. وأعتق عامر بن الطفيل عمرو ابن أمية عن أمّه وجزّ ناصيته.
وكان ممن قتل يومئذ عامر بن فهيرة: طعنه جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ابن كلاب الكلابيّ بالرمح ثم انتزعه، فذهب بعامر في السماء حتى غاب عنه وهو يقول: فزت واللَّه! فأسلم جبار لما رأى من أمر عامر.
دعاء رسول اللَّه على أصحاب الغدر
ولما بلغ رسول اللَّه خبر بئر معونة «جاء معها في ليلة واحدة مصاب [خبيب ابن عدي] [ (2) ] ومرثد بن أبي مرثد وبعث محمد بن مسلمة، فجعل يقول: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها. ودعا على قتلتهم بعد الركعة من الصبح في صبح تلك الليلة التي جاء الخبر فيها. فلما قال: سمع اللَّه لمن حمده، قال: اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللَّهمّ عليك ببني لحيان وزغب ورعل وذكوان، وعصيّة فإنّهم عصوا اللَّه ورسوله، اللَّهمّ عليك ببني لحيان وعضل والقارة، اللَّهمّ أنج الوليد ابن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين.
غفار غفر اللَّه لها، وأسلم سالمها اللَّه. ثم سجد. فقال ذلك خمس عشرة ليلة، ويقال: أربعين يوما، حتى نزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [ (3) ] .
حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على القراء وما نزل فيهم من القرآن
ولم يجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة، وأنزل اللَّه فيهم قرآنا نسخ بعد ما قرئ مدة «بلغوا قومنا [عنا] [ (4) ] أنا لقينا ربنا فرضي عنا
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 53، و (الواقدي) ج 1 ص 349.
[ (3) ] الآية 128/ آل عمران، وفي (خ) «شيء الآية» .
[ (4) ] ما بين القوسين زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 53، وبدون هذه الزيادة رواها (الواقدي) ج 1 ص 350.(1/183)
ورضينا عنه» .
هدية أبي براء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأقبل أبو براء فبعث ابن أخيه لبيد بن ربيعة بفرس هدية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرده وقال: لا أقبل هدية مشرك، قال: فإنه قد بعث يستشفيك من وجع به [وكانت به الدبيلة] [ (1) ] فتناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مدرة من الأرض فتفل فيها ثم ناوله وقال: دفها [ (2) ] بماء ثم اسقها إياه.
ففعل فبرأ. ويقال: بعث إليه بعكة [ (3) ] عسل فلم يزل يلعقها حتى برأ، وشق على أبي براء ما فعل عامر بن الطفيل.
مقتل المشركين
وقدم عمرو بن أمية على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما لقي بصدور قناة [ (4) ] رجلين من بني كلاب قد قدما على رسول اللَّه فكساهما وأمنهما، فقتلهما للذي أصابت بنو عامر من القراء.
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: بئس ما صنعت! قتلت رجلين قد كان لهما مني أمان وجوار! لأدينهما.
وأخرج ديتهما دية حرّين مسلمين، فبعث بها وبسلبهما إلى عامر بن الطفيل.
غزوة الرجيع (سرية مرثد بن أبي مرثد)
ثم كانت غزوة الرجيع: وهو ماء لهذيل بين مكة وعسفان بناحية الحجاز، وذلك في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا. وذلك أن بني لحيان جعلت فرائض لعضل والقارة [رحم من بني الهون بن خزيمة بن مدركة إخوة بني أسد بن خزيمة] على أن يقدموا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيكلموه أن يخرج إليهم نفرا يدعونهم إلى الإسلام ليقتلوا من قتل سفيان بن نبيح الهذلي [ (5) ] ، ويبيعوا سائرهم على قريش بمكة، فقدم
__________
[ (1) ] الدّبيلة على وزن جهبنة: داء في الجوف (ترتيب القاموس) ج 2 ص 149.
[ (2) ] داف الدواء: خلطه وأذابه بالماء هامش (ط) ص 173.
[ (3) ] العكّة: وعاء من جلود مستدير يختص بالسمن والعسل، وهو بالسمن أخصّ (النهاية) ج 3 ص 284.
[ (4) ] في (خ) «بصدر قناء» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 351، (وابن سعد) ج 2 ص 53، وقناة: واد بالمدينة، وأحد أوديتها الثلاثة (معجم البلدان) ج 4 ص 401.
[ (5) ] هذا هو سبب سرية عبد اللَّه بن أنيس، وهي لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره صلّى اللَّه عليه وسلّم (انظر ص 256) .(1/184)
سبعة نفر من عضل والقارة مقرّين بالإسلام، فقالوا: يا رسول اللَّه، إن فينا إسلاما فاشيا، فابعث معنا نفرا من أصحابك يقرئونا القرآن ويفقهونا في الإسلام.
خروج مرثد وأصحابه إليهم ومقتلهم
فبعث معهم ستة وقيل عشرة، وهو الأصح كما وقع في كتاب الجامع الصحيح للبخاريّ رحمه اللَّه، وأمرّ عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي [ويقال: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح] فخرجوا حتى إذا كانوا بماء لهذيل- يقال له الرجيع، قريب من الهدّة- لقيهم [ (1) ] مائة في أيديهم السيوف فقاموا ليقاتلوهم، فقالوا: ما نريد قتالكم، ولا نريد إلا أن نصيب منكم من أهل مكة ثمنا، ولكم عهد اللَّه وميثاقه لا نقتلكم، فاستأسر خبيب بن عدي الأنصاري، وزيد بن الدّثنّة بن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاريّ البياضيّ وعبد اللَّه بن طارق بن عمرو بن مالك البلويّ، وأبيّ أبو سليمان عاصم بن ثابت، ومرثد، وخالد بن أبي البكير، ومعتّب ابن عبيد: أن يقبلوا جوارهم.
خبر عاصم بن ثابت حمى الدّبر
ورماهم عاصم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى كسر رمحه، ثم كسر غمد سيفه، وقاتل حتى قتل. فبعث عليه الدبر [ (2) ] فحمته، فلم يدن منه أحد إلا لدغت وجهه، ثم بعث اللَّه في الليل سيلا فاحتمله فذهب به فلم يقدروا عليه.
وذلك أنه كان قد نذر ألا يمسّ مشركا ولا يمسّه مشرك. وكانوا يريدون أن يجزوا رأسه ليذهبوا به: إلى سلافة بنت سعد بن الشّهيد لتشرب في قفة قحفة [ (3) ] الخمر، فإنّها نذرت إن أمكنها اللَّه منه أن تفعل ذلك من أجل أنه قتل لها ابنين في يوم واحد.
خبر الأسرى يوم الرجيع
وقتلوا [ (4) ] معتّبا، وخرجوا بخبيب بن عدي بن مالك بن عامر بن مالك بن
__________
[ (1) ] في (خ) «فلقيهم» .
[ (2) ] الدبر: جماعة من النحل والزّنابير (المعجم الوسيط) ج 1 ص 269.
[ (3) ] القحفة: ما انفلق من الجمجمة (المرجع السابق) ج 2 ص 716.
[ (4) ] في (خ) «وقتل» .(1/185)
مجدعة بن جحجبي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وعبد اللَّه بن طارق، وزيد بن الدّثنّة، وهم موثقون بأوتار قسيّهم، فنزع عبد اللَّه بن طارق يده من رباطه وأخذ سيفه، فقتلوه رجما بالحجارة وقبروه بمرّ الظهران.
خبر خبيب بن عدي بمكة
وقدموا مكة بخبيب وزيد فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب بثمانين مثقالا ذهبا، ويقال: بخمسين فريضة [ (1) ] ويقال: اشترته ابنة [ (2) ] الحارث بن عامر بن نوفل بمائة من الإبل. [وكان حجير بن أبي إهاب قد ابتاع خبيب بن عدي لزوج أخته عقبة ابن الحارث بن عامر بن نوفل، ليقتله بأبيه: قتل يوم بدر] [ (3) ] واشترى زيدا صفوان بن أمية بخمسين فريضة ليقتله بأبيه. ويقال: أنه شرك فيه أناس من قريش.
وحبس حجير خبيبا- لأنه كان في ذي القعدة وهو شهر حرام- فأقام محبوسا في بيت ماويّة [ (4) ] ، مولاة بني عبد مناف، وحبس زيد عند نسطاس مولى صفوان ابن أمية، ويقال: عند قوم من بني جمح، فرأت ماوية خبيبا وهو يأكل عنبا من قطف مثل رأس الرجل في يده، وما في الأرض يومئذ حبة عنب، فعلمت أنه رزق رزقه اللَّه، فأسلمت بعد ذلك، وكان يجهر بالقرآن فيسمعه النساء فيبكين، فلما أعلمته ماوية- بعد انسلاخ الأشهر الحرم- بقتله، ما اكترث لذلك، وطلب حديدة فأتته بموسي مع ابنها أبي حسين [ (5) ] ، مولى بني الحارث بن عامر بن نوفل ابن عبد مناف بن قصي فقال له ممازحا له: وأبيك إنك لجريء! أما خشيت أمّك
__________
[ (1) ] الفريضة: ما فرض في السائمة من الصدقة، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة غير الزكاة، (ترتيب القاموس) ج 3 ص 473 و (النهاية) ج 3 ص 432.
[ (2) ] في (خ) «اشتراه ابنه الحارث» ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 257.
[ (3) ] ما بين القوسين من (الواقدي) ج 1 ص 357 ومكانه في (خ) فهو هكذا، وكان خبيب قد قتله عقبة ابن الحارث بن عامر بن نوفل فأرادوا قتله به» وهذا خطأ كله وفي (ابن سعد) و (الواقدي) أنه اشتراه «لابن أخته» وهذا خطأ أيضا، بدليل ما قاله ابن حجر في (الإصابة) ج 7 ص 20 ترجمة رقم 5585 «مات عقبة بن الحارث في خلافة ابن الزبير» .
[ (4) ] في (الواقدي) «في بيت امرأة يقال لها ماويّة» وهو أجود.
[ (5) ] في (خ) «أبي الحسن بن الحارث» «وهو خطأ» هكذا قال محقق (ط) ، وفي (ابن هشام) ج 3 ص 96. «قال ابن هشام: ويقال إن الغلام ابنها» . وفي (ابن الأثير) ج 2 ص 167 «ندب صبي لها ... » راجع (صحيح البخاري) ج 7 ص 382، 383.(1/186)
غدري حين بعثت معك بحديدة، وأنتم تريدون قتلي؟ فقالت ماوية: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان اللَّه، فقال: ما كنت لأقتله! ثم أخرجوه في الحديد إلى التنعيم [ (1) ] ومعه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة ومعه زيد بن الدّثنّة.
مقتل خبيب
فصلى خبيب ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما- وكان أول من سن الركعتين عند القتل [ (2) ]- ثم قال: اللَّهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. ثم أوثقوه رباطا وقالوا: ارجع عن الإسلام ونخلي سبيلك. فقال: لا إله إلا اللَّه! واللَّه ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعا! قالوا: أفتحب أن محمدا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ فقال: واللَّه ما أحب أن يشاك محمد شوكة وأنا جالس في بيتي. فجعلوا يقولون: يا خبيب ارجع! قال: لا أرجع أبدا. قالوا: أما واللات والعزى لئن لم تفعل لنقتلنك! قال: إن قتلي في اللَّه لقليل [ (3) ] ، فجعلوا وجهه من حيث جاء، فقال: ما صرفكم وجهي عن القبلة؟ ثم قال: اللَّهمّ إني لا أريد إلا وجه عدو، اللَّهمّ ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فبلغه أنت عني السلام،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهو جالس مع أصحابه وقد أخذته غمية [ (4) ]-: وعليه السلام ورحمة اللَّه، ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام.
ثم أحضروا أبناء من قتل ببدر- وهم أربعون غلاما- فأعطوا كل غلام رمحا فطعنوه برماحهم، فاضطرب على الخشبة، وقد رفعوه إليها. وانفلت فصار [ (5) ] وجهه إلى الكعبة فقال: الحمد للَّه [ (6) ] فطعنه أبو سروعة- واسمه عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ- حتى أخرجها من ظهره، فمكث ساعة يوحّد ويشهد أن محمدا رسول اللَّه ثم مات رضي اللَّه عنه، وتولى قتل زيد نسطاس، وقد روي أن غزوة الرجيع كانت قبل
__________
[ (1) ] التنعيم: موضع بمكة في الحلّ، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل أربعة (معجم البلدان) ج 2 ص 49.
[ (2) ] وكذلك فعلهما حجر ابن الأدبر حين قتله معاوية وقد صلى هاتين الركعتين أيضا زيد بن حارثة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتفصيل الخبرين في (الروض الأنف) ج 3 ص 325.
[ (3) ] في (خ) «لقتل» .
[ (4) ] الغميية: كالغشية.
[ (5) ] في (خ) «وصار» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 361.
[ (6) ] وفي المرجع السابق: «الحمد للَّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضى لنفسه ولنبيه وللمؤمنين» .(1/187)
بئر معونة.
غزوة بني النضير
ثم كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويقال: كانت في جمادى الأولى [ (1) ] سنة أربع، وروى عقيل ابن خالد وغيره عن ابن شهاب قال: كانت غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.
سببها، وغدر اليهود برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
سببها أن عمرو بن أمية الضمريّ لما قتل الرجلين من بني عامر خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني النضير يستعين في ديتهما- لأن بني النضير كانوا حلفاء بني عامر، وكان ذلك يوم السبت- فصلى في مسجد قباء ومعه رهط من المسلمين. ثم جاء بني النضير ومعه دون العشرة من أصحابه [ (2) ] فيجدهم في ناديهم، فجلس يكلمهم أن يعينوه في الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، فقالوا: نفعل، اجلس حتى نطعمك، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستند إلى بيت، فخلا بعضهم إلى بعض، وأشار عليهم حيي بن أخطب أن يطرحوا عليه حجارة من فوق البيت الّذي هو تحته فيقتلوه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش ليطرح عليه صخرة، وهيأ الصخرة ليرسلها على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأشرف بها، فجاء الوحي بما همّوا به، فنهض صلّى اللَّه عليه وسلّم سريعا كأنه يريد حاجة ومضى إلى المدينة. فلما أبطأ لحق به أصحابه- وقد بعث في طلب [ (3) ] محمد بن مسلمة- فأخبرهم بما همت به يهود، وجاء محمد بن مسلمة فقال:
اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم: [إن رسول اللَّه أرسلني إليكم] [ (4) ] أن اخرجوا من بلده، فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر، وقد أجّلتهم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه.
أمر إجلاء بني النضير
فأخذوا يتجهزون في أيام، ثم بعث حيي بن أخطب مع أخيه جدي [ (5) ] بن
__________
[ (1) ] في (خ) «الأول» .
[ (2) ] في (خ) «وأصحابه» .
[ (3) ] في (خ) «طلبه» .
[ (4) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 366.
[ (5) ] في (خ) «حدى» .(1/188)
أخطب إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لا نخرج، فليصنع ما بدا له. وقد غره عبد اللَّه بن أبي بأن أرسل إليه سويدا وداعسا بأن يقيم بنو النضير ولا يخرجوا: فإن معي من قومي وغيرهم [من العرب] [ (1) ] ألفين، يدخلون معكم فيموتون من آخرهم دونكم.
فلما بلّغ جدي رسالة أخيه حييّ كبّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه وقال:
حاربت يهود.
ونادى مناديه بالمسير إلى بني النضير.
مسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم وحصارهم
وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وقد قاموا على جدر [ (2) ] حصونهم ومعهم النبل والحجارة، ولم يأتهم ابن أبيّ واعتزلتهم [ (3) ] قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال، وجعلوا يرمون يومهم بالنبل والحجارة حتى أمسوا، فلما صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العشاء- وقد تتام أصحابه- رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه، وعليه الدرع والمغفر وهو على فرس. واستعمل عليا رضي اللَّه عنه على العسكر، ويقال: بل استعمل أبا بكر رضي اللَّه عنه. وبات المسلمون محاصريهم يكبرون حتى أصبحوا. وأذن بلال رضي اللَّه عنه بالمدينة، فغدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس في فضاء بني خطمة، واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم.
قتال بني النضير
وحملت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبة أدم أرسل بها سعد بن عبادة، فضربها بلال ودخلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرمى عزوك- من اليهود- فبلغ نبله القبة، فحولت حيث لا يصلها النّبل. ولزم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الدّرع وظل محاصرهم ست ليال من ربيع الأول. وحينئذ حرّمت الخمر، على ما ذكره أبو محمد بن حزم. وفقد عليّ رضي اللَّه عنه في بعض الليالي
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه في بعض شأنكم! فعن قليل جاء برأس عزوك:
وقد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين، وكان شجاعا راميا، فشدّ عليه عليّ رضي اللَّه عنه فقتله، وفرّ اليهود، فبعث معه
__________
[ (1) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 366.
[ (2) ] في (خ) «جذر» .
[ (3) ] في (خ) «اعتزلهم» .(1/189)
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا دجانة وسهل بن حنيف، في عشرة فأدركوا اليهود الذين فروا من علي رضي اللَّه عنه فقتلوهم، وأتوا برءوسهم فطرحت في بعض البئار [ (1) ] . وكان سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه يحمل التمر إلى المسلمين.
تحريق نخلهم وشرط إجلائهم
وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنخل فقطعت وحرّقت، واستعمل على ذلك أبا ليلى المازني وعبد اللَّه بن سلام فشق على يهود قطع النّخل، وبعث حيي بن أخطب إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه يخرج ومن معه.
فقال عليه السلام: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم [دماؤكم و] [ (2) ] ما حملت الإبل إلا الحلقة [ (3) ] ،
فلم يقبل حييّ، وحالفت عليه طائفة ممن معه وأسلّم منهم يامين بن عمير بن كعب [ابن عمّ عمرو ابن جحاش] [ (4) ] وأبو سعد بن وهب ونزلا فأحرزا أموالهما، ثم نزلت يهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، وجعل يامين لرجل من قيس عشرة دنانير.
ويقال: خمسة أوسق من تمر حتى قتل عمرو بن جحاش غيلة، فسرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتله.
كيف كان جلاؤهم
وأقام على حصار يهود خمسة عشر يوما حتى أجلاهم وولي إخراجهم محمد ابن مسلمة. وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم [بأيديهم] [ (5) ] مما يليهم، والمسلمون يخربون مما يليهم ويحرّقون، حتى وقع الصلح، جعلوا يحملون الخشب ويحملون النساء والذرية، وشقوا سوق المدينة والنساء في الهوادج عليهنّ الحرير والديباج وحلي الذهب والمعصفرات وهن يضربن بالدفوف ويزمرن بالمزامير تجلدا- وكبارهم يومئذ حييّ بن أخطب، وسلّام بن أبي الحقيق- وقد صف لهم الناس وهم يمرون، فكانوا على ستمائة بعير، فنزل أكثرهم بخيبر فدانت لهم، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، فكان ممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب، وسلام ابن أبي الحقيق، وحزن المنافقون لخروجهم أشد الحزن.
__________
[ (1) ] في (خ) «البيار» والبئار: جمع بئر.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 58.
[ (3) ] الحلقة: السلاح كله.
[ (4) ] في (خ) «كعب بن عمرو بن جحاش» ، وهو خطأ، وما أثبتناه من سياق ترجمته في (الإصابة) ج 10 ص 333 برقم 9112.
[ (5) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 58.(1/190)
أموال بني النضير
وقبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأموال والحلقة: فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة [ (1) ] ، وثلاثمائة سيف وأربعين سيفا. وقال عمر رضي اللَّه عنه: ألا تخمّس ما أصبت.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا أجعل شيئا جعله اللَّه لي دون المؤمنين- بقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [ (2) ] كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين.
وكانت بنو النضير من صفايا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعلها حبسا لنوائبه، وكان ينفق على أهله منها: كانت خالصة له، فأعطى من أعطى منها، وحبس ما حبس، وكان يزرع تحت النخل، وكان يدخل منها قوت أهله سنة من الشعير والتمر لأزواجه وبني المطلب [ (3) ] ، وما فضل جعله في الكراع والسلاح.
واستعمل على أموال بني النضير أبا رافع مولاه، وكانت صدقاته منها ومن أموال مخيريق.
المهاجرون والأنصار
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما تحول من بني عمرو بن عوف إلى المدينة تحول المهاجرون فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم السهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة، فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم.
خبر قسمة أموال بني النضير على المهاجرين دون الأنصار
فلما غنم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شمّاس فدعا الأنصار كلها- الأوس والخزرج- فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثم
قال: إن أحببت قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللَّه عليّ من بني النضير، وكان
__________
[ (1) ] البيضة، من أدوات الحرب.
[ (2) ] آية 7/ الحشر، وفي (خ) « ... القرى، الآية» .
[ (3) ] في (خ) «بنى عبد المطلب» .(1/191)
المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم.
فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول اللَّه، بل تقسمه للمهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول اللَّه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار.
وقسم ما أفاء اللَّه عليه على المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة بن الحارث بن عمرو بن خناس (ويقال خنساء) بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، وأبو دجانة سماك بن خرشة بن لوذان بن عبد ودّ بن ثعلبة الأنصاري. وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر. ووسّع صلّى اللَّه عليه وسلّم في الناس من أموال بني النضير، وأنزل اللَّه تعالى في بني النضير «سورة الحشر» .
وفي جمادى الأولى [ (1) ] مات عبد اللَّه بن عثمان عن رقية.
زواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأم سلمة
وفي شوال من هذه السنة تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأم سلمة رضي اللَّه عنها.
غزوة بدر الموعد
ثم كانت غزوة بدر الموعد لهلال ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهرا.
وسببها أن أبا سفيان بن حرب لما أراد أن ينصرف يوم أحد نادى: موعد بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول نلتقي فيه فنقتتل. فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه- وقد أمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-: نعم، إن شاء اللَّه.
سوق بدر الصفراء وكراهية أبي سفيان الخروج إلى الموعد
وكانت بدر [ (2) ] الصفراء مجمعا للعرب في سوق يقام لهلال ذي القعدة إلى ثمان
__________
[ (1) ] في (خ) «الأول» .
[ (2) ] «وبدر الموعد، وبدر القتال، وبدر الأولى، والثانية: كلها موضع واحد» (معجم البلدان) ج 1 ص 358.(1/192)
منه، فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج وأحبّ ألا يوافي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الموعد، وكان يظهر أنه يريد الغزو في جمع كثيف، فيبلغ أهل المدينة عنه أنه يجمع الجموع ويسير في العرب، فتأهب المسلمون له.
رسالة أبي سفيان نعيم بن مسعود لتخذيل المسلمين
وقدم [ (1) ] نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فأخبر أبا سفيان [ (2) ] وقريشا بتهيؤ المسلمين لحربهم. وكان عاما [ (3) ] جدبا، أعلمه أبو سفيان بأنه كاره للخروج إلى لقاء المسلمين، واعتل بجدب الأرض. وجعل له عشرين فريضة توضع تحت يد سهيل بن عمرو، على أن يخذل المسلمين عن المسير لموعده وحمله على بعير. فقدم المدينة وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان حتى رعّب [ (4) ] المسلمين، وهو يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين ولم تبق لهم نية في الخروج. واستبشر المنافقون واليهود وقالوا: محمد لا يغلب! - من هذا الجمع- فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى خشي ألا يخرج معه أحد. وجاءه أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما- وقد سمعا ما سمعا- وقالا: يا رسول اللَّه، إن اللَّه مظهر دينه ومعزّ نبيه، وقد وعدنا القوم موعدا، ولا نحب أن نتخلف فيرون أن هذا جبن، فسر لموعدهم، فو اللَّه إن في ذلك لخيرة.
فسرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم قال: والّذي نفسي بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معي أحد.
فبصّر اللَّه المسلمين وأذهب ما كان رعبهم الشيطان، وخرجوا بتجارات لهم إلى بدر فربحت ربحا كثيرا.
خروج المسلمين إلى بدر
واستخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المدينة عبد اللَّه بن رواحة، وسار في ألف وخمسمائة، فيهم عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة، وقام السّوق صبيحة الهلال فأقاموا ثمانية أيام والسوق قائمة. وخرج أبو سفيان من مكة في ألفين معهم خمسون فرسا ثم رجعوا من مجنة [ (5) ] ، [وذلك أن أبا سفيان بدا له الرجوع فقال: يا معشر قريش، ارجعوا
__________
[ (1) ] في (خ) «وقد» .
[ (2) ] في (خ) «أخبر أبا سفيان» مكررة.
[ (3) ] في (خ) «عامة» .
[ (4) ] رعب: خوّف.
[ (5) ] مجنّة: موضع على أميال يسيرة من مكة بناحية مر الظهران واسم سوق للعرب (معجم البلدان) ج 5 ص 58.(1/193)
فإنه لا يصلحنا إلا عام خصيب غيداق نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، فإنّي راجع فارجعوا. فرجع الناس، فسمّاهم أهل مكة: «جيش السويق» . يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق] [ (1) ] .
خبر مجدي بن عمرو، وبني ضمرة
وقام مجدي بن عمرو من بني ضمرة [- ويقال: مخشيّ بن عمرو-] والناس مجتمعون في سوقهم، والمسلمون أكثر ذلك الموسم فقال: يا محمد لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم!.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم [ (2) ] قبل أن نبرح منزلنا هذا.
فقال الضمريّ: بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك.
معبد الخزاعي ينذر أهل مكة
وانطلق [ (3) ] معبد بن أبي معبد الخزاعي سريعا- بعد انقضاء الموسم [ (4) ]- إلى مكة، وأخبر بكثرة المسلمين وأنهم أهل ذلك الموسم وأنهم ألفان، وأخبرهم بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للضمري. فأخذوا في الكيد والنفقة لقتال [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، واستجلبوا من حولهم من العرب وجمعوا الأموال، وضربوا البعث على أهل مكة فلم يترك أحد منهم إلا أن يأتي بمال، ولم يقبل من أحد أقل من أوقية لغزو الخندق.
وأنزل اللَّه تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ (6) ] يعني نعيم بن مسعود.
وعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة فكانت غيبته عنها ست عشرة ليلة. وذكر
__________
[ (1) ] هذه زيادة من (المغازي) ج 1 ص 388 ومن (ابن هشام) ج 3 ص 123 وغيرهما من كتب السيرة، وفي (خ) بعد قوله «مجنة» ، «ويقال مخشى بأنه عام جدب وقام مجدي بن عمرو من بني ضمرة والناس مجتمعون» .
[ (2) ] في (خ) «جالدناكم» والمجالدة: المضاربة بالسيف.
[ (3) ] في (خ) «فانطلق» وهذه أجود.
[ (4) ] في (خ) «المسوم» .
[ (5) ] في (خ) «فأخذوا للكيد والنفقة للقتال ... » وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 389.
[ (6) ] آية 113/ آل عمران، وفي (خ) إلى قوله «فاخشوهم» .(1/194)
أبو محمد بن حزم أن بدر الموعد بعد ذات الرقاع [ (1) ] .
سرية عبد اللَّه بن عتيك لقتل أبي رافع اليهودي، وسبب ذلك
ثم كانت سرية عبد اللَّه بن عتيك إلى أبي رافع سلّام بن أبي الحقيق حتى قتل سحر ليلة الاثنين لأربع خلون من ذي الحجة على رأس ستة وأربعين شهرا، وقيل:
كان قتله في جمادى الأولى سنة ثلاث. وكان سبب ذلك أن أبا رافع كان قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فإنه كانت له رياسة قريظة بعد يوم بعاث [ (2) ]- فبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه ابن عتيك بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن زيد بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري [ (3) ]- وكانت أمه بخيبر يهودية أرضعته- وبعث معه أربعة هم: عبد اللَّه بن أنيس، وأبو قتادة، والأسود بن الخزاعي، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله، ونهى عن قتل النساء والولدان، فانتهوا إلى خيبر ونزلوا على أم عبد اللَّه [ابن عتيك] [ (4) ] ليلا- وقد تلقتهم بتمر وخبز- فكمنوا [ (5) ] حتى هدأت الرّجل، واستفتحوا على أبي رافع.
فقالت امرأته: ما شأنكم؟ فقال لها عبد اللَّه بن عتيك- وكان يرطن باليهودية-:
جئت أبا رافع بهدية. ففتحت له فدخل بمن معه- وأبو رافع نائم- فعلوه بأسيافهم وقد صاحت المرأة، واتكأ عبد اللَّه بن أنيس بسيفه على بطنه حتى بلغ الفراش، وهلك. فنزولا، ونسي أبو قتادة الأنصاري قوسه فرجع فأخذها، [فوقع من الدرجة] [ (6) ] فانكفت رجله فاحتملوه. وقام الصّائح وأتت يهود، فخرج منهم أبو
__________
[ (1) ] وكذلك أوردها (ابن هشام) بعد ذات الرقاع وأيضا (الطبري) في التاريخ و (ابن الأثير) في الكامل و (ابن كثير) في البداية والنهاية.
[ (2) ] في (خ) «بغاث» .
[ (3) ] هذا نسبه إلى الأوس، ولا شك أنه من الخزرج، يقول (ابن عبد البر) في (الاستيعاب) ج 6 ص 297: «لأن الرهط الّذي قتلوا ابن أبي الحقيق خزرجيون، والذين قتلوا كعب بن الأشرف أوسيون، كذا قال ابن إسحاق وغيره، ولم يختلفوا في ذلك» .
[ (4) ] زيادة للإيضاح.
[ (5) ] في (خ) «فأكمنوا» .
[ (6) ] زيادة للبيان: وقد اختلف فيمن وقع من الدرجة، يقول (ابن هشام) ج 3 ص 102. «وكان عبد اللَّه بن عتيك رجلا شيء البصر قال: فوقع من الدرجة ... إلخ» .(1/195)
ذؤيب [ (1) ] الحارث في آثار القوم ومعه جمع، فنجاهم اللَّه منهم. وقد كمنوا يومين حتى سكن الطلب،
ثم أقبلوا إلى المدينة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على المنبر، فقال: أفلحت الوجوه! فقالوا: أفلح وجهك يا رسول اللَّه! قال: أقتلتموه؟ قالوا: نعم، كلنا يدّعي قتله. وأروه أسيافهم فقال: هذا قتله، هذا أثر الطعام في سيف عبد اللَّه ابن أنيس.
فكانت غيبتهم عشرة أيام. ويقال: كانت هذه السرية في رمضان سنة ست [ (2) ] .
تعليم زيد بن ثابت كتابة اليهود
وفي هذه السنة الرابعة أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد ابن لوذان بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك النجار الأنصاريّ رضي اللَّه عنه أن يتعلم كتاب يهود،
وقال: لا آمن أن يبدلوا كتابي.
وولد الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما- في قول بعضهم- لليال خلون من شعبان.
غزوة ذات الرقاع
ثم كانت غزوة ذات الرقاع: وسمّيت بذلك لأنها كانت عند جبل فيه بقع حمر وبيض وسود كأنها رقاع، وقيل: سميت بذلك لأنها رقعوا راياتهم، ويقال أيضا: ذات الرقاع شجرة بذلك الموقع يقال لها ذات الرقاع. وأصح الأقوال ما رواه البخاري من طريق أبي موسى قال: خرجنا مع النبي [ (3) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة [ (4) ]- ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه- فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا [ (5) ] نلفّ على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا
__________
[ (1) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ج 1 ص 393، «الحارث أبو زينب» . وهو الصواب.
[ (2) ] ذكر المؤلف سرية عبد اللَّه بن عتيك لقتل أبي رافع سلّام بن أبي الحقيق، وجعلها في ذي الحجة على رأس ستة وأربعين شهرا- أي في السنة الرابعة من الهجرة- وهذا التاريخ من رواية موسى بن عقبة. ومقتل سلّام بن أبي الحقيق كان بعد غزوة الأحزاب، وغزوة الأحزاب عند موسى بن عقبة، وعند ابن حزم كانت سنة أربع، فهذا تاريخ صحيح عند ابن عقبة يجعل الغزوة والسرية في سنة أربع على الترتيب، ولكن المقريزي أخذ تاريخ السرية من موسى بن عقبة وصححه وأعتمده فجعله في سنة أربع، ثم جعل غزوة الأحزاب في سنة خمس، ولا أدري لم فصل هذا الفصل بينهما وصحح واحدة- وهي السرية- من تاريخ موسى بن عقبة، وردّ الغزاة إلى سنة خمس من رواية غيره؟.
[ (3) ] في (خ) «مع رسول اللَّه» ، وما أثبتناه من رواية البخاري ج 3 ص 35.
[ (4) ] في (خ) «غزوة» .
[ (5) ] في (خ) «فكنا» .(1/196)
نعصب من الخرق على أرجلنا [ (1) ] .
ما فيها من دلائل النبوة
وفي هذه الغزاة ظهر من أعلام النبوة: ظهور بركة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في أكل أصحابه من ثلاث بيضات حتى شبعوا ولم تنقص، وسبق جمل جابر بعد تخلفه، وبرء الصبي مما كان به، وقصة الأشاءتين [ (2) ] ، وقصة غورث [بن الحارث] [ (3) ] وقصة الجمل لما برك يشكو.
الخروج إلى الغزوة
وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة السبت لعشر خلون من المحرم على رأس سبعة وأربعين شهرا، وقدم صرار [ (4) ] يوم الأحد لخمس بقين منه، وغاب خمس عشرة ليلة. وسببها أن [قادما- قدم يجلب له] [ (5) ] من نجد إلى المدينة- أخبر أن بني أنمار بن بغيض، وبني سعد بن ثعلبة بن ذبيان بن بغيض، قد جمعوا لحرب المسلمين، فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم في أربعمائة، وقيل: في سبعمائة، وقيل: ثمانمائة، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، وبثّ السرايا في طريقه فلم يروا أحدا، ثم قدم محالّهم وقد ذهبوا إلى رءوس الجبال وأطلّوا على المسلمين، فخاف الفريقان بعضهم من بعض.
صلاة الخوف
وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف، فكان أوّل ما صلاها يومئذ، وقد خاف أن يغيروا عليه وهم في الصلاة، فاستقبل القبلة وطائفة خلفه وطائفة مواجهة للعدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجدتين ثم ثبت قائما فصلوا خلفه ركعتين وسجدتين ثم سلموا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة وسجدتين،
__________
[ (1) ] وتتمه رواية البخاري: «وحدث أبو موسى بهذا، ثم كره ذاك، قال: ما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه.
[ (2) ] في (خ) «الأشاتين» وأشاء النخل: صفاره، أو عامته، أشاءة (ترتيب القاموس) ج 1 ص 151.
[ (3) ] زيادة للبيان.
[ (4) ] صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق المدينة (معجم البلدان) ج 3 ص 398.
[ (5) ] في (خ) «قدما قادما مجلب» ، والجلب: ما يجلب ليباع.(1/197)
والطائفة الأولى مقبلة على العدو، فلما صلى بهم ركعة ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم ركعة وسجدتين ثم سلّم. هكذا ذكر ابن إسحاق والواقدي وغيرهما من أهل السّير، وهو مشكل.
تحقيق القول في صلاة الخوف متى كانت
فإنه قد جاء في رواية الشافعيّ وأحمد والنّسائيّ عن أبي سعيد: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حبسه المشركون يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جمعا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف. قالوا: وإنما نزلت صلاة الخوف بعسفان، كما رواه أبو عيّاش الزّرقيّ قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعسفان فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم. فنزلت- يعني صلاة الخوف- بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين، وذكر الحديث.
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي [ (1) ] . وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال:
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نازلا بين ضجنان [ (2) ] وعسفان محاصر المشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أهم إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة. فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين، وذكر الحديث. رواه النّسائيّ [ (1) ] والترمذي [ (3) ] وقال: حسن صحيح. وقد علم بلا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق فاقتضى هذا أن ذات الرقاع بعدها بل بعد خيبر. ويؤيد هذا أن أبا موسى الأشعري وأبا هريرة رضي اللَّه عنهما شهداها:
أما أبو موسى الأشعري فإنه قدم بعد خيبر، وقد جاء في الصحيحين عنه: أنه شهد غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يلفّون على أرجلهم الخرق لما نقبت، فسميت بذلك، وأما أبو هريرة، فعن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: عام غزوة
__________
[ (1) ] (مسند الإمام أحمد) ج 4 ص 59، 60. (أبو داود) ج 2 ص 28 حديث رقم 1236.
(عون المعبود) ج 4 ص 104 حديث رقم 1224. (سنن النسائي) ج 3 ص 167.
[ (2) ] ضجنان: «جبيل على بريد من مكة ... ، وقال الواقدي: ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلا» (معجم البلدان) ج 3 ص 453 وفي (خ) «صحنان» .
وعسفان: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة (المرجع السابق) ج 4 ص 122.
[ (3) ] (سنن الترمذي) ج 2 ص 39 باب 393 حديث رقم 561.(1/198)
نجد، وذكر صفة من صفات صلاة الخوف. أخرجه [ (1) ] الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وإنما جاء أبو هريرة مسلما أيام خيبر.
وكذلك قال عبد اللَّه بن عمر، قال: غزوت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل نجد، فذكر صلاة الخوف. وإجازة [ (2) ] عبد اللَّه في القتال كانت عام الخندق. وقد قال البخاري: إن ذات الرقاع بعد خيبر، واستشهد بقصة [ (3) ] أبي موسى وإسلام أبي هريرة.
وقال ابن إسحاق: إنها كانت في جمادى الأولى بعد غزوة بني النضير بشهرين، وقد قال بعض من أرّخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة، فواحدة كانت قبل الخندق، وأخرى بعدها.
وقد قيل: إن قصة جمل جابر وبيعه من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت في غزوة ذات الرقاع. وفي ذلك نظر، لأنه جاء أن ذلك كان في غزوة تبوك.
وبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم جعال بن سراقة بشيرا إلى المدينة بسلامته وسلامة المسلمين.
خبر الربيئة: عباد بن بشر وعمار بن ياسر
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أصاب في محالهم نسوة منهن جارية وضيئة كان زوجها يحبها، فلما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم راجعا إلى المدينة حلف زوجها ليطلبن محمدا، ولا يرجع إلى قومه حتى يصيب محمدا، أو يهريق فيهم دما، أو يتخلص صاحبته.
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيرة في عشية ذات ريح فنزل في شعب فقال: من رجل يكلأنا [ (4) ] الليلة؟
فقام عمار بن ياسر وعباد بن بشر فقالا: نحن يا رسول اللَّه نكلؤك: وجعلت الريح لا تسكن، وجلسا على فم الشّعب. فقال أحدهما لصاحبه:
أي الليل [ (5) ] أحب إليك [أن أكفيكه، أوله أم آخره] [ (6) ] ؟ قال: [بل] [ (7) ] اكفني
__________
[ (1) ] في (خ) «أرجه» .
[ (2) ] في (خ) «وإجارة» .
[ (3) ] في (خ) «بقضية» .
[ (4) ] يكلأنا: يرعانا، وفي التنزيل: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ (المعجم الوسيط) ج 2 ص 793.
[ (5) ] في (خ) «الليلة» .
[ (6) ] ما بين الأقواس لفظ مضطرب في (خ) والتصويب من (ابن هشام) ج 3 ص 122 ونحوه مع اختلاف يسير في (الواقدي) ج 1 ص 397.
[ (7) ] زيادة للسياق.(1/199)
أوله. فنام عمار بن ياسر وقام عباد بن بشر يصلي، وأقبل عدو اللَّه يطلب غرّة وقد سكنت الريح. فلما رأى سواده من قريب قال: يعلم اللَّه إن هذا لربيئة القوم:
ففوّق له سهما فوضعه فيه، فانتزعه [فوضعه] [ (1) ] ، ثم رماه بآخر فوضعه فيه، فانتزعه فوضعه، ثم رماه الثالث فوضعه فيه. فلما غلبه الدم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اجلس فقد أتيت: فجلس عمار، فلما رأى الأعرابي أن عمارا قد قام علم أنهم قد نذروا به. فقال عمار: أي أخي؟ ما منعك أن توقظني في أول سهم رمى به؟ قال: كنت في سورة أقرأها- وهي سورة الكهف- فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها. ولولا إني خشيت أن أضيع ثغرا أمرني به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما انصرفت ولو أتى على نفسي. ويقال: بل هو عمارة بن حزم، وأثبتهما عباد بن بشر.
خبر فرخ الطائر
وجاء رجل بفرخ طائر، فأقبل أبواه، أو أحدهما حتى طرح نفسه في يد الّذي أخذ فرخه، فعجب الناس من ذلك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه! واللَّه لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه.
خبر صاحب الثوب الخلق
ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا وعليه ثوب منخرق فقال: أما له غير هذا؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، إن له ثوبين جديدين في العيبة [ (2) ] ، فقال له: خذ ثوبيك. فأخذ ثوبيه فلبسهما ثم أدبر فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أليس هذا أحسن؟ ما له ضرب اللَّه عنقه! فسمع ذلك الرجل، فقال: في سبيل اللَّه يا رسول اللَّه! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: في سبيل اللَّه.
فضربت عنقه بعد ذلك في سبيل اللَّه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] العيبة: وعاء من خوص ونحوه. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 639.(1/200)
خبر البيضات
وجاءه علبة [ (1) ] بن زيد الحارثي بثلاث بيضات وجدها في مفحص [ (2) ] نعام، فأمر جابر بن عبد اللَّه بعملها، فوثب فعملها وأتى بها في قصعة، فأكل صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه منه بغير خبز، والبيض في القصعة كما هو، وقد أكل منه عامتهم.
خبر غورث
وقيل: إن حديث غورث بن الحارث كان في هذه الغزاة [ (3) ] ، وقيل: كان في غزوة ذات الرقاع التي بعد الخندق- لما أخرجا في الصحيحين [ (4) ] عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: أقبلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فجاء رجل من المشركين- وسيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معلّق بشجرة- فأخذ سيف نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] فاخترطه [ (6) ] ،
فقال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: اللَّه يمنعني منك [ (7) ] ! قال: فتهدده أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأغمد السيف وعلّقه.
قال: فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أربع ركعات وللقوم ركعتان. واللفظ لمسلم.
تحريم الخمر
قال البلاذريّ: وفي سنة أربع من الهجرة حرّمت الخمر.
غزوة دومة الجندل
ثم كانت غزوة دومة الجندل. خرج إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخامس والعشرين
__________
[ (1) ] في (خ) «غلبة» والتصويب من (الواقدي) ج 1 ص 319.
[ (2) ] المفحص: ما تفحصه النعام والقطا من الأرض لتتخذ منه مجثما للبيض والفرخ.
[ (3) ] في (خ) «وقيل كان في هذه الغزوة» مكررة.
[ (4) ] صحيح البخاري: ج 3 ص 36، صحيح مسلم: ج 6 ص 129.
[ (5) ] في (خ) «فأخذ السيف» وهذا نص مسلم.
[ (6) ] اخترط السيف: استله (ترتيب القاموس) ج 2 ص 39.
[ (7) ] في (خ) «قال اللَّه» نص مسلم.(1/201)
من ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرا في ألف من المسلمين، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ.
سبب غزوة دومة الجندل
وسببها أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أراد أن يدنو إلى أدنى الشّأم، وقيل له: إنها طرف من أفواه الشأم فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعا كثيرا من [الضافطة] [ (1) ] ، وأنهم يظلمون من مرّ بهم، ويريدون أن يدنوا [ (2) ] من المدينة. فندب الناس وسار مغذّا [ (3) ] للسير، ونكّب عن طريقهم، فكان يسير الليل [ (4) ] ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عذرة يقال له: مذكور. فلما كان بينه وبين دومة الجندل يوم أو ليلة، هجم على ماشيتهم [ورعاتهم فأصاب منها ما أصاب] [ (5) ] ، وفرّ باقيهم، فتفرق أهل دومة لما بلغهم الخبر، ونزل صلّى اللَّه عليه وسلّم بساحتهم فلم يجد بها أحدا، فأقام أياما وبث سراياه، فعادت بإبل ولم يلق أحدا، وعاد إلى المدينة في العشرين من ربيع الآخر. ووادع في طريقه عيينة بن حصن الفزاري.
زواجه بأم سلمة ثم بزينب بنت جحش ونزول آية الحجاب
وفي ليال بقين من شوال تزوج أم سلمة، وقيل: تزوجها سنة اثنين بعد بدر، وقيل: قبل بدر.
وفي ذي القعدة من هذه السنة تزوج ابنة عمته زينب بنت جحش. وقيل:
تزوجها سنة ثلاث، ويقال: سنة خمس، وقيل: تزوجها سنة ثلاث مع زينب أم المساكين. ونزلت آية الحجاب. وفي هذه السنة أمر زيد بن ثابت بتعلم كتاب اليهود، وفيها رجم اليهودي واليهودية، وفي جمادى الآخرة خسف القمر وصلى صلاة الخسوف. وزلزلت [ (6) ] المدينة. وسابق بين الخيل، وقيل: في سنة ست،
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 62، والضافطة من الناس، من يجلب الميرة والمتاع إلى المدن.
[ (2) ] في (خ) «يدلو» .
[ (3) ] في (خ) «مفدا» .
[ (4) ] في (خ) «بالليل» .
[ (5) ] في (خ) مكان ما بين القوسين «فأصاب منها» والتتمة من (ابن سعد) ج 2 ص 62.
[ (6) ] في (خ) «زلزل» .(1/202)
وجعل بينها سبقا ومحللا.
غزوة المريسيع «بني المصطلق»
ثم كانت غزوة المريسيع، ويقال: غزوة بني المصطلق وهم بنو جذيمة بن كعب ابن خزاعة، فجذيمة هو المصطلق. والمريسيع ماء لخزاعة بينه وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد [ (1) ] . وكانت في سنة ست من الهجرة، وقيل:
سنة خمس. خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقال ابن هشام: استعمل أبا ذر، ويقال: نميلة بن عبد اللَّه الليثي، [ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه] [ (2) ] ، وقيل:
إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة.
سببها
وسببها أن الحارث بن أبي ضرار بن حبيب [بن الحارث بن عائد [ (3) ]] بن مالك بن جذيمة [بن سعد] [ (3) ] بن كعب بن خزاعة سيد بني المصطلق، جمع لحرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من قومه ومن العرب [جمعا] [ (4) ] كبيرا، فتهيّئوا [ (5) ] ليسيروا إليه، وكانوا ينزلون ناحية الفرع، فبلغ خبرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبعث بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عدي بن سهم ابن مازن بن الحارث بن سلامان بن سلّم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأسلمي- يعلم علم ذلك، فأتاه بخبرهم. فندب الناس وأخبرهم خبر عدوّهم، فأسرعوا الخروج، وقادوا ثلاثين فرسا منها: عشرة للمهاجرين، وعشرون للأنصار، ولرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسان هما: لزاز والظّرب. وخرج كثير من المنافقين ليصيبوا من عرض الدنيا ولقرب السفر عليهم.
__________
[ (1) ] يرد: جمع يريد، والبريد، فرسخان أو اثنا عشر ميلا (ترتيب القاموس) ج 1 ص 244. والميل أربعة آلاف ذراع، والفرسخ: ثلاثة أميال (تقويم البلدان) ص 15.
[ (2) ] ما بين القوسين مكرر في (خ) .
[ (3) ] زيادة من النسب.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] في (خ) «فتيانوا» .(1/203)
إسلام رجل من عبد القيس
فلقي صلّى اللَّه عليه وسلّم في طريقه رجلا في طريقه من عبد القيس فأسلم، وسأل: أي الأعمال أحب إلى اللَّه؟ فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الصلاة في أول وقتها.
فكان بعد ذلك لا يؤخر الصلاة إلى الوقت الآخر.
فأصاب عينا من المشركين فضرب عنقه بعد أن عرض عليه الإسلام فأبي.
الانتهاء إلى المريسيع ولقاء العدو
وانتهى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المريسيع [وهو ماء لخزاعة من ناحية قديد إلى الساحل] وقد بلغ القوم مسير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقتله عينهم، فتفرق عن الحارث من كان قد اجتمع إليه من أفناء [ (1) ] العرب، وضرب له صلّى اللَّه عليه وسلّم قبة من أدم، وكان معه من نسائه عائشة وأم سلمة رضي اللَّه عنهما. فصف أصحابه وقد تهيأ الحارث للحرب، ونادى عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه في الناس: قولوا لا إله إلا اللَّه تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم. فأبوا ورموا بالنبل، فرمى المسلمون ساعة بالنبل ثم حملوا على المشركين حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، وسبيت النساء والذرية، وغنمت الإبل والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدوّ [ (2) ] ، فقتله خطأ.
شعار المسلمين
وكان شعارهم: يا منصور أمت أمت. وقيل: بل أغار عليهم صلّى اللَّه عليه وسلّم وهم غارّون ونعمهم تسقي على الماء. والحديث الأول أثبت.
وكان من خبر الرجل الّذي قتل: أنه خرج هشام بن صبابة في طلب العدو، فرجع في ريح شديدة فوجد رجلا [من رهط عبادة بن الصامت يقال له أوس] فقلته وهو يظنه مشركا، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن تخرج ديته، [ويقال: قتله رجل من بني عمرو بن عوف] فقدم أخوه مقيس بن صبابة من مكة مسلما فيما يظهر يطلب دية أخيه، فأمر له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالدّية فقبضها، ثم عدا على قاتل أخيه
__________
[ (1) ] أخلاط من قبائل مختلفة.
[ (2) ] في (خ) «العدد» .(1/204)
فقتله، ثم ارتدّ ولحق بقريش وقال شعرا، فأهدر صلّى اللَّه عليه وسلّم دمه، حتى قتله نميلة [ابن عبد اللَّه الليثي] [ (1) ] يوم الفتح.
الأسرى والغنائم
وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأسرى فكتّفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بما وجد في رحالهم من متاع وسلاح فجمع، وسيقت النّعم والشاء، واستعمل عليها شقران: مولاه. واستعمل على المقسم- مقسم الخمس وسهمان المسلمين- محمية ابن جزء [ (2) ] بن عبد يغوث بن عويج بن عمرو بن زبيد الأصغر الزبيدي، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس من جميع المغنم فكان يليه محمية بن جزء [ (2) ] ، وكان يجمع إليه الأخماس. وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفيء بمعزل عن الصدقة، [وأهل الصدقة] [ (3) ] بمعزل عن الفيء. فكان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء وأخرج من الصدقة ووجب عليه الجهاد، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئا، وخلى بينه وبين أن يكتسب لنفسه.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يمنع سائلا:
فأتاه رجلان يسألانه من الخمس فقال [ (4) ] :
إن شئتما أعطيتكما منه، ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
قسمة الغنائم
وفرّق السبي فصار في أيدي الرجال، وقسم المتاع والنعم والشاء، وعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت رثة المتاع فيمن يزيد، وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهما، وللراجل سهما، وكانت الإبل ألفي بعير وخمسة آلاف شاة، وكان السّبي مائتي أهل بيت.
خبر جويرية بنت الحارث وزواج رسول اللَّه بها، وبركتها على أهلها
وصارت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن شماس
__________
[ (1) ] زيادة البيان.
[ (2) ] في (خ) «جز» .
[ (3) ] في (خ) «بمعزل عن الصدقة بمعزل عن الفيء» .
[ (4) ] في (خ) «وقال» .(1/205)
أو ابن له، فكاتبها على تسع أواق من ذهب،
فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الماء إذ دخلت عليه تسأله في كتابتها وقالت: يا رسول اللَّه، إني امرأة مسلمة وتشهدت وانتسبت، وأخبرته بما جرى لها واستعانته في كتابتها، فقال: أو خير من ذلك، أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك! قالت: نعم. فطلبها من ثابت فقال: هي لك يا رسول اللَّه.
فأدى ما عليها وأعتقها وتزوجها، وخرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا: أصهار النبي! فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي. وكانت جويرية رضي اللَّه عنها عظيمة البركة على قومها.
فداء أسرى بني المصطلق
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق، ويقال: جعل صداقها عتق أربعين من قومها، وقيل: كان السبي: منهم من منّ عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من افتدى، وذلك بعد ما صار السبي في أيدي الرجال، فافتديت المرأة والذرية بست فرائض، وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأة من بني المصطلق إلا رجعت إلى قومها، قال الواقدي: وهذا الثبت. وقيل: إن الحارث افتدى ابنته جويرية من ثابت بن قيس بما افتدى به امرأة من السبي ثم خطبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبيها فأنكحها: وكان اسمها برّة، فسماها [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم جويرية [ (2) ] . قال الواقدي: وأثبت هذا عندنا حديث عائشة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قضى عنها كتابتها وأعتقها وتزوجها.
خبر العزل
وسئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في هذه الغزوة عن العزل فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا؟ ما من نسمة كائنة يوم القيامة إلا وهي كائنة.
فقال رجل من اليهود لأبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه، وقد خرج بجارية يبيعها في السوق: لعلك تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة [ (3) ] ؟ فقال: كلا، إني كنت أعزل عنها. فقال: تلك الموءودة الصغري!
فلما أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك قال: كذبت يهود.
__________
[ (1) ] في (خ) «فسما» .
[ (2) ] في (خ) «جويرة» .
[ (3) ] السخلة: وليدة الغنم، والمراد هنا كناية عن الحمل.(1/206)
خبر جهجاه وسنان على الماء
وبينا المسلمون على ماء المريسيع إذ أقبل سنان بن وبر الجهنيّ- وقيل: هو سنان بن تيم اللَّه، وهو من جهينة بن سود بن أسلم- حليف الأنصار- ومعه فتيان من بني سالم يستقون. [وعلى] [ (1) ] الماء جمع من المهاجرين والأنصار. فأدلى دلوه، وأدلى جهجاه بن مسعود بن سعد بن حرام الغفاريّ- أجير عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه- دلوه.
تنازعهما واختلاف المهاجرين والأنصار
فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه وتنازعا، فضرب جهجاه سنانا فسال الدم، فنادى: يا للخزرج! وثارت الرجال، فهرب جهجاه وجعل ينادى في العسكر:
يا لقريش! يا لكنانة! فأقبلت قريش وأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى كادت تكون فتنة عظيمة، فقام رجال في الصلح فترك سنان حقه.
تحريض عبد اللَّه بن أبيّ وما كان من مقالته في ذلك
وكان عبد اللَّه بن أبيّ جالسا في عشرة من المنافقين فغضب وقال: واللَّه ما رأيت كاليوم مذلة! واللَّه إن كنت لكارها لوجهي هذا، ولكن قد غلبوني. قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا، واللَّه ما صرنا وجلابيب [ (2) ] قريش هذه إلا كما قال القائل: «سمّن كلبك يأكلك» ، واللَّه لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير [ (3) ] ، واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، ونزلوا منازلكم، وآسيتموهم [ (4) ] في أموالكم حتى استغنوا. أما واللَّه لو أمسكتم [عنهم ما] [ (5) ] بأيديكم لتحولوا [ (6) ] إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] كان يحلو للمنافقين تسمية المهاجرين بجلابيب قريش كناية عن فقرهم.
[ (3) ] في (خ) «لا يكون ذلك متى غير» ، يريد لا يكون متى لهذا العدوان دفع أو تغيير أو قصاص.
[ (4) ] من المساواة.
[ (5) ] زيادة للبيان.
[ (6) ] في (خ) «لعلوا» .(1/207)
أنفسكم- أغراضا [ (1) ] للمنايا فقتلتم دونهم [ (1) ] ، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا.
إبلاغ زيد بن أرقم رسول اللَّه مقالة عبد اللَّه بن أبيّ
وكان زيد بن أرقم حاضرا- وهو غلام لم يبلغ أو قد بلغ- فحدّث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك، وعنده نفر من المهاجرين والأنصار، فتغير وجهه ثم قال:
يا غلام، لعلك غضبت عليه؟ قال: لا واللَّه، لقد سمعت منه. قال: لعله أخطأ سمعك! قال: لا يا نبي اللَّه. قال: فلعله شبه عليك؟ قال: لا واللَّه لقد سمعت منه يا رسول اللَّه.
وشاع في العسكر ما قاله ابن أبيّ، حتى ما كان للناس حديث إلا هو. وأنّب جماعة من الأنصار زيد بن أرقم، فقال- في جملة كلام-: وإني لأرجو أن ينزل اللَّه على نبيه، حتى تعلموا أني كاذب أم غيري. وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! مر عباد بن بشر فليأتك برأسه. فكره ذلك
وقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
وبلغ الخبر ابن أبيّ، فحلف باللَّه ما قال من ذلك شيئا، ثم مشى [ (2) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحلف باللَّه ما قال.
رحيل رسول اللَّه بعد مقالة المنافقين
وأسرع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عند ذلك السير، ورحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها.
فأقبل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه حتى جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في فيء شجرة عنده غليم أسيود يغمز ظهره [ (3) ] فقال: يا رسول اللَّه! كأنك تشتكي ظهرك! فقال: تقحّمت بي الناقة [ (4) ] الليلة. فقال عمر: يا رسول اللَّه، ائذن لي أن أضرب عنق ابن أبيّ في مقالته. فقال: لا يتحدث الناس أن محمدا قتل أصحابه.
طلوع رسول اللَّه على العسكر ومقالة سعد بن عبادة
ويقال: لم يشعر أهل العسكر إلا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد طلع على راحلته وكانوا في حر شديد، وكان لا يروح حتى يبرد، إلا أنه لما جاءه ابن أبيّ رحل في تلك
__________
[ (1) ] في (خ) «أعراضا» ، «دونه» .
[ (2) ] في (خ) «مشى مشى» مكررة.
[ (3) ] الغمز باليد: النخس، وبالعين والجفن والحاجب: الإشارة، وبالرجل: السعي بالشر، والغمازة:
الجارية الحسنة الغمز للأعضاء (ترتيب القاموس) ج 3 ص 417.
[ (4) ] تقحمت الدابة براكبها: شردت به، وربما طوّحت به في وهده (المعجم الوسيط) ج 2 ص 717.(1/208)
الساعة، فكان أوّل من لقيه سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه، ويقال: أسيد بن حضير. فقال: خرجت يا رسول اللَّه في ساعة ما كنت تروح فيها! قال:
أو لم يبلغك ما قال صاحبكم ابن أبيّ، زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذلّ؟
قال: فأنت يا رسول اللَّه تخرجه إن شئت، فهو الأذل وأنت الأعز، يا رسول اللَّه! ارفق به، فو اللَّه لقد جاء اللَّه بك وإن قومه لينظمون له الخرز، ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي ليتوجوه، فما يرى إلا قد سلبته ملكه.
تصديق اللَّه خبر زيد بن أرقم
وبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسير من يومه ذلك- وزيد بن أرقم يعارضه براحلته يريد وجهه،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستحث راحلته فهو مغذّ في المسير- إذ نزل عليه الوحي فسرّي [ (1) ] عنه، فأخذ بأذن زيد بن أرقم حتى ارتفع عن مقعده عن راحلته وهو يقول: وفت [ (2) ] أذنك يا غلام وصدّق اللَّه حديثك!
ونزل في ابن أبيّ:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [ (3) ] وكان عبادة بن الصامت قبل ذلك قال لابن أبيّ:
ايت رسول اللَّه يستغفر لك، فلوى رأسه معرضا، فقال له عبادة: واللَّه لينزلنّ في ليّ رأسك قرآن يصلّى به. ومرّ عبادة بن الصامت بابن أبيّ- عشية راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المريسيع، وقد نزل فيه القرآن- فلم يسلّم عليه، ثم مرّ أوس بن خوليّ فلم يسلّم عليه، فقال: إن هذا الأمر قد تمالأتما عليه. فرجعا إليه فأنّباه [ (4) ] وبكّتاه بما صنع، وبما نزل القرآن إكذابا لحديثه. فقال: لا أعود أبدا.
حديث عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي عن أبيه وخبره
وجاء ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبيّ فقال: يا رسول اللَّه، إن كنت تريد أن تقتل [ (5) ] أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فو اللَّه لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم
__________
[ (1) ] سرّى عنه: كشف عنه.
[ (2) ] وفت أذنه: ظهر صدقه في أخباره عما سمع، وأوفى اللَّه بأذنه: أظهر صدقه في إخباره عما سمعت أذنه (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1047.
[ (3) ] سورة المنافقون كلها.
[ (4) ] في (خ) «فأنبأه» .
[ (5) ] في (خ) «يقتل» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 421.(1/209)
من مجلسك هذا. واللَّه لقد علمت الخزرج ما كان فيها [ (1) ] رجل أبرّ بوالده [ (1) ] مني، وإني لأخشى- يا رسول اللَّه- أن تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن انظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل، ومنّك أعظم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أردت قتله، وما أمرت به، ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا.
فقال: يا رسول اللَّه! إن أبي كانت هذه البحيرة قد استقوا [ (2) ] عليه ليتوجوه، فجاء اللَّه بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به [ (3) ] يذكرونه أمورا قد غلب اللَّه عليها. وقال عبد اللَّه في ذلك شعرا.
سير رسول اللَّه
ولما خرجوا من المريسيع قبل الزوال لم ينخ [ (4) ] أحد إلا لحاجة أو لصلاة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستحث راحلته بالسوط في تراقيها [ (5) ] حتى أصبحوا، ومدّوا يومهم حتى انتصف النهار، ثم راحوا مردين [ (6) ] ، فنزل من الغد ماء يقال له:
بقعاء.
الريح التي أنذرت بموت كهف المنافقين رفاعة بن التابوت
فأخذتهم ريح شديدة- اشتدت إلى أن زالت الشمس ثم سكنت آخر النهار- حتى أشفقوا منها، وسألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها، وخافوا أن يكون عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدث.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس عليكم بأس منها، فما بالمدينة من نقب [ (7) ] إلا عليه ملك يحرسه، وما كان ليدخلها
__________
[ (1) ] في (خ) «ما كان فيها ما كان رجل» ، «بوالدي» .
[ (2) ] البحيرة: تصغير بحرة وهي الأرض والبلدة، استقوا: أجمعوا أمرهم.
[ (3) ] أطافوا به: أحاطوا به.
[ (4) ] في (خ) «ينح» .
[ (5) ] في (خ) «مراقيها» والتراقي جمع ترقوه، وهو عظم يصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين، وفي التنزيل كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ 26، 27/ القيامة.
[ (6) ] رد الفرس: رديا، ورديانا: رجم الأرض بحوافره، في سيره وعدوه (المعجم الوسيط) ج 1 ص 340.
[ (7) ] النقب: الطريق إلى الجبل (ترتيب القاموس) ج 4 ص 421.(1/210)
عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة: فلذلك عصفت الريح.
وكان موته للمنافقين غيظا شديدا، وهو رفاعة بن زيد بن التابوت [ (1) ] [أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين] [ (2) ] ، مات ذلك اليوم. وكانت هذه الريح أيضا بالمدينة حين دفن عدو اللَّه فسكنت.
جزع المنافقين لموته
وقال عبادة بن الصامت يومئذ لابن أبيّ: أبا حباب! مات خليلك. قال:
أي أخلائي؟ قال: من موته فتح للإسلام وأهله! رفاعة بن زيد [ (1) ] بن التابوت، قال: يا ويلاه! كان واللَّه وكان وكان، وجعل يذكر. فقال له عبادة: اعتصمت واللَّه بالذّنب الأبتر! قال: من خبّرك يا أبا الوليد بموته؟ قال: رسول اللَّه أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة، فأسقط في يديه وانصرف كئيبا حزينا. فلما دخلوا المدينة وجدوا عدو اللَّه مات في تلك الساعة.
خبر ناقة رسول اللَّه التي فقدت، ومقالة المنافق
وفقدت ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- القصواء- من بين الإبل وهي سارحة، فتطلبها المسلمون في كل وجه، فقال زيد بن اللصيت [القينقاعي] [ (3) ] وكان منافقا: أفلا يخبره اللَّه بمكان ناقته! فأنكر القوم ذلك عليه، وأسمعوه كل مكروه، وهموا به،
فهرب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متعوذا به وقد جاءه الوحي بما قال، فقال- والمنافق يسمع-: إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللَّه وقال:
ألا يخبره اللَّه بمكانها؟ فلعمري أن محمدا ليخبر بأعظم من شأن الناقة! ولا يعلم الغيب إلا اللَّه، وإن اللَّه قد أخبرني بمكانها، وأنها في هذا الشعب: مقابلكم، قد تعلق زمامها بشجرة، فاعمدوا عمدها. فذهبوا فأتوا بها من حيث قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] في (خ) «زيد بن رفاعة بن النابوت» وهي رواية الواقدي ج 2 ص 423، وفي (الطبري) ج 2 ص 607 «رفاعة بن زيد بن النابوت» ، وفي (عيون الأثر) ج 2 ص 94 «رفاعة بن زيد بن التابوت» .
[ (2) ] زيادة من المراجع السابقة.
[ (3) ] زيادة من نسبه، وفي (خ) اللصيب.(1/211)
حماية النقيع لخيل المسلمين
ولما مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالنقيع [ (1) ] رأى سعة وكلأ وغدرا [ (2) ] كثيرة، فأمر حاطب بن أبي بلتعة أن يحفر به بئرا، وأمر بالنقيع أن يحمى، واستعمل عليه بلال ابن الحارث المزني، قال: وكم أحمي منه يا رسول اللَّه؟ قال: أقم رجلا صيتا- إذا طلع الفجر- على هذا الجبل فحيث انتهى صوته، فاحمه لخيل المسلمين وإبلهم التي يغزون عليها. قال: يا رسول اللَّه، أفرأيت ما كان من سوائم [ (3) ] المسلمين؟ فقال:
لا يدخلها. قال: أرأيت المرأة والرجل الضعيف يكون له الماشية اليسيرة وهو يضعف عن التحول؟ قال: دعه يرعى.
وسبّق صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ بين الخيل والإبل، فسبقت القصواء الإبل وعليها بلال، وسبق فرسه الظرب وعليه أبو أسيد الساعديّ.
بدء حديث الإفك
وكان حديث الإفك [ (4) ] ، وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل منزلا ليس معه ماء، وسقط عقد عائشة رضي اللَّه عنها من عنقها، فأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس حتى أصبحوا، وضجر [ (5) ] الناس وقالوا: حبستنا عائشة. فضاق بذلك أبو بكر رضي اللَّه عنه وعاتب عائشة عتابا شديدا.
نزول آية التيمم
ونزلت آية التيمم
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كان من قبلكم لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم، وجعلت لي الأرض طهورا حيثما أدركتني الصلاة.
ونزلت آية التيمم عند طلوع الفجر، فمسح المسلمون أيديهم بالأرض، ثم مسحوا أيديهم إلى
__________
[ (1) ] النقيع: من أودية الحجاز يدفع سيله إلى المدينة يسلكه العرب إلى مكة منه، وه نقيع الخضمات (معجم البلدان) ج 5 ص 301.
[ (2) ] غدر: جمع غدير، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل (المعجم الوسيط) ج 2 ص 645.
[ (3) ] السوائم: جمع سائمة، وهي الإبل الراعية.
[ (4) ] الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل هو البهتان وهو الأمر الّذي لا تشعر به حتى يفاجأك، وأصله الكذب بكونه إفكا لأن المعروف من حال عائشة خلاف ذلك (التفسير الكبير للفخر الرازيّ) ج 23 ص 172.
[ (5) ] في (خ) «ضحى» .(1/212)
المناكب ظهرا وبطنا. وكانوا يجمعون مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الصلاتين في سفره.
مسابقة رسول اللَّه عائشة
ثم صاروا ونزلوا حوضا دمثا [ (1) ] طيبا ذا أراك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عائشة! هل لك في السباق؟ قالت: نعم! فتحزّمت ثيابها، وفعل ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم استبقا، فسبق صلّى اللَّه عليه وسلّم عائشة رضي اللَّه عنها، فقال: هذه بتلك السبقة التي كنت سبقتني. وكان جاء إلى منزل أبي بكر رضي اللَّه عنه، ومع عائشة شيء فقال: هلميه! فأبت وسعت، وسعى في أثرها، فسبقته.
خرّج أبو داود من حديث هشام بن عروة عن أبيه، وعن أبي سلمة عن عائشة أنها كانت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة [ (2) ] . وخرجه أبو حبان به ولفظه: سابقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسبقته فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسبقني، فقال: هذه بتلك. وكانت هذه الغزوة قبل أن يضرب الحجاب.
تخلف عائشة ومجيء صفوان وحديث الإفك
وكان يرحل بعير عائشة رضي اللَّه عنها أبو مويهبة [ (3) ] ورجل آخر، وكانت تقعد في هودج [ (4) ] ، فحمل الهودج وهو يظنها فيه- لخفة النساء يومئذ من قلة أكلهن- وساروا وقد ذهبت عائشة لحاجتها وتجاوزت العسكر، وفي عنقها عقد من جزع ظفار [ (5) ] فانسل من عنقها ولا تدري به، فرجعت تلتمسه حتى وجدته، ثم عادت وليس في العسكر أحد، فاضطجعت ونامت، فجاء صفوان بن المعطل ابن ربيضة [ (6) ] بن خزاعيّ بن محارب بن مرّة بن فالج [ (6) ] بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة
__________
[ (1) ] دمث المكان وغيره: سهل ولان (ترتيب القاموس) ج 2 ص 209.
[ (2) ] سنن أبي داود ج 3 ص 65 الحديث رقم 2578.
[ (3) ] في (خ) «مويهية» وفي (الواقدي) ج 2 ص 427 «موهبة» وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] الهودج: مركب للنساء، (ترتيب القاموس) ج 4 ص 543.
[ (5) ] ظفار: مدينة باليمن قرب صنعاء وهي التي ينسب إليها الجذع الظفاري (أي الخرز) (معجم البلدان) ج 4 ص 60 وفي (خ) «أظفار» .
[ (6) ] في (خ) «فاتح» ، في (ط) «ربيضة» . ونسبه في (الاستيعاب) ج 5 ص 142 ترجمة رقم 1223:(1/213)
ابن سليم السلمي ثم الذّكواني أبو عمرو- وكان في السّاقة [ (1) ]- فاسترجع لما رآها، فاستيقظت وخمرت [ (2) ] وجهها بملحفتها. فلم يكلمها، وأناخ بعيره وولى عنها حتى ركبت، وقاد بها حتى أتى العسكر. فقال أصحاب الإفك- وكبيرهم عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول- ما قالوا، حتى بلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتغير لعائشة وهي لا تشعر، حتى أعلمتها أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ابن قصي، وكانت أمها خالة أبي بكر رضي اللَّه عنه. فأتت أبويها لتستيقن الخبر، فوجدت عندهما العلم بما قاله أهل الإفك. فبكت ليلتها حتى أصبحت.
استشارة رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم اللَّه أصحابه في فراق عائشة
واستشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا وأسامة في فراق عائشة. فقال أسامة: هذا الباطل والكذب، ولا نعلم إلا خيرا.
وقال عليّ: لم يضيق اللَّه عليك، والنساء كثير، وقد أحلّ اللَّه لك وأطاب، فطلقها وأنكح غيرها.
وخلا صلّى اللَّه عليه وسلّم ببريرة وسألها فقالت: هي أطيب من طيب الذهب، واللَّه ما أعلم عليها إلا خيرا، واللَّه يا رسول اللَّه لئن كانت على غير ذلك ليخبرنك اللَّه بذلك، ألا إنها جارية ترقد عن العجين حتى تأتي الشاة فتأكل عجينها. وسأل زينب بنت جحش فقالت: حاشى سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، واللَّه ما أكلمها، وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. وسأل أم أيمن فقالت: حاشى سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها قط إلا خيرا.
خطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمر الإفك واختلاف الأوس والخزرج
ثم صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي؟
ويقولون لرجل، واللَّه ما علمت على ذلك الرجل إلا خيرا، وما كان يدخل بيتا من بيوتي إلا معي، ويقولون عليه غير الحق!
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك
__________
[ () ] «صفوان بن المعطل بن ربيعة بن خزاعيّ بن محارب بن مرّة بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم السّلمى ثم الذكوانيّ، يكنى أبا عمرو» .
[ (1) ] الساقة: مؤخرة الجيش (المعجم الوسيط) ج 1 ص 464.
[ (2) ] خمّرت: غطت.(1/214)
منه يا رسول اللَّه، إن يك من الأوس آتيك برأسه، وإن يك من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك يمضي لك. فقام سعد بن عبادة- وقد غضب منه- فقال: كذبت لعمر اللَّه، لا تقتله ولا تقدر [ (1) ] على قتله. فقال أسيد بن حضير: كذبت، واللَّه ليقتلنه وأنفك راغم. وكادت تكون فتنة، فأشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده إلى الأوس والخزرج أن اسكتوا، ونزل عن المنبر، فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا.
دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة وحديثهما
ودخل على عائشة- وقد مكث شهرا قبل ذلك لا يوحى إليه في شأنها- فتشهد ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة يبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بشيء مما يقول الناس فاستغفري اللَّه عز وجل، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى اللَّه تاب اللَّه عليه.
فقالت لأبيها: أجب عني رسول اللَّه. قال: واللَّه ما أدري ما أقول وما أجيب به عنك! فقالت لأمها: أجيبي عني. فقالت: واللَّه ما أدري ما أجيب به. فقالت: إني واللَّه قد علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به! فلئن قلت لكم إني بريئة [ (2) ] لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم اللَّه أني منه بريئة لتصدقنني، وإني واللَّه ما أجد لي مثلا إلا أبا يوسف إذ يقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [ (3) ] ، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر، واللَّه ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا نعبد [ (4) ] اللَّه، فيقال لنا في الإسلام! وأقبل عليها مغضبا فبكت.
نزول القرآن ببراءة عائشة
فغشي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كان يغشاه وسجى [ (5) ] بثوبه، وجمعت وسادة من أدم تحت رأسه، ثم كشف عن وجهه وهو يضحك ويمسح جبينه وقال: يا عائشة، إن اللَّه قد أنزل براءتك. فأنزل اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي
__________
[ (1) ] في (خ) «يقتله ولا يقدر» .
[ (2) ] في (خ) «برية» .
[ (3) ] آية 18/ يوسف.
[ (4) ] في (خ) «لا يعبد» .
[ (5) ] سجى: غطى.(1/215)
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [ (1) ] فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الناس مسرورا، فصعد المنبر وتلا على الناس ما نزل عليه في براءة عائشة رضي اللَّه عنها. ويقال: كان نزول براءة عائشة رضي اللَّه عنها بعد قدومهم المدينة بسبع وثلاثين ليلة.
أصحاب الإفك
وكان الذين خاضوا في الإفك مع ابن أبيّ: مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. فضربهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحد. قال الواقدي: وقيل: لم يضربهم [ (2) ] ، وهو أثبت.
إصلاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الأوس والخزرج
ومكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أياما، ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر حتى دخل على سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثوا ساعة، وقرب لهم سعد بن عبادة طعاما فأصابوا منه وانصرفوا. فمكث أياما، ثم أخذ بيد سعد بن عبادة ونفر معه، فانطلق به حتى دخل منزل سعد بن معاذ، فتحدثوا ساعة، وقرب لهم سعد بن معاذ طعاما، فأصابوا [منه] [ (3) ] ، ثم خرجوا، فذهب من أنفسهم ما كانا تقاولا من ذلك القول.
__________
[ (1) ] آية 11/ النور وفي (خ) إلى قوله: «عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» .
[ (2) ] «قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحاب الإفك، على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة، ولم يتعبده اللَّه أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم» .
«قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن اللَّه عز وجل يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي على صدق قولهم فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً.
«والقول الثاني: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حد أهل الإفك: عبد اللَّه بن أبي ومسطح بن أثاثه، وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:
لقد ذاق حسان الّذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزيه ... كما خاض في إفك من القول يفصح
«قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الّذي حدّ حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد عبد اللَّه بن أبيّ» راجع (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) ص 4592.
[ (3) ] زيادة للسياق.(1/216)
مقالة عبد اللَّه بن أبيّ في جعيل بن سراقة
وكان عبد اللَّه بن أبي بن سلول [وسلول أمه، وإنما هو أبيّ بن مالك بن الحارث ابن عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عمرو بن الخزرج] لما قال- وذكر جعيل ابن سراقة الغفاريّ. ويقال: الضمريّ، وجهجاه بن مسعود، ويقال: ابن سعيد ابن حرام بن غفار الغفاريّ، وكانا من فقراء المهاجرين- قال: ومثل هذين يكثّرا على قومي، وقد أنزلنا محمدا في ذروة كنانة وعزها؟ واللَّه لقد كان جعيل يرضى أن يسكت فلا يتكلم، فصار اليوم يتكلم!.
مقالته في صفوان
ثم كان من كلامه- في صفوان بن المعطل بن ربيعة بن الخزاعي بن محارب ابن مرة بن فالج [ (1) ] بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة [ (1) ] بن سليم السلميّ- ما كان، ورميه بالإفك. قال حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري رضي اللَّه عنه:
أمسى الجلابيب قد عزّوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد [ (2) ]
وفي أبيات أخر.
خبر صفوان بن المعطل في ضرب حسان بن ثابت
فجاء صفوان بن المعطل- بعد ما قدموا المدينة- إلى جعيل بن سراقة فقال:
انطلق بنا نضرب حسان، فو اللَّه ما أراد غيرك وغيري، ولنحن أقرب إلى رسول اللَّه منه، فأبي جعيل أن يذهب إلا بأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وخرج صفوان مصلتا بالسيف، حتى ضرب حسان بن ثابت في نادي قومه. فوثب الأنصار فأوثقوه رباطا، وولي ذلك منه ثابت بن قيس بن شماس [بن زهير] [ (3) ] بن مالك بن
__________
[ (1) ] في (خ) «فألح» ، «بهنة» ، وسبق تصويب نسبه من الاستيعاب تحت رقم 1223.
[ (2) ] وفي (ديوان حسان) ص 160: «أمسى الخلابيس قد عزّوا وقد كثروا» .
[ (3) ] زيادة من نسبه.(1/217)
امرئ القيس بن مالك الأغر الأنصاري- فمرّ به عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان ابن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري [ (1) ] فخلّى عنه.
وجاء به وبحسان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال حسان: يا رسول اللَّه شهر علي السيف في نادي قومي، ثم ضربني لأن أموت ولا أراني إلا ميتا من جراحاتي!
فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] لصفوان: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقال:
يا رسول اللَّه، آذاني وهجاني وسفه عليّ [ (2) ] وحسدني على الإسلام! فقال لحسان:
أسفهت على قوم أسلموا؟.
حبس صفوان وما كان من أمر سعد في إطلاقه
ثم قال: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به. فخرجوا بصفوان، وبلغ ذلك سعد بن عبادة، فأقبل على قومه من الخزرج فقال: عمدتم إلى رجل من قوم رسول اللَّه تؤذونه، وتهجونه بالشعر، وتشتمونه، فغضب لما قيل له، ثم أسرتموه أقبح الأسر ورسول اللَّه بين أظهركم؟ قالوا: فإن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمرنا بحبسه وقال: إن مات صاحبكم فاقتلوه. قال سعد: واللَّه إن أحب الأمرين إلى رسول اللَّه العفو، ولكن رسول اللَّه قد قضى لكم بالحق، وإن رسول اللَّه ليحب أن يترك صفوان، واللَّه لا أبرح حتى يطلق. فقال حسان: ما كان لي من حق فهو لك. وأتى قومه، فغضب قيس بن سعد [بن عبادة] [ (3) ] وقال: عجبا لكم! ما رأيت كاليوم! إن حسان قد ترك حقه وتأبون أنتم؟ ما ظننت أحدا من الخزرج يردّ أبا ثابت في أمر يهواه: فاستحيا القوم وأطلقوا صفوان من الوثاق، فذهب به سعد إلى بيته فكساه حلة، ثم خرج به إلى المسجد ليصلي فيه،
فرآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه! قال: من كساه؟ قالوا: سعد ابن عبادة. قال: كساه اللَّه من ثياب الجنة.
عفو حسان عن حقه قبل صفوان
ثم
كلّم حسان حتى أقبل في قومه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا رسول اللَّه،
__________
[ (1) ] في (خ) «كرر الناسخ من قوله «فمر به عمارة ... » إلى قوله «بن النجار الأنصاري» ، و (خ) بعده «وجاء به وثابت» وفي (الواقدي) «ثم جاء به وبثابت» ج 2 ص 436.
[ (2) ] من السفاهة.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.(1/218)
كل حق لي قبل صفوان بن معطل فهو لك. قال: أحسنت وقبلت ذلك.
وأعطى حسان أرضا براحا [ (1) ] وهي بيرحا، وسيرين أخت مارية. وأعطاه سعد بن عبادة حائطا كان يجدّ [ (2) ] مالا كثيرا، عوضا بما عفا من حقه.
ويروى أن حسان- لما حبس صفوان- أرسل إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا حسان أحسن فيما أصابك.
فقال: هو لك يا رسول اللَّه! فأعطاه بيرحا [ (3) ] وسيرين [ (4) ] عوضا.
خبر عبد اللَّه بن رواحة، وطروق أهله ليلا حتى رابه ما رابه
وكان جابر بن عبد اللَّه رفيق عبد اللَّه بن رواحة في غزوة المريسيع، فأقبلا حتى انتهيا إلى وادي العقيق في وسط الليل، والناس معرّسون، فتقدم ابن رواحة إلى المدينة فطرق أهله، فإذا مع امرأته إنسان طويل. فظن أنه رجل، وندم على تقدّمه، واقتحم البيت رافعا سيفه يريد أن يضربهما، ثم فكر وادكر، فغمز امرأته برجله فاستيقظت وصاحت، فقال: أنا عبد اللَّه، فمن هذا؟ قالت: هي رحيلة [ (5) ] سمعنا بقدومكم [ (6) ] فدعوتها تمشّطني فباتت عندي. فبات وأصبح. فخرج يلقى [ (7) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو سائر بين أبي بكر الصديق، وبشير بن سعد بن ثعلبة ابن خلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري رضي اللَّه عنهما،
فالتفت صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بشير فقال: يا أبا النعمان، إن وجه عبد اللَّه ليخبرك أنه كره طروق أهله. فلما انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خبرك
__________
[ (1) ] في (خ) «أرض أبرحا» .
[ (2) ] جد النخل: قطع ثمره (المعجم الوسيط) ج 1 ص 109.
[ (3) ] في (خ) «براحا» .
[ (4) ] أخت مارية القبطية أم إبراهيم ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي (المغازي) ج 2 ص 438 وما بعدها.
وحدثني سعيد بن أبي زيد الأنصاري قال: حدثني من سمع أبا عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة الأسدي يخبر أنه سمع حمزة بن عبد اللَّه بن عمر أنه سمع عائشة رضي اللَّه عنها تقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: حسان حجاز بين المؤمنين والمنافقين، لا يحبه منافق ولا يبغضه مؤمن
. وقال حسان يمدح عائشة رضي اللَّه عنها:
حصان رزان لا تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد جاء عنى قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
والغرثى: الجائعة، والغوافل: جمع غافلة والمعنى أنها كافة عن أعراض الناس. (ديوان حسان بن ثابت) ص 228 باختلاف يسير.
[ (5) ] اسم امرأة كانت معها.
[ (6) ] في (خ) «نقدمكم» .
[ (7) ] في (خ) «تلقى» .(1/219)
يا ابن رواحة!.
النهي عن طروق النساء ليلا
فأخبره،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تطرقوا النساء ليلا. فكان ذلك أول ما نهى عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وكان قدومه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المريسيع إلى المدينة لهلال رمضان، فغاب شهرا إلا ليلتين.
الخلاف في تاريخ غزوة بني المصطلق
تنبيه: قد اختلف في غزوة المريسيع. فذهب الواقديّ- كما تقدم- إلى أنها كانت في شعبان سنة خمس، وقال ابن إسحاق: في شعبان من السنة السادسة، وصححه جماعة. وفيه إشكال، فإنه وقع في الصحيحين وغيرهما أن المقاول لسعد ابن عبادة سعد بن معاذ، كما تقدم عند خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بسبب أهل الإفك.
ولا يختلف أحد في أن سعد بن معاذ مات إثر قريظة، وقد كان عقب الخندق، وهي في سنة خمس على الصحيح، ثم حديث الإفك لا يشك أحد من علماء الآثار أنه في غزوة بني المصطلق هذه، وهي غزوة المريسيع، وقد اختلف الناس في الجواب عن هذا. فقال موسى بن عقبة- فيما حكاه البخاري عنه [ (1) ]- إن غزوة المريسيع كانت في سنة أربع، وهذا خلاف الجمهور. ثم في الحديث ما ينفي ما قال، لأنها قالت: «وذلك بعد ما نزل الحجاب» . ولا خلاف أن الحجاب نزل صبيحة دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بزينب بنت جحش، وقد سأل صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب عن شأن عائشة في ذلك فقالت: «أحمي سمعي وبصري» قالت عائشة: «وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم» . وقد ذكر علماء الأخبار أن تزويجه صلّى اللَّه عليه وسلّم بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس، فبطل ما قال موسى بن عقبة، ولم ينحل الإشكال. وقال ابن إسحاق: إن المريسيع كانت في سنة ست، وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه [بن عتبة] [ (2) ] ، عن عائشة، فذكر الحديث- قال: فقام أسيد بن الحضير فقال: «أنا أعذرك منه» ،
__________
[ (1) ] صحيح البخاري ج 3 ص 37.
[ (2) ] زيادة للبيان من (ابن هشام) ج 3 ص 187.(1/220)
ولم يذكر سعد بن معاذ.
قال الحافظ أبو محمد علي بن [ (1) ] أحمد بن سعيد بن حزم: وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل اللَّه تعالى في ذلك من براءة عائشة رضي اللَّه عنها ما أنزل. وقد روينا من طرق صحاح أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة. وهذا عندنا وهم [ (2) ] ، لأن سعد ابن معاذ مات إثر فتح بني قريظة بلا شك، وفتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة- بعد سنة وثمانية أشهر من موته، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة. وذكر ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، وغيره: أن المقاول لسعد بن عبادة إنما كان أسيد بن الحضير، وهذا هو الصحيح، والوهم لم يعر [ (3) ] منه أحد من بني آدم.
واللَّه أعلم.
غزوة الخندق
ثم كانت غزوة الخندق: وتسمى الأحزاب. وهي الغزاة التي ابتلى اللَّه سبحانه فيها عباده المؤمنين وزلزلهم، وثبت الإيمان في قلوب أوليائه، وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق وفضحهم وقرّعهم. ثم أنزل تعالى نصره ونصر عبده، وهزم الأحزاب، وأعز جنده، ورد الكفرة بغيظهم، ووقى المؤمنين شر كيدهم، وحرم عليهم شرعا وقدرا أن يغزو المؤمنين بعدها، بل جعلهم المغلوبين، وجعل حزبه هم الغالبين بمنّه وفضله.
بدؤها
وكان من خبرها: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عسكر يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة سنة خمس، وقيل: كانت في شوال منها، وقال موسى بن عقبة: كانت في سنة أربع، وصححه ابن حزم. وقال ابن إسحاق في شوّال سنة خمس، وذكرها
__________
[ (1) ] في (خ) «باب» .
[ (2) ] الوهم بالتحرك: الغلط.
[ (3) ] في (خ) «يصر» والمعنى: لم يخل ولم يبرأ.(1/221)
البخاري قبل غزوة ذات الرقاع [ (1) ] . واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
سببها
وسبب ذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أجلى بني النضير ساروا إلى خيبر، وبها من يهود قوم أهل عدد وجلد، وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير فخرج [سلام ابن أبي الحقيق، و] [ (2) ] حيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس، وأبو عامر الراهب [ (3) ] . في بضعة عشر رجلا إلى مكة يدعون قريشا وأتباعها إلى حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمدا، جئنا لنحالفكم على عداوته وقتاله. فنشطت قريش لذلك، وتذكروا أحقادهم ببدر، فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا: أحبّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.
تعاهد بطون قريش عند الكعبة على قتال المسلمين
وأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها وتحالفوا وتعاقدوا- وقد ألصقوا أكبادهم [ (4) ] بالكعبة، وهم بينها وبين أستارها-: ألا يخذل بعضهم بعضا، ولتكونن كلمتهم واحدة على محمد ما بقي منهم رجل. ثم قال أبو سفيان: يا معشر يهود، أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا [نختلف] فيه [ (5) ] نحن ومحمد، أديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت، وننحر الكوم ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام!.
__________
[ (1) ] صحيح البخاري ج 3 ص 30.
[ (2) ] زيادة من (ابن هشام) ج 3 ص 127، وهذا الّذي عليه أكثر الرواة، ولكن المقريزي قدّم مقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق على غزوة الأحزاب فعلى هذا التقديم ليس يصحّ أن يذكر سلام بن أبي الحقيق في عداد أصحاب الأحزاب، لأن مقتله عند المقريزي في سنة أربع، وكانت الغزوة في سنة خمس، راجع (زاد المعاد) ج 3 ص 270.
[ (3) ] كذا في (خ) ، ومكانه في (ابن هشام) ج 3 ص 127 «أبو عمار الوائلي» .
[ (4) ] في (خ) «أكابدهم» وهذه عادتهم في إعظام اليمين.
[ (5) ] في (خ) «أخبرونا عما أصبحنا فيه ومحمد» وهو نص (الواقدي) ج 2 ص 442، وما أثبتناه أجود، وهو نص (ابن هشام) ج 3 ص 127 وما بين القوسين زيادة منه.(1/222)
خبر اليهود في نصرة المشركين
فقالت يهود: اللَّهمّ أنتم أولى بالحق منه، إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه.
فأنزل اللَّه تعالى في ذلك [ (1) ] : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.
الخروج إلى القتال
واتعدوا لوقت وقتوه، وخرجت يهود إلى غطفان، وجعلت لهم ثمر خيبر سنة إن هم نصروهم. وتجهزت قريش، وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألبوا [ (2) ] أحابيشهم [ (3) ] ومن تبعهم.
الأحزاب ومنازلهم
وأتت يهود بني سليم فوعدوهم السير معهم، ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جرية [ (4) ] بن لوذان بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان [ويقال له ابن اللقيطة: يعني لا تعرف له أم] [ (5) ] الفزاريّ.
وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في
__________
[ (1) ] الآية 51/ النساء، والآيات التي نزلت في شأنهم من أول الآية 51 إلى آخر الآية 55/ النساء.
راجع أسباب النزول للواحدي ص 114، 115.
[ (2) ] في (خ) «واللبوا» .
[ (3) ] نسبة إلى حبشىّ، وهو جبل بأسفل مكة بنعمان الأراك، يقال به سميت أحابيش قريش، وذلك أن بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده وحالفوا قريشا وتحالفوا باللَّه: إنا ليد واحدة على غيرنا ما سجا ليل ووضح نهار، وما رسا حبشي مكانه (معجم البلدان) ج 2 ص 247.
[ (4) ] في (خ) «جوثة» .
[ (5) ] كذا في (خ) وهو خطأ، وصوابه: من هامش (ط) ص 218. «أن اللقيطة هي أم حصن بن حذيفة بن بدر وإخوانه وهم خمسة، واسمها «نضيرة بنت عصيم بن مروان بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة» ، يقال في خبر تلقيبها باللقيطة أخبار، أجودها أن حذيفة بن بدر التقطها في جوار قد أضربهن السنة الجدب، فضمها إليه، ثم أعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها» .(1/223)
دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف بعير وخمسمائة بعير. ولاقتهم سليم بمر الظهران في سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس [حليف حرب بن أمية وهو] [ (1) ] أبو أبي الأعور السّلمي الّذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين. وكان أبو سفيان بن حرب قائد جيش قريش. وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي.
وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن. وخرجت أشجع في أربعمائة يقودهم مسعود بن رحيلة بن عائذ بن مالك بن حبيب بن نبيح بن ثعلبة بن قنفذ ابن خلاوة بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث [ (2) ] بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان [ (3) ] [وقال ابن إسحاق: هو مسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة [ (4) ] بن عبد اللَّه بن هلال بن خلادة بن أشجع] . وخرجت بنو مرّة في أربعمائة يقودهم الحارث [بن عوف] [ (5) ] بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ ابن مرة بن عوف [بن سعد] [ (5) ] بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان،:
وقيل: لم يحضر بنو مرّة. وكانوا جميعا عشرة آلاف، [وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من بني كنانة] [ (6) ] حتى نزلت وادي العقيق، ونزلت غطفان بجانب أحد ومعها ثلاثمائة فرس فسرحت قريش ركابها في عضاة [ (7) ] وادي العقيق، ولم تجد لخيلها هناك شيئا إلا ما حملت من علفها، وهو الذرة، وسرّحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها [ (8) ] . وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم. وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من الهزال، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة.
__________
[ (1) ] زيادة البيان من (ابن سعد) ج 2 ص 66.
[ (2) ] في (خ) «أيث» .
[ (3) ] في (خ) «غيلان» .
[ (4) ] في (خ) (سمحة) والتصويب من (ابن هشام) ج 3 ص 128.
[ (5) ] زيادة من نسبه.
[ (6) ] زيادة للسياق (ابن هشام) ج 3 ص 131 بتصرف.
[ (7) ] العضاة: كل شجر له شوك. (المعجم الوسيط) ج 3 ص 128.
[ (8) ] الأثل: شجر من الفصيلة الطرفاوية طويل مستقيم يعمّر جيد الخشب كثير الأغصان (المعجم الوسيط) ج 1 ص 6. والطرفاء: جنس من النبات منه أشجار وجنبات من الفصيلة الطرفاوية ومنه الأثل (المرجع السابق) ج 2 ص 555.(1/224)
مشورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بلغه خبر خروج الأحزاب وإشارة سلمان بحفر الخندق
وكانت خزاعة عند ما خرجت من مكة: أتى ركبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- في أربع ليال- حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم: أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويخندق عليها، أم يكون قريبا والجبل وراءهم؟ فاختلفوا.
وكان سلمان الفارسيّ يرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يهم بالمقام بالمدينة- ويريد [ (1) ] أن يتركهم حتى يردوا ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها- فأشار بالخندق فأعجبهم ذلك، وذكروا يوم أحد، فأحبوا الثبات في المدينة. وأمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة.
خبر حفر الخندق
وركب فرسا له- ومعه عدة من المهاجرين والأنصار- فارتاد موضعا ينزله، وجعل سلعا [ (2) ] خلف ظهره وعمل في [حفر] [ (3) ] الخندق لينشطهم، وندب الناس وخبّرهم بدنو عدوهم، وعيّن حفر الخندق في المراد [ (4) ] وعسكر بهم إلى سفح سلع، فتبادر المسلمون في العمل، وقد استعاروا من بني قريظة آلة كثيرة- من مساحي وكرازين ومكاتل [ (5) ]-، للحفر في الخندق. ووكل صلّى اللَّه عليه وسلّم بكل جانب من الخندق قوما يحفرونه. وكان الشباب ينقلون التراب، ويخرج المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رءوسهم المكاتل، ويرجعون بها بعد إلقاء التراب منها وقد ملئوها حجارة من جبل سلع: وهي أعظم سلاحهم، يرمون بها.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحمل التراب في المكاتل والقوم يرتجزون [ (6) ] ،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
__________
[ (1) ] هذا الحرف في (خ) يقرأ ما بين «يريد» ، «يدبر» والأقرب للمعنى ما أثبتناه.
[ (2) ] سلع جبل قرب المدينة (معجم البلدان) ج 3 ص 236.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] في (خ) «المزاد» .
[ (5) ] المساحي والكرازين والمكاتل: المجارف والفؤوس والقفف.
[ (6) ] ترتجزون: يترنمون بالرّجز من أوزان الشعر.(1/225)
أخبار المسلمين يوم حفر الخندق
وجعل المسلمون إذا رأوا من الرجل فتورا ضحكوا منه، وتنافس الناس في سلمان الفارسيّ، فقال المهاجرون: سلمان منا- وكان قويا عارفا يحفر الخنادق- وقالت الأنصار: هو منا ونحن آخرته [ (1) ] .
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: سلمان منا أهل البيت.
ولقد كان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانة [ (2) ] قيس بن أبي صعصعة فلبط به [ (3) ]
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: مروه فليتوضّأ وليغتسل به، ويكفأ الإناء خلفه، ففعل فكأنما حلّ من عقال. وجعل لسلمان خمس أذرع طولا وخمسا في الأرض ففرغها وحده وهو يقول: اللَّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة. وحفر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحمل التراب على ظهره.
وفي حديث سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي: أنه عليه السلام حين ضرب في الخندق قال:
بسم اللَّه وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا وحبذا دينا [ (4) ]
وكان بنو سلمة في ناحية يحفرون ويرتجزون،
فعزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كعب ابن مالك ألا يقول شيئا، وعزم على حسان بن ثابت، وقال: لا يغضب أحد مما قاله صاحبه، لا يريد بذلك سوءا، إلا ما قال كعب وحسان فإنّهما يجدان ذلك [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «إخوته» ، وآخرته: آخر من نزل بهم بعد طوافه البلاد.
[ (2) ] عانة: أصابه بالعين من الحسد (المعجم الوسيط) ج 2 ص 641.
[ (3) ] لبط به: سقط على الأرض من قيام (المرجع السابق) ص 813.
[ (4) ] قال محقق (2) : «هذا كلام لم أجده فيما بين يدي من أصول الكتب، ولا أدري ما هو» ونقول:
روى ابن كثير في (البداية والنهاية) ج 4 ص 96، ص 97 ما نصه:
«وقال البيهقي في الدلائل: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان (بسنده) عن أبي عثمان عن سلمان أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرب في الخندق وقال:
بسم اللَّه وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا ربا وحبذا دينا
قال: وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
[ (5) ] قال محقق (ط) :
«هذا خبر ناقص مضطرب، ولم أعرف أصله ولا كيف ساقه» ونقول:
روى (الواقدي) في (المغازي) ج 2 ص 447 ما نصه: «حدثني أيوب بن النعمان عن أبيه عن جده، عن كعب بن مالك(1/226)
تغيير اسم جعيل وتسميته عمرا
وكان جعيل بن سراقة رجلا صالحا «وكان ذميما قبيحا، وكان يعمل في الخندق، فغير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اسمه يومئذ وسماه عمرا، وجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا
سبب النهي عن أن يروّع المسلم أو يؤخذ سلاحه
وكان زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاريّ فيمن ينقل التراب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما إنه نعم الغلام!.
وغلبته عيناه فنام في الخندق- وكان القرّ شديدا-
فأخذ عمارة بن حزم سلاحه وهو لا يشعر، فلما قام فزع. فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك! ثم قال: من له علم بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة: يا رسول اللَّه، هو عندي. فقال: فرده عليه. ونهى أن يروع المسلم، و [لا] [ (1) ] يؤخذ متاعه [جادا ولا] [ (1) ] لاعبا.
ولم يتأخر عن العمل في الخندق أحد من المسلمين، وكان أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما ينقلان التراب في ثيابهما من العجلة، إذ [ (2) ] لم يجدا مكاتل- لعجلة المسلمين- وكانا لا يتفرقان في عمل ولا مسير ولا منزل.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو يعمل في الخندق:
اللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
__________
[ () ] قال: جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر، وكنا- بني سلمة- ناحية فعزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليّ ألا أقول شيئا فقلت: هل عزم على غيري؟ قالوا: حسان بن ثابت قال: فعرفت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما نهانا لوحدنا له وقلته على غيرنا، فما تكلمت بحرف حتى فرغنا من الخندق. وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: لا يغضب أحد مما قال صاحبه، لا يريد بذلك سوءا، إلا ما قال كعب وحسّان، فإنّهما يجدان ذلك» .
والظاهر لنا أن المقريزي قد اختصر رواية الواقدي اختصارا أخلّ بمعناها، واللَّه تعالى أعلم.
[ (1) ] زيادة للسياق من (الإصابة) ج 4 ص 42 عند ترجمة زيد بن ثابت رقم 2874، ونص (الواقدي) ج 2 ص 448: «ونهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يروّع المسلم أو يؤخذ متاعه لاعبا جادا» والقرّ: البرد.
قال في (النهاية) ج 1 ص 245: «أي لا يأخذ على سبيل الهزل ثم يحبسه، فيصير ذلك جدا» .
[ (2) ] في (خ) «إذا» .(1/227)
[فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا] [ (1) ]
[إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا] [ (1) ]
يردد ذلك.
خبر نبوءته صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الفتوح يوم حفر الخندق
وضرب بالكرزين فصادف حجرا فصل [ (2) ] الحجر، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقيل: ممّ تضحك يا رسول اللَّه؟ قال: أضحك من قوم يؤتى بهم من المشرق في الكبول [ (3) ] ، يساقون إلى الجنة وهم كارهون.
وضرب عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بالمعول فصادف حجرا صلدا، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه المعول فضرب ضربة فذهبت أوّلها برقة إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت في الأولى قصور اليمن، ثم رأيت في الثانية قصور الشام، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن.
وجعل يصفه لسلمان فقال: صدقت! والّذي بعثك بالحق إن هذه لصفته! وأشهد أنك رسول اللَّه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه فتوح يفتحها اللَّه عليكم بعدي، يا سلمان لتفتحن الشام ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشأم ولا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، ولتفتحن هذا المشرق ويهرب كسرى فلا يكون كسرى بعده.
ولما كمل الخندق صارت المدينة كالحصن، ورفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام.
البركة في طعام جابر
ورأى جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحفر، ورآه خميصا [ (4) ] ، فأتى امرأته فأخبرها ما رأى من خمص رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: واللَّه ما عندنا شيء إلا هذه الشاة ومدّ من شعير، قال: فاطحني وأصلحي. فطبخوا بعضها، وشووا
__________
[ (1) ] زيادة من (البخاري) ج 3 ص 32.
[ (2) ] صلّ الحجر: صوّت صوتا ذا رنين (المعجم الوسيط) ج 1 ص 520.
[ (3) ] الكبول: جمع كبل: وهو القيد من أي شيء كان، (المرجع السابق) ج 2 ص 774.
[ (4) ] يقال: خمص الجوع فلانا: أضعفه وأدخل بطنه في جوفه فهو خميص.(1/228)
بعضها، وخبزوا الشعير، ثم أتى جابر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! قد صنعت لك طعاما، فأت أنت ومن أحببت من أصحابك.
فشبّك صلّى اللَّه عليه وسلّم أصابعه بين أصابع جابر ثم قال: أجيبوا جابرا يدعوكم. فأقبلوا معه، فقال جابر في نفسه: واللَّه إنها الفضيحة!.
وأتى المرأة فأخبرها فقالت: أنت دعوتهم أو هو؟ فقال: بل هو دعاهم! قالت: دعهم فهو أعلم. وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر أصحابه، وكانوا فرقا: عشرة عشرة. ثم قال لجابر: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه.
ففعلوا وجعلوا يغرفون ويغطون البرمة ثم يفتحونها فما يرونها [ (1) ] نقصت شيئا، ويخرجون الخبز من التنور ويغطونه فما يرونه ينقص شيئا، فأكلوا حتى شبعوا، وأكل جابر وأهله [ (2) ] .
عرض الغلمان وإجازتهم
وعرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز وردّ من ردّ.
فكان ممن أجاز: [عبد اللَّه] [ (2) ] بن عمر [بن الخطاب] [ (3) ] ، وزيد بن ثابت، والبراء ابن عازب، وما منهم إلا ابن خمس عشرة سنة. وكان الغلمان الذين لم يبلغوا يعملون معه ثم أمرهم [ (4) ] فرجعوا إلى أهليهم.
عدة المسلمين يوم الخندق
وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، وزعم ابن إسحاق أنه إنما كان في سبعمائة، وهذا غلط. وقال ابن حزم: وخرج رسول اللَّه- يعني في الخندق- في ثلاثة آلاف، وقد قيل: في تسعمائة فقط، وهو الصحيح الّذي لا شك فيه، والأول وهم [ (5) ] .
اجتهاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في العمل يوم الخندق
ومن شدة اجتهاده صلّى اللَّه عليه وسلّم في العمل: كان يضرب مرة بالمعول ومرة بالمسحاة يغرف بها التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل، وبلغ يوما منه التعب مبلغا فجلس، ثم اتكأ
__________
[ (1) ] في (خ) «يروها» .
[ (2) ] راجع (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) ج 8 ص 302 باب معجزته صلّى اللَّه عليه وسلّم في الطعام وبركته فيه.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] في (خ) «أمر بهم» .
[ (5) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 271: «وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم» وقال ذلك أيضا (الطبري) ج 2 ص 570.(1/229)
على حجر بشقه الأيسر فنام، فقام أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما على رأسه يمنعان الناس من أن يمروا به فينبّهوه، ثم فزع ووثب فقال:
أفلا أفزعتموني! وأخذ الكرزين يضرب به وهو يقول: اللَّهمّ إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار [ (1) ] والمهاجرة، اللَّهمّ العن عضلا والقارة، فهم كلفوني أنقل الحجارة [ (2) ] .
وفرغ حفر الخندق في ستة أيام.
مواقف المسلمين
وعسكر فجعل سلعا خلف ظهره والخندق أمامه. ودفع لواء المهاجرين إلى زيد ابن حارثة، ولواء الأنصار إلى سعد بن عبادة. وضرب له قبة من أدم. وعاقب بين ثلاث من نسائه، وكانت عائشة أياما، ثم أم سلمة، ثم زينب بنت جحش، وبقية نسائه في الآطام.
خبر حيي بن أخطب وأبي سفيان
وكان حيي بن أخطب يقول- لأبي سفيان بن حرب ولقريش في مسيره معهم-: إن قومي قريظة معكم، وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا. فلما دنوا قال له أبو سفيان: ائت قومك حتى ينقضوا العهد الّذي بينهم وبين محمد.
عهد بني قريظة
فأتى بني قريظة- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم المدينة صالح قريظة والنضير ومن معهم من يهود ألا يكونوا معه ولا عليه، ويقال: صالحهم على أن ينصروه ممن دهمه [ (3) ] ، ويقيموا على معاقلهم [ (4) ] الأولى التي بين الأوس والخزرج- فأتى
__________
[ (1) ] في (خ) «لي الأنصار» .
[ (2) ] يقول محقق (ط) : هكذا روى! وقد روى الثقات، ولم يذكر هذا الكلام من قوله: «اللَّهمّ العن ...
إلخ» ، وهو كلام هالك ليس بشيء. ونقول:
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ العن عضلا والقارة، فهم كلفوني أنقل الحجارة) » ذكره (ابن حجر) في (فتح الباري) ج 7 ص 394 هكذا:
والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا نقل الحجارة
وذكره أيضا في (المطالب العالية) ج 4 ص 228 برقم 4332.
[ (3) ] في (خ) «دهمه منهم» وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 454 وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] معاقلهم الأولى: أي الديات التي كانت في الجاهلية، أو على مراتب آبائهم (ترتيب القاموس) ج 3 ص 287.(1/230)
كعب بن أسد، وكان صاحب عقد بني قريظة وعهدها [ (1) ] ، فكرهت قريظة دخول حيي بن أخطب إلى دارهم، فإنه يحب الرئاسة والشرف عليهم، وكان يشبّه بأبي جهل في قريش [ (2) ] . فلقيه عزّال [ (3) ] بن سموأل أول الناس، فقال له حيي:
قد جئتك بما تستريح به من محمد، هذه قريش قد دخلت وادي العقيق، وغطفان بالزغابة! فقال عزال [ (3) ] : جئتنا واللَّه بذل الدهر! فقال: لا تقل هذا! ثم أتى كعب بن أسد فقال له: إنك امرؤ مشئوم، وقد شأمت [ (4) ] قومك حتى أهلكتهم، فارجع عنا! فما زال به حيي حتى لان له ونقض العهد، وشقوا الكتاب الّذي كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم (بينه و) [ (5) ] بينهم، واستدعى رؤساؤهم- وهم: الزبير ابن باطا، ونبّاش بن قيس، وعزال بن سموأل، وعقبة بن زيد، وكعب ابن زيد- وأعلمهم بما فعل من نقض العهد، فلحمه [ (6) ] الأمر لما أراد اللَّه بهم من هلاكهم.
نقض بني قريظة العهد ومجاهرتهم بالعداوة
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قبته، - والمسلمون على خندقهم يتناوبونه، معهم بضع وثلاثون فرسا، والفرسان يطوفون على الخندق- إذ
جاء عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه، بلغني أن بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت. فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل.
بعثة الزبير بن العوام لاستطلاع خبر بني قريظة وتسميته (حواريّ رسول اللَّه)
وبعث الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه إليهم لينظر. فعاد بأنهم يصلحون حصونهم، ويدرّبون [ (7) ] طرقهم وقد جمعوا ماشيتهم،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن لكل نبي
__________
[ (1) ] في (خ) في هذا المكان «حي بن أخظب» وهو تكرار لا معنى له.
[ (2) ] في (خ) كان يشبه في قريش بأبي جهل، وفي (الواقدي) ج 2 ص 455 «وله في قريش شبه أبو جهل ابن هشام» وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] في (خ) «غزال»
[ (4) ] في (خ) «شوم، وقد شمت»
[ (5) ] زيادة لا بدّ منها.
[ (6) ] في (خ) (لجمة) ولحمة الأمر: أحكمه (المعجم الوسيط) ج 2 ص 819.
[ (7) ] قد تكون من «الدّربة» وهي الجرأة على الأمر أو من «الدّرب» وهو باب السكة الواسع (ترتيب القاموس ج 2 ص 163، 164.(1/231)
حواريا، وإن حواري [ (1) ] الزبير.
ثم بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد ابن حضير لينظروا ما بلغه عن بني قريظة، وأوصاهم- إن كان حقا- أن يلحنوا له [أي يلغزوا] لئلا [ (2) ] يفت ذلك في عضد المسلمين ويورث وهنا، فوجدوهم مجاهرين بالعداوة والغدر، فتسابوا، ونال اليهود- عليهم لعائن [ (3) ] اللَّه- من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسبهم سعد بن معاذ وانصرفوا عنهم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما وراءكم؟ قالوا: عضل والقارة! [يعنون غدرهم بأصحاب الرجيع] . فكبّر صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أبشروا بنصر اللَّه وعونه.
رعب المسلمين يوم الأحزاب
وانتهى الخبر إلى المسلمين، فاشتدّ الخوف وعظم البلاء، ونجم النفاق وفشل الناس: وكانوا كما قال اللَّه تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [ (4) ] .
مقالة المنافقين
وتكلم قوم بكلام قبيح، فقال معتّب بن قشير [ (5) ] (ويقال له: ابن بشر، ويقال له: ابن بشير) بن حليل (ويقال: ابن مليل) بن زيد بن [ (6) ] العطاف بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري: يعدنا محمد (أن نأكل) [ (7) ] كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب لحاجته! ما وعدنا اللَّه ورسوله إلا غرورا!.
__________
[ (1) ] في (خ) «حوارييّ» .
[ (2) ] في (خ) «لئن لا» .
[ (3) ] لعله يقصد جهنم لعنة، وفي (المعجم الوسيط) ج 2 ص 829: 879 أنها تجمع على لعان، ولعنات.
[ (4) ] آية 10- 11 الأحزاب، وفي (خ) إلى قوله تعالى «الحناجر» .
[ (5) ] في (خ) «قريش» والتصويب من (الواقدي) ج 2 ص 459.
[ (6) ] في (خ) بعد قوله «ابن مليل» ما نصه: «مجد الأزعر العطاف» وهو خطأ، فإن مليلا هذا هو أخو الأزعر، وكلاهما زيد بن العطاف.
[ (7) ] هذه رواية (ابن هشام) ج 2 ص 123 وفي (خ) بدون هذه الزيادة وهي رواية (الواقدي) ص 549.(1/232)
من أخبار يهود يوم الأحزاب
وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلا، وبعث حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم، فجاء الخبر بذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعظم البلاء. وبعث سلمة بن أسلم بن حريش بن عدي بن مجدعة ابن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري- في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، ومعهم خيل المسلمين، وكانوا يبيتون بالخندق خائفين، فإذا أصبحوا أمنوا. وكان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان إلا أن اللَّه ردّ بني قريظة عن المدينة بأنها كانت تحرس. وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خوات ابن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري لينظر غرة لبني قريظة فكمن [ (1) ] لهم، فحمله رجل منهم وقد أخذه النوم، فأمكنه اللَّه من الرجل وقتله ولحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره. وخرج نباش بن قيس في عشرة من اليهود يريد المدينة، ففطن بهم نفر من أصحاب سلمة ابن أسلم فرموهم حتى هزموهم، ومر سلمة فيمن معه فأطاف بحصون يهود فخافوه، وظنوا أنه البيات.
بنو حارثة الذين قالوا إن بيوتنا عورة
وبعث بنو حارثة بأوس بن قيظي بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقولون: إن بيوتنا عورة، وليس في دار من دور الأنصار مثل دارنا، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردّهم عنّا، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم. فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال:
يا رسول اللَّه! لا تأذن لهم؟ إنا واللَّه ما أصابنا وإياهم شدّة قطّ إلا صنعوا هكذا.
فردهم. وقال ابن الكلبي: وأبو مليل [ (2) ] بن الأزعر بن زيد بن العطاف بن ضبيعة شهد بدرا، وهو الّذي قال: «بيوتنا عورة» يوم الخندق. وقال ابن عبد البر:
__________
[ (1) ] في (خ) «فأكمن» .
[ (2) ] في (خ) «وابن مليل» والتصويب من (الإصابة) ج 12 ص 3 ترجمة رقم 1077 حيث يقول: «وأنا أخشى أن يكون هو الّذي بعده، وقع فيه تصحيف وتحريف وجوّز ابن فتحون أن يكون هو الّذي بعده» «والّذي بعده» هو: أبو مليل الأزعر.(1/233)
أبو مليل سليك بن الأعزّ [ (1) ] .
حراسة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلمة يخافها من الخندق
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها [ (2) ] «فإذا آذاه البرد دخل قبته فأدفأته عائشة رضي اللَّه عنها في حضنها، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة يحرسها ويقول:
ما أخشى على الناس إلا منها، فبينا هو ليلة في حضن عائشة قد دفيء وهو يقول: ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة، فجاء سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: عليك بهذه الثلمة فاحرسها، ونام، وقام صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلته في قبته يصلي، ثم خرج فقال: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق! ثم نادى: يا عباد ابن بشر، قال: لبيك! قال: معك أحد؟ قال: نعم، أنا في نفر حول قبتك.
فبعثه يطيف بالخندق، وأعلمه بخيل تطيف بهم. ثم قال: اللَّهمّ ادفع عنا شرّهم وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك.
نوبة المشركين عند الخندق
وكان المشركون يتناوبون بينهم: فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخرى، ويناوشون المسلمين، ويقدمون رماتهم فيرمون، وإذا أبو سفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا.
طلب المشركين مضيقا من الخندق وردهم
وكان عباد بن بشر ألزم الناس لقبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحرسها. وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة، فإذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق، فرماهم حتى ولوا، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة، وكانوا في قرّ شديد وجوع. وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيرا ما يطلبان غرة، ومضيقا
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) (لابن عبد البر) ج 12 ص 154 ترجمة رقم 3186 «ابن الأغر» .
[ (2) ] الثلمة: الموضع الّذي قد انثلم أي انشق (المعجم الوسيط) ج 1 ص 99. في (خ) «ويحرسها» .(1/234)
من الخندق يقتحمانه، فكانت للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي.
شعار المهاجرين
وكان شعار المهاجرين: يا خيل اللَّه. وجاء في بعض الليالي عمرو بن عبد [بن أبي القيس] [ (1) ] في خيل المشركين، ومعه مسعود بن رخيلة [ (2) ] بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد اللَّه بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان في خيل غطفان، فرماهم المسلمون. ولبس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم درعه ومغفره، وركب فرسه وخرج، فصرفهم اللَّه وقد كثرت فيهم الجراحة، فرجع صلّى اللَّه عليه وسلّم ونام، وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة فركب عليه السلام بسلاحه ثانيا، فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات كثيرة.
الخوف يوم الخندق وشدة البلاء
قالت أم سلمة رضي اللَّه عنها: شهدت معه مشاهد- فيها قتال وخوف- المريسيع وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين- لم يكن من ذلك أتعب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري: فالمدينة تحرس حتى الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفا، حتى ردهم اللَّه بغيظهم لم ينالوا خيرا [ (3) ] . وقال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارا، وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب [ (4) ] يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا.
رماة المشركين
وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا، متفرقين أو مجتمعين بين أيديهم، وهم:
__________
[ (1) ] في (خ) (وخيله)
[ (2) ] وفي (المغازي) ج 2 ص 467 (مسعود بن رخية) .
[ (3) ] في (خ) (لن)
[ (4) ] في (خ) (ابن أبي لهب) وهو خطأ محض.(1/235)
حبّان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي في آخرين، فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعا في وجه واحد وجاه قبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورسول اللَّه قائم بسلاحه على فرسه.
إصابة سعد بن معاذ وهي الإصابة التي قتلته
فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله [ (1) ] وقال: خذها وأنا ابن العرقة!
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: عرّق اللَّه وجهه في النار،
ويقال: بل رماه أبو أسامة الجشمي.
اقتحام المشركين مضيقا من الخندق وقتالهم وردهم
ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاءوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون فلم تدخله خيولهم.
وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد اللَّه المخزومي، وضرار بن الخطاب [هو ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو آكل السّقب بن حبيب بن عمرو ابن شيبان بن محارب [ (2) ] بن فهر بن مالك الفهري، أسلم يوم الفتح] ، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد- وقام سائرهم وراء الخندق، فدعا عمرو بن عبد إلى البراز- وكان قد بلغ تسعين سنة، وحرم الدهن حتى يثأر بمحمد وأصحابه-
فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا رضي اللَّه عنه سيفه وعمّمه وقال: اللَّهمّ أعنه عليه!
فخرج له وهو راجل [ (3) ] وعمرو فارسا، فسخر به عمرو، ودنا منه عليّ، فلم يكن بأسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار. وسقط نوفل بن عبد اللَّه عن فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل. ومرّ عمر بن الخطاب والزبير في إثر القوم فناوشوهم ساعة، وسقطت درع هبيرة بن أبي وهب، فأخذها الزبير رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] الأكحل: وريد في وسط الذراع (المعجم الوسيط) ج 3 ص 778، وقال سعد رضي اللَّه عنه حينئذ
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل
راجع: (عيون الأثر) ج 2 ص 2، (ابن هشام) ج 3 ص 136، وفي (الواقدي) ج 2 ص 469 (.. ما أحسن الموت إذا حان الأجل) ، وحمل: وهو حمل بن سعدانة بن حارثة الكلبي.
[ (2) ] في (خ) (مجار) .
[ (3) ] راجل: على رجليه، بغير فرس أو دابة.(1/236)
تعبئة المسلمين
ثم وافى المشركون سحرا، وعبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، فقاتلوا يومهم إلى هويّ من الليل: وما يقدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم.
تخلف المسلمين عن الصلاة يوم الخندق
وما قدر صلّى اللَّه عليه وسلّم على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء،
فجعل أصحابه يقولون: يا رسول اللَّه، ما صلينا! فيقول: ولا أنا ما صليت! حتى كشف اللَّه المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله.
وأقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة- وعليها خالد بن الوليد- فناوشهم ساعة، فزرق وحشيّ الطفيل بن النعمان [وقيل: الطفيل بن مالك بن النعمان] [ (1) ] بن خنساء الأنصاري بمزراقه [ (2) ] فقتله كما قتل حمزة رضي اللَّه عنه بأحد.
إقامة الصلاة التي شغلوا عنها
فلما صار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى موضع قبته أمر بلالا فأذن وأقام للظهر، وأقام بعد لكل صلاة إقامة، فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف، وذلك قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ* فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [ (3) ] .
وقال يومئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى: صلاة
__________
[ (1) ] قال في (الإستيعاب) ج 5 ص 231 ترجمة رقم 1275 «الطفيل بن مالك بن النعمان بن خنساء.
وقيل: الطفيل بن النعمان ابن خنساء الأنصاري السلمي، من بني سلمة، شهد العقبة، وشهد بدرا، وأحد، وجرح بأحد ثلاثة عشر جرحا، وعاش حتى شهد الخندق وقتل يوم الخندق شهيدا، قتله وحشي ابن حرب» «وذكر موسى بن عقبة في البدريين: الطفيل بن النعمان بن الخنساء، والطفيل بن مالك بن خنساء، رجلين» .
[ (2) ] المزراق: الرمح القصير (المعجم الوسيط) ج 1 ص 392.
[ (3) ] الآيتان 238، 239/ البقرة، وفي (خ) «قبل أن تنزل صلاة الخوف فرجالا أو ركبانا ... » .(1/237)
العصر، ملأ اللَّه أجوافهم وقبورهم نارا.
وفي حديث جابر: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما شغل يومئذ عن صلاة العصر. وفي حديث أبي سعيد وعبد اللَّه بن مسعود:
أنه شغل يومئذ عن أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفي مرسل سعيد بن المسيّب: أنه شغل عن الظهر والعصر. فاحتمل أن يكون كله صحيحا، لأنهم حوصروا في الخندق وشغلوا بالأحزاب أياما.
ومثل حديث جابر في ذلك حديث علي رضي اللَّه عنه: «وهو حديث ثابت من طرق عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس، ملأ اللَّه قلوبهم وبطونهم- أو بيوتهم- نارا.
طلب المشركين جيفة نوفل بن عبد اللَّه
وأرسلت بنو مخزوم يطلبون جيفة نوفل بن عبد اللَّه: يشترونها، وأعطوا فيها عشرة آلاف درهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما هي جيفة حمار! وكره ثمنه، فخلّى بينهم وبينه. وفي رواية: أن أبا سفيان بعث بديته مائة من الإبل، فأبى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: خذوه، فإنه خبيث الدية خبيث الجثة.
اقتتال الطليعتين من المسلمين
وخرجت طليعتان من المسلمين ليلا فالتقيا- ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدو- فكانت بينهم جراحة وقتل، ثم نادوا بشعار الإسلام: «حم لا ينصرون» ، فكف بعضهم عن بعض، وجاءوا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جراحكم في سبيل اللَّه، ومن قتل منكم فإنه شهيد.
فكانوا بعد ذلك إذا دنا المسلمون بعضهم من بعض نادوا بشعارهم.
خبر الفتى الّذي ذهب إلى أهله
وكان رجال يستأذنون أن يطلعوا إلى أهليهم،
فيقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أخاف عليكم من قريظة. فإذا ألحوا يقول: من ذهب منكم فليأخذ سلاحه.
وكان فتى حديث عهد بعرس، فأخذ سلاحه وذهب، فإذا امرأته قائمة بين البابين، فهيأ لها الرمح ليطعنها فقالت: اكفف حتى ترى ما في بيتك! فإذا بحية على فراشه،(1/238)
فركز فيها رمحه فاضطربت، وخر الفتى ميتا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- لما أخبر بذلك-: إن بالمدينة جنّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام [ (1) ] ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
جوع المسلمين وخبر البركة في الطعام
وكان المسلمون قد أصابهم مجاعة شديدة، وكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدروا عليه، فأرسلت عمرة ابنة رواحة ابنتها بجفنة تمر عجوة في ثوبها إلى زوجها بشير ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري، وإلى أخيها عبد اللَّه بن رواحة-
فوجدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا في أصحابه فقال: تعالي يا بنية! ما هذا معك؟ فأخبرته، فأخذه في كفيه ونثره على ثوب بسط له، وقال لجعال بن سراقة: اصرخ، يا أهل الخندق أن هلم إلى الغداء:
فاجتمعوا عليه يأكلون منه حتى صدر أهل الخندق وإنه ليفيض من أطراف الثوب. وأرسلت أم متعب [ (2) ] الأشهلية [ (3) ] بقبعة فيها حيس [ (4) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في قبته مع أم سلمة، فأكلت حاجتها، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه:
هلم إلى عشائه! فأكل أهل الخندق حتى نهلوا وهي كما هي.
موادعة عيينة بن حصن ثم نقض ذلك
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه محصورين بضع عشرة ليلة حتى اشتد الكرب،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهمّ إنك إن تشأ لا تعبد.
وأرسل إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف- وهما رئيسا غطفان- أن يجعل لهما ثلث تمر المدينة ويرجعان بمن معهما، فطلبا نصف التمر، فأبى عليهما إلا الثلث، فرضيا. وجاءا في عشرة من قومهما حتى تقارب الأمر، وأحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه الصلح- وعباد بن بشر قائم على
__________
[ (1) ] راجع: (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) ج 1 ص 268- 272 حيث ذكر هذا الخبر بتمامه.
[ (2) ] كذا في (خ) ، (ط) ، وفي (الواقدي) «أم عامر الأشهلية» .
[ (3) ] قال محقق (ط) «لم أجد لها ترجمة ولا خبرا» .
والخبر بسنده وتمامه في (الاستيعاب) ج 3 ص 247 برقم 3576 وترجمتها في (الإصابة) ج 3 ص 243 برقم 1368، والخبر بسنده وتمامه في (المغازي) ج 2 ص 476، 477.
[ (4) ] القعبة: حقة مطبقة للسويق (ترتيب القاموس) ج 3 ص 654.
والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر من نواه وربما يجعل فيه سويق (المرجع السابق) ج 1 ص 479.(1/239)
رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقنع في الحديد-، فأقبل أسيد بن حضير، وعيينة مادّ رجليه، فقال له: يا عين الهجرس [ (1) ] ، اقبض رجليك، أتمد رجليك بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ واللَّه لولا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنفذت حضنيك بالرمح! ثم قال:
يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك، إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فو اللَّه لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعتم بهذا منا؟ فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما خفية، فقالا [ (2) ] : إن كان هذا أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم.
فقالا: يا رسول اللَّه، واللَّه إن كانوا ليأكلون العلهز [ (3) ] في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط: أن يأخذوا ثمرة إلا بشراء أو قرى! فحين أتانا اللَّه بك وأكرمنا بك، وهدانا بك، نعطي الدنية! لا نعطيهم أبدا إلا السيف.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: شق الكتاب. فشقه سعد، فقام عيينة والحارث، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارجعوا، بيننا السيف: رافعا صوته.
خبر نعيم بن مسعود الأشجعي في تخذيل الأحزاب
وكان نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة الأشجعي صديقا لبني قريظة، وقدم مع قومه من الأحزاب حين أجدب الجناب [ (4) ] وهلك الخف والكراع [ (5) ] ، فقذف اللَّه في قلبه الإسلام. فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلا فأسلم، فأمره أن يخذّل الناس: وأذن له أن يقول [ (6) ] . فتوجه إلى بني قريظة، وأشار عليهم ألا يقاتلوا مع قريش وغطفان حتى يأخذوا منهم رهنا من أشرافهم فقبلوا رأيه، واستكتمهم مجيئه إليهم. ثم جاء إلى أبي سفيان في رجال قريش، وأعلمهم أن قريظة قد ندمت على ما كان منها، وأنهم راسلوا محمدا بأنهم يأخذون [ (7) ] من أشراف قريش وغطفان
__________
[ (1) ] الهجرس: القرد والثعلب، أو ولده، والدب، ويقال: فلان هجرس: لئيم (المعجم الوسيط) ج 2 ص 973.
[ (2) ] في (خ) (فقال) .
[ (3) ] العلهز: طعام من الدم والوبر كان يتخذ في المجاعة، ونبات ينبت في بلاد بني سليم. (ترتيب القاموس) ج 3 ص 303، 304.
[ (4) ] في (خ) (أحدب الحباب) وما أثبتناه من (المغازي) ج 2 ص 480.
[ (5) ] كناية عن هلاك الأفعال.
[ (6) ] أي يقول ما يشاء في الحيلة والخدعة.
[ (7) ] في (خ) (يأخذوا) .(1/240)
سبعين رجلا يسلمونهم [ (1) ] إليه ليضرب أعناقهم، حتى يرد بني النضير إلى ديارهم، ويكونون معه حتى يردوا قريشا عنه، وأشار عليهم ألا يجيبوا قريظة إلى إعطاء الرهن، وسألهم كتمان أمره ثم جاء إلى غطفان وأعلمهم عن بني قريظة بما أعلم به قريشا عنهم، وحذرهم أن يدفعوا إليهم رهنا، فأرسلت يهود عزال [ (2) ] ابن سموأل إلى قريش بأن الثواء قال طال ولم يصنعوا شيئا، والرأي أن يتواعدوا على يوم تزحف فيه قريش وغطفان وهم، ولكنهم لا يخرجون لذلك معهم حتى يرسلوا إليهم برهائن من أشرافهم، فإنّهم يخافون: إن أصابكم ما تكرهون رجعتم وتركتمونا. فلم يرجعوا إليهم بجواب. وجاء نعيم إلى بني قريظة وقال لهم: إني عند أبي سفيان وقد جاءه رسولكم يطلب منه الرّهان فلم يرد عليه شيئا، فلما ولى رسولكم قال: لو طلبوا مني عناقا [ (3) ] ما رهنتها! فلا تقاتلوا معه حتى تأخذوا الرهن، فإنكم إن لم تقاتلوا محمدا- وانصرف أبو سفيان- تكونوا على موادعتكم الأولى.
فلما كانت ليلة السبت بعث أبو سفيان بعكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة أن يخرجوا غدا ليناجزوا محمدا جميعا، فقالوا: إن غدا السبت، لا نقاتل فيه ولا نعمل عملا، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهانا من رجالكم لئلا تبرحوا، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمّروا إلى بلادكم وتدعونا إلى محمد، ولا طاقة لنا به. فتحققت قريش صدق ما قال لهم نعيم: وأرسلت غطفان إلى بني قريظة بمسعود بن رخيلة في رجال بمثل ما راسلهم أبو سفيان، فأجابوهم بمثل [ (4) ] ما أجابوا به عكرمة، فتحققت غطفان وبنو قريظة ما قاله نعيم، ويئس كل منهم من الآخر واختلف أمرهم.
اختلاف الأحزاب
وأخذ أبو سفيان ومن معه يلومون حيي بن أخطب، فأتى بني قريظة فلم يجد منهم موافقة له، وأبوا أن يقاتلوا مع قريش حتى يأخذوا سبعين رجلا من قريش
__________
[ (1) ] في (خ) (يسلموهم) .
[ (2) ] في (خ) (غزال) .
[ (3) ] العناق: الأنثى من أولاد المعيز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول (المعجم الوسيط) ج 2 ص 632.
[ (4) ] في (خ) (ماما) مكررة.(1/241)
وغطفان رهانا عندهم.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأحزاب وهبوب الريح عليهم
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد دعا على الأحزاب فقال: اللَّهمّ منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللَّهمّ اهزمهم.
وكان دعاؤه عليهم يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء، فعرف السرور في وجهه، فلما كان ليلة السبت، بعث اللَّه الريح على الأحزاب حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله، ولا يقرّ لهم قدر ولا بناء. وقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي إلى أن ذهب ثلث الليل. وكذلك فعل ليلة قتل كعب بن الأشرف. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا حزبه الأمر أكثر من الصلاة.
خبر الريح وتفرق الأحزاب ورجوعهم
وبعث حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه لينظر ما فعل القوم وما يقولون. فدخل عسكرهم في ليلة شديدة البرد فإذا هم مصطلون على نار لهم والريح لا تقر لهم قدرا ولا بناء، وهم يشتورون [ (1) ] في الرحيل حتى ارتحلوا. وأقام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في مائتي فارس جريدة [ (2) ] . ثم ذهب حذيفة إلى غطفان فوجدهم قد ارتحلوا، فأخبرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك. فلما كان السحر لحق عمرو وخالد بقريش، ولحقت كل قبيلة بمحلتها [ (3) ] .
مدة حصار الخندق
فكانت مدة حصار الخندق خمسة عشر يوما، وقيل: عشرين يوما، وقيل:
قريبا من شهر. وأصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد رحيل الأحزاب، فأذن للمسلمين في الانصراف، فلحقوا بمنازلهم.
كتاب أبي سفيان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكتب أبو سفيان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا فيه: «باسمك اللَّهمّ. فإنّي أحلف
__________
[ (1) ] هذه اللفظة عامية، واللغة فيها (يتشاورون) .
[ (2) ] جريدة: خيل لا رجّالة فيها (المعجم الوسيط) ج 1 ص 116.
[ (3) ] المحلة: منزل القوم.(1/242)
باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألا نعود [ (1) ] أبدا حتى نستأصلكم [ (2) ] ، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علّمك هذا؟ فإن نرجع عنك فلكم منا يوم كيوم أحد» وبعث به مع أبي أسامة الجشميّ، فقرأه أبيّ بن كعب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قبته،
وكتب إليه: «من محمد رسول اللَّه إلى أبي سفيان بن حرب. أما بعد، فقديما غرك باللَّه الغرور. أما ما ذكرت- أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا- فذلك أمر يحول اللَّه بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى. وأما قولك: من علمك الّذي صنعنا من الخندق؟ فإن اللَّه ألهمني لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك، وليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وإساف ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك.
ويقال: كان في كتاب أبي سفيان: «ولقد علمت أني لقيت أصحابك ناجيا [ (3) ] وأنا في عير لقريش فما خص أصحابك منا شعره، ورضوا منا بمدافعتنا بالراح، ثم أقبلت في عير قريش حتى لقيت قومي- فلم تلقنا- فأوقعت بقومي ولم أشهدها من وقعة، ثم غزوتكم في عقر داركم، فقتلت وحرقت [يعني غزوة السويق] . ثم غزوتك في جمعنا يوم أحد، فكانت وقعتنا فيكم مثل وقعتكم بنا ببدر. ثم سرنا إليكم في جمعنا ومن تألب إلينا يوم الخندق، فلزمتم الصياصي وخندقتم الخنادق» .
ما نزل من القرآن في شأن الخندق
وأنزل اللَّه تعالى- في شأن الخندق يذكر نعمته وكفايته عدوهم، بعد سوء الظن منهم، ومقالة من تكلم بالنفاق- قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ألا نعود إليك» وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 492 وما أثبتناها من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «نستأصلهم» وفي (الواقدي «نستأصلك» ) .
[ (3) ] في (خ) (باسا) .
[ (4) ] الآيات من 1 إلى 27/ الأحزاب، «لم تروها، الآيات» .(1/243)
ذكر من قتل من المسلمين
وقتل من المسلمين يومئذ ستة نفر، ثلاثة من بني الأشهل هم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد اللَّه بن سهل، واثنان من بني جشم ابن الخزرج ثم من بني سلمة هما: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عتمة [ (1) ] ، وواحد من بني النجار ثم من بني دينار [هو] [ (2) ] : كعب بن زيد، أصابه سهم غرب [ (3) ] فقتله.
من قتل من الكفار
وقتل من المشركين ثلاثة نفرهم [ (4) ] : منبّه بن عثمان بن عبيد بن السبّاق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد اللَّه بن المغيرة بن مخزوم، وعمرو بن عبد ودّ قتله علي رضي اللَّه عنه. ولم تغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق.
غزوة بني قريظة
ثم كانت غزوة بني قريظة: خرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأربعاء لسبع خلون من ذي الحجة سنة خمس، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وحصرها خمسا وعشرين ليلة، وقيل: خمسة عشر يوما، وقيل: شهرا.
سببها
وسبب ذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رجع من الخندق دخل بيت عائشة رضي اللَّه عنها [ (5) ] فاغتسل ودعا بالمجمرة ليتخبر، وقد صلى الظهر، فأتاه جبريل عليه السلام وقت الظهر- على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة، وعلى ثناياه النقع- فوقف عند موضع الجنائز فنادى: عذيرك [ (6) ] من محارب. فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] في (خ) «غنمة» وهي رواية (الواقدي) ، وفي (ابن هشام) ج 3 ص 155 «ابن غنيمة)
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] قال ابن هشام: سهم غرب، بإضافة وغير إضافة، وهو الّذي لا يعرف من أين جاء ولا من أين رمى به ويقول (الواقدي) ج 2 ص 496 في شأن كعب بن زيد. وقتله ضرار بن الخطاب» .
[ (4) ] هكذا في (ابن هشام) ج 3 ص 155، وفي (الواقدي) ج 2 ص 496 «عثمان بن منبه» .
[ (5) ] في (خ) «عنه» .
[ (6) ] أي هات من ينصرك.(1/244)
فزعا، فقال: ألا أراك وضعت اللأمة ولم تضعها الملائكة بعد؟ لقد طردناهم إلى حمراء الأسد، إن اللَّه يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم. [ويقال: جاءه على فرس أبلق] [ (1) ] .
الخروج إلى قريظة
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا رضي اللَّه عنه فدفع إليه لواءه، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، وبعث بلالا رضي اللَّه عنه فأذن في الناس:
إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمركم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة.
وعن قتادة قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ مناديا، يا خيل اللَّه اركبي.
ولبس الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قناة بيده، وتقلد الترس، وركب فرسه.
وحف به أصحابه وقد لبسوا السلاح وركبوا الخيل وكانت ستة وثلاثين فرسا، وكانت له صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أفراس معه.
وقيل: خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو راكب على حمار عري [ (2) ] . وسار فمر بنفر من بني النجار قد صفوا وعليهم السلاح، فقال: هل مر بكم أحد؟ قالوا: نعم! دحية الكلبي، مر على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من إستبرق، فأمرنا بلبس السلاح، فأخذنا سلاحنا وصففنا، وقال لنا: هذا رسول اللَّه يطلع عليكم الآن! فقال: ذلك جبريل.
وصول علي إلى حصن بني قريظة وسفاهة يهود
وانتهى إلى بني قريظة، وقد سبق عليّ في نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز الراية عند أصل الحصن، فاستقبلهم يهود يشتمون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأزواجه، فسكت المسلمون وقالوا: السيف بيننا وبينكم. فلما رأى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجع إليه، وأمر أبا قتادة الأنصاري أن يلزم اللواء.
مسيره صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم وما قاله
وسار صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى يهود، وقال يومئذ: الحرب خدعة.
وتقدمه أسيد بن حضير فقال: يا أعداء اللَّه! لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب
__________
[ (1) ] ذكره (الواقدي) ج 2 ص 497.
[ (2) ] عرى: لا سرج عليه.(1/245)
في جحر. قالوا: يا ابن الحضير، نحن مواليك دون الخزرج! وخاروا. فقال:
لا عهد بيني وبينكم ولا إلّ [ (1) ] .
ودنا صلّى اللَّه عليه وسلّم منهم وقد ترس عنه أصحابه. فقال:
يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت! أتشتموني؟ فجعلوا يحلفون: ما فعلنا! ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولا!.
تقدم الرماة وبدء المراماة
وتقدمت الرماة من المسلمين،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: يا سعد، تقدم فارمهم.
فرماهم والمسلمون ساعة، ويهود تراميهم، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقف على فرسه فيمن معه. ثم انصرفوا إلى منازلهم، وباتوا وقد بعث إليهم سعد بن عبادة بأحمال تمر فأكلوا،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يأكل منه: نعم الطعام التمر.
واجتمع المسلمون عنده عشاء، ومنهم من صلى ومنهم من لم يصلّ حتى جاء بني قريظة، فما عاب على أحد من الفريقين.
تعبئة المسلمين حول الحصن
ثم غدا سحرا وقدّم الرماة وعبأ أصحابه، فأحاطوا بحصون يهود وراموهم بالنّبل والحجارة وهم يرمون من حصونهم حتى أمسوا، فباتوا حول الحصون.
مفاوضة يهود للصلح
فنزل نبّاش بن قيس وكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير: له الأموال والحلقة، ويحقن دماءهم، ويخرجون من المدينة بالنساء والذراري، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا أن ينزلوا عن حكمه، وعاد نبّاش إليهم بذلك.
مشورة كعب بن أسد اليهودي
فأشار عليهم كعب بن أسد بأن يدخلوا في الإسلام، وذكرهم بما عندهم من العلم بنبوته، فلم يقبلوا رأيه. فأشار عليهم أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا
__________
[ (1) ] الإل: العهد والقرابة قال تعالى لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً 8/ التوبة.(1/246)
فيقاتلوا حتى يقتلوا أو يظفروا، فأبوا ذلك. فأشار عليهم أن يخرجوا ليلة السبت والمسلمون آمنون فيبيتونهم فقالوا: لا نحل السبت. واختلفوا وندموا على ما صنعوا.
ذكر من أسلم من يهود بني قريظة
ونزل منهم [ثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه] [ (1) ] ، وأسد بن عبيد، وأسلموا. وأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ونزل عمرو بن سعدى، [وكان أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا. فبات في مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب] [ (2) ] فلم يدر أين هو! وقيل: [إنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأصبحت رمته ملقاة ولا يدرى أين ذهب!] [ (3) ] .
خبر أبي لبابة في مشورة اليهود
فلما اشتد عليهم الحصار طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر، فدخل عليهم فقالوا له: ما ترى؟ إن محمدا أبى إلا أن ننزل عن حكمه! قال: فانزلوا. وأومأ إلى حلقه، وهو الذبح. ثم نزل- والناس ينتظرونه- وقد ندم على ما كان منه.
فمر على وجهه حتى ارتبط في المسجد إلى سارية،
وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما صنع وذهابه، فقال: دعوه حتى يحدث اللَّه فيه ما يشاء، ولو جاءني استغفرت له، وأما إذ [ (4) ] لم يأتني وذهب فدعوه.
فكان كذلك خمس عشرة ليلة، - وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استعمله على القتال، وأنزل فيه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ثعلبة بن أسيد ابنا سعيد» وهو خطأ، وصوبه من (الواقدي) ج 2 ص 503 هكذا: «ثعلبة وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد عمهم» : وفي (ابن هشام) ج 3 ص 144 «قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد ابن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل، ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك. هم بنو عم القوم» .
[ (2) ] في (خ) ونزل عمرو بن سعدي فلم يدري أين هو، وسياقه مضطرب فاستوفيناه من (المرجع السابق) ذات الجزء والصفحة.
[ (3) ] في (خ) «وقيل وجدت رمته» وتمام السياق من المرجع السابق. ج 3 ص 144- 145.
[ (4) ] في (خ) «إذا» .
[ (5) ] 102/ التوبة، وفي (خ) « ... يتوب عليهم، الآية» .(1/247)
ويقال نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ (1) ] .
ويقال نزلت فيه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [ (2) ] . والأول أثبت.
نزول بني قريظة على حكم رسول اللَّه وكتافهم وما وجد عندهم
ثم نزلت يهود على حكم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأمر بأسراهم فكتفوا رباطا- وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة- ونحّوا ناحية، وأخرج النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحية، واستعمل عليهم عبد اللَّه بن سلام. وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفا رمح، وألف وخمسمائة ترس وجحفة، وأثاث كبير وآنية كثيرة، وخمر وجرار سكر، فهريق ذلك كله ولم يخمس. ووجد من الجمال النواضح عدة، ومن الماشية شيء كثير، فجمع ذلك كله.
طلب الأوس حلفاءهم بني قريظة
وطلب الأوس من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يهب لهم بني قريظة فإنّهم حلفاؤهم، كما وهب لابن أبيّ [بني] [ (3) ] قينقاع حلفاءه.
تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة
فقال:
أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟ قالوا: بلى! قال:
فذلك إلى سعد بن معاذ.
وسعد يومئذ في المسجد في خيمة رفيدة، ويقال:
كعيبة [ (4) ] بنت سعد بن سعد بن كعب بن عبد الأسلمية، وكانت تداوي الجرحى، وتلم الشعث، وتقوم على الضائع الّذي لا أحد له، وكان لها خيمة في المسجد، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل سعد بن معاذ فيها منذ جرح. فخرجت
__________
[ (1) ] 27/ الأنفال وفي (خ) « ... والرسول، الآية» .
[ (2) ] 41/ المائدة وفي (خ) « ... بأفواههم، الآية.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] في (خ) «كفيتة» .(1/248)
الأوس فحملوه على حمار. وجعلوا وهم حوله يقولون له: يا أبا عمرو! إن رسول اللَّه قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم فأحسن، فقد رأيت ابن أبي وما صنع من حلفائه، وأكثروا في هذا وشبهه، وهو لا يتكلم، ثم قال: قد آن لسعد ألا تأخذه في اللَّه لومة لائم. فقال الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاري: وا قوماه! وقال غيره منهم نحو ذلك. ثم رجع إلى الأوس فنعى لهم قريظة.
فلما جاء سعد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والناس حوله قال: قوموا إلى سيدكم! فقاموا له على أرجلهم صفين يحييه كل منهم. [ويقال: إنما عني صلّى اللَّه عليه وسلّم بقوله: «قوموا لسيدكم» الأنصار دون قريش] .
وقالت الأوس الذين حضروا:
يا أبا عمرو! إن رسول اللَّه قد ولّاك فأحسن فيهم، واذكر بلاءهم عندك. فقال سعد: أترضون بحكمي لبني قريظة؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم عهد اللَّه وميثاقه أن الحكم ما حكم، ثم قال: فإنّي أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه المواسي، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لقد حكمت بحكم اللَّه من فوق سبع أرقعة [ (1) ] .
خبر بني قريظة بعد حكم سعد وما جرى في قتلهم
فأمر بالسبي فسيقوا إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية إلى دار ابنة الحارث، وقد اختلف في اسمها، فقيل: كيّسة بنت الحارث بن كريز بن [ربيعة] [ (2) ] بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد اللَّه بن عامر بن كريز، وأمر بأحمال التمر فنثرت على بني قريظة، فباتوا يكدمونها كدم الحمر [ (3) ] . وأمر بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب فحمل، وبالإبل والغنم فتركت [ (4) ] هناك ترعى الشجر، ثم غدا صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة في يوم الخميس السابع من ذي الحجة والأسرى معه، وأتى إلى السوق، فأمر بخدود فخدت [ (5) ] ،
__________
[ (1) ] والأرقعة السموات.
[ (2) ] زيادة من نسب عبد اللَّه بن عامر بن كريز.
[ (3) ] الكدم: أثر العضّ (المعجم الوسيط) ج 2 ص 78 والحمر: جمع حمار.
[ (4) ] في (خ) «فبركت» .
[ (5) ] الخدود: جمع خد: كالأخدود وهو الحفرة (المعجم الوسيط) ج 1 ص) 220.(1/249)
وحفر فيها هو وأصحابه، وجلس ومعه علية أصحابه، ودعا [ (1) ] برجال بني قريظة فكانوا يخرجون أرسالا تضرب أعناقهم.
مقالة حيي بن أخطب عند قتله
ولما جيء بعدو اللَّه حيي بن أخطب [بن سعيه بن ثعلبة بن عبيد بن كعب ابن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن ناخوم من بني إسرائيل من سبط لاوي ابن يعقوب، ثم من ولد هارون بن عمران أخي موسى صلى اللَّه عليه] [ (2) ] ، قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألم يمكّن اللَّه منك يا عدو اللَّه؟ فقال: بلى!
واللَّه ما لمت نفسي في عداوتك، ولقد التمست العزّ في مظانّه، وأبى اللَّه إلا أن يمكّنك مني، قلقلت كلّ مقلقل، ولكنه من يخذل اللَّه يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس! لا بأس بأمر اللَّه، قدر وكتاب، ملحمة كتبت على بني إسرائيل! فأمر فضربت عنقه.
أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإحسان إلى الأسرى
ثم أتى بعزّال [ (3) ] بن سموأل، ونباش بن قيس، فضربت أعناقهما، وقد جابذ [ (4) ] نباش الّذي جاء به، حتى قاتله ودق أنفه فأرعفه،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم للذي جاء به: لم صنعت به هذا؟ أما كان السيف كفاية! ثم قال: أحسنوا إسارهم، وقيّلوهم واسقوهم، لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحرّ السلاح. وكان يوما صائفا، فقيّلوهم وسقوهم وأطعموهم، فلما أبردوا راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقتل من بقي منهم.
إسلام رفاعة بن سموأل
وسألت أم المنذر سلمى بنت قيس بن عمرو بن عبيد بن مالك بن عدي
__________
[ (1) ] في (خ) «دعي» .
[ (2) ] في (خ) في مكان ما بين القوسين في نسب حي بنت أخطب: «بنرية بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة بن جزيلة بن نجم بن أشرس بن سهيت بن السكون وفيه خلط كثير، وما أثبتناه من (الاستيعاب) ج 13 ص 62 ترجمة صفية بنت حي رقم 3405 وانظر أيضا ترجمتها في (الإصابة) ج 13 ص 14 رقم 647.
[ (3) ] في (خ) «يغزل» .
[ (4) ] جابذ: من الجبذ وهو الجذب. وليس مقلوبة، بل لغة صحيحة (ترتيب القاموس) ج 2 ص 517.(1/250)
ابن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في رفعة بن سموأل فقال: هو لك؟ فأسلم.
كراهة بعض الأوس قتل قريظة، ثم تفريق الأسرى في الأوس
وجاء سعد بن عبادة والحباب بن المنذر فقالا: يا رسول اللَّه، إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم. فقال سعد بن معاذ: ما كرهه من الأوس أحد فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه اللَّه. فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول اللَّه، لا تبقينّ دار من دور الأوس إلا فرقتهم فيها. ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم.
وضرب رسول اللَّه عنق كعب بن أسد بين يديه.
قتل بنانة اليهودية وسببه
وأمر ببنانة امرأة الحكم القرظي- وهي من السبي- فقتلت، لأنها ألقت من حصن الزبير بن باطا رحّي [ (1) ] بإشارة زوجها على نفر من المسلمين كانوا يستظلون في فيئه، فشدخت رأس خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة ابن امرئ القيس بن مالك الأغر، فمات.
قتل كل من أنبت، وبكاء نساء يهود
وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتل كل من أنبت منهم، وترك من لم ينبت، وتمادى القتل فيهم إلى الليل فقتلوا على شعل السعف، ثم ردّ عليهم التراب في الخنادق.
وكان من شك فيه منهم أن يكون بلغ، نظر إلى مؤتزره: فإن كان أنبت قتل، وإلا ترك في السبي. وكانوا ستمائة، [وقيل: ما بين الستمائة إلى السبعمائة. وقيل:
كانوا سبعمائة وخمسين] ، ولما قتلوا صاحت نساءهم وشقّت جيوبها، ونشرت شعورها، وضربت خدودها، وملأت المدينة.
__________
[ (1) ] في (خ) بعد قوله «باطا» باقي الخير لم يظهر في التصوير الميكروفيلمي، وتمامه من (الواقدي) ج 2 ص 517.(1/251)
خبر الزبير بن باطا
وسأل ثابت بن قيس بن شماس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الزبير بن باطا فقال: هو لك.
فلم يرض بالحياة وطلب أن يلحقوه بأحبته، فضرب الزبير بن العوام عنقه.
وطلب ثابت بن قيس أهله وولده فردّوا إليه إلى الحلقة، فكانوا مع آل ثابت بن قيس.
إسلام ريحانة بنت زيد
وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ريحانة بنت زيد لنفسه صفيا وعزلها حتى تسلم، فما زال بها [ثعلبة بن سعية] [ (1) ] حتى أسلمت، فبعثها إلى بيت أم المنذر سلمى بنت قيس حتى حاضت ثم طهرت. فجاءها وخيّرها: أيعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه يطؤها بالملك؟ فاختارت أن تكون في ملكه، وقيل: أعتقها وتزوجها.
بيع المتاع وقسمة الفيء
وأمر بالمتاع فبيع في من يزيد، وبيع السبي، وقسمت النخل أسهما، وكانت الخيل ستا وثلاثين فرسا، فأسهم: للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وللراجل سهم. وقاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أفراس فلم يضرب إلا سهما واحدا. وأسهم لخلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو، وقد قتل تحت الحصن: طرحت عليه رحى، فشدخته شدخا شديدا. وأسهم لأبي سنان بن محصن [واسمه وهب بن عبد اللَّه، ويقال: عبد اللَّه بن وهب، ويقال: عامر، ولا يصحّ، ويقال: اسمه وهب بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وعلى هذا فهو أخو عكاشة بن محصن، وهو أصح ما قيل فيه. وبات ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحاصرهم، وكان يقاتل مع المسلمين. وكان المسلمون ثلاثة [ (2) ] آلاف، فكانت سهمان الخيل والرجال على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما: للفرس سهمان ولصاحبه سهم. وأسهم يومئذ على الأموال فجزئت خمسة أجزاء، وكتب في سهم منها للَّه، فخرجت السهمان، وكذلك الرثّة [ (3) ] والإبل والغنم والسبي،
__________
[ (1) ] في (خ) «ابن سعد» .
[ (2) ] في (خ) «ثلاثة، ثلاثة» مكررة.
[ (3) ] الرّثّة: رديء المتاع (المعجم الوسيط) ج 1 ص 328.(1/252)
ثم فضّ أربعة أسهم على الناس.
ترك فيء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للنساء
وأخذ [ (1) ] فيء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم النساء اللاتي حضرت القتال ولم يسهم لهن، وهن: صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء الأنصارية، والسميراء بنت قيس الأنصارية، وأم سعد بن معاذ، وهي: كبشة بنت رافع بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج.
أمر السبي
ولما بيعت السبايا والذرية بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بطائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة [ (2) ] ، يبيعهم ويشتري بهم سلاحا وخيلا. واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهما طائفة. فكان يوجد عند العجائز المال ولا يوجد عند الشّواب، فربح عثمان مالا كثيرا لأنه صار في سهم العجائز. ويقال:
لما قسم صلّى اللَّه عليه وسلّم جعل الشواب على حدة، والعجائز على حدة، وخيّر عبد الرحمن وعثمان فأخذ عثمان العجائز. واشترى أبو الشحم اليهودي امرأتين- مع كل واحدة ثلاثة أطفال- بخمسين ومائة دينار، وجعل يقول: ألستم على دين يهود؟ فتقول المرأتان: لا نفارق دين قومنا حتى نموت عليه، وهن يبكين. وكان السبي ألفا من النساء والصبيان، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسه قبل بيع المغنم، فجزأ السبي خمسة أجزاء: فأخذ خمسا، فكان يعتق منه ويهب منه، ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما أصاب من رثتهم: قسمت قبل أن تباع. وكذلك النخل عزل خمسة، وكل ذلك يسهم عليه خمسة أجزاء ويكتب في سهم منها [للَّه] [ (3) ] ، ثم يخرج السهم، فحيث طار سهمه أخذه ولم يتخير. وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزّبيدي، وهو الّذي قسم المغنم بين المسلمين.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، و (ط) ، وفي (الواقدي) ج 2 ص 522 «وأخذى» .
[ (2) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ج 2 ص 523، وفي باقي كتب السيرة: «سعد بن زيد الأشهلي» .
[ (3) ] غير بينة في (خ) ، وأثبتناها من (الواقدي) ج 2 ص 523.(1/253)
النهي عن التفريق بين النساء والولد حتى يبلغوا
ونهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يفرّق في القسم والبيع بين النساء والذرية، وقال:
لا يفرّق بين الأم وولدها حتى يبلغوا، فقيل: يا رسول اللَّه! وما بلوغهم؟ قال:
تحيض الجارية ويحتلم الغلام.
وكان يفرق يومئذ بين الأختين إذا بلغتا، وبين الأم وابنتها إذا بلغت. وكانت الأم وولدها الصغار تباع من المشركين من العرب، ومن يهود المدينة وتيماء وخيبر، يخرجون بهم. وإذا كان الولد صغيرا ليس معه أم لم يبع من المشركين ولا من يهود إلا من المسلمين. فكانت أموال بني قريظة أول فيء وقع فيه السهمان والخمس.
موت سعد بن معاذ، وبكاء أمه، وحزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على سعد ثم دفنه
ولما حكم سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه في بني قريظة، رجع إلى خيمة رفيدة بنت سعد الأسلمية- وكان قد كوى جرحه بالنار فانتفخت يده، وسال الدم فحمّه أخرى فانتفخت يده، فسأل اللَّه أن يبقيه حتى يقاتل بني قريظة- فانفجر جرحه ومات بعد ما عاده النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فحمل إلى منزله. وغسّله الحارث بن أوس ابن معاذ، وأسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة بن وقش بحضرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأم سعد تبكي وتقول:
[ويل أم سعد سعدا ... صرامة وحدّا
وسؤددا ومجدا ... وفارسا معدّا
سدّ به مسدّا ... يقدها ما قدّا] [ (1) ]
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كل البواكي يكذبن إلا أم سعد.
ثم كفّن في ثلاثة أثواب وحمل في سرير. فحمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [جنازته] [ (2) ] وهو بين عمودي سريره حتى رفع من داره إلى أن خرج، ومشى أمام جنازته، ثم صلى عليه ونزل في قبره أربعة نفر: الحارث بن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأبو نائلة،
__________
[ (1) ] وردت هذه الندبة بروايات كثيرة في كتب السيرة، وما أثبتناه هو أجودها.
[ (2) ] الجنازة: سرير الميت أو الميت نفسه.(1/254)
وسلمة بن سلامة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقف على قدميه على قبره.
ولما وضع في لحده تغير وجهه وسبح ثلاثا، فسبح المسلمون ثلاثا حتى ارتج البقيع [ (1) ] ، ثم كبر ثلاثا وكبر أصحابه حتى ارتج البقيع، فسئل عن ذلك فقال: تضايق على صاحبكم قبره، وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد، ثم فرّج اللَّه عنه.
وجاءت أم سعد تنظر إليه في اللحد وقالت: احتسبك عند اللَّه. وعزّاها [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على قبره. وجلس ناحية والمسلمون يردون تراب القبر حتى سوّي ورشّ الماء عليه، ثم وقف صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعا، ثم انصرف.
بلوغ خبر قريظة إلى يهود بني النضير
وسار حسيل بن نويرة الأشجعي يومين حتى قدم خيبر، فأعلم سلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، ويهود بني النضير، ويهود خيبر بأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قتل مقاتلة قريظة صبرا بالسيف، وسبي النساء والذرية، فقال سلام بن مشكم- وكانت له رئاسة بني النضير بعد يوم بعاث [ (3) ]-: هذا كله عمل حيي بن أخطب، لا قامت يهودية بالحجاز أبدا! وصاح نساؤهن وأقمن المآتم، وفزعت اليهود إلى سلام ليروا رأيه. فأشار عليهم يسيروا معه، ويهود تيماء وفدك ووادي القرى- ولا يجلبوا معهم أحدا من العرب- حتى يغزوا محمدا في عقر داره، فوافقوا على ذلك.
زواجه صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب بنت جحش
وفي هذه السنة الخامسة تزوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زينب بنت جحش، في قول طائفة.
فرض الحج
وفيها فرض الحج، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل غير ذلك.
__________
[ (1) ] البقيع: بقيع الغرقد، وهو مدافن أهل المدينة.
[ (2) ] في (خ) «وعزها» .
[ (3) ] في (خ) «يغاث» .(1/255)
سرية عبد اللَّه بن أنيس إلى سفيان ابن خالد بن نبيح الهزلي
ثم كانت سرية عبد اللَّه بن أنيس بن أسعد [ (1) ] بن حرام بن حبيب بن مالك ابن غنم بن كعب بن تيم بن نفاثة بن إياس [ (2) ] بن يربوع بن البرك بن وبرة [ويعرف بالجهني وليس بجهني، ولكنه من وبر قضاعة وجهينة أيضا من قضاعة] [ (3) ]- إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهزلي، ثم اللحياني.
خروجه إليه وسببه
خرج إليه يوم الاثنين لخمس خلون من المحرّم على رأس أربعة وخمسين شهرا [ (4) ] ، فغاب اثنتي عشرة ليلة وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم.
وقد بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن سفيان بن خالد بن نبيح الهزلي ثم اللحياني نزل عرنة وما حولها في ناس فجمع لحربه، وضوى إليه بشر كثير من أفناء العرب. فبعث عبد اللَّه بن أنيس وحده ليقتله، وقال له: انتسب إلى خزاعة.
صفة ابن نبيح
(فقال عبد اللَّه بن أنيس: يا رسول اللَّه، انعته لي حتى أعرفه) [ (5) ] ، قال:
إذا رأيته هبته، وفرقت منه، وذكرت الشيطان، وآية (ما بينك وبينه) [ (6) ] أن تجد له قشعريرة إذا رأيته، وأذن له أن يقول ما بدا له،
وكان أنيس [ (7) ] لا يهاب
__________
[ (1) ] في (خ) «ابن إسحاق» .
[ (2) ] في (خ) «أنيس» .
[ (3) ] ما بين القوسين في (خ) بعد قوله «الهذلي ثم اللحياني» وهذا هو حق مكانه.
[ (4) ] وهي رواية (الواقدي) في ج 2 ص 531، وذكر في (تلقيح الفهوم) ص 56، «خرج من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكره أيضا (ابن سعد) ج 2 ص 50 وهو الصواب.
[ (5) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 2 ص 532 و (ابن سعد) ج 2 ص 51.
[ (6) ] في (خ) «وآية ذلك تجد» وفي (الواقدي) ج 2 ص 532: «آية بينك وبينه» وما أثبتناه من (ط) فهو أدلّ على السياق.
[ (7) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ج 2 ص 532 و (ابن سعد) ج 2 ص 51 «وكنت لا أهاب الركال» ولعلها في (خ) «وكان ابن أنيس» وكلمة «ابن» ساقطة من الناسخ.(1/256)
الرجال. فأخذ سيفه وخرج، حتى (إذا) [ (1) ] كان ببطن عرنة لقي سفيان يمشي:
ووراءه الأحابيش، فهابه، وعرفه بالنّعت الّذي نعت له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقد دخل وقت العصر، فصلى وهو يمشي يومئ إيماء برأسه، فلما دنا منه قال: من الرجل؟ قال: رجل من خزاعة، سمعت لجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك.
ومشى معه يحادثه وينشده، وقال: عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث، فارق الآباء وسفه أحلامهم! فقال سفيان: لم يلق محمد أحدا يشبهني! حتى انتهى إلى خبائه وتفرّق عنه أصحابه. فقال: هلمّ يا أخا خزاعة.
قتل سفيان بن خالد
فدنا منه وجلس عنده حتى نام الناس، فقتله وأخذ رأسه واختفى في غار، والخيل تطلبه في كل وجه، ثم سار الليل وتوارى في النهار إلى أن قدم المدينة ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في المسجد فقال: أفلح الوجه! قال: أفلح وجهك يا رسول اللَّه! ووضع الرأس بين يديه، وأخبره الخبر، فدفع إليه عصا وقال: تخصّر [ (2) ] بهذه في الجنة، فإن المتخصّرين [ (2) ] في الجنة قليل،
وكانت عنده حتى أدرجت في أكفانه بعد موته.
غزوة القرطاء
ثم كانت غزوة القرطاء من بني بكر [ (3) ] بن كلاب، بناحية ضريّة بالبكرات، وبين ضرية والمدينة سبع ليال. خرج فيها محمد بن مسلمة لعشر خلون من المحرم، فغاب تسع عشرة ليلة، وقدم لليلة بقيت من المحرم. وكان في ثلاثين رجلا، فسار الليل وكمن [ (4) ] النهار [حتى إذا] [ (5) ] كان بالشّربّة [ (6) ] لقي ظعنا من محارب، فأغار عليهم. وقتل نفرا منهم وفرّ سائرهم، واستاق نعما وشاء، ومضى. وقدّم عباد ابن بشر عينا لينظر بني بكر بن كلاب. فلما أتاه بخبرهم شنّ الغارة عليهم، وقتل منهم عشرة، واستاق النّعم، والشاء، وقدم المدينة، وهي خمسون ومائة بعير،
__________
[ (1) ] زيادة السياق.
[ (2) ] اختصر فلان: أمسك المخصرة واختصر بها: اعتمد عليها. والمخصرة: ما يتوكأ عليها كالعصا ونحوها.
(المعجم الوسيط) ج 1 ص 237.
[ (3) ] في (خ) «من بني أبي بكر»
[ (4) ] في (خ) «وأكمن»
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] الشربّة: قال الأصمعي: الشّربّة وادي الرمة يقع بين عدنة والشربة (معجم البلدان) ج 3 ص 333 وضرّبة: قرية في طريق مكة من البصرة من نجد (المرجع السابق) ج 3 ص 457 وهي في (خ) «الشرية» .(1/257)
وثلاثة آلاف شاة، فخمّس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقسم ما بقي، فعدّل الجزور بعشر من الغنم.
غزوة بني لحيان
ثم كانت غزوة بني لحيان بن هذيل بن مدركة، بناحية عسفان [ (1) ] . خرج فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لهلال ربيع الأول سنة ست في مائتي رجل، ومعهم عشرون فرسا، يريد بني لحيان ليأخذ بثأر أصحاب الرجيع، فعسكر من ناحية الجزف في أول نهاره، وأظهر أنه يريد الشأم، ثم راح مبردا حتى انتهى إلى حيث كان مصاب عاصم بن ثابت وأصحابه بين أمج وعسفان ببطن عران [ (2) ] ، وبينها وبين عسفان خمسة أميال. وقد هرب بنو لحيان، فأقام يوما أو يومين وبث السرايا فلم يقدر على أحد. فأتى عسفان في مائتي راكب من أصحابه، ثم بعث فارسين حتى بلغا كراع الغميم ثم كرّا. وقال الواقدي [ (3) ] : بعث أبا بكر رضي اللَّه عنه في عشرة فوارس فبلغ كراع الغميم ورجع. ولم يلق أحدا.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا يبلغ قريشا فيذعرهم، ويخافون أن نكون نريدهم.
وكان خبيب بن عديّ يومئذ في أيديهم، فخافوا أن يكون قد جاء ليخلّصه. وعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، وقد غاب أربع عشرة ليلة وكان يخلفه على المدينة ابن أم مكتوم.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقال في منصرفه إلى المدينة: آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة على الأهل، اللَّهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال. اللَّهمّ بلغنا بلاغا صالحا يبلغ إلى خير، مغفرة منك ورضوانا، وهذا أوّل ما قال هذا الدعاء [ (4) ] .
وصحّح جماعة أن غزوة بني لحيان هذه كانت بعد قريظة بستة أشهر، وأنها كانت في جمادى الأولى. وصحح ابن حزم أنها في الخامسة.
__________
[ (1) ] قال السكري: عسفان على مرحلتين من مكة على طريق المدينة المنورة والجحفة على ثلاث مراحل، غزا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بني لحيان بعسفان وقد مضى لهجرته خمس سنين وشهران وأحد عشر يوما (معجم البلدان) ج 4 ص 122.
[ (2) ] في (خ) «غشران» .
[ (3) ] في (المغازي) ج 2 ص 536.
[ (4) ] ذكره النووي في (الأذكار) ص 198، 103، وابن سيد الناس في (عيون الأثر) ج 3 ص 83 وغيرهما.(1/258)
غزوة الغابة
وكانت غزوة الغابة. ويقال: غزاة ذي قرة [ويقال: قرد بضمتين] ، وهو ماء على بريد من المدينة، في ربيع الأول. وقال ابن عبد البر [ (1) ] : كانت بعد لحيان بليال. وقال البخاري: كانت قبل خيبر بثلاثة أيام [ (2) ] ، وفي مسلم نحوه [ (3) ] ، وفيه نظر لإجماع أهل السّير على خلافه [ (4) ] .
سببها
وسببها: أن لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكانت عشرين لقحة [ (5) ] : منها ما أصاب في ذات الرقاع: ومنها ما قدم به محمد بن مسلمة من نجد- وكانت ترعى البيضاء فقربوها إلى الغابة، وكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب. فاستأذن أبو ذر جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن صعير بن حرام بن غفار الغفاريّ، رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخروج إلى لقاحه،
فقال: إني أخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير [ (6) ] عليك، ونحن لا نأمن عيينة بن حصن وذويه. وهو في طرف من أطرافهم، فلما ألح عليه أبو ذر رضي اللَّه عنه قال: لكأنّي بك قد قتل ابنك وأخذت امرأتك، وجئت تتوكأ على عصاك.
ليلة السرح
فلما كانت ليلة السرح، جعلت سبحة فرس المقداد بن عمرو لا تقرّ ضربا
__________
[ (1) ] في (خ) «أبو عبيد البر» .
[ (2) ] (صحيح البخاري) ج 3 ص 48، فتح الباري ج 7 ص 460.
[ (3) ] (شرح صحيح مسلم للنووي) ج 12 ص 173 وما بعدها.
[ (4) ] يقول (ابن جرير الطبري) : «وأما الرواية عن سلمة بن الأكوع بهذه الغزوة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد مقدمة المدينة، منصرفا من مكة عام الحديبيّة، فإن كان ذلك صحيحا، فينبغي أن يكون ما روى عن سلمة بن الأكوع إما في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة، وإما في أول سنة سبع، وذلك أن انصراف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة عام الحديبيّة كان في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة، وبين الوقت الّذي وقّته ابن إسحاق لغزوة ذي قرد والوقت الّذي روى عن سلمة بن الأكوع قريب من ستة أشهر» (تاريخ الطبري) ج 2 ص 596.
[ (5) ] اللقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن (المعجم الوسيط) ج 2 ص 834.
[ (6) ] في (خ) «نغيره» والتصويب في (الواقدي) ج 2 ص 538.(1/259)
بيديها وصهيلا، فيقول أبو معبد: واللَّه إن لها لشأنا! فينظر آريّها [ (1) ] فإذا هو مملوء علفا. فيقول: عطشى! فيعرض الماء عليها فلا تريده، فلما طلع الفجر أسرجها ولبس سلاحه وخرج، حتى صلى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح فلم ير شيئا. ودخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيته، ورجع المقداد إلى بيته، وفرسه لا تقرّ، فوضع سرجه وسلاحه واضطجع. فأتاه آت فقال: إن الخيل قد صبّح بها [ (2) ] !.
غارة ابن عيينة على السرح
وكانت لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد روّحت وعطّنت وحلبت عتمتها [ (3) ] ، وأحدق عبد الرحمن بن عيينة بن حصن في أربعين فارسا من بني عبد اللَّه بن غطفان، [وذكر ابن الكلبي أن الّذي أغار على سرح المدينة عبد اللَّه بن عيينة بن حصن] .
وهم نيام. فأشرف لهم ابن أبي ذرّ فقتلوه وساقوا اللقاح. فجاء أبو ذر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره فتبسّم.
خبر سلمة بن الأكوع
وكان سلمة بن عمرو [بن] [ (4) ] الأكوع-[واسمه سنان] [ (4) ] بن عبد اللَّه ابن قشير بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أفصى الأسلمي قد غدا إلى الغابة للقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [بفرس لطلحة بن عبد اللَّه] [ (5) ] لأن يبلّغه [ (6) ] لبنها، فلقي غلام عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه- وكان في إبله فأخطئوا مكانها، فأخبره أن لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أغار عليها ابن عيينة في أربعين فارسا. وأنهم رأوا إمدادا بعد ذلك أمدّ به ابن عيينة، فرجع سلمة إلى المدينة وصرخ على ثنية الوداع بأعلى صوته! يا صباحاه! ثلاثا، ويقال نادى: الفزع الفزع! ثلاثا.
__________
[ (1) ] الآرىّ: محبس الدابة ومربطها ومعلفها (المعجم الوسيط) ج 1 ص 14.
[ (2) ] صبّح بها: أغير عليها صباحا (المعجم الوسيط) ج 1 ص 505.
[ (3) ] روّحت: ردت إلى مكان مبيتها وعطنت: سعيت ورجعت إلى مأواها، والعتمة: ثلث الليل الأول، وهو ووقت حليبها، فسمّي اللبن باسم وقت حلبة.
[ (4) ] زيادة لا بد منها.
[ (5) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 82.
[ (6) ] هذه الكلمة في (ط) «لبلبنه» وما أثبتناه من (خ) وهي في (الواقدي) ج 2 ص 539 على لسان سلمة ابن الأكوع: «لأن أبلّغه لبنها» ، ومع ذلك يقول محقق (ط) : «ولم أجد الكلمة في خبر من أخبار سلمة بن الأكوع» وللحق: فإن رسم هذه الكلمة في (خ) «يبلعنه» .(1/260)
ووقف على فرسه حتى طلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديد مقنّعا، فوقف واقفا.
[و
قيل: ركب فرسا عريا لأبي طلحة يقال له مندوب، فلما انصرف قال: إن وجدناه لبحرا
] [ (1) ] .
نداء الفزع ليلة السرح
[ونودي يا خيل اللَّه اركبي! وكان أول ما نودي بها] [ (2) ] ، فكان [ (3) ] أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه السلاح شاهرا سيفه. فعقد له لواء على رمحه وقال:
امض حتى تلحقك الخيول، إنا على أثرك. فخرج حتى أدرك أخريات العدو، فظفر له بفرس. وأدرك مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاريّ فتطاعنا برمحيهما، ثم فرّ مسعدة. فنصب مقداد اللواء، ولحقه أبو قتادة- معلما بعمامة صفراء على فرس له- فتسايرا ساعة، فاستحث أبو قتادة فرسه حتى غاب، وقد أدرك مسعدة فقتله.
وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو، يسبق الخيل، حتى لحق العدو فرماهم بالنبل والخيل تكر عليه وهو يقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرّضّع
[حتى انتهى إلى ذي قرد وقد استنفذ منهم جميع اللقاح وثلاثين بردة، قال سلمة:.
وصول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ذي قرد
فلحقنا] [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والخيول عشاء، وكانوا ثمانية أفراس، وكان
__________
[ (1) ] ما بين القوسين زيادة في (خ) ولعلها خطأ من الناسخ وحذفها أولى، لأن خبر أبي طلحة ليس في هذه الغزوة.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 80 و (زاد المعاد) ج 3 ص 278.
[ (3) ] في (خ) «وكان» والصواب ما أثبتناه من: (تاريخ الطبري) ج 2 ص 601، (زاد المعاد) ج 2 ص 278، (المغازي) ج 2 ص 539.
[ (4) ] ما بين القوسين زيادة من: (زاد المعاد) ج 3 ص 278، وسياقه مضطرب في (خ) فبعد قوله: «اليوم يوم الرضع» ما يأتي: «حتى لحقهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والخيول عشاء، وكانوا ثمانية أفراس، وكان المقداد أمير الفرسان حتى لحقهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد» راجع (ابن سعد) ج 2 ص 81. و (الواقدي) ج 2 ص 541.(1/261)
المقداد أمير الفرسان [وقيل: بن أميرهم سعد بن زيد الأشهلي] [ (1) ] .
فقال سلمة:
يا رسول اللَّه! إن القوم عطاش، وليس لهم ماء دون أحساء كذا وكذا، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بين أيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم! فقال:
ملكت فأسجح [ (2) ] ! ثم قال: [إنهم الآن] [ (3) ] ليقرون [ (4) ] في غطفان.
وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم، و [على] [ (5) ] الإبل، والقوم يعتقبون البعير والحمار، حتى انتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح- منها جمل أبي جهل- وأفلت القوم بعشر [ (6) ] .
ذكر القتلى
وكانت راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العقاب يحملها سعد، وكان قد أدرك محرز، نضلة بن عبد اللَّه بن مرّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة- القوم بهيفا [ (7) ] ، فطاعنهم ساعة [ (8) ] بالرمح فقتله مسعدة بن حكمة. وأقبل عباد بن بشر
__________
[ (1) ] في (خ) «مسعدة بن زيد» والصواب ما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 81. و (الواقدي) ج 2 ص 541، يقول (ابن سعد) والثابت عندنا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمّر على هذه السرية سعد بن زيد الأشهلي، ولكن الناس نسبوها إلى المقداد لقول حسان بن ثابت:
سرّ أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد
راجع (ديوان حسان) ص 326.
[ (2) ] الإسجاح: حسن العفو، أي ملكت الأمر على فأحسن العفو عني، وأصله السهولة والرّفق، وهو مثل يضرب لذلك: (مجمع الأمثال للميداني) ج 1 ص 460، ج 2 ص 248 مثل رقم 1629.
[ (3) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 84 (وزاد المعاد) ج 3 ص 279.
[ (4) ] من القرى، وهو ما يقدم للضيف.
[ (5) ] زيادة من (ط) ورواية (الواقدي) ج 2 ص 542، (وزاد المعاد) ج 3 ص 279 بدون هذه الزيادة.
[ (6) ] يقول (ابن القيم) في (زاد المعاد) ج 3 ص 279: «قلت: وهذا غلط بين، والّذي في الصحيحين:
أنهم استنفذوا اللقاح كلها» ولفظ مسلم في صحيحه ج 12 ص 179 (بشرح النووي) «حتى ما خلق اللَّه من بعير من ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا خلّفته وراء ظهري، وخلّوا بيني وبينه» .
[ (7) ] في (خ) و (المغازي) «بهيقا» وهو خطأ قد صححه محقق (المغازي) وصوابه: «بهبفا» وهيفا:
موضع على ميل من بئر المطلب (وفاء ألوفا) ج 2 ص 387، وقد ذكر محقق (ط) في (المستدرك) أن هذا الموضع لم يذكره أحد من أصحاب كتب البلدان.
[ (8) ] في (خ) «ساعد» هكذا مشكولة وهو خطأ، وما أثبتناه من (المغازي) ج 2 ص 548.(1/262)
على أوبار بن عمرو بن أوبار [ (1) ] وقاتله، فقتله عباد، وقيل: بل قتله عكاشة بن محصن.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي قتادة
ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي قتادة لما أدركه فقال: اللَّهمّ بارك له في شعره، وبشره. وقال: أفلح وجهك! فقال: ووجهك يا رسول اللَّه! ثم قال: قتلت مسعدة؟ قال: نعم! قال: ما هذا بوجهك؟ قال: سهم رميت به يا رسول اللَّه! قال: فادن مني! فدنا منه فبصق عليه فما ضرب عليه قطّ ولا قاح [ (2) ]
فمات أبو قتادة، وهو ابن سبعين سنة، وكأنه ابن خمس عشرة [ (3) ] سنة،
وأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ فرس مسعدة وسلاحه وقال: بارك اللَّه لك فيه.
أصحاب الخيل
واستعمل صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ على الخيل سعد بن زيد الأشهليّ وقدّمه أمامه، فلحق القوم وناوشهم ساعة: هو والمقداد بن عمرو، ومعاذ بن ماعص، وأبو قتادة، وسلمة بن الأكوع، فحمل سعد على حبيب بن عيينة بن حصن فقتله وأخذ فرسه، وقيل: قتل حبيب بن عيينة المقداد. وكان شعار المسلمين يومئذ: أمت أمت.
صلاة الخوف
وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ صلاة الخوف: فقام إلى القبلة وصفّ طائفة خلفه، وطائفة مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجدتين ثم انصرفوا. وقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون فصلى بهم ركعة وسجدتين وسلّم، فكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (خ) «آنار» وفي المغازي ج 1 ص 543 «أونار» .
[ (2) ] كذا في (خ) وفي (المغازي) ج 2 ص 545 والقيح: المدة لا يخالطها دم، قاح الجرح يقيح (ترتيب القاموس) ج 3 ص 721 وفي (ط) «فاح» بالفاء، وقد ذكر محقق (ط) أن هذا صوابها.
[ (3) ] في (خ) «خمسة عشر سنة» .(1/263)
تاريخ الغزوة
وكانت غزاة ابن عيينة ليلة الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ست.
فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأربعاء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأقام بذي قرد يوما وليلة. وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة، ويقال: كانوا سبعمائة.
حراسة المدينة وإمداد سعد بن عبادة المسلمين
وأقام سعد بن عبادة- في ثلاثمائة من قومه- يحرسون المدينة خمس ليال حتى رجع صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الاثنين. وأمدّ المسلمين سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه بأحمال تمر، وبعشر جزائر بذي قرد: وبعث بذلك مع ابنه قيس بن سعد،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا قيس! بعثك أبوك فارسا، وقرى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو! اللَّهمّ ارحم سعدا وآل سعد! ثم قال: نعم المرء سعد بن عبادة! فقالت الأنصار:
يا رسول اللَّه، هو بيننا وسيدنا وابن سيدنا. كانوا يطعمون في المحل [ (1) ] ، ويحملون الكل [ (2) ] ، ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة [ (3) ] . فقال:
خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين.
الرجوع إلى المدينة وخبر امرأة أبي ذر
ورجع صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة ليلة الاثنين وقد غاب عنها خمس ليال.
فأقبلت امرأة أبي ذر على ناقته القصواء. - وكانت في السرح- فدخلت عليه فأخبرته من أخبار الناس، ثم قالت: يا رسول اللَّه! إني نذرت إن نجاني اللَّه عليها أن أنحرها فآكل من كبدها وسنامها! فتبسم وقال: بئس ما جزيتها! أن حملك اللَّه عليها ونجاك [بها] [ (4) ] ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية اللَّه ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة اللَّه.
__________
[ (1) ] المحل: محل المكان: أجدب (المعجم الوسيط) ج 2 ص 756.
[ (2) ] الكلّ: الفقير المعدم.
[ (3) ] من الحمالة: وهي الدية والغرامة.
[ (4) ] زيادة من ابن هشام ج 3 ص 179، وفي (خ) (والمغازي) بدونها.(1/264)
خبر الهدية
وقيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه لقحتك السمراء على بابك، فخرج مستبشرا، فإذا رأسها بيد ابن أخي عيينة بن حصن، فلما نظر عرفها، فقال: أيم بك [ (1) ] ؟
فقال: يا رسول اللَّه! أهديت إليك هذه اللقحة، فتبسم وقبضها منه، وأمر له بثلاثة أواقي فضة، فتسخط، فصلى عليه السلام الظهر وصعد المنبر فحمد اللَّه، ثم قال: إن الرجل أهدى لي الناقة من إبلي، أعرفها كما أعرف بعض أهلي ثم أثيبه عليها، فيظل يتسخط عليّ! ولقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قريشي أو أنصاري.
وفي رواية [ (2) ] : أو ثقفي أو دوسي.
بعض تاريخ الغزوة
ووقع في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة قال: فرجعنا إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر. وذهب قوم إلى غزوة المريسيع كانت في شعبان، بعد غزوة الغابة هذه [ (3) ] .
يا خيل اللَّه اركبي
وفي غزوة الغابة نودي عند ما جاء الفزع: يا خيل اللَّه اركبي: ولم يكن يقال قبلها.
سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر
ثم كانت سرية عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم ابن دودان بن أسد بن خزيمة- الأسدي- إلى الغمر: وهو ماء لبني أسد على ليلتين من قيد [ (4) ] في ربيع الأول سنة ست. فخرج في أربعين رجلا يغذ السير، فنذر به القوم فهربوا، وانتهى إلى علياء بلادهم فلم يلق أحدا. وبث سراياه فظفروا
__________
[ (1) ] يريد: أي شيء بك؟
[ (2) ] عن أبي هريرة، ذكرها (الواقدي) ج 2 ص 549.
[ (3) ] يقول (ابن القيم) في (زاد المعاد) ج 3 ص 279: «وهذه الغزوة كانت بعد الحديبيّة، وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسّير، فذكروا أنها قبل الحديبيّة» .
[ (4) ] قيد: بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة (معجم البلدان) ج 4 ص 282.(1/265)
بنعم فاستاقوا مائتي بعير وعادوا.
سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة
ثم كانت سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة- موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرين ميلا- يريد بني ثعلبة وبني عوال من ثعلبة [ (1) ] : وهم مائة رجل، في ربيع الأول، فسار في عشرة حتى وردوا ليلا وناموا، فأحاط بهم المائة رجل من بني ثعلبة ففزعوا، وراموهم ساعة بالنبل، ثم حملت الأعراب بالرماح عليهم فقتلوهم، وسقط محمد بن مسلمة جريحا، فحمل بعد ذلك إلى المدينة.
سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة
ثم كانت سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر سنة ست. خرج في ليلة السبت ومعه أربعون رجلا، فغاب ليلتين، وكانت بلاد بني ثعلبة وأنمار قد أجدبت، فتتبع بنو محارب وثعلبة وأنمار سحابة وقعت بالمراض إلى تغلمين، [والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة] ، وأجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة ببطن هيفاء [ (2) ] : [موضع على سبعة أميال من المدينة] . فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا عبيدة رضي اللَّه عنه بمن معه بعد ما صلوا صلاة المغرب: فمشوا ليلهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح [ (3) ] ، فأغاروا على القوم فأعجزوهم هربا، وأخذوا رجلا، واستاقوا نعما، ووجدوا رثة من متاع، وعادوا، فخمس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغنيمة، وقسم باقيها. وأسلم الرجل وترك لحاله.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
وكانت سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه عنه إلى العيص: على أربع ليال من المدينة، في جمادى الأولى منها، ومعه سبعون ومائة راكب، ليأخذوا عيرا لقريش قد أخذت طريق العراق. ودليلها فرات بن حيان العجليّ. فظفر بها زيد، وأسر أبا العاص بن الربيع، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص، ووجد فضة كثيرة لصفوان
__________
[ (1) ] في (خ) «تغلب»
[ (2) ] في (خ) «هيفا»
[ (3) ] عماية الصبح: بقية الظلمة في آخر الليل.(1/266)
ابن أمية. وقدم المدينة، فأجازت زينب [بنت رسول اللَّه] [ (1) ] عليها السلام زوجها أبا العاص.
إسلام أبي العاص زوج زينب بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت: ورد عليه كل ما أخذ من المال.
فعاد إلى مكة وأدى إلى كل ذي حقّ حقه، وأسلم. ثم قدم المدينة مهاجرا، فرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه زينب بذلك النكاح.
إفلات المغيرة بن معاوية من أسر عائشة رضي اللَّه عنها
وأفلت المغيرة بن معاوية فتوجه إلى مكة، فأخذه خوات بن جبير أسيرا- وكان في سبعة نفر مع سعد بن أبي وقاص- فدخلوا به المدينة بعد العصر،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعائشة رضي اللَّه عنها: احتفظي عليك بهذا الأسير، وخرج.
فلهت عائشة مع امرأة بالحديث، فخرج وما شعرت به.
خبر دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة رضي اللَّه عنها
فدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلم يره وسألها، فقالت: غفلت عنه، وكان هاهنا آنفا! فقال: قطع اللَّه يدك. وخرج فصاح بالناس، فخرجوا في طلبه حتى أخذوه وأتوا به. فدخل صلّى اللَّه عليه وسلّم على عائشة وهي تقلّب يدها فقال: مالك؟ قالت: انظر كيف تقطع يدي! قد دعوت عليّ بدعوتك! فاستقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم القبلة ورفع يديه ثم قال:
اللَّهمّ إنما أنا بشر أغضب وآسف كما يغضب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعلها له رحمة [ (2) ] .
سرية زيد بن حارثة إلى الطرف
وكانت سرية زيد بن حارثة إلى الطّرف- ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، بناحية نخل من طريق العراق- في جمادى الآخرة منها، ومعه خمسة عشر
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح.
[ (2) ] راجع ج 2 من هذا الكتاب باب «وأما اشتراطه على ربه أن يجعل سبه لم سب من أمته أجرا» .(1/267)
رجلا يريد بني ثعلبة، فأصاب لهم نعما وشاء. وقدم من غير قتال بعشرين بعيرا، ثم غاب أربع ليال.
سرية زيد بن حارثة إلى حسمي وسببها
وكانت سرية زيد أيضا إلى حسمي وراء وادي القرى، في جمادى الآخرة هذا. وسببها أن دحية الكلبي أقبل من عند قيصر ملك الروم بجائزة وكسوة، فلقيه بحسمي الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد في جمع من جذام، فأخذوا ما معه.
ودخل المدينة بسمل [ (1) ] ثوب، [ويقال: بل نفر إليه النعمان بن أبي جعال في نفر من بني الضّبيب فخلص له متاعه بعد حرب] . فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيدا على خمسمائة رجل ومعه دحية، فكان يسير ليلا ويكمن نهارا، حتى هجم مع الصبح على الهنيد وابنه فقتلهما، واستاق ألف بعير وخمسة آلاف شاة، ومائة ما بين امرأة وصبيّ. فأدركه بنو الضّبيب- وقد كانوا أسلموا وقرءوا من القرآن- وحدّثوه أن يرد عليهم ما أخذ. ثم قدم زيد بن رفاعة الجذامي في نفر من قومه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، فذكر له ما صنع زيد بن حارثة، ورضوا بأخذ ما أصاب لهم من الأهل والمال، وأغضوا عمّن قتل. فبعث معهم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ومعه سيفه أمارة- ليردّ عليهم زيد ما أخذ منهم- فردّ جميع ذلك بعد ما فرّقه فيمن معه، وقد وطئوا النساء.
سرية عبد الرحمن بن عوف إلى كلب بدومة الجندل يدعوهم إلى الإسلام
وكانت سرية عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه إلى كلب بدومة الجندل في شعبان منها [ (2) ] ، ليدعوا كلبا إلى الإسلام، ومعه سبعمائة رجل. فأقعده بين يديه، ونقض عمامته بيده الكريمة، صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم عمّمه بعمامة سوداء وأرخى بين كتيفيه منها، ثم
قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف! ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أغد باسم اللَّه وفي سبيل اللَّه. فقاتل من كفر باللَّه. لا تغلّ ولا تغدر ولا تقتل وليدا.
__________
[ (1) ] ثوب سمل: بال خلق.
[ (2) ] من سنة ست.(1/268)
الخمس المهلكات
ثم بسط يده فقال: يا أيها الناس! اتقوا خمسا قبل أن تحلّ بكم: ما نقض [ (1) ] مكيال قوم إلا أخذهم اللَّه بالسنين [ (2) ] ونقص من الثمرات لعلّهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلّط اللَّه عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك اللَّه عنهم قطر السماء: ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط اللَّه عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم شيعا [ (3) ] وأذاق بعضهم بأس بعض.
إسلام الأصبغ ملك كلب، وزواج عبد الرحمن ابن عوف تماضر ابنته
فسار عبد الرحمن بن عوف حتى قدم دومة الجندل، ودعا أهلها ثلاثة أيام إلى الإسلام وهم يأبون إلا محاربته. ثم أسلم الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حصن ابن ضمضم الكلبي: وكان نصرانيا وهو رأس القوم،
فكتب عبد الرحمن بن عوف بذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع رافع بن مكيث، وأنه أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه أن تزوج تماضر ابنة الأصبغ،
فتزوجها، فهي أول كلبية تزوجها قرشيّ، فولدت له أبا سلمة، [العقية] [ (4) ] . [وهي أخت النعمان بن المنذر لأمّه] .
وأقبل بعد ما فرض الجزية على من أقام على دينه.
سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر
ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلى بني سعد بن بكر [ (5) ]
__________
[ (1) ] كذا في (خ) و (ط) وفي (الواقدي) ج 2 ص 561 «ما يقضى» .
[ (2) ] السنين جمع سنة، وهي القحط والجدب.
[ (3) ] أي مختلفين المتباعدين، إشارة إلى قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ من الآية 65/ الأنعام.
[ (4) ] هكذا رسم هذه الكلمة في (خ) والسياق مستقيم بدونها وحذفها أولى.
[ (5) ] في (خ) «بني عبد اللَّه سعد بن بكر» والّذي أثبتناه من: (الواقدي) ج 2 ص 562، و (ابن سعد) ج 2 ص 89.(1/269)
وكانوا بفدك [ (1) ] في شعبان منها، ومعه مائة رجل. وقد أجمعوا [يعني بني سعد ابن بكر] [ (2) ] على أن يمدوا يهود خيبر. فسار ليلا وكمن نهارا، حتى [إذا] [ (2) ] انتهى إلى ماء بين خيبر وفدك يقال له: الهمج، وجد عينا لبني سعد قد بعثوه إلى خيبر- لتجعل لهم يهود من ثمرها كما جعلوا لغيرهم، حتى يقدموا عليهم- فدلهم على القوم بعد ما أمّنوه. فسار عليّ حتى أغار على نعمهم وضمّها، وفرّت رعاتها فأنذرت القوم. وقد تجمّعوا مائتي رجل، وعليهم وبر بن عليم [ (3) ] ، فتفرقوا. وانتهى عليّ بمن معه فلم ير منهم أحدا، وساق النّعم: وهي خمسمائة بعير وألفا شاة، فعزل الخمس وصفىّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقوحا تدعى (الحفذة) [ (4) ] ، ثم قسم ما بقي، وقدم المدينة.
سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة [ (5) ] ، وسببها
ثم كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، بناحية وادي القرى: على سبع ليال من المدينة، في رمضان سنة ست، وسببها أن زيدا خرج في تجارة إلى الشام، [ومعه بضائع لأصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (6) ] ، فخرج عليه- دوين وادي القرى- ناس من بني بدر من فزارة فضربوه، ومن معه حتى ظنوا أنهم قتلوه، وأخذوا ما كان معه، ثم تحامل حتى قدم المدينة. فبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سرية إلى بني فزارة، فكان يكمن نهاره ويسير ليله، ونذرت بهم بنو بدر فاستعدّوا، فلما كان زيد ومن معه على مسيرة ليلة أخطأ بهم دليلهم الطريق، حتى صبحوا القوم فأحاطوا بهم، فقتل سلمة بن الأكوع رجلا منهم، وأخذ [سلمة بن] [ (7) ] سلامة بن وقش، [ويقال: بل سلمة بن الأكوع، واسم
__________
[ (1) ] فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة. (معجم البلدان) ج 4 ص 238.
[ (2) ] زيادة للبيان والإيضاح.
[ (3) ] في (خ) «وبرب عليم» والتصويب من: (ابن سعد) ج 2 ص 90 و (الواقدي) ج 2 ص 562.
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (ابن سعد) ج 2 ص 90 وفي (الواقدي) ج 2 ص 563: «الجفدة» مضبوطة.
[ (5) ] قال (الميداني) في (مجمع الأمثال) ج 2 ص 323: قال الأصمعي: هي امرأة فزارية، وكانت تحت مالك بن حذيفة بن بدر وكان يعلّق في بيتها خمسون سيفا لخمسين فارسا كلهم محرم» ذكره تعليقا على المثل رقم 164 وهو: «أمنع من أمّ قرفة» وفي (جمهرة الأمثال) (لأبي هلال العسكري) : رقم 1244 «أعزّ من أم قرفة» ج 2 ص 66.
[ (6) ] زيادة للبيان والإيضاح من (ابن سعد) ج 2 ص 90.
[ (7) ] زيادة لا بد منها.(1/270)
الأكوع سنان] ، جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر وأمّها أمّ قرفة: فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وغنموا. ثم قدموا المدينة، فقرع زيد بن حارثة الباب، فقام إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجرّ ثوبه عريانا حتى اعتنقه وقبّله، وساءله، فأخبره بما ظفّره اللَّه.
وقتل في هذه السرية عبد اللَّه بن مسعدة، وقيس بن النعمان بن مسعدة بن حكمة بن مالك [بن حذيفة] [ (1) ] بن بدر، أحد بني قرفة. وأم قرفة قتلها قيس ابن المحسر [اليعمري] [ (2) ] قتلا عنيفا: ربط بين رجليها حبلا، ثم ربطها بين بعيرين [ثم زجرهما فذهبا فقطعاها] [ (3) ] وهي عجوز كبيرة. فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برأسها فدير به في المدينة ليعلم قتلها، ويصدق
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قوله لقريش: «أرأيتم إن قتلت أمّ قرفة؟ فيقولون: أيكون ذلك؟»
وكان زوجها مالك بن حذيفة ابن بدر. وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سلمة بن الأكوع ابنة أم قرفة، فوهبها لحزن ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي مشركة وهو مشرك، فولدت له عبد الرحمن بن حزن، وكانت جميلة.
سرية عبد اللَّه بن رواحة إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر
ثم كانت سرية أميرها عبد اللَّه بن رواحة إلى أسير بن زارم [ (4) ] بخيبر، وكان من يهود، في شوال سنة ست. وكان قد بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل ذلك في رمضان في ثلاثة نفر ينظر إلى خيبر وما تكلم به يهود، فوعى ذلك وعاد بعد إقامة ثلاثة أيام، فقدم لليال بقين منه، فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما ندبه إليه.
خبر أسير بن زارم
وكان أسير قد تأمّر على يهود بعد أبي رافع، فقام فيهم يريد حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسار في غطفان فجمعها ليسير إلى المدينة، فقدم بخبره خارجة بن حثيل
__________
[ (1) ] زيادة من النسب.
[ (2) ] في (ابن هشام) ج 4 ص 195: «قيس بن المسحر اليعمري» وفي (الواقدي) ج 2 ص 565 «قيس بن المحسّر» .
[ (3) ] زيادة لتمام المعنى من المرجع السابق ومن (الطبراني) ج 2 ص 642، 643.
[ (4) ] وفي بعض كتب السيرة «رازم» وفي (ابن هشام) «اليسير بن رازم» ج 4 ص 196.(1/271)
الأشجعي [ (1) ] . فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، واستعمل عليهم عبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه عنه. فقدموا خيبر، وبعثوا إلى أسير فأمّنهم حتى يأتوه [ (2) ] ، فيما جاءوا فيه، فأتوه وقالوا له: إن رسول اللَّه قد بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك، وخرج في ثلاثين من يهود، ثم ندم في أثناء الطريق حتى عرف ذلك منه.
غدرة لليهودي
وهمّ بعبد اللَّه بن أنيس- وكان فيمن خرج مع ابن رواحة- ففطن عبد اللَّه بغدره وبادر ليقتله، فشجّه أسير ثم قتل. ومالوا على أصحابه فقتلوهم كلهم، إلا رجلا واحدا فرّ منهم، ولم يصب أحد من المسلمين. وقدموا المدينة- وقد خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يتحسب أخبارهم- فحدثوه الحديث،
فقال: نجاكم اللَّه من القوم الظالمين- ونفث في شجة عبد اللَّه بن أنيس فلم تفح [ (3) ] بعد ذلك ولم تؤذه، وكان العظم قد نقّل. ومسح على وجهه ودعا له، وقطع له قطعة من عصاه فقال:
أمسك هذه علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متخصّرا. فجعلت معه في قبره تلي جلده، ويروى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان قد قال له:
يا عبد اللَّه! لا أرى أسير بن زارم! أي اقتله.
سرية كرز بن جابر
ثم كانت سرية كرز بن جابر بن حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك القرشيّ الفهريّ- لما أغير على لقاح النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي الجدر- في شوال سنة ست- وهي على ستة أميال من المدينة، وذلك أن نفرا من عرينة ثمانية قدموا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [فأسلموا، واستوبئوا المدينة. وطحلوا، فأمر بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ]] إلى لقاحه- وكان سرح المسلمين بذي الجدر ناحية
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «ابن حسيل» وفي (خ) ، (ط) «حثيل» . ويقول محقق (ط) عن «خارجة» «ولا رأيت أحدا.
[ (2) ] في (خ) «حتى يأتونه» .
[ (3) ] كذا في (ط) وفي (خ) ، (الواقدي) «تقح» بالقاف.
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 93 واستوبئوا: استوخموا (ترتيب القاموس) ج 4 ص 554 وطحل الماء: فسد وأنتن (المرجع السابق) ج 3 ص 58.(1/272)
قباء قريبا من عير ترعى هناك- فكانوا فيها حتى [ (1) ] صحوا وسمنوا- وكانوا استأذنوه أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فأذن لهم- فغدوا على اللقاح فاستاقوها، فيدركهم يسار مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه نفر فقاتلهم، فأخذوه فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، وانطلقوا بالسرح. فأقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمار لها حتى تمرّ بيسار فتجده تحت شجرة، فلما رأته وما به رجعت إلى قومها فأخبرتهم، فخرجوا نحو يسار حتى جاءوا به إلى قباء ميتا.
فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إثرهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري، فخرجوا في طلبهم حتى أدركهم الليل فباتوا بالحرّة، وأصبحوا لا يدرون أين يسلكون، فإذا هم بامرأة تحمل كتف بعير فأخذوها، فقالوا: ما هذا معك؟
قالت: مررت بقوم قد نحروا بعيرا فأعطوني هذا. ودلتهم على موضعهم فأتوهم.
فأحاطوا بهم وأسروهم جميعهم.
عقاب الأسرى
وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة- وقد خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الغابة [ (2) ]- فأتوه بهم. فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمل [ (3) ] أعينهم، وصلبوا بالزّغابة.
النهي عن المثلة
فنزلت هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [ (4) ] فلم تسمل بعد ذلك عين، ولا بعث صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ذلك بعثا إلا نهاهم عن المثلة.
وروى جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده: لم يقطع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لسانا قط، ولم يسمل عينا ولم يزد على قطع اليد والرجل.
__________
[ (1) ] في (خ) «حتى إذا» ، وحذف «إذا» أولى للسياق.
[ (2) ] في (خ) «بالغابة» .
[ (3) ] سمل العين: فقأها (ترتيب القاموس) ج 2 ص 617.
[ (4) ] في (خ) «فسادا، الآية» ، والآية 33/ المائدة.(1/273)
اللقاح
ولما ظفر المسلمون باللقاح خلّفوا عليها سلمة بن الأكوع ومعه أبو رهم الغفاريّ. وكانت خمسة عشرة لقحة غزارا. فلما أقبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الزّغابة إذا اللقاح على باب المسجد تحان [ (1) ] ، فلما نظر إليها تفقد منها لقحة يقال لها الحنّاء، وقد نحرها القوم، فردها إلى ذي الجدر فكانت هناك، وكان لبنها يروح به سلمة ابن الأكوع إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كل ليلة وطب [ (2) ] لبن.
عمرة الحديبيّة
ثم كانت عمرة الحديبيّة [على مقربة مكة] [ (3) ] . وذلك أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في النوم أنه دخل البيت وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرّف مع المعرّفين [ (4) ] ، فاستنفر أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيأوا للخروج.
إسلام بسر بن سفيان وشراؤه الهدي لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقدم عليه بسر بن سفيان بن عمرو بن عويمر الخزاعيّ في ليال من شوال مسلما، فقال له: يا بسر! لا تبرح حتى تخرج معنا، فإنا إن شاء اللَّه معتمرون.
فأقام وابتاع بدنا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكان يبعث بها إلى ذي الجدر حتى حضر خروجه، فأمر بها فجلبت إلى المدينة، وسلمها إلى ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن واثلة بن سهم [ (5) ] بن مازن بن سلامان بن أسلم بن أفصى الأسلمي ليقدمها إلى ذي الحليفة.
سلاح المسلمين وهديهم
وخرج المسلمون لا يشكون في الفتح- للرؤيا المذكورة-، وليس معهم
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير منقوطة في (خ) ولعلها «تحان» تفاعل من الحنين، وتحانّ القوم: اشتقاق بعضهم إلى بعض (المعجم الوسيط) ج 1 ص 203.
[ (2) ] الوطب: «سقاء اللبن» وهو جلد الجذع فما فوقه (المرجع السابق) ج 2 ص 1041.
[ (3) ] ما بين القوسين في (خ) كان بعد قوله «وطب اللبن» ، وهذا حق مكانه. والحديبيّة في الحل وبعضها في الحرم، وعند مالك بن أنس أنها جميعها في الحرم. (معجم البلدان) ج 2 ص 229، 230.
[ (4) ] عرّف: وقف بعرفة في الحج.
[ (5) ] في (خ) «وائلة بن تيم» وما أثبتناه من (ط) .(1/274)
سلاح إلا السيوف في القرب. وساق قوم الهدي [ (1) ] : منهم أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد بن عبادة، رضوان اللَّه عليهم.
كلام عمر في أمر السلاح
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: أتخشى يا رسول اللَّه علينا من أبي سفيان ابن حرب وأصحابه ولم تأخذ للحرب عدتها؟ فقال: ما أدري، ولست أحب أحمل السلاح معتمرا.
وقال سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه: لو حملنا يا رسول اللَّه السلاح معنا، فإن رأينا من القوم ريبا كنا معدين لهم! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لست أحمل السلاح، إنما خرجت معتمرا.
يوم الخروج
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وخرج من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة. هذا هو الصحيح، وإليه ذهب الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، والواقدي [ (2) ] ، واختلف فيه على عروة بن الزبير، فعنه: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبيّة في رمضان، وكانت الحديبيّة في شوال [ (3) ] . وعنه أنها كانت في ذي القعدة من سنة ست.
بدء الجهاز للعمرة
قال الواقدي: فاغتسل في بيته، ولبس ثوبين من نسج صحار [ (4) ] ، وركب راحلته القصواء من عند بابه، وخرج المسلمون. فصلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بالبدن فجلّلت [ (5) ] ، ثم أشعر [ (6) ] منها عدة- وهي موجهات إلى القبلة- في
__________
[ (1) ] الهدى: ما يهدى إلى الحرم من النعم. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 978.
[ (2) ] في (المغازي) ج 2 ص 573.
[ (3) ] قال ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 285، 287: «وقال هشام بن عروة، عن أبيه: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبيّة في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان» .
[ (4) ] صحار: قرية باليمن ينسب الثوب إليها (النهاية) ج 2 ص 12.
[ (5) ] من الجلل: وهو البسط أو الأكسية التي تلبسها فتصان به (ترتيب القاموس) ج 1 ص 518.
[ (6) ] أشعر البدنة: أعلمها، وهو أن يشق جلدها، أو يطعنها حتى يظهر الدم (ترتيب القاموس) ج 2 ص 720.(1/275)
الشق الأيمن.
إشعار الهدي وتقليده
ثم أمر ناجية بن جندب بإشعار ما بقي، وقلد [ (1) ] نعلا نعلا، وهي سبعون بدنة: منها جمل أبي جهل الّذي غنمه يوم بدر. وأشعر المسلمون بدنهم، وقلدوا النعال في رقابها. وبعث بسر بن سفيان عينا له، وقدم عباد بن بشر طليعة في عشرين فرسا، ويقال: أميرهم سعد بن زيد الأشهلي.
إحرام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذي الحليفة
ثم صلى ركعتين وركب من باب المسجد بذي الحليفة [ (2) ] ، فلما انبعثت به راحلته مستقبلة القبلة أحرم فلبى: «لبيك اللَّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» .
وأحرم عامة الناس بإحرامه.
عدد المسلمين
وسلك طريق البيداء [ (3) ] ، وخرج معه من المسلمين ألف وستمائة، ويقال:
ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا، ويقال: ألف وثلاثمائة [ (4) ] .
عدد النساء
وأربع نسوة: أم سلمة أم المؤمنين، وأم عمارة، وأم منيع- أسماء بنت عمرو ابن عدي [بن سنان بن نابي] [ (5) ] بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وقال بعضهم: كانوا سبعمائة. قال ابن حزم:
__________
[ (1) ] قلّدتها قلادة: جعلتها في عنقها، ومنه تقليد البدنة شيئا بعلم به أنها هدى. (ترتيب القاموس) ج 3 ص 674.
[ (2) ] في (خ) «بالحديبية» .
[ (3) ] البيداء: اسم لأرض ملساء بين مكة والمدينة وهي إلى مكة أقرب. (معجم البلدان) ج 1 ص 523.
[ (4) ] راجع: (فتح الباري) ج 7 ص 443 الحديث رقم 4153، 4154، 4155. و (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي ص 6094 و (تفسير الطبري) ج 26 ص 87 و (زاد المعاد) ج 3 ص 287.
[ (5) ] في (خ) مكان ما بين القوسين «بين أبي بن عمرو، وهو خطأ، وما أثبتناه من (ط) .(1/276)
وهذا وهم شديد البتة، قال: والصحيح بلا شك ما بين ألف وثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة.
مقالة بني بكر ومزينة وجهينة
ومر فيما بين مكة والمدينة بالأعراب بني بكر ومزينة وجهينة فاستنفرهم، فتشاغلوا بأبنائهم وأموالهم، وقالوا فيما بينهم: أيريد محمد أن يغزو بنا [ (1) ] إلى قوم معدّ في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور [ (2) ] ! لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدا! قوم لا سلاح معهم ولا عدد!.
هدية بني نهد
ثم قدم ناجية بن جندب مع الهدي في فتيان من أسلم، ومعهم هدي للمسلمين.
ولقي بالروحاء طائفة من بني نهد، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبعثوا إليه بلبن من نعمهم فقال: لا أقبل هدية من مشرك.
رد هدية المشركين
وردّه، فابتاعه المسلمون منهم. وابتاعوا ثلاثة أضب [ (3) ] فأكل منها قوم أجلّة.
وسأل المحرمون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها فقال: كلوا، فكلّ صيد البر لكم حلال في الإحرام تأكلونه إلا ما صدتم أو صيد لكم.
الصيد في الحرم
ورأى أبو قتادة بالأبواء حمارا وحشيا- وكان محلا [ (4) ] فحمل عليه فقتله، فأكل منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وجاءه يومئذ الصّعب بن جثامة بن قيس الليثيّ بحمار وحشيّ أهداه له فردّه، وقال: إنا لم نرده إلا أنا حرم.
__________
[ (1) ] في (خ) «أريد محمدا يغزوننا» ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 574.
[ (2) ] كناية عن قلة العدد، فإن أكلة الجزور عادة لا يتجاوزون العشرة.
[ (3) ] أضب: جمع ضب، وهو حيوان من جنس الزواحف تأكل الأعراب لحمه (المعجم الوسيط) ج 1 ص 532.
[ (4) ] محلّ: غير محرم.(1/277)
هدية إيماء بن رحضة
وأهدي له إيماء بن رحضة بن خربة الغفاريّ مائة شاة وبعيرين يحملان لبنا:
بعث بهما مع ابنه خفاف بن إيماء ففرق ذلك وقال: بارك اللَّه فيكم. وأهدي له من ودان لياء [وهو حب أبيض كالحمص] وعتر [ (1) ] وضغابيس [ (2) ] ، فجعل يأكل الضغابيس والعتر وأعجبه،
وأدخل منه على أمّ سلمة.
خبر كعب الّذي آذاه القمل وهو محرم
ورأى بالأبواء كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث البلوي ورأسه يتهافت قملا وهو محرم، فقال: هل تؤذيك هوامّك يا كعب؟ قال: نعم يا رسول اللَّه! قال: فاحلق رأسك. وفيه نزلت: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ (3) ] ، فأمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يذبح شاة، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستين مسكينا: لكل مسكين مدّين، أي ذلك فعل أجزأه.
ويقال: إن كعب بن عجرة أهدي بقرة قلدها وأشعرها.
ما عطب من الهدي
وعطب [ (4) ] من ناجية بن جندب بعير من الهدي، فجاء بالأبواء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخبره، فقال: أنحرها [ (5) ] ، وأصبغ قلائدها في دمها، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها، وخلّ بين الناس وبينها.
نزول الجحفة
ولما نزل الجحفة لم يجد بها ماء، فبعث رجلا في الروايا إلى الخرّار، فرجع
__________
[ (1) ] العتر: نبت أو شجر صغار فإذا طال وقطع خرج منه شبه اللبن (النهاية) ج 3 ص 177 و (ترتيب القاموس) ج 3 ص 146.
[ (2) ] الضغابيس: صغار القثّاء، جمع ضغبوس (المرجع السابق) ص 78.
[ (3) ] آية 196/ البقرة، وفي (خ) «وفيه نزلت، ففدية ... » .
[ (4) ] عطب البعير والفرس: انكسر (ترتيب القاموس) ج 3 ص 250.
[ (5) ] الضمير هنا عائد على البدنة وهي البعير.(1/278)
بها وقال: يا رسول اللَّه! ما أستطيع أن أمضي رعبا! فبعث رجلا آخر بالروايا، فرجع وذكر كما ذكر الأول: فبعث آخر وخرج السقاء معه، فاستقوا وأتوا بالماء.
ثم أمر بشجرة يقم [ (1) ] ما تحتها.
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخطب الناس فقال: إني كائن لكم فرطا [ (2) ] ، وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم [ (3) ] تضلوا: كتاب اللَّه وسنة نبيه.
بلاغ خبر المسلمين إلى أهل مكة وخروجهم إليهم
وبلغ أهل مكة خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فراعهم ذلك، وتشاوروا. ثم قدّموا عكرمة بن أبي جهل- ويقال: خالد بن الوليد- على مائتي فارس إلى كراع الغميم، واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش، وأجلبت ثقيف معهم: ووضعوا العيون على الجبال، وهم عشرة رجال يوحي بعضهم إلى بعض بالصوت: فعل محمد كذا كذا، حتى ينتهي ذلك إلى قريش ببلدح [ (4) ] . وخرجوا إلى بلدح وضربوا بها القباب والأبنية، ومعهم النساء والصبيان، فعسكروا هناك، وقد أجمعوا على منع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من دخول مكة ومحاربته.
إجماع قريش على منع المسلمين من دخول مكة، ومشورة المسلمين
ورجع بسر بن سفيان من مكة وقد علم خبر القوم، فلقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء عسفان وأخبره الخبر.
واستشار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] الناس: هل يمضي لوجهته ويقاتل من صدّه عن البيت أو يخالف الذين استنفروا إلى أهليهم فيصيبهم؟
__________
[ (1) ]
وفي حديث فاطمة «أنها قمّمت البيت حتى اغبرّت»
أي كنسته، والقمامة: الكناسة. (النهاية) ج 4 ص 110.
[ (2) ] فرط: سبق، وأكثر ما يستعمل في السبق إلى الماء (المعجم الوسيط) ج 2 ص 673.
[ (3) ] في (خ) «لن» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 577.
[ (4) ] بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب (معجم البلدان) ج 1 ص 480.
[ (5) ] زيادة للبيان.(1/279)
فأشار أبو بكر رضي اللَّه عنه أن يمضوا لوجوههم، ويقاتلوا من صدهم. وقال المقداد بن عمرو: يا رسول اللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ولكن: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما [ (1) ] مقاتلون» . واللَّه يا رسول اللَّه! لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل.
وقال أسيد بن الحضير: يا رسول اللَّه! نرى أن نصمد لما خرجنا له، فمن صدنا قاتلناه. فقال: إنا لم نخرج لقتال أحد، إنما خرجنا عمارا.
بديل بن ورقاء وخبر قريش
ولقيه بديل بن ورقاء بن عبد العزى بن ربيعة بن جرى بن عامر بن مازن ابن عدي بن عمرو بن ربيعة [وهو الحي] [ (2) ] الخزاعي- في نفر من خزاعة، منهم الحليس بن علقمة الحارثي، من بني الحارث بن عبد مناة، فقال: يا محمد! لقد اغتررت بقتال قومك حلائب [ (3) ] العرب، واللَّه ما أرى معك أحدا له وجه، مع أني أراكم قوما لا سلاح معكم! فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: عضضت ببظر اللات! فقال بديل: أما واللَّه لولا يد لك عندي لأجبتك، فو اللَّه ما أتهم أنا ولا قومي ألا أكون أحب أن يظهر محمد. إني رأيت قريشا مقاتلتك عن ذراريها وأموالها، قد خرجوا إلى بلدح فاضطربوا [ (4) ] الأبنية، معهم العوذ المطافيل [ (5) ] ، وترافدوا على الطعام [ (6) ] يطعمون الخزير [ (7) ] من جاءهم، يتقوون به على حربك، فر رأيك [ (8) ] . وكانت قريش قد ترافدوا وجمعوا أموالا يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش. وكان يطعم في أربعة أمكنة: في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان ابن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وحويطب بن عبد العزى، كل منهم يطعم في داره.
__________
[ (1) ] في (خ) «معكم» .
[ (2) ] في (خ) «عمروا بن ربيعة» .
[ (3) ] استحلب القوم: اجتمعوا للنّصرة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 191.
[ (4) ] اضطرب البناء: أقامه.
[ (5) ] العوذ: جمع عائذ، وهي الناقة حديثة عهد بالنتاج (المعجم الوسيط) ج 2 ص 635، المطافيل: جمع مطفل وهي ذات الطفل من الإنسان والحيوان (المرجع السابق) ص 560.
[ (6) ] ترافدوا: تعاونوا (المرجع السابق) ج 1 ص 359.
[ (7) ] الخزير: لحم يقطع قطعا صغارا ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه ذرّ عليه الدقيق وعصد به، ثم أدم بإدام ماء (المرجع السابق) ص 231.
[ (8) ] ر: فعل الأمر من «رأى» .(1/280)
دنو خالد بن الوليد في المشركين للقاء المسلمين
ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى المسلمين، فصفّ خيله فيما بينهم وبين القبلة، فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عباد بن بشر في خيله، فقام بإزائه وصف أصحابه. وحانت صلاة الظهر، فأذن بلال وأقام، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه مستقبل القبلة وهم خلفه، يركع بهم ويسجد. ثم قاموا، فكانوا على ما كانوا عليه من التعبئة. فقال خالد بن الوليد: قد كانوا على غرة، لو كنّا حملنا عليهم أصبنا منهم! ولكن تأتي الساعة صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم!.
صلاة الخوف
فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً
[ (1) ]
فحانت العصر، فأذن بلال وأقام، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مواجها للقبلة والعدو أمامه فكبر وكبّر الصفان جميعا، ثم ركع فركع الصفان جميعا، ثم سجد فسجد الصف الّذي يليه، وقام الآخرون يحرسونه. فلما قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم السجود بالصف الأول، قام وقاموا معه، وسجد الصف المؤخر السجدتين، ثم استأخر الصفّ الّذي يلونه، وتقدم الصف المؤخر فكانوا يلون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقاموا جميعا. ثم ركع صلّى اللَّه عليه وسلّم فركع الصفان جميعا ثم سجد وسجد الصف الّذي يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو. فلما رفع رأسه من السجدتين، سجد الصف المؤخر السجدتين اللتين بقيتا عليهم، واستوى صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا فتشهد ثم سلّم.
__________
[ (1) ] الآية 102/ النساء، وفي (خ) « ... فلتقم الآية» .(1/281)
الخلاف في أول صلاة الخوف
وكان ابن عباس رضي اللَّه عنه يقول: هذه أول صلاة صلاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الخوف. وقال سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقيّ: أنه كان- يعني ابن عباس- مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ، فذكر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى هكذا. وذكر أبو عيّاش أنها أول ما صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة الخوف- يعني ابن عباس: وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أول صلاة الخوف في غزوة ذات الرّقاع، ثم صلاها بعد بعسفان، بينهما أربع سنين.
قال الواقدي [ (1) ] : وهذا أثبت عندنا.
مسير المسلمين إلى ثنية ذات الحنظل وحيرة الدليل
فلما أمسى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: تيامنوا في هذا العصل [ (2) ] ، فإن عيون قريش بمرّ الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل؟ فقال بريدة بن الحصيب: أنا يا رسول اللَّه! فقال: اسلك أمامنا.
فأخذ بريدة في العصل، قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلا [ (3) ] وحار. فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فسار بهم قليلا، ثم لم يدر أين يتوجه. فسار بهم عمرو بن [عبد] [ (4) ] نهم الأسلمي حتى بلغها.
خبر الثنية وأن من جازها غفر له
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده، ما مثل هذه الثنية إلا مثل الباب الّذي قال اللَّه لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [ (5) ] ثم قال:
لا يجوز هذه الثنية أحد إلا غفر له.
فجعل الناس يسرعون.
__________
[ (1) ] (المغازي) ج 2 ص 583.
[ (2) ] في (خ) «تنامنوا» والعصل: الاعوجاج في صلابة، والمراد هنا الرمل الملتوى. (الترتيب القاموس) ج 3 ص 240، (النهاية) ج 3 ص 248.
[ (3) ] في (خ) «ليلا» والتصويب من (الواقدي) ج 2 ص 583.
[ (4) ] زيادة من (المرجع السابق) ص 584، ونهم: اسم صنم.
[ (5) ] آية 58/ البقرة، والحطة: طلب المغفرة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 182.(1/282)
طعام المسلمين
فلما نزل من الثنية قال: من كان معه ثقل [أي دقيق] فليصطنع [ (1) ] . فقال أبو سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه: وأيّنا معه ثقل؟ إنما كان عامة زادنا التمر. فقالوا:
يا رسول اللَّه! إنا نخاف من قريش أن ترانا! فقال: إنهم لن يروكم، إن اللَّه سيعينكم [ (2) ] عليهم.
فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع: فلقد أوقدوا خمسمائة نار.
الغفران، وخبر الرجل المحروم من غفران اللَّه
فلما أصبحوا صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح ثم قال: والّذي نفسي بيده، لقد غفر اللَّه للركب أجمعين، إلا رويكبا واحدا على جمل أحمر التفت عليه رحال [ (3) ] القوم: ليس منهم.
فطلب في العسكر فإذا به ناحية، وهو من بني ضمرة من أهل سيف البحر [ (4) ] ، قد أوى إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال له سعيد- وقد قيل له ما قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-: ويحك! اذهب إلى رسول اللَّه يستغفر لك! فقال: بعيري أهمّ إليّ من أن يستغفر. وكان قد أضلّ بعيره. فقال سعيد:
تحول عني، لا حياك اللَّه! فانطلق يطلب بعيره، فبينا هو في جبال سراوع [ (5) ] إذ زلقت نعله فتردى فمات وأكلته السباع.
أهل اليمن
وقال يومئذ: أتاكم أهل اليمن كأنهم قطع الحساب، هم خير من على الأرض.
الدنو من الحديبيّة، وخبر راحلة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وسار حتى [ (6) ] دنا من الحديبيّة- وهي طرف الحرم، على تسعة أميال من
__________
[ (1) ] من الصنيع، وهو الطعام في سبيل اللَّه.
[ (2) ] (الواقدي) ج 2 ص 585.
[ (3) ] في (خ) رجال.
[ (4) ] سيف البحر: ساحله.
[ (5) ] علم مرتجل لاسم موضع (معجم البلدان) ج 3 ص 204
[ (6) ] في (خ) ، (الواقدي) و «سار فلما» وفي (ط) و (ابن سعد) «وسار حتى» .(1/283)
مكة، فوقعت يد راحلته صلّى اللَّه عليه وسلّم على ثنية تهبط على غائط [ (1) ] ، فبركت، فقال المسلمون: حل حل [يزجرونها]- فأبت أن تنبعث، فقالوا: خلأت القصواء [ (2) ] !
فقال: إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل، أما واللَّه لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة اللَّه إلا أعطيتهم إياها.
ثم زجروها فقامت، فولى راجعا حتى نزل بالناس على ثمد من ثماد [ (3) ] الحديبيّة [ظنون] قليل الماء.
خبر جيشان الماء من الثمد
واشتكى الناس قلة الماء، فانتزع سهما من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا عنه بعطن، وإنهم ليغترفون بآنيتهم جلوسا على شفير البئر. وكان الّذي نزل بالسهم ناجية بن جندب، وقيل: ناجية بن الأعجم، وقيل: خالد بن عبادة [ (4) ] الغفاريّ، وقيل: البراء بن عازب.
مقالة المنافقين في دليل النبوة
وكان على الماء نفر من المنافقين، الجدّ بن قيس، وأوس [بن خوليّ] [ (5) ] ، وعبد اللَّه بن أبي، فقال أوس بن خولي: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه! أبعد هذا شيء؟ فقال: إني قد رأيت مثل هذا. فقال أوس:
قبحك اللَّه وقبح رأيك! فأقبل ابن أبي [ (6) ] يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: أي أبا الحباب! أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ فقال: ما رأيت مثله قط! قال: فلم قلت ما قلت؟ فقال عبد اللَّه بن أبي: أستغفر اللَّه. فقال ابنه: يا رسول اللَّه! استغفر له! فاستغفر له.
__________
[ (1) ] الغائط: من الغوط، وهو المطمئن الواسع من الأرض (ترتيب القاموس) ج 3 ص 428.
[ (2) ] خلأت الناقة خلئا: حرنت: (المعجم الوسيط) ج 1 ص 248.
[ (3) ] الثّمد: مكان اجتماع الماء، ثمد الماء: قلّ (المرجع السابق) ص 100.
[ (4) ] في (خ) «عبادة» .
[ (5) ] ظاهر العبارة يوهم أن أوس بن خولي من المنافقين، وهو ليس منهم، وما بين القوسين زيادة للبيان.
[ (6) ] في (خ) «فأقبل أبي» .(1/284)
المطر والصلاة في الرحال
ومطر المسلمون بالحديبية مرارا وكثرت المياه، ومطروا مطرا ما ابتلت منه أسفل النعال، فنودي: إن الصلاة في الرّحال. وصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الصبح في الحديبيّة في إثر سماء [ (1) ] كانت من الليل،
فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا اللَّه ورسوله أعلم.
الأنواء
قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا برحمة اللَّه وبرزق اللَّه وبفضل اللَّه فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي [ (2) ] . وكان ابن أبي قال: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشّعرى.
الهدايا
وأهدى عمرو بن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان بالحديبية إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غنما وجزورا، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جزرا، وكان صديقا له.
فجاء سعد بالغنم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأخبره أن عمرا أهداها له فقال: وعمرو قد أهدى إلينا ما ترى فبارك اللَّه في عمرو! ثم أمر بالجزر [ (3) ] تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم فيهم من أخراها. فدخل على أم سلمة بعضها، وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم للذي جاء بالهدية بكسوة.
خبر بديل بن ورقاء مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما اطمأن بالحديبية، جاءه بديل بن ورقاء وركب من خزاعة- وهم عيبة [ (4) ] نصح رسول اللَّه بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عليه بتهامة
__________
[ (1) ] السماء: من أسماء المطر.
[ (2) ] في (خ)
«أصبح من عبادي مؤمنا وكافرا»
وما أثبتناه هو رواية (البخاري) ج 3 ص 42 وفي (المغازي) باب غزوة الحديبيّة، وأحمد في (المسند) ج 4 ص 117 و (أبو داود) ج 4 ص 227 حديث رقم 3906، (النسائي) ج 3 ص 164، باب كراهية الاستمطار بالكوكب.
[ (3) ] في (خ) «الجزور» .
[ (4) ] المعنى: أن بيننا صدورا سليمة في المحافظة على العهد الّذي عقدناه بيننا.(1/285)
شيئا- فسلموا، ثم قال بديل: جئناك من عند قومك كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ، وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل-[النساء [ (1) ] والصبيان]- يقسمون باللَّه لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم [ (2) ] .
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه. وقريش قوم قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس- والناس أكثر منهم-، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جمّوا [ (3) ] . واللَّه لأجهدن على أمري هذا إلى أن تنفرد سالفتي [ (4) ] أو ينفذ اللَّه أمره!
فعاد بديل وركبه إلى قريش، وقد تواصوا ألا يسألوا بديلا عما جاء فيه.
فلما رأى أنهم لا يستخبرونه قال: إنا جئنا من عند محمد. أتحبون أن نخبركم؟ فقال عكرمة بن أبي جهل، والحكم بن أبي العاص: لا، واللَّه ما لنا حاجة بأن تخبرونا عنه، ولكن أخبره عنا: أنه لا يدخلها علينا عامه هذا حتى لا يبقى منا رجل.
سماع المشركين مقالة بديل
فأشار عليهم عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن عوف بن ثقيف [واسمه قسي] [ (5) ] بن منبه بن بكر بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان- أن يسمعوا كلام بديل، فإن أعجبهم قبلوه، وإلا تركوه، فقال صفوان بن أمية، والحارث بن هشام: أخبرنا بالذي رأيتم والّذي سمعتم. فأخبروه بمقالة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال عروة بن مسعود:
فإن بديلا قد جاءكم بخطة رشد، لا يردها أحد إلا أخذ شرا منها، فاقبلوها منه، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها، وأكون لكم عينا.
بعثة قريش عروة بن مسعود إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فبعثوه. فقال: يا محمد! إني تركت قومك على أعداد [ (6) ] مياه الحديبيّة قد
__________
[ (1) ] في (خ) «والنساء» .
[ (2) ] الياؤهم: دهماؤهم وجماعتهم.
[ (3) ] جمّوا: استراحوا.
[ (4) ] السالفة: ناحية مقدم العنق «كناية عن الموت» (ترتيب القاموس) ج 2 ص 598.
[ (5) ] في (خ) «قيس» .
[ (6) ] الأعداد: جمع عدّ وهو: الماء الجاري الّذي له مادة لا تنقطع كماء العين (ترتيب القاموس) ج 3 ص 169.(1/286)
استنفروا لك، وهم يقسمون باللَّه لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم، وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين: إما أن تجتاح قومك- فلم نسمع برجل اجتاح أصله قبلك- أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإنّي لا أرى معك إلا أوباشا [ (1) ] من الناس لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم، فغضب أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه وقال: امصص ببظر اللات! أنحن نخذله؟ فقال: أما واللَّه لولا يد لك عندي لأجبتك! وطفق عروة يمس لحية رسول اللَّه وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك قائم على رأسه بالسيف، فقرع يد عروة [وهو عمه] وقال: اكفف يدك عن مس لحية رسول اللَّه قبل ألا تصل إليك، فلما فرغ عروة من كلامه، ورد عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما قال لبديل بن ورقاء، عاد إلى قريش فقال: يا قوم، قد وفدت على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني واللَّه ما رأيت ملكا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد في أصحابه، واللَّه ما يشدون [ (2) ] إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى امرئ فيفعل، وما يتنخّم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ من وضوء إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء. وقد حزرت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم، واللَّه لقد رأيت نسيّات [ (3) ] معه، إن كنّ ليسلمنه أبدا على حال، فروا رأيكم. وقد عرض عليكم خطة، فمادوه [ (4) ] يا قوم. أقبلوا ما عرض فإنّي لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه. رجل أتى هذا البيت معظّما له مع الهدي ينحره وينصرف! فقالوا: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور! لو غيرك تكلم بهذا! ولكن نرده في عامنا هذا ويرجع إلى قابل.
بعثة مكرز بن حفص إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم جاء مكرز بن حفص بن الأخيف بن علقمة بن عبد الحارث بن الحارث ابن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر- فلما طلع
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا رجل غادر (وفي رواية: هذا رجل فاجر)
وجاء،
__________
[ (1) ] الأوباش والأوشاب بمعنى، وهم الأخلاط من الناس وغيرهم.
[ (2) ] أي يحدون إليه النظر.
[ (3) ] تصغير نسوة، للتقليل والتعظيم.
[ (4) ] أي اجعلوا بينكم وبينه مدة هدنة.(1/287)
فكلمه بنحو مما كلم به أصحابه، وعاد بذلك إلى قريش.
بعثة الحليس سيد الأحابيش
فبعثوا الحليس بن علقمة بن عمرو بن الأوقح بن عامر بن عوف بن الحارث ابن عبد مناة بن كنانة الحارثي الكناني سيد الأحابيش ورأسهم،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا من قوم يعظّمون الهدي، (وفي رواية يتألهون) [ (1) ] ، ابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوه،
فلما رأى الهدي يسيل في الوادي-: عليه القلائد، قد أكل أوباره (من طول الحبس عن محله [ (2) ] ) ، يرجّع الحنين، واستقبله القوم في وجهه يلبون، وقد أقاموا نصف شهر فتفلوا وشعثوا [ (3) ]- رجع، ولم يصل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إعظاما لما رأى. وقال لقريش: إني قد رأيت ما لا يحل صده! رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره معكوفا [ (4) ] عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما واللَّه ما على هذا حالفناكم ولا عاقدناكم: على أن تصدوا عن بيت اللَّه من جاء له معظما لحرمته مؤديا لحقه، والهدي معكوفا أن يبلغ محله! والّذي نفسي بيده، لتخلن بينه وبين ما جاء به، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! قالوا: كل ما رأيت مكيدة من محمد وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. وفي رواية الزبير بن (بكار) [ (5) ] أنه لما رجع قال: يا قوم! الهدي! البدن! القلائد! الدماء! فقالت قريش: ما نعجب منك، ولكن نعجب منا إذ أرسلناك، إنما أنت أعرابي جلف.
بعثة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خراش بن أمية إلى قريش
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى قريش خراش بن أمية بن الفضل الكعبي الخزاعي- على جمل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقال له الثعلب- ليبلغ أشرافهم أنه إنما جاء معتمرا.
فعقر الجمل عكرمة بن أبي جهل، وأرادوا قتله، فمنعه من هناك من قومه، فرجع.
فأراد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يبعث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فخاف على نفسه وأشار بعثمان رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] يتعبدون.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 96.
[ (3) ] التفل: ترك التطيب، والشعث، تلبد الشعر من الطول.
[ (4) ] معكوفا: محبوسا.
[ (5) ] ما بين القوسين بياض في (خ) .(1/288)
بعثة عثمان بن عفان
فبعثه ليخبرهم:
إنا لم نأت [ (1) ] لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت معظمين لحرمته، ومعنا الهدي ننحره وننصرف.
فأبوا على عثمان أن يدخل عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورحب به أبان بن سعيد بن العاص وأجاره، وحمله من بلدح [ (2) ] إلى مكة وهو يقول: أقبل وأدبر ولا تخف أحدا، بنو سعيد أعزّة الحرم! فبلغ عثمان من بمكة ما جاء فيه، فقالوا جميعا: لا يدخل محمد علينا أبدا.
حراسة المسلمين وأسر بعض المشركين
وكان يتناوب حراسة المسلمين بالحديبية ثلاثة: أوس بن خولي، وعباد بن بشر، ومحمد بن مسلمة. فبعثت قريش مكرز بن حفص على خمسين رجلا ليصيبوا من المسلمين غرة، فظفر بهم محمد بن مسلمة، وجاء بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- بعد إقامة عثمان بمكة ثلاثا- أنه قتل، وقتل معه عشرة رجال مسلمون قد دخلوا مكة بإذن رسول اللَّه ليروا أهليهم. وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم ورموا بالنبل والحجارة، فرماهم المسلمون، وأسروا منهم اثني عشر فارسا. وقتل من المسلمين زنيم، وقد اطلع الثنية من الحديبيّة، فرماه المشركون فقتلوه.
بدء الصلح
فبعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر [ (3) ] ، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص (ليصالحوه) [ (4) ] .
تحرك المسلمين إلى منازل بني مازن بعد خبر مقتل عثمان، والبيعة
وأمّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من
__________
[ (1) ] في (خ) «إناه لم يأن» .
[ (2) ] بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب (معجم البلدان) ج 1 ص 480.
[ (3) ] في (خ) «فهم» .
[ (4) ] زيادة من (ط) ، ورواية (للواقدي) ج 2 ص 602 بدون هذه الزيادة.(1/289)
الحديبيّة جميعا، فجلس في رحالهم.
وقد بلغه قتل عثمان رضي اللَّه عنه، ثم قال:
إن اللَّه أمرني بالبيعة.
فأقبل الناس يبايعونه حتى تداكوا، فما بقي لهم متاع إلا وطئوه، ثم لبسوا السلاح، وهو معهم قليل. وقامت أم عمارة إلى عمود كانت تستظل به فأخذته بيدها وشدّت سكينا في وسطها. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه آخذ بيده، فبايعهم على ألا يفروا، وقيل بايعهم على الموت. ويقال: أول من بايع سنان بن أبي سنان وهب بن محصن فقال:
يا رسول اللَّه، أبايعك على ما في نفسك. فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس على بيعة سنان، فبايعوه (إلا) [ (1) ] الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعير.
بعثة سهيل بن عمرو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلح والأسرى
فلما جاء سهيل بن عمرو،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سهّل أمرهم! فقال سهيل:
يا محمد! إن هذا الّذي كان من حبس أصحابك، وما كان من قتال من قاتلك- لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به- وكان من سفهائنا. فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة.
قال: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا [ (2) ] أصحابي.
قال: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشّتيم بن عبد مناف التيمي فبعثوا بمن كان عندهم، وهم:
عثمان وعشرة من المهاجرين، وأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابهم الذين أسروا.
البيعة تحت الشجرة وخوف المشركين
وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس تحت شجرة خضراء، وقد نادى عمر رضي اللَّه عنه:
إن روح القدس نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم اللَّه فبايعوا.
فلما رأى سهيل بن عمرو ومن معه، ورأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم، وأسرعوا إلى القضية [ (3) ] . ولما جاء عثمان رضي اللَّه عنه بايع تحت الشجرة. وقد كان قبل ذلك- حين بايع الناس-
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن عثمان ذهب في حاجة اللَّه وحاجة رسوله، فأنا أبايع له، فضرب بيمينه شماله.
__________
[ (1) ] زيادة لا بد منها للسياق.
[ (2) ] في (خ) «ترسل» .
[ (3) ] القضية: حكم الصلح.(1/290)
بعثة قريش إلى عبد اللَّه بن أبيّ
وبعثت قريش إلى عبد اللَّه بن أبي بن سلول: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل، فقال له ابنه: يا أبت! أذكرك اللَّه أن تفضحنا في كل موطن! تطوف ولم يطف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم! فأبى حينئذ وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول اللَّه. فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلامه، فسرّ به.
رجوع سهيل إلى قريش وعودتهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ورجع سهيل وحويطب ومكرز فأخبروا قريشا بما رأوا من سرعة المسلمين إلى التنعيم [ (1) ] فأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويعود من قابل فيقيم ثلاثا، فلما أجمعوا على ذلك أعادوا سهيلا وصاحبيه ليقروا هذا. فلما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أراد القوم الصلح. وكلم رسول اللَّه، فأطالا الكلام وتراجعا، وارتفعت الأصوات، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ جالسا متربعا، وعباد بن بشر، وسلمة ابن أسلم بن حريش مقنّعان بالحديد قائمان على رأسه. فلما رفع سهيل صوته قالا:
اخفض صوتك عند رسول اللَّه! وسهيل بارك على ركبتيه [ (2) ] ، رافع صوته، والمسلمون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جلوس.
خبر الصلح وغضب عمر بن الخطاب
فلما اصطلحوا ولم يبق إلا الكتاب،
وثب عمر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه! ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بلى! فقال: فعلام [ (3) ] نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا عبد اللَّه ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني.
فذهب عمر إلى أبي بكر رضي اللَّه عنهما فقال: يا أبا بكر! ألسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: الزم غرزه [ (4) ] ! فإنّي أشهد أنه رسول اللَّه، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر اللَّه، ولن يضيعه اللَّه.
ولقي عمر رضي اللَّه عنه من القضية أمرا كبيرا، وجعل يردّد على رسول
__________
[ (1) ] التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف (معجم البلدان) ج 2 ص 49.
[ (2) ] في (خ) «ركبته» .
[ (3) ] في (خ) «فعلى ما» .
[ (4) ] كناية عن لزوم الاتباع وعدم المخالفة.(1/291)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكلام، وهو يقول: أنا رسوله ولن يضيعني!
ويردد ذلك أبو عبيدة ابن الجراح رضي اللَّه عنه: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول اللَّه يقول ما يقول! تعوذ باللَّه من الشيطان واتهم رأيك!. فجعل يتعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم حينا.
كراهية المسلمين الصلح
وكان المسلمون يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا ولا يشكون في الفتح لرؤيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت فأخذ مفتاح الكعبة وعرّف مع المعرفين، فلما رأوا الصلح داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فجعل اللَّه عاقبة القضية خيرا- فأسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم- من يوم دعا رسول اللَّه إلى يوم الحديبيّة-، وما كان في الإسلام فتح أعظم من الحديبيّة، فإن الحرب كانت قد حجزت بين الناس. فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، ودخل في تلك الهدنة صناديد قريش الذين كانوا يقومون بالشرك، وما يحدث عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وأشباههما، وفشا الإسلام في جميع نواحي العرب. وكانت الهدنة إلى أن نقضوا العهد اثنين وعشرين شهرا.
خبر أبي جندل بن سهيل بن عمرو
وبينما الناس قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ بن غالب القرشي العامري- وقد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف خلال أسفل مكة، فخرج من أسفلها حتى أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يكاتب أباه سهيلا، وكان سهيل قد أوثقه في الحديد وسجنه، فخرج من سجن سهيل، واجتنب الطريق وركب الجبال حتى هبط بالحديبية. ففرح المسلمون به وتلقوه حين هبط من الجبل فسلموا عليه وآووه، فرفع سهيل رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبينه [ (1) ] . فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شرا إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. فقال حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوما قط أشد حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني
__________
[ (1) ] في (خ) «بلبته» .(1/292)
أقول لك: لا نأخذ من محمد نصفا [ (1) ] أبدا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة [ (2) ] ! فقال مكرز: وأنا أرى ذلك.
رد أبي جندل إلى أسر المشركين
وقال سهيل بن عمرو: هذا أول ما قاضيتك عليه، ردّه!
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا لم نقض الكتاب بعد!
فقال سهيل: واللَّه لا أكاتبك على شيء حتى ترده إليّ. فرده عليه، وكلمه أن يتركه، فأبى سهيل وضرب وجهه بغصن من شوك،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هبه لي أو أجره من العذاب! فقال: واللَّه لا أفعل.
فقال مكرز وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطا فأجاراه، فكف عنه أبوه. ثم
رفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صوته فقال: يا أبا جندل: اصبر واحتسب، فإن اللَّه جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك عهدا، وإنا لا نغدر.
عودة عمر إلى مقالته
وعاد عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! ألست برسول اللَّه؟ قال: بلى! قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى! قال:
أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى! قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال:
إني رسول اللَّه، ولن أعصيه ولن يضيعني.
فانطلق إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه فقال له مثل ذلك، فأجابه بنحو ما أجاب به رسول اللَّه، ثم قال: ودع عنك ما ترى يا عمر. فوثب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه، وسهيل يدفعه، وعمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب! وإنما هو رجل، ومعه [ (3) ] السيف يحرضه على قتل أبيه. وجعل يقول: يا أبا جندل! إن الرجل يقتل أباه في اللَّه! واللَّه لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في اللَّه، فرجل برجل. فقال له أبو جندل: مالك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول اللَّه عن قتله وقتل غيره.
قال أبو جندل: ما أنت أحق بطاعة رسول اللَّه مني.
__________
[ (1) ] النّصف: الإنصاف.
[ (2) ] العنوة: القهر والإذلال.
[ (3) ] في (خ) «ومعك» والتصويب من ابن هشام.(1/293)
مقالة المسلمين لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلح
وقال عمر ورجال معه: يا رسول اللَّه! ألم تكن حدثتنا أنك تدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة، وتعرّف مع المعرّفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال: قلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر: لا. فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلّق رأسي ورءوسكم ببطن مكة، وأعرّف مع المعرفين، ثم أقبل على عمر رضي اللَّه عنه وقال: أنسيتم يوم أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ أنسيتم يوم كذا؟ والمسلمون يقولون: صدق اللَّه ورسوله، يا نبي اللَّه! ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم باللَّه وبأمره منا.
فلما دخل صلّى اللَّه عليه وسلّم عام القضية [ (1) ] وحلق رأسه قال: هذا الّذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح، أخذ المفتاح وقال: ادعوا إليّ عمر بن الخطاب! فقال: هذا الّذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع وقف بعرفة فقال: أي عمر! هذا الّذي قلت لكم. قال: أي رسول اللَّه! ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبيّة.
فتح الحديبيّة وخبر أبي بكر
وكان أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه يقول: ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبيّة، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون، واللَّه لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند النحر يقرّب إلى رسول اللَّه بدنة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينحرها بيده! ودعا الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه! وأذكر إباءه أن يقرّ يوم الحديبيّة بأن يكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم! وإباءه أن يكتب أن محمدا رسول اللَّه! فحمدت اللَّه الّذي هداه للإسلام. فصلوات اللَّه وبركاته على نبيّ الرحمة الّذي هدانا به، وأنقذنا به من الهلكة.
__________
[ (1) ] في عمرة القضية: وسيأتي ذكرها بعد غزوة وادي القرى.(1/294)
كتاب الصلح
فلما حضرت الدواة والصحيفة- بعد طول الكلام والمراجعة- دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك علي، أو عثمان بن عفان، فأمر عليا فكتب،
فقال: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب ما نكتب، باسمك اللَّهمّ. فضاق المسلمون من ذلك، وقالوا: هو الرحمن، واللَّه ما نكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذا لا أقاضيه على شيء. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اكتب، باسمك اللَّهمّ. هذا ما اصطلح عليه محمد رسول اللَّه. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول اللَّه ما خالفتك واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك، محمد بن عبد اللَّه؟ فضجّ المسلمون منها ضجّة هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجال يقولون: لا نكتب إلا محمد رسول اللَّه! وأخذ أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي اللَّه عنهما بيد الكاتب فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول اللَّه، وإلا فالسيف بيننا، علام نعطي هذه الدّنية في ديننا؟ فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخفّضهم ويومئ إليهم بيده: اسكتوا.
وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقول لمكرز: ما رأيت قوما أحوط لدينهم من هؤلاء! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا محمد بن عبد اللَّه، فاكتب. فكتب.
نص كتاب الصلح
«باسمك اللَّهمّ، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللَّه وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال [ (1) ] ، وأنّ بيننا عيبة مكفوفة. وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده محمد إليه. وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه، وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا من قابل في أصحابه فيقيم بها ثلاثا، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر: السيوف في القرب» .
__________
[ (1) ] الإسلال والإغلال: السرقة والخيانة. والعيبة: سبق شرحها ص 285 تعليق رقم (4) .(1/295)
شهود الكتاب
شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص بن عبد الأخيف، وكتب عليّ صدر الكتاب.
نسخة كتاب الصلح ودخول خزاعة في عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبني بكر في عهد قريش
فقال سهيل: يكون عندي:
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل عندي!
ثم كتب له نسخة، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكتاب الأول، وأخذ سهيل نسخته. ووثب من هناك من خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثبت بنو بكر فقالوا: ندخل مع قريش في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة، وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عقد محمد وعهده! وقال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمتنا [ (1) ] قد دخلوا مع محمد، قوم اختاروا لأنفسهم أمرا فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر! قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بكر، فإنّهم أهل شؤم، فتقعوا بخزاعة، فيغضب محمد لحلفائه، فينتقض العهد بيننا وبينه.
مدة الهدنة
وقال عبد اللَّه بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن عبد اللَّه بن دينار [ (2) ] ، عن ابن عمر قال: كانت الهدنة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين أهل مكة بالحديبية أربع سنين، خرّجه الحاكم وصححه، وفي كتاب عمر [ (3) ] بن شيبة في أخبار مكة: كانت
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «ولحمنا» ج 2 ص 612.
[ (2) ] في (خ) «ابن دنبه» وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] في (خ) «ابن أبي شيبة» وصوابه: عمر بن شيبة، يزيد بن عبيدة بن رابطة النميري، أبو زيد البصري، ثم البغدادي، الأديب، الأخباري، الشهير بابن شيبة، ولد سنة 173 هـ وتوفي بسر من رأى سنة 262 هـ (هدية العارفين ج 5 ص 78) .(1/296)
سنتين.
خبر أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين بالنحر والحلق والإحلال
فلما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الكتاب، وانطلق سهيل وأصحابه، قال: قوموا فانحروا واحلقوا وحلوا. فلم يجبه أحد إلى ذلك. فرددها ثلاث مرات، فلم يفعلوا.
فدخل على أم سلمة رضي اللَّه عنها وهو شديد الغضب، فاضطجع، فقالت: مالك يا رسول اللَّه؟ مرارا، وهو لا يجيبها، ثم قال: عجبا يا أم سلمة، إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مرارا، فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك، وهم يسمعون كلامي، وينظرون في وجهي. فقالت: يا رسول اللَّه، انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنّهم سيقتدون بك، فاضطبع [ (1) ] بثوبه وخرج، فأخذ الحربة ويمم هديه، وأهوى بالحربة إلى البدنة رافعا صوته: بسم اللَّه واللَّه أكبر. ونحر.
نحر الهدي
فتواثب المسلمون إلى الهدي وازدحموا عليه ينحرونه، حتى كاد بعضهم يقع على بعض، وأشرك صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة، وقيل: مائة. وكان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية، عرض له المشركون فردّوا وجوه البدن، فنحر رسول اللَّه بدنه حيث حبسوه، [وهي الحديبيّة] . وشرد جمل أبي جهل من الهدي وهو يرعى- وقد قلد وأشعر، وكان نجيبا مهريا- فمرّ من الحديبيّة حتى انتهى إلى دار أبي جهل بمكة. وخرج في إثره عمرو بن غنمة [ (2) ] بن عدي بن نابي السلميّ الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه، فدفعوا فيه مائة ناقة،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لولا أننا سميناه في الهدي فعلنا. ونحره عن سبعة.
ونحر طلحة بن عبيد اللَّه وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان بدنات ساقوها.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مضطربا [ (3) ] في الحل، وإنما يصلى في الحرم. وحضره من يسأل من لحوم البدن معترا [ (4) ] ، فأعطاهم من لحومها وجلودها. وأكل المسلمون من هديهم وأطعموا المساكين، وبعث صلّى اللَّه عليه وسلّم من الهدي بعشرين بدنة لتنحر عند المروة
__________
[ (1) ] اضطبع بثوبه: أدخله من تحت إبطه الأيمن فغطى به الأيسر.
[ (2) ] في (خ) «غنمه» .
[ (3) ] نازلا في بناء بناه.
[ (4) ] فقيرا.(1/297)
مع رجل من أسلم، فنحرها عند المروة وفرّق لحمها.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للمحلقين والمقصرين
فلما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نحر البدن، دخل قبة له من أدم حمراء، فيها الحلاق فحلّق رأسه، ثم أخرج رأسه من قبته
وهو يقول: رحم اللَّه المحلقين! قيل:
يا رسول اللَّه والمقصرين! قال: رحم اللَّه المحلقين! ثلاثا، ثم قال: والمقصرين.
ورمى بشعره على شجرة كانت بجنبه من سمرة خضراء، فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصون فيه [ (1) ] . وأخذت أم عمارة طاقات من شعر، فكانت تغسلها للمريض وتسقيه حتى يبرأ، وحلّق ناس وقصّر آخرون. وكان الّذي حلقه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ] خراش بن أمية بن الفضل الكعبي، فلما حلقوا بالحديبية ونحروا، بعث اللَّه تعالى ريحا عاصفة فاحتملت أشعارهم فألقتها في الحرم.
خبر أم كلثوم بنت عقبة
وخرجت يومئذ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي عاتق [لم تتزوج] فقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هجرتها ولم يردّها إلى المشركين [ (3) ] ، وقدمت المدينة، فتزوجها زيد بن حارثة.
إقامة المسلمين بالحديبية، وما أصابهم من الجوع
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديبية بضعة عشر يوما، ويقال: عشرين يوما، ثم انصرف.
فلما نزل عسفان أرمل [ (4) ] المسلمون من الزاد، وشكوا أنهم قد بلغوا [ (5) ] من الجوع، وسألوا أن ينحروا من إبلهم، فأذن لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك، فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يك في الناس بقية ظهر يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم، ثم ادع لهم فيها اللَّه. فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنطاع فبسطت، ثم
__________
[ (1) ] يأخذ كل منهم حصته.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 308 في الكلام عن الفوائد الفقهية المستفادة من صلح الحديبيّة: «ومنها جواز صلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز ردهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب» .
[ (4) ] أرمل المسافر: نفد زاده.
[ (5) ] بلغوا: أدركتهم المشقة.(1/298)
نادى مناديه: من كان عنده بقية زاد فلينثره على الأنطاع. فكان منهم من يأتي بالتمرة الواحدة وأكثرهم لا يأتي بشيء، ويؤتى بالكف من الدقيق والكف من السّويق، وذلك كله قليل.
فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى صلّى اللَّه عليه وسلّم إليها فدعا فيها بالبركة، ثم قال: قربوا بأوعيتكم.
فجاءوا بأوعيتهم، فكان الرجل يأخذ ما شاء من الزاد حتى إنّ أحدهم ليأخذ ما لا يجد له محملا.
المطر
ثم أذّن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون، فنزل ونزلوا معه فشربوا من ماء السماء، وقام صلّى اللَّه عليه وسلّم فخطبهم. فجاء ثلاثة نفر، فجلس اثنان وذهب واحد معرضا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ألا أخبركم خبر الثلاثة؟
قالوا: بلى، يا رسول اللَّه! قال: أما واحد فاستحيا فاستحيا اللَّه منه، وأما الآخر فتاب فتاب اللَّه عليه، وأما الثالث فأعرض فأعرض اللَّه عنه.
سؤال عمر وسكوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن جوابه، ونزول سورة الفتح
وبينا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال: ثكلتك أمك يا عمر! بدرت [ (1) ] رسول اللَّه ثلاثا، كل ذلك لا يجيبك! وحرك بعيره حتى تقدم الناس، وخشي أن يكون نزل فيه قرآن، فأخذه ما قرب وما بعد: لمراجعته بالحديبية وكراهته القضية. وبينا هو يسير مهموما متقدما على الناس، إذ منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينادي: يا عمر بن الخطاب! فوقع في نفسه ما اللَّه به أعلم، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم، فردّ عليه السلام وهو مسرور ثم
قال: أنزلت عليّ سورة هي أحب مما طلعت عليه الشمس. فإذا هو يقرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (2) ] ،
فأنزل اللَّه في ذلك سورة الفتح، فركض الناس وهم يقولون:
أنزل على رسول اللَّه! حتى توافوا عنده وهو يقرؤها. ويقال: لما نزل جبريل عليه
__________
[ (1) ] في (خ) «نذرت» وأيضا في (الواقدي) ج 2 ص 617، وفي (ط) بدرت: بمعنى عجلت إليه.
[ (2) ] أول سورة الفتح.(1/299)
السلام قال: نهنئك [ (1) ] يا رسول اللَّه! فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون. وكان نزول سورة الفتح بكراع الغميم، ويقال [ (2) ] : نزلت بضجنان. وعن قتادة عن أنس رضي اللَّه عنهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، قال: خيبر. وقال غيره:
الحديبيّة، منحره وحلقه. وقيل: نزلت سورة الفتح منصرفه من خيبر.
خبر فرار أبي بصير من أسر المشركين
ولما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة من الحديبيّة، في ذي الحجة جاء أبو بصير عتبة بن أسيد [وقيل: عبيد بن أسيد] بن جارية بن أسيد بن عبد اللَّه بن [أبي] [ (3) ] سلمة بن عبد اللَّه بن غيرة بن عوف بن قسي [وهو ثقيف] حليف بني زهرة- مسلما، قد انفلت من قومه، وسار على قدميه سبعا [ (4) ] .
كتاب قريش في أمر أبي بصير
وكتب الأخنس بن شريق، وأزهر بن عوف الزهري إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا مع خنيس بن جابر من بني عامر، واستأجراه ببكرين لبون، وحملاه على بعير، وخرج معه مولى يقال له: كوثر، وفي كتابهما ذكر الصلح، وأن يرد عليهم أبا بصير. فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقرأ أبيّ بن كعب الكتاب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا فيه: «قد عرفت ما شارطناك عليه- وأشهدنا بيننا وبينك- من ردّ من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا» .
رد أبي بصير إلى المشركين
فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه إليهما، فقال: يا رسول اللَّه! تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني!
فقال: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر. وإن اللَّه جعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا. فقال: يا رسول اللَّه! تردني إلى المشركين، قال: انطلق يا أبا بصير، فإن اللَّه سيجعل لك مخرجا.
ودفعه إلى العامري وصاحبه. فخرج
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «يهنيك» .
[ (2) ] وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 618.
[ (3) ] زيادة من نسبه.
[ (4) ] في (الواقدي) «سعيا» .(1/300)
معهما، وجعل المسلمون يسرّون إلى أبي بصير، يا أبا بصير، أبشر! فإن اللَّه جاعل لك مخرجا، والرجل يكون خيرا من ألف رجل، فافعل وافعل: يأمرونه بالذين معه فانتهيا به عند صلاة الظهر إلى ذي الحليفة. فصلى أبو بصير في مسجدها ركعتين صلاة المسافر. ومعه زاد له من تمر يحمله، ثم أكل منه ودعا العامريّ وصاحبه ليأكلا معه، فقدما سفرة فيها كسر وأكلوا جميعا.
قتله العامري
وقد علق العامري سيفه في الجدار، وتحادثوا، فقال أبو بصير: يا أخا بني عامر! ما اسمك؟ قال: خنيس. قال: ابن من؟ قال: ابن جابر. قال: يا أبا جابر، أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم! قال: ناولينه انظر إليه إن شئت. فناوله، فأخذ أبو بصير بقائم السيف- والعامري ممسك بالجفن- فعلاه به حتى برد.
وخرج كوثر هاربا يعدو نحو المدينة، وأبو بصير في أثره فأعجزه، حتى سبقه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ورسول اللَّه جالس في أصحابه بعد العصر، إذ طلع كوثر يعدو، فقال: هذا رجل قد رأى ذعرا! وأقبل حتى وقف فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ويحك! مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلتّ منه ولم أكد!.
مرجع أبي بصير إلى المدينة
وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامري بباب المسجد، ودخل متوشحا سيفه، فقال: يا رسول اللَّه! وفت ذمتك، وأدى اللَّه عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، ويعبث بي أو أكذب بالحق.
فقال عليه السلام: ويل أمه محشّ حرب [ (1) ] لو كان معه رجال! وقدم سلب العامري ورحله وسيفه ليخمسه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني إذا خمسته رأوا [ (2) ] أني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك. ثم قال: لكوثر: ترجع به إلى أصحابك؟ فقال: يا محمد! ما لي به قوة ولا يدان! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بصير:
اذهب حيث شئت.
__________
[ (1) ] يقال حش الحرب إذا أسعرها وهيجها.
[ (2) ] أي قريش.(1/301)
خروج أبي بصير إلى العيص
فخرج حتى أتى العيص، فنزل منه ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشأم، وعند ما خرج لم يكن معه إلا كف تمر فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتانا قد ألقاها البحر بالساحل فأكلها، وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبره.
فتسللوا إليه. وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه هو الّذي كتب إليهم بقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بصير: ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال، وأخبرهم أنه بالساحل. فاجتمع عند أبي بصير قريب من سبعين مسلما، فكانوا بالعيص.
وضيقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر عليهم عير إلا اقتطعوها، ومر بهم ركب يريدون الشأم، معهم ثمانون بعيرا، فأخذوا ذلك، وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارا، وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلى بهم ويقرئهم ويجمعهم، وهم له سامعون مطيعون، فغاظ قريشا صنيع أبي بصير وشق عليهم، وكتبوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسألونه بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه: فلا حاجة لنا بهم.
فكتب صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه،
فجاءه الكتاب وهو يموت، فجعل يقرأه، ومات وهو في يده فدفنوه. وأقبل أصحابه إلى المدينة وهم سبعون فيهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، فمات بعقب قدومه فبكته أم سلمة رضي اللَّه عنها.
هجرة أم كلثوم بنت عقبة إلى المدينة
وكانت أم كلثوم بنت عقبة [ (1) ] بن أبي معيط قد أسلمت بمكة، فكانت تخرج إلى بادية أهلها [لها بها أهل] ، فتقيم أياما بناحية التنعيم ثم ترجع. حتى أجمعت على المسير مهاجرة، فخرجت كأنها تريد البادية على عادتها، فوجدت رجلا من خزاعة فأعلمته بإسلامها، فأركبها بعيره حتى أقدمها المدينة بعد ثماني ليال، فدخلت على أم سلمة رضي اللَّه عنها، وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة، وتخوفت أن يردها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أم سلمة أعلمته، فرحب بأم كلثوم وسهّل، فذكرت له هجرتها، وأنها تخاف أن يردها.
__________
[ (1) ] في (خ) «عتبة» .(1/302)
ما نزل فيها من القرآن
فأنزل اللَّه فيها آية الممتحنة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ (1) ] .
طلب قريش رد أم كلثوم
فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرد من جاءه من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء، وقدم أخواها من غد قدومها- الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط-
فقالا:
يا محمد! ف [ (2) ] لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض ذلك.
فانصرفا إلى مكة فأخبرا قريشا، فلم يبعثوا أحدا، ورضوا بأن تحبس النساء.
فرار أميمة بنت بشر وهجرتها إلى المدينة
ويقال: إن أميمة بنت بشر الأنصارية، ثم من بني عمرو بن عوف، كانت تحت حسان بن الدحداح [ (3) ] [أو ابن الدحداحة] وهو يومئذ مشرك، ففرت من زوجها بمكة وأتت [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تريد الإسلام، فهم أن يردها إلى زوجها، حتى أنزل اللَّه تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ [ (5) ] . ثم زوجها رسول اللَّه سهل بن حنيف، فولدت له عبد اللَّه بن سهل.
طلاق الكوافر
وأنزل اللَّه تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [ (5) ] فطلق عمر بن الخطاب امرأتين هما: قريبة بنت أبي أمية، [بن المغيرة] [ (6) ] ، فتزوجها معاوية بن أبي
__________
[ (1) ] الآية 1/ الممتحنة، وفي (خ) « ... فامتحنوهن، الآية» .
[ (2) ] ف: فعل الأمر من أوفى.
[ (3) ] في (خ) هكذا: «كانت ثابت بن الدحاح» والصواب «كانت تحت» حيث أن ثابت بن الدحاح رضي اللَّه عنه قد استشهد بأحد (ابن سيد الناس) ج 2 ص 29.
[ (4) ] في (خ) «أنت» .
[ (5) ] من الآية 10/ الممتحنة.
[ (6) ] في (خ) «قريبة بنت أمية» وما بين القوسين زيادة من (ط) ، وفي (الواقدي) «زينب بنت أمية» .(1/303)
سفيان، والأخرى أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيّب بن ربيعة بن أصرم ابن حبيش بن حرام بن حبيشة بن سلول بن كعب الخزاعية، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة. وطلق عياض بن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب.
فتزوجها عبد اللَّه بن عثمان الثقفي فولدت له عبد الرحمن ابن أم الحكم، وكلهم يومئذ مشرك. ولم يعلم أن امرأة من المسلمين لحقت بالمشركين.
بعثة الرسل إلى الملوك
وفي هذه السنة السادسة، بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رسله إلى الملوك بكتبه، فأرسل حاطب بن أبي بلتعة [عمرو، وقيل: راشد] بن معاذ اللخمي إلى المقوقس بمصر.
* أرسل شجاع بن وهب [ويقال: ابن أبي وهب] بن ربيعة بن أسد ابن صهيب بن مالك بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسديّ إلى الحارث ابن أبي شمر الغسّانّي.
* وأرسل دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج [ (1) ] [وهو زيد مناة] بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف بن غدرة ابن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب الكلبي، إلى قيصر ملك الروم.
* وأرسل سليط بن عمر بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤيّ القرشي العامري، إلى هوذة بن علي الحنفي، وإلى ثمامة بن أنال [وهما] [ (2) ] رئيسا اليمامة.
* وبعث عبد اللَّه بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي، إلى كسرى ملك فارس.
* وأرسل عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد اللَّه بن إياس بن عبيد بن ناشرة [ (3) ] ابن كعب الضمريّ، إلى النجاشي ملك الحبشة.
* وأرسل العلاء بن الحضرميّ [اسمه عبد اللَّه] بن عباد [وقيل: عبد اللَّه بن عمار، وقيل: عبد اللَّه بن ضمار، وقيل: عبد اللَّه بن عبيدة بن ضمار] بن مالك
__________
[ (1) ] في (خ) «الخزرج» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) «عتيك بن باشرة» .(1/304)
وقيل: العلاء بن عبد اللَّه بن عمار بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن أكبر بن عويف ابن مالك بن الخزرج بن أبي بن الصّدف، إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين.
وقيل: إن إرساله كان سنة ثمان.
ردود الملوك
* فأما المقوقس، فإنه قبل كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأهدى إليه أربع جواري، منهن مارية [القبطية] .
* وأما قيصر [واسمه هرقل] ، فإنه قبل أيضا الكتاب واعترف بالنّبوّة، ثم خاف من قومه فأمسك.
* وأما الحارث بن أبي سمر الغسّاني، فإنه لما أتاه الكتاب قال: أنا سائر إليه [يعني محاربا] .
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد بلغه ذلك عنه: باد ملكه.
* وأما النجاشي فإنه آمن برسول اللَّه واتبعه، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وأرسل ابنه في ستين من الحبشة فغرقوا في البحر. وبعث إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب- وكانت مهاجرة بالحبشة مع زوجها عبيد اللَّه بن جحش فتنصّر هناك- فزوجه إياها، وقام بصداقها:
أربعمائة دينار من عنده.
* وأما كسرى أبرويز هرمز، فإنه مزق الكتاب،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مزق اللَّه ملكه، فسلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
* وأما هوذة بن عليّ، فبعث وفدا بأن يجعل له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأمر بعده حتى يسلم، وإلا قصده وحاربه،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اكفنيه! فمات بعد قليل.
* وأما المنذر بن ساوي، فإنه أسلم وأسلم أهل البحرين.
سحر لبيد بن الأعصم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وفي محرم سنة سبع سحر لبيد بن الأعصم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على مال جعله له من بقي بالمدينة من اليهود والمنافقين.(1/305)
غزوة خيبر
وكانت غزوة خيبر في صفر سنة سبع، وبينها وبين المدينة ثمانية برد، مشى ثلاثة أيام. وقيل: سميت بخيبر بن قانية بن هلال بن مهلهل بن عبيل بن عوض ابن إرم بن سام بن نوح [ (1) ] : وكان عثمان بن عفان مصرّها.
أول الخروج إلى خيبر
ويقال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لهلال ربيع الأول. ونقل عن الإمام مالك أن خيبر كانت في سنة ست. وإليه ذهب أبو محمد بن حزم، والجمهور على أنها كانت في سنة سبع، وأمر أصحابه بالتهيّؤ للغزو، واستنفر من حوله يغزون معه. وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبيّة ليخرجوا معه رجاء الغنيمة،
فقال: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، وأما الغنيمة فلا.
وبعث مناديا فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ، وقيل: أبا ذر، وقيل: نميلة بن عبد اللَّه الليثي.
ما كانت تفعله يهود قبل غزو المسلمين
وكان يهود خيبر لا يظنون أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يغزوهم، لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم، كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفا ثم يقولون:
محمد يغزونا!! هيهات هيهات [ (2) ] ! فعمى اللَّه عليهم، فخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى نزل بساحتهم ليلا.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أشرف خيبر
ولما أشرف على خيبر قال لأصحابه: قفوا، ثم قال قولوا: اللَّهمّ ربّ السموات السبع وما أظلت، وربّ الأرضين السبع وما أقلت، [ورب الشياطين وما أضللن] [ (1) ] ، ورب الرياح وما ذرت، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها [وشر أهلها] [ (3) ] وشر ما فيها! ثم قال:
__________
[ (1) ] (معجم البلدان) ج 2 ص 409، 410.
[ (2) ] اسم فعل ماض بمعنى «بعد» .
[ (3) ] زيادة في بعض كتب السيرة، وفي (خ) و (الواقدي) ج 2 ص 642 بدون هذه الزيادة، وذكره الإمام النووي في (الأذكار) ص 201 (باب ما يقول إذا رأى قرية يريد دخولها أو لا يريد) .(1/306)
ادخلوا على بركة اللَّه. وعرّس بمنزله ساعة.
خبر يهود وغزو المسلمين
وكانت يهود يقومون كل ليلة قبل الفجر، ويصفون الكتائب، وخرج كنانة ابن أبي الحقيق في أربعة عشر رجلا إلى غطفان، يدعوهم إلى نصرهم ولهم نصف ثم خيبر سنة. فلما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بساحتهم، لم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديك، حتى طلعت الشمس، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم، [وغدوا إلى أعمالهم] [ (1) ] ، معهم المساحي والكرازين والمكاتل، فلما نظروا المسلمين قالوا: محمد والخميس [ (2) ] !! وولوا هاربين إلى حصونهم،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: اللَّه أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
قتال أهل النطاة
وقاتل يومه ذلك إلى الليل أهل النّطاة [ (3) ] ، فلما أمسى تحول بالناس إلى الرجيع [ (4) ] . وكان يغدو [ (5) ] بالمسلمين على راياتهم. وكان شعارهم: يا منصور أمت. وأمر بقطع نخلهم، فوقع المسلمون في قطعها حتى قطعوا أربعمائة عذق [ (6) ] ، ثم نادى بالنهي عن قطعها. ويروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما نزل خيبر أخذته الشّقيّقة [ (7) ] ، فلم يخرج إلى الناس.
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 106.
[ (2) ] «يعنون بالخميس الجيش» المرجع السابق.
[ (3) ] حصن من حصون خيبر التي ذكرها (ابن سعد) ج 2 ص 106 «وهي: حصن الصعب بن معاذ، وحصن ناعم، وحصن قامة الزبير والشقّ، وبه حصون منها حصن أبي وحصن النزار، وحصون الكتيبة منها القموص والوطيح وسلالم، وهو حصن بني أبي الحقيق» .
[ (4) ] الرجيع: «هو الموضع الّذي غدرت فيه عضل والقارة بالسبعة نفر الذين بعثهم اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهذا غير ذلك، وذكر ابن إسحاق في غزاة خيبر أنه عليه السلام حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر فبنى له فيها مسجد ثم على الصهباء ثم أقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع ... وهذا غير الأول لأن ذلك قرب الطائف وخيبر من ناحية الشام خمسة أيام عن المدينة، فيكون بين الرجيعين أكثر من خمسة عشر يوما» (معجم البلدان) ج 3 ص 29.
[ (5) ] في (خ) «يغذو» .
[ (6) ] العذق: النخلة بحملها (ترتيب القاموس) ج 3 ص 179.
[ (7) ] الشقيقة: وجع يأخذ نصف الرأس والوجه (ترتيب القاموس) ج 2 ص 739، (زاد المعاد) ج 4 ص 87 فصل هديه صلّى اللَّه عليه وسلّم في علاج الصداع والشقيقة.(1/307)
مقتل محمود بن مسلمة
قال الواقدي: وجلس محمود بن مسلمة الأنصاري تحت حصن ناعم يتبع فيئة [ (1) ] ، وقد قاتل يومئذ، وكان يوما صائفا [ (2) ] ، فدلّى عليه مرحب [اليهودي] [ (3) ] رحى فهشمت البيضة، وسقطت جلدة جبينه على وجهه، وندرت عينه [ (4) ] ، فأتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرد الجلدة كما كانت، وعصبها بثوب، وتحوّل إلى الرجيع خشية على أصحابه من البيات. فكان مقامه بالرجيع سبعة أيام، يغدو كل يوم للقتال، ويستخلف على العسكر عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه ويقاتل أهل النطاة يومه [ (5) ] ، فإذا أمسى رجع إلى الرجيع، ومن جرح يحمل إلى العسكر ليداوى. فجرح أول يوم خمسون من المسلمين.
اليهودي المستأمن
ونادى يهودي من أهل النطاة بعد ليل: أنا آمن وأبلغكم؟ فقالوا: نعم! فدخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدله على عورة يهود. فدعا أصحابه وحضّهم على الجهاد.
فغدوا عليهم، فظفرهم اللَّه بهم، فلم يك في النطاة شيء من الذرية، فلما انتهوا إلى الشق وجدوا فيه ذرية، فدفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليهودي زوجته.
حراسة المسلمين وفتح النطاة
وكانت الحراسة نوبا بين المسلمين، حتى فتح اللَّه حصن النطاة، فوجد فيها منجنيق، فنصب على حصن النزار [ (6) ] ، ففتحه اللَّه، ونازل المسلمون حصن ناعم في النطاة، فنهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن القتال حتى يأذن لهم. فعمد رجل من أشجع فحمل على يهود فقتله مرحب،
فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تحل الجنة لعاص.
ثم أمر الناس بالقتال. وكان ليهود عبد حبشي اسمه يسار، في ملك عامر اليهودي، يرعى له غنما، فأقبل بالغنم حتى أسلم، ورد الغنم لصاحبها، وقاتل حتى قتل شهيدا.
__________
[ (1) ] في (خ) «فئة» والفيء: الظل.
[ (2) ] الصائف: شديد الحر.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] ندر الشيء ندورا: سقط من جوف شيء، أو من بين أشياء تظهر (ترتيب القاموس) ج 4 ص 347.
[ (5) ] في (خ) «قومه» .
[ (6) ] في (خ) «البراز» .(1/308)
الألوية، وأول راية في الإسلام
وفرق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الرايات، ولم تكن راية قبل خيبر، إنما كانت الألوية، فكانت راية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سوداء تدعى العقاب: من برد لعائشة رضي اللَّه عنها، ولواؤه أبيض، ورفع راية إلى علي، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سعد ابن عبادة رضي اللَّه عنهم.
مدد عيينة بن حصن ليهود
وكان عيينة بن حصن قد أقبل مددا ليهود بغطفان في أربعة آلاف، فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليه أن يرجع وله نصف ثمر خيبر، فأبى أن يتخلى عن حلفائه، فبعث اللَّه على غطفان الرعب، فخرجوا على الصعب والذلول [ (1) ] ، فذل عند ذلك عدو اللَّه كنانة بن أبي الحقيق، وأيقن بالهلكة.
حصن ناعم ورجوع المسلمين
وجثم [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الحصون، وألحّ على حصن ناعم بالرمي، ويهود تقاتل. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على فرس يقال له الظرب، وعليه درعان ومغفر وبيضة، وفي يده قناة وترس. وقد دفع لواءه إلى رجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا. فحث صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين على الجهاد، وسالت كتائب يهود: أمامهم الحارث أبو زينب يهذ [ (3) ] الناس هذا. فساقهم صاحب راية الأنصار حتى انتهوا إلى الحصن فدخلوه، وخرج أسير يقدم يهود، فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موقفه، فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمسى مهموما [ (4) ] .
[وخرج مع ذلك سعد بن عبادة] ،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لأعطين الراية غدا رجلا يحبه اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه على يديه ليس بفرّار، أبشر يا محمد بن مسلمة! غدا- إن شاء اللَّه تعالى- يقتل قاتل أخيك، وتولّي عادية يهود.
__________
[ (1) ] كناية عن شدة الرعب.
[ (2) ] جثم: لزم مكانه.
[ (3) ] في (خ) «بهذا» ، والهذّ: الإسراع.
[ (4) ] في (الواقدي) ج 2 ص 653 بعد قوله «مهموما» «وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحا» فيستقيم بذلك السياق إذا قيل بعدها عبارة: [وخرج مع ذلك سعد بن عبادة] .(1/309)
بعثة علي لفتح حصن ناعم
فلما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسل إلى علي رضي اللَّه عنه- وهو أرمد- فقال [علي] [ (1) ] : ما أبصر سهلا ولا جبلا! فذهب إليه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: افتح عينيك! ففتحهما، فتفل فيهما، فما رمد بعدها.
مقتل أبي زينب اليهودي
ثم دفع إليه اللواء، ودعا له ومن معه بالنصر. وكان أول من خرج إليه الحارث أبو زينب- أخو مرحب- فانكشف المسلمون وثبت علي، فاضطربا ضربات فقتله عليّ، وانهزم اليهود إلى حصنهم.
خبر مرحب اليهودي ومقتله
ثم خرج مرحب فحمل على عليّ وضربه، فاتقاه بالتّرس، فأطن ترس علي رضي اللَّه عنه، فتناول بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده حتى فتح اللَّه عليه الحصن، وبعث رجلا يبشر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بفتح حصن مرحب.
ويقال: إن باب الحصن جرّب بعد ذلك، فلم يحمله أربعون رجلا. وروي- من وجه ضعيف عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا، فكان جهدهم أن أعادوا الباب. وعن أبي رافع: فلقد رأيتني في نفر مع سبعة- أنا ثامنهم- نجهد أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه. وزعم بعضهم: أن حمل عليّ باب خيبر لا أصل له، وإنما يروى عن رعاع الناس. وليس كذلك، فقد أخرجه ابن إسحاق في سيرته عن أبي رافع، وأن سبعة لم يقلبوه. وأخرجه الحاكم من طرق منها: عن أبي علي الحافظ: حدثنا الهيثم بن خلف الدوري، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري [نسيب] [ (2) ] السّدّي، حدثنا المطلب بن زياد، حدثنا الليث بن أبي سليم، حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرّب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] زيادة من نسبه (تهذيب التهذيب) ج 1 ص 325.(1/310)
خبر مرحب وأسير وياسر ومقتلهم
ويقال: إن مرحبا برز كالفحل الصئول يدعو للبراز، فخرج إليه محمد بن مسلمة فتجاولا ساعة، وضرب محمد مرحبا فقطع رجليه وسقط، فمر به عليّ رضي اللَّه عنه فضرب عنقه وأخذ سلبه، فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سلبه محمد بن مسلمة. وبرز أسير، فخرج له محمد بن مسلمة فقتله محمد، ثم برز ياسر، وكان من أشدائهم، فقال:
قد علمت خيبر أني ياسر ... شاكي السلاح بطل مغاور
إذا الليوث أقبلت تبادر ... وأحجمت من صولتي المخاطر [ (1) ]
إن حماي فيه موت حاضر
فقتله الزبير رضي اللَّه عنه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني زبّار ... قرم لقوم غير نكس فرّار
وابن حماة المجد وابن الأخيار ... ياسر! لا يغررك جمع الكفار
فجمعهم مثل السراب الجرار [ (2) ]
(وفي رواية: «فإنّهم مثل السراب الموّار» )
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبشروا! قد ترحبت خيبر وتيسرت. وبرز عامر فقتله عليّ وأخذ سلاحه.
البشرى بقتل قاتل محمود بن مسلمة
ولما قتل مرحب بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جعيل بن سراقة الغفاريّ يبشر محمود ابن مسلمة: أن اللَّه قد أنزل فرائض البنات، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله، فسر بذلك، ومات في اليوم الّذي قتل فيه مرحب، بعد ثلاث من سقوط الرحى عليه.
فتح حصن الصعب بن معاذ بعد الجوع والجهد
وكان الناس قد أقاموا على حصن النطاة عشرة أيام لا يفتح، وجهدهم الجوع،
__________
[ (1) ] في (الطبري) ج 3 ص 11 «وأحجمت عن صوتي المغاور» .
[ (2) ] في (خ) «فإنّهم مثل الشراب الجار» وما أثبتناه من (الطبري) ج 3 ص 11.(1/311)
فبعثوا أسماء بن حارثة بن هند بن عبد اللَّه بن غياث بن سعد بن عمرو بن عامر ابن ثعلبة بن مالك بن أفصى الأسلمي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نشكو الجوع والضعف، فادع اللَّه لنا! فقال: اللَّهمّ افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعاما وأكثره ودكا.
ودفع اللواء إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وندب الناس. فما رجعوا حتى فتح اللَّه عليهم حصن الصعب.
خبر أبي اليسر في إطعام المسلمين
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟ فقال أبو اليسر كعب ابن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة: أنا يا رسول اللَّه! وخرج يسعى مثل الظبي، فقال عليه السلام: اللَّهمّ متعنا به!
فأدرك الغنم وقد دخل أولها الحصن، فأخذ شاتين من آخرها واحتضنهما، ثم أقبل عدوا، فأمر بهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذبحتا [ (1) ] وقسمتا، فما بقي أحد من أهل العسكر المحاصرين الحصن إلا أكل منها، وكانوا عددا [ (2) ] كثيرا.
نحر الحمر الإنسية وتحريم لحمها
وخرج من الحصن عشرون حمارا أو ثلاثون، فأخذها المسلمون وانتحروها، وطبخوا لحومها، فمر بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهم على تلك الحال، فسأل، فأخبر خبرها، وأمر فنودي: إن رسول اللَّه نهاكم عن لحوم [الحمر] [ (3) ] الإنسية فأكفئوا القدور.
النهي عن متعة النساء وكل ذي ناب ومخلب
[نهاكم] [ (4) ] عن متعة النساء [ (5) ] ، وعن كل ذي ناب ومخلب. وذبح المسلمون فرسين قبل فتح حصن الصعب فأكلوا.
__________
[ (1) ] في (خ) «قد لحقا» .
[ (2) ] في (خ) «عدادا» .
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] يقول (ابن القيم) في (زاد المعاد) ج 3 ص 343 وما بعدها: «ولم تحرم المتعة يوم خيبر وإنما كان تحريمها عام الفتح هذا هو الصواب» .
«وقال الشافعيّ: لا أعلم شيئا حرّم، ثم أبيح، ثم حرّم إلا المتعة، قالوا: نسخت مرتين، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لم تحرم إلا عام الفتح» .(1/312)
مقتل عامر بن سنان الأنصاري
وقتل عامر بن سنان الأنصاري- عمّ سلمة [ (1) ] بن عمرو بن الأكوع [وسنان هو الأكوع]- وقد لقي يهوديا فبدره بضربة، فاتقى عامر بدرقته، فنبا سيف اليهودي عنه، وضرب عامر رجل اليهودي فقطعها، ورجع السيف عليه، فنزف فمات. فقال أسيد بن حضير: حبط عمله.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذب من قال ذلك، إن له لأجرين، إنه جاهد [ (2) ] مجاهد، وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص [ (3) ] .
خبر حصن الصعب
ولما أقام المسلمون على حصن الصعب يومين، عدا بهم الحباب بن المنذر في اليوم الثالث ومعه الراية، فقاتلهم أشد قتال. وبكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتراموا بالنبل، وقد ترس المسلمون على رسول اللَّه. ثم حملت اليهود حملة منكرة، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو واقف قد نزل عن فرسه، ومدعم [ (4) ] يمسك الفرس، وثبت الحباب برايته يراميهم على فرسه. فندب رسول اللَّه الناس وحضهم على الجهاد فأقبلوا حتى زحف بهم الحباب، واشتد الأمر، فانهزمت يهود وأغلقوا الحصن عليهم، ورموا من أعلى جدره بالحجارة رميا كثيرا فتباعد عنه المسلمون ثم كروا. فخرجت يهود وقاتلوا أشد قتال، فقتل ثلاثة من المسلمين، ثم هزمهم اللَّه تعالى.
غنائم حصن الصعب
واقتحم المسلمون الحصن يقتلون ويأسرون. فوجدوا فيه من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك كثيرا [ (5) ] فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلوا
__________
[ (1) ] في (خ) «مسلمة» .
[ (2) ] الجاهد: الجاد في أمره.
[ (3) ] الدعموص: دويبة أو دودة تكون في الغدران إذا نشّت (ترتيب القاموس) ج 2 ص 187. والغدران:
جمع غدير.
[ (4) ] مدعم: اسم عبد اسود.
[ (5) ] في (خ) «كبيرا» .(1/313)
واعلفوا ولا تحتملوا [يعنى لا تخرجوا به إلى بلادكم
] . فأخذوا من ذلك الحصن طعامهم، وعلف دوابهم، ولم يمنع أحد من شيء، ولم يخمس. ووجدوا بزّا في عشرين عكما [ (1) ] محزمة من متاع المين [ (2) ] ، ووجدوا خوابي سكر [ (3) ] ، فأمر بالسكر فكسر خوابيه. ووجدوا آنية من نحاس وفخار كانت يهود تأكل فيها وتشرب،
فقال عليه السلام: اغسلوها واطبخوا، وكلوا فيها واشربوا.
وأخرجوا منها غنما وبقرا وحمرا، وآلة الحرب، ومنجنيقا، ودبابات وعدة، وخمسمائة قطيفة، وعشرة أحمال خشب [ (4) ] فأحرق،
وشرب الخمر رجل من المسلمين يقال له: «عبد اللَّه الحمار» [ (5) ] ، فخفقه رسول اللَّه بنعليه، وأمر من حضروه فخفقوه [ (6) ] بنعالهم.
ولعنه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: فإنه يحب اللَّه ورسوله!
ثم راح عبد اللَّه كأنه أحدهم، فجلس معهم.
فتح قلعة الزبير
وتحولت يهود إلى قلعة [ (7) ] الزبير، فزحف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم وحصرهم- وكانوا في حصن منيع- مدة ثلاثة أيام حتى فتحه، وكان آخر حصون النطاة.
فتح حصون الشق
ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنفال والعسكر أن يحول من الرجيع إلى مكانه الأول بالشّق، وبه عدة حصون، فنازلها حتى فتحها. ووجد في حصن منها صفية بنت حيي وابنة عمها، ونسيّات معها وذراري، يبلغ عدة الجميع زيادة على ألفين.
مصالحة كنانة بن أبي الحقيق على أهل الكتيبة
وصالح كنانة بن أبي الحقيق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [على] [ (8) ] أهل الكتيبة فأمن
__________
[ (1) ] العكم: من قوله: عكم المتاع يعكمه، شده بثوب (ترتيب القاموس) ج 2 ص 664.
[ (2) ] في (خ) «اليمين» .
[ (3) ] خوابي: جمع خابية وهي كالدق، والسّكر: كل ما يسكر.
[ (4) ] في (خ) ، (ط) «كشوب» وهو خطأ من الناسخ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 664.
[ (5) ] كذا في (خ) ، (ط) وفي المرجع السابق «عبد اللَّه الحمّار» .
[ (6) ] في (خ) «فخفوهم» .
[ (7) ] في (خ) «قطعة» .
[ (8) ] زيادة للسياق.(1/314)
الرجال والذرية، ودفعوا إليه الأموال من الذهب والفضة والحلقة والثياب إلا ثوبا على إنسان، بعد ما حصرهم أربعة عشر يوما. وقال مالك، عن ابن شهاب:
والكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح. وقال ابن وهب: قلت لمالك: وما الكتيبة؟
قال: من أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق. فوجد خمسمائة قوس عربية، ومائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح.
ما كتبه ابن أبي الحقيق من أموال يهود وما كان فيه من الغنائم
وسأل [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] كنانة بن أبي الحقيق عن الأموال-
وكان قد قال صلّى اللَّه عليه وسلّم حين صالحه برئت منكم ذمة اللَّه وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا- فقال كنانة: يا أبا القاسم! أنفقناه في حربنا فلم يبق منه شيء! وأكد الأيمان، فقال رسول اللَّه: برئت منكم ذمة اللَّه وذمة رسوله إن كان عندكم؟ قال: نعم! ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: وكل ما أخذت من أموالكم، وأصبت من دمائكم، فهو حل لي ولا ذمة لكم؟ قال: نعم! وأشهد عليه عدة من المسلمين ومن يهود.
فدله سعية [ (2) ] ابن سلام بن أبي الحقيق على خربة، فبعث عليه السلام الزبير في نفر مع سعية [ (2) ] حتى حفر، فإذا كنز في مسك [ (3) ] جمل، فيه حلي. فأتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر الزبير أن يعذب كنانة حتى يستخرج كل ما عنده، فعذبه حتى جاءه بمال، ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة فقتله بأخيه محمود، وعذب ابن أبي الحقيق الآخر، ثم دفع إلى ولاة بشر بن البراء فقتل به، وقيل ضرب عنقه، واستحل صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك أموالهما، وسبي ذراريهما. ووجد في المسك: أسورة الذهب، ودمالج الذهب، وخلاخل الذهب، وأقرطة ذهب، ونظم من جوهر وزمرّد، وخواتم ذهب، وفتخ بجزع ظفار مجزع [ (4) ] بالذهب. [وذكر] [ (5) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) و (الواقدي) ج 2 ص 672 «ثعلبة» .
[ (3) ] مسك الدابة: جلدها بعد السلخ.
[ (4) ] في (خ) «وفتح بجرع ظفار مجرع» ، والفتح. الدبلة، وجزع الظفار: سبق شرحه في حديث الإفك.
[ (5) ] كذا في (خ) ، والسياق مستقيم بدونها.(1/315)
صفية بنت حيي: إسلامها، وزواج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بها
وكانت صفية بنت حيي تحت كنانة بن أبي الحقيق، فسباها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبعث بها مع بلال إلى رحله، فمر بها وبابنة عمها على القتلى، فصاحت ابنة عمها صياحا شديدا،
فكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما صنع بلال وقال: ذهبت منك الرحمة؟
تمر بجارية حديثة السن على القتلى!!
فقال: يا رسول اللَّه! ما ظننت أنك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها! فدفع ابنة عم صفية إلى دحية الكلبي، وأعتق صفية وتزوجها، وجعل عتقها صداقها.
خبر الشاة المسمومة التي أكل منها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقتلت بشر بن البراء
ثم إن زينب ابنة الحارث اليهودية أخت مرحب [ (1) ] ، ذبحت عنزا لها وطبختها وسمتها، فلما صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المغرب وانصرف إلى منزله، وجد زينب عند رحله، فقدمت له الشاة هدية. فأمر بها فوضعت بين يديه، وتقدم هو وأصحابه إليها ليأكلوا، فتناول الذراع، وتناول بشر بن البراء عظما،
وانتهس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم ازدرد، وقال: كفّوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة!
فقال بشر بن البراء: واللَّه يا رسول اللَّه، وجدت ذلك من أكلتي [ (2) ] التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أنغّص عليك طعامك. فلم يرم [ (3) ] بشر من مكانه حتى تغير ثم مات.
ودعا رسول اللَّه زينب وقال: سممت الذراع؟ قالت: من أخبرك؟
قال: الذراع! قالت: نعم! قال: وما حملك على ذلك؟ قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبيا فستخبره الشاة، وإن كان ملكا استرحنا منه! فقيل: أمر بها فقتلت ثم صلبت [ (4) ] ، كما رواه أبو داود.
وقيل: عفا عنها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي سنن أبي داود ج 4 ص 648، ويرى بعض الرواة أن «زينب بنت الحارث» هذه هي ابنة أخي مرحب اليهودي، راجع (مجمع الزوائد) ج 6 ص 153.
[ (2) ] أكلتي: لقمتي.
[ (3) ] لم يرم: لم يفارق مكانه.
[ (4) ] (مجمع الزوائد) ج 8 ص 296.
[ (5) ] (سنن أبي داود) ج 4 ص 647 وما بعدها، (باب من سقى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟) الأحاديث أرقام: 5408، 5409، 5410، 5411، 5412، 5413، 5414 وقال الخطابي في(1/316)
الاختلاف في قتل صاحبة الشاة المسمومة
وقد اختلفت [ (1) ] الآثار في قتلها [ (2) ] : ففي صحيح مسلم أنه لم يقتلها، وهو مروي عن أبي هريرة وجابر، وفي أبي داود أنه قتلها. وعن ابن عباس: دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور، وكان أكل منها فمات بها، فقتلوها. وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول اللَّه قتلها. وكان نفر ثلاثة قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا، فأمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاحتجموا أوساط رءوسهم.
احتجام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سم الشاة
واحتجم صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت كتفه اليسرى، وقيل: على كاهله، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم في مرض موته: ما زالت أكلة خيبر يصيبني منها عداد [ (3) ] ، حتى كان هذا أوان أن تقطع أبهري [ (4) ] .
ويقال: الّذي مات مسموما من الشاة بشر بن البراء، وبشر أثبت.
مغانم خيبر
واستعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على مغانم خيبر فروة بن عمرو بن وذفة [ (5) ] بن عبيد ابن عامر بن بياضة البياضي الأنصاري، فلم يخمس الطعام والأدم والعلف، بل أخذ
__________
[ () ] (معالم السنن) ج 4 ص 649 «وفي الحديث دليل على إباحة أكل طعام أهل الكتاب، وجواز مبايعتهم ومعاملتهم، مع إمكان أن يكون في أموالهم الربا ونحوه من الشبهة» .
[ (1) ] في (خ) «اختلف» .
[ (2) ] وفي (الشفا) للقاضي عياض ج 1 ص 268، 269: « ... قال: فأمر بها فقتلت،
وقد روى هذا الحديث أنس، وفيه قالت: أردت قتلك فقال: ما كان اللَّه ليسلطك على ذلك، فقالوا: نقتلها، قال:
لا. وكذلك روى عن أبي هريرة من رواية غير وهب، قال: فما عرض لها، ورواه أيضا جابر بن عبد اللَّه، وفيه: أخبرني به هذه الذراع، قال: ولم يعاقبها، وفي رواية ابن إسحاق وقال فيه: فتجاوز عنها،
وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتل اليهودية التي سمته، وقد ذكرنا اختلاف الروايات في ذلك عن أبي هريرة وأنس وجابر، وفي رواية ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه دفعها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها» .
[ (3) ] العداد: اهتياج وجع اللديغ بعد سنة (ترتيب القاموس) ج 3 ص 170.
[ (4) ] الأبهر: وريد العنق (المرجع السابق) ج 1 ص 231.
[ (5) ] في (خ) «ودفة بن عميل» والصواب ما أثبتناه من كتب السيرة.(1/317)
الناس منه حاجتهم. وكان من احتاج إلى سلاح يقاتل به أخذه من صاحب المغنم ثم رده [ (1) ] إليه.
فلما اجتمعت المغانم كلها جزأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسة أجزاء، وكتب في سهم منها للَّه، وسائر السهمان أغفال. وكان أول سهم خرج سهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لم يتخير في الأخماس. ثم أمر ببيع الأخماس الأربعة فيمن يزيد، فباعها فروة ابن عمرو، ودعا فيها صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبركة فقال: اللَّهمّ ألق عليها النّفاق! - فتداك الناس عليها حتى نفق في يومين، وكان يظن أنهم لا يتخلصون منه حينا لكثرته. فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خمسه ما أراد اللَّه: فأعطى أهله، وأعطى رجالا من بني عبد المطلب ونساء، وأعطى اليتيم والسائل.
وجمعت مصاحف فيها التوراة، ثم ردّت على يهود.
الغلول من الغنائم
ونادى منادي رسول اللَّه: أدّوا الخياط والمخيط [ (2) ] ، فإن الغلول عار وشنار، ونار يوم القيامة!
فعصب فروة رأسه بعصابة ليستظل بها من الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: عصابة من نار عصبت بها رأسك! فطرحها.
وسأل رجل أن يعطى من الفيء شيئا فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا يحل من الفيء خيط ولا مخيط لأحد، ولا معطي.
وسأله رجل عقالا فقال: حتى تقسم الغنائم ثم أعطيك عقالا،
وقتل [ (3) ] كركرة يومئذ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه الآن ليحرق في النار على شملة غلها. وتوفي رجل من أشجع فلم يصلّ عليه، وقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل اللَّه:
فوجد في متاعه خرز [ (4) ] لا يساوي درهمين. واشترى الناس يومئذ تبرأ بذهب جزافا [ (5) ] ، فنهى [ (6) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك. ووجد رجل في خربة مائتي درهم، فأخذ منها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخمس ودفعها إليه.
__________
[ (1) ] في (خ) «ردوه» .
[ (2) ] الخياط والمخيط: الخيط والإبرة، (راجع مسند الحميدي) ج 2 ص 396 حديث رقم 894.
[ (3) ] في (خ) «وقيل» .
[ (4) ] في (خ) «حزو» وما أثبتناه من (المغازي) ج 2 ص 681.
[ (5) ] في (خ) «وأسرى الناس يومئذ يذهب جزافا» وما أثبتناه من المرجع السابق ج 2 ص 682.
[ (6) ] في (خ) «فانتهى» وفي (ط) «فهي» وفي (المغازي) «فلهى» .(1/318)
النهي عن أشياء
وسمع [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] يومئذ يقول: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره [ (2) ] ، ولا يبع شيئا من المغنم حتى يعلم. ولا يركب دابة من المغنم حتى إذا أدبرها [ (3) ] ردّها. ولا يلبس ثوبا من المغنم حتى إذا أخلقه ردّه، ولا يأت [ (4) ] امرأة من السبي حتى تستبرأ بحيضة، وإن كانت حبلى حتى تضع الحمل.
ومرّ على امرأة مجح [ (5) ] فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان. فقال: لعله يطؤها؟
قالوا: نعم! قال: كيف بولدها؟ يرثه وليس بابنه، ويسترقه، وهو يغذو [ (6) ] في سمعه وبصره! لقد هممت أن ألعنه لعنة تتبعه في قبره.
قدوم أصحاب السفينتين
وقدم أهل السفينتين من عند النجاشي بعد أن فتحت خيبر، فيهم جعفر بن أبي طالب وأبو موسى عبد اللَّه بن قيس الأشعري، في جماعة من [ (7) ] الأشعريين يزيدون على سبعين. وذكر ابن سعد عن الواقدي بسنده [ (8) ] : أنهم لما سمعوا خبر هجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، رجع ثلاثة وثلاثون رجلا وثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر. وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا. فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة، كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمريّ، فأسلم. وكتب إليه أيضا أن يزوجه أم حبيبة [بنت أبي سفيان] [ (9) ]- وكانت فيمن هاجر إلى الحبشة- فزوجه إياها. وكتب إليه أيضا أن يبعث بمن بقي عنده من أصحابه
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] الماء: المنى، وزرع غيره، الحمل الّذي من غيره.
[ (3) ] في (الواقدي) «براها» وأدبر الدابة: أنقل عليها الحمل. والدبرة: فرحة الدابة (ترتيب القاموس) ج 2 ص 146.
[ (4) ] في (خ) «ولا يأتي» .
[ (5) ] في (خ) «نجح» والمجح: الحامل المقرب التي دنا ولدها (النهاية) ج 1 ص 240.
[ (6) ] في (المغازي) «يعدو» ج 2 ص 683، وفي (ط) «يغزو» ، وفي سنن الدارميّ ج 2 ص 227 باب النهي عن وطء الحبالي:
«عن أبي الدرداء أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى امرأة مجحة يعنى حبلى ... فقال لعله قد ألمّ بها قالوا نعم، قال لقد هممت أن العنة لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ وكيف يستخدمه وهو لا يحل له؟» .
[ (7) ] في (خ) «في» .
[ (8) ] (المغازي) ج 2 ص 683.
[ (9) ] زيادة للبيان من (ط) .(1/319)
ويحملهم، فحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية، فأرسلوا بساحل بولا وهو الجار [ (1) ] . ثم ساروا حتى قدموا المدينة،
فوجدوا [ (2) ] رسول اللَّه بخيبر فأتوه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما أدري بأيهما أنا أسر؟ قدوم جعفر، أو فتح خيبر!! ثم ضمّه وقبل بين عينيه.
إشراك القادمين في غنائم خيبر
وهمّ المسلمون أن يدخلوا جعفرا ومن قدم معه في سهمانهم ففعلوا، وقدم الدوسيون، فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم، ونفر من الأشعريين، فكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه [ (3) ] فيهم أن يشركوهم في الغنيمة، فقالوا: نعم، يا رسول اللَّه.
الخمس وقسمته
وكان الخمس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كل مغنم غنمه المسلمون، شهده أو غاب عنه. وكان لا يقسم لغائب في مغنم لم يشهده، إلا أنه في بدر ضرب لثمانية لم يشهدوا، وكانت خيبر لأهل الحديبيّة من شهدها أو غاب عنها. قال اللَّه سبحانه:
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [ (4) ]- يعني خيبر، وقد تخلف عنها رجال، ومات رجلان وأسهم صلّى اللَّه عليه وسلّم لمن تخلف منهم ومن مات، وأسهم لمن شهد خيبر ولم يشهد الحديبيّة، وأسهم لرسل كانوا يختلفون إلى أهل فدك، وأسهم لثلاثة مرضى لم يحضروا القتال، وأسهم للذين استشهدوا. وقيل: كانت خيبر لأهل الحديبيّة، لم يشهدها غيرهم، ولم يسهم فيها لغيرهم، والأول أثبت.
وأسهم لعشرة من يهود المدينة- غزّاهم إلى خيبر- كسهمان المسلمين، ويقال: أحذاهم [ (5) ] ولم يسهم لهم، وأعطى مماليك كانوا معه ولم يسهم.
__________
[ (1) ] الجار: «مدينة على ساحل بحر القلزم، بينها وبين المدينة يوم وليلة ... » وهي فرضة ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن والصين وسائر بلاد الهند (معجم البلدان) ج 2 ص 92، 93.
[ (2) ] في (خ) «فواجدوا» .
[ (3) ] في (خ) «وأصحابه» .
[ (4) ] الآية 20/ الفتح.
[ (5) ] في (خ) «أحداهم» وأحذى: منح ووهب.(1/320)
من شهد خيبر من النساء
وشهد خيبر عشرون امرأة، منهن: أم المؤمنين أم سلمة، وصفية بنت عبد المطلب، وأم أيمن، وسلمى امرأة أبي رافع مولاة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وامرأة عاصم بن عدي، [وولدت بخيبر سهلة بنت عاصم] ، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم منيع وهي أم شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلمية، وأم مطاوع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية، وهند بنت عمرو بن حرام، وأم العلاء الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط، وأمية بنت قيس الغفارية، فرضخ لهن [ (1) ] من الفيء ولم يسهم لهن. وولدت امرأة عبد اللَّه بن أنيس فأحذاها ومن ولدته.
خبر أفراس المؤمنين وسهمانها
وقاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في خيبر ثلاثة أفراس: لزار، والظّرب، والسكب.
وقاد المسلمون مائتي فرس، وقيل: ثلاثمائة، والأول أثبت. فأسهم لمن له فرسان خمسة أسهم: أربعة لفرسيه وسهما له [ (2) ] ، ولم يسهم لأكثر من فرسين لرجل واحد. ويقال: إنه لم يسهم إلا لفرس واحد، وهذا أثبت. ويقال: إنه عرّب العربيّ وهجّن الهجين [ (3) ] يوم خيبر، فأسهم للعربي دون الهجين. وقيل: لم يكن في عهده عليه السلام هجين، إنما كانت العراب [ (4) ] حتى كان زمن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وفتحت الأمصار، ولم يسمع أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرب لما كان معه من الخيل لنفسه إلا لفرس واحد، فكان له صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أسهم: لفرسه سهمان وله سهم.
إحصاء الناس بخيبر
وولي إحصاء الناس بخيبر زيد بن ثابت، فقسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينهم الغنائم:
__________
[ (1) ] رضخ له: أعطاه عطاء يسيرا.
[ (2) ] في (سنن الدارميّ) ج 2 ص 325، 326: «عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهمين» .
[ (3) ] الهجين من الخيل: ما كانت أمه غير عربية، وهو عيب يعاب به.
[ (4) ] العراب: من الخيل الأصيل.(1/321)
وهم ألف وأربعمائة، والخيل مائتا فرس. وكانت السهمان التي في النطاة والشق على ثمانية عشر سهما. وكان من كان فارسا له في ذلك ثلاثة أسهم فوضى لم تحد ولم تقسم، إنما لها رءوس مسمون، لكل مائة رأس يقسم على أصحابه ما خرج من غلتها.
مساقاة اليهود على زرع خيبر
ولما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، ساقى [ (1) ] يهود على الشطر من الثمر والزرع، وكان يزرع تحت النخل، وكان يبعث عبد اللَّه بن رواحة يخرص [ (2) ] عليهم النخل، ويقول إذا خرص، إن شئتم [فلكم] [ (3) ] ، وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم فلنا، ونضمن لكم ما خرصت. وخرص عليهم أربعين ألف وسق [ (4) ] . فلما قتل ابن رواحة بمؤتة «خرص عليهم أبو الهيثم بن التّيهان، وقيل: جبار بن صخر، وقيل: فروة بن عمرو.
شكوى اليهود من المسلمين وإنصافهم
وجعل المسلمون يقعون [ (5) ] في حرثهم وبقلهم بعد المساقاة، فشكت يهود ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنادى عبد الرحمن بن عوف: الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم، فاجتمع المسلمون،
فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: إن يهود شكوا إليّ أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم،
__________
[ (1) ] المساقاة: «ما كان في النخل والكرم وجميع الشجر الّذي يثمر بجزء معلوم من الثمرة للأجير، وإليه ذهب الجمهور، وخصها الشافعيّ في قوله الجديد بالنخل والكرم، وخصها داود بالنخل، وقال مالك تجوز في الزرع والشجر، ولا تجوز في البقول عند الجمع» . (نيل الأوطار للشوكاني) ج 6 ص 8.
[ (2) ] الخرص: الحرز (ترتيب القاموس) ج 2 ص 37، وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن تفسيره:
أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما تجب فيه الزكاة، بعث الإمام خارصا ينظر، فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا، وكذا تمرا فيحصيه، وينظر مبلغ العشر فيه فيثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ، أخذ منهم العشر، وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق.
[ (3) ] زيادة للسياق، وفي (الواقدي) ج 2 ص 691: (إن شئتم فلكم وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم فلنا ونضمن لكم ما خرصت) .
[ (4) ] الوسق: ستون صاعا أو حمل بعير (ترتيب القاموس) ج 4 ص 611.
[ (5) ] وقع في الحرث: ترك دوابه ترعى فيه.(1/322)
وعلى أموالهم التي في أيديهم في أراضيهم، وعاملناهم [ (1) ] وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها.
فكان [ (2) ] المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئا إلا بثمن.
خبر الكتيبة وأنها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالصة
وقيل: إن الكتيبة كانت للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم خالصة، لأنهم لم يوجفوا عليها [ (3) ] ، وقيل: هي خمسه من خيبر. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم يطعم من الكتيبة من أطعم، وينفق على أهله منها، وكانت تخرص ثمانية آلاف وسق تمرا، فليهود نصفها: أربعة آلاف.
وكان يزرع فيها الشعير، فيحصد منه ثلاثة آلاف صاع، لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفه، وليهود نصفه. وربما اجتمع منها ألف صاع نوى [ (4) ] ، هي أيضا بينهما نصفين.
فأطعم من الكتيبة كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا تمرا، وعشرين وسقا شعيرا، وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق، ولفاطمة وعلي عليهما السلام ثلاثمائة وسق شعيرا وتمرا، ولأسامة بن زيد مائة وخمسين وسقا شعيرا وتمرا، وأطعم آخرين.
وقسم بين ذوي [ (5) ] القربى بخيبر: بين بني هاشم وبني عبد المطلب فقط.
شهداء خيبر
واستشهد بخيبر خمسة عشر رجلا: أربعة من المهاجرين، والبقية من الأنصار.
فقيل: صلى عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقيل: لم يصل عليهم.
وقتل من يهود ثلاثة وتسعون رجلا، وأعطى صلّى اللَّه عليه وسلّم جبل [ (6) ] بن جوال الثعلبي كل داجن بخيبر، وقيل: إنما أعطاه كل داجن [ (7) ] في النطاة، ولم يعطه من الكتيبة ولا من الشق شيئا.
ما نهي عنه في خيبر
وفي غزاة خيبر نهى صلّى اللَّه عليه وسلّم: عن أكل الحمار الأهلي [ (8) ] ، وعن أكل كل ذي
__________
[ (1) ] المعاملة: المساقاة في كلام فقهاء العراق.
[ (2) ] في (خ) «وكان» .
[ (3) ] وجف: ضرب من سير الخيل والإبل (ترتيب القاموس) ج 4 ص 578.
[ (4) ] نوى: جمع نواة.
[ (5) ] في (خ) «وقسم بينهم ذي القربى» .
[ (6) ] في (خ) جبلة.
[ (7) ] الداجن: الحمام والشاة وغيرها ألفت البيوت (ترتيب القاموس) ج 2 ص 152.
[ (8) ] (سنن أبي داود) ج 4 ص 164 حديث رقم 3811.(1/323)
ناب من السباع [ (1) ] ، وأن توطأ الحبالى حتى يضعن، وعن أن تباع السهام حتى تقسم [ (2) ] ، وأن تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها [ (3) ] . ولعن يومئذ الواصلة والموصلة [ (4) ] ، والواشمة والموشومة [ (4) ] ، والخامشة وجهها [ (5) ] ، والشاقة جيبها [ (6) ] ، وحرم لحوم البغال وكل ذي مخلب من الطيور، وحرم المجثّمة [ (7) ] والخليسة [ (8) ] ، والنّهبة [ (9) ] ، ونهى عن قتل النساء.
بلوغ خبر خيبر إلى أهل مكة
وقدم عباس بن مرداس السلمي مكة، فخبّر أن محمدا سار إلى خيبر، وأنه لا يفلت. فقال صفوان بن أمية: أنا معك يا عباس. وضوى معه نفر، وقال حويطب بن عبد العزّى: إن محمدا سيظهر [ (10) ] . ووافقه جماعة، فتخاطر [ (11) ] مائة بعير. فلما جاء الخبر بظهور [ (10) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ حويطب وحيّزه [ (12) ] الرهن.
وكان الّذي جاءهم بذلك علاط السّلمي [بن ثويرة بن حنثر بن هلال بن عبيد ابن ظفر بن سعد بن عمرو بن تيم بن بهز] [ (13) ] بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم ابن منصور، وقد أسلم بخيبر. [وكان قد استأذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يأتي مكة،
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ج 4 ص 159، 160 حديث رقم 3802، 3805.
[ (2) ] (سنن الدارميّ) ج 2 ص 226، 227.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 3 ص 669 حديث رقم 3373.
[ (4) ]
(سنن أبي داود) ج 4 ص 396 باب صلة الشعر حديث رقم 4168 «لعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة» وأخرجه البخاري في اللباس باب تحريم فعل الواصلة، والترمذي في اللباس حديث 1814 باب ما جاء في مواصلة الشعر، وسنن النسائي ص 145 في الواصلة والمستوصلة، ص 147 في المتوشمات.
[ (5) ] خمش وجهه: خدشه ولطمه وضربه (ترتيب القاموس) ج 2 ص 109.
[ (6) ] (سنن النسائي) ج 4 ص 2، 21 باب ضرب الخدود، وشق الجيوب.
[ (7) ] المجثمة: هي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل، إلا أنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم في الأرض: أي يلزمها ويلتصق بها. (النهاية) ج 1 ص 239.
[ (8) ] في (خ) «الخلسة» والخليسة: وهي ما يستخلص من السبع فيموت قبل أن يذكى، من خلست الشيء واختلسته إذا سلبته، وهي فعيلة بمعنى مفعولة (النهاية) ج 2 ص 61.
[ (9) ] النّهبة: ما ينهب من الشيء.
[ (10) ] من الظهور: وهو النصر والغلبة.
[ (11) ] تخاطرا: تراهنا.
[ (12) ] في (خ) «وجيزة» والحيزة: الناحية.
[ (13) ] في (خ) بعد «السلمي» ما نصه: «بن عمرو بن زهير بن امرئ القيس ... » وصواب النسب ما بين القوسين.(1/324)
وكان له بها مال وأهل، وتخوّف إن علمت قريش بإسلامه أن يذهبوا بماله، فأذن له رسول اللَّه أن يأتي مكة] [ (1) ] ليجمع ماله.
مصالحة أهل فدك
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أقبل أهل خيبر، بعث محيّصة بن مسعود بن كعب ابن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري إلى فدك، يدعوهم إلى الإسلام، فبعثوا معه بنفر منهم، حتى صالحهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أن يخلّوا بينه وبين الأموال، وأن لهم نصف الأرض: وصارت [ (2) ] فدك خالصة لرسول اللَّه أبدا، أخذها بغير إيجاف خيل ولا ركاب.
إعراسه بصفية بنت حيي
وانصرف صلّى اللَّه عليه وسلّم من خيبر يريد وادي [ (3) ] القرى، فلما كان بالصهباء أعرس بصفية بنت [ (4) ] حيي مساء، وأو لم عليها [ (5) ] بالحيس والسّويق والتمر [ (6) ] . وبات أبو أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه قريبا من قبته، آخذا بقائم السيف حتى أصبح، وهو يحرسه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
غزوة وادي القرى
فلما انتهى إلى وادي القرى- وقد ضوى إليها [ (7) ] ناس من العرب- استقبله اليهود بالرّمي، فقلت مدعم [ (8) ] ، - وهو يحط رحل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- بسهم، فعبأ عليه السلام أصحابه وصفّهم للقتال، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبّاد بن بشر. ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرزوا فقتل منهم أحد عشر رجلا. وبات عليهم وغدا لقتالهم،
__________
[ (1) ] ما بين القوسين سقط في (خ) وقد استوفيناه من كتب السيرة.
[ (2) ] في (خ) «وضارب» .
[ (3) ] في (خ) «وأخرى» .
[ (4) ] في (خ) «بن حيي» .
[ (5) ] أولم: من الوليمة.
[ (6) ] الحيس: طعام العرب، والسويق: يتخذ من الحنطة والشعير.
[ (7) ] ضوى إليه ضيّا وضويا، وانضوى إليه، إذا أوى إليه (الفائق للزمخشري) ج 2 ص 350.
[ (8) ] مدعم: غلام لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(1/325)
فأعطوا بأيديهم [ (1) ] ، فأخذها عنوة، وغنم ما فيها فقسمه، وعامل يهود على النخل.
مصالحة يهود تيماء
فطلب يهود تيماء الصلح فصولحوا على الجزية، وأقاموا على أموالهم. وانصرف صلّى اللَّه عليه وسلّم من وادي القرى- وقد أقام أربعة أيام- يريد المدينة، فلما قرب منها نزل وعرّس.
النوم عن صلاة الصبح
فنام ومن معه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فأذن بلال، وركعوا ركعتي الفجر، ثم صلى بهم حتى إن أحدهم ليسلت [ (2) ] العرق عن جبينه من حرّ الشّمس، فلما سلم
قال: كانت أنفسنا بيد اللَّه، فلو شاء قبضها، وكان أولى بها، فلما ردّها إلينا صلينا، ثم أقبل على بلال- وكان قد قال قبل أن ينام: ألا رجل صالح حافظ لعينيه يحفظ لنا صلاة الصبح؟ فقال بلال: أنا! ثم نام معهم، غلبته عيناه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] : مه [ (4) ] يا بلال؟ فقال: بأبي وأمي، قبض نفسي الّذي قبض نفسك! فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (5) ] . وقد قيل: إن ذلك كان مرجعه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
__________
[ (1) ] أعطى بيده: سلم من غير قتال.
[ (2) ] سلت: مسح (ترتيب القاموس) ج 2 ص 590.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] مه: كلمة استفهام بمعنى ماذا.
[ (5) ] (المغازي للواقدي) ج 2 ص 212، (باب النوم عن الصلاة حديث رقم 24، 25، (سنن أبي داود) حديث رقم 435، 436 باب من نام عن الصلاة أو نسيها وقال الخطابي في (معالم السنن) ج 1 ص 302:
(وفي الحديث من الفقه أنهم لم يصلوا في مكانهم ذلك عند ما استيقظوا حتى اقتادوا رواحلهم ثم توضئوا ثم أقام بلال وصلى بهم. وقد اختلف الناس في معنى ذلك وتأويله فقال بعضهم: إنما فعل ذلك لترتفع الشمس قال تكون صلاتهم في الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وذلك أول ما تبزغ الشمس قالوا:
والفوائت لا تقضى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وعلى هذا مذهب أصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي والشافعيّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: نقضي الفوائت في كل وقت نهى عن الصلاة فيه أو لم ينه عنها، وإنما نهى عن الصلاة في تلك الأوقات إذا كانت تطوعا وابتداء من قبل الاختيار دون الواجبات، فإنّها تقضى الفوائت فيها إذا ذكرت أي في وقت كان) .
وانظر أيضا (سنن النسائي) ج 1 ص 298، (سنن ابن ماجة) حديث رقم 697.(1/326)
حنين. والأول قول محمد بن شهاب عن سعيد بن المسيّب، وهو أعلم الناس بالسّير والمغازي، وكذلك سعيد بن المسيّب،
ولا يقاس بهما المخالف لهما في ذلك: وروي عن قتادة أن ذلك كان في جيش الأمراء، وهذا وهم، وجيش الأمراء كان في غزوة مؤتة، ولم يشهدها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وعن عطاء بن يسار أنها كانت في غزوة تبوك، وهذا لا يصح [ (1) ] ، لأن الآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة، وقوله مرسل.
جبل أحد واتخاذ المنبر وحنين الجذع
ولما نظر إلى أحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه [ (2) ] ! اللَّهمّ إني حرّمت ما بين لابتي المدينة [ (3) ] . ونهى أن يطرق الرجل أهله ليلا بعد صلاة العشاء [ (4) ]
ولما قدم المدينة اتخذ المنبر، وله درجتان والمستراح، وخطب عليه فحنّ الجذع [ (5) ] الّذي كان
__________
[ (1) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 357: «لكن قد اضطربت الرواة في هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبه، عن جامع: إن الحارس فيها كان ابن مسعود، وقيل: إن الحارس كان بلالا، واضطربت الرواية في تاريخها، فقال المعتمر بن سليمان عن شعبة عنه: إنها كانت في غزوة تبوك، وقال غيره عنه: أنها كانت في مرجعهم من الحديبيّة، فدلّ على وهم وقع فيها، ورواية الزهري عن سعيد سالمة من ذلك، وباللَّه التوفيق» .
ويقول أيضا في ص 358 من المرجع السابق: فصل في فقه هذه القصة (باختصار) :
- أن من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها.
- أن السنن والرواتب تقضى كما تقضى الفرائض- أن الفائتة يؤذن لها ويقام- قضاء الفائتة جماعة.
- قضاؤها على الفور
لقوله «فليصلها إذا ذكرها»
- وفيها تنبيه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان.
[ (2) ] (مجمع الزوائد) ج 6 ص 155، رواه أحمد، وعقبة، ذكره ابن أبي حاتم وقال: روى عنه عبد العزيز ولم يخرجه، قلت: وروى عن الزهري عند أحمد، وفيه رجاله رجال الصحيح، وانظر أيضا (موطأ مالك) حديث رقم 1610.
[ (3) ] اللابة: الأرض الواسعة، والمدينة ما بين لابتين، (المرجع السابق) حديث رقم 1602.
[ (4) ] (سنن الترمذي) ج 4 ص 166 حديث رقم 2855 «وفي الباب عن أنس وابن عمر وابن عباس. هذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن جابر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد روى عن ابن عباس «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهاهم أن يطرقوا النساء ليلا، قال: فطرق رجلان بعد نهي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوجد واحد منهما مع امرأته رجلا» .
وفي (المغازي) ج 2 ص 712، 713:
«عن أم عمارة قالت سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول وهو بالجرف: لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء.
قالت: فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره فخلّى عن سبيله ولم يهجه، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورأى ما يكره.
[ (5) ] (الشفا للقاضي عياض) ج 1 ص 257، 258 و (دلائل النبوة لأبي نعيم) ج 2 ص 142، 143 و (المطالب(1/327)
يستند إليه إذا خطب.
رد زينب إلى أبي العاص
وفي جمادى الأولى من سنة سبع، ردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع.
سرية عمر بن الخطاب إلى تربة
ثم كانت سرية عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى تربة، في شعبان سنة سبع.
بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ثلاثين رجلا إلى عجر هوازن بتربة، وهي بناحية العبلاء، على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران، فخرج ومعه دليل من بني هلال، فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، حتى أتوا محالهم وقد فرّوا، فلم يلقوا أحدا وعادوا إلى المدينة.
سرية أبي بكر إلى بني كلاب
ثم كانت سرية أبي بكر الصّديق رضي اللَّه عنه إلى بني كلاب بنجد بناحية ضرية، في شعبان هذا، فبيت ناسا من هوازن، وقتل منهم.
سرية بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك
وسرية بشير بن سعد إلى فدك، فيه أيضا. ومعه ثلاثون رجلا ليوقع بني مرّة، فاستاق نعما وشاء وانحدر إلى المدينة، فأدركوه ليلا، وراموهم بالنّبل حتى فنيت نبل المسلمين، وأحيط بهم وأصيبوا. واستاق المريّون نعمهم وشاءهم، فتحامل بشير ابن سعد حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهوديّ حتى اندملت جراحة، وعاد إلى المدينة.
__________
[ () ] العالية لابن حجر) ج 4 ص 3 حديث رقم 3822 باب علامات النبوة و (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 454، باب ما جاء في بدء شأن المنبر حديث رقم 1414، 1415.(1/328)
سرية الزبير بن العوام ثم سرية غالب ابن عبد اللَّه إلى بني مرة أيضا
فهيأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الزبير بن العوام، وبعثه إلى مصاب القوم، ومعه مائتا رجل، وعقد له لواء. ثم بعث غالب بن عبد اللَّه [الليثي] [ (1) ] على مائتي رجل في صفر سنة ثمان، ومعه أسامة بن زيد وعلبة بن زيد الحارثي، فسار حتى دنا منهم، فبعث الطلائع عليها علبة بن زيد، فأعلموه خبرهم، ثم وافاهم، وحض من معه على الجهاد، وأوصاهم بالتقوى، وحمل بهم على القوم، فقاتلوا ساعة ثم حووا الماشية والنساء وقد قتلوا الرجال.
قتل أسامة الرجل الّذي قال: لا إله إلا اللَّه
ومرّ أسامة بن زيد في إثر رجل منهم يقال له: نهيك بن مرداس، حتى دنا منه، فقال: لا إله إلا اللَّه! فقتله، ثم ندم، وأقبل إلى جماعته، فقال له غالب ابن عبد اللَّه: بئس واللَّه ما فعلت! تقتل امرأ يقول: لا إله إلا اللَّه! وساق النّعم والشّاء والسّبي فكانت سهامهم عشرة أبعرة لكل رجل، أو عدلها من الغنم: كل جزور بعشرة. وقدموا المدينة،
فحدّث زيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخبره، فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] : قتلته يا أسامة، وقد قال: لا إله إلا اللَّه؟ فجعل [أسامة] يقول:
إنما قالها تعوّذا من القتل! فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] : أفلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟
فقال أسامة: لا أقتل أحدا يقول لا إله إلا اللَّه أبدا [ (2) ] .
سرية غالب بن عبد اللَّه إلى الميفعة
ثم كانت سرية غالب بن عبد اللَّه بن مسعر الليثي أيضا- في رمضان منها إلى الميفعة، ليوقع ببني عوال وبني عبد بن ثعلبة، في مائة وثلاثين رجلا، ومعه يسار مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاستاقوا نعما وشاء، وقتلوا من أشرف لهم، على ماء يقال له الميفعة بناحية نجد، بعده من المدينة ثمانية برد، وعادوا بالغنيمة.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] ذكر ابن سعد في (الطبقات الكبرى) ج 2 ص 119 أن هذا الخير في سرية غالب بن عبد اللَّه الليثي إلى الميفعة(1/329)
سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار
ثم كانت سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار في سنة سبع. وذلك أن حسيل ابن نويرة الأشجعي أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن جمعا من غطفان بالجناب، قد واعدوا عيينة بن حصن أن يزحفوا إلى أطراف المدينة. فذكر ذلك لأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فأشارا بإرسال بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل.
وكان حسيل دليلهم، حتى أتوا إلى يمن وجبار وهي نحو الجناب، والجناب يعارض سلاح وخيبر ووادي القرى، فنزلوا بسلاح، ثم دنوا من القوم فأصابوا نعما كثيرا ملئوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء فأنذروا أصحابهم، فمروا على وجوههم، فلم يلق بشير أحدا، وعاد بالنّعم، فوجدوا عينا لعيينة فقتله، ثم لقي جمع عيينة فأوقع بهم وهم لا يشعرون، فناوشهم فانهزموا، وأسر منهم رجلا أو رجلين، وقدما المدينة فأسلما وتركا لحالهما.
عمرة القضية
ثم كانت عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء، وغزوة القضاء، وعمرة الصّلح، ويقال لها: عمرة القصاص، قال الغريابيّ: أخبرنا [ (1) ] ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [ (2) ] قال: فحزنت قريش لردها [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام، فأدخله اللَّه مكة من العام القابل فقضى عمرته، وأقصّه [ (4) ] ما حيل بينه وبين يوم الحديبيّة.
أول الجمع للعمرة
وذلك أن ذا القعدة لما أهلّ في سنة سبع، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبيّة، فلم يتخلف من أهلها أحد هو حي، وخرج سوى أهل الحديبيّة رجال عمّار. وكان المسلمون في عمرة القضية ألفين. وقال جماعة من العرب: واللَّه يا رسول اللَّه ما لنا زاد، وما من
__________
[ (1) ] في (خ) «نا» وهي اختصار «أخبرنا» ، كما أن «ثنا» اختصار «حدثنا» .
[ (2) ] الآية 194/ البقرة.
[ (3) ] في (خ) «بردها» .
[ (4) ] أعطاه القصاص.(1/330)
أحد يطعمنا.
فأمر المسلمين أن ينفقوا في سبيل اللَّه، وأن يتصدقوا، وألا يكفّوا أيديهم فيهلكوا [ (1) ] . فقالوا: يا رسول اللَّه! بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئا؟
فقال: بما كان، ولو بشق تمرة، ولو بمشقص [ (2) ] يحمل به أحدكم في سبيل اللَّه.
فأنزل اللَّه تعالى في ذلك: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ (3) ] يعني: ترك النفقة في سبيل اللَّه.
الهدي ومسير المسلمين
وساق عليه السلام ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جندب الأسلميّ ليسير أمامه يطلب الرعي في الشجر، ومعه أربعة فتيان من أسلم. وكان أبو رهم كلثوم ابن حصين الغفاريّ ممن يسوقها ويركبها. وقلد صلّى اللَّه عليه وسلّم هديه بيده وحمل السلاح فيها البيض والدّروع، وقاد مائة فرس عليها محمد بن مسلمة، وقدّم الخيل والسلاح، واستخلف على المدينة أبا ذرّ الغفاريّ، وأحرم من باب المسجد، لأنه سلك طريق الفرع [ (4) ] ، ولولا ذلك لأهلّ من البيداء، وسار يلبّي والمسلمون معه يلبون، فلما انتهى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مرّ الظهران [ (5) ] ، وجد بها نفرا من قريش، فسألوه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يصبّح هذا المنزل إن شاء اللَّه.
بلوغ الخبر إلى قريش
ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد، فأسرعوا إلى مكة وأخبروا قريشا ففزعوا، وقالوا: واللَّه ما أحدثنا حدثا، ففيم يغزونا: محمد؟ ولما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مرّ [ (6) ] الظهران قدم السلاح إلى بطن يأجج [ (7) ] ، وترك معه مائتين من أصحابه، عليهم أوس بن خوليّ. وخرج مكرز بن حفص في نفر حتى لقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببطن يأجج [ (7) ] ،
فقالوا: يا محمد! واللَّه ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم! وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب؟ فقال: إني لا أدخل عليهم السلاح.
فعاد [مكرز] [ (8) ] إلى مكة، فخرجت قريش إلى رءوس الجبال، وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه.
__________
[ (1) ] في (خ) «فهلكوا» .
[ (2) ] المشقص: السهم العريض.
[ (3) ] 195/ البقرة.
[ (4) ] في (خ) «الفروع» .
[ (5) ] في (خ) «من الظهران» .
[ (6) ] في (خ) «من الظهران» .
[ (7) ] في (خ) «ياحج» .
[ (8) ] زيادة للإيضاح.(1/331)
دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة
وحبس الهدي بذي طوى، ودخل عليه السلام مكة من الثنيّة [ (1) ] التي تطلع على الحجون، وقد ركب القصواء، وأصحابه حوله متوشحو السيوف يلبّون، وعبد اللَّه بن رواحة آخذ بزمام راحلته، فلم يزل عليه السلام يلبي حتى استلم الركن. وقيل: لم يقطع التلبية حتى جاء عروش مكة.
طواف المسلمين بالكعبة
وتحدثت قريش أن المسلمين في جهد، ووقفت منهم جماعات عند دار الندوة،
فاضطبع [ (2) ] عليه السلام بردائه، وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: رحم اللَّه امرأ أراهم اليوم قوة!
فلما انتهى إلى البيت- وهو على راحلته، وابن رواحة آخذ بزمامها، وقد صف له المسلمون- دنا من الركن فاستلمه بمحجنه [ (3) ] وهو مضطبع بثوبه، وهرول هو والمسلمون في الثلاثة الأشواط الأول، وكان ابن رواحة يرتجز [ (4) ] في طوافه، وهو آخذ بزمام الناقة،
فقال عليه السلام: إيها [ (5) ] يا بن رواحة! قل: لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده! فقالها الناس.
فلما قضى طوافه خرج [ (6) ] إلى الصفا فسعى على راحلته، والمسلمون يسترونه من أهل مكة أن يرميه أحد منهم أو يصيبه بشيء.
نحر الهدي عند المروة
ووقف عند فراغه قريبا من المروة- وقد وقف الهدي عندها- فقال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر. ونحر عند المروة.
وكان قد اعتمر معه قوم لم يشهدوا الحديبيّة فلم ينحروا، وشركه في الهدي من شهد الحديبيّة، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخّص له في البقرة، وكان قد قدم رجل ببقر فاشتراه الناس منه. وحلق عليه السلام عند المروة، حلقه معمر بن عبد اللَّه
__________
[ (1) ] في (خ) «البنية» .
[ (2) ] الاضطباع: هو أن يدخل الطائف بالبيت رداءه من تحت إبطه الأيمن ويغطى به الأيسر من جهتي صدره وظهره.
[ (3) ] المحجن: عصا معقّفة الرأس.
[ (4) ] ارتجز: ترنم بالرّجز من الشعر.
[ (5) ] إيه طلب الاستزادة من الكلام إيها: طلب السكوت.
[ (6) ] في (خ) «وخرج» .(1/332)
العدويّ.
دخول رسول اللَّه الكعبة
ثم دخل البيت، ولم يزل فيه حتى أذن بلال بالظهر فوق ظهر الكعبة، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم اللَّه أبا الحكم! لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول!! وقال صفوان بن أميّة: الحمد للَّه الّذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا! وقال خالد ابن أسيد: الحمد للَّه الّذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم ابن أم بلال ينهق فوق الكعبة!! وغطى سهيل بن عمرو ورجال معه وجوههم حين سمعوا.
وقيل: لم يدخل عليه السلام الكعبة، بل أرسل إليهم فأبوا، وقالوا: لم يكن في شرطك! فأمر بلالا فأذّن فوق الكعبة مرّة ولم يعد بعد، وهو الثبت.
زواجه صلّى اللَّه عليه وسلّم ميمونة رضي اللَّه عنها
وخطب ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فتزوجها وهو محرم، وقيل: تزوجها لما أحل.
وكلم عليّ بن أبي طالب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عمارة بنت حمزة- وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة- فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين!
فخرج بها، حتى إذا دنوا من المدينة، أراد زيد ابن حارثة- وكان وصيّ حمزة وأخاه إخوة المهاجرين- أن يأخذها من عليّ، وقال: أنا أحق بها، ابنة أخي! فقال جعفر بن أبي طالب: الخالة والدة، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس [ (1) ] .
فقال عليّ رضوان اللَّه عليه: ألا أراكم في ابنة عمي، وأنا أخرجتها [ (2) ] من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسب دوني، وأنا أحق بها منكم. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحكم بينكم: أما أنت يا زيد فمولى اللَّه ورسوله، وأما أنت يا عليّ فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أولى بها، تحتك [ (3) ] خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا عمتها. فقضى بها لجعفر، فقام جعفر فحجل حول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
ما هذا يا جعفر؟ قال: يا رسول اللَّه، كان النجاشيّ إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله. فقال علي رضي اللَّه عنه: تزوجها يا رسول اللَّه! قال: هي ابنة أخي من
__________
[ (1) ] في (خ) «عميش» .
[ (2) ] في (خ) «أخرجها» .
[ (3) ] في (خ) «تحبك» .(1/333)
الرضاعة.
طلب قريش خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة
ولما كان عند الظهر يوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- في مجلس الأنصار، وهو يتحدث مع سعد بن عبادة- فقال:
قد انقضى أجلك، فاخرج عنا.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] : وما عليكم لو تركتموني فأعرست [ (2) ] بين أظهركم، وصنعت طعاما؟ فقالا: لا حاجة لنا في طعامك،
اخرج عنا، ننشدك [ (3) ] اللَّه والعهد الّذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا! فهذه الثلاث قد مضت! فغضب سعد بن عبادة وقال لسهيل [بن عمرو] [ (4) ] كذبت لا أم لك! ليست بأرضك ولا أرض أبيك، واللَّه لا يبرح منها إلا طائعا راضيا!
فتبسم صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم قال: يا سعد، لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا.
فأسكت الرجلان [ (4) ] عن سعد. وروي أنهم بعثوا عليا إلى النبي عليه السلام ليخرج عن بلدهم.
الرحيل والبناء بميمونة
وأمر عليه السلام أبا رافع بالرحيل، وقال: لا يمسينّ بها أحد من المسلمين.
وركب حتى نزل سرف، وخلّف أبا رافع ليحمل إليه ميمونة حين يمسى، فخرج بها مساء، ولقي عنتا [ (5) ] من سفهاء المشركين. فبنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على ميمونة بسرف.
منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولم ينزل بمكة بيتا، وإنما ضربت له قبة من أدم بالأبطح، وكان هناك حتى سار منها. وبعث بمائتي رجل ممن طافوا بالبيت إلى بطن يأجج [ (6) ] ، فأقاموا عند السلاح حتى أتى الآخرون فقضوا نسكهم، وقدم المدينة في ذي الحجة.
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح.
[ (2) ] بزواج ميمونة رضي اللَّه عنها.
[ (3) ] ننشدك اللَّه: نستحلفك باللَّه.
[ (4) ] أسكت الرجل: سكت سكوتا طويلا على غضب.
[ (5) ] في (خ) «عينا» .
[ (6) ] في (خ) «ياجح» .(1/334)
سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم
وكانت سرية ابن أبي العوجاء السّلمي إلى بني سليم، في ذي الحجة سنة سبع.
بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في خمسين رجلا إلى بني سليم، وقد أنذروا به فجمعوا [ (1) ] له، فقاتلوا حتى قتل عامة أصحاب ابن أبي العوجاء، وأثخنوه بالجراح، ثم تحامل إلى المدينة فقدمها أول يوم من صفر.
إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن أبي طلحة
وفي صفر سنة ثمان، خرج عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ القرشي السهمي من مكة- بعد مرجعه من الحبشة- يريد المدينة، فهاجر، فوجد في طريقه خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر [ (2) ] بن مخزوم القرشي المخزوميّ، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة عبد اللَّه بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدريّ، وقد قصدا قصده، فقدموا المدينة، ودخلوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فبايعه خالد أولا، ثم بايعه عثمان، ثم عمرو على الإسلام،
فقال عليه السلام: إن الإسلام يجب [ (3) ] ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها.
سرية غالب بن عبد اللَّه إلى الكديد
وفي صفر هذا كانت سرية غالب بن عبد اللَّه بن [مسعر بن جعفر بن] [ (4) ] كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكير [ (5) ] بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان الكنانيّ ثم الليثي- إلى الكديد لغير على بني الملوح من بني ليث، في ربيع الأول منها. فخرج في بضعة عشر رجلا حتى [إذا] [ (6) ] كان بقديد لقي الحارث بن مالك بن قيس بن عوذ [ (7) ] بن جابر بن عبد مناف بن شجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة
__________
[ (1) ] في (خ) «وجمعوا له» .
[ (2) ] في (خ) «عمرو» .
[ (3) ] يمحو ما كان قبله من المعاصي والذنوب.
[ (4) ] هكذا سياق النسب.
[ (5) ] في (خ) «بكر» .
[ (6) ] زيادة للسياق.
[ (7) ] في (خ) «عوف» .(1/335)
ابن كنانة، [وكان يقال لمالك بن قيس: ابن البرصاء] فأخذه فشده وثاقا، [البرصاء هي أم قيس بن عوذ [ (1) ] ، واسمها: ريطة بنت ربيعة بن رباح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر] ، وخلف عليه سويد بن صخر. وأتى الكديد عند غروب الشمس، فكمن في ناحية الوادي، وبعث جندب بن مكيث الجهنيّ ربيئة، فأتى تلا مشرفا على الحاضر [ (2) ] فعلاه وانبطح، فخرج رجل من خباء فقال [لامرأته] [ (3) ] : إني أرى على هذا التل سوادا ما رأيته عليه [أول يومي هذا] [ (3) ] .
ورماه بسهم ثم آخر، فما أخطأه، وثبت مكانه، فقال: لو كان زائلة [ (4) ] لقد تحرك بعد! لقد خالطه سهماي!! ثم دخل خباءه. وراحت ماشية الحي من إبلهم وأغنامهم، فحلبوا وعطنوا، حتى إذا اطمأنوا شن المسلمون عليهم الغارة، فقتلوا المقاتلة، وسبوا/ الذرية، واستاقوا النعم والشاء. وكان شعارهم: أمت أمت. ثم انحدروا بها نحو المدينة، واحتملوا ابن البرصاء معهم، فجاء القوم بما لا قبل لهم به، وبينهم وبين الوادي، فجاء اللَّه بالسيل حتى ملأ جنبتيه [ (5) ] ، ولم يستطع أحد أن يجوزه، فوقف المشركون ينظرون إليهم، حتى فاتوهم ولا يقدرون على طلبهم، إلى أن قدموا المدينة. فبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مائتي رجل إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد، وذلك في صفر سنة ثمان كما تقدم.
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
ثم كانت سرية كعب بن عمير الغفاريّ إلى ذات أطلاح من أرض الشأم، وراء وادي القرى، في خمسة عشر رجلا، فقاتلهم حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح، فتحامل حتى أتى المدينة فشقّ ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
سرية شجاع بن وهب إلى السيّ
وكانت سرية شجاع بن وهب [الأسدي] [ (6) ] إلى السّيّ- وهو ماء من
__________
[ (1) ] في (خ) «عوف» .
[ (2) ] الحاضر: الحي الّذي يسكنه القوم.
[ (3) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 124.
[ (4) ] في (خ) «ذابلا» وفي رواية المسند ج 3 ص 468 «لو كان دابة» وفي (ابن سعد) «ربيئة» وكلها بمعنى.
[ (5) ] جنبة الوادي: ناحيته وشاطئه.
[ (6) ] زيادة للبيان.(1/336)
ذات عرق إلى وجرة، على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس من المدينة- يريد بني عامر بناحية ركبة في ربيع الأول أيضا، على أربعة وعشرين رجلا. فخرج حتى أغار على القوم وهم غارّون فأصابوا نعما وشاء، وقدموا المدينة. وكانت سهمانهم خمسة عشر بعيرا كلّ رجل، وعدلوا البعير بعشرة من الغنم. وغابوا خمس عشرة ليلة، وقدموا بسبايا، فيهن جارية وضيئة. فقدم وفدهم مسلمين، فردوهنّ إليهم، واختارت الجارية الوضيئة شجاع بن وهب، وكان قد أخذها بثمن، فأقامت عنده حتى قتل باليمامة.
سرية قطبة بن عامر إلى خثعم بتبالة
ثم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلا إلى حيّ ابن خثعم بناحية تبالة. فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فوجد رجلا فسأله فلم يجبه عن القوم، وجعل يصيح بالحاضر، فضرب عنقه، وشنّ الغارة ليلا فقاتله القوم قتالا شديدا حتى أتى قطبة عليهم، وساق النّعم والشاء والنساء حتى قدم المدينة. فكانت سهامهم أربعة أبعرة لكل رجل أو عدلها: عشرة من الغنم عن كل بعير.
غزوة مؤتة
ثم كانت غزوة مؤتة من عمل البلقاء بالشأم دون دمشق، [وهي بضم أوله، وإسكان ثانيه، بعده تاء معجمة باثنتين من فوقها] ، كانت في جمادى الأولى.
سببها
وسبب ذلك أن الحارث بن عمير الأزديّ لما نزل مؤتة بكتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى صاحب بصرى، أخذه شرحبيل بن عمرو الغسّاني وضرب عنقه. فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وندب الناس فأسرعوا، وعسكروا بالجرف، ولم يبن لهم الأمر [ (1) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «الأمراء» .(1/337)
الأمراء يوم مؤتة
فلما صلى الظهر جلس في أصحابه
وقال: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد اللَّه بن رواحة، فإن أصيب عبد اللَّه بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه [ (1) ] عليهم.
وعقد لواء أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة، فودّع الناس الأمراء، وخرج معهم إلى مؤتة ثلاثة آلاف. وجعل المسلمون ينادون: دفع اللَّه عنكم وردكم صالحين غانمين.
وداع جيش مؤتة ووصية الأمراء
وشيّعهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ثنية الوداع، ثم وقف وهم حوله، وقال:
أوصيكم بتقوى اللَّه، وبمن معكم من المسلمين خيرا. اغزوا بسم اللَّه في سبيل اللَّه، فقاتلوا من كفر باللَّه، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث، فأيتهن ما أجابوك إليها، فاقبل منهم واكفف عنهم: ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللَّه، ولا يكون لهم في الفيء، ولا في الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن باللَّه وقاتلهم.
وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حكم اللَّه فلا تستنزلهم على حكم اللَّه، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم اللَّه فيهم أم لا؟ وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا [ (2) ] ذمتكم وذمة آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة اللَّه وذمة رسوله.
وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين للناس، فلا تتعرضوا لهم، وستجدون
__________
[ (1) ] في (خ) «فليجعلوه» .
[ (2) ] أخفر الذمة: نقضها.(1/338)
آخرين في رءوسهم مفاحص [ (1) ] فافتعلوها بالسيوف. لا تقتلن امرأة ولا صغيرا ضرعا [ (2) ] ولا كبيرا فانيا، ولا تغرقن نخلا، ولا تقلعن شجرا، ولا تهدموا بيتا.
من خبر عبد اللَّه بن رواحة
وقال عبد اللَّه بن رواحة: يا رسول اللَّه! مرني بشيء أحفظه عنك. قال:
إنك قادم غدا بلدا، السجود فيه قليل فأكثر السجود. قال: زدني يا رسول اللَّه.
قال: اذكر للَّه، فإنه عون لك على ما تطلب [ (3) ] . فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهبا رجع. فقال: يا رسول اللَّه، إن اللَّه وتر يحبّ الوتر! فقال: يا ابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزنّ إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة. فقال: لا أسألك عن شيء بعدها.
بلوغ المسلمين إلى مصرع الحارث بن عمير
ومضى المسلمون، وقد أمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ينتهوا إلى مقتل الحارث ابن عمير، وسمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم. فقام فيهم رجل من الأزد يقال له: شرحبيل [بن عمرو الغساني] [ (4) ] ، وقدّم [ (5) ] الطلائع أمامه، وبعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين فلقوا المسلمين في وادي القرى فقاتلوه وقتلوه. ونزلوا معان [من أرض الشأم] [ (6) ] ، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من البلقاء، في مائة ألف من الرّوم ومعه بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام مائة ألف، عليهم رجل من بليّ، يقال له: مالك.
أول القتال يوم مؤتة، وخوف المسلمين ثم إقدامهم
فأقاموا ليلتين، وأرادوا أن يكتبوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالخبر ليردهم أو يزيدهم رجالا، فشجعهم عبد اللَّه بن رواحة وقال: واللَّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الّذي أكرمنا اللَّه به! انطلقوا،
__________
[ (1) ] المفاحص: جمع مفحص، وهو مجثم القطا، والمعنى أن الشيطان قد استوطن في رءوس هؤلاء.
[ (2) ] الّذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
[ (3) ] كذا في (ط) وفي (خ) «تطالب» .
[ (4) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «أو قدم» .
[ (6) ] زيادة للبيان من (ط) .(1/339)
واللَّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا فرسان، ويوم أحد فرس واحد! فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا اللَّه ووعد نبيّنا، وليس لوعده خلف، وإما الشهادة، فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان! فشجع الناس ومضوا إلى مؤتة.
فرأوا المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع، والديباج والحرير والذهب. قال أبو هريرة: وقد شهدت ذلك فبرق بصري [ (1) ] فقال لي ثابت بن أقرم [ (2) ] : يا أبا هريرة! مالك، كأنك ترى جموعا كثيرة! قلت: نعم! قال: لم تشهدنا ببدر! إنا لم ننصر بالكثرة.
مقتل زيد بن حارثة
وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم: فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل وقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، وعلى الميمنة قطبة بن قتادة السّدوسيّ وعلى الميسرة عباية [ (3) ] بن مالك، فقتل زيد طعنا بالرماح.
مقتل جعفر بن أبي طالب
ثم أخذه جعفر فنزل على فرسه فعرقبها، ثم قاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوقع أحد نصفيه في كرم، فوجد في نصفه بضع وثلاثون جرحا. وقيل: وجد- مما قبل يديه [ (4) ] فيما بين منكبيه- اثنتان وسبعون [ (5) ] ضربة بسيف أو طعنة برمح، ووجد به طعنة قد أنفذته.
مقتل عبد اللَّه بن رواحة
ثم أخذ اللواء بعده عبد اللَّه بن رواحة، فقاتل حتى قتل.
سقوط لواء المسلمين
وسقط اللواء، فاختلط المسلمون والمشركون، وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة، وقتلوا، واتّبعهم المشركون. فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا! فما يثوب [ (6) ] إليه أحد. ثم تراجعوا، فأخذ اللواء
__________
[ (1) ] كناية عن الفزع والحيرة.
[ (2) ] في (خ) «بن أقوم» .
[ (3) ] في (خ) «عياية» .
[ (4) ] في (خ) «مما قبل من يديه» .
[ (5) ] في (خ) «اثنتين وسبعين» .
[ (6) ] يثوب: يرجع(1/340)
ثابت بن أقرم، وصاح يا للأنصار!! فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل، وهو يقول: إليّ أيها الناس.
أخذ اللواء لخالد بن الوليد
فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سنّ [ (1) ] ، وقد شهدت بدرا. قال ثابت: خذه أيها الرجل! فو اللَّه ما أخذته إلا لك! فأخذه خالد فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه، فثبت حتى تكركر [ (2) ] المشركون، وحمل بأصحابه ففض جمعا من جمعهم، ثم دهمه منهم بشر كثير [ (3) ] ، فانخاش [ (4) ] بالمسلمين فانكشفوا راجعين.
وقد قيل: إن ابن رواحة قتل مساء، فبات خالد فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدّمته ساقة وساقته مقدّمة، وميمنته ميسرة وميسرته ميمنة، [فأنكر المشركون] [ (5) ] ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم، فقالوا: قد جاءهم مدد! ورعبوا، فانكشفوا منهزمين، فقتلوا منهم مقتلة لم يقتلها قوم. والأول أثبت: أن خالدا انهزم بالناس فعيّروا بالفرار، وتشاءم الناس به [ (6) ] .
مرجع المسلمين إلى المدينة
فلما سمع أهل المدينة بقدومهم تلقوهم، وجعلوا يحثون في وجوههم التراب، ويقولون: يا فرّار!! أفررتم في سبيل اللَّه؟
فيقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرّار إن شاء اللَّه.
خبر المنهزمين وما لقوا من الناس
فانصرفوا إلى بيوتهم فلزموها، فإنّهم كانوا إذا خرجوا صاحوا بهم: يا فرّار! أفررتم في سبيل اللَّه؟
وكان الرجل يدق عليهم فيأبون يفتحون له لئلا يقول [ (7) ] :
ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت؟ حتى جعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرسل إليهم رجلا
__________
[ (1) ] في (خ) «شن» .
[ (2) ] تكركر: ارتد ورجع.
[ (3) ] في (خ) «كبير» .
[ (4) ] انحاش: جمعهم ثم انصرف بهم.
[ (5) ] في (خ) ما بين القوسين «فأنكروا» ، وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 764، وما أثبتناه من (ط) .
[ (6) ] أي بخالد.
[ (7) ] في (خ) «تقول» .(1/341)
رجلا، يقول: أنتم الكرّار في سبيل اللَّه!
وكان بين أبي هريرة وابن عم له كلام، إلا فراركم يوم مؤتة! فما دري ما يقول له.
إخبار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن أهل القتال يوم مؤتة
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- لما التقى الناس بمؤتة- جلس على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشأم، فهو ينظر إلى معتركهم فقال:.
زيد بن حارثة
أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكرّه إليه الموت فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين، تحبّب إليّ الدنيا! فمضى قدما حتى استشهد: فصلى عليه وقال: استغفروا له! وقد دخل الجنة وهو يسعى.
جعفر بن أبي طالب
ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدما حتى استشهد [ (1) ] . فصلى عليه ودعا له. ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة، فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة.
عبد اللَّه بن رواحة
ثم أخذ الراية بعده عبد اللَّه بن رواحة فاستشهد، ثم دخل الجنة معترضا.
فشقّ ذلك على الأنصار، فقال: أصابته الجراح. قيل: يا رسول اللَّه ما إعراضه؟
قال: لما أصابته الجراح نكل [ (2) ] ، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد فدخل الجنة، فسرّي عن قومه.
سلمة بن الأكوع
وقال يومئذ: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرّجال [ (3) ] سلمة بن الأكوع.
__________
[ (1) ] في (خ) «فاستشهدوا» .
[ (2) ] نكل: تخاذل.
[ (3) ] الرجال: جمع راجل، وهو الّذي لا فرس له.(1/342)
ولما أخذ خالد الراية قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: الآن حمي الوطيس [ (1) ] .
دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أهل جعفر بن أبي طالب
ودخل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أسماء بنت عميس [ (2) ] امرأة جعفر بن أبي طالب فقال:
يا أسماء أين بنو جعفر؟ فجاءت بهم إليه، فضمهم إليه وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقالت: أي رسول اللَّه لعلّه بلغك عن جعفر شيء؟ فقال: نعم، قتل اليوم! فقامت تصيح، واجتمع إليها النساء فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: يا أسماء لا تقولي هجرا [ (3) ] ، ولا تضربي صدرا. وخرج حتى دخل على ابنته فاطمة عليها السلام وهو يقول: وا عماه! وقال [ (4) ] . على مثل جعفر فلتبك [ (5) ] الباكية! ثم قال:
اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم. وقد روي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما نعى لأسماء جعفرا، مسح على رأس عبد اللَّه بن جعفر، وعيناه تهراقان الدموع حتى لحيته تقطر [ (6) ] ، ثم قال: اللَّهمّ إن جعفرا قد قدّم إليّ أحسن الثواب، فاخلفه [ (7) ] في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته! ثم قال: يا أسماء، ألا أبشّرك؟ قالت: بأبي أنت وأمي! قال: فإن اللَّه جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! فأعلم الناس ذلك.
خطبته في أمر جعفر
فقام، وأخذ بيد عبد اللَّه بن جعفر، يمسح بيديه رأس عبد اللَّه حتى رقي المنبر، وأجلس عبد اللَّه أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم وقال:
إن المرء كثير بأخيه وابن عمه. ألا إن جعفرا قد استشهد، وقد جعل اللَّه له جناحين يطير بهما في الجنة،
ثم نزل، ودخل بيته وأمر بطعام يصنع لآل جعفر، وأرسل إلى أخي عبد اللَّه بن جعفر فتغديا عنده: شعيرا طحنته سلمى خادمه، ثم نسفته [ (8) ] ، ثم أنضجته. وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا. وأقاما ثلاثة أيام في
__________
[ (1) ] كناية عن شدة الحرب واحتدامها.
[ (2) ] في (خ) «عميش» .
[ (3) ] الهجر: الإفحاش.
[ (4) ] في (خ) «فقال» .
[ (5) ] في (خ) «فتبكي» .
[ (6) ] في (خ) «حتى تقطر لحيته» وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 767 وما أثبتناه من (ط) .
[ (7) ] خلف اللَّه عليك: دعاء لمن هلك له ما لا يعتاض وأخلف اللَّه عليك: دعاء لمن هلك له ما يتعتاض عنه.
[ (8) ] نسفته: أذهبت نسافته وقشره.(1/343)
بيته، يدوران معه في بيوت نسائه.
غنائم مؤتة
وغنم المسلمون بعض أمتعة بمؤتة، وجاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخاتم، فقال: قتلت صاحبه يومئذ، فنفّله إياه. وقتل خزيمة بن ثابت يومئذ رجلا، وعليه بيضة فيها ياقوتة، فأخذها وأتى بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنفّله إياها، فباعها بمائة دينار.
واستشهد بمؤتة ثمانية نفر.
غزوة ذات السلاسل
ثم كانت غزوة ذات السلاسل. [ويقال السّلسل] [ (1) ] ، وهو ماء وراء وادي القرى من المدينة، [بينه وبين المدينة] [ (1) ] عشرة أيام. وسببها أن جمعا من بليّ وقضاعة تجمعوا ليدنوا من أطراف المدينة، فعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في جمادى الآخرة سنة ثمان على ثلاثمائة من سراة [ (2) ] المهاجرين والأنصار، وأمره أن يستعين بمن مر به من بلاد بلي وعذرة وبلقين. وذلك أن عمروا كان ذا رحم فيهم: كانت أم العاص بن وائل بلوية، فأراد عليه السلام يتألفهم بعمرو. فسار يكمن النهار ويسير الليل- وكان معه ثلاثون فرسا- حتى دنا منهم. فنزل على ماء بأرض جذام [ (3) ] يقال له السلاسل.
وكان شتاء، فجمع أصحابه ليصطلوا فمنعهم، فشق ذلك عليهم، حتى كلمه بعض المهاجرين بغلظة، فقال عمرو: قد أمرت أن تسمع لي وتطيع! قال: أفعل.
المدد واختلاف عمرو وأبي عبيدة على الإمارة
وبعث رافع بن مكيث الجهنيّ يخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن للقوم جمعا كثيرا ويستمده، فبعث أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواء. وبعث معه سراة المهاجرين كأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وعدة من الأنصار. فسار في مائتين، وأمره أن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلما لحق بعمرو، وأراد أن يؤم الناس ويتقدم عمرا، فقال له عمرو: إنما قدمت مددا لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير! فقال
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (2) ] سراة القوم: أشرافهم وسادتهم.
[ (3) ] في (خ) «خدام» .(1/344)
المهاجرون: كلا! بل أنت أمير أصحابك، وهو أمير أصحابه. فقال: لا! أنتم مدد لنا.
فقال أبو عبيدة- وكان حسن الخلق- انظرن يا عمرو! تعلمنّ أن آخر ما عهد إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا،
وإنك واللَّه إن عصيتني لأطيعنك! فكان عمرو يصلي بالناس. وسار- وقد صار في خمسمائة- حتى وطئ بلاد بلي ودوّخها، وكلما انتهى إلى موضع، بلغه أنه قد كان به جمع فلما سمعوا به تفرقوا. حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعا، فقاتلهم ساعة وهزمهم. وأقام أياما يبث سراياه، فيؤتى بالشاء والنّعم فينحرون ويذبحون، ولم يكن في ذلك أكثر من هذا، ولم تكن غنائم تقسم.
خبر صاحب الجزور
وخرج عوف بن مالك الأشجعي يوما في العسكر، فمر بقوم [ (1) ] قد عجزوا عن نحر جزورهم وعملها، فقال: أتعطوني عليها وأقسمها بينكم؟ فجعلوا له شعيرا منها، فنحرها، وجزأها بينهم، وأخذ جزءه وأتى به إلى أصحابه، فطبخوه وأكلوه، فلما فرغوا، قال أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما. من أين لك هذا اللحم؟
فأخبرهما، فقالا: واللَّه ما أحسنت حين أطعمتنا هذا! ثم قاما يتقيئان، وفعل ذلك الجيش. وقال أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما لعوف: تعجلت أخرى! ثم أتى أبا عبيدة رضي اللَّه عنه فقال له مثل ذلك.
صلاة عمرو بالناس بغير غسل
واحتلم عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد واللَّه احتلمت، وإن اغتسلت مت! فدعا بماء فتوضأ وغسل فرجه وتيمّم، ثم قام فصلى بهم. وبعث عوف بن مالك بريدا [ (2) ] ،
فقدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم عليه، فقال: عوف بن مالك؟ قال: عوف بن مالك يا رسول اللَّه! قال: صاحب الجزور! قال: نعم! قال: أخبرني! فأخبره
بمسيرهم، وما كان بين أبي عبيدة وبين عمرو، ومطاوعة أبي عبيدة! ثم أخبره أن
__________
[ (1) ] في (خ) «فمن يقوم» .
[ (2) ] البريد: الرسول.(1/345)
عمرا صلى وهو جنب ومعه الماء، لم يزد على أن غسل وجهه بماء وتيمم، فلما قدم عمرو وسأله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن صلاته قال: والّذي بعثك بالحق لو اغتسلت لمت، ولم أجد قط برد مثله، وقد قال اللَّه: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [ (1) ] ، فضحك صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يقل شيئا.
سرية الخبط
ثم كانت سرية الخبط [ (2) ] أميرها أبو عبيدة بن الجراح، [وقيل: عبد اللَّه بن عامر بن الجراح] [ (3) ] ، والصحيح: عامر بن عبد اللَّه بن الجرّاح بن هلال بن أهيب ابن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشيّ الفهريّ. بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- في رجب على ثلاثمائة إلى حي من جهينة، بالقبليّة مما يلي ساحل البحر، على خمس ليال من المدينة. فأصابهم جوع شديد، جمعوا زادهم حتى إن كانوا ليقتسمون [ (4) ] التّمرة، ولم يكن معهم حمولة [ (5) ] ، إنما كانوا على أقدامهم، وأباعر يحملون عليها زادهم، فأكلوا الخبط، حتى ما كادوا [ (6) ] أن تكون بهم حركة إليه، فابتاع قيس بن سعد بن عبادة خمس جزائر، كل جزور بوسقين من تمر: يقوم بها إذا رجع، ونحرها- كلّ يوم جزورا- للقوم، مدّة ثلاثة أيام، حتى وجدوا حوتا يقال له العنبر قد ألقاه البحر، فأكلوا منه اثنتي عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فنصبت، ومرّ تحتها راحلة برحلها فلم تصبها، وكان يجلس في مأق [ (7) ] عين الحوت الجماعة من الناس.
سرية أبي قتادة إلى الخضرة
ثم كان سرية أبي قتادة بن ربعيّ الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض محارب
__________
[ (1) ] الآية 29/ النساء.
[ (2) ] الخبط: ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن بدقيق أو غيره، (ترتيب القاموس) ج 2 ص 9.
[ (3) ] ما بين القوسين مكرر في (خ) .
[ (4) ] في (خ) «ليقتسموا» .
[ (5) ] الحمولة: ما يحتمل عليه الناس من الدواب، وهنا كناية عن عدم وجود الزاد أو الميرة يحملونها على دواب.
[ (6) ] في (خ) «حتى ما كاد أن يكون» .
[ (7) ] في (خ) «مبق» . والمأق: طرف العين مما يلي الأنف (ترتيب القاموس) ج 4 ص 197.(1/346)
بنجد [ (1) ] ، أميرها أبو قتادة الأنصاريّ، [بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] في شعبان منها- في خمسة عشر رجلا إلى غطفان نحو نجد. فساروا ليلا وكمنوا نهارا، حتى أتوا ناحيتهم، فهجموا على حاضر منهم [ (3) ] عظيم، وجرّدوا سيوفهم وكبروا، فقتلوا رجالا، واستاقوا النّعم وحملوا النساء، حتى قدموا بمائتي بعير، وألف شاة وسبي كثير، فعزلوا من ذلك الخمس. وقد غابوا خمس عشرة ليلة، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، أو عدلها عن البعير عشرة من الغنم.
سرية أبي قتادة إلى بطن إضم
ثم كانت سرية أبي قتادة بن ربعيّ الأنصاري إلى بطن إضم- وهي فيما بين خشب وذي المروة، على ثلاثة برد من المدينة- في رمضان، على ثمانية أنفس.
وذلك حين همّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغزوة الفتح، ليظنّ ظان أنه عليه السلام توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
قتل المسلم
فلقيهم عامر بن الأضبط الأشجعيّ، فسلّم عليهم بتحية الإسلام، فبدر إليه محلّم بن جثّامة الليثي فقتله، وأخذ بعيره وسلبه، ثم لحقوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد علموا مسيره فأدركوه بالسّقيا ولم يلقوا جمعا.
ما نزل فيه من القرآن
وفيهم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ثم كانت خضرة أرض محارب سرية أبي قتادة بنجد» .
[ (2) ] زيادة لسياق الكلام من (ط) .
[ (3) ] في (خ) «على حاضرتهم عظيم» .
[ (4) ] الآية 94/ النساء، وفي (خ) « ... الحياة الدنيا، الآية» .(1/347)
الاختلاف في سبب نزول الآية
وقال ابن عبد البرّ، والاختلاف في المراد بهذه الآية كثير مضطرب جدا، قيل: نزلت في المقداد، وقيل: نزلت في أسامة بن زيد، وقيل: في محلّم بن جثامة.
وقال ابن عباس: نزلت في سريّة، ولم يسمّ أحدا. وقيل: نزلت في غالب الليثي من بني ليث، يقال له: فليت، كان على السّريّة، وقيل: نزلت في أبي الدّرداء.
وهذا اضطراب شديد جدا [ (1) ] .
غزوة الفتح وسببها
ثم كانت غزوة الفتح. وسببها أن أنس بن زنيم الدّيليّ هجا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجّه، فثار الشّرّ بين بني بكر [حلف قريش] ، وبين خزاعة [حلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] . فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبيّة-[وقال ابن إسحاق: فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا]- كلمت بنو نفاثة من بني الدّيل أشراف قريش أن يعينوها بالرجال والسلاح على خزاعة، فأمدوهم بذلك. وخرج إليهم صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأخيف [ (2) ] ، وحويطب بن عبد العزّى، وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو، وأجلبوا معهم أرقّاءهم فبيّتوا- مع بني بكر ورأسهم نوفل بن معاوية الدّؤليّ- خزاعة ليلا وهم آمنون [ (3) ] ، فقتلوا منهم ثلاثة وعشرين رجلا، وذلك على ماء يقال له الوتير قريب من مكة، وعامتهم نساء وصبيان وضعفة الرّجال، حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء، وقيل: حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم [ (4) ] .
ندم قريش على نقض العهد
وندمت قريش، وعرفوا أن هذا الّذي صنعوا نقض [ (5) ] للمدة والعهد الّذي بينهم وبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وجاء الحارث بن هشام وجماعة إلى صفوان بن أمية
__________
[ (1) ] راجع أسباب النزول للواحدي ص 127- 130.
[ (2) ] في (خ) «الأحيف» .
[ (3) ] ذكر (ابن سعد) ج 2 ص 134 أنهم خرجوا «متنكرين متنقبين» .
[ (4) ] أنصاب الحرم: حدوده التي تفصل بين الحل والحرام.
[ (5) ] في (خ) «نقضا» .(1/348)
ومن كان معه فلاموهم، وقالوا لأبي سفيان بن حرب: هذا أمر لا بد له من أن يصلح، فاتفقوا على مسيره إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليزيد في الهدنة، ويجدّد العهد، فخرج لذلك وقد سار عمرو بن سالم بن حصيرة بن سالم الخزاعيّ في أربعين راكبا من خزاعة، حتى دخل المسجد ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس في أصحابه، فقام ينشد شعرا، وأخبره الخبر واستصرخه،
فقام صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يجرّ ثوبه ويقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي!.
قدوم أبي سفيان إلى المدينة
وقدم أبو سفيان فقال: يا محمد! إني كنت غائبا في صلح الحديبيّة، فاشدد العهد وزدنا في المدّة. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال:
نعم! قال: هل كان قبلكم حدث؟ قال: معاذ اللَّه! قال: فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبيّة، لا نغيّر ولا نبدّل.
خبر أبي سفيان في دار أم المؤمنين ابنته
ثم قام أبو سفيان فدخل على ابنته أم حبيبة [ (1) ] رضي اللَّه عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طوته دونه وقالت: أنت امرؤ نجس مشرك!! فقال: يا بنية! لقد أصابك بعدي شرّ! قالت: هداني اللَّه للإسلام، وأنت يا أبت سيّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك دخولك للإسلام؟ وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر. قال: يا عجباه!! وهذا منك أيضا! أأترك ما كان يعبد آبائي، وأتبع دين محمد!؟.
مناشدة أبي سفيان لكبار أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ثم خرج فلقي أبا بكر رضي اللَّه عنه فكلمه، وقال: نكلّم محمدا، أو تجير [ (2) ] أنت بين الناس! فقال: جواري في جوار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم لقي عمر رضي اللَّه عنه، فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال [عمر] [ (3) ] : واللَّه لو وجدت الذّرّ [ (4) ]
__________
[ (1) ] أم المؤمنين.
[ (2) ] في (خ) «ونجير» .
[ (3) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (4) ] النمل الصغير.(1/349)
تقاتلكم لأعنتها عليكم! فقال [أبو سفيان] [ (1) ] : جزيت من ذي رحم شرا، ثم دخل على عثمان رضي اللَّه عنه فقال: إنه ليس في القوم أحد أقرب بي رحما منك! فزد في الهدنة وجدّد العهد، فإن صاحبك لن يردّه عليك أبدا! قال: جواري من جوار رسول اللَّه!
فدخل على فاطمة وكلمها في أن تجير بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة! قال: مري أحد ابنيك يجير بين الناس! قالت: إنما هما صبيّان! وليس مثلهما يجير.
مناشدته عليا ومشورة علي
فأتى علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فقال: يا أبا الحسن! أجر بين الناس أو تكلم محمدا يزيد في المدة! فقال: ويحك يا أبا سفيان! إن رسول اللَّه قد عزم أن لا يفعل، وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شيء يكرهه. قال: فما الرأي؟
يسّرني [ (2) ] لأمري، فإنه قد ضاق عليّ، فمرني بأمر ترى أنه نافعي. قال: واللَّه ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيّد كنانة. قال:
ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال: لا أظن ذلك واللَّه، ولكني لا أجد لك غيره.
فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، ولا أظنّ محمدا يخفرني!
ثم دخل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد! ما أظنّ أن تردّ جواري! فقال: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان!!
ثم جاء [أبو سفيان] [ (3) ] لسعد بن عبادة فقال: يا أبا ثابت! قد عرفت الّذي كان بيني وبينك! وأني كنت لك في قومنا جارا، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه البحرة [ (4) ] ، فأجر بين الناس وزد في المدة. فقال: يا أبا سفيان! جواري في جوار رسول اللَّه! ما يجير أحد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ويقال: خرج أبو سفيان على أنه قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان!!
ويقال: لما صاح لم يقرب النبيّ عليه السلام وركب راحلته وانطلق إلى مكة.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «بشرني» .
[ (3) ] زيادة للبيان.
[ (4) ] البحرة: البلدة.(1/350)
مرجع أبي سفيان إلى مكة وما قيل له
وكانت قد طالت غيبته، واتّهمته قريش أنه قد أسلم. فلما دخل على هند ليلا قالت: لقد حبست حتى اتهمك قومك! فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح، فأنت الرّجل! ثم دنا منها فجلس منها مجلس الرجل من امرأته، فجعلت تقول: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلّا ما قال لي علي! فضربت برجليها في صدره، وقالت: قبّحت من رسول قوم! وأصبح فحلق رأسه عند إساف ونائلة [ (1) ] ، وذبح لهما ومسح بالدم رءوسهما، وقال: لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي.
وقالت له قريش: ما وراءك؟ هل جئتنا بكتاب من محمد، أو زيادة في مدّة أمانا من أن يغزونا؟ فقال: واللَّه لقد أبى عليّ، ولقد كلمت أصحابه عليه فما قدرت على شيء منهم، إلا أنهم يرموني بكلمة واحدة. إلّا
أن عليا قد قال- لما ضاقت بي الأمور-: أنت سيد كنانة، فأجر بين الناس!! فناديت بالجوار، ثم دخلت على محمد فقلت: إني قد أجرت الناس، وما أظنّ أن تردّ جواري! فقال:
أنت تقول ذلك يا أبا سفيان!! لم يزدني على ذلك.
قالوا: ما زاد على أن تلعّب بك تلعّبا!! قال: واللَّه ما وجدت غير ذلك.
جهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للفتح
ولمّا ولّى أبو سفيان راجعا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعائشة رضي اللَّه عنها: جهّزينا وأخفي أمرك. وقال عليه السلام: اللَّهمّ خذ من قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم [ (2) ] بغتة، [وفي رواية: اللَّهمّ خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة، ولا يسمعون بي إلا فجأة] .
وأخذ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنقاب [ (3) ] ، وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يطوف عليها ويقول: لا تدعوا أحدا يمرّ بكم تنكرونه إلا رددتموه. وكانت الأنقاب مسلمة، إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفّظ به ويساءل عنه.
__________
[ (1) ] إساف ونائلة من أصنام المشركين.
[ (2) ] في (خ) «تأتيهم» .
[ (3) ] الأنقاب: جمع نقب وهو الطريق بين الجبلين.(1/351)
خبر أبي بكر
ودخل أبو بكر رضي اللَّه عنه على عائشة رضي اللَّه عنها وهي تجهّز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، تعمل قمحا سويقا ودقيقا، فقال: يا عائشة، أهمّ رسول اللَّه يغزو؟
قالت: ما أدري! قال: إن كان همّ بسفر فآذنينا [ (1) ] نتهيأ له. قالت: ما أدري! لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفا! لعله يريد هوازن! فاستعجمت عليه [ (2) ] حتى دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال له: يا رسول اللَّه، أردت سفرا؟ قال: نعم. قال:
أفأتجهّز؟ قال: نعم، قال: فأين تريد يا رسول اللَّه؟ قال: قريشا، وأخف ذلك يا أبا بكر! وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس بالجهاز، وطوى عنهم [ (3) ] الوجه الّذي يريد، وقال أبو بكر: يا رسول اللَّه! أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم، واطو ما ذكرت لك!
فظان يظن أنه يريد الشأم، وظان يظن ثقيفا، وظان يظنّ هوازن.
خبر حاطب بن أبي بلتعة ورسالته إلى قريش
فلما أجمع صلّى اللَّه عليه وسلّم المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أمرهم. وكان كتابه إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فيقول فيه: «إن رسول اللَّه قد أذّن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم» . وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة من أهل العرج-[يقال لها كنود، ويقال لها سارة مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم ابن عبد مناف]- وجعل لها دينارا [وقيل: عشرة دنانير] ، على أن تبلّغه قريشا، وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمرّي على الطريق فإن عليه حرسا [ (4) ] . فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، وسلكت على غير نقب، حتى لقيت الطريق بالعقيق.
وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزّبير رضي
__________
[ (1) ] آذنينا: أعلمينا وأخبرينا.
[ (2) ] استعجمت عليه: لم تعطه جوابا بيّنا.
[ (3) ] وى عنهم: أخفى عنهم.
[ (4) ] في (خ) «محرسا» .(1/352)
اللَّه عنهما فقال: أدركا امرأة من مزينة، قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا.
فخرجا، فأدركاها، فاستنزلاها، والتمساه [ (1) ] في رحلها فلم يجدا [ (2) ] شيئا. فقالا لها: إنا نحلف باللَّه ما كذب رسول اللَّه ولا كذبنا، ولتخرجنّ هذا الكتاب! أو لنكشفنّك! فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عنّي! فأعرضا عنها، فحلّت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب. فجاءا به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعا حاطبا فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول اللَّه! واللَّه إني لمؤمن باللَّه ورسوله، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم. فقال عمر رضي اللَّه عنه: قاتلك اللَّه! ترى رسول اللَّه يأخذ بالأنقاب، وتكتب إلى قريش تحذرهم!! دعني يا رسول اللَّه أضرب عنقه فإنه قد نافق. فقال: وما يدريك يا عمر؟ لعل اللَّه اطّلع يوم بدر على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم [ (3) ] ،
وأنزل اللَّه في حاطب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [ (4) ] .
ومضت سارّة إلى مكة، وكانت مغنّية، فأقبلت تتغنى بهجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد ارتدت عن الإسلام.
دعوة المسلمين من القبائل
فلما أبان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغزو، أرسل إلى أهل البادية وإلى من حوله من
__________
[ (1) ] في (خ) «والتماساه» .
[ (2) ] في (خ) «فلم يجد» .
[ (3) ] أخرجه أبو داود ج 3 ص 108، 109، 110، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما، حديث رقم 2650، أخرجه (البخاري) في المغازي، باب فضل من شهد بدرا، وفي التفسير، تفسير سورة الممتحنة، وفي الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا و (مسلم) في فضائل أهل بدر، و (الترمذي) في التفسير، تفسير سورة الممتحنة، و (الدارميّ) في الرّقاق، و (أحمد) في (المسند) من حديث على بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وانظر أيضا (معالم السنن) للخطابي ج 3 ص 110.
[ (4) ] أول سورة الممتحنة، وفي (خ) « ... تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ،» الآية.(1/353)
المسلمين يقول: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة.
وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا. فقدمت أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، المدينة، وأتت بنو سليم بقديد، وعسكر ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات.
عدة المسلمين
وكان المهاجرون سبعمائة، ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف، ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا، فيها مائة فرس ومائة درع، وكانت أسلم أربعمائة، فيها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة، معها خمسون فرسا، وكانت بنو كعب بن عمرو خمسمائة. ويقال: لم يعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الألوية والرايات حتى انتهى إلى قديد.
الخروج إلى الفتح
وخرج يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر. وروى أبو خليفة الفضل بن الحباب من حديث شعبة بن قتادة عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خرجنا مع رسول اللَّه حين فتح مكة لسبع عشرة أو تسع عشرة بقين من رمضان. الحديث. ورواه سعيد [ (1) ] بن أبي عروبة، عن قتادة بإسناده، فقال فيه: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لثنتي عشرة. وقال هشام عن قتادة فيه بإسناده: لثمان عشرة. وعن عطية بن قيس، عن قزعة [ (2) ] ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: آذننا [ (3) ] رسول اللَّه بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان.
الحديث.
مسير المسلمين
وخرج المسلمون وقادوا الخيول، وامتطوا الإبل، وكانوا عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: اثنا عشر ألفا.
وقدّم صلّى اللَّه عليه وسلّم أمامه الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه في
__________
[ (1) ] في (خ) «سعد» .
[ (2) ] هو «قزعة بن يحى» أبو الغاوية البصري.
[ (3) ] في (خ) «آذنا» .(1/354)
مائتين، فلما كان بالبيداء قال: إني لأرى [ (1) ] السحاب يستهلّ بنصر بني كعب.
ولما خرج من المدينة نادى مناديه: من أحبّ أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر. وصام هو، حتى [إذا] [ (2) ] كان بالعرج صبّ على رأسه ووجهه الماء من العطش، فلما كان بالكديد- بين الظهر والعصر أخذ إناء من ماء في يده حتى رآه المسلمون،
ثم أفطر تلك الساعة، ويقال: كان فطره يومئذ بعد العصر.
وبلغه أن قوما صاموا، فقال: أولئك العصاة! وقال بمرّ الظهران: إنكم مصبّحو [ (3) ] عدوّكم. والفطر أقوى لكم.
منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعرج
فلما نزل العرج- والناس لا يدرون أين يتوجه [ (4) ] ! أإلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف؟ وأحبّوا أن يعلموا أتى [ (5) ]- كعب بن مالك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقد جلس في أصحابه، وهو يتحدث- ليعلم ذلك، فأنشده شعرا، فتبسّم ولم يزد على ذلك. فلما نزل بقديد قيل: هل لك يا رسول اللَّه في بيض النساء وأدم الإبل؟
فقال: إن اللَّه حرّمهم عليّ بصلة الرحم، ووكزهم في لبّات الإبل. [وفي رواية: [إن] [ (6) ] اللَّه حرّمهم عليّ ببر الوالدين ووكزهم في لبّات الإبل.] [ (7) ] .
وجاء عيينة بن حصن بالعرج وسار [ (8) ] وكان الأقرع بن حابس قد وافى بالسّقيا في عشرة من قومه. فلما عقد صلّى اللَّه عليه وسلّم الألوية بقديد ندم عيينة ألّا يكون قدم بقومه.
خبر الكلبة
ونظر عليه السلام بعد مسيره من العرج إلى كلبة تهرّ [ (9) ] على أولادها، وهنّ
__________
[ (1) ] في (خ) «لا أرى» ، وفي (المغازي) ج 2 ص 801 «لأرى السحاب تستهل» . واستهل السحاب أشرق قبل أول مطر.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) «مصبحوا» بإثبات الألف بعد واو الجماعة.
[ (4) ] في (خ) «توجه» .
[ (5) ] في (خ) «فأتى» وفي رواية (الواقدي) ج 2 ص 802: «قال كعب بن مالك: آتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأعلم لكم علم وجهه» .
[ (6) ] زيادة للسياق من (ط) ج
[ (7) ] قال ابن الأثير في (النهاية) : لبّات: جمع لبّة، وهي الهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الإبل، (النهاية) ج 4 ص 223، وهنا كناية عن الكرم وصلة الرحم، فلذلك استحقوا العفو.
[ (8) ] وذلك بعد إسلامه، ففي (الواقدي) ج 2 ص 804 «فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ مكة بين الأقرع وعيينة» .
[ (9) ] تهر: تنبح وتكشر عن أنيابها دفاعا عن أولادها.(1/355)
حولها يرضعنها، فأمر جعيل بن سراقة يقوم حذاءها، لا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها.
الطلائع
وقدم من العرج جريدة من خيل [ (1) ] طليعة، فأتوا بعين من هوازن، فسأله عنهم فقال: تركتهم ببقعاء قد جمعوا الجموع، وأجلبوا العرب، وبعثوا إلى جرش [ (2) ] في عمل الدبابات [ (3) ] والمنجنيق، وهم سائرون إلى هوازن فيكونوا جميعا.
فقال [صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] : وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال: إلى مالك بن عوف.
قال: وكل هوازن قد أجاب؟ قال: أبطأ من بني عامر كعب وكلاب. وقد مررت بمكة فرأيتهم ساخطين لما جاء به أبو سفيان، وهم خائفون. فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، ما أراه إلا صدقني!
وأمر خالد بن الوليد فحبسه حتى دخل مكة وفتحها فأسلم، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل بأوطاس.
[وأوطاس واد في ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين] .
إسلام أبي سفيان
وقدم بالأبواء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يريد الإسلام، بعد ما عادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرين سنة وهجاه، ولم يتخلف عن قتاله. فلما طلع صلّى اللَّه عليه وسلّم في موكبه، وقف تلقاء وجهه، فأعرض عنه، فتحرك إلى ناحيته، فأعرض عنه مرارا، وأعرض عنه الناس وتجهموا له، فجلس على باب منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يلازمة حتى فتح مكة، وهو لا يكلمه ولا أحد من المسلمين. فلما كان يوم هوازن، ثبت فيمن ثبت مع رسول اللَّه، وأخذ العباس رضي اللَّه عنه بلجام بغلته، وأخذ أبو سفيان بالجانب [ (5) ] الآخر،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: من هذا؟ فقال العباس:
__________
[ (1) ] في (خ) «من خيل جديدة» . والجريدة: الطائفة من الفرسان لا رجّالة فيها (ترتيب القاموس) ج 2 ص 127.
[ (2) ] جرش: مدينة شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وحوران من عمل دمشق (معجم البلدان) ج 2 ص 127.
[ (3) ] الدبابات: في عهدهم آلة تتخذ من جلود وخشب يدخل فيها الرجال، ثم يقربونها من الحصن المحاصر والرجال في جوفها لينقبوه، وسميت بذلك لأنها تدب دبيبا.
[ (4) ] زيادة للبيان.
[ (5) ] في (خ) «بالجناب» .(1/356)
يا رسول اللَّه! أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث [ (1) ] ! فارض عنه، أي رسول اللَّه! قال: قد فعلت، فغفر اللَّه له كلّ عداوة عاداها. فقبّل أبو سفيان رجله في الركاب. فالتفت عليه السلام إليه، فقال: أخي لعمري!
ويقال: إنه جاء هو وعبد اللَّه بن أبي أمية- أخو أم سلمة- إلى نيق العقاب [ (2) ] فطردهما، فشفعت فيهما أم سلمة، وأبلغته عنهما ما رقّقه عليهما، فقبلهما.
العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل
وقدم العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل، بالسقيا. وقيل: بل قدم العبّاس بذي الحليفة- وقيل: بالجحفة- فأسلم، وبعث ثقله [ (3) ] ومضى مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأقام معه، ولم يخرج من عنده حتى راح عليه السلام. وكان ينزل معه في كل منزل حتى دخل مكة.
رؤيا أبي بكر
ورأى أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه- في الليلة التي أصبح فيها بالجحفة- أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما دنوا من مكة، خرجت عليهم كلبة تهرّ، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها، فإذا أطباؤها تشخب لبنا [ (4) ] . فذكرها أبو بكر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذهب كلبهم [ (5) ] ، وأقبل درّهم [ (6) ] . هم سائلوكم بأرحامكم! وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه.
__________
[ (1) ] ذكرنا في أول الكتاب أنه أخوه من الرضاعة من قبل حليمة السعدية
[ (2) ] في (خ) ، (ط) «فيق العقاب» وهو خطأ وصوابه «نيق العقاب» وهي: (موقع بين مكة والمدينة قرب الجحفة، لقي به أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة مهاجر بن أبي أمية وهو يريد مكة عام الفتح) (معجم البلدان) ج 5 ص 333.
[ (3) ] الثقل: متاع المسافر وحشمه (ترتيب القاموس) ج 1 ص 412.
[ (4) ] الأطباء: جمع طبي، والطّبي: بالكسر والضم: حلمات الضرع التي من خف وظلف وحافر.
[ (5) ] الكلب: صياح من عضه الكلب الكلب، وجنون الكلاب المعترى من أكل لحم الإنسان، وشبه جنونها المعترى للإنسان من عضها. (ترتيب القاموس) ج 4 ص 70 والمقصود هنا: كناية عن عداء قريش لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (6) ] الدّرّ: اللبن يسيل من الثدي، وهذا كناية عن إدبار شرهم وإقبال خيرهم.(1/357)
منزل المسلمين بقديد
فلما نزل عليه السلام قديدا لقيته سليم- وهم تسعمائة على الخيول جميعا، مع كل رجل رمحه وسلاحه، ويقال: إنهم ألف- فجعلهم مقدمته مع خالد بن الوليد رضي اللَّه عنه واجتمع المسلمون بمرّ الظهران، ولم يبلغ قريشا حرف واحد من مسيرهم، فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين أن يوقدوا النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار، وأمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل ليالي فتح مكة، وفي غزوة بدر.
بعثة قريش أبا سفيان يتجسس
وبعثت قريش أبا سفيان يتجسس الأخبار، وإن لقي محمدا يأخذ لهم منه جوارا، فإن رأى رقّة من أصحابه آذنه بالحرب، فخرج ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فرأوا الأبنية والعسكر والنيران بمرّ الظهران، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل، فأفزعهم ذلك فزعا شديدا وقالوا: هؤلاء بنو كعب جاشتها الحرب [ (1) ] ! فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب! قالوا: فتنجّعت [ (2) ] هوازن على أرضنا! واللَّه ما نعرف هذا، إن هذا العسكر مثل حاجّ الناس! وكان على الحرس تلك الليلة عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
خبر العباس وقدومه بأبي سفيان وصاحبيه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وقد ركب العباس رضي اللَّه عنه دلدل [ (3) ] ، على أن يصيب رسولا إلى قريش يخبرهم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم داخل عليهم في عشرة آلاف. فسمع صوت أبي سفيان، فقال: أبا حنظلة! فقال: يا لبيك! أبا الفضل؟ قال: نعم! قال: فما وراءك؟ قال: هذا رسول اللَّه في عشرة آلاف من المسلمين، فأسلم، ثكلتك أمك وعشيرتك، وأقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال: أسلما، فإنّي لكما جار حتى تنتهوا إلى رسول اللَّه، فإنّي أخشى أن تقطعوا دون النبي! قالوا: فنحن معك.
__________
[ (1) ] جاشتها الحرب: هاجتها كما تجيش النار القدر فيغلي بها.
[ (2) ] من الانتجاع، وهو طلب الكلإ أيام الربيع.
[ (3) ] اسم بغلة كانت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.(1/358)
ويروى أن أبا سفيان وحكيما وبديلا لما طلعوا مر [الظهران] [ (1) ] عشاء، ورأوا النيران والفساطيط والعسكر راعهم ذلك، فبينا هم كذلك لم يشعروا حتى أخذهم نفر- كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثهم عيونا له- بخطم [ (2) ] أبعرتهم، وأتوا بهم العسكر، فلقيهم عند ذلك العباس فأجارهم.
دخولهم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأتى بهم العباس ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قد أجرتهم، وهم يدخلون عليك! فقال:
أدخلهم. فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل ليستخبرهم، ودعاهم إلى الإسلام، فأسلم حكيم وبديل. وقال أبو سفيان: أشهد أنّ لا إله إلا اللَّه. فقال رسول اللَّه: وأني رسول اللَّه. قال: واللَّه يا محمد، إن في النفس من هذا لشيئا بعد، فارجها [ (3) ] . ثم قال للعباس: قد أجرناهم، اذهب بهم إلى منزلك. فذهب بهم.
خبر أبي سفيان بعد سماع الأذان
فلما أذّن الصبح، أذّن العسكر كلهم، ففزع أبو سفيان من أذانهم وقال:
ما يصنعون؟ أمروا فيّ بشيء؟ قال: لا! ولكنهم قاموا إلى الصلاة! قال أبو سفيان: كم يصلون في اليوم والليلة؟ قال: يصلون خمس صلوات. قال: كثير واللَّه! فلما رآهم أبو سفيان يبتدرون وضوء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: ما رأيت يا أبا الفضل ملكا كهذا! لا ملك [ (4) ] كسرى ولا ملك بني الأصفر! فقال العباس:
ويحك آمن! قال: أدخلني عليه. فأدخله، فقال: يا محمد! استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فلا واللَّه ما لقيتك من مرّة إلا ظفّرت عليّ، فلو كان إلهي حقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك! وشهد أن محمدا رسول اللَّه.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان، وفي (خ) «مدعشا» .
[ (2) ] خطم: جمع خطام، وهو الحبل الّذي يقاد به البعير.
[ (3) ] من الإرجاء وهو التأخير، وقد سهلت الهمزة.
[ (4) ] في (خ) «إلا ملك كسرى» .(1/359)
مقالة أبي سفيان وحكيم بن حزام
ثم قال أبو سفيان وحكيم: يا محمد! جئت بأوباش الناس- من نعرف ومن لا نعرف [ (1) ]- إلى عشيرتك وأصلك! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنتم أظلم وأفجر، غدرتم عهد الحديبيّة، وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم اللَّه وأمنه. فقال أبو سفيان وحكيم بن [ (2) ] حزام: يا رسول اللَّه! لو كنت جعلت حدّك [ (3) ] ومكيدتك بهوازن، فهم أبعد رحما وأشدّ لك عداوة! فقال: إني لأرجو [ (4) ] من ربّي أن يجمع ذلك لي كله: فتح مكة وإعزاز الإسلام بها، وهوازن، وأن يغنّمني اللَّه أموالهم وذراريهم، فإنّي راغب إلى اللَّه في ذلك.
وقيل: إن أبا سفيان ركب خلف العباس، ورجع حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء.
خبر عمر بن الخطاب حين رأى أبا سفيان
فلما مرّ العباس بعمر بن الخطاب، ورأى أبا سفيان قال: أبا سفيان! عدوّ اللَّه! الحمد للَّه الّذي أمكن منك بلا عهد ولا عقد. ثم خرج نحو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشتدّ، فركض العباس البغلة حتى اجتمعوا على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا.
فقال عمر: يا رسول اللَّه! هذا أبو سفيان عدوّ اللَّه، قد أمكن اللَّه منه بلا عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فقال العباس: إني قد أجرته! ثم التزم [ (5) ] رسول اللَّه، فقال: واللَّه لا يناجيه الليلة أحد دوني. فلما أكثر عمر في أبي سفيان قال العباس: مهلا يا عمر! وتلاحيا [ (6) ] .
فقال النبي عليه السلام للعباس: اذهب به فقد أجرته، فليبت عندك حتى تغدو علينا إذا أصبحت. فغدا به. فقال له رسول اللَّه: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك [ (7) ] أن تعلم أن لا إله إلا اللَّه؟ قال: بأبي أنت! ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع اللَّه إله [ (8) ] لقد أغنى عنّي شيئا بعد. قال: يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني
__________
[ (1) ] في (خ) «من تعرف ومن لا تعرف» .
[ (2) ] في (خ) «فقال أبو سفيان يا رسول اللَّه وحكيم بن حزام» .
[ (3) ] الحدّ: الشّدة، وهي في (خ) «جدك» .
[ (4) ] في (خ) «لأرجو» .
[ (5) ] التزمه: اعتنقه.
[ (6) ] تلاحيا: تنازعا.
[ (7) ] ألم يأن: ألم يحن.
[ (8) ] في (خ) «إلاه» .(1/360)
رسول اللَّه؟
[قال] [ (1) ] : بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أمّا هذه فو اللَّه إنّ في النفس منها لشيئا بعد، فقال العباس: ويحك! اشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه قبل واللَّه أن تقتل! فشهد شهادة الحق.
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
فقال العباس: يا رسول اللَّه! إنك قد عرفت أبا سفيان وحبّه الشّرف والفخر، اجعل له شيئا. قال: نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق [عليه] [ (1) ] داره فهو آمن. وأمر ألا يجهز على جريح، ولا يتّبع مدبر. ويروى أن أبا سفيان وحكيما قالا: يا رسول اللَّه! ادع الناس إلى الأمان! أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها، آمنون هم؟ قال: نعم! من كفّ يده وأغلق [عليه] [ (1) ] بابه فهو آمن. قالوا: فابعثنا نؤذّن فيهم بذلك. قال: انطلقوا، فمن دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن، ودارك يا حكيم، و [ومن] [ (1) ] كفّ يده فهو آمن.
رد أبي سفيان بعد فراقه
فلما توجهوا قال للعباس: إني لا آمن أبا سفيان أن يرجع عن إسلامه ويكفر، فاردده حتى يفقه ويرى جنود اللَّه معك.
فأدركه عباس فحبسه، فقال: أغدرا يا بني هاشم؟ قال: ستعلم أنّا لسنا بغدر [ (2) ] ، ولكن لي إليك حاجة، فأصبح حتى تنظر إلى جنود اللَّه، وإلى ما أعدّ للمشركين. فحبسه بالمضيق- دون الأراك إلى مكة- حتى أصبحوا.
وقيل: بل قال عليه السلام للعباس بعد ما خرج أبو سفيان: احبسه بمضيق الوادي حتى تمر به جنود اللَّه فيراها.
فعدل به العباس في مضيق الوادي، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مناديا فنادى: لتصبح كلّ قبيلة قد ارتحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر كل ما معها من العدّة.
__________
[ (1) ] زيادة في السياق.
[ (2) ] غدر: جمع غدور، وهو الغادر.(1/361)
تعبئة المسلمين ومرورهم على أبي سفيان
فأصبح الناس على ظهر [ (1) ] ، وعبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، فجعل أبا عبيدة ابن الجراح [ (2) ] على المقدّمة،
__________
[ (1) ] على استعداد للسفر.
[ (2) ] هو عامر بن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النّضر ابن كنانة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشيّ الفهريّ المكّي. أحد السابقين الأولين، عزم الصديق على توليته الخلافة، وأشار به يوم السقيفة، لكمال أهليته عند أبي بكر. يجتمع في النسب هو والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في فهر، شهد له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجنة، وسماه أمين الأمة، ومناقبه شهيرة جمة، وغزا غزوات مشهورة، له في صحيح مسلم حديث واحد، وله في جامع أبي عيسى حديث، وله في مسند بقيّ خمسة عشر حديثا.
وقد شهد أبو عبيدة بدرا، فقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ضربة أصابته، فانقلعت بهما ثنيتاه، حتى قيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة، وكان أبو عبيدة معدودا فيمن جمع القرآن العظيم.
وكان موصوفا بحسن الخلق، وبالحلم الزائد والتواضع. ولما فرغ الصديق من حرب أهل الردّة، وحرب مسيلمة الكذاب، جهّز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فتمّت وقعة أجنادين بقرب الرملة، ونصر اللَّه المؤمنين، فجاءت البشرى، والصّدّيق في مرض الموت.
ثم كانت وقعة فحل، ووقعة مرج الصّفر، وكان قد سيّر أبو بكر خالدا لغزو العراق، ثم بعث إليه لينجد من بالشام، فقطع المفاوز على بريّة السماوة، فأمّره الصديق على الأمراء كلهم، وحاصروا دمشق، وتوفّي أبو بكر، فبادر عمر بعزل خالد، واستعمل على الكل أبا عبيدة، فجاءه التقليد، فكتمه مدة، وكل هذا من دينه ولينه وحلمه، فكان فتح دمشق على يده، فعند ذلك أظهر التقليد، ليعقد الصلح للروم، ففتحوا له باب الجابية صلحا، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقيّ، فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح.
وعن المغيرة، أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك، التي استأصل اللَّه فيها جيوش الروم، وقتل منهم خلق عظيم. وتوفي أبو عبيدة رضي اللَّه عنه في سنة ثمان عشرة، وله ثمان وخمسون سنة.
* (مسند أحمد) : 1/ 195- 196، (طبقات ابن سعد) : 3/ 1/ 409، (التاريخ الكبير) : 6/ 444، (التاريخ الصغير) : 1/ 40، (المعارف) : 247- 248، (تاريخ الطبري) :
3/ 202 (الجرح والتعديل) : 6/ 635، (المستدرك) : 3/ 262- 268، (حلية الأولياء) :
1/ 100- 102، (الاستيعاب) : 4/ 1710، (صفة الصفوة) : 1/ 192، (جامع الأصول) : 9/ 20- 21، (الكامل في التاريخ) 2/ 259، (تاريخ الإسلام) : 2/ 138،(1/362)
وخالد بن الوليد [ (1) ] على الميمنة، والزبير بن العوام [ (2) ]
__________
[ () ] (تهذيب التهذيب) : 5/ 630، (الإصابة) 3/ 586- 590، (تاريخ الخميس) :
2/ 244، (كنزل العمال) : 13/ 214- 219، (فتح الباري) : 7/ 116- 117، (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 29، (سير أعلام النبلاء) 1/ 5- 23، (الزهد للإمام أحمد) :
176، (زاد المعاد) : 3/ 197، 204، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 259، (التاريخ الصغير) :
1/ 40.
[ (1) ] هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن كعب، سيف اللَّه تعالى، وفارس الإسلام، ليث المشاهد، السيد الإمام الكبير، وقائد المجاهدين، أبو سليمان القرشيّ المخزوميّ المكّي، وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.
هاجر مسلما في صفر سنة ثمان، ثم سار غازيا فشهد غزوة مؤتة، واستشهد أمراء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الثلاثة: مولاه زيد، وابن عمه جعفر ذو الجناحين، وابن رواحة، وبقي الجيش بلا أمير، فتأمّر عليهم في الحال خالد، وأخذ الراية، وحمل على العدوّ، فكان النصر،
وسمّاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سيف اللَّه، فقال:
إن خالدا سيف سله اللَّه على المشركين،
وشهد الفتح، وحنينا، وتأمّر في أيام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، واحتسب أدراعه ولأمته في سبيل اللَّه، وحارب أهل الردّة، ومسيلمة، وغزا العراق، واستظهر، ثم اخترق البرّية السماوية، بحيث أنه قطع المفازة من حدّ العراق إلى أول الشام في خمس ليال، في عسكر معه، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء.
ومناقبه غزيرة، أمّره الصديق على سائر أمراء الأجناد، وحاصر دمشق، فافتتحها هو وأبو عبيدة رضي اللَّه عنهما. له في الصحيحين حديثان، وفي مسند بقيّ واحد وسبعون، توفي بحمص سنة إحدى وعشرين. وذكر محمد بن سلام قال: لم تبق امرأة من بني المغيرة إلا وضعت لمّتها على قبر خالد ابن الوليد، يقول: حلقت رأسها.
* (مسند أحمد) : 4/ 88، (ابن هشام) : 4/ 237- 239، (طبقات ابن سعد) :
4/ 252 (التاريخ الصغير) : 1/ 23، 40، (المعارف) : 267، (الجرح والتعديل) :
3/ 356، (الاستيعاب) : 2/ 427- 431، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 182- 174، (تهذيب التهذيب) : 3/ 142، (الإصابة) : 2/ 251- 256، (كنز العمال) :
13/ 366- 375.
[ (2) ] هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ ابن غالب، حواريّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد السّتّة أهل الشورى، وأول من سلّ سيفه في سبيل اللَّه، أبو عبد اللَّه رضي اللَّه عنه. أسلم وهو حدث، له ستة عشرة سنة روي أحاديث يسيرة، اتّفقا له على حديثين، وانفرد له البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بحديث. وعن عمر بن مصعب بن الزبير قال: قاتل الزبير مع نبي اللَّه، وله سبع عشرة سنة، وقال هشام بن عروة عن أبيه، قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيماء الزبير. وهو ممن هاجر إلى الحبشة، فيما نقله موسى بن عقبة، وابن إسحاق، ولم يطول الإقامة بها.
عن علي بن زيد: أخبرني من رأى الزبير، وفي صدره أمثال العيون من الطعن والرّمي، وعن عروة قال: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف، إحداهن في عاتقه، إن كنت لأدخل أصابعي فيها، ضرب(1/363)
على الميسرة، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم في القلب، وقدم بين يديه الكتائب فمرّت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها. فقدم خالد بن الوليد في بني سليم [ (1) ]- وهم ألف
__________
[ () ] ثنتين يوم بدر، وواحدة في اليرموك.
عن ابن عباس أنه قال للزبير يوم الجمل: يا ابن صفية! هذه عائشة تملّك الملك طلحة، وأنت علام تقاتل قريبك عليا؟ فرجع الزبير، فلقيه ابن جرموز فقتله.
قال البخاري وغيره: قتل في رجب سنة ست وثلاثين.
* (مسند أحمد) : 1/ 164- 167، (طبقات ابن سعد) : 3/ 70- 80، (التاريخ الكبير) : 3/ 409، (التاريخ الصغير) : 1/ 75، (المعارف) : 219- 227، (الجرح والتعديل) : 3/ 578، (المستدرك) : 3/ 359- 368، (حلية الأولياء) : 1/ 89، (الاستيعاب) : 2/ 510، (صفة الصفوة) : 1/ 180- 183، (جامع الأصول) :
9/ 5- 10، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 194- 196، (تهذيب التهذيب) :
3/ 318، (الإصابة) : 2/ 553- 558، (تاريخ الخميس) : 1/ 172، (كنز العمال) :
13/ 204- 212، (تاريخ الإسلام) : 2/ 138، 184، 314، 333، 382، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 41، (المعارف) : 219- 220، (الزهد للإمام أحمد) : 137.
[ (1) ] هم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، ولد سليم بن منصور: بهثة، فولد بهثة بن سليم: الحارث، وثعلبة، بطن صغير، وامرؤ القيس، وعوف، وكان كاهنا، وثعلبة، ومعاوية.
(جمهرة أنساب العرب) : 261.
- وبهثة بطن من قيس عيلان، وهو الّذي ينسب إليه بنو سليم، وهم بنو بهثة بن سليم بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، منهم عمرو بن عبسة السّلمي، وهو بهثّي، وكذلك العرباض بن سارية وغيرهما، وبنو بهثة بن حرب بن وهب بن بليّ بن أحمس بن ضبيعة، وفي العرب بنو بهثة جماعة. (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 191، (معجم قبائل العرب) : 1/ 109.
- وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا ابن العواتك من سليم»
والعواتك من جداته صلّى اللَّه عليه وسلّم تسع كل تسمى عاتكة، وهن: عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان أم عبد مناف، وعاتكة بنت مرة بنت هلال بن فالج أم هاشم، وعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب أبي آمنة، وبقية التسع من غير بني سليم.
وعاتكة: اسم منقول من الصفات، يقال امرأة عاتكة، وهي المصفّرة بالزعفران والطيب، والعاتك:
الكريم والخالص من الألوان، والعواتك من الصحابيات هن: عاتكة بنت أسيد، وبنت خالد، وبنت زيد بن عمرو، وبنت عبد المطلب، وبنت عوف، وبنت نعيم، وبنت الوليد. (ترتيب القاموس المحيط) : 3/ 150- 151.
وحديث «أنا ابن العواتك» ، ذكره الألباني في (الصحيحة) : 1569، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي، كابن عساكر في التاريخ: اختلف على هيثم فيه، وهو هيثم بن بشير السّلميّ، أبو معاوية الواسطي الحافظ، أحد الأعلام، سمع الزهري، وحصين بن عبد الرحمن. وعنه يحيى القطان، وأحمد، ويعقوب الدّورقيّ، وخلق كثير. مولده سنة أربع ومائة، وسمع من الزهريّ، وابن عمر أيام الحجّ، وكان مدلسا، وهو ليّن في الزهري. (ميزان الاعتدال) : 4/ 306، ت 9250.(1/364)
يحمل لواءهم عباس بن مرداس [ (1) ] ،
__________
[ () ] هيثم بن بشير الواسطي، أحد الأئمة، متفق على توثيقه، إلا أنه كان مشهورا بالتدليس وروايته عن الزهري خاصة لينة عندهم، فأما التدليس، فقد ذكر جماعة من الحفاظ أن البخاري كان لا يخرّج عنه إلا ما صرّح فيه بالتحديث، واعتبرت أنا هذا في حديثه، فوجدته كذلك، إما أن يكون قد صرّح به في نفس الإسناد، أو صرّح به من وجه آخر، وأما روايته عن الزهريّ فليس في الصحيحين منها شيء، واحتجّ به الأئمة كلهم. واللَّه أعلم. (هدي الساري) : 626. هشيم، حجة يدلّس، وهو لين في روايته عن الزهري. (المغني في الضعفاء) : 2/ 712، ت 6765.
[ (1) ] هو عباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن حييّ بن الحارث ابن بهثة بن سليم السّلمي، يكنى أبا الفضل، وقيل أبا الهيثم. أسلم قبل فتح مكة بيسير، وكان مرداس أبوه شريكا ومصافيا لحرب بني أمية، ويزعم بعض أهل الأخبار أن الجن قتلتهما جميعا، وذكروا أن ثلاثة نفر ذهبوا على وجوههم، فهاموا ولم يوجدوا، ولم يسمع لهم بأثر: طالب بن أبي طالب، وسنان ابن حارثة، ومرداس بن أبي عامر، أبو عباس بن مرداس.
وكان عباس بن مرداس من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامهم، ولما أعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المؤلفة قلوبهم من سبي حنين «الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن» مائة مائة من الإبل، ونقص طائفة من المائة، منهم عباس بن مرداس، جعل عباس بن مرداس يقول، إذا لم يبلغ به من العطاء ما بلغ به من العطاء ما بلغ بالأقرع بن حابس وعيينة بن حصن:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في القوم ذا تدرأ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
فصالا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وكانت نهابا تلافيتها ... بكرّي على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي،
وكان شاعرا محسنا مشهورا، وله في يوم حنين أشعار حسان، وهو القائل:
يا خاتم النّباء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكا
إن الإله بني عليك محبة ... في خلقه، ومحمدا سمّاكا
وكان عباس بن مرداس ممن حرّم الخمر في الجاهلية. وكان ممن حرّم الخمر في الجاهلية أيضا: أبو بكر الصديق، وعثمان بن مظعون، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وقيس بن عاصم، وحرمها قبل هؤلاء: عبد المطلب بن هاشم، وعبد اللَّه بن جدعان، وشيبة بن ربيعة، وورقة بن نوفل، والوليد ابن المغيرة، وعامر بن الظرب، ويقال: هو أول من حرّمها في الجاهلية على نفسه، ويقال: بل عفيف ابن معديكرب العبديّ، كان عباس بن مرداس ينزل بالبادية بناحية البصرة، روي عنه ابنه كنانة ابن عباس.
* (تهذيب التهذيب) : 5/ 114، (طبقات ابن سعد) : 1/ 273، 307، 308، 2/ 53، 4/ 271، 346، 5/ 516، (الإصابة) : 3/ 633- 634، (الاستيعاب) :(1/365)
وخفاف بن ندبة [ (1) ]- فقال أبو سفيان [ (2) ] : من هؤلاء؟ قال العباس [ (3) ] : خالد بن الوليد، فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان،
__________
[ () ] 2/ 817- 820، (ابن هشام) : 5/ 91- 92، (المعارف) : 336- 342، (زاد المعاد) : 3/ 473، 476. (الشعر والشعراء) : 184.
[ (1) ] هو خفاف بن ندبة «بالحركات الثلاث» ابن عمير بن عمر بن الشريد السّلمي، «ندبة أمه، وأبوه عمير» . يكنى أبا خرشة، أو خراشة، وهو ابن عم خنساء، وصخر، ومعاوية، وخفاف هذا شاعر مشهور بالشعر، وكان أسود حالكا. قال أبو عبيدة: هو أحد أغربة العرب. قال الأصمعي: شهد خفاف حنينا. وقال غيره: شهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتح مكة، ومعه لواء بني سليم، وشهد حنينا والطائف. وقال أبو عبيدة: حدثني أبو بلال سهم بن العباس بن مرادس السلمي قال:
غزا معاوية بن عمرو بن الشريد أخو خنساء مرّة وفزارة ومعه خفاف بن ندبة، فاعتوره هاشم وزيد ابنا حرملة المرّيّان، فاستطرد له أحدهما، ثم وقف وشدّ عليه الآخر فقتله، فلما تنادوا قتل معاوية.
قال خفاف، قتلني اللَّه إن رمت حتى أثأر به، فشدّ على مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة فقتله، وقال:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عيني تيمّمت مالكا
وقفت له علوي وقد خان صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا
قال أبو عمر: له حديث واحد لا أعلم غيره، رواه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فقلت: يا رسول اللَّه، أين تأمرني أن أنزل، أعلى قرشىّ؟ أم أنصاريّ؟ أم أسلم؟ أم غفار؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا خفاف، ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك» . هذا الحديث عند الخطيب في الجامع، من طريق عبد للَّه بن محمد اليماني، عن أبيه عن جده قال: قال خفاف بن ندبة: قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق»
وكلها ضعيفة.
* (المعارف) : 325، 597، (تاريخ الطبري) : 3/ 265، 427، (طبقات ابن سعد) :
3/ 604، 4/ 275، (الشعر والشعراء) : 212، (الإصابة) : 2/ 236- 237، (الاستيعاب) : 2/ 450- 451، (إتحاف السادة المتقين) : 7/ 452، (كنز العمال) :
17539.
[ (2) ] راجع ترجمته ص (11) من هذا الجزء.
[ (3) ] هو العبّاس، عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر، فأسر يومئذ، فادّعى أنه مسلم، فاللَّه تعالى أعلم، وليس هو في عداد الطلقاء، فإنه كان قدم إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الفتح، ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟ وله عدة أحاديث، منها خمسة وثلاثون في مسند بقيّ، وفي البخاري ومسلم حديث، وفي البخاري حديث، وفي مسلم ثلاثة أحاديث، وقدم الشام مع عمر.
قال الكلبي: كان العباس شريفا مهيبا، عاقلا جميلا، أبيض بضا، له ضفيرتان، معتدل القامة، ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين.
بل كان من أطول الرجال، وأحسنهم صورة، وأبهاهم وأجهرهم صوتا، مع الحلم الوافر والسؤدد.(1/366)
كبر بمن معه ثلاثا ومضوا. ثم مرّ على إثره الزبير بن العوام: في خمسمائة ومعه راية سوداء، فلما حاذاهما كبّر ثلاثا وكبر أصحابه، فقال [أبو سفيان] : من هذا؟ قال [العباس] : الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم! ومرّت بنو غفار [ (1) ] في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذرّ الغفاريّ [ (2) ] [ويقال: إيماء
__________
[ () ] روي مغيرة عن أبي رزين، قال: قيل للعباس: أنت أكبر أو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟ قال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله، وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب.
وثبت أن العباس كان يوم حنين، وقت الهزيمة، آخذا بلجام بغلة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وثبت معه حتى نزل النصر. وثبت من حديث أنس: أن عمرا استسقى فقال: اللَّهمّ إنا كنا قحطنا على عهد نبيك توسّلنا به، وإنا نستسقي إليك بعم نبيّك العباس.
قال الضحاك بن عثمان الحزامي: كان يكون للعباس الحاجة إلى غلمانه وهم بالغابة، فيقف على سلع، وذلك في آخر الليل فيناديهم، فيسمعهم، والغابة نحو من تسعة أميال.
كان تامّ الشكل، جهوريّ الصوت جدا، وهو الّذي أمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يهتف يوم حنين:
يا أصحاب الشجرة.
كانت وفاته في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وله ست وثمانون سنة، ولم يبلغ أحد هذه السّن من أولاده، ولا أولادهم، ولا ذريته الخلفاء، وقبره بالبقيع.
* (مسند أحمد) : 1/ 206، (طبقات ابن سعد) : 4/ 5- 33، (التاريخ الكبير) :
7/ 2، (المعارف) : 118، 137، 156، 589، 592، (الجرح والتعديل) : 6/ 210، (المستدرك) : 3/ 321- 334، (تهذيب التهذيب) : 5/ 214- 215، (الاستيعاب) :
2/ 810/ 817، (صفة الصفوة) : 1/ 262- 264، (الإصابة) : 3/ 631- 632 (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 35، (كنز العمال) : 3/ 502.
[ (1) ] غفار بن مليل: بطن من كنانة من العدنانية، وهم بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة (عمرو) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، كانوا حول مكة، ومن مياههم: بدر، ومن أوديتم ودّان.
وقد قاتلوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة حنين، وعددهم ألف،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الأنصار، ومزينة، وجهينة، وغفار، وأشجع، ومن كان من بني عبد اللَّه، مواليّ دون الناس، واللَّه ورسوله مولاهم.
وولد مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد منافة بن كنانة: غفار بطن ضخم، ونعيلة. منهم: الحكم ابن عمرو بن مجدع بن حذيم بن الحارث بن نعيلة بن مليل، له صحبة ورواية ولي خراسان، وأبو سريحة حذيفة بن أمية بن أسيد بن الأحوص بن واقعة بن حرام بن غفار، له صحبة ورواية، وأبو ذر الصاحب.
(معجم قبائل العرب) : 3/ 890، (جمهرة أنساب العرب) : 186، (ترتيب القاموس المحيط) : 3/ 406، (معجم البلدان) : 5/ 420، (اللباب في تهذيب الأنساب) : 2/ 387.
[ (2) ] هو جندب بن جنادة الغفاريّ، وقيل: جندب بن سكن. وقيل: برير بن جنادة، وقيل: برير ابن عبد اللَّه، ونبّأني الدمياطيّ: أنه جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار- أخي(1/367)
ابن رحضة] [ (1) ] ، فلما حاذوهما كبروا ثلاثا، فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال
__________
[ () ] ثعلبة- ابني مليل بن ضمرة، أخي ليث والدّيل، أولاد بكر، أخي مرة، والد مدلج بن مرة، ابني عبد مناة بن كنانة.
أحد السابقين الأولين، من نجباء أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. قيل: كان خامس خمسة في الإسلام. ثم إنه ردّ إلى بلاد قومه، فأقام بها بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم له بذلك، فلما أن هاجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، هاجر إليه أبو ذرّ رضي اللَّه عنه، ولازمه، وجاهد معه، وكان يفتي في خلافة أبي بكر، وعمر وعثمان، وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوّالا بالحق، لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، على حدّة فيه، وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر، رضي اللَّه عنهما.
وقد قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي ذر- مع قوّة أبي ذرّ في بدنه وشجاعته-: «يا أبا ذرّ، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولّينّ مال يتيم» .
فهذا محمول على ضعف الرأي، فإنه لو ولي مال يتيم لأنفقه كلّه في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيرا، فإنه كان لا يستجيز ادخار النقدين، والّذي يتأمّر على الناس، يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر رضي اللَّه عنه كانت فيه حدّة فنصحه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وله مائتا حديث وأحد وثمانون حديثا، اتّفقا منها على اثنى عشر حديثا، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر.
قال الواقدي كان حامل راية غفار يوم حنين أبو ذر. قال الفلّاس والعيصم بن عديّ وغيرهما:
مات سن اثنتين وثلاثين، ويقال: مات في ذي الحجة.
* (الزهد للإمام أحمد) : 139، (مسند أحمد) : 5/ 144، (طبقات ابن سعد) :
4/ 219- 237، (التاريخ الكبير) : 2/ 212، (المعارف) : 2/ 67، 152، 195، 252، 253، (تاريخ الطبري) : 4/ 283، (المستدرك) : 3/ 337- 346، (حلية الأولياء) : 1/ 156- 170، (الاستيعاب) : 1/ 252- 456، 4/ 1652- 1656، (جامع الأصول) : 9/ 50- 59، (تاريخ الإسلام) : 2/ 165- 170، (تهذيب التهذيب) 12/ 98- 99، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 173 (كنز العمال) : 13/ 311، (شذرات الذهب) : 1/ 24، 56، 63، (الإصابة) : 1/ 506، 7/ 125- 130، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 46- 78.
[ (1) ] هو إيماء بن رحضة بن خرّبة بن خفاف بن حارثة بن غفار، قديم الإسلام، قال ابن المديني: له صحبة. قال: وقد روي حنظلة الأسلمي عن خفاف بن إيماء بن رحضة حديث القنوت، وقال بعضهم: عن إيماء بن رحضة.
وروي مسلم في صحيحه، قصة إسلام أبي ذر، من طريق عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ، وفيها: فجئنا قومنا فأسلم نصفهم قبل أن يقدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاريّ. ولكن ذكر الإمام أحمد في هذا الحديث الاختلاف على رواية سليمان بن المغيرة، هل هو خفاف بن إيماء أو أبوه إيماء ابن رحضة؟ وعلى هذا فيمكن أن يكون إسلام خفاف تقدم على إسلام أبيه.
وذكر الزبير بن بكار من حديث حكيم بن حزام، أن إيماء بن رحضة حضر بدرا مع المشركين، فيكون إسلامه بعد ذلك.(1/368)
العباس: بنو غفار. فقال: ما لي ولبني غفار!! ثم مضت أسلم [ (1) ] في أربعمائة فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب [ (2) ] ، والآخر ناجية بن الأعجم [ (3) ] .
__________
[ () ] وقال ابن سعد: كان قد سكن غيقة من ناحية السّقيا، ويأوى إلى المدينة، وقال أبو عمر في الاستيعاب: أسلم قريبا من الحديبيّة، وكانوا مرّوا عليه ببدر وهو مشرك، ولابنه خفاف صحبة، وكانا ينزلان غيقة من بلاد بني غفار، ويأتون المدينة كثيرا، ولابنه خفاف رواية عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
* (الإصابة) : 1/ 169، (الاستيعاب) : 1/ 135، (طبقات ابن سعد) : 4/ 221، (مسلم بشرح النووي) : 16/ 31.
[ (1) ] أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، منهم أبو فراس ربيعة بن كعب الأسلمي، له صحبة، أبو برزة الأسلمي وغيرهما. (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 58.
ولد أسلم بن أفصى: سلامان بن أسلم، بطن، وهوازن بن أسلم، بطن، منهم: مالك والنعمان ابنا خلف بن عوف بن دارم بن عدّ بن وائلة بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم، كانا طليعتين للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، قتلا فدفنا في قبر واحد، وبريدة بن الخصيب الأسلمي. (جمهرة أنساب العرب) : 240.
[ (2) ] هو بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد. أبو عبد اللَّه، وقيل أبو سهل، وأبو ساسان، وأبو الحصيب، الأسلمي. قيل إنه أسلم عام الهجرة، إذ مرّ به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مهاجرا، وشهد غزوة خيبر، والفتح، وكان معه اللواء، واستعمله النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقة قومه. وكان يحمل لواء الأمير أسامة حين غزا أرض البلقاء، إثر وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
له جملة أحاديث، نحو مائة وخمسين حديثا، نزل مرو، ونشر العلم بها، وسكن البصرة مدة، ثم غزا خراسان زمن عثمان، وكان بريدة من أمراء عمر بن الخطاب في نوبة سرغ. وقال ابن سعد:
مات بريدة سنة ثلاث وستين.
* (مسند أحمد) : 5/ 346، (طبقات ابن سعد) : 4/ 241- 243، 7/ 365، (التاريخ الكبير) : 2/ 141، (المعارف) : 300، (الجرح والتعديل) : 2/ 424، (الإصابة) : 1/ 286- 287، (الاستيعاب) : 1/ 185- 186، (شذرات الذهب) :
1/ 70، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 469- 471.
[ (3) ] هو ناجية بن الأعجم الأسلمي، شهد الحديبيّة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال:
حدثني الهيثم بن واقد عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه قال: حدثني أربعة عشر رجلا من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أن ناجية بن الأعجم هو الّذي نزل بالسهم في البئر بالحديبية فجاشت بالرواء حتى صدورا بعطن.
قال: وقال محمد بن عمر: ويقال الّذي نزل بالسهم ناجية بن جندب، ويقال: البراء بن عازب، ويقال: عباد بن خالد الغفاريّ، والأول أثبت أنه ناجية بن الأعجم، وعقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة لأسلم لواءين، فحمل أحدهما ناجية بن الأعجم، والآخر بريدة بن الحصيب.
ومات ناجية بن الأعجم بالمدينة، في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، وليس له عقب.
* (طبقات ابن سعد) : 4/ 314- 315، (مغازي الواقدي) : 587، 588، 800، 819، (الإصابة) : 4/ 314- 315.(1/369)
فلما حاذوهما كبّروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال ما لي ولأسلم! ما كان بيننا وبينهم ترة [ (1) ] قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام ثم مرّت بنو كعب بن عمرو [ (2) ] في خمسمائة، يحمل لواءهم بسر بن سفيان [ (3) ] . قال من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. فلما حاذوه كبروا ثلاثا. ثم مرت مزينة [ (4) ]
__________
[ (1) ] التّرة: الثأر، كناية عن هوانهم.
[ (2) ] هم بنو كعب بن عمرو مزيقياء، ولد كعب بن عمرو مزيقياء: ثعلبة، وامرؤ القيس قاتل الجوع، وجبلة، ومالك. منهم النّمس، وهو يزيد ابن الأسود بن معدّ بن شراحبيل بن الأرقم بن الأسود ابن ثعلبة بن كعب، دخل مع جبلة إلى الروم، ثم رجع مسلما، ولولده بالشام عدد وشرف، ورجع معه جماعة من غسّان مسلمين.
ومنهم: فروة بن المنذر، قاتل مع ابن الزبير، والسّموأل بن حيّا بن عاديا بن رفاعة بن الحارث ابن ثعلبة بن كعب بن عمرو مزيقياء، وكان يهوديا، وهو الّذي يضرب به المثل في الوفاء، وهو صاحب تيماء، وولده شريح بن السموأل، ولولده هنالك عدد، ومدحه الأعشى، وكانوا ملوك تيماء.
والكعبيّ: نسبة إلى سبعة رجال، ذكرهم ابن الأثير في تهذيبه لأنساب السمعاني فليراجع هناك.
* (جمهرة أنساب العرب) : 372، (اللباب في تهذيب الأنساب) : 3/ 101- 102، (الاشتقاق) : 436.
[ (3) ] هو بسر بن سفيان بن عمرو بن عويمر بن صرمة بن عبد اللَّه بن عمير بن حبيشة بن سلول الخزاعيّ، قال ابن الكلبي: كتب إليه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان شريفا.
وقال أبو عمر: أسلم سنة ستّ، وجرى ذكره في حديث الحديبيّة وغيره. قال الإمام أحمد في مسندة: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قالا: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبيّة يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي، فقال:
يا رسول اللَّه، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العوذ المطافيل،.... فذكر الحديث مطوّلا.
وله يقول عبد اللَّه بن الزّبعرى في قصة طلب آل مخزوم بدم الوليد بن الوليد بن المغيرة من خزاعة.
ألا بلّغا بسر بن سفيان أنّه ... يبلّغها عني الخبير المفرّد
فذكر القصيدة، قال: فأخذ بسر بيد ابنه فقال: يا معشر قريش، هذا ابني رهين لكم بالدية، فأخذه خالد بن الوليد، فأطعمه وكساه حلّة وطيّبه، وقال: انطلق إلى أبيك، فحمل بسر بن سفيان إليهم دية الولد. وفرّد الرجل: إذا تفقه وخلا بمراعاة الأمر والنهي، وقد جاء في الخبر: طوبى للمفردين.
* (الإصابة) : 1/ 292، (طبقات ابن سعد) : 2/ 95، 160، 4/ 294، (الاستيعاب) : 1/ 166، (مغازي الواقدي) : 592، 943، (مسند أحمد) : 4/ 323، (لسان العرب) : 3/ 332 مادة «فرد» .
[ (4) ] نسبوا إلى مزينة بنت كلب بن وبرة، أم عثمان وأوس، وهم قبيلة كبيرة، منها عبد اللَّه بن مغفّل المزني، له صحبة ومعقل، والنعمان وسويد بنو مقرن المزني، لهم صحبة، وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري صاحب الشافعيّ، وأما أحمد بن إبراهيم بن العيزار المزني، فإنه نسبة إلى قرية مزنة، وهي(1/370)
في ألف- فيها ثلاثة ألوية ومائة فرس، يحمل ألويتها: النعمان بن مقرّن [ (1) ] ، وبلال بن الحارث [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن عمر [ (3) ]- فلما حاذوه كبّروا، فقال: من
__________
[ () ] من قرى سمرقند وتحرك النسبة إليها.
* (اللباب في تهذيب الأنساب) : 3/ 205، (جمهرة أنساب العرب) : 201، (معجم البلدان) : 1/ 614، مراصد الاطلاع: 1/ 236، (معجم ما استعجم) : 1/ 287، الاشتقاق: 180.
[ (1) ] هو النعمان بن مقرّن أبو حكيم، وقيل: أبو عمرو المزنيّ الأمير، صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، كان إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم كان أمير الجيش الذين افتتحوا نهاوند، فاستشهد يومئذ، وكان مجاب الدعوة، فنعاه عمر على المنبر إلى المسلمين، وبكى.
حدّث عنه ابنه معاوية، ومعقل بن يسار، ومسلم بن الهيضم، وجبير بن حية الثقفيّ، وكان مقتله في سنة إحدى وعشرين، يوم جمعة، رضي اللَّه عنه.
* (مسند أحمد) : 5/ 444، (الإصابة) : 6/ 449، (الاستيعاب) : 4/ 1505، (تهذيب التهذيب) : 10/ 407، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 196، (التاريخ الكبير) :
8/ 75 (المستدرك) : 3/ 292- 295، (شذرات الذهب) : 1/ 32، (المعارف) : 75، 183، 299، (طبقات ابن سعد) : 6/ 18، (الجرح والتعديل) : 8/ 444، (سير أعلام النبلاء) : 356- 358.
[ (2) ] هو بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد بن قرّة بن خلاوة- بالخاء المعجمة المفتوحة- ابن ثعلبة ابن ثور، أبو عبد الرحمن المزني، من أهل المدينة، أقطعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العقيق.
وفد على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة، وسكن موضعا يعرف بالأشعر وراء المدينة، ثم تحول إلى البصرة، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين، توفي سنة ستين في خلافة معاوية رحمه اللَّه، وهو ابن ثمانين سنة. وابنه حسّان بن بلال، أول من أحدث الإرجاء بالبصرة.
* (شذرات الذهب) : 1/ 65، (الاستيعاب) : 1/ 183، (الإصابة) : 1/ 326، (تهذيب التهذيب) : 1/ 440، (طبقات ابن سعد) : 1/ 272، 291، 339، (حلية الأولياء) : 8/ 187، (المعارف) : 298، (مغازي الواقدي) : 276، 425، 426، 571، 799، 800، 820، 896، 1014، 1029.
[ (3) ] هو عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب ابن لؤيّ بن غالب، الإمام القدوة شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن القرشيّ العدويّ المكيّ، ثم المدنيّ.
أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه قبل أن يحتلم، واستصغر يوم أحد، فأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وأمه وأم المؤمنين حفصة، زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون الجمحيّ.
روي علما كثيرا نافعا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن أبيه، وأبي بكر، وعثمان، وعليّ، وبلال، وصهيب، وعامر بن ربيعة، وزيد بن ثابت، وزيد عمّه (زيد بن الخطاب) ، وسعد، وابن مسعود، وعثمان ابن طلحة، وأسلم، وحفصة أخته، وعائشة، وغيرهم.(1/371)
هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: ما لي ولمزينة! جاءتني تقعقع من شواهقها [ (1) ] ! ثم مرّت جهينة [ (2) ] في ثمانمائة-
__________
[ () ] روي عنه الحسن البصريّ وطاووس، وابن شهاب الزّهريّ، وأمم سواهم. قدم الشام والعراق، والبصرة وفارس غازيا، وقال ابن يونس: شهد ابن عمر فتح مصر، واختط بها، وروي عنه أكثر من أربعين نفسا من أهلها.
قال ابن مسعود: إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد اللَّه بن عمر، وعن عائشة رضي اللَّه عنها: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من ابن عمر.
قال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت، عبد اللَّه بن عمر، مكث ستين سنة يفتي الناس.
عن مالك، بلغه أن ابن عمر قال: لو اجتمعت عليّ الأمّة إلا رجلين ما قاتلتهما، ولابن عمر في مسند بقيّ ألفان وستمائة وثلاثون حديثا بالمكرر، واتفقا له على مائة وثمانية وستين حديثا، وانفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثا، ومسلم بأحد وثلاثين.
قال ضمرة بن ربيعة: مات ابن عمر سنة ثلاث وسبعين. وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة.
* (طبقات ابن سعد) : 2/ 373، 4/ 188، (الزهد للإمام أحمد) : 237، (التاريخ الصغير) : 1/ 154، (حلية الأولياء) : 1/ 292- 314، (المعارف) : 37، 135، 162، 184- 185، 186، 187، 188، 189، 190، 200، 274، 364، 401، 452، 453، 460، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 278، 281، (وفيات الأعيان) :
3/ 28- 31، (جمهرة أنساب العرب) : 152، (المستدرك) : 3/ 556، 557، (جامع الأصول) : 9/ 64، (تاريخ بغداد) : 1/ 171- 173، (الجرح والتعديل) : 5/ 107، (مرآة الجنان) : 1/ 154، (البداية والنهاية) : 9/ 7- 9، (الإصابة) : 4/ 181- 188، (خلاصة تذهيب الكمال) : 2/ 81، (شذرات الذهب) : 1/ 81، (سير أعلام النبلاء) :
3/ 203- 239.
[ (1) ] القعقاع: من إذا مشى سمع لمفاصل رجليه تقعقع. (ترتيب القاموس) : 3/ 660، والشواهق:
جمع شاهق، وهي الجبال العالية، وكانت مزينة من أصحاب الجبال، وكني أبو سفيان بذلك عن أنهم أجلاف غلاظ.
[ (2) ] جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم، ولد جهينة بن زيد: قيس، ومودوعة. فولد قيس ابن جهينة: غطفان وغيّان،
وفد بنو غيّان على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لهم: أنتم بنو رشدان،
وكان واديهم يسمى غوى، فسمّي رشدا.
وينسب إليها خلق كثير من الصحابة التابعين ومن بعدهم. قال ابن الأثير في (اللباب) : هكذا قال السمعاني جهينة، واسمه زيد، وليس كذلك، وإنما جهينة هو ابن زيد، وأسلم بضم اللام.
وجهينة أيضا قرية من قرى الموصل، منها تاج الإسلام أبو عبد اللَّه الحسين بن نصر بن محمد ابن خميس الموصلي الجهنيّ، الفقيه المحدث المشهور.
* (اللباب في تهذيب الأنساب) : 1/ 317- 318، (جمهرة أنساب العرب) : 444.(1/372)
معها أربعة ألوية يحملها أبو روعة معبد بن خالد [ (1) ] ، وسويد بن صخر [ (2) ] ، ورافع بن مكيث [ (3) ]
__________
[ (1) ] هو معبد بن خالد الجهنيّ، يكنى أبو روعة، أو أبو زرعة. ذكره الواقدي في الصحابة، وقال:
أسلم معبد بن خالد قديما، وهو أحد الأربعة لذين حملوا ألوية جهينة يوم الفتح، ومات سنة اثنتين وسبعين، وهو ابن بضع وثمانين، وكان يلزم البادية.
وقال أبو أحمد في كتاب الكنى في الراء: أبو روعة هو معبد بن خالد الجهنيّ، له صحبة، كان يلزم البادية، ذكره الواقدي، وقال عنه: توفي سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة. وكذلك قال ابن أبي حاتم سواء في الكنية والسّن والوفاة، وقالا: له صحبة، وزاد ابن أبي حاتم: وروي عن أبي بكر وعمر. وقال ابن أبي حاتم: هو غير معبد بن خالد الّذي هو عندهم أول من تكلم بالقدر بالبصرة. وقال: لا يعرف معبد الجهنيّ ابن من هو؟ وليس ابن خالد، وقال غيره: هو نفسه.
* (مغازي الواقدي) : 571، 800، 820، 896، 940، 1038، (المعارف) : 122، 441، 484، 547، 625، (الاستيعاب) : 3/ 1426، (الإصابة) : 6/ 364- 365، (تاريخ الصحابة) : 238، (شذرات الذهب) : 1/ 78، (طبقات ابن سعد) : 3/ 25، 7/ 364.
[ (2) ] هو سويد بن صخر الجهنيّ الأنصاري، ذكر الطبري أنه كان أحد الأربعة الذين يحملون ألوية جهينة، وشهد الحديبيّة، وذكره الواقدي في جملة العشرين الذين خرجوا إلى العرنيين في سرية غالب بن عبد اللَّه الليثي، وهو والد عقبة بن سويد، له صحبة، وذكره ابن حبّان في الثقات، والبخاري في تاريخه الكبير.
* (مغازي الواقدي) : 571، 751، 800، 820، 896، (التاريخ الكبير للبخاريّ) :
4/ 141، (الجرح والتعديل) : 4/ 232، (الثقات) : 3/ 178، (الإصابة) : 3/ 226، (تاريخ الصحابة) : 125 ت 592.
[ (3) ] هو رافع بن مكيث بن عمرو بن جراد بن يربوع بن طحيل بن عديّ بن الرّبعة بن رشدان بن قيس ابن جهينة، أسلم وشهد الحديبيّة مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان، وكان مع زيد بن حارثة في السرية التي وجّهه فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حسمى، وأ كانت في جمادى الآخرة سنة ست، وبعثه زيد بن حارثة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشيرا على ناقة من إبل القوم، فأخذها منه عليّ ابن أبي طالب في الطريق، فردّها على القوم، وذلك حين بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليردّ عليهم ما أخذ منهم، لأنهم قد كانوا قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلموا، وكتب لهم كتابا.
وكان رافع بن مكيث أيضا مع كرز بن جابر الفهريّ حين بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي الجدر، وكان مع عبد الرحمن بن سريته إلى دومة الجندل، وبعثه بكتابه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بشيرا بما فتح اللَّه عليه.
ورافع بن مكيث أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة الأربعة، التي عقدها لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يوم فتح مكة، وبعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صدقات جهينة يصدّقهم، وكانت له دار بالمدينة، ولجهينة مسجد بالمدينة.
* (طبقات ابن سعد) : 2/ 88، 131، 160، (الجرح والتعديل) : 3/ 480، (التاريخ(1/373)
وعبد اللَّه بن بدر [ (1) ]- فلما حاذوهما كبّروا ثلاثا. ثم مرت كنانة [ (2) ] : [بنو ليث [ (3) ] ، وضمرة، وسعد ابن بكر] [ (4) ] في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقد الليثي [ (5) ] ، فلما حاذوهما كبروا
__________
[ () ] الكبير) : 3/ 302، (تهذيب التهذيب) : 3/ 201، (الإصابة) : 2/ 445، (تاريخ الصحابة) : 98، (الاستيعاب) : 2/ 485.
[ (1) ] هو عبد اللَّه بن بدر بن زيد بن معاوية بن حسّان بن أسعد بن وديعة بن مبذول بن عديّ بن غنم ابن الرّبعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، وكان اسمه عبد العزّى، فلما أسلم غيّر اسمه، فسمّي عبد اللَّه، وأبوه بدر بن زيد الّذي ذكره العباس بن مرداس في شعره.
وكان عبد اللَّه بن بدر مع كرز بن جابر الفهريّ، حين بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، سرية إلى العرنيّين الذين أغاروا على لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي الجدر، وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة التي عقدها لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة، ونزل عبد اللَّه بن بدر المدينة، وله بها دار، وكان ينزل أيضا البادية بالقبليّة جبال جهينة، وقد روي عن أبي بكر. ومات رضي اللَّه عنه في خلافة معاوية ابن أبي سفيان.
* (تاريخ الصحابة) : 161 ت 790، (طبقات ابن سعد) : 1/ 333، 4/ 346، 347، 5/ 556، (التاريخ الكبير) : 3/ 23، (تاريخ الطبري) : 7/ 415، 451، (مغازي الواقدي) : 571، 800، 820، (الثقات) : 3/ 239، (الاستيعاب) : 3/ 871- 872، (الإصابة) : 4/ 19- 20، (الشعر والشعراء) : 184.
[ (2) ] ، (3) ، (4) كنانة: بطن من عذرة بن زيد اللات، كان له من الولد عبد اللَّه بطن، وعوف وهم العنطوان بطن. وأما كنانة كلب: فهو كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة ابن ثور بن كلب. وكنانة قريش: هو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهو والد النضر جد قريش. ففي قول إن ولد النضر يقال لهم قريش، وفي قول يقال ذلك لولد فهر بن مالك ابن النضر. وإذا قيل في النسب كنانيّ، فهم ولد كنانة بن خزيمة غير النضر، مثل ليث، والديل، وضمرة بني عبد مناة بن كنانة، فيقال كناني ليثي.
* (اللباب في تهذيب الأنساب) : 3/ 111- 112، (سبائك الذهب) : 106.
وبنو سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهم أظآر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، عندهم استرضع عليه السلام.
* جمهرة أنساب العرب: 265.
[ (5) ] هو أبو واقد الليثي، مختلف في اسمه، قيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف ابن الحارث بن أسيد بن جابر بن عبد مناة بن شجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي ابن كنانة. كان حليف بني سعد، قال البخاري، وابن حبان، والباوردي، وأبو أحمد الحاكم: شهد بدرا. وقال أبو عمر: قيل شهد بدرا، ولا يثبت. وقال ابن سعد: أسلم قديما، وكان يحمل لواء بني ليث، وضمرة، وسعد بن بكر يوم الفتح، وحنين، وفي غزوة تبوك يستنفر بني ليث، وكان خرج إلى مكة فجاور بها سنة فمات وقال في موضع آخر: دفن في مقبرة المهاجرين.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعن أبي بكر، وعن عمر، وأسماء بنت أبي بكر. وروى عنه ابناه:(1/374)
ثلاثا. فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: أهل شؤم! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، أما واللَّه ما شوورت [ (1) ] فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارها حيث بلغني، ولكنه أمر حمّ [ (2) ] ! قال العباس: قد خار اللَّه لك [ (3) ] في غزو محمد لكم. ودخلتم في الإسلام كافة. ومرّت بنو ليث [ (4) ]- وهم مائتان وخمسون يحمل لواءهم الصعب بن جثامة [ (5) ]- فلما حاذوهما كبروا ثلاثا فقال
__________
[ () ] عبد الملك، وواقد، وأبو سعيد الخدريّ، وعطاء بن يسار، وعروة، وآخرون. وأما شهوده بدرا فهذا محل خلاف بين الأئمة.
* (حلية الأولياء) : 8/ 359، (مسند أحمد) : 5/ 217، (التاريخ الكبير) : 2/ 58، (الجرح والتعديل) : 3/ 82، (المستدرك) : 7/ 531، (الاستيعاب) : 4/ 1774، (تهذيب التهذيب) : 12/ 270- 271، (الإصابة) : 7/ 55- 456، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 252 (شذرات الذهب) : 1/ 76، (تاريخ الصحابة) : 68- 69، (مغازي الواقدي) : 453، 820، 890، 896، 990، (طبقات ابن سعد) : 5/ 173، 175، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 574- 576.
[ (1) ] شوورت: من المشاورة، وفي (خ) : «شووت» .
[ (2) ] حمّ الأمر: قضي وأنفد، وفي (خ) : «جم» .
[ (3) ] خار اللَّه لك: اختار لك خير الأمرين.
[ (4) ] انظر التعليق رقم: (29) ، (30) ، (31) .
[ (5) ] هو الصعب بن جثّامة بن قيس بن ربيعة بن عبد اللَّه بن يعمر الليثي، حليف قريش. واسم جثّامة يزيد، أمه أخت أبي سفيان بن حرب، واسمها فاختة. وقيل زينب. وكان ينزل ودّان. مات في آخر خلافة أبي بكر، أو في أول خلافة عمر، قال ابن حبان، ويقال: مات في خلافة عثمان، والأول أثبت. وشهد فتح إصطخر، فقد روي ابن السكن من طريق صفوان بن عمرو، حدثني راشد بن سعد قال: لما فتحت إصطخر نادى مناد: ألا إنّ الدّجال قد خرج،
فلقيهم الصعب بن جثّامة قال: لقد سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره.
قال ابن السكن: إسناده صالح. قال الحافظ ابن حجر: فيه إرسال، وهو يردّ على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر.
وقال ابن مندة: كان الصعب ممن شهد فتح فارس.
وقال يعقوب بن سفيان: أخطأ من قال: إن الصعب بن جثّامة مات في خلافة أبي بكر خطأ بينا، فقد روي ابن إسحاق عن عمر بن عبد اللَّه، أنه حدّثه عن عروة، قال: لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة كانوا خمسة، منهم: الصعب بن جثّامة، وللصعب أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه.
وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب المتحابين، من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت قال: آخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين عوف بن مالك والصعب بن جثّامة، رضي اللَّه تعالى عنهما.
* (تاريخ الصحابة) : 137، (الإصابة) : 3/ 426- 427، (الاستيعاب) : 2/ 739، (الثقات) : 3/ 195، (تهذيب التهذيب) : 4/ 369، (مغازي الواقدي) : 556، 820،(1/375)
أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال: بنو ليث. ثم مرّت أشجع [ (1) ]- وهما ثلاثمائة معهم لواءان يحملهما معقل بن سنان [ (2) ] ، ونعيم بن مسعود [ (3) ]- فقال أبو سفيان:
__________
[ () ] 1096، (جمهرة أنساب العرب) : 181، (التاريخ الكبير) : 4/ 322، (الجرح والتعديل) :
4/ 450، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 249، (الكامل في التاريخ) : 2/ 449، (تاريخ الإسلام) : 3/ 76- 77.
[ (1) ] هم بنو أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. منهم معقل بن سنان بن مظاهر بن عركيّ ابن فتيان بن سبيع بن أشجع بن ريث.
* (لسان العرب) : 8/ 175، (جمهرة أنساب العرب) : 249- 250، (اللباب) :
1/ 64، (سبائك الذهب) : 270.
[ (2) ] هو معقل بن سنان الأشجعي، له صحبة ورواية، حمل لواء أشجع يوم الفتح، وهو راوي قصة «بروع» ، وكان من كبار أهل الحرة، أسر فذبح صبرا يوم الحرّة، وله نيف وسبعون سنة، قتل في سنة ثلاث وستين.
أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، في النكاح: باب إباحة التزوج بغير صداق، والترمذي في الرضاع: باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها، وابن ماجة في النكاح، من طريق الشعبي عن مسروق، عن عبد اللَّه، في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فقال: لها الصداق كاملا، وعليها العدة، ولها الميراث، فقال معقل بن سنان:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قضى في بروع بنت واشق. وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
* (مسند أحمد) : 3/ 474، (طبقات ابن سعد) : 4/ 282- 283، (التاريخ الكبير) :
7/ 391، (المعارف) : 298، (الجرح والتعديل) : 8/ 284، (تهذيب التهذيب) :
10/ 210 (الإصابة) : 6/ 181- 183، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 45، (شذرات الذهب) : 1/ 71، (سير أعلام النبلاء) : 2/ 576- 577، (تاريخ الصحابة) : 239.
[ (3) ] هو نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيس بن ثعلبة بن قنفذ بن خلادة بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث ابن غطفان، الغطفانيّ، الأشجعيّ، الصحابيّ، أبو سلمة، أسلم في وقعة الخندق، وهو الّذي أوقع الخلف بين قريظة وغطفان وقريش يوم الخندق، وخذل بعضهم عن بعض، وأرسل اللَّه تعالى عليهم ريحا وجنودا لم يروها.
وقيل: إنه الّذي نزلت فيه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ يعني نعيم بن مسعود وحده، كني عنه وحده بالناس في قول طائفة من أهل التفسير. قال بعض أهل المعاني: إنما قيل ذلك، لأن كلّ واحد من الناس يقوم مقام الآخر في مثل ذلك وقد قيل في تأويل الآية غير ذلك. سكن نعيم بن مسعود المدينة، ومات في خلافة، عثمان، يوم الجمل مع عليّ، رضي اللَّه عنهم.
* (تهذيب التهذيب) : 10/ 415- 416، (الثقات) : 3/ 415، (رجال أنزل اللَّه فيهم قرآنا) : 1/ 106- 107، 4/ 197، 198، 199، (تاريخ الصحابة) : 250، (الاستيعاب) : 1508، 1509، (الإصابة) : 6/ 461، (تهذيب الأسماء واللغات) :
2/ 131، (خلاصة تذهيب الكمال) : 3/ 98.(1/376)
[من هؤلاء؟ قال: بنو أشجع. قال] [ (1) ] : هؤلاء كانوا أشدّ العرب على محمد! فال العباس: أدخل اللَّه قلوبهم الإسلام، فهذا من فضل اللَّه.
كتيبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فلما طلعت كتيبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الخضراء، طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، ومرّ الناس حتى مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ناقته القصواء بين أبي بكر [ (2) ]
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] هو عبد اللَّه بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ، وفي «مرّة» يلتقي نسبه مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
واسم أمه: أم الخير، سلمي بنت صخر بن عامر، ماتت مسلمة.
وفي تسميته بعتيق ثلاثة أقوال: أحدهما،
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظر إليه فقال: هذا عتيق من النار.
والثاني أنه اسم سمّته به أمه. الثالث: أنه سمّي به لجمال وجهه. وكان رضي اللَّه عنه أبيض نحيفا، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، يخضب شيبة بالحناء والكتم. وكان أول من آمن من الرجال. وعن عائشة قالت: ما أسلم أحد من المهاجرين إلا أبو بكر.
وجاء أنه اتّجر إلى بصري غير مرة، وأنه أنفق أمواله على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي سبيل اللَّه.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه اللَّه بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإنّ صاحبكم خليل اللَّه» .
قال حسان بن ثابت، وابن عباس، وأسماء بنت أبي بكر، وإبراهيم النّخعيّ: أول من أسلم أبو بكر.
وكان له من الولد: عبد اللَّه، وأسماء ذات النطاقين وأمّهما قتيلة. وعبد الرحمن وعائشة، أمهما أم رومان. ومحمد، أمه أسماء بنت عميس. وأم كلثوم، أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد، وكان أبو بكر لما هاجر إلى المدينة نزل على «خارجة» فتزوج ابنته.
فأما عبد اللَّه: فإنه شهد الطائف. وأما أسماء: فتزوجها الزبير فولدت له عدّة ثم طلقها، فكانت مع ابنها عبد اللَّه إلى أن قتل، وعاشت مائة سنة، وأما عبد الرحمن: فشهد يوم بدر مع المشركين ثم أسلم. وأما محمد: فكان من نساك قريش، إلا أنه أعان على عثمان يوم الدار، ثم ولّاه علي ابن أبي طالب مصر، فقتله هناك صاحب معاوية. وأما أم كلثوم: فتزوجها طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه.
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاء الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وإنّ له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ (28/ غافر) قال: فلهوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر، فجعل لا يمسّ شيئا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
(الغدائر) : الضفائر. ذكر أهل العلم بالتواريخ والسّير، أن أبا بكر شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بدرا وجميع المشاهد، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع(1/377)
__________
[ () ] إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رايته العظمى يوم تبوك، وأنه كان يملك يوم أسلم أربعين ألف درهم، فكان يعتق منها ويقوي المسلمين، وهو أول من جمع القرآن، وتنزّه عن شرب المسكر في الجاهلية والإسلام، وهو أول من قاء تحرجا من الشبهات.
وذكر محمد بن إسحاق أنه أسلم على يده من العشرة خمسة: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد اللَّه، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهم.
عن أبي سعيد قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «إن اللَّه عزّ وجلّ خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عنده» . فبكى أبو بكر رحمة اللَّه عليه، فعجبنا من بكائه أن أخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من عبد خيّر، فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي عزّ وجلّ لاتخذت أبا بكر، لكن أخوّة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر.
أخرجاه في الصحيحين، البخاري في باب قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» ، ومسلم في باب من فضائل أبي بكر الصديق.
وعن الحسن قال: قال عليّ عليه السلام: لما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد قدّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لديننا، فقدمنا أبا بكر.
وقالت عائشة: لما استخلف أبو بكر ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت المال وقال: قد كنت أتّجر فيه وألتمس به، فلما وليتهم شغلوني. وأخرج ابن سعد نحوه من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: لما ولي أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتى لم تكن لتعجز عن مؤنة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين، وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد أيها الناس، قد وليت أمركم ولست بخيركم، ولكن قد نزل القرآن، وسنّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم السّنن فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور، إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، أيها الناس، إنما أنا متّبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني.
وعن عائشة قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الّذي مات فيه قال: انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي، فنظرنا فإذا عبد نوبيّ (نسبة إلى بلاد النوبة جنوبيّ مصر) كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح (بعير يستقي عليه) كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر. قالت: فأخبرني جدي أن عمر بكى وقال: رحمة اللَّه على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا. روي أبو بكر رضي اللَّه عنه مائة حديث واثنين وأربعين حديثا.
وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء، لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين، وأوصي أن تغسّله أسماء زوجته، فغسّلته، وأن يدفن إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصلى عليه عمر بين القبر والمنبر، ونزل في حفرته ابنه عبد الرحمن، وعمر، وعثمان، وطلحة بن عبيد اللَّه. رحمه اللَّه ورضي عنه، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على سنته ومحبته.
* (طبقات ابن سعد) : 3/ 169- 213، (تاريخ الطبري) : 2/ 314، (المعارف) :
167- 178، (تاريخ الإسلام) : 3/ 105- 122، (صفة الصفوة) : 1/ 123- 139،(1/378)
وأسيد بن حضير [ (1) ]- وهو يحدثهما-، ومعه المهاجرون [ (2) ] والأنصار، - فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من بطون الأنصار راية ولواء- في الحديد لا يرى
__________
[ () ] (معجم البلدان) : 5/ 356- 357، (لسان العرب) : 2/ 619 (مادة نضح) ، 5/ 11 (مادة غدر) ، (مسلم بشرح النووي) : 15/ 158 كتاب (44) باب (1) حديث رقم (2) ، (صحيح سنن الترمذي) : 3/ 200 باب (52/ 33) حديث رقم (2894) ، (صحيح ابن ماجة) : 1/ 22 باب (11) حديث رقم (77) ، (السلسلة الصحيحة) : حديث رقم (278) ، (شذرات الذهب) : 1/ 24، (تاريخ الخلفاء) : 21- 85، (العقد الفريد) : 3/ 90- 91، 176، (تلقيح الفهوم) : 104- 106، (أسماء الصحابة الرواة) : 57.
[ (1) ] هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، الإمام أبو يحيى، وقيل: أبو عتيك الأنصاريّ، الأوسي، الأشهليّ، أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة.
أسلم قديما، وما شهد بدرا، وقال ابن عبد ربه: شهد بدرا، وكان أبوه شريفا مطاعا، يدعى حضير الكتائب، وكان رئيس الأوس يوم بعاث، فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بستّ سنين، وكان أسيد يعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي.
قال محمد بن سعد: آخى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين زيد بن حارثة، وله رواية أحاديث روت عنه عائشة، وكعب بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلي. ولم يلحقه.
وذكر الواقدي أنه قدم الجابية مع عمر، وكان مقدما على ربع الأنصار، وأنه ممن أسلم على يد مصعب بن عمير، هو وسعد بن معاذ.
قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن حضير» أخرجه الترمذي،
وإسناده جيد، وروي أن أسيدا كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن.
وقال ابن إسحاق: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه عن عائشة قالت: ثلاث من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد ابن حضير، وعباد بن بشر.
مات رضي اللَّه عنه في شعبان سنة عشرين، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، ودفن بالبقيع.
* (تاريخ الصحابة) : 30، (العقد الفريد) : 3/ 327، (أسماء الصحابة الرواة) : 129، (صحيح سنن الترمذي للألباني) : 3/ 228، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 340- 343، (الثقات) : 3/ 6- 7، (الإصابة) : 1/ 83- 84، (الاستيعاب) : 1/ 92- 94، (طبقات ابن سعد) : 3/ 603- 607، (خلاصة تذهيب الكمال) : 1/ 98، (الوافي بالوفيات) : 9/ 258، (تهذيب التهذيب) : 1/ 303- 304، (الجرح والتعديل) :
2/ 310، (صفة الصفوة) : 1/ 259- 261، (التاريخ الكبير) : 2/ 47، (البداية والنهاية) : 7/ 116، (مسند أحمد) : 4/ 226، (التاريخ الصغير) : 1/ 46، (شذرات الذهب) : 1/ 31، (تاريخ الإسلام) : 2/ 294، 295، 297، 304، 490، (كنز العمال) : 13/ 277- 281، (مرآة الجنان) : 1/ 76، (تلقيح الفهوم) : 162.
[ (2) ] في (خ) : «المهاجرين» .(1/379)
منهم إلى الحدق، ولعمر بن الخطاب [ (1) ]
__________
[ (1) ] هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ، أمير المؤمنين، أبو حفص، القرشيّ، العدويّ، الفاروق، أسلم في السنة السادسة من النبوة، وله سبع وعشرون سنة.
أمّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، المخزومية، وقيل: حنتمة بنت هشام، أخت أبي جهل. ولد عمر رضي اللَّه عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة. وقيل: ولد بعد الفجار الأعظم بأربع سنين، قبل المبعث النبوي بثلاثين سنة، وقيل: غير ذلك.
وكان من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، فكانت قريش إذا وقعت الحرب بينهم- أو بينهم وبين غيرهم- بعثوه سفيرا: أي رسولا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافرا أو مفاخرا.
أسلم قديما بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة، وقيل: بعد تسعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: غير ذلك، فما هو إلا أن أسلم، فظهر الإسلام بمكة، وفرح به المسلمون.
وهو أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهّادهم. روي له عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا.
روي عنه عثمان بن عفان، وعلي، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود، وأبو ذر الغفاريّ، وعمرو بن عبسة، وابنه عبد اللَّه، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس، وأبو هريرة وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدريّ، وآخرون.
أخرج الترمذي عن ابن عمر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «اللَّهمّ أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام» . وأخرج الحاكم عن ابن عباس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «اللَّهمّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة» .
وأخرج أحمد عن عمر قال: خرجت أتعرض لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: واللَّه هذا شاعر كما قالت قريش، فقرأ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (الحاقة: 40- 41) فوقع في قلبي الإسلام كل موقع، وقصة إسلامه معروفة، نمسك عن ذكرها لطولها واشتهارها.
وقيل لأبي بكر في مرضه: ماذا تقول لربك وقد وليت عمر؟ قال: أقول له: وليت عليهم خيرهم.
أخرجه ابن سعد.
وأخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول اللَّه لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (البقرة/ 125) ، وقلت: يا رسول اللَّه، يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الغيرة، فقلت: عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزوجا خيرا منكن، فنزلت كذلك.
قال أبو عبد اللَّه الشيبانيّ في (فضائل الإمامين) : وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعا، فذكرها، وقد أمسكنا عن ذكرها خشية الإطالة.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم- كلاهما في دلائل النبوة- عن نافع عن ابن عمر، قال: وجّه عمر(1/380)
__________
[ () ] جيشا، ورأس عليهم رجلا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، جعل ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثا، ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينا نحن كذلك إذا سمعت صوتا ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثا، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم اللَّه! قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك، وذلك الجبل الّذي كان سارية عنده وفد من أرض العجم. قال ابن حجر في الإصابة:
إسناده حسن.
وقال خزيمة بن ثابت: كان عمر إذا استعمل عاملا كتب له، واشترط عليه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلّت عليه العقوبة.
ولي الخلافة بعهد من أبي بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، قال الزهري: استخلف عمر يوم توفي أبو بكر، يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة. أخرجه الحاكم، فقام بالأمر أتمّ قيام وكثرت الفتوح في أيامه.
وقال أبو رافع: كان أبو لؤلؤة مولى المغيرة يصنع الأرحاء (جمع رحى) ، وكان المغيرة يستغلّه كل يوم أربعة دراهم، فلقى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليّ فكلّمه، فقال:
أحسن إلى مولاك- ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه- فغضب وقال: يسع الناس كلّهم عدله غيري، وأضمر قتله، واتخذ خنجرا، وشحذه وسمّه، وكان عمر يقول: «أقيموا صفوفكم» قبل أن يكبّر، فجاء فقام حذاءه في الصف، وضربه في كتفه وفي خاصرته فسقط عمر، وطعن ثلاثة عشر رجلا معه، فمات منهم ستة.
وحمل عمر إلى أهله، وكادت الشمس تطلع، فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس بأقصر سورتين (الكوثر والنصر) . وأتي عمر بنبيذ فشربه، فخرج من جرحه، فلم يتبين، فسقوه لبنا، فخرج من جرحه، فقالوا: لا بأس عليك، فقال-: إن يكن بالقتل بأس فقد قتلت، فجعل الناس يثنون عليه ويقولون: كنت وكنت، فقال: أما واللَّه وددت أني خرجت منها كفافا لا عليّ ولا لي، وأن صحبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سلمت لي.
وأثنى عليه ابن عباس فقال: لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع، وقد جعلتها شورى في عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد. وأمر صهيبا أن يصلى بالناس. أخرجه الحاكم. وقال ابن عباس: كان أبو لؤلؤة مجوسيا.
وقال عمرو بن ميمون: قال عمر: الحمد للَّه الّذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام، ثم قال لابنه: يا عبد اللَّه، انظر ما عليّ من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوها، فقال:
إن وفى مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فاسأل في بني عدي، فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش.
اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه، فذهب إليها فقالت: كنت أريده- تعني المكان- لنفسي، ولأوثرنّه اليوم على نفسي، فأتي عبد اللَّه فقال: قد أذنت، فحمد اللَّه تعالى، وقيل له: أوصي يا أمير المؤمنين واستخلف، قال: ما أرى أحدا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو عنهم راض، فسمي الستة.
وأما أوّليات عمر رضي اللَّه عنه:
* فهو أول من سمي أمير المؤمنين. * وأول من كتب التاريخ من الهجرة.
* وأول من اتخذ بيت المال. * وأول من سنّ قيام شهر رمضان في جماعة.(1/381)
فيها زجل [ (1) ] ، وعليه الحديد، وهو يزعها [ (2) ] فقال أبو سفيان: لقد أمر أمر بني عدّي [ (3) ] بعد قلة وذلة! فقال العباس: إن اللَّه يرفع ما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام.
مقالة سعد بن عبادة لأبي سفيان
وكان في الكتيبة ألف دارع: وسعد بن عبادة يحمل راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمام الكتيبة، فنادى: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ اللَّه قريشا! فنادى أبو سفيان- عند ما حاذاه النبي عليه السلام- يا رسول اللَّه، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه كذا- وذكر ما قاله سعد- وإني أنشدك اللَّه في قومك! فأنت أبرّ الناس، وأرحم الناس وأوصل الناس!!.
__________
[ () ] * وأول من عسّ بالليل. * وأول من عاقب على الهجاء.
* وأول من ضرب في الخمر ثمانين. * وأول من حرّم المتعة.
* وأول من نهي عن بيع أمهات الأولاد. * وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات.
* وأول من اتخذ الديوان.
* وأول من فتح الفتوح ومسح السواد.
* وأول من حمل الطعام من مصر في بحر أيلة إلى المدينة. * وأول من احتبس صدقة في الإسلام.
* وأول من أعال الفرائض. * وأول من أخذ زكاة الخيل. * وأول من قال: أطال اللَّه بقاءك. * وأول من قال: أيّدك اللَّه (قالها لعليّ) . * وهو أول من اتخذ الدّرّة، ولقد قيل بعده: لدرّة عمر أهيب من سيفكم. * وهو أول من استقضى القضاة في الأمصار. * وهو أول من مصّر الأمصار: الكوفة، والبصرة، والجزيرة، والشام، ومصر.
أصيب عمر رضي اللَّه عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، ودفن يوم الأحد مستهلّ المحرم الحرام، وله ثلاث وستون سنة، وقيل-: ستون، ورجحه الواقديّ، وصلى عليه صهيب في المسجد.
وفي تهذيب المزني: كان نقش خاتم عمر «كفى بالموت واعظا يا عمر» وأخرج الطبرانيّ عن طارق ابن شهاب قال: قالت أم أيمن يوم قتل عمر: اليوم وهي الإسلام.
وأخرج عبد الرحمن بن يسار قال: شهدت موت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، فانكسفت الشمس يومئذ. رجاله ثقات.
* (تاريخ الخلفاء) : 86- 117، (الإصابة) : 4/ 588- 591 (ترجمة رقم 5740) ، (حلية الأولياء) : 1/ 38- 55، (الاستيعاب) : 3/ 1144- 1159 (ترجمة رقم 1878) ، (جمهرة أنساب العرب) : 150- 156، (المستدرك) : 3/ 86- 101، (صفة الصفوة) : 1/ 139- 153، (تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 3- 14، (مرآة الجنان) :
1/ 78- 82، (شذرات الذهب) : 1/ 33- 34، (تاريخ الإسلام) : 2/ 253- 284.
[ (1) ] زجل: جلبة وصوت.
[ (2) ] يكفها عن التفرق والانتشار.
[ (3) ] أمر أمره: ارتفع شأنه.(1/382)
عزل سعد راية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول اللَّه! ما نأمن من سعد أن تكون منه في قريش صولة.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا سفيان! اليوم يوم الرحمة [ (1) ] ، اليوم أعزّ اللَّه فيه قريشا!
وأرسل إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، فأبى سعد أن يسلم اللواء إلا بأمارة، فأرسل صلّى اللَّه عليه وسلّم بعمامته، فدفع اللواء إلى ابنه قيس. ويقال: دخل سعد بلوائه حتى غرزه بالحجون. ويقال إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر عليا فأخذ الراية، فذهب علي بها حتى دخل بها مكة فغرزها عن الركن، وقيل: بل أمر الزبير بن العوام فأخذ اللواء [ (2) ] وصححه جماعة.
مقالة أبي سفيان حين رأى ما رأى
وقال أبو سفيان: ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط، ولا خبّرنيه مخبر! ما لأحد به طاقة ولا يدان! لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! فقال له العباس:
يا أبا سفيان! ليس بملك ولكنه نبوّة. قال: فنعر [ (3) ] ! قال فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم.
خروج أبي سفيان إلى مكة وما كان منه
فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء وهو يقول:
من أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فأخذت برأسه فقالت:
ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد. وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن! قالت: قبحك اللَّه رسول قوم! وجعل يصرخ بمكة! يا معشر قريش! ويحكم! إنه قد جاء ما لا قبل لكم به! هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد فأسلموا تسلموا! قالوا! قبحك اللَّه وافد قوم! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك اللَّه وافد قوم! فيقول! ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم! رأيت ما لم تروا [ (4) ] رأيت الرجال والكراع والسلاح، فما لأحد [ (5) ]
__________
[ (1) ] في (الواقدي) ج 2 ص 822 «اليوم يوم المرحمة» .
[ (2) ] راجع (زاد المعاد) ج 3 ص 404.
[ (3) ] نعر: صوّت صوتا شديدا من خيشومه.
[ (4) ] في (خ) «ما لا تروا» .
[ (5) ] في (خ) «مال أحد» .(1/383)
بهذا طاقة!
خبر العباس في مكة
وذكر عمر بن شبّة [ (1) ] : أن العباس ركب بغلة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مر [الظهران] [ (2) ] ليدعو أهل مكة فقدمها وقال: يا أهل مكة أسلموا تسلموا. قد استبطنتم بأشهب بازل [ (3) ] ، وأعلمهم بمسير الزبير من أعلى مكة، ومجيء خالد ابن الوليد من أسفلها لقتالهم، ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
موقف المسلمين
وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى تلاحق الناس، وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو دعوا إلى القتال، واجتمع إليهم- من قريش وغيرهم- جماعة عليهم السلاح، يحلفون باللَّه لا يدخلها محمد عنوة أبدا.
دخول رسول اللَّه مكة
وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في كتيبته الخضراء- على ناقته القصواء، معتجرا بشقّة برد حبرة، [وفي رواية: وهو معتجر بشقة برد أسود] ، وعليه عمامة سوداء، ورايته سوداء، ولواؤه أسود- حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس، وإن عثنونه [ (4) ] ليمسّ واسطة الرّحل أو يقرب منه، تواضعا للَّه تعالى حين رأى ما رأى من فتح اللَّه وكثرة المسلمين، ثم
قال: العيش عيش الآخرة.
__________
[ (1) ] في (خ) «عمرو بن شيبة» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] استيطان الوادي: دخول بطنه، الأشهب الأبيض: الجيش، والبازل: البعير الّذي أتم السنة الثامنة، وهي تمام قوته، والمعني أنّكم رميتم بهذا الجيش الصعب الّذي لا طاقة لكم به.
[ (4) ] العثنون: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين، أو ما نبت على الذقن وتحته سفلا، أو هو طولها.
(ترتيب القاموس) ج 3 ص 165.(1/384)
مداخل المسلمين إلى مكة
وأمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأن ينصب رايته بالحجون، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من اللّيط: وهي كداء من أسفل مكة.
[ويقال: بعث الزبير بن العوام من أعلى مكة، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء] . ودخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من أذخر.
النهى عن القتال
ونهى عن القتال. ويقال: بل أمرهم بقتال من قتالهم، فتراموا بشيء من النبل. فظهر عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأمن الناس إلا خزاعة عن [ (1) ] بني بكر. وذكر جماعة أنه لم يؤمّنهم. وقيل: أمر بقتل ستة نفر، وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل، وهبّار بن الأسود، وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ [ (2) ] بن بجير بن عبد قصيّ، وهلال بن عبد اللَّه بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيّم بن غالب بن فهر [ (3) ] ، فتيم هو الأدرم [ (4) ] [وعبد بن عبد مناف هو خطل بن خطل الأدرميّ] . وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وقينتين لابن خطل: قرينا وقريبة، ويقال فرتنا وأرنبة.
قتال خالد بن الوليد
فكل الجنود دخل فلم يلق جمعا، إلا خالد بن الوليد، فإنه وجد جمعا من قريش وأحابيشها: فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموا بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوة أبدا. فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا من قريش، وأربعة من هذيل، [وقيل: بل قتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا] ،
__________
[ (1) ] في (خ) «غير» .
[ (2) ] في (خ) «نفيد» ، وبعد هذا في (خ) «وابن بجير» والصواب حذف واو العطف.
[ (3) ] في (خ) «فهم» .
[ (4) ] في (خ) بعد قوله: «هو الأدرم» ما نصه (عبد اللَّه بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم بن غالب بن فهم) وهو تكرار من الناسخ.(1/385)
وانهزموا أقبح هزيمة. وقتل من المسلمين ثلاثة.
خبر راعش المشرك
وكان راعش [ (1) ] ، أحد بني صاهلة الهذليّ، [وقيل: حماس [ (2) ] بن قيس بن خالد أحد بني بكر] ، يعدّ سلاحا، فقالت له امرأته: لم تعدّ ما أرى؟ قال:
لمحمد وأصحابه! فقالت له: ما أرى أن يقوم لمحمد وأصحابه شيء! فقال: واللَّه إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال [ (3) ] :
إن تقدموا اليوم فما بي علة ... هذا سلاح كامل وألّة [ (4) ]
وذو غرارين سريع السّله [ (5) ]
هزيمة المشركين
ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فهزمهم خالد بن الوليد، فمرّ حماس [ (6) ] منهزما حتى دخل بيته، وقال لامرأته: أغلقي عليّ بابي! فقالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال [ (7) ] :
إنك إن شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه
__________
[ (1) ] في (ابن هشام) ج 4 ص 37 (الرعاش الهذلي) .
[ (2) ] المرجع السابق ص 38، (البداية والنهاية) : ج 4 ص 339.
[ (3) ] في المرجع السابق: «إن يقبلوا اليوم فما لي علّة» .
[ (4) ] الألّة: الحربة ذات السنان الطويلة.
[ (5) ] غرارين: حدّين.
[ (6) ] في (خ) «خماس» .
[ (7) ] هذه الأبيات في (ابن هشام ج 4 ص 38، وفي (البداية والنهاية) ج 4 ص 339، 340:
إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة ... واستبقلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وفي (الواقدي) : ج 2 ص 827، 828:
وأنت لو شهدتنا بالخندمة ... إذا فرّ صفوان وفرّ عكرمة
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وضربتنا بالسيوف المسلمة ... لهم زئير خلفنا وغمغمة(1/386)
لم تنطقي في اللوم [ (1) ] أدنى كلمه
التأمين
واتبعهم المسلمون، وأبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش! علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن. ومن وضع السلاح فهو آمن! فاقتحم الناس الدور وأغلقوا عليهم الأبواب، وطرحوا السلاح في الطّرق، فأخذها المسلمون، ويروي أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقد لأبي رويحة عبد اللَّه بن عبد الرحمن- أحد الفزع بن شهران بن عفرس بن خلف بن أفل [وهو خثعم]- لواء وأمره أن ينادي: من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن.
قتال خالد بن الوليد
ولما ظهر [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على ثنية أذاخر، نظر إلى البارقة [ (3) ] فقال: «ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال؟» فقيل: يا رسول اللَّه، خالد بن الوليد قوتل، ولو لم يقاتل ما قاتل! فقال: «قضاء اللَّه خير» .
ابن خطل
وأقبل ابن خطل من أعلى مكة في الحديد على فرس بيده قناة، وبنات سعيد ابن العاص قد نشرن رءوسهن ويضربن بخمرهن [ (4) ] وجوه الخيل، فقال لهن: أما واللَّه لا يدخلها محمد حتى ترين ضربا كأفواه المزاد [ (5) ] ! فلما انتهى إلى الخندمة،
__________
[ () ] ومن معاني هذه الأبيات:
النهيت والهمهمة، أصوات الأبطال في الحرب.
الزئير: صوت الأسد.
أبو يزيد: هو سهيل بن عمرو.
المؤتمة: المرأة التي قتل زوجها فبقي لها أيتام.
[ (1) ] في (خ) «في اليوم» .
[ (2) ] ظهر: ارتفع عليها.
[ (3) ] البارقة: بريق السلاح ولمعانه.
[ (4) ] الخمر: جمع خمار: وهو غطاء الرأس عند المرأة.
[ (5) ] المزاد: جمع مزادة، هي كقربة للماء، المعنى أنه يريد ضربا يتفجر منه الدم كما يتفجر الماء من المزاد إذا أرسل فوه.(1/387)
ورأى خيل المسلمين وقتالهم، دخله رعب حتى ما يستمسك من الرّعدة، فانتهى إلى الكعبة فنزل، وطرح سلاحه، ودخل بين أستارها. فأخذ رجل من بني كعب درعه ومغفره وبيضته وسيفه وفرسه، ولحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحجون.
دخول الزبير مكة
وأقبل الزبير بمن معه حتى انتهوا إلى الحجون، فغرز به الراية. ولم يقتل من المسلمين إلا رجلان [ (1) ] أخطئا الطريق، هما: كرز بن جابر الفهريّ، وخالد الأشعري الخزاعيّ.
منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة
ولما أشرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على أذاخر فنظر بيوت مكة، وقف فحمد اللَّه وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبّته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها!
وكان أبو رافع قد ضرب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحجون قبة من أدم، فأقبل حتى انتهى إلى القبة في يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان، وقيل لثلاث عشرة [ (2) ] مضت من رمضان. فمضى الزّبير بن العوام برايته حتى ركزها عند قبّة رسول اللَّه، وكان معه أم سلمة وميمونة رضي اللَّه عنهما.
وقيل: يا رسول اللَّه، ألا تنزل منزلك من الشّعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلا؟
وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومنزل إخوته، والرجال والنساء بمكة
فقيل: يا رسول اللَّه، فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فقال: لا أدخل البيوت.
فلم يزل مضطربا [ (3) ] بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون لكل صلاة.
خبر إجارة أم هانئ عبد اللَّه بن أبي ربيعة والحارث بن هشام
وكانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت [ (4) ] هبيرة بن أبي وهب المخزوميّ، فدخل
__________
[ (1) ] في (خ) «إلا رجلين» وهو خطأ، وما أثبتناه حق اللغة.
[ (2) ] في (خ) جملة «وقيل لثلاث عشرة» مكررة.
[ (3) ] مضطربا: ضاربا قبته.
[ (4) ] في (خ) «تحب» ، والتصويب من (المغازي) ج 2 ص 829.(1/388)
عليها حموان لها- عبد اللَّه بن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر [ (1) ] ابن مخزوم المخزومي، والحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر [ (1) ] ابن مخزوم- يستجيران بها فأجارتهما.
فدخل عليها أخوها على بن أبي طالب يريد قتلهما، وقال: تجيرين المشركين؟ فحالت دونهما وقالت: واللَّه لتبدأنّ بي قبلهما! فخرج ولم يكد، فأغلقت عليهما بيتا، وذهبت إلى خباء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبطحاء، فشكت إلى فاطمة عليها السلام عليا فلم تشكها، وقالت لها: لم تجيرين المشركين؟
وإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه [ (2) ] رهجة الغبار [ (3) ] ، فقال: مرحبا بفاختة أم هانئ، فقالت: ماذا لقيت من ابن أمّي علي! ما كدت أنفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين، فتفلّت عليهم ليقتلهما، فقال: ما كان ذلك له! قد أمنّا من أمّنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة عليها السلام فسكبت له ماء فاغتسل، وصلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفا به، وذلك ضحى. ورجعت أم هانئ فأخبرتهما، فأقاما عندها يومين ثم مضيا. وأتى آت فقال: يا رسول اللَّه: الحارث ابن هشام وابن أبي ربيعة جالسان في ناديهما في الملاء المزعفر [ (4) ] ! فقال: لا سبيل إليهما فقد أمّناهما.
تجهّز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للطواف بالبيت
ومكث صلّى اللَّه عليه وسلّم في منزله ساعة من نهار، واغتسل وضفر رأسه ضفائر أربع، [وقيل: بل اغتسل في بيت أم هانئ بمكة] ، وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، وذلك في الصحيحين [ (5) ] ، وزاد أبو داود: سلّم من كلّ ركعتين ثم لبس السلاح ومغفرا من حديد، وقد صف له الناس، وركب القصواء ومرّ وأبو بكر رضي اللَّه عنه إلى جنبه يحادثه، وعبد اللَّه بن أم مكتوم بين يديه من بين الصفا والمروة
وهو يقول:
يا حبذا مكة من وادي ... [أرض] بها أهلي وعوّادي [ (6) ]
__________
[ (1) ] في (خ) «عمرو» .
[ (2) ] في (خ) «عليها» .
[ (3) ] رهجة الغبار: آثار الغبار.
[ (4) ] الملاء جمع ملاءة: وهي للربطة (ترتيب القاموس ج 4 ص 274 والمزعفر: الأسد الورد والفالوذ (المرجع السابق) ج 2 ص 453.
[ (5) ] صحيح البخاري ج 3 ص 62.
[ (6) ] ما بين الأقواس زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 141.(1/389)
[أرض] بها أمشي بلا هادي ... [أرض] بها ترسخ أوتادي [ (1) ]
حتى انتهى إلى الكعبة: فتقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجته وكبّر، فكبّر المسلمون لتكبيره حتى ارتجت مكة تكبيرا. فأشار إليهم أن اسكتوا! والمشركون فوق الجبال ينظرون.
الأصنام التي حول الكعبة
ثم طاف، ومحمد بن مسلمة [ (2) ] آخذ بزمامها، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما مرصصة بالرّصاص- وهبل أعظمها وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون-
فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» .
فيقع الصنم لوجهه. فطاف سبعا يستلم الركن بمحجنه في كل طواف. فعطش صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ]- وكان يوما صائفا- فاستسقى [ (4) ] فأتى بقدح من شراب زبيب، فلما أدناه من فيه وجد له ريحا شديدة فردّه. ودعا بماء من زمزم فصبّه عليه حتى فاض من جوانبه، وشرب منه، ثم ناوله الّذي عن يمينه. فلما فرغ من [سبعة] [ (5) ] نزل عن راحلته، وجاء معمر بن عبد اللَّه بن نضلة فأخرج راحلته.
وانتهى رسول اللَّه إلى المقام- وهو يؤمئذ لاصق بالكعبة، والدّرع والمغفر عليه، وعمامة لها طرف بين كتفيه- فصلى ركعتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطّلع فيها وقال: لولا أن يغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوا!
فنزع له العباس بن عبد المطلب دلوا فشرب منه. ويقال: الّذي نزع الدلو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم يسع بين الصفا والمروة لأنه لم يكن يومئذ معتمرا.
كسر هبل
وأمر بهبل فكسّر وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوّام لأبي سفيان ابن حرب: يا أبا سفيان! قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور،
__________
[ (1) ] في (خ) «ترنح» .
[ (2) ] في (خ) «سلمة» .
[ (3) ] ما بين القوسين في (خ) بعد قوله «صائفا» وهذا موضعه.
[ (4) ] استسقى: طلب أن يسقى.
[ (5) ] سبعة: الطواف سبعة أشواط.(1/390)
حين تزعم أنه قد أنعم! فقال: دع عنك هذا يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان.
خبر زمزم
ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجلس ناحية من [ (1) ] المسجد والناس حوله، فأتى بدلو من زمزم فغسل منها وجهه، فما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان: إن كانت قدر ما يحسوها حساها، وإلا تمسح بها. والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكا قطّ أعظم من اليوم. ولا قوما أحمق من القوم يتصل به.
إسلام قريش والبيعة
وجاءته قريش فأسلموا طوعا وكرها وقالوا: يا رسول اللَّه اصنع بنا صنع أخ كريم. فقال: أنتم الطلقاء! وقال مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. ثم اجتمعوا لمبايعته، فجلس على الصفا، وجلس عمر بن الخطاب أسفل مجلسه يأخذ على الناس، فبايعوا على السمع والطاعة للَّه ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما استطاعوا، فقال: لا هجرة بعد الفتح.
غسل الكعبة
وتجرد الرجال [ (2) ] من الأزر، ثم أخذوا الدّلو فغسلوا ظهر الكعبة وبطنها حتى انبعج [ (3) ] الوادي من الماء، فلم يدعوا فيه صورة ولا أثرا من آثار المشركين إلا محوه. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لما جلس ناحية من المسجد، توضأ بسجل [ (4) ] من زمزم قريبا من المقام، والمسلمون يبادرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركين يتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط بلغ هذا ولا شبيها به!
مفتاح الكعبة
ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة ليأتيه بمفتاح الكعبة فمنعته أمه، حتى جاء
__________
[ (1) ] في (خ) «من من» مكررة.
[ (2) ] في (خ) «في» .
[ (3) ] في (خ) «إن بعج» .
[ (4) ] السّجل: الدلو الكبيرة.(1/391)
أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فدفعته إلى ابنها فأتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فلما تناولته
قال العباس: يا رسول اللَّه، اجمع لنا السقايا والحجابة. فقال عليه السلام:
«أعطيكم ما ترزءون فيه ولا أعطيكم ما ترزءون به»
[ (1) ] . وقيل بل جاء عثمان ابن طلحة بالمفتاح إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما بلغ رأس الثنية.
محو الصور
وقيل: بعث صلّى اللَّه عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه من البطحاء- ومعه عثمان ابن طلحة- ليفتح البيت، ولا يدع صورة إلا محاها، [ولا تمثالا] [ (2) ] ، فترك عمر صورة إبراهيم عليه السلام حتى محاها عليه السلام.
دخوله الكعبة
ودخل صلّى اللَّه عليه وسلّم الكعبة- ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة- فمكث فيها وصلى ركعتين، ثم خرج والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذبّ الناس عنه حتى خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوقف على باب البيت وأخذ بعضادتيه [ (3) ] ، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح، ثم جعله في كمّه، وقال- وقد جلس الناس-:
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على باب البيت
الحمد للَّه الّذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده: [يا معشر قريش] [ (4) ] : ماذا تقولون؟ وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت. فقال: فإنّي أقول كما قال أخي يوسف:
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم، أو مال، أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين
__________
[ (1) ]
يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعطيكم ما يصيب الناس به من خير أموالكم، ولا أعطيكم ما تصيبون به من خير الناس.
[ (2) ] (المغازي) ج 2 ص 834.
[ (3) ] عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله.
[ (4) ] زيادة للبيان.(1/392)
إلا سدانة البيت وسقايا الحاج.
ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، والدّية مغلظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها.
إن اللَّه قد أذهب نخوة الجاهلية وتكثرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند اللَّه أتقاكم.
ألا إن اللَّه حرم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرام اللَّه، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد كائن بعدي، ولم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار [ (1) ] ، ألا لا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاهها [ (2) ] ، ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد [ (3) ] ، ولا يختلى خلاها [ (4) ] ، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول اللَّه، فإنه لا بد منه للقبور وطهور البيوت! فسكت ساعة ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال.
ولا وصية لوارث: وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطى من مالها إلا بإذن زوجها. والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، يتكافئون دماءهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم [ (5) ] ومسيّرهم [ (6) ] على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ولا جلب ولا جنب [ (7) ] . ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وأفنيتهم. ولا تنكح المرأة على
__________
[ (1) ] على معنى دخوله إياها من غير إحرام لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخلها وعليه عمامة سوداء، وقيل إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه (معالم السنن للخطابي) ج 2 ص 518، 519.
[ (2) ] العضاة: شجر عظام له شوك.
[ (3) ] المنشد: المعرّف الّذي يعرّف الضالة واللّقطة.
[ (4) ] أي لا ينزع حشيشها من بقول الربيع ما دام رطبا راجع (سنن أبي داود) : ج 2 ص 518، 519، 520، 521 باب تحريم حرم مكة الأحاديث أرقام 2017، 2018.
[ (5) ] المشدّ: ذو الدواب الشديدة. والمضعف: ذو الدواب الضعيفة.
[ (6) ] في (خ) «متسيرهم» ، والمسير الّذي خرج من بلده للغزو، والقاعد الّذي لم يخرج له.
[ (7) ] الجلب والجنب: هو أن يرسل في الحلبة فيجتمع له جماعة تصيح به ليرد عن وجهه، أو هو أن لا تجلب الصدقة إلى المياه والأمصار، ولكن يتصدق بها في مراعيها، أو أن ينزل العامل موضعا ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، أو أن يتبع الرّجل فرسه فيركض خلفه ويزجره ويجلب عليه. (ترتيب القاموس) ج 1 ص 509.(1/393)
عمتها وخالتها [ (1) ] . والبينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر. ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم [ (2) ] . ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح.
وأنهاكم عن صيام يومين [ (3) ] : يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين: لا يحتب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصّماء [ (4) ] : ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة
ثم نزل ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد فقال: ادعوا إليّ عثمان ابن طلحة، فدعي. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له يوما بمكة وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت! فقال له عثمان: لقد هلكت إذن قريش وذلت! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل عمرت وعزت يومئذ! فأقبل عثمان، فقال عليه السّلام: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، ولا ينزعها منكم إلا ظالم! يا عثمان! إن اللَّه استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. فلما ولي عثمان ناداه عليه السلام فرجع إليه، فقال له: ألم يكن الّذي قلت لك؟ فذكر عثمان قوله له بمكة، فقال: بلى أشهد أنك رسول اللَّه. فقال: قم على الباب، وكل بالمعروف. ودفع عليه السلام السقايا إلى العباس رضي اللَّه عنه.
معاتبة خالد بن الوليد من أجل قتاله
وقال لخالد بن الوليد رضي اللَّه عنه: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ فقال:
__________
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 621 حديث رقم 1929، 1930، 1931، (سنن أبي داود) ج 2 ص 553 حديث رقم 2065.
[ (2) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 348 حديث رقم 1727.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 802 حديث رقم 2416.
[ (4) ] اشتمال الصماء: (في النهاية) : هو أن يتجلل بثوبه ولا يرف منه جانبا، وأما قيل لها «صماء» لأنه يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها. كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع.
والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فتنكشف عورته. وعن الاحتباء: (في النهاية) :
هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليهما. وإنما نهي عنه لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد ربما تحرك، أو زال الثوب، فتبدو عورته. راجع (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 1179 الأحاديث رقم 3559، 3560، 3561 باب ما نهي عنه من «اللباس» و (سنن أبي داود) ج 4 ص 342 حديث رقم 4081.(1/394)
هم يا رسول اللَّه بدءونا بالقتال، ورشقونا بالنّبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوه، حتى إذا لم أجد بدا قاتلتهم، فظفرنا اللَّه عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول اللَّه! فقال: فكف عن الطلب. قال: قد فعلت يا رسول اللَّه. قال: قضاء اللَّه خير.
النهي عن القتال إلا خزاعة عن بني بكر
ثم
قال: يا معشر المسلمين! كفّوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، فخبّطوهم ساعة.
وهي الساعة التي أحلّت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم تحلّ لأحد قبله. وقيل: خبّطوهم إلى نصف النهار وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى أن يقتل من خزاعة أحد.
وبعث تميم بن أسد الخزاعي فجدّد أنصاب الحرم. ودخل جنيدب بن الأدلغ [الهذليّ] [ (1) ] مكة يرتاد وينظر- والناس آمنون- فرآه جندب بن الأعجم [ (2) ] الأسلمي. فقال: جنيدب بن الأدلغ! قاتل أحمر [بأسا] [ (3) ] ! فقال: نعم فخرج جندب [بن الأعجم] يستجيش عليه حيّه، فلقي خراش بن أمية الكعبيّ فأخبره.
فاشتمل خراش على السيف ثم أقبل إليه- والناس حوله وهو يحدثهم- فحمل عليه فقتله، ويقال إنه قتله بالمزدلفة.
خطبته صلّى اللَّه عليه وسلّم لما كثر القتل بين خزاعة وبني بكر
فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله، قام خطيبا- الغد من يوم الفتح بعد الظهر- فقال: يا أيها الناس، إن اللَّه حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة لا يحل لمؤمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دما. ولا يعضد فيها شجرا، لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد [يكون] [ (4) ] بعدي، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم، فإن قال قائل: قد قاتل فيها رسول اللَّه! فقولوا: إن اللَّه قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة!
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «الأعجر» .
[ (3) ] زيادة من (الواقدي) ج 2 ص 843، (ابن هشام) ج 4 ص 42.
[ (4) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4 ص 43.(1/395)
ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد واللَّه كثر إن نفع [ (1) ] . وقد قتلتم هذا القتيل، واللَّه لأدينّه! فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار: إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله [ (2) ] .
ويروي أنه قام خطيبا فقال: إنّ أعدى الناس على اللَّه: من قتل في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول الجاهلية [ (3) ] .
ويقال: إن قتل خراش لجنيدب كان بعد ما نهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن القتل، وإنه عليه السلام قال: لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت خراشا بالهذلىّ: ثم أمر خزاعة يخرجون ديته، فأخرجوها مائة من الإبل، فكان أول قتيل وداه [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الإسلام.
أذان بلال على ظهر الكعبة ومقالة قريش
وجاءت الظّهر، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة، وكانت قريش فوق رءوس الجبال وقد فرّ وجوههم وتغيبوا خوفا أن يقتلوا. فلما أذّن بلال ورفع صوته كأشدّ ما يكون وقال: أشهد أن محمدا رسول اللَّه- قالت جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك! أما الصلاة فسنصلّي، واللَّه لا نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد كان جاء أبي الّذي جاء محمدا من النبوة فردّها، وكره خلافة قومه. وقال خالد بن الأسيد: الحمد للَّه الّذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: وا ثكلاه! ليتني متّ قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص: هذا واللَّه الحدث العظيم.
أن يصبح عبد بني جمح على بنيّة [ (5) ] أبي طلحة! وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطا للَّه فسيغيره، وإن كان للَّه رضي فسيقرّه. وقال أبو سفيان بن حرب أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء! فأتى جبريل عليه السلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره خبرهم.
__________
[ (1) ] في (خ) «كبر أن يقع» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 2 ص 844 و (ابن هشام) ج 4 ص 42 وهو هناك «كثر [القتل] إن نقع» .
[ (2) ] في (خ) «ففعله» ، والعقل: دية القتيل.
[ (3) ] ذحول: جمع ذحل، وهو الثأر والعداوة.
[ (4) ] وداه: دفع ديته.
[ (5) ] البنية: البيت المبني.(1/396)
أمية بن أبي عبيدة
أتاه يعلي بن أميّة بأبيه. فقال: يا رسول اللَّه، بايع أبي على الهجرة، فقال:
لا! بل أبايعه على الجهاد فقد انقضت الهجرة.
سهيل بن عمرو
وكان سهيل بن عمرو أغلق عليه [بابه] [ (1) ] ، وبعث إلى ابنه عبد اللَّه ابن سهيل أن يأخذ له أمانا، فأمّنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال. من لقي سهيل بن عمرو، فلا يشد النظر إليه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه [ (2) ] أنه لم يكن له بنافع،
فخرج عبد اللَّه إلى أبيه فأخبره، فقال سهيل: كان واللَّه برا صغيرا وكبيرا! فخرج وشهد حنينا، وأسلم بالجعرّانة.
هبيرة بن أبي وهب وابن الزبعري
وهرب هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب- هو وعبد اللَّه ابن الزّبعرى بن قيس بن عديّ بن سعيد بن سهم القرشيّ السّهمي- إلى نجران.
فبعث حسان بن ثابت بشعر إلى ابن الزبعري فجاء.
ولما نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليه قال: هذا ابن الزبعري ومعه وجه فيه نور الإسلام! فأسلم.
ومات هبيرة بنجران مشركا.
حويطب بن عبد العزى
وهرب حويطب بن عبد العزّي بن أبي القيس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤيّ القرشي العامري! فأمّنه أبو ذر رضي اللَّه عنه ومشى معه، وجمع بينه وبين عياله.
إسلام نساء من قريش
وأسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام: امرأة عكرمة
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] أوضع الأمر: اشتد فيه.(1/397)
ابن أبي جهل، والبغوم بنت المعذّل [ (1) ] : امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وهند بنت منبّه بن الحجاج: أم عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في عشر نسوة من قريش.
بيعة النساء وخبر هند بنت عتبة
فأتين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأبطح- وعنده زوجتاه وفاطمة ابنته، في نساء من نساء بني عبد المطلب، فبايعنه، ولم تمسّ يده يد امرأة. وقيل-: وضع على يده ثوبا ثم مسحن على يده. وقيل: أدخل يده في قدح فيه ماء، ثم دفعه إليهن فأدخلن أيديهنّ فيه. وقيل: بل كانت بيعة النساء عقيب بيعة الرجال عند الصّفا.
ورئيت [ (2) ] فيهن هند وهي متنكّرة لأجل صنيعها بحمزة- وكان زوجها أبو سفيان حاضرا-
فعرفها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إنك لهند! فقالت: أنا هند، فاعف عما سلف. فبايعهن عمر رضي اللَّه عنه واستغفر لهن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
إسلام عكرمة بن أبي جهل
وطلبت أم حكيم أمانا لعكرمة وقد هرب إلى اليمن فأمّنه. فخرجت إليه حتى قدم.
فلما دنا من مكة قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإنّ سبّ الميت يؤذي الحىّ ولا يبلغ إليه! فلما رآه وثب إليه فرحا، فوقف- ومعه امرأته منتقبة- فقال: يا محمد، إنّ هذه أخبرتني أنك أمنتنى! فقال: صدقت، فأنت آمن! فأسلم.
صفوان بن أمية
وهرب صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشيّ الجمحيّ. فأخذ له عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة أمانا، وخرج في أثره حتى رجع، وشهد هوازن كافرا، وأسلم بالجعرّانة.
عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح
وكان عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح ممن أهدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دمه يوم الفتح،
__________
[ (1) ] في (خ) «المعزل» .
[ (2) ] في (خ) «رأت» .(1/398)
فأتى به عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، وسأله أن يهبه له، فوهب له جرمه. وأسلم.
الحويرث بن نقيذ
وأهدر صلّى اللَّه عليه وسلّم دم الحويرث بن نقيذ [ (1) ] بن بجير بن عبد قصي، فضرب عليّ رضي اللَّه عنه عنقه، وكان مؤذيا للَّه ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
هبار بن الأسود
وأهدر دم هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصي ابن الأسدي القرشيّ، فأسلم.
ابن خطل
وأخرج أبو برزة الأسلميّ عبد اللَّه بن خطل- وهو متعلق بأستار الكعبة- فضرب عنقه بين الركن والمقام. [ويقال: قتله سعيد بن حريث المخزوميّ، ويقال:
عمّار بن ياسر، وقيل: نضلة بن عبد اللَّه بن الحارث بن حيال بن ربيعة [ (2) ] بن دعبل ابن أنس بن خزيمة بن حديدة بن مازن بن الحارث [ (3) ] بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء [ (4) ] ويقال: شريك بن عبدة العجلاني [ (5) ] [وأثبته أبو برزة] . وفيه نزلت لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ
وفي المستدرك للحاكم، عن السائب بن يزيد قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخرج عبد اللَّه بن خطل من بين أستار الكعبة فقتله صبرا [ (6) ] ، ثم قال: لا يقتل أحد من قريش بعد هذا صبرا.
__________
[ (1) ] في (خ) «نفيد» .
[ (2) ] في (خ) «ربيع» .
[ (3) ] في (خ) «الحرب» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، (خ) ، ونسبه في (الاستيعاب) ج 10 ص 295 هكذا:
«نضلة بن عبيد بن الحارث، أبو برزة الأسلمي. غلبت عليه كنيته، واختلف في اسمه، فقيل: نضلة ابن عبيد بن الحارث، وقيل: نضلة بن عبد اللَّه بن الحارث، وقيل: عبد اللَّه بن نضلة، وقيل:
سلمة بن عبيد» ، «وروي عن أبي برزة أنه قال: أنا قتلت ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة» .
[ (5) ] «وهو شريك بن السحماء» .
[ (6) ] قتل صبرا في غير حرب ولا معركة ولا خطأ.(1/399)
سارة
وقتلت سارة مولاة عمرو بن هشام [ (1) ] ، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة. قتلها علي رضي اللَّه عنه. ويقال غيره.
أرنب
وقتلت أرنب [أو قيربة] وأسلمت فرتنى.
مقيس بن صبابة
وقتل مقيس بن صبابة نميلة بن عبد اللَّه الليثي. وقيل رآه المسلمون بين الصفا والمروة فقتلوه بأسيافهم.
مقالة أبي سفيان في القتلى
ولما قتل النفر الذين أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتلهم، سمع النّوح عليهم. وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي! البقية في قومك!
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تقتل قريش صبرا بعد اليوم [يعني على كفر]
وفي رواية: لا تغزي قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة. [يعني على كفر] .
الأمر بقتل وحشي
وأمر عليه السلام بقتل وحشي، ففرّ إلى الطائف حتى قدم في وفدهم فأسلم: فقال له عليه السلام: غيّب عني وجهك! فكان إذا رأى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم توارى [ (2) ] عنه.
سلف رسول اللَّه من بعض قريش
واستسلف صلّى اللَّه عليه وسلّم من عبد اللَّه بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فردّها عليه من غنائم هوازن،
وقال: إنما جزاء السّلف الحمد والأداء. وقال بارك اللَّه لك في مالك وولدك؟
واستقرض من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه.
واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم. فكانت ثلاثين ومائة ألف قسمها بين أهل الضّعف، فأصاب الرجل خمسين درهما وأقلّ وأكثر. وبعث من ذلك إلى بني جذيمة.
__________
[ (1) ] في (خ) «هاشم» .
[ (2) ] في (خ) «تورى» .(1/400)
[المجلد الثاني]
[تتمة غزوة الفتح]
بسم اللَّه الرحمن الرّحيم
هدية الخمر
وأهدي له يومئذ راوية خمر فقال: إن اللَّه حرّمها! فسارّ الرجل غلامه: اذهب بها إلى الحزورة [ (1) ] فبعها. فقال: بم أمرته؟ قال: ببيعها! فقال: إن الّذي حرّم شربها حرّم بيعها! ففرّغت بالبطحاء. ونهي يومئذ عن ثمن الخمر. وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن.
تحريم شحوم الميتة
وقيل له يومئذ: ما ترى في شحوم الميتة يدهن به السّقاء؟ فقال قاتل اللَّه يهودا! حرّم عليهم الشحوم فباعوها، فأكلوها ثمنها.
وحرّم متعة النساء يومئذ، وقال يومئذ- وهو بالحزورة-: واللَّه إنك لخير أرض اللَّه إليّ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت [ (2) ] .
العفو عن بعض أهل مكة
وهبط ثمانون من أهل مكة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من جبل التّنعيم عند صلاة الفجر، فأخذهم سلما [ (3) ] فعفا عنهم، ونزل فيهم: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه،
وفي الحديث: وقف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحزورة وقال: يا بطحاء مكة ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك (معجم البلدان) ج 2 ص 255.
[ (2) ] لفظ الحديث في التعليق السابق، وفي (خ) «أخرجت» .
[ (3) ] مستسلمين بغير حرب.
[ (4) ] الآية 24/ الفتح، وفي (خ) إلى قوله تعالى أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.(2/3)
حد شارب الخمر
وأتي بشارب فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضرب بالسوط وبالنّعل وبالعصا، وحثا عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التراب.
إسلام جبر
وجاء جبر غلام بني عبد الدار- وقد كان يكتم إسلامه- فأعطاه ثمنه، فاشتري نفسه فعتق.
نذر رجل الصلاة في بيت المقدس
وقال رجل يومئذ: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح اللَّه عليك مكة، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم، والّذي نفسي بيده! لصلاة ها هنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان.
نذر ميمونة أم المؤمنين
وقالت ميمونة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه، إني جعلت على نفسي- إن فتح اللَّه عليك مكة- أن أصلي في بيت المقدس! فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيت يستصبح [ (1) ] لك فيه به، فكأنك أتيته [ (2) ] .
وكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمال ليشترى به زيت يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك.
نساء قريش وجمالهن
وجلس عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه في مجلس فيه جماعة- منهم سعد ابن عبادة رضي اللَّه عنه- فمرّت نسوة من قريش فقال سعد: قد كان يذكر لنا من نساء قريش حسن وجمال [ (3) ] ، ما رأيناهنّ كذلك! فغضب عبد الرحمن ابن عوف حتى كاد أن يقع بسعد وأغلظ له [ (4) ] ، ففرّ منه سعد حتى أتى رسول
__________
[ (1) ] الاستصباح: الاستسراج، أي إشعال السراج به.
[ (2) ] في (خ) «أنيتيه» .
[ (3) ] في (خ) «حسنا وجمالا» .
[ (4) ] في (خ) «وأغلظ» .(2/4)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، ماذا لقيت من عبد الرحمن؟ فقال: وما له؟ فأخبره بما كان، فغضب صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كان وجهه ليتوقد [ (1) ] ، ثم قال: رأيتهنّ وقد أصبن بآبائهن وأبنائهنّ وإخوانهنّ وأزواجهن! خير نساء ركبن الإبل نساء قريش! أحناه على ولد، وأبذله لزوج بما ملكت يد.
هدية هند بنت عتبة بعد إسلامها
وأهدت هند بنت عتبة بعد إسلامها هدية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهو بالأبطح- مع مولاة لها، جديين [ (2) ] مرضوفين وقدّا [ (3) ] ، فانتهت الجارية إلي خيمته، فسلمت واستأذنت فأذن لها فدخلت ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أم سلمة وميمونة ونساء بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك، وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال: بارك اللَّه لكم في غنمكم، وأكثر والدتها!
فسرّت هند لما أخبرتها مولاتها بذلك، ورأوا من كثرة غنمهم ووالدتها ما لم يكن من قبل ولا قريبا. وكانت هند تقول: هذا بدعاء رسول اللَّه وبركته.
إحدى نساء بني سعد وخبر وفاة حليمة السعدية
وأتته صلّى اللَّه عليه وسلّم إحدى نساء بني سعد بن بكر- إمّا خالة أو عمة- بنحي [ (4) ] مملوء سمنا وجراب أقط [ (5) ]- وهو بالأبطح- فعرفها، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وأخبرته بوفاة حليمة [ (6) ] فذرفت عيناه، وقالت: أخواك وأختاك محتاجون! فأمر لها بكسوة وجمل ومائتي درهم، فقالت: نعم واللَّه المكفول كنت صغيرا، ونعم المرء كنت كبيرا، عظيم البركة.
السرايا وهدم الأصنام
وبثّ صلّى اللَّه عليه وسلّم سراياه وأمرهم أن يغيروا على من لم يسلم. فخرج هشام بن العاص
__________
[ (1) ] توقد: تلألأ.
[ (2) ] في (خ) «جد بين» .
[ (3) ] المرضوف: المشوي، والقد: سقاء صغير متخذ من جلد السّخلة يكون فيه لبن.
[ (4) ] النحى: زق من الجلد يكون فيه السمن خاصة.
[ (5) ] الأقط: يتخذ من ألبان الإبل.
[ (6) ] حليمة السعدية، ظئره وحاضنته صلّى اللَّه عليه وسلّم.(2/5)
في مائتين قبل يلملم. وخرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة قبل عرنة وبعث خالد بن الوليد إلى العزّى في ثلاثين فارسا فهدمها لخمس [ (1) ] بقين من رمضان، وكانت بنخلة. وبعث الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم ابن فهم [ (2) ] الدّوسي إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة فحرّقه بالنار، وبعث سعد بن زيد الأشهليّ إلى مناة بالمشلّل [ (3) ] فهدمه. وبعث عمرو بن العاص إلى صنم هذيل سواع فهدمه. ونادى منادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كان يؤمن باللَّه وبرسوله فلا يدعنّ في بيته صنما إلا كسره أو حرّقه، وثمنه حرام. فجعل المسلمون يكسرون الأصنام، ولم يكن رجل من قريش بمكة إلا وفي بيته صنم: إذا دخل مسحه وإذ خرج مسحه: تبركا به. وكان عكرمة بن أبي جهل لما أسلم لم يسمع بصنم في بيت إلا مشى إليه حتى يكسره. وجعلت هند بنت عتبة تضرب صنما في بيتها بالقدوم فلذة فلذة [ (4) ] وهي تقول: كنا منك في غرور!!
مدة المقام بمكة
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة- على ما في صحيح البخاريّ- خمس عشرة ليلة. [وفي رواية تسع عشرة، وفي أبي داود تسع عشرة، وفي الترمذي ثماني عشرة، وقيل عشرا، وقيل بضع عشرة، وقيل: عشرين ليلة] يصلي ركعتين، ويأمر أهل مكة أن يتموا، كما رواه النسائي. وأفطر بقية شهر رمضان.
بعثة خالد بن الوليد إلى بني جذيمة وقتلهم، وكانوا مسلمين
ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني جذيمة ابن عامر بن عمرو بن مناة بن كنانة يدعوهم إلى الإسلام فخرج أول شوّال في ثلاثمائة وخمسين إلى أسفل مكة وانتهى إليهم، فقالوا: نحن مسلمون! فقال خالد:
استأسروا! فكتف بعضهم بعضا، ودفع خالد إلى كل رجل من أصحابه رجلا أو رجلين، فباتوا في وثاق إلى السّحر. فنادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «بخمس» .
[ (2) ] في (خ) «سالم بن فهر» ، وما أثبتناه من (الإصابة) ج 5 ص 223 ترجمة رقم 4247.
[ (3) ] جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر (معجم البلدان) ج 5 ص 136.
[ (4) ] الفلذة: القطعة.
[ (5) ] فليدافه: فليجهز عليه.(2/6)
فقتل بنو سليم من كان في أيديهم، وكانوا قريبا من ثلاثين رجلا. وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم وقالوا: اذهبوا حيث شئتم! فغضب خالد على من أرسل أسيره. فقال له أبو أسيد السّاعديّ: اتّق اللَّه يا خالد! ما كنا لنقتل قوما مسلمين! قال: وما يدريك؟ قال: تسمع إقرارهم بالإسلام، وهذه المساجد بساحتهم!
فلما قدم خالد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عاب [ (1) ] عبد الرحمن بن عوف عليه ما صنع، فتلاحيا، وأعانه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأعرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه وقال له- وقد بلغه ما صنع بعبد الرحمن بن عوف-: يا خالد! ذروا لي أصحابي! متى ينكأ أنف المرء يبجع [ (2) ] ! لو كان أحد ذهبا تنفقه قيراطا قيراطا في سبيل اللَّه لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف! ورفع صلّى اللَّه عليه وسلّم يديه حتى رئي بياض إبطيه، وهو يقول: اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد!!
بعثة عليّ بالديات إلى بني جذيمة
وبعث عليا رضي اللَّه عنه إلى بني جذيمة بمال فودى لهم ما أصاب خالد، ودفع إليهم مالهم، فبقيت لهم بقية مال، فبعث عليّ أبا رافع إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليستزيده فزاده مالا، فودى لهم كلّ ما أصاب [خالد] ، حتى إنه ليدي لهم ميلغة [ (3) ] الكلب وبقي مع عليّ شيء من المال. فقال: هذه البقية من هذا المال لكم عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مما أصاب خالد، مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فأعطاهم ذلك وعاد فأخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بما صنع فقال: أصبت! ما أمرت خالدا بالقتال، إنما أمرته بالدعاء! ثم أقبل على خالد رضي اللَّه عنه وقال: لا تسبوا خالدا ابن الوليد، فإنما هو سيف من سيوف اللَّه سله على المشركين.
فتح مكة
وقد اختلف في فتح مكة، فقال الأوزاعيّ ومالك وأبو حنيفة: إنّها فتحت عنوة ثم أمّن أهلها. وقال مجاهد والشافعيّ: فتحت صلحا بأمان عقده. وقيل:
__________
[ (1) ] في (خ) «غاب» .
[ (2) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «متى يتكأ أنف المرء وينكا» ولم أجد هذا المثل في (مجمع الأمثال للميداني) ولا في جمهرة الأمثال للعسكريّ) ، ولا في كتاب (الأمثال في الحديث النبوي) لأبي الشيخ الأصبهاني. ونكأ القرحة: نشرها.
[ (3) ] في (خ) «مبلغة» .(2/7)
فتح أسفلها عنوة وأعلاها صلحا [ (1) ] .
وروي أنه يوم فتح مكة حام حمام الحرم [ (2) ] فأظلته صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعا لها بالبركة.
وكان يحبّ الحمام.
غزوة حنين «هوازن»
ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزوة حنين: وذلك واد- ويقال ماء- بينه وبين مكة ثلاث ليال في قرب الطائف. سمّي بحنين بن قانية بن مهلائيل من جرهم، وقيل: حنين بن ماثقة بن مهلان بن مهليل بن عبيل بن عوص بن إرم ابن سام [ (3) ] بن نوح.
جموع هوازن وثقيف
وذلك أن أشراف هوازن وثقيف حشدوا، وقد جعلوا أمرهم إلى مالك ابن عوف بن سعيد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة [ (4) ] بن دعمان بن نصر بن معاوية ابن بكر بن هوازن النصريّ، وهو ابن ثلاثين سنة. وأقبلت ثقيف ونصر وجشم، وكان في ثقيف سيّدان [ (5) ] لهم هما: قارب بن عبد اللَّه بن الأسود بن مسعود الثقفيّ، وذو الخمار سبيع بن الحارث، [ويقال: الأحمر بن الحارث] ، واجتمع إليهم من بني هلال بن عامر نحو المائة، ولم يحضرهم أحد من كعب ولا كلاب
__________
[ (1) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 429 في الإشارة إلى ما في الغزوة من الفقه واللطائف، «وفيها البيان الصريح بأن مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعيّ وأحمد في أحد قوليه» ثم قال: «قال أصحاب الصلح: لو فتحت عنوة لقسمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الغانمين كما قسم خيبر» ، «ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها» ، «قال أرباب العنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره، وإغلاق بابه، وإلقاء سلاحه فائدة» .
«وأيضا فلو كان فتحها صلحا، لم يقل: إن اللَّه قد أحلها لي ساعة من نهار، فإنّها إذا فتحت صلحا كانت باقية على حرمتها» .
[ (2) ] في (خ) «الحرر» .
[ (3) ] في (خ) «سلام» .
[ (4) ] في (خ) «واثله» .
[ (5) ] في (خ) «سيديان» .(2/8)
[من هوازن] [ (1) ] وحضر دريد بن الصّمّة بن [الحارث بن] [ (2) ] بكر بن علقمة ابن خزاعة بن غزيّة [ (3) ] بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن في بني جشم، وهو ابن ستين ومائة سنة لا شيء فيه، إلا أنهم يتيمنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته [ (4) ] .
منزل هوازن
وجاءوا جميعا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم يريدون حرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى نزلوا بأوطاس، فقال دريد: بأيّ واد أنتم: قالوا: بأوطاس فقال: مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس [ (5) ] . ثم قال لمالك بن عوف: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاة؟ قال مالك: يا أبا قرّه! إني سقت مع الناس أموالهم وذراريهم، وأردت أن أجعل خلف كلّ رجل منهم أهله وماله يقاتل عنه، فأنقض به دريد، ثم قال: رويعي ضأن واللَّه! وهل يردّ المنهزم شيء؟ وقال: هذا يوم لم أشهده [ (6) ] ، ولم أغب عنه! وقال:
يا ليتني فيها جذع [ (7) ] ... أخب فيها وأضع [ (8) ]
أقود وطفاء الزّمع [ (9) ] ... كأنها شاة صدع [ (10) ]
[قوله: «أنقض به دريد» يريد أنه نقر بلسانه في فيه كما يزجر الشاة أو الحمار. وقوله: «رويعي [ (11) ] ضأن» ، يستجهله] .
خروج رسول اللَّه إلى حنين
فغدا صلّى اللَّه عليه وسلّم يريدهم يوم السبت لست خلون من شوال، وقيل قدم مكة لثماني
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] زيادة من نسبه من (ط)
[ (3) ] في (خ) «عربة» .
[ (4) ] في (خ) «ذريته» .
[ (5) ] الحزن: الغليظ من الأرض. الضرس: الغليظ الخشن. الدهس: اللين الوطء من الأرض.
[ (6) ] في (خ) «أشهد» .
[ (7) ] جذع: صغير السن، وفي (خ) «جزع» .
[ (8) ] الخب والوضع: ضربان من العدو والوضع أشد.
[ (9) ] في (خ) «الرمع» ، والوطفاء: الغزيرة الشعر. والزمع جمع زمعة: وهي شعرة مدلاة خلف الرسغ.
[ (10) ] الصدع: الوعل الحديث السن.
[ (11) ] رويعي: تصغير «راع» .(2/9)
عشرة ليلة من شهر رمضان سنة ثمان، وأقام بها اثنتي عشرة ليلة، ثم أصبح غداة الفطر غاديا إلى حنين. وخرج معه أهل مكة- لم يتأخر منهم كبير أحد- ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين: على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون الدّولة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. واستعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشيّ الأمويّ- وله نحو عشرين سنة-، وجعل معه معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عديّ بن كعب بن عمرو بن أديّ ابن سعيد بن علي بن أسد بن ساردة [ (1) ] بن زيد بن جشم بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجي، يعلمهم السّنن والفقه. وخرج معه اثنا عشر ألف رجل: عشرة آلاف من المدينة وألفان من أهل مكة، وهم الطلقاء.
إعجاب المسلمين بكثرتهم يوم حنين
فقال رجل من بني بكر: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة! فأنزل اللَّه تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [ (2) ] .
عارية السلاح
واستعار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من صفوان بن أمية مائة درع، وقيل أربعمائة درع، بأداتها، وخرج [صفوان] [ (3) ] وهو مشرك مع المسلمين.
خبر ذات الأنواط
فمرّوا بشجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط- كانت العرب من قريش وغيرها يأتونها كل سنة يعلقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما-
فقالوا: يا رسول اللَّه: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: فقال:
اللَّه أكبر! قلتم- والّذي نفسي بيده- كما قال قوم موسي:
__________
[ (1) ] في (خ) «ماردة» .
[ (2) ] الآية 25/ التوبة، وفي (خ) «..... كثرتكم الآي» .
[ (3) ] زيادة للبيان.(2/10)
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [ (1) ] ، إنها السّنن، سنن من كان قبلكم [وفي رواية: لتركبن سنن من قبلكم] [ (2) ] .
خبر الرجل الّذي أراد قتل رسول اللَّه
ونزل رسول اللَّه تحت شجرة دوين أوطاس، وعلق بها سيفه وقوسه، فجاء رجل وهو نائم فسلّ السيف، وقام على رأسه ففزع به [ (3) ] وهو يقول: يا محمد! من يمنعك منّي اليوم؟ فقال: اللَّه! فأتى أبو بردة بن نيار يريد أن يقتل الرجل، فمنعه النبي عليه السلام من قتله وقال: يا أبا بردة، إن اللَّه مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدّين كلّه.
وانتهى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.
عيون هوازن ورعب المشركين
فبعث مالك بن عوف ثلاثة رجال متفرقين في العسكر [يأتونه بخبر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (4) ] ، فرجعوا وقد تفرقت أوصالهم [من الرعب] [ (4) ] ، وقالوا:
رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو اللَّه ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وقالوا:
ما نقاتل أهل الأرض إنما نقاتل إلا أهل السماء! وإن أطعتنا رجعت بقومك. فسبّهم وحبسهم. ثم بعث آخر فعاد إليه بمثل ما قال الثلاثة، فلم ينته. وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن حدرد مرثد بن أبي مرثد الغنويّ تلك الليلة على فرسه وهو يحرس المسلمين.
خروج غير المسلمين إلى حنين
وكان قد خرج رجال من مكة على غير دين، ينظرون على من تكون الدائرة، فيصيبون من الغنائم، منهم أبو سفيان بن حرب [ (5) ] ، ومنهم معاوية بن أبي سفيان- خرج ومعه الأزلام [ (6) ] في كنانته، وكان يسير في أثر العسكر، كلّما مرّ بترس
__________
[ (1) ] الآية 138/ الأعراف.
[ (2) ] سنن الطريق: نهجه ووجهه.
[ (3) ] فزع به: أنبهه.
[ (4) ] زيادة من (ابن سعد) ج 2 ص 150.
[ (5) ] كذا في (خ) و (الواقدي) ج 3 ص 895، وهو غريب، فمن الثابت أن أبا سفيان بن حرب أسلم ليلة الفتح، ومعاوية أسلم يوم الفتح، والحارث بن هشام أسلم يوم الفتح أيضا.
[ (6) ] الأزلام: سهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية.(2/11)
ساقط أو رمح أو متاع حمله، حتى أوقر جمله [ (1) ]-، وصفوان بن أمية، ومعه حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزّى، وسهيل بن عمرو، والحارث ابن هشام [ (2) ] ، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة، فلما كانت الحرب وقفوا خلف الناس.
تعبئة المسلمين
وعبّأ مالك بن عوف أصحابه في الليل بوادي حنين، وعبأ له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في السّحر، ووضع الألوية والرايات في أهلها. فحمل رايات المهاجرين: عليّ وسعد بن أبي وقّاص، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهم، وحمل رايات الأنصار الحباب بن المنذر، وقيل كان لواء الخزرج الأكبر مع سعد بن عبادة، ولواء الأوس مع أسيد بن حضير. وفي كل بطن لواء أو راية. وكانت رايات المهاجرين سودا وألويتهم بيضاء، ورايات الأنصار خضرا وحمرا، وكانت في قبائل العرب رايات، وبقيت سليم كما هي في مقدمة الخيل، وعليهم خالد بن الوليد.
المسير إلى القتال
وانحدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه في وادي حنين. وهو على تعبئته وقد ركب بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، وحضّ على القتال، وبشر بالفتح إن صدقوا وصبروا.
انهزام المسلمين
فاستقبلتهم هوازن في غبش الصّبح [ (3) ] بكثرة لم يروا مثلها قط، وحملوا على المسلمين حملة واحدة، فانكشف أول الخيل خيل [بني] [ (4) ] سليم مولّية، فولوا وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء.
__________
[ (1) ] أوقر الجمل: أثقل حمله.
[ (2) ] كذا في (خ) و (الواقدي) ج 3 ص 895، وهو غريب، فمن الثابت أن أبا سفيان بن حرب أسلم ليلة الفتح، ومعاوية أسلم يوم الفتح، والحارث بن هشام أسلم يوم الفتح أيضا.
[ (3) ] غبش الصبح: الظلمة يخالطها البياض في بقية الليل.
[ (4) ] زيادة للسياق.(2/12)
انهزام المشركين بغير قتال
فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يمينا وشمالا- والناس منهزمون حتى بلغوا مكة، فلم يرجع آخرهم إلا والأسارى بين يدي النبي عليه السلام- وهو يقول: يا أنصار اللَّه وأنصار رسول اللَّه؟ أنا عبد اللَّه ورسوله!! ثم تقدّم بحربته أمام الناس، وانهزم المشركون، وما ضرب أحد من المسلمين بسيف ولا طعن برمح.
ورجع صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى العسكر، وأمر أن يقتل كلّ من قدر عليه من المشركين، وقد ولت هوازن، وثاب من انهزم من المسلمين.
الذين ثبتوا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الهزيمة
ولم يثبت معه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقت الهزيمة إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد أخذ [ (1) ] بثغر البلغة، والعباس وقد أخذ بحكمتها [ (2) ] ، وهو يركضها إلى وجه العدوّ، وينوّه باسمه
فيقول:
أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب
دعوة المنهزمين
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم يا عباس! اصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السّمرة [ (3) ] ! فنادى بذلك- وكان رجلا صيّتا [ (4) ]-، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها يقولون يا لبّيك ... يا لبيك! فأشرف صلّى اللَّه عليه وسلّم كالمتطاول في ركابيه، فنظر إلى قتالهم وقال: الآن حمي الوطيس! ثم أخذ بيده من الحصا فرماهم به وهو يقول: شاهت الوجوه، حم لا ينصرون! ثم قال: انهزموا وربّ الكعبة! فما زال أمرهم مدبرا
وانهزموا: فانحاز صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات اليمين، وهو على بغلته قد جرّد سيفه.
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، وأثبتناها من (الواقدي) ج 2 ص 898 ومعناها: السير في مؤخر السرع (ترتيب القاموس) .
[ (2) ] الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العذران (ترتيب القاموس) .
[ (3) ] السّمرة: قال في (النهاية) الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبيّة.
[ (4) ] صيّتا: عالي الصوت رفيعه.(2/13)
عدد من ثبت معه
وثبت معه [ (1) ] سوى من ذكرنا: عليّ، والفضل بن عباس، وربيعة ابن الحارث [بن عبد المطلب] [ (2) ] ، وأيمن بن عبيد الخزرجي، وأسامه بن زيد، وأبو بكر وعمر، رضي اللَّه عنهم.
وقيل لما انكشف الناس عنه قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لحارثة بن النّعمان الأنصاري: كم ترى الناس الذين ثبتوا؟ فحرزهم مائة، وهذه المائة هي التي كرّت بعد الفرار، فاستقبلوا هوازن واجتلدوهم [ (3) ] وإياهم وكان دعاؤه يومئذ- حين انكشف الناس عنه، فلم يبق إلا في المائة الصابرة-:
اللَّهمّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان [ (4) ] !
ويقال إن المائة الصابرة يومئذ: ثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار، وكان عليّ، وأبو دجانة، وعثمان بن عفان، وأيمن بن عبيد رضي اللَّه عنهم يقاتلون بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم.
خبر على وقتاله يوم حنين
قال الحارث بن نوفل: فحدّثني الفضل بن العباس قال: التفت العباس يومئذ وقد أقشع [ (5) ] الناس عن بكرة أبيهم- فلم ير عليا فيمن ثبت، فقال: شوهة وبوهة [ (6) ] ! أوفي مثل هذه [ (7) ] الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم؟ وهو صاحبه فيما هو صاحبه!! [يعني المواطن المشهورة له] فقلت: بعض قولك لابن أخيك! أما تراه في الرّهج؟ قال: أشعره [ (8) ] لي يا بنيّ. قلت ذو كذا، ذو كذا، ذو البردة. قال: فما تلك البرقة؟ قلت: سيفه يرفل [ (9) ] به بين
__________
[ (1) ] في (خ) «وما معه» .
[ (2) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (3) ] اجتلدوا: ضربوا بالسيف.
[ (4) ] في (الواقدي) ج 2 ص 901 بعد قوله «المستعان» «قال له جبريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن اللَّه موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه» ومعنى لقن: فهم.
[ (5) ] أقشع الناس: تفرقوا.
[ (6) ] في (خ) «شوهة بوهة» وهذا يقال في الدعاء والذم، كذا في (ط) ولم أجد المثل في مجمع الأمثال ولا في جمهرة الأمثال.
[ (7) ] في (خ) ، (ط) «هذا» وما أثبتناه حق اللغة.
[ (8) ] الرهج: غبار الحرب وأشعره لي: أذكر لي شعاره الّذي يعرف به بين رفقته
[ (9) ] يرفل: يتبختر.(2/14)
الأقران [ (1) ] . فقال برّ ابن برّ؟ فداه عم وخال! قال: فضرب عليّ يومئذ أربعين مبارزا كلهم يقده حتى يقدّ أنفه وذكره. قال: وكانت ضرباته منكرة.
قتال أم عمارة وصواحباتها
وكانت أم عمارة في يدها سيف صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها وهي يومئذ حامل بعبد اللَّه بن أبي طلحة، وأم سليط، وأم الحارث- حين انهزم الناس- يقاتلن: وأم عمارة تصيح بالأنصار: أيّة عادة هذه! ما لكم وللفرار! وشدّت على رجل من هوازن فقتلته وأخذت سيفه.
موقف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قائم مصلت السيف بيده، وقد طرح غمده ينادي:
يا أصحاب سورة البقرة! فكرّ المسلمون، وجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن! يا بني عبد اللَّه! يا بني عبيد اللَّه! يا خيل اللَّه- وكان صلى اللَّه عليه وسلّم قد سمّي خيله خيل اللَّه-[وكان شعار [ (2) ] المهاجرين بني عبد الرحمن، وشعار الأوس بني عبيد اللَّه، وشعار الخزرج بني عبد اللَّه] . فكرّت الأنصار، ووقفت هوازن حملة ناقة [ (3) ] ، ثم كانت هزيمتهم أقبح هزيمة، والمسلمون يقتلون ويأسرون.
تحريض أم سليم
وأم سليم بنت ملحان تقول: يا رسول اللَّه! ما رأيت هؤلاء الذين أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك! لا تعف عنهم إذا أمكنك اللَّه منهم، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين! فقال: يا أم سليم! قد كفى اللَّه، عافية اللَّه أوسع.
النهي عن قتل الذرية
وحنق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى شرعوا [ (4) ] في قتل الذّرية. فلما بلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذّرّيّة!
__________
[ (1) ] الأقران: النظائر والأكفاء.
[ (2) ] في (خ) «وجعل شعار» .
[ (3) ] في (خ) «حملت» ، والمعني: وقفوا مقدار ما تحمل الناقة رحلها.
[ (4) ] في (خ) «أشرعوا» .(2/15)
ألا لا تقتل الذرية، فقال أسيد بن الحضير: يا رسول اللَّه! أليس إنما هم أولاد المشركين؟! فقال: أوليس خياركم أولاد المشركين؟ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها [ (1) ] !.
خبر النمل
وقال جبير بن مطعم: لما تراءينا نحن والقوم، رأينا سوادا لم نر مثله قط كثرة، وإنما ذلك السواد نعم فحملوا النساء عليه. فأقبل مثل الظّلّة السوداء من السماء، حتى أظلت علينا وعليهم وسدّت الأرض. فنظرت فإذا وادي حنين يسيل بالنمل، نمل أسود مبثوث. لم أشكّ أنه نصر أيدنا اللَّه به، فهزمهم اللَّه. وحدّث شيوخ من الأنصار قالوا: رأينا كالبجد [ (2) ] السود هوت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كنا لننفضه عن ثيابنا، فكان نصرا أيّدنا اللَّه به.
نصر الملائكة
وكانت سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمرا [ (3) ] قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الّذي قذف اللَّه في قلوب المشركين يومئذ كوقع الحصاة في الطّست:
له طنين، فيجدون في أجوافهم مثل ذلك. ولم رمي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك الكفّ من الحصا، لم يبق أحد من المشركين إلا وهو يشكو القذى في عينه. ويجدون في صدورهم خفقانا كوقع الحصا في الطّساس [ (4) ] : ما يهدأ ذلك عنهم. ورأوا رجالا بيضا على خيل بلق، عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وهم بين السماء والأرض: كتائب، فما كانوا يستطيعون أن يتأمّلوهم من الرعب منهم.
القتلى في ثقيف
استحرّ القتل من ثقيف [في] [ (5) ] بني مالك، فقتل منهم قريب من مائة رجل تحت رايتهم، وقتل ذو الخمار، وهربت ثقيف.
__________
[ (1) ] أي يحملانها على شريعة يهودية أو نصرانية.
[ (2) ] البجد: جمع بجاد: وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب.
[ (3) ] في (خ) «حمر» .
[ (4) ] الطساس: جمع طست.
[ (5) ] زيادة للسياق من (ابن هشام) ج 4 ص 69.(2/16)
إسلام شيبة بن عثمان
وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، قد تعاهد هو وصفوان بن أميّة يومئذ إن رأيا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم دبرة أن يكون عليه، وهما خلفه. قال شيبة: فأدخل اللَّه الإيمان قلوبنا. ولقد هممت بقتله، فأقبل شيء حتى يغشى فؤادي، فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني وفي رواية: غشيتني ظلمة حتى لا أبصر، فعرفت أنه ممتنع مني، وأيقنت بالإسلام. وفي رواية: أنّ شيبة قال: لما رأيت النبي صلى اللَّه عليه وسلّم غزا مكة فظفر بها وخرج إلى هوازن، قلت: أخرج لعلي أدرك ثأري! وذكرت قتل أبي يوم أحد [قتله حمزة] ، وعمي [قتله عليّ] ، فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم علي درع بيضاء كالفضة، فقلت: عمّه! لن يخذله! فلما جئته عن يساره، فإذا بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمّه! ولن يخذله [ (1) ] ! فجئته من خلفه، فلم يبق [ (2) ] إلا أسوّره بالسيف [ (3) ] ، إذ رفع لي- فيما بيني وبينه- شواظ [ (4) ] من النار كأنه برق، وخفت أن يمحشني [ (5) ] ، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت إليّ وقال: يا شيب! أدن مني! فوضع يده على صدري وقال: اللَّهمّ أذهب عنه الشيطان! فرفعت رأسي إليه وهو أحبّ إليّ من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال: يا شيب! قاتل الكفّار! فتقدّمت بين يديه أحبّ واللَّه أقيه بنفسي وبكلّ شيء. فلما انهزمت هوازن، رجع إلى منزله ودخلت عليه، فقال: الحمد للَّه الّذي أراد بك خيرا مما أردت. ثم حدثني بما هممت به.
خبر المنافقين
ولما كانت هزيمة المسلمين، تكلم قوم بما في نفوسهم من الضّغن والغشّ، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؟ فقال [أبو مقيت ابن سليم] [ (6) ] : أما واللَّه لولا أني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينهي عن قتلك لقتلتك!
__________
[ (1) ] في (خ) «أن يخذله» .
[ (2) ] في (خ) «أبق» .
[ (3) ] تسوّره: علاه، أي يعلوه فيأخذه بالسيف.
[ (4) ] في (خ) «شوظ» .
[ (5) ] يمشخني: يحرق الجلد حتى يبدو العظم.
[ (6) ] كذا في (خ) ، (ط) ، وفي (الواقدي) ج 3 ص 910 «يقول رجل من أسلم يقال له أبو مقيت ... إلخ» .(2/17)
وقال كلدة بن حنبل- أخو صفوان لأمه- ألا بطل سحر محمد اليوم! فقال له صفوان: اسكت فضّ اللَّه فاك! لأن يربّني ربّ من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني ربّ من هوازن! وقال سهيل بن عمرو: [واللَّه] [ (1) ] لا يجتبرها [ (2) ] محمد وأصحابه [أبدا] [ (1) ] ! فقال له عكرمة [بن أبي جهل] [ (1) ] : إنّ هذا ليس بقول! إنما الأمر بيد اللَّه، وليس إلى محمد الأمر شيء! إن أديل [ (3) ] عليه اليوم فإن له العاقبة [ (4) ] غدا.
فقال له سهيل: واللَّه إن عهدك بخلافه لحديث! قال: يا أبا يزيد، إنا كنا واللَّه نوضع في غير شيء وعقولنا عقولنا [ (5) ] نعبد حجرا لا ينفع ولا يضرّ!!
النهي عن قتل النساء والمماليك
ومرّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بامرأة مقتولة: قتلها خالد بن الوليد، فبعث إليه: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ينهاك أن تقتل امرأة أو عسيفا [ (6) ] .
خبر بني سليم
ولما هزم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هوازن، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم، نادت بنو سليم: ارفعوا عن بني أمكم القتل! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اللَّهمّ عليك ببني بمكة! أمّا في قومي فوضعوا السّلاح وضعا، وأمّا عن قومهم فرفعوا رفعا،
[وبكمة بنت مرّ أم سليم، وهي أخت تميم بن مرّ] .
خبر بجاد السعدي
وأمر عليه السلام بطلب القوم، وقال: إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّ منكم!
وكان [بجاد] [ (7) ] من بني سعد [بن بكر بن هوازن] [ (7) ] وقد قطّع رجلا مسلما وحرّقه بالنار، فأخذته الخيل، وضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزّى- أخت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من الرضاعة- وأتوا بهما فرحّب بالشيماء وأجلسها على
__________
[ (1) ] زيادة للبيان.
[ (2) ] يجتبرها: يصلحها.
[ (3) ] أديل: من الدولة بمعنى النصر.
[ (4) ] في (خ) «العافية» .
[ (5) ] كذا في (الواقدي) ج 3 ص 911، وفي بعض كتب السيرة «وعقولا ذاهبة» .
[ (6) ] العسيف: «الأجير» .
[ (7) ] زيادة للبيان.(2/18)
ردائه، وأعطاها- بعد ما أسلمت- ثلاثة أعبد وجارية، فاستوهبته بجادا فوهبه لها.
هزيمة هوازن وقتل دريد بن الصمة
ومرّت هوازن في هزيمتها إلى الطائف، وإلى أوطاس، وإلى نخلة. فسارت الخيل تريد من أتى نخلة. أدرك الربيع بن ربيعة بن رفيع بن أهبان [ (1) ] بن ثعلبة بن ضبيعة بن يربوع بن سمّال بن عوف بن مريء القيس بن بهثة بن سليم السّلمي-[وكان يقال له «ابن الدّغنّة» ، وهي أمه فغلبت على اسمه] [ (2) ]- دريد بن الصّمة فقتله.
أبو عامر الأشعري
وتوجّه أبو عامر الأشعريّ- أخو أبي موسى [الأشعريّ] [ (2) ]- إلى أوطاس، ومعه لواء في عدّة من المسلمين، وقد عسكر المشركون، فقاتلهم وقتل منهم تسعة ثم أصيب، فاستخلف أخاه أبا موسى ففتح اللَّه عليه. ولحق مالك بن عوف بالطائف.
الغنائم والسبي
وأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالغنائم فجمعت. ونادى مناديه: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يغلّ! وأصاب المسلمون سبايا، فكانوا يكرهون أن يقعوا عليهنّ ولهنّ أزواج، فسألوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عن ذلك فأنزل اللَّه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [ (3) ] وقال صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: لا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها، ولا غير ذات حمل حتى تحيض.
وسألوه عن العزل [ (4) ] ، فقال: ليس من كل الماء
__________
[ (1) ] في (خ) «أهان» .
[ (2) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (3) ] الآية 24/ النساء، وفي (خ) « ... أيمانكم، الآية» .
[ (4) ] (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 620 (باب العزل) حديث رقم 1926، 1927، 1928، و (سنن أبي داود) ج 2 ص 622 وما بعدها (باب ما جاء في العزل) ، حديث رقم 2170، 2171، 2172، 2173.(2/19)
يكون الولد، وإذا أراد اللَّه أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء.
دية عامر بن الأضبط
وقام عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعيّ- وقد قتله محلّم بن جثّامة بن قيس الليثي في سرية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى إضم- بعد ما حيّا بتحية الإسلام- فدافع عنه الأقرع بن حابس، فأشار النبي صلى اللَّه عليه وسلّم بالدية فقبلوها.
شارب الخمر
أتي يومئذ بشارب، فأمر عليه السلام من عنده [ (1) ] فضربوه بما كان في أيديهم، وحثا عليه التراب.
الشهداء والسبي
وجميع من استشهد [ (2) ] بحنين أربعة [ (3) ] . وفي هذه الغزاة
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله سلبه.
وكان أبو طلحة قد قتل عشرين رجلا فأعطاه سلبهم.
وذكر الزبير بن بكّار:
__________
[ () ] وقال الخطابي في (معالم السنن) ج 2 ص 624 عند التعليق على الحديث رقم 2172: «وأخرجه البخاري في النكاح باب العزل رقم 97 (7/ 42) ومسلم في النكاح باب حكم العزل حديث رقم 1438 والنسائي في النكاح باب العزل (6/ 107) ، والعزل: أن يعزل الرجل الماء عن النساء حذر الحمل.
[ (1) ] في (خ) «بن عبدة» .
[ (2) ] في (خ) «ما استشهد» .
[ (3) ] وهؤلاء هم:
1- من قريش ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد.
2- من بني أسد بن عبد العزى: يزيد بن زمعة.
3- ومن الأنصار: سراقة بن الحارث بن عدي.
4- ومن الأشعريين: أبو عامر الأشعري.
(ابن هشام) ج 4 ص 76.
وفي (الواقدي) ج 3 ص 22: رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بدلا من يزيد بن زمعة.
وقال محقق (الواقدي) أنه أثبته عن ابن حزم في (جوامع السيرة) ص 244 (تعليق رقم (1) ص 922 (من الواقدي) .(2/20)
أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سبى يوم حنين ستة آلاف- بين غلام وامرأة- فجعل عليهم أبا سفيان بن حرب. ومات رجل من أشجع أيام حنين، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
صلّوا على صاحبكم فإنه قد غلّ.
فنظروا. فإذا في برديه خرز لا يساوي درهمين.
غزوة الطائف
ثم كانت غزوة الطائف.
وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما فتح حنينا، بعث الطفيل ابن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سالم بن فهم الدّوسيّ إلى ذي الكفّين- صنم عمرو بن حمه- يهدمه، وأمره أن يستمدّ قومه ويوافيه بالطائف، وقال له:
أفش السلام، وأبذل الطعام- واستحي من اللَّه كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله [ (1) ] ، إذا أسأت فأحسن، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [ (2) ] .
فخرج إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشو النّار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبّاكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت [ (3) ] النار في فؤادكا
ووافى معه بأربعمائة، بعد ما قدم عليه السلام الطائف بأربعة أيام، ومعه دبّابة، ومنجنيق. ويقال: بل اتخذ المنجنيق سلمان الفارسيّ، وقدم بالدبّابة خالد بن سعيد ابن العاص من جرش [ (4) ] . وكان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حسك من خشب [ (5) ] يطيف بعسكره.
__________
[ (1) ]
كذا في (خ) ، (ط) وفي (الواقدي) ج 3 ص 922 «كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله»
وذو الهيئة: ذو الوقار.
[ (2) ] نص الآية 114/ هود كالآتي: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.
[ (3) ] في (الواقدي) ج 3 ص 923 «حشوت النار في فؤادكا» . وحش النار: جمع إليها ما تفرق من الحط.
[ (4) ] في (خ) «بن جرش» وجرش اسم مدينة سبق شرحها اسمها راجع (معجم البلدان) ج 2 ص 127.
[ (5) ] الحسك: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم، ورقه كورق الرّجلة وأدق، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، وله ثمر شربه يفتت حصى الكليتين والمثانة. وكذا شرب عصير ورقه جيد للباءة، وعسر البول ونهش الأفاعي، ورشه في المنزل يقتل البراغيث، ويعمل في مثال شوكه أداة للحرب من حديد أو قصب. فيلقى حول العسكر ويسمى باسمه. (ترتيب القاموس ج 1 ص 641.(2/21)
بعثة خالد بن الوليد على المقدمة
وقدّم صلى اللَّه عليه وسلّم خالد على مقدّمته، وبعث بالسبي والغنائم إلى الجعرّانة مع بديل ابن ورقاء الخزاعيّ، وسار إلى الطائف وقد رمّوا حصنهم، ودخل فيه من انهزم من أوطاس، واستعدوا للحرب وأتي صلى اللَّه عليه وسلّم- في طريقه بليّة [ (1) ]- برجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل، فضرب أولياؤه عنقه، وكان أوّل دم أقيد [ (2) ] به في الإسلام، وحرّق بليّة [ (3) ] قصر مالك بن عوف.
منزل المسلمين بالطائف
ثم نزل قريبا من حصن الطائف وعسكر به، فرموا بنبل كثير أصيب به جماعة من المسلمين بجراحة، فحوّل عليه السلام أصحابه، وعسكر حيث لا يصيبهم رمي أهل الطائف، وثار المسلمون إلى الحصن، فقتل يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب ابن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشيّ الأسدي، فظفر أخوه يعقوب بن زمعة بهذيل بن أبي الصّلت، [أخي أميّة بن الصلت] . وقال: هذا قاتل أخي! فضرب عنقه، وأقام صلى اللَّه عليه وسلّم على حصار الطائف ثمانية عشر يوما، وقيل تسعة عشر يوما، وصحح ابن حزم إقامته عليه السلام بضع عشرة ليلة وفي الصحاح عن أنس بن مالك قال: فحاصرناهم أربعين يوما. يعني ثقيفا.
مصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فكان في إقامته يصلّي ركعتين بين قبّتين قد ضربتا لزوجتيه أمّ سلمة وزينب رضي اللَّه عنهما. فلما أسلمت ثقيف، بني أمية بن عمرو بن وهب بن معتّب ابن مالك [ (4) ] على مصلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، وكان فيه سارية-[فيما
__________
[ (1) ] ليّة: من نواحي الطائف مرّ به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين انصرافه من حنين يريد الطائف (معجم البلدان) ج 5 ص 30.
[ (2) ] من القود: وهو القصاص.
[ (3) ] في (خ) «وحرق عليه» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، (ط) ، واسمه محل خلاف عند أهل السير، ففي (الواقدي) ج 3 ص 927 «أمية ابن عمرو بن وهب» وفي (ابن هشام) ج 4 ص 94: «عمرو بن أمية بن وهب» وفي (الطبري) ج 3 ص 84 «أبو أمية بن عمرو بن وهب» .(2/22)
يزعمون] [ (1) ]- لا تطلع الشمس عليها [يوما] [ (1) ] من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرار، وكانوا يرون أن ذلك تسبيح [ (2) ] .
محاصرة حصن الطائف
ونصب صلى اللَّه عليه وسلّم المنجنيق على حصن الطائف، وقد أشار به سلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه، وقد عمله بيده، وقيل: قدم به يزيد بن زمعة ومعه دبابتان [ (3) ] ، وقيل:
قدم به الطّفيل بن عمرو: وقيل: قدم به وبدبابتين خالد بن سعيد من جرش [ (4) ] ونثر صلى اللَّه عليه وسلّم الحسك حول الحصن، ودخل المسلمون تحت الدبابتين، ثم زحفوا [ (5) ] بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك [ (6) ] الحديد محماة بالنار فحرقت الدبابتين- وكانت من جلود البقر- فأصيب من المسلمين جماعة، وخرج من بقي من تحتها فقتلوا بالنبل. فأمر عليه السلام بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعا ذريعا.
فنادى سفيان بن عبد اللَّه الثّقفي: يا محمد! لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها [للَّه] [ (7) ] وللرحم كما زعمت! فقال عليه السلام: للَّه وللرّحم! وكفّ عنها.
النازلون من حصن الطائف
ونادى منادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر [ (8) ] ! فخرج بضعة عشر رجلا: أبو بكرة، والمنبعث، والأزرق [أبو عقبة الأزرق] ، ووردان، ويحنّس النّبّال، وإبراهيم بن جابر، ويسار، ونافع، وأبو السائب [ (9) ] ، ومرزوق، فأعتقهم صلى اللَّه عليه وسلّم، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من
__________
[ (1) ] زيادة من الطبري ج 3 ص 84 وابن هشام ج 4 ص 94.
[ (2) ] في (خ) «تسبيحا» .
[ (3) ] في (خ) «دبابتين» .
[ (4) ] في (خ) «بن جرش» .
[ (5) ] في (خ) «رجفوا» .
[ (6) ] السكة: الحديدة التي يحرث بها الأرض.
[ (7) ] زيادة للسياق.
[ (8) ] يقول ابن كثير في (البداية والنهاية) ج 4 ص 347: [هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج ابن أرطاة وهو ضعيف، ولكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا، فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار السلام عتق حكما شرعيا مطلقا عاما، وقال آخرون: إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما، ولو صح هذا الحديث لكان التشريع العام أظهر كما
في قوله عليه السلام: «من قتل قتيلا فله سلبه» ] .
[ (9) ] كذا في (ط) وفي (خ) «ونافع أبو السائب» وهي رواية (الواقدي) ج 3 ص 931.(2/23)
المسلمين يمونه ويحمله، وأمرهم أن يقرؤهم القرآن ويعلموهم السنن، فشق ذلك على أهل الطائف.
خير هيت وماتع
وكان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، يقال له «ماتع» وآخر يقال «هيت» . وكان «ماتع» [ (1) ] ، يدخل بيوته ويرى أنه لا يفطن لشيء من أمر النساء ولا إربة له، فسمعه وهو يقول لخالد ابن الوليد، [ويقال لعبد اللَّه بن أبي أمية [ (2) ] بن المغيرة] : إن افتتح رسول اللَّه الطائف غدا فلا تفلتنّ منك بادية بنت غيلان! فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وإذا جلست تثنت، وإذا تكلّمت تغنّت وإذا اضطجعت تمنّت، وبين رجليها مثل الإناء المكفأ، مع ثغر كأنه الأقحوان [ (3) ] ،
فقال عليه السلام: ألا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع!! لا يدخلنّ على أحد من نسائكم! وغرّبهما إلى الحمى، فتشكيا الحاجة [ (4) ] ، فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان ثم يرجعان إلى مكانهما.
فلما توفّي عليه السلام ودخلا مع الناس، أخرجهما أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلما توفّي [دخلا مع الناس، أخرجهما عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. فلما توفّي] [ (5) ] دخلا مع الناس.
__________
[ (1) ] يقول (ابن حجر) في (فتح الباري ج 9 ص 334،: «وحكى أبو موسى المديني في كون ماتع لقب هيت أو العكس أو أنهما اثنان خلافا، وجزم الواقدي بالتعدد فإنه قال: كان هيت مولى عبد اللَّه ابن أبي أمية، وكان ماتع مولى فاختة» :
[ (2) ] في (خ) «عبد اللَّه بن أمية» .
[ (3) ] «قال الخطابي: يريد أن لها في بطنها أربع عكن فإذا أقبلت رئيت مواضع بارزة متكسر بعضها على بعض، وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية، وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة» .
(المرجع السابق) ص 335.
والعكنة: ما انطوى وثني من لحم البطن (ترتيب القاموس ج 3 ص 288) .
والثّغر: الفم والأسنان.
والأقحوان: نبت زهره أصفر أو أبيض، ورقه مؤلل كأسنان المنشار، وكثر في الأدب العربيّ تشبيه الأسنان بالأبيض المؤلل منه. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 22.
[ (4) ] في (خ) «فشكبا» .
[ (5) ] ما بين القوسين زيادة للسياق من (الواقدي) ج 3 ص 934 بمعناه.(2/24)
خبر خولة بنت حكيم
وقالت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السّلميّة امرأة عثمان بن مظعون:
يا رسول اللَّه، أعطني- إن فتح اللَّه عليك [الطائف] [ (1) ]- حلّى الفارعة بنت الخزاعي [ (2) ] أو بادية بنت غيلان. فقال لها: وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خوله! فذكرت ذلك لعمر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه! ما حديث حدثتني خولة بنت أنك قلته [ (3) ] ! قال: ولم يؤذن لك فيهم؟ قال: لا! قال أفلا أؤذّن في الناس [ (4) ] بالرحيل؟ قال: بلى.
أذان عمر بالرحيل عن الطائف
فأذّن عمر بالرحيل، فشقّ على المسلمين رحيلهم بغير فتح. ورحلوا، فأمرهم عليه السلام أن يقولوا: لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده فلما استقلوا المسير قال: قولوا آئبون إن شاء اللَّه تائبون عابدون لربنا حامدون [ (5) ] . وقيل له لما ظعن: يا رسول اللَّه: أدع اللَّه على ثقيف! فقال:
اللَّهمّ أهد ثقيفا وأت بهم! وكان من استشهد بالطائف أحد عشر رجلا [ (6) ] .
خبر أبي رهم
وسار صلى اللَّه عليه وسلّم إلى الجعرانة. فبينا هو يسير- وأبو رهم الغفاريّ إلى جنبه على ناقة له، وفي رجليه نعلان غليظتان- إذ زحمت ناقته ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فوقع حرف نعله على ساق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأوجعه فقال: أوجعتني! [أخّر رجلك! وقرع رجله بالسّوط، وقال أبو رهم: فأخذني ما تقدم من أمري وما تأخر،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، و (ط) ، و (الواقدي) ج 3 ص 935 وفي ابن هشام ج 4 ص 95 «الفارعة بنت عقيل» .
[ (3) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «حديث خولة ما حدثني ... » وفي «الواقدي) ج 3 ص 935 «حدثت خولة ما حدثني أنك قلته» . وفي (ابن هشام) ج 4 ص 95. «ما حديث حدثتنيه خويلة زعمت أنك قلته؟ قال: قد قلته» .
[ (4) ] في (خ) «للناس» .
[ (5) ] (الأذكار للنووي ص 203، باب ما يقول إذا رجع من سفره.
[ (6) ] وفي (ابن سعد) ج 2 ص 158 «اثنى عشر رجلا» .(2/25)
وخشيت أن ينزل فيّ قرآن لعظيم ما صنعت، فلما أصبحنا بالجعرّانة، خرجت أرعي الظّهر- وما هو يومي- فرقا أن يأتي للنّبيّ عليه السلام رسول يطلبني! فلما روّحت الركاب سألت. فقالوا طلبك النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فقلت: إحداهنّ واللَّه [ (1) ] !
فجئته وأنا أترقّب. فقال: إنك [أوجعتني] [ (2) ] برجلك فقرعتك بالسّوط، فخذ هذه الغنم عوضا من [ (3) ] ضربتي
[قال أبو رهم: فرضاه عنّي كان أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها] [ (4) ] .
وحادثة عبد اللَّه بن أبي حدرد [ (5) ] الأسلميّ في مسيره، فلصقت ناقته بناقة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فأصاب رجله، فقال:
أخِّ [ (6) ] !! أوجعتني! ودفع رجل عبد اللَّه بمحجن في يده، فلما نزل دعاه وقال له: أوجعتك بمحجني البارحة! خذ هذه القطعة من الغنم. فأخذها فوجدها ثمانين شاة ضائنة [ (7) ] . ولما أراد أن يركب من قرن [ (8) ] راحلته، وطئ له على يدها أبو روعة الجهنيّ، ثم ناوله الزمام بعد ما ركب، فخلّف عليه السلام الناقة بالسوط، فأصاب أبا روعة فالتفت إليه وقال: أصابك السوط؟ قال: نعم، بأبي وأمي:
فلمّا نزل الجعرانة صاح: أين أبو روعة! قال: ها أنا ذا! قال خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السّوط أمس.
فوجدها عشرين ومائة.
خبر سراقة بن مالك بن جعشم
ولقيه سراقة بن مالك بن جعشم وهو منحدر إلى الجعرانة، فجعل الكتاب الّذي كتبه أبو بكر رضي اللَّه عنه بين إصبعيه ونادى: أنا سراقة، وهذا كتابي! فقال عليه السلام: هذا يوم وفاء وبرّ، فأدنوه منه، فأسلم وساق إليه الصّدقة.
__________
[ (1) ] إحدى الدواهي التي كان يتوقعها.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) (عن) وما أثبتناه من (المغازي) ج 3 ص 939.
[ (4) ] زيادة يتم بها الخبر من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) (جدرد) ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (6) ] كذا في (خ) ، (ط) ، وفي (المغازي) أخِّ.
[ (7) ] الضأن من الغنم: ذو الصوف والأنثى ضائنة.
[ (8) ] قرن: قال القاضي عياض: «قرن المنازل، وهو قرن الثعالب بسكون الراء: ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة» . (معجم البلدان) ج 4 ص 332.(2/26)
وسأله عن الضالة من الإبل تغشى حياضه، وقد ملأها لإبله، فهل له من أجر إن سقاها؟ فقال عليه السلام: نعم! في كل ذات كبد حرّى [ (1) ] أجرا.
هدية رجل من أسلم
واعترض له رجل من أسلم معه غنم فقال يا رسول اللَّه! هذه هدية قد أهديتها لك! - وكان قد أسلم وساق صدقته إلى بريدة بن الحصيب لما خرج مصدّقا- فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: نحن على ظهر كما ترى، فالحقنا بالجعرانة، فخرج يعدو عراض ناقة [ (2) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يقول. يا رسول اللَّه! تدركني الصلاة وأنا في عطن الإبل [ (3) ] ، أفأصلّى فيه؟ قال: لا! قال: فتدركني وأن في مراح الغنم [ (4) ] ، أفأصلي فيه؟ قال: نعم! قال: يا رسول اللَّه! ربما تباعد بنا الماء ومع الرجل زوجته، فيدنو منها؟ قال: نعم! ويتيمم. قال: يا رسول اللَّه! وتكون فينا الحائض؟ قال: تتيمم! فلحقه عليه السلام بالجعرانة فأعطاه مائة شاة.
سؤال الأعراب
وجعل الأعراب في طريقه يسألونه [أن يقسم عليهم فيئهم من الإبل والغنم] [ (4) ] ، وكثّروا عليه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فنزعته [ (5) ] ، فوقف وهو يقول: أعطوني ردائي! لو كان عدد هذا العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذّابا.
منزله بالجعرانة
وانتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة، والسّبي والغنائم بها محبوسة، وقد اتخذ السّبي حظائر يستظلون بها من الشمس، وكانوا ستة آلاف،
__________
[ (1) ] أي في كل روح من الحيوان أجر.
[ (2) ] في (خ) (يعدو إعراض ناقته رسول اللَّه) ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 942، ومعناه كما في النهاية: أي يسير حذاءه معارضا له.
[ (3) ] العطن: مبرك الإبل. المراح: الموضع الّذي تروح الماشية إليه ليلا لتبيت فيه.
[ (4) ] زيادة للبيان.
[ (5) ] في (الواقدي) «فنزعته عن مثل شقة القمر» ج 3 ص 942.(2/27)
والإبل أربعة وعشرين ألف بعير- فيها اثنا عشر ألف ناقة- والغنم أربعين ألفا، وقيل أكثر. فأمر بسر [ (1) ] بن سفيان الخزاعي يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابا يكسوهن، وكساهم كلهم. واستأذنّا صلى اللَّه عليه وسلّم بالسّبي، وأقام يتربّص أن يقدم وفدهم وكان قد فرّق منه وهو بحنين، فأعطى عبد الرحمن بن عوف امرأة. وأعطى صفوان ابن أميّة، وعليا، وعثمان، وعمر، وجبير بن مطعم، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد ابن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجرّاح، والزبير بن العوام رضي اللَّه عنهم.
عطاء المؤلفة قلوبهم
فلما رجع إلى الجعرّانة بدأ بالأموال فقسمها، فأعطى المؤلفة قلوبهم أوّل الناس، وكان مما غنم أربعة آلاف أوقية فضة.
عطاء أبي سفيان
فجاء أبو سفيان بن حرب والفضّة بين يديه، فقال: يا رسول اللَّه! أصبحت أكثر قريش مالا! فتبسّم عليه السلام، فقال أبو سفيان: أعطني من هذا يا رسول اللَّه، قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال:
ابني يزيد! قال: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل. قال: ابني معاوية يا رسول اللَّه! قال: زن له يا بلال أربعين أوقية وأعطه مائة من الإبل.
قال أبو سفيان: إنك لكريم فداك أبي وأمّي! واللَّه لقد حاربتك فنعم المحارب كنت! ثم سالمتك فنعم المسالم أنت.
عطاء حكيم بن حزام
وسأل حكيم بن حزام يومئذ من الإبل فأعطاه، ثم سأل مائة فأعطاه، ثم قال [صلى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] : يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرة حلوة. فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس [ (3) ] لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا [ (4) ] خير من اليد السّفلى [ (5) ] ، وابدأ بمن تعول [ (6) ] .
فأخذ
__________
[ (1) ] في (خ) «بشر» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] إشراف النفس: تطلعها إلى المال بحرص وطمع.
[ (4) ] اليد العليا: يد المعطي.
[ (5) ] اليد السفلى: يد السائل.
[ (6) ] أي بمن تجب عليك نفقتهم.(2/28)
حكيم المائة الأولى ثم ترك ما عداها.
عطاء النضير بن الحارث
وأعطى النضير بن الحارث بن [علقمة] [ (1) ] بن كلدة- أخا النضر ابن الحارث- مائة، وأعطى أسيد بن جارية [ (2) ]- حليف بني زهرة- مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيرا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وسعيد بن يربوع خمسين بعيرا، وصفوان بن أميّة مائة بعير.
عطاء صفوان بن أمية
وفي صحيح مسلم عن الزّهريّ أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أعطى يومئذ صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل. ويقال إنه طاف مع النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يتصفّح الغنائم إذ مرّ بشعب مما أفاء اللَّه عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال: أعجبك يا أبا وهب هذا الشّعب؟ قال: نعم! قال: هو لك وما هو فيه! فقال: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلا نبي، وأشهد أنك رسول اللَّه.
عطاء جماعة من المؤلفة قلوبهم
وأعطى قيس بن عديّ مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين بعيرا، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو خمسين بعيرا، وأعطى الأقرع بن حابس التميميّ مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل،
وأعطى أبا عامر العبّاس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة [ (3) ] بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث [ابن يحيى بن الحارث] [ (4) ] بن بهثة بن سليم [بن منصور السّلميّ] [ (4) ] دون المائة، فعاتب النبي صلى اللَّه عليه وسلّم في شعر قاله، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم اقطعوا عني لسانه! فأعطوه مائة،
ويقال خمسين بعيرا، وأثبت القولين أن هذا العطاء كان من الخمس.
__________
[ (1) ] زيادة من نسبه من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «بن حارثة» .
[ (3) ] في (خ) «جارية» .
[ (4) ] زيادة من نسبه من (ط) .(2/29)
منع جعيل بن سراقة من العطاء
وقال يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمريّ؟! فقال: أما والّذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع [ (1) ] الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
خبر ذي الخويصرة التميمي
وجلس صلى اللَّه عليه وسلّم يومئذ، وفي ثوب بلال رضي اللَّه عنه فضة يقبّضها للناس على ما أراه اللَّه، فأتي ذو الخويصرة التميمي- (واسمه حرصوص) : فقال: اعدل يا رسول اللَّه! فقال: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل، قال عمر رضي اللَّه عنه:
ائذن لي أن أضرب عنقه! قال: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم [ (2) ] ، وصيامه مع صيامهم [ (2) ] ويقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية [ (3) ] : [ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافة [ (4) ] فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه [ (5) ]- وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم] ينظر إلى قذذه [ (6) ] فلا يوجد فيه شيء [ (7) ] قد سبق الفرث [ (8) ] والدّم.
آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر [ (9) ] ويخرجون على حين فرقة من الناس [ (10) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «طلائع» ، وطلاع الأرض: ملؤها.
[ (2) ] في (خ) «صلاته مع صلاته» ، «وصيامه مع صيامه» .
[ (3) ] مرق السهم من الرمية: نفذ فيها وخرج طرفه من الجانب الآخر، والرمية هي الطريدة التي يرميها الصائد.
[ (4) ] الرصاف: قطعة تلوي فوق مدخل سنخ النصل في عود السهم.
[ (5) ] النضي: هو من عود السهم.
[ (6) ] قذذ السهم: جمع قذه، وهي الريش يكون على السهم. وفي (خ) «في قذذ» .
[ (7) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «فلا يرى فيه شيئا» ورواية (الواقدي) ج 3 ص 948 «فلا يرى شيئا» .
[ (8) ] الفرث: ما يكون في كرش الحيوان من طعامه.
[ (9) ] تدردر: قال في (النهاية) : أي ترجرج، تجيء وتذهب.
[ (10) ] راجع (المغازي للواقدي) ج 3 ص 948.(2/30)
مقالة رجل من المنافقين
وقال معتب بن قشير العمريّ يومئذ، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعطي تلك العطايا:
إنها لعطايا ما يراد بها وجه اللَّه!! فأخبر عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك فتغير لونه، ثم قال: يرحم اللَّه أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر [ (1) ] .
إحصاء الناس والغنائم وقسمتها
ثم أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه بإحصاء الناس والغنائم ثم فضّها [ (2) ] على الناس. وكانت سهمانهم: لكل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة. وإن كان فارسا أخذ اثنتي عشرة من الإبل أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له.
وفد هوازن وإسلامهم
وقدم وفد هوازن: وهم أربعة عشر رجلا- رأسهم [ (3) ] أبو صرد زهير ابن صرد الجشمي السعديّ- قد أسلموا وأخبروا بإسلام من وراءهم من قومه فقال أبو صرد: يا رسول اللَّه، إنّا أصل وعشيرة [ (4) ] وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنّا ملحنا [ (5) ] للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر. ثم نزل منا أحدهما بمثل الّذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته [ (6) ] ، وأنت خير المكفولين.
[وفي رواية [ (7) ] أنه قال: إنما في هذه الحظائر أخواتك وعماتك وبنات عماتك وبنات خالاتك، وأبعدهن قريب منك يا رسول اللَّه! بأبي أنت وأمّي! حضنّك في حجورهنّ، وأرضعتك بثديهنّ وتوركنك على أوراكهن! وأنت خير المكفولين] .
__________
[ (1) ] راجع (صحيح البخاري) ج 3 ص 70.
[ (2) ] فضها: فرّقها.
[ (3) ] في (خ) «وأسهم» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «أصلك وعشيرتك، وهي رواية (الواقدي) ج 3 ص 950.
[ (5) ] ولو أنا ملحنا: قال في (النهاية) : «أي لو كنا أرضعنا لهما» .
[ (6) ] العائدة: الفضل.
[ (7) ] هي رواية (الواقدي) ج 3 ص 90.(2/31)
امنن علينا رسول اللَّه في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندّخر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملأه من محضها الدّرر
امنن على نسوة إعتاقها [ (1) ] قدر ... ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لما الدّهر هتّافا على حزن ... على قلوبهم الغمّاء والغمر
اللات [ (2) ] إذ كنت طفلا كنت ترضعها ... وإذ يزينك [ (3) ] ما تأتي وما تذر
إلا تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشّرر
إنا نؤمّل عفوا منك تلبسه ... هذي البريّة إذ تعفو وتنتصر [ (4) ]
فاعف عفا اللَّه عمّا أنت واهبه ... يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء وإن قدمت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
جواب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي ما ترون من المسلمين، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول اللَّه! خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا [ (5) ] !! وما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فردّ علينا أبناءنا ونسائنا. فقال: أمّا ما [كان] [ (6) ] لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس. فإذا [أنا] [ (7) ] صليت الظّهر بالناس [فقوموا] [ (7) ] فقولوا [ (8) ] : إنا نستشفع برسول اللَّه إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول اللَّه! فإنّي سأقول لكم. ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس.
__________
[ (1) ] في (الواقدي) «قد عافها قدر» وذكرها (السهيليّ) كذا في (الروض الأنف) .
[ (2) ] في (خ) «اللاتي» وفي الواقدي «اللائي» وكلها بمعنى.
[ (3) ] في (خ) « «يريبك» وما أثبتناه من (السهيليّ) .
[ (4) ] في (خ) «تنتصروا» .
[ (5) ] كذا في (ط) وفي (خ) و (الواقدي) «وبين أموالنا» .
[ (6) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (7) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (8) ] في (خ) « «فقالوا: وما أثبتناه من (ط) و (الواقدي) .(2/32)
رضي المهاجرين والأنصار ورد غيرهم
فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الظهر بالناس، قاموا فتكلموا بما أمرهم به، فأجابهم بما تقدّم فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول اللَّه! وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول اللَّه؟ وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا! وقال عيينة ابن حصن: أما أنا وفزارة فلا! وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا:
فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول اللَّه! فقال عباس: وهّنتموني [ (1) ] .
خطبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في أمر هوازن
ثم قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الناس خطيبا فقال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بهم فخيرتهم بين النّساء [ (2) ] والأبناء والأموال، فلم يعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كان عنده منهن شيء فطابت [ (3) ] نفسه أن يردّه فسبيل [ (4) ] ذلك، ومن أبي منكم ويمسّك بحقه فليرد عليهم، وليكن فرضا علينا ستّ فرائض من أول ما يفيء اللَّه علينا به! فقالوا: يا رسول اللَّه! رضينا وسلمنا! قال. فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف منهم رجل واحد وبعث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى المهاجرين يسألهم. فلم يتخلف منهم أحد، وكان أبو رهم الغفاريّ يطوف على قبائل العرب. ثم جمعوا العرفاء واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فاتفقوا على قول واحد: أنهم سلموا ورضوا. ودفع عند ذلك السّبي إليهم. وتمسكت بنو تميم مع الأقرع بن حابس بالسبي، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الفداء ست فرائض: ثلاث حقاق وثلاث جذاع [ (5) ] وقال يومئذ: لو كان ثابتا [ (6) ] على أحد من العرب ولاء أورق لثبت
__________
[ (1) ] وهنتموني: أضعفتموني.
[ (2) ] في (خ) «الشاء» ، وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 952.
[ (3) ] في (خ) «فطبت» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 952.
[ (4) ] كذا في (ط) ، وفي (خ) «فسبل» . وفي (الواقدي) «فليرسل» .
[ (5) ] الحقاق: جمع حقه وهي الناقة التي استكملت السنة الثالثة في شبابها. والجذاع جمع جذعة، وهي التي استكملت الرابعة ودخلت في الخامسة.
[ (6) ] في (خ) « «ثابت» .(2/33)
اليوم، ولكن إنما هو إسار أو فدية: وجعل أبا حذيفة العدوي على مقاسم المغنم.
سؤاله عن مالك بن عوف
وقال للوفد [ (1) ] : ما فعل مالك بن عوف؟ قالوا: هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف فقال: إنه إن يأت [ (2) ] مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل.
وكان قد حبس أهل مالك بمكة عند [عمتهم أم عبد اللَّه بهمة [ (3) ] ابنة أبي أمية] [ (4) ] ، ووقف ماله فلم تجر فيه السهام. فلما بلغ ذلك مالكا [ (5) ] مر من ثقيف ليلا، وقدم الجعرانة وأسلم، وأخذ أهله وماله ومائة من الإبل. ويقال: بل قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو بمكة واستعمله على قومه، وعقد له لواء فقاتل أهل الشرك، وأغار على ثقيف وقاتلهم وقتل وغنم كثيرا. وبعث إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالخمس مما يغير عليه: فبعث مرة مائة بعير ومرة ألف شاة.
مقالة الأنصار إذ منعوا العطاء
ولما أعطى رسول اللَّه عطاياه وجد [ (6) ] الأنصار في أنفسهم- إذ لم يكن فيهم منها شيء- وكثرت القالة، فقال واحد: لقي رسول اللَّه قومه! أما حين القتال فنحن أصحابه! وأما حين القسم فقومه وعشيرته! ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا؟
إن كان هذا من اللَّه صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول اللَّه استعتبناه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فغضب غضبا شديدا. ودخل عليه سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه فقال له: ما يقول قومك؟ قال: وما يقولون يا رسول اللَّه؟! فذكر له ما بلغه وقال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال يا رسول اللَّه؟! فذكر له ما بلغه وقال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال يا رسول اللَّه، ما أن إلا كأحدهم وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال: فاجمع لي من كان ها هنا من الأنصار.
فلما اجتمعوا، حمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:
__________
[ (1) ] في (خ) «للوقد» .
[ (2) ] في (خ) «بات»
[ (3) ] في (خ) «بهمت» .
[ (4) ] يقول محقق (ط) : «ولم أجد أم عبد اللَّه هذه ولا خبرها» ، ونقول: «أم عبد اللَّه هذه وخبرها بتمامه في (المغازي للواقدي) ج 3 ص 955» .
[ (5) ] في (خ) «مالك» .
[ (6) ] وجد الأنصار في أنفسهم: غضب الأنصار في أنفسهم.(2/34)
خطبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم؟ وجدة [ (1) ] وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلّالا فهداكم اللَّه؟ وعالة فأغناكم اللَّه، وأعداء فألف اللَّه بين قلوبكم؟ قالوا:
بلى! اللَّه ورسوله أمنّ وأفضل! قال: ألا تجيبوني؟ قالوا: وماذا نجيبك يا رسول اللَّه؟ قال: أما واللَّه لو شئتم قلتم فصدقتم: آتيتنا مكذّبا فصدّقناك! ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك! [وخائفا فأمّناك] [ (2) ] وجدتم في أنفسكم يا مشعر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما أسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس [إلى رحالهم] [ (2) ] بالشاء والبعير، وترجعون برسول اللَّه إلى رحالكم؟ والّذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك [ (3) ] الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار. أكتب لكم بالبحرين كتابا من بعدي تكون لكم خاصة دون الناس؟ قالوا: وما حاجتنا بعدك يا رسول اللَّه؟ قال: إمّا لا فسترون بعدي أثره، فاصبروا حتى تلقوا اللَّه ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم. اللَّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار [ (4) ] !! فبكوا حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول اللَّه حظا وقسما. وانصرفوا [ (5) ] .
مقامة بالجعرانة
وأقام عليه السلام بالجعرّانة ثلاث عشرة ليلة. وخرج ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، وأحرم ولبّى حتى استلم الركن. وقيل: لما نظر إلى البيت قطع التلبية، وأناخ راحلته على باب بني شيبة، وطاف فرمل [ (6) ] في الأشواط الثلاثة. ولما أكمل طوافه سعى بين الصفا والمروة على راحلته، ثم حلق رأسه عند المروة حلقه أبو هند عند بني بياضة، وقيل حلقه خراش بن أمية. ولم يسق هديا.
ثم عاد إلى الجعرّانة من ليلته، فكان كبائت بها.
__________
[ (1) ] وجدة: من الموجدة وهي الغضب.
[ (2) ] زيادة من كتب السيرة.
[ (3) ] في (خ) «ولولا سلك» .
[ (4) ] كذا في (ط) ، في (خ) ، و (الواقدي) ج 3 ص 958: (وأبناء أبناء الأنصار) .
[ (5) ] راجع (صحيح البخاري) ج 3 ص 69، 70، 71.
[ (6) ] رمل: هرول.(2/35)
مسيره إلى المدينة
وخرج يوم الخميس على سرف إلى مر الظهران، واستعمل على مكة عتّاب ابن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وخلّف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والتفقه في الدين.
وقال لعتاب: أتدري على من استعملتك؟ قال: اللَّه ورسوله أعلم! قال: استعملتك على أهل اللَّه، بلّغ عني أربعا: لا يصلح شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لم يضمن، ولا تأكل ربح ما ليس عندك [ (1) ] .
خبر الفتح بالمدينة
وكان أول من قدم المدينة بفتح حنين رجلان من بني عبد الأشهل، هما:
الحارث بن أوس، ومعاذ بن أوس بن عبيد بن عامر [ (2) ] . وقدم صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة.
بعثة عمرو بن العاص إلى ابني الجلندي
وفي هذه السنة- وهي سنة ثمان- بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي بعمان مصدّقا، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس، وهم كانوا أهل البلد. وقيل: كان ذلك في سنة سبع. وفيها تزوّج صلى اللَّه عليه وسلّم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية ثم فارقها.
مولد إبراهيم عليه السلام
فيها ولدت مارية إبراهيم ابن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في ذي الحجة، وفيها أقام عتاب ابن أسيد بالناس الحجّ، وحج الناس على ما كانت عادة العرب تحجّ، وحج ناس
__________
[ (1) ] (سنن ابن ماجة) ج 2 كتاب التجارات، باب رقم 20 في النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، حديث رقم 2187، 2188، 2189، ص 737، 738، (المغازي) ج 3 ص 959، و (سنن النسائي) ج 7 ص 288 باب (بيع ما ليس عند البائع) .
[ (2) ] لم أجد (معاذ بن أوس) هذا في (الإصابة) ولا في (الاستيعاب) ، وهكذا هو في (خ) .(2/36)
من المشركين على مدّتهم.
فريضة الصدقات وبعثه المصدقين
ثم كانت فريضة الصدقات وبعثه المصدّقين لهلال المحرم سنة تسع، فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بريدة بن الحصيب بن عبد اللَّه بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح ابن عديّ بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأسلمي- إلى أسلم وغفار يصدّقهم. [ويقال: بل بعث كعب بن مالك الأنصاري ... وبعث عبّاد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة. وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة. وبعث الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب الكلابي إلى بني كلاب، وبعث بسر [ (1) ] بن سفيان الكعبي إلى بني كعب. وبعث ابن اللّتبيّة الأزديّ إلى بني ذبيان. وبعث رجلا من بني سعد إلى هذيم على صدقاتهم.
خبر بسر على صدقات بني كعب
فحرج بسر [ (1) ] بن سفيان على صدقات بني كعب، [ويقال: إنما خرج ساعيا عليهم نعيم بن عبد اللَّه النّحّام العدويّ] ، فجاء وقد حلّ بنواحيهم من بني تميم:
بنو عمرو بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وهم يشربون علي غدير لهم بذات الأشظاظ، [ويقال: على عسفان] ، ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فحشرت عليه خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستكثرت ذلك بنو تميم، ومنعوا المصدّق وشهروا سيوفهم، ففرّ إلى المدينة، وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بذلك.
خبر خزاعة
وأما خزاعة فإنّها أخرجت التميميين من محالها إلى بلادهم وندب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم الناس لحربهم، فانتدب [ (2) ] عيينة بن حصن الفزاري، فبعثه في خمسين فارسا ليس فهم مهاجر ولا أنصاريّ. فسار إلى العرج وخرج في آثارهم، حتى وجدهم قد عدلوا من السّقيا يؤمون أرض بني سليم، فلما رأوا الجمع ولوا، وأخذ منهم أحد عشر
__________
[ (1) ] في (خ) «بشر» .
[ (2) ] انتدب: أسرع وبادر.(2/37)
رجلا وإحدى عشر امرأة وثلاثين صبيا، فجلبهم إلى المدينة فأمر صلى اللَّه عليه وسلّم بهم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث.
وفد بني تميم
وقدم وفد بني تميم، وهو عشرة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب بن زرارة في سبعين، والزّبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف [ (1) ] بن بهدلة بن عوف ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم البهدلي التيمي السعدي أبو عياش [ (2) ] .
[وقيل أبو شذرة] ، وقيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منفر المنقريّ، وقيس ابن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم بن سنان بن خالد بن منفر، والأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، [والحتات ابن يزيد المجاشعيّ] [ (3) ] ، ورباح بن الحارث بن مجاشع، -[وكان رئيس الوفد:
الأعور بن شامة العنبريّ] [ (4) ]- ودخلوا المسجد قبل الظّهر، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في بيت عائشة رضي اللَّه عنها، وقد أذّن بلال والناس ينتظرون الصلاة فنادوا:
يا محمد! اخرج إلينا! وشهروا أصواتهم فخرج عليه السلام وقيل: إنما ناداه رجل واحد: يا محمد إنّ قدحي رين، وإن شتمي شين! وأقام بلال الصلاة، فتعلقوا به يكلّمونه، فوقف معهم مليا؟، ثم مضى فصلى بالناس الظهر: فلما انصرف إلى بيته ركع [ (5) ] ركعتين، ثم خرج فجلس.
خطبة عطارد بن حاجب
وقدّموا عطارد بن حاجب خطيبهم فقال: الحمد للَّه الّذي له الفضل علينا، والّذي جعلنا ملوكا، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثرهم مالا وأكثرهم عددا. فمن مثلنا من الناس؟ ألسنا برءوس الناس وذوي [ (6) ] فضلهم؟ فمن يفاخر. فليعدد مثل ما عددنا. ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا اللَّه. أقول قولي هذا لأن نؤتي بقول
__________
[ (1) ] في (خ) «خالد» .
[ (2) ] في (خ) «أبو هياش» .
[ (3) ] في (خ) ما بين القوسين ما نصه «وحباب» وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (4) ] زيادة من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «فركع» .
[ (6) ] في (خ) «وذي» .(2/38)
هو أفضل من قولنا.
جواب ثابت بن قيس
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لثابت بن قيس: قم فأجب خطيبهم.
فقام- وكان من أجهر الناس صوتا- وما درى من ذلك بشيء، ولا هيّأ قبل ذلك ما يقول، فقال: الحمد للَّه الّذي السموات والأرض خلقه، قضي فيهنّ [ (1) ] أمره ووسع كلّ شيء علمه، فلم يكن شيء إلا من فضله، ثم كان ما قدّر أن جعلنا ملوكا، اصطفى لنا من خلقه رسولا، أكرمهم نسبا وأحسنهم زيا، وأصدقهم حديثا. أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه [ (2) ] : أصبح الناس وجها، وأفضل الناس فعالا. ثم كنا أول الناس إجابة حين [ (3) ] دعا رسول اللَّه، فنحن أنصار اللَّه ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه. فمن آمن باللَّه ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر باللَّه ورسوله جاهدناه في ذلك، وكان قبله علينا يسيرا، أقول قولي هذا واستغفر اللَّه [لي ولكم و] [ (4) ] للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس.
شعر الزبرقان بن بدر
وقالوا: يا رسول اللَّه ائذن لشاعرنا، فأذن له، فأقاموا الزّبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا [ (5) ] ... فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا [ (6) ] من الأحياء كلّهم ... عند النّهاب وفضل الخير يتبع
ونحن نطعمهم في القحط ما أكلوا ... من السّديف إذا لم يؤنس الفزع
[ثم ترى النّاس تأتينا سراتهم ... من كلّ أرض هوبا ثم تصطنع] [ (7) ]
وننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
[فلا ترانا إلى حيّ نفاخرهم ... إلا استقادوا، فكاد الرأس يقتطع
__________
[ (1) ] في (خ) «فيهما» .
[ (2) ] في (خ) «وذي رحمة» .
[ (3) ] في (خ) «حنين» .
[ (4) ] زيادة من (ابن كثير) وفي (خ) و (الواقدي) بدون هذه الزيادة.
[ (5) ] في (خ) ، (الواقدي) «نحن الملوك فلا حي يقاربنا» وما أثبتناه من (تاريخ الطبري) ج 3 ص 116.
[ (6) ] في (خ) «قرنا» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 977.
[ (7) ] زيادة من (تاريخ الطبري) ج 3 ص 117.(2/39)
فمن يقادرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع] [ (1) ]
إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد [ (2) ] ... إنا كذلك عند الفخر [ (3) ] نرتفع
تلك المكارم حزناها [ (4) ] مقارعة ... إذا الكرام على أمثالها اقترعوا
شعر حسان
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: يا حسان! أجبهم.
فقال:
إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا [ (5) ] سنة للناس تتبّع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الّذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوّهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفّهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
ولا يضنون عن جار بفضلهم ... ولا ينالهم من مطمع طبع [ (6) ]
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق الأدنى سبقهم تبع
أكرم بقوم رسول اللَّه شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أعفّه ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع [ (7) ]
لا فخر إن هم أصابوا من عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع [ (8) ]
إذا نصبنا لحيّ [ (9) ] لم ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الدّرع
__________
[ (1) ] زيادة من (تاريخ الطبري) ج 3 ص 117.
[ (2) ] في (خ) « «إذا أتتنا فلا يناما أحد» .
[ (3) ] في (خ) «الفجر» .
[ (4) ] في (خ) «خرناها» .
[ (5) ] في (خ) «قد شرعوا» وما أثبتناه من (ديوان حسان) ص 238.
[ (6) ] في (خ) « «طبعوا» وما أثبتناه من (الديوان) ص 238. وفي (ابن هشام وتاريخ الطبري) :
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
[ (7) ] في (خ) «فرع» .
[ (8) ] في (خ) «لا فرح إن أصابوا في عدوهم» وما أثبتناه من (الديوان) ص 239 ورواية (الواقدي) «لا يفخرون إذا نالوا عدوهم» ج 3 ص 978.
[ (9) ] في (خ) «وإن أصبنا» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 978.(2/40)
نسمو إلى الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا [ (1) ]
خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الّذي منعوا [ (2) ]
فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... سمّا غريضا عليه الصاب والسّلع
أهدى لهم مدحه قلب يؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع
فإنّهم أفضل [ (3) ] الأحياء كلهم ... إن جدّ بالناس جدّ لقول أو شمعوا [ (4) ]
فسرّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون بمقام ثابت وحسّان، وخلا الوفد فقالوا:
إن هذا الرّجل مؤيد مصنوع له-[وفي رواية: إن هذا الرجل لمؤتّى له]- واللَّه لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولهو أحلم منا! فأسلموا، وكان الأقرع [بن حابس] [ (5) ] أسلم قبل ذلك.
ما نزل من القرآن في وفد بني تميم
وفيهم نزل قول اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (6) ] .
رد أسرى بني تميم
فرد عليهم صلى اللَّه عليه وسلّم الأسرى والسبي. ويقال: سألوه أن يحسن إليهم في سبيهم، فقال لسمرة بن عمرو: هذا يحكم بيننا وبينكم! فقالوا: عمه فينا وهو أفضل منه!
__________
[ (1) ] في (خ) «من أطرافها خشع» وهي رواية الواقدي، وما أثبتناه من (الديوان) .
[ (2) ] في (خ) «الّذي منه» والتصويب من (الديوان) .
[ (3) ] في (خ) «فإن أفضل» وما أثبتناه من (الديوان) .
[ (4) ] في (ط) «أو سمعوا» وصوابها «شمعوا» بالشين المعجمة وهي رواية (خ) ، (الواقدي) .
ومعنى شمعوا: أي هزلوا، وأصل الشمع الطرب واللهو.
[ (5) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (6) ] الآيات 2- 5 من سورة الحجرات، وفي (خ) فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... الآية.(2/41)
فأبي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم. فحكم سمرة أن يمنّ على الشطر ويفدوا الشطر، ففعل.
رئيس وفد بني تميم
كان رئيسهم الأعور بن بشامة العنبري، وكانت أخته صفية سبيت، فعرض النبيّ عليها نفسه فاختارت زوجها، فردها. وقام عمرو بن الأهتم يومئذ يهجو قيس ابن عاصم،
وقد أجازهم النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم كما كان يجيز الوفود إذا قدموا عليه، وقال:
هل بقي منكم من لم نجزه؟ فقالوا: غلام في الرّحل. فقال: أرسلوه نجزه! فقال قيس بن عاصم: إنه غلام لا شرف له! فقال: وإن كان، فإنه وافد وله حق!!
فقال عمرو [ (1) ] شعرا يريد به قيسا. وكانت جوائزهم على يد بلال رضي اللَّه عنه:
لكل واحد ثنتي عشر أوقية ونصف، ولغلام هو أصغرهم خمس أواقي.
بعثة الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق
ثم
كانت بعثة الوليد بن عقبة [بن أبي معيط] [ (2) ] إلى بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم، فخرجوا يلقونه بالجزر والغنم فرحا به، فولّي راجعا إلى المدينة، وأخبر أنهم يلقونه بالسلاح ليحولوا بينه وبين الصدقة. فبلغهم ذلك عنه، فقدم وفدهم وقالوا: يا رسول! سل هل ناطقنا أو كلمنا؟ فنزلت فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [ (3) ] ، فقرأها عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال: من تحبون أن أبعث إليكم؟
قالوا: عبّاد بن بشر، فخرج معهم يقرئهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام، وقد قال له: خذ صدقات أموالهم، توقّ كرائم أموالهم. فأقام عندهم عشرا ثم انصرف راضيا.
سرية قطبة بن عامر إلى خثعم
وكانت سرية قطبة بن عامر إلى خثعم في صفر سن تسع، فخرج في عشرين رجلا معهم عشرة أبعرة يتعقبوها، [فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر ويحذرهم. فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا: وقتل قطبة
__________
[ (1) ] في (خ) «عمر» .
[ (2) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (3) ] الآية 6/ الحجرات.(2/42)
ابن عامر من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة: وجاء سيل أتيّ [ (1) ] فحال بينهم وبينه، فما يجدون إليه سبيلا. وكانت سهمانهم أربعة أبعرة أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشر من الغنم بعد أن أخرج الخمس] [ (2) ] .
سرية الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب
وكانت سرية الضحاك بن سفيان [ (3) ] بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلابيّ إلى بني كلاب، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلهم بمن معه وهزمهم [ (4) ] وذلك في ربيع الأوّل.
كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى بني حارثة بن عمرو
وكتب صلى اللَّه عليه وسلّم إلى بني حارثة بن عمرو بن قريظ يدعوهم إلى الإسلام مع عبد اللَّه ابن عوسجة من غرينة [ (5) ] ، مستهلّ ربيع الأول، فأخذوا [ (6) ] الصحيفة فغسلوها ورقعوا بها دلوهم، وأبوا أن يجيبوا، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم- لما بلغه ما لهم ذلك-: ما لم؟
أذهب اللَّه عقولهم! فصاروا أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط، وأهل سفه.
وقدم وفد بليّ في ربيع الأول هذا، فنزلوا على رويفع [بن ثابت] [ (7) ] البلويّ.
خبر رعية السحيمي
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبيد اللَّه بن موسى قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الشّعبي: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كتب إلى رعية السّحيمي بكتاب، فأخذ الكتاب فرقع به دلوه. فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرية فأخذوا أهله وماله، وأفلت رعية- على فرس له- عريانا ليس عليه شيء فأتى ابنته- وكانت
__________
[ (1) ] السيل الأتي الّذي لا يدرى من أين أتي!!
[ (2) ] ما بين القوسين زيادة لتمام الخبر من (ابن سعد) ج 2 ص 162.
[ (3) ] في (خ) «إلى سفيان» .
[ (4) ] في (خ) «وهربهم» .
[ (5) ] في (خ) «بن عرينة» .
[ (6) ] في (خ) «فأخذ» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 982.
[ (7) ] زياد للإيضاح من (ط) .(2/43)
متزوّجة في بني هلال، وكانوا أسلموا فأسلمت معهم، وكانوا دعوه إلى الإسلام [فأبى] [ (1) ]- وكان مجلس القوم بفناء بيتها، فأتى البيت من وراء ظهره. فلما رأته ابنته عريانا ألقت عليه ثوبا وقالت: مالك؟ قال كلّ الشرّ! ما ترك لي أهل ولا مال! أين بعلك؟ قالت: في الإبل! فأتاه فأخبره، فقال: خذ راحلتي برحلها، ونزودك من اللبن: قال: لا حاجة لي فيه، ولكن أعطني قعود [ (2) ] الرّاعي وإدواة من ماء [ (3) ] ، فإنّي أبادر محمدا لا يقسم أهلي ومالي! فانطلق وعليه ثوب: إذا غطى به رأسه خرجت استه، وإذا غطى استه خرج رأسه. فانطلق حتى دخل المدينة ليلا، فكان بحذاء [ (4) ] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الفجر، قال له: يا رسول اللَّه! أبسط يدك لأبايعك! فبسط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فلما ذهب رعية ليمسح عليها، قبضها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال له رعية: يا رسول اللَّه! أبسط يدك، قال: ومن أنت؟ قال رعية السحيميّ! قال: فأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعضده فرفعه [ (5) ] ثم قال: أيها الناس! هذا رعية السحيمي الّذي كتبت إليه فأخذ كتابي فرقع بها دلوه!! أسلم، ثم قال: يا رسول اللَّه! أهلي ومالي! فقال: أما مالك فقد قسم بين المسلمين، وأما أهلك فانظر من قدرت عليه منهم! قال [رعية] [ (6) ] ، فخرجت فإذا ابن لي قد عرف الراحلة، وإذا هو قائم عندها، فأتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقلت: هذا ابني! فأرسل معى بلالا فقال: انطلق معه فسله: أبوك هو؟ فإن قال نعم، فادفعه إليه، قال [رعية] [ (7) ] : فأتاه بلال فقال: أبوك هو؟ قال: نعم، فدفعه إليه. قال: فأتي بلال رضي اللَّه عنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: واللَّه ما رأيت واحدا منه مستعبرا إلى صاحبه! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
ذلك جفاء الأعراب!
وقال أبو عمر بن عبد البر رعية السّحيميّ، [ويقال: الرّبعي، ويقال العرنيّ وهو الصواب. يروي أنه من سحيمة عرينة] كتب إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم قطعة أدم،
__________
[ (1) ] في (خ) بعد قوله «دعوه إلى الإسلام» ما نصه: «فأتي ابنته» ، وما أثبتناه من (ط) .
[ (2) ] القعود في الإبل: ما يتخذه الراعي للركوب وحمل متاعه وزاده.
[ (3) ] الإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
[ (4) ] في (خ) «بجدار» .
[ (5) ] في (خ) «فرفعها» .
[ (6) ] زيادة للسياق والإيضاح من (ط) .
[ (7) ] زيادة للبيان والإيضاح من (ط) .(2/44)
فرقع دلوه بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقالت له [ابنته] [ (1) ] ما أراك إلا ستصيبك قارعة! عمدت إلى كتاب سيد العرب فرقعت به [ (2) ] دلوك؟ [وكانت ابنته قد تزوجت في بني هلال وأسلمت] [ (3) ] ،
وبعث إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خيلا.
فأخذوا أهله وماله وولده [ونجا هو عريانا] [ (3) ] ، فأسلم. وقدم علي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أغير على أهلي ومالي وولدي! فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أما المال فقد اقتسم، ولو أدركته قبل أن يقسم كنت أحق به! وأما الولد، فاذهب معه يا بلال، فإن عرفه [ (4) ] ولده فادفعه إليه، فذهب معه فأراه إياه، فقال لابنه، تعرفه؟ قال:
نعم! فدفعه إليه.
سرية علقمة بن مجزر إلى الشعيبة
ثم كانت سرية علقمة بن مجزر المدلجي في ربيع الآخر- في ثلاثمائة رجل- إلى ساحل البحر بناحية مكة وقد تراءى أهل [ (5) ] الشعيبة ناسا من الحبشة في مراكب.
[فانتهى علقمة وأصحابه إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر] [ (6) ] ، ففروا منه، فرجع. واستأذنه بعض جيشه في الانصراف فأذن لهم. وأمّر عليهم عبد اللَّه ابن حذافة السّهميّ- وكانت فيه دعابة- فأمر أصحابه أن يتواثبوا في نار [ (7) ] لهم، فلما أرادوا ذلك قال: إنما كنت أضحك معكم! فلما ذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه.
سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم طيِّئ
ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلى الفلس- صنم طيِّئ- ليهدمه، في ربيع الآخر، في خمسين ومائة رجل من وجوه الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا، حتى أغاروا على أحياء من العرب، وشنوا الغارة مع الفجر على
__________
[ (1) ] زيادة من (الاستيعاب) ج 3 ص 303.
[ (2) ] في (خ) «رقعت به» .
[ (3) ] زيادة من (ط) نقلها عن (أسد الغابة) .
[ (4) ] في (خ) «فإن عرف والده» هو فاسد المعنى.
[ (5) ] في (خ) «يراما» وفي (ابن سعد ج 2 ص 163 «تراءاهم أهل جدّة» .
[ (6) ] زيادة من (ط) لتمام المعنى.
[ (7) ] في (خ) «على نار» وما أثبتناه حق السياق.(2/45)
محلة آل حاتم، فسبوا حتى ملئوا أيديهم من السّبي والنعم والشاء. وهدم عليّ رضي اللَّه عنه الفلس صنم طيِّئ وخرّب، ثم عاد. وكانت رايته سوداء، ولواؤه أبيض، ويحمل الراية سهل بن حنيف، واللواء جبّار بن صخر السّلمي، ودليله حريث من بني أسد. وكان فيمن سبي سفّانة بنت حاتم الجواد بن عبد اللَّه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن نثل بن جرول بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ، ومن [ (1) ] أسر أسلم، ووجد في بيت الفلس ثلاثة أسياف:
رسوب والمخذم [ (2) ] واليماني وثلاثة أدراع. واستعمل على السبي أبا قتادة، وعلى الماشية والرّثّة [ (3) ] عبد اللَّه بن عتيك. وقسم السبي والغنائم إلا آل حاتم فإنه قدم بهم المدينة، وبالخمس مما غنموا، وبالأسياف الثلاثة صفيّا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم.
خبر سفانة بنت حاتم الطائي
فنزلت [سفّانة بنت حاتم] [ (4) ] أخت عدي بدار رملة بنت الحارث. وكان عديّ بن حاتم قد فرّ- لما سمع بحركة عليّ رضي اللَّه عنه- إلى الشام،
فكانت أخت عدي إذا مرّ النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم تقول: يا رسول اللَّه! صلى اللَّه عليك وسلّم! هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علينا منّ اللَّه عليك! فيسألها: من وافدك؟ فتقول: عدي ابن حاتم! فيقول: الفارّ من اللَّه ورسوله؟! حتى يئست. فلما كان اليوم الرابع مرّ [ (5) ] ، فأشار إليها عليّ رضي اللَّه عنه: قومي فكلميه؟ فكلمته فخلى عنها ووصلها
أخاها عدي بن حاتم- وقد لحق بالشأم- فحسنت له أن يأتي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقدم المدينة وأسلم، وله في إسلامه قصة.
موت النجاشي
وفي رجب سنة تسع نعي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم النجاشيّ للمسلمين، وصلى عليه بمن معه في اليوم الّذي مات فيه، على بعد ما بين الحجاز وأرض الحبشة، فكان ذلك علما [ (6) ] من أعلام النبوة كبيرا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «وممن» .
[ (2) ] في (خ) «والمحرم» .
[ (3) ] الرثة: المتاع، وهي في (خ) «والورثة» .
[ (4) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «مر يتكلم» .
[ (6) ] في (خ) «علم» ، «كبير» .(2/46)
غزوة تبوك
ثم كانت غزوة تبوك- وتسمي غزوة العسرة [ (1) ]- في غرة رجب، وسببها أن أخبار الشأم كانت بالمدينة عند المسلمين، لكثرة من يقدم من الأنباط بالدّرمك [ (2) ] والزيت، فذكروا أن الرّوم قد جمعت جموعا كثيرة [ (3) ] بالشأم، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأقبلت مع لخم وجذام [ (4) ] وغسّان وعاملة، وزحفوا، وقدموا مقدّماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص.
ولم يكن ذلك، إنما ذلك شيء قيل لهم فقالوه.
الخبر عن الغزو والبعثة إلى القبائل
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يغزو غزوة إلا ورّى بغيرها- لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا- حتى كانت غزوة تبوك فغزاها في حرّ شديد. واستقبل سفرا بعيدا، وعددا كثيرا، فجلى [ (5) ] للناس أمرهم ليتأهّبوا لذلك أهبته، وأخبرهم بالوجه الّذي يريد. وبعث إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم. فبعث بريدة ابن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع، وبعث أبا رهم الغفاريّ إلى قومه، وأبا واقد اللّيثيّ إلى قومه، وأبا جعدة الضّمريّ إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث ابن جندب بن جنادة إلى جهينة، ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبسر بن سفيان إلى بني كعب بن عمرو، والعباس بن مرداس إلى بني سليم. وحضّ على الجهاد ورغّب فيه.
صدقات المسلمين للغزو
وأمر بالصدقة فحملت صدقات كثيرة.
وأول من حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. هل أبقيت شيئا؟ قال: اللَّه ورسوله! وجاء عمر رضي اللَّه عنه بنصف ماله، فقال
__________
[ (1) ] في (خ) «العشرة» .
[ (2) ] الدرمك: الدقيق الأبيض الجيد الخالص.
[ (3) ] في (خ) «كبيرة» .
[ (4) ] في (خ) «خدام» .
[ (5) ] في (خ) «وحكى» ، وجلّي الأمر: أظهره وأبانه.(2/47)
له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم هل أبقيت شيئا؟ قال: نعم، نصف مالي ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر رضي اللَّه عنه فقال: ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه.
وحمل العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه مالا يقال إنه تسعون ألفا. وحمل طلحة ابن عبيد اللَّه مالا. وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية. وحمل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة [ (1) ] مالا. وتصدق عاصم بن عديّ بتسعين وسقا [ (2) ] تمرا، وجهز عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، حتى كفي ثلث ذلك الجيش مؤنتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة!! فجاء بألف دينار ففرغها في حجر النبي صلى اللَّه عليه وسلّم، فجعل يقلبها ويقول صلى اللَّه عليه وسلّم: ما ضرّ عثمان ما فعل بعد هذا اليوم! قالها مرارا.
ورغب عليه السلام أهل الغني في الخير والمعروف، فتبادر المسلمون في ذلك، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين ويقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج.
صدقات النساء
وأتت النساء بكل ما قدرن عليه، فكن يلقين- في ثوب مبسوط بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وسلّم- المسك، والمعاضد والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم، والخدمات [ (3) ] .
وكان الناس في حر [ (4) ] شديد، وحين طابت الثمار، وأحبّت الظلال، والناس يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها. وأخذ صلى اللَّه عليه وسلّم الناس بالجد وعسكر بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب.
خبر المخلفين
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم للجدّ بن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عديّ ابن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري: أبا وهب! هل لك العام تخرج معنا لعلك تحتقب من بنات الأصفر [ (5) ] ! قال أو تأذن لي ولا تفتنّي؟ فو اللَّه لقد عرف قومي ما أحد أشدّ عجبا بالنساء منّي، وإني لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا
__________
[ (1) ] في (خ) «بن سلمة» .
[ (2) ] في (خ) «وستا» .
[ (3) ] سبق شرح معاني هذه الألفاظ.
[ (4) ] في (خ) «في عسر شديد» .
[ (5) ] بنات الأصفر: بنات الروم الكاثوليك.(2/48)
أصبر عنهنّ. فقال: قد أذنت لك! فجعل يثبط قومه ويقول: لا تنفروا في الحرّ.
فنزل فيه قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [ (1) ] .
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [ (2) ] .
البكاءون
وجاء البكاءون- وهم سبعة: أبو ليلى المازنيّ، وسلمة بن صخر الزّرقيّ، وثعلبة بن غنمة السّلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السّلمي، وهرمي بن عمر المزني وسالم بن عمير. [وقيل: وإن فيهم عبد اللَّه بن المغفّل ومعقل ابن يسار. وقيل: البكاءون بنو مقرّن السّيمة، وهم من مزينة]- يستحملون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، وكانوا أهل حاجة فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فولّوا يبكون [ (3) ]
فلقي اثنان منهم يامين بن عمير بن كعب [بن عمر بن عمرو بن جحاش النضري] [ (4) ] فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما تتقوى [ (5) ] به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. فأعطاهما ناضحا له [ (6) ] فارتحلاه، وزوّد كلّ واحد صاعين من تمر. وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين، وحمل عثمان ابن عفان منهم ثلاثة.
النهي عن خروج أصحاب الضعف
وقال صلى اللَّه عليه وسلّم: لا يخرجنّ معنا إلا مقو [ (7) ] . فخرج رجل على بكر صعب [ (8) ]
__________
[ (1) ] الآيتين 81- 82 التوبة، وفي (خ) ... وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، الآية.
[ (2) ] الآية 49/ التوبة، وفي (خ) « ... ولا تفتنّي، الآية» .
[ (3) ] خبر البكاءين في سورة التوبة، الآية 90 وما بعدها.
[ (4) ] في (خ) «مكان ما بين القوسين «بن عمرو بن جحاش النضري» ، وما أثبتناه من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «تقوى» .
[ (6) ] الناضح: البعير الّذي يحمل عليه الماء.
[ (7) ] في (خ) «نقوى» ، يقال: رجل مقو: أي: ذو دابة قوية.
[ (8) ] الصعب: الّذي لا ينقاد.(2/49)
فصرعه بالسويداء، فقال الناس: الشهيد!! فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مناديا ينادي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن-[وإلا نفس مؤمنة]-، ولا يدخل الجنة عاص.
المنافقون
وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من غير علة فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا. وجاء المعذرون [ (1) ] من الأعراب فاعتذروا وهم نفر من بني غفار فيهم خفاف بن إيماء بن رحضة، اثنان وثمانون رجلا فلم يعذرهم اللَّه، وجاء عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول بعسكره- معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين- فضربه على ثنية الوداع. فكان يقال: ليس عسكر ابن أبيّ بأقل العسكرين.
وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يستخلف على العسكر أبا بكر رضي اللَّه عنه، فلما أجمع المسير استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ، [وقيل محمد ابن مسلمة] .
تخليف علي بن أبي طالب
وخلف علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه علي أهله، فقال المنافقون: ما خلفه إلا استقلالا له! فأخذ سلاحه ولحق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالجرف وأخبره ما قالوا، فقال: كذبوا! إنما خلّفتك لما ورائي! فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبيّ بعدي، فرجع.
الأمر بحمل النعال
وسار عليه السلام وقال: استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبا ما دام منعلا.
تخلف المنافقين
فلما سار تخلف ابن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وقال: يغزو محمد بني
__________
[ (1) ] المعذرون: الذين يعتذرون، ولا عذر لهم على الحقيقة.(2/50)
الأصفر- مع جهد الحال والحر والبلد البعيد- إلى مالا قبل له به؟! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟! ونافق بمن معه ممن هو على مثل رأيه، ثم قال: واللَّه لكأنّي انظر إلى أصحابه غدا مقرنين في الحبال.
الألوية
فلما رحل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من ثنيّة الوداع عقد الألوية والرايات. فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه، ورايته العظمي إلى الزبير، وراية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، [ويقال: إلى الحباب بن المنذر ابن الجموح] ، وأمر كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء أو راية.
خبر العبد المملوك
فلقيه عبد لامرأة من بني ضمرة وهو متسلح، فقال: أقاتل معك يا رسول اللَّه؟ فقال: وما أنت؟ قال، مملوك لامرأة من بني ضمرة سيئة الملكة [ (1) ] فقال:
ارجع إلى سيّدتك! لا تقتل معي فتدخل النار!!
عدة المسلمين
وسار معه ثلاثون ألفا، وعشرة آلاف فرس، واثنا عشر ألف بعير. وقال أبو زرعة: كانوا سبعين ألفا. وفي رواية: أربعين ألفا.
تخلف نفر من المسلمين
وتخلف نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم:
كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين [ (2) ] بن كعب بن سواد بن غنم ابن كعب بن سلمة الأنصاريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، وأبو خيثمة عبد اللَّه ابن خيثمة السالميّ، ومرارة بن الربيع العمري، ثم إن أبا خيثمة أدرك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بتبوك.
__________
[ (1) ]
وفي الحديث: «لا يدخل الجنة سيّئ الملكة»
أي الّذي يسيء صحبة مماليكه وعبيده.
[ (2) ] في (خ) «القيس» .(2/51)
وكان دليله عليه السلام علقمة بن الغفواء [ (1) ] الخزاعي. وجمع- من يوم نزل ذا خشب- بين الظهر والعصر في منزله: يؤخر الظهر حتى يبرد ويعجّل العصر، ثم يجمع بينهما. فكان ذلك فعله حتى رجع من تبوك.
المتخلفون
ولما مضى من ثنية الوداع، جعل يتخلف عنه قوم، فيقولون: يا رسول اللَّه! تخلف فلان! فيقول: دعوه! فإن يك فيه خير فيلحقه اللَّه بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللَّه منه.
وخرج معه ناس من المنافقين كثير، لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
خبر أبي ذر
وأبطأ أبو ذر رضي اللَّه عنه من أجل بعيره: كان نضوا أعجف [ (2) ] ، ثم عجز فتركه وحمل متاعه على ظهره: وسار ماشيا في حر شديد وحده، حتى لحق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم نصف النهار وقد بلغ منه العطش، فقال له: مرحبا بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! ما خلفك؟ فأخبره خبر بعيره، فقال:
إن كنت لمن أعزّ أهلي عليّ تخلّفا! لقد غفر اللَّه لك بكلّ خطوة ذنبا إلى أن بلغتني.
خبر أبي رهم
وسايره أبو رهم- كلثوم بن الحصين الغفاريّ- ليلة فألقى عليه النّعاس، فزاحمت عليه راحلته راحلة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم- ورجله في الغرز- فما استيقظ إلا بقوله: حسّ [ (3) ] ! فقال: يا رسول اللَّه، استغفر لي، فقال: سر! وجعل يسأله عمّن تخلّف من بني غفار ويخبره، فقال: ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل علي بعيره رجلا نشيطا في سبيل للَّه ممّن يخرج معنا، فيكون له مثل أجر الخارج! إن كان لمن أعزّ أهلي عليّ أن يتخلف عنّي: المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم.
__________
[ (1) ] في (خ) «الغفراء» . لم أجده فيمن اسمه علقمة وأثبتناه من المغازي ص 999.
[ (2) ] النضو: الأعجف: الّذي أهزلته الأسفار وأذهب الجوع سمنه.
[ (3) ] كلمة تقال للتوجع.(2/52)
جهد المسلمين
ومرّ على بعير قد تركه صاحبه من الضعف، فمرّ به مارّ فعلفه أياما ثم حمله وقد صلح، فخاصمه فيه صاحبه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: من أحيا خفا أو كراعا بمهلكة من الأرض فهو له. وشكوا إليه صلى اللَّه عليه وسلّم ما بظهرهم من الجهد، فتحين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مضيقا سار الناس فيه وهو يقول: مرّوا باسم اللَّه، فجعل ينفح [ (1) ] بظهورهم وهو يقول: اللَّهمّ احمل عليها في سبيلك، فإنك تحمل على القوى والضعيف، والرطب واليابس، والبر والبحر! فلما بلغوا المدينة جعلت تنازعهم أزقتها بدعوته صلى اللَّه عليه وسلّم.
وصلى يوما بأصحابه وعليه جبة صوف وقد أخذ بعنان فرسه، فبال الفرس فأصاب الجبة فلم يغسله. وقال: لا بأس بأبوالها ولعابها وعرقها. لكنّ يعارضه قوله: استنزهوا من البول، وهو أصحّ.
مقالة المنافقين
وكان رهط من المنافقين يسيرون، منهم: وديعة بن ثابت أخو بني عمرو ابن عوف، والجلاس بن سويد بن الصامت، ومخشّي بن حميّر من أشجع حليف بني سلمة وثعلبة بن حاطب، وقال ثعلبة: تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ واللَّه لكأنّي بكم غدا مقرنين في الحبال! وقال وديعة بن ثابت: ما لي أرى قراءنا [ (2) ] هؤلاء أرغبنا [بطونا] [ (3) ] ، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؟ قال الجلاس بن سويد- زوج أم عمير [ (4) ]-: هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منا، واللَّه لئن كان محمد صادقا لنحن شرّ من الحمير! ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الصادق وأنت الكاذب! وقال مخشي بن حمير: واللَّه لو وددت أنّي أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننفلت من أن ينزل فينا قرآن بمقالتكم!
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعمار بن ياسر رضي اللَّه عنه: أدرك القوم فإنّهم قد
__________
[ (1) ] في (خ) «ينفخ» ، ينفح: يدفع.
[ (2) ] في (خ) «قرانا» .
[ (3) ] هذه الكلمة غير بينة في (خ) وفي (الواقدي) ، «أو عينا بطونا» ج 3 ص 103.
[ (4) ] عمير بن سعد الأنصاري.(2/53)
اخترقوا [ (1) ] .
فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى! قد قلتم كذا وكذا!! فذهب إليهم فقال لهم، فأتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت- ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم على ناقته، وقد أخذ بحقبها [ (2) ]-: يا رسول اللَّه! إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل اللَّه فيه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [ (3) ] .
وقال مخشي بن حميّر: يا رسول اللَّه! قعد بي اسمي واسمي أبي! فكان الّذي عفي عنه في هذه الآية مخشي، فتسمى عبد الرحمن، وسأل اللَّه أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر.
وجاء الجلاس فحلف ما قال من ذلك شيئا. فأنزل اللَّه فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [ (4) ] .
وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه- وكان محتاجا- فلما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة أخذها له فاستغنى بها.
وادي القرى
ومرّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في وادي القرى على حديقة امرأة فقال: اخرصوها فجاء خرصها عشرة أوسق [ (5) ] فقال لها: احفظي ما خرج منها حتى نرجع إليك.
__________
[ (1) ] في (خ) «احترقوا: بالحاء المهملة» والأجود بالخاء، من الاختراق، وهو الاختلاق الكذب، من ذلك قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، راجع هامش (ط) ، وفي (زاد المعاد) ج 3 ص 936 «احترقوا» وأيضا في (تاريخ الطبري) ج 3 ص 108.
[ (2) ] الحقب: حزام يشد به البعير.
[ (3) ] الآيتان 65، 66/ التوبة، وفي (خ) ... نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، الآية.
[ (4) ] الآية 74/ التوبة، وفي (خ) وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وقوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، الآية.
[ (5) ] الأوسق: جمع وسق، وهو حمل بعير.(2/54)
نزول الحجر وهبوب الريح
فلما أمسى بالحجر قال: إنها ستهبّ الليلة ريح شديدة، فلا يقومنّ منكم أحد إلا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثق عقاله، فهاجت ريح شديدة ولم يقم أحد إلا مع صاحبه، إلا رجلين من بني ساعدة: خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعيره. فأما الّذي خرج لحاجته، فإنه خنق على مذهبه، وأما الّذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته بجبل طيِّئ فأخبر عليه السلام خبرهما فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا معه صاحب له؟ ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر فإن طيِّئا قدمت به إلى المدينة.
هدية بني عريض
وأهدى له عليه السلام بنو عريض اليهودي هريسا فأكلها، وأطعمهم أربعين وسقا، فلم تزل جارية عليهم [ (1) ] .
خبر بئر الحجر
واستقى الناس من بئر الحجر [ (2) ] وعجنوا، فنادى منادى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: لا تشربوا من مائها ولا توضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين فاعلفوه الإبل، فجعل الناس يهريقون ما في أسقيتهم، وتحوّلوا إلى بئر صالح عليه السلام فارتووا منها. وقال يومئذ: لا تسألوا نبيكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفجّ، تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائهم.
فعقروها، فأوعدوا ثلاثا، وكان وعد اللَّه غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة،
وقال يومئذ: لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم ما أصابهم.
وجاء رجل بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذبين، فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: ألقه! فألقاه.
وقال لأصحابه حين حاذاهم: إن هذا وادي القرى! فجعلوا يوضعون فيه
__________
[ (1) ] في (خ) «فلم يزل حارثة عليهم، وفي (الواقدي) ج 3 ص 1006 «فهي جارية عليهم» .
[ (2) ] الحجر: ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام.(2/55)
ركابهم حتى خرجوا منه. وأوضع صلى اللَّه عليه وسلّم راحلته.
قلة الماء ودعاء رسول اللَّه بالمطر
وارتحل من وادي القرى فأصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إليه، فاستقبل القبلة ودعا- ولا يرى في السماء سحاب- فما برح يدعو حتى تألف السحاب من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحب عليهم السماء بالرواء. ثم كشف اللَّه السماء من ساعتها والأرض غدر [ (1) ] ، فسقى الناس وارتووا من آخرهم، فكبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وقال: أشهد أنّي رسول اللَّه! فقال عبد اللَّه بن أبي حدرد لأوس ابن قيظي-، [ويقال لزيد بن اللصيت القينقاعيّ]- وكان من المنافقين:
ويحك!! بعد هذا شيء؟ فقال: سحابة مارة.
خبر ناقة رسول اللَّه التي ضلّت ومقالة المنافق
وارتحل عليه السلام فأصبح في منزل، فضلّت ناقته القصواء، فخرج المسلمون في طلبها، وكان زيد بن اللصيت أحد بني قينقاع، وكان يهوديا فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وغشهم، وكان مظاهرا لأهل النفاق، وقد نزل في رحل عمارة بن حزم، وعمارة عند رسول اللَّه- فقال زيد: أليس محمد يزعم أنه نبيّ وهو يخبركم بأمر السماء، ولا يدري أين ناقته؟ وأنّي واللَّه لا أعلم إلا ما علمني اللَّه، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا- لشعب به [ (2) ]- حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها [ (3) ] .
فذهبوا، فجاءوا وقد وجدها الحارث بن خزمة [ (4) ] الأشهلي، كما قال عليه السلام. فرجع عمارة بن حزم إلى رحلة فقال: العجب من شيء حدّثناه رسول اللَّه آنفا عن مقالة قائل أخبره اللَّه عنه كذا وكذا!! - للذي قال زيد- فقال أخوه عمرو بن حزم ولم يحضر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن زيدا هو قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا! فأقبل عمارة بن حزم على زيد بن اللّصيت يجأه [ (5) ] في عنقه ويقول: إن في رحلي لداهية [ (6) ] وما أدري!! أخرج يا عدو اللَّه من رحلي! فقال زيد: لكأنّي لم أسلم إلا اليوم! قد كنت شاكّا
__________
[ (1) ] في (خ) «غدرا» ، وغدر: جمع غدير وهو مستنقع الماء يغادره السيل.
[ (2) ] في (خ) «لشغب إليه» .
[ (3) ] في (خ) «حتى بانوا» .
[ (4) ] في (خ) «حزمة» .
[ (5) ] وجأ: لكز ووكز.
[ (6) ] في (خ) «أراهية» .(2/56)
في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرة، أشهد أنه رسول اللَّه! فقيل: إنه تاب، وقيل: لم يزل فسلا [ (1) ] حتى مات.
نبوءة الفتوح
وقال ليلة وهم يسيرون: إن اللَّه أعطاني الكنزين: فارس والروم، وأمدني بالملوك ملوك حمير: يجاهدون في سبيل اللَّه، ويأكلون فيء اللَّه [ (2) ] .
تأخره صلى اللَّه عليه وسلّم عن صلاة الصبح
ولما كان بين الحجر وتبوك ذهب لحاجته- وكان إذا ذهب أبعد-، فتبعه المغيرة بن شعبة بماء في إدواة بعد الفجر، فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس، فقدّموا عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه فصلى بهم. فلما فرغ صلى اللَّه عليه وسلّم من حاجته، صبّ عليه المغيرة من الإداوة فغسل وجهه. ثم أراد أن يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة- وكان عليه جبة رومية- فأخرج يديه من تحت الجبة فغسلهما ومسح خفيه.
صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بصلاة عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه
وانتهى إلى عبد الرحمن رضي اللَّه عنه وقد ركع بالناس ركعة، فسبح الناس حين رأوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى كادوا أن يفتنوا، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه عليه السلام: أن أثبت! فصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خلف عبد الرحمن ركعة، فلما جلس عبد الرحمن تواثب الناس، وقام صلى اللَّه عليه وسلّم للركعة الباقية ثم سلم بعد فراغه منها، وقال أحسنتم، إنه لم يتوفّ [ (3) ] نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته.
__________
[ (1) ] الفسل: الرديء الّذي لا مروءة له.
[ (2) ] في (خ) «في اللَّه» بغير همز، ونقله محقق (ط) بغير همز أيضا مما أدى إلى فساد المعنى، الأمر الّذي جعله يقول: «ولم أجد الخبر» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 1011.
[ (3) ] في (خ) «ولم يتوفى» .(2/57)
خبر الأجير ورجل من العسكر
وأتاه [ (1) ] يومئذ يعلى بن منية بأجير له قد نازع رجلا من العسكر فعضه الرجل، فانتزع الأجير يده من في [ (2) ] العاضّ فانتزع ثنيته، فلزمه المجروح وبلغ به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: يعمد أحدكم فيعضّ أخاه كما يعض الفحل! فأبطل صلى اللَّه عليه وسلّم ما أصاب من ثنيته.
نهيه صلى اللَّه عليه وسلّم عن الشرب من عين تبوك حتى يقدم
وقال: إنكم ستأتون غدا إن شاء اللَّه تعال عين تبوك: وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمسّ من مائها حتى آتي، فسبق رجلان من المنافقين إليها- والعين تبضّ بشيء [ (3) ] من ماء- فسألهما عليه السلام: هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم! فسبّهما وقال لهما ما شاء اللَّه أن يقول. ثم غرفوا من العين بأيديهم قليلا حتى اجتمع في شيء ثم غسل فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثير فاستسقى الناس. ثم قال [لمعاذ بن جبل] [ (4) ] : يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد مليء جنانا!
وقال يوما في مسيره: من شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له حرمه اللَّه على النار.
خبر الحية التي سلمت عليه صلى اللَّه عليه وسلّم
وعارض الناس في سيرهم حية ذكر من عظمها وخلقها شيء كثير، فأقبلت حتى واقفت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وهو على راحلته طويلا، والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فأقبل الناس حتى لحقوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فقال لهم: هل تدرون من هذا [ (5) ] ؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم! قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن، فرأى عليه من [ (6) ] الحق- حين ألمّ رسول اللَّه ببلده- أن يسلم عليه، وها هو ذا يقرئكم السلام
__________
[ (1) ] في (خ) «وأياه» .
[ (2) ] من في: من فم.
[ (3) ] بض الماء: إذ خرج قليلا قليلا.
[ (4) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (5) ] في (خ) «ما هذا» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 3 ص 1015.
[ (6) ] في (خ) «من من» مكررة.(2/58)
فسلّموا عليه! فقال الناس جميعا: وعليه السلام ورحمة اللَّه، فقال: أجيبوا عباد اللَّه من كانوا.
رقاده صلى اللَّه عليه وسلّم عن صلاة الفجر
ولما كان من تبوك على ليلة، رقد [ (1) ] صلى اللَّه عليه وسلّم فلم يستقيظ حتى كانت الشمس قيد رمح [ (2) ] ، فقال: يا بلال، ألم أقل لك اكلأنا الليلة [ (3) ] ؟ فقال: يا رسول اللَّه ذهب بي النوم، ذهب بي الّذي ذهب بك! فارتحل عليه السلام من ذلك المكان غير بعيد ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر، ثم سار يومه وليلته فأصبح بتبوك فجمع الناس
ثم قال:
خطبته صلى اللَّه عليه وسلّم بتبوك
أيها الناس، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر اللَّه، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدي، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما أتّبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السّفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة. ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر اللَّه إلا هجرا. ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب.
وخير الغني غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة اللَّه، وخير ما ألقى في القلب اليقين، والارتياب من الكفر. والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنم، والسّكر كنّ من النار. والشّعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المال أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقىّ من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضوع أربع أذرع والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الرّؤيا رؤيا الكذب، وكلّ ما هو آت قريب. وسباب المؤمن فسوق،
__________
[ (1) ] كذا في (ط) وفي (خ) ، (والواقدي) ج 3 ص 1015 «استوقد» .
[ (2) ] أي قدر رمح في ارتفاعها.
[ (3) ] اكلأنا: احفظنا.(2/59)
وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية اللَّه، وحرمة ماله كحرمة دمه. ومن يتألّ [ (1) ] على اللَّه يكذّبه، ومن يعف يعف اللَّه عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره اللَّه، ومن يصبر على الرّزية يعوّضه اللَّه. ومن يتتبع السّمعة يسمّع اللَّه به [ (2) ] . ومن يصبر يضاعف اللَّه له، ومن يعص اللَّه يعذّبه. اللَّهمّ اغفر لي ولأمتي. اللَّهمّ اغفر لي ولأمتي، أستغفر اللَّه لي ولكم.
عظته صلى اللَّه عليه وسلّم وهو يطوف بالناس
وطاف على ناقته بالناس وهو يقول: يا أيها الناس، يد اللَّه فوق يد المعطي، ويد المعطي الوسطي ويد المعطى السفلي، أيها الناس، فتغنّوا ولو بحزم الحطب.
اللَّهمّ هل بلغت! ثلاثا. فقال له رجل من بني عذرة- يقال له عدي-: يا رسول اللَّه، إن امرأتين لي اقتتلتا، فرميت فأصبت إحداهما في رميتي؟ [يعني ماتت] ، فقال له: تعقلها [ (3) ] ولا ترثها.
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم في أهل اليمن وأهل المشرق
ونظر بتبوك نحو اليمن، ورفع يديه يشير إلى أهلها وقال: الإيمان يمان! ونظر نحو المشرق، وأشار بيده وقال: إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدّادين [ (4) ] أهل الوبر من المشرق حيث يطلع الشيطان قرنيه.
خبر البركة في الطعام
وجلس بتبوك في نفر من أصحابه هو سابعهم،
فجاء رجل من بني سعد بن هذيم فسلم فقال: اجلس، فقال: يا رسول اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك
__________
[ (1) ] أي يحكم عليه ويحلف كأن يقول: واللَّه ليدخلن اللَّه فلانا النار، ونحوه.
[ (2) ] سمّع اللَّه به، فضحه وشهر به في أسماع الناس.
[ (3) ] تعقلها: تدفعه ديتها.
[ (4) ] الفدادون: أصحاب الإبل الكثيرة.(2/60)
رسول اللَّه! فقال: أفلح وجهك، ثم قال: يا بلال، أطعمنا! فبسط نطعا [ (1) ] ، ثم أخرج من حميت [ (2) ] له خرجات من تمر معجون بسمن وإقط، ثم قال عليه السلام: كلوا: فأكلوا حتى شبعوا، فقال الرجل: يا رسول اللَّه: إن كنت لآكل هذا وحدي! فقال: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد.
ثم جاء من الغد متحيّنا الغداء ليزداد في الإسلام يقينا، فإذا عشرة حوله عليه السلام فقال: هات أطعمنا يا بلال! فجعل يخرج من جراب تمرا بكفّه قبضة قبضة، فقال:
أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتارا! فجاء بالجراب فنثره فحرزه الرجل مدّين، فوضع صلّى اللَّه عليه وسلّم يده على التمر. ثم قال: كلوا باسم اللَّه! فأكل القوم وأكل الرجل- وكان صاحب تمر- حتى ما يجد [له] [ (3) ] مسلكا، وبقي على النّطع مثل الّذي جاء به بلال، كأنهم لم يأكلوا منه تمرة واحدة. ثم عاد الرجل من الغد، وعاد نفر. فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين، فقال عليه السلام: يا بلال أطعمنا! فجاء بذلك الجراب بعينه فنثره، ووضع صلّى اللَّه عليه وسلّم يده عليه وقال: كلوا باسم اللَّه! فأكلوا حتى نهلوا [ (4) ] ، ثم رفع مثل الّذي صبّ. ففعل ذلك ثلاثة أيام.
بعثة هرقل رجلا من غسان
وكان هرقل ملك الروم بعث رجلا من غسان إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إلى صفته، وإلى علامته، فوعى أشياء من حاله، وعاد إليه فذكر ذلك. فدعا هرقل الروم إلى التصديق به، فأبوا حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يوجف [ (5) ] . وكان الّذي خبّر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- عن تعبئته أصحابه، ودنوّه إلى أدنى الشام- باطلا [ (6) ] ، لم يرد ذلك هرقل ولا همّ به.
__________
[ (1) ] النطع: مفرش من الجلد.
[ (2) ] الحميت: زق من الجلد لا شعر عليه يكون فيه السمن ونحوه.
[ (3) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 3 ص 1018.
[ (4) ] كذا في (خ) ، و (الواقدي) ، وفي (ط) «حتى شبعوا» ، يقول محقق (ط) [ونهل لا يكون إلا للشراب يشربه الرجل حتى يروي، فهو كالشبع من الطعام] ونقول: النّهل من الطعام ما أكل، راجع (ترتيب القاموس) ج 4 ص 453.
[ (5) ] في (خ) «يرجف» ، أوجف خيله: أسرع به السير.
[ (6) ] في (خ) «باطل» .(2/61)
المشورة في السّير إلى القتال
وشاور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في التقدم، فقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه:
إن كنت أمرت بالمسير فسر! فقال: لو أمرت ما استشرتكم فيه.
قالوا: يا رسول اللَّه، إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث اللَّه لك في ذلك أمرا.
هبوب الريح لموت المنافق
وهاجت ريح شديدة بتبوك فقال عليه السلام: هذا لموت منافق عظيم النفاق، فلما قدموا المدينة وجدوا منافقا قد مات عظيم النفاق.
وأتي بجبنة فقالوا: هذا طعام تصنعه فارس، وإنا نخشى أن يكون فيه ميتة، فقال: ضعوا فيه السكين واذكروا اسم اللَّه.
النهي عن إخصاء الخيل
وأهدى إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من قضاعة فرسا، فأعطاه رجلا من الأنصار وأمر أن يربطه حياله، استئناسا بصهيله. فلم يزل كذلك حتى قدم عليه السلام المدينة ففقد صهيله، فسأل عنه صاحبه فقال: خصيته يا رسول اللَّه! فقال: مه! [ (1) ] فإن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: وقام بتبوك إلى فرسه الظّرب فعلّق عليه شعيرة ومسح ظهره [ (2) ] بردائه.
غزوة أكيدر بدومة الجندل
ثم كانت غزوة أكيدر بدومة الجندل، بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خالد بن الوليد
__________
[ (1) ] مه: اسم فعل أمر بمعني «اكفف» .
[ (2) ] في (خ) «مسح بظهره» .(2/62)
من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا- إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل في رجب، وهي على ليال من المدينة،
وكان أكيدر من كندة قد ملكهم، وكان نصرانيا. فقال خالد: يا رسول اللَّه: كيف لي به وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال ستجده يصيد البقر فتأخذه! وقال: فلا تقتله وأت [ (1) ] به إليّ، فإن أبى فاقتلوه!
فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له من الحرّ، ومعه امرأته- الرباب بنت أنيف بن عامر- وقينته تغنيه وقد شرب، فأقبلت البقر تحكّ بقرونها باب الحصن:
فأشرفت امرأته فرأت البقر فقالت: من يترك هذا؟! قال: لا أحد!! قال أكيدر: واللَّه ما رأيت جاءتنا ليلا بقر غير تلك الليلة! ولقد كنت أضمّر لها الخيل- إذا أردت أخذها- شهرا أو أكثر، ثم أركب بالرجال وبالآلة.
فنزل فأمر بفرسه فسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته معه: أخوه حسان ومملوكان له. فخرجوا من حصنهم بمطاردهم [ (2) ] ، وخيل خالد تنتظرهم: لا يصهل منها فرس ولا يتحرك، فساعة فصل [ (3) ] أخذته الخيل.
وقاتل حسّان حتى قتل عند باب الحصن: وهرب المملوكان ومن كان معهما.
واستلب خالد بن الوليد حسّانا قباء ديباج مخوّصا بذهب، فبعث [به] [ (4) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عمرو بن أميّة الضمريّ، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه، فقال عليه السلام: تعجبون من هذا! والّذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة أحسن من هذا!! وأسلم حريث [بن عبد الملك، أخو] [ (5) ] أكيدر، على ما في يده فسلم له.
فتح الحصن
وقال خالد لأكيدر: هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي رسول اللَّه على أن تفتح لي دومة؟ قال: نعم! فانطلق به في وثاق حتى أدناه من الحصن فنادى
__________
[ (1) ] في (خ) «ولا نقيله وأنت» .
[ (2) ] المطارد: جمع مطرد: وهو الرمح القصير.
[ (3) ] فصل: خرج.
[ (4) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 3 ص 1026.
[ (5) ] في (خ) «حريث أكيد» ، وهذه الزيادة للسياق من (ط) .(2/63)
أهله: افتحوا باب الحصن! فأرادوا ذلك، فأبى عليهم مضاد [ (1) ] أخوه، فقال أكيدر لخالد: تعلم واللَّه لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك، فحلّ عنى، ولك اللَّه والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتنى عل أهله. قال: فإنّي أصالحك [ (2) ] فقال أكيدر إن شئت حكّمتك وإن شئت حكمتني. قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت. فصالحه على ألفى بعير. وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح- على أن ينطلق به وأخيه إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيحكم فيهما حكمه.
فخلّى سبيله ففتح الحصن، ودخله خالد أوثق مضادا أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلام.
الرجوع بأكيدر إلى المدينة
ثم خرج قافلا إلى المدينة ومعه أكيدر ومضاد، وعلى أكيدر صليب من ذهب، وعليه الديباج ظاهر، ومع خالد الخمس مما غنموا، وصفيّ خالص لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. وكانت السّهمان خمس فرائض لكلّ رجل معه سلاح ورماح. فلما قدم بأكيدر، صالحه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الجزية. وخلى سبيله وسبيل أخيه، وكتب لهم أمانا وختمه بظفره: لأنه لم يكن في يده خاتم.
وأهدى [أكيدر] [ (3) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثوب حرير، فأعطاه عليا فقال. شقّقه خمرا [ (4) ] بين الفواطم [ (5) ] .
كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأكيدر
ونسخة الكتاب بعد البسملة: «هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لأكيدر،
__________
[ (1) ] في (ط) «مصاد» وفي (الواقدي) «مضاد» .
[ (2) ] بعد هذه العبارة وضع محقق (ط) عبارة [أهل الحصن قال أكيدر] وقال في الهامش: «هذه الزيادة يوجبها للسياق، ولم أجد الخبر» ونقول: «الخبر بتمامه بدون أية زيادة، في (المغازي للواقدي) ج 3 ص 1027، 1028» .
[ (3) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (4) ] خمر: جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة.
[ (5) ] الفواطم: أراد بهن فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت حمزة. (النهاية) ج 3 ص 458 والحديث في (سنن ابن ماجة) ج 2 ص 11899- باب لبس الحرير والذهب للنساء حديث رقم 3596.(2/64)
حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام. مع خالد بن الوليد في دومة الجندل وأكنافها: أن له [ (1) ] الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم. ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات [ (2) ] ، ولا يؤخذ منكم إلا عشر الثبات [ (3) ] . تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصّدق والوفاء، شهد اللَّه ومن حضر من المسلمين» .
عودة أكيدر
وعاد أكيدر إلى حصنه. وقيل: إنه أسلم ثم ارتد، فقتله خالد بن الوليد في الرّدّة. وقيل: لما منع في خلافة أبي بكر ما كان يؤديه إلى رسول اللَّه، أخرج من جزيرة العرب في دومة، فلحق بالجزيرة [ (4) ] ، وابتنى بها-[قرب عين التمر]- بناء سمّاه دومة.
قدوم يوحنا بن رؤبة وأهل أيلة
وخاف أهل أيلة [ (5) ] وتيماء، فقدم يوحنا بن رؤبة- ومعه أهل جرباء، وأذرح-، وعليه صليب من ذهب، وقد عقد ناصيته. فلما رأى النبيّ عليه
__________
[ (1) ] في (خ) ، وفي (الأموال) ، وفي (مكاتيب الرسول) «ولنا» وما أثبتناه من (ط) والضمير في قوله «له» أي لخالد بن الوليد، وبذلك يستقيم المعنى، وانظر أيضا (معجم البلدان) ج 2 ص 488.
معاني المفردات: الضاحي: البارز. الضحل: الماء القليل. البور: الأرض التي لم تستخرج.
المعامي: الأرض المجهولة. الأغفال: التي لا آثار فيها. الحلقة: الدروع. الحافر: الخيل والبراذين والبغال والحمير. الحصن: دومة الجندل. الضامنة: النخل الّذي معهم في الحصن. المعين: الظاهر من الماء الدائم. لا تعدل سارحتكم: أي لا يصدقها المصدّق إلا في مراعيها. لا تعد فاردتكم: أي لا تضم الفاردة إلى غيرها ثم يصدق الجميع فيجمع بين متفرق الصدقة. والسارحة: الماشية التي تسرح في المراعي. والفاردة: الزائدة على فريضة الصدقات.
[ (2) ] وفي (خ) «الثياب» ، وما أثبتناه من كتب السيرة.
[ (3) ] في (خ) «الثياب» - والثبات: النخل القديم «هامش (ط) » .
[ (4) ] الجزيرة: هي جزيرة أقور، بين دجلة والفرات، كذا في هامش (ط) ، وفي (معجم البلدان) ج 2 ص 488. «ولحق بالحيرة» وابتنى قرب عين التمر بناء وسماه دومة» .
[ (5) ] في (خ) «واثلة» .(2/65)
السلام، كفّر [ (1) ] وأومأ برأسه. فأومأ إليه: [أن] [ (2) ] ارفع رأسك! وكساه بردا، وأنزله عند بلال. فصالحهم عليه السلام، وقطع عليهم الجزية، فوضع على أهل أيلة ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة رجل. وكتب لهم بعد البسملة:
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأهل أيلة ويوحنا بن رؤبة
«هذه [ (3) ] أمنة من اللَّه ومحمد النبي رسول اللَّه ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة:
سفنهم وسيّارتهم [ (4) ] في البر والبحر، لهم ذمة اللَّه وذمة محمد النبي [ (5) ] ، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن [ (6) ] أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه، من برّ أو بحر. هذا كتاب جهيم بن الصّلت، وشرحبيل بن حسنة، بإذن رسول اللَّه» .
وقال الدولابيّ: أهدى أهل أيلة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم القلقاس فأكله وأعجبه، وقال: ما هذا؟ فقالوا: شحمة الأرض فقال: إن شحمة الأرض لطيّبة!
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل جرباء
وكتب لأهل جرباء:
«هذا كتاب من محمد النبي رسول اللَّه لأهل جرباء [وأذرح] [ (7) ] : أنهم آمنون بأمان اللَّه وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، واللَّه كفيل [عليهم] [ (8) ] » .
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل أذرح
ونسخة كتاب أذرح [ (9) ] بعد البسملة:
__________
[ (1) ] كفّر: طأطأ رأسه في خضوع وذلة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] في (خ) «هذا» .
[ (4) ] في (خ) «وسارتهم» .
[ (5) ] في (خ) «رسول اللَّه» .
[ (6) ] في (خ) «ومن» .
[ (7) ] زيادة من كتب السيرة.
[ (8) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (9) ] في (خ) «أدرج» .(2/66)
«من محمد النبي [رسول اللَّه] [ (1) ] لأهل أذرح: أنهم آمنون بأمان اللَّه وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، واللَّه كفيل عليهم بالنّصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ [إليهم] [ (2) ] من المسلمين من المخافة، والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم [ (3) ] آمنون حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه» [ (4) ] .
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهل مقنا
وكتب لأهل مقنا: أنهم آمنون بأمان اللَّه وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزوهم وربع ثمارهم.
وكان عبيد بن ياسر بن نمير [ (5) ] . ورجل من جذام قد قدما بتبوك وأسلما، فأعطاهما ربع مقنا مما يخرج من البحر ومن الثمر من نخلها. وربع الغزل [ (6) ] وأعطى عبيد بن ياسر مائة ضفيرة [يعني حلة] [ (7) ] لأنه كان فارسا، والجذاميّ راجلا، ثم قدما مقنا وبها يهود. فكانت تقوم على فرسه، وأعطاها ستين ضفيرة من ضفائر فرسه وأهدي عبيد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا عتيقا يقال له مراوح، وقال: إنه سابق! فأجرى عليه السلام الخيل بتبوك فسبق الفرس، ثم أعطاه المقداد بن عمرو.
تحريم النهبة
ومر عليه السلام بتبوك لحاجته، فرأى أناسا مجتمعين على بعير قد نحره رافع ابن مكيث الجهنيّ، وأخذ منه حاجته، وخلّى بين الناس وبينه، فأمر أن يردّ رافع ما أخذ الناس ثم قال: هذه نهبة لا تحلّ! قيل: يا رسول اللَّه! أن صاحبه أذن في أخذه! فقال وإن أذن في أخذه.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) وليس في كتب السيرة.
[ (2) ] زيادة من (ابن سعد) .
[ (3) ] في (خ) «فهم» .
[ (4) ]
قوله «وهم آمنون حتى يحدث محمد إليهم قبل خروجه،
فكأنه جعل الخيار لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نقض العهد أو تغيير بعض شرائطه إلى أن يخرج من تبوك لعدم الأمن من مكر اليهود وغوائلهم. (مكاتيب الرسول) ص 296.
[ (5) ] في الإصابة: (عبيد بن يسر) .
[ (6) ] في (خ) «المغزل»
[ (7) ] كذا في (خ) .(2/67)
أفضل الصدقة
وقال له رجل: أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: ظلّ خباء في سبيل اللَّه، أو خدمة خادم في سبيل اللَّه، أو طروقة فحل [ (1) ] في سبيل اللَّه.
وقال بتبوك: اقطعوا قلائد الإبل من الأوتار. قيل: يا رسول اللَّه! فالخيل؟
قال: لا تقلدوها بالأوتار [ (2) ] .
الحرس بتبوك
وكان قد استعمل على حرسه بتبوك عبّاد بن بشر. وكان يطوف في أصحابه بالعسكر مدّة إقامته عليه السلام. فسمع صوت تكبير من ورائهم في ليلة، فإذا هو سلكان بن سلامة خرج في عشرة على خيولهم يحرسون الحرس. فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
رحم اللَّه حرس الحرس في سبيل اللَّه، فلكم قيراط من الأجر على من حرستم من الناس جميعا أو دابة.
وفد بني سعد هذيم
وقدم من بني سعد هذيم قوم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنا قدمنا عليك وتركنا أهلنا على بئر لنا قليل ماؤها وهذا القيظ، ونحن نخاف إن تفرّقنا أن نقتطع، لأن الإسلام لم يفش حولنا، فادع اللَّه لنا في مائنا، فإنا إن روينا به فلا قوم أعز منّا، لا يقربنا أحد مخالف لديننا. فقال: ابغوني حصيّات، فدفع إليه ثلاث حصيات فعركهنّ بيده، ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيّات إلى بئركم فاطرحوا واحدة واحدة وسمّوا اللَّه. فانصرفوا، ففعلوا ذلك فجاشت بئرهم بالرواء [ (3) ] ، ونفوا [ (4) ] من قاربهم من المشركين ووطئوهم.
فما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من تبوك حتى أوطئوا من حولهم غلبة. ودانوا بالإسلام.
__________
[ (1) ] طروقة فحل: هي الناقة التي بلغت من السن أن يضربها الفحل للنتاج.
[ (2) ] كذا في (خ) ورواية (مسند أحمد) ج 344 «ولا تقلدوا الأوتار» بغير باء التعدية.
[ (3) ] الرواء: الكثير.
[ (4) ] في (خ) «ولعوا» .(2/68)
الصيد في تبوك
واستأذنه رافع بن خديج في الصيد فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن ذهبت فاذهب في عدة من أصحابك، وكونوا على خيل، فإنكم متفرقون من العسكر.
فانطلق في عشرة من الأنصار فيهم أبو قتادة- وكان صاحب طرد بالرّمح، وكان رافع راميا- وأتوا بخمسة أحمرة وظباء كثيرة. فأمر عليه السلام رافعا فجعل يعطى القبيلة بأسرها الحمار والظبي حتى فرّق ذلك، وصار لرسول اللَّه ظبي واحد، فطبخه، ودعا أضيافه فأكلوا.
آية الطعام يوم تبوك
وكان عرباض بن سارية يلزم باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحضر والسفر، فرجع ليلة من حاجته بتبوك- وقد تعشّى عليه السلام ومن معه من أضيافه، وهو يريد أن يدخل قبّته على أمّ سلمة- فلما رأى العرباض سأله عن غيبته فأخبره. ثم
جاء جمال بن سراقة وعبد اللَّه بن مغفّل المزني- وهم ثلاثتهم جياع-، فطلب عليه السلام في بيته شيئا يأكله فلم يجده، فنادى بلالا: هل من عشاء لهؤلاء النفر؟
فقال: لا، والّذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحمتنا [ (1) ] ! قال: انظر، عسى أن تجد شيئا! فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان حتى اجتمع سبع تمرات، فوضعها عليه السلام في صحفة وسمي اللَّه، ثم قال: كلوا باسم اللَّه! فأكلوا، وأحصى عرباض أربعا وخمسين تمرة أكلها يعدها ونواها في يده الأخرى، وأكل كلّ واحد من الآخرين خمسين تمرة، ورفعوا أيديهم، فإذا التمرات السبع [ (2) ] كما هي، فقال: يا بلال، أرفعها في جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد حتى نهل شبعا! فبات الثلاثة حول قبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقام يتهجّد على عادته، فلما صلّى بالناس الصّبح جلس بفناء قبته وحوله عشرة من الفقراء، فقال: هل لكم في الغداء؟ فقال عرباض في نفسه: أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر فوضع يده عليه في الصّحفة ثم قال: كلوا باسم اللَّه! فأكلوا حتى شبعوا، وإذا التمرات كما هي، فقال عليه السلام لولا أني أستحي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد
__________
[ (1) ] الجرب والحمت: أسماء أوعية من الجلد.
[ (2) ] في (خ) «فإذا السبع الثمرات» .(2/69)
المدينة من آخرنا! وأخذ التمرات فدفعها إلى غليّم، فولّي الغلام يلوكهنّ.
موت ذي البجادين
ومات بتبوك عبد اللَّه [بن عبد نهم المزني] [ (1) ] ذو البجادين [ (2) ] ، فنزل صلّى اللَّه عليه وسلّم قبره عشاء وهيأه لشقّه، وقد دلّاه أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما. ثم قال: اللَّهمّ إني قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه،
فقال عبد اللَّه بن مسعود: ياليتني كنت صاحب هذا اللحد.
مدة الإقامة بتبوك
وأقام عليه السلام بتبوك عشرين ليلة- وقيل بضع عشر ليلة- يصلّى ركعتين.
العسرة والجوع وآية النبوة
فلما أجمع المسير أرمل الناس [ (3) ] إرمالا شديدا، فشخص على ذلك، حتى استأذنوه أن ينحروا ركابهم فأذن لهم. فلقيهم عمر رضي اللَّه عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا، ودخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أذنت للناس في حمولتهم يأكلونها [ (4) ] ؟ فقال: شكوا إليّ ما بلغ منهم من الجوع فأذنت لهم، تنحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهر، هم قافلون إلى أهليهم! فقال:
يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يك في الناس فضل من ظهرهم يكن [ (5) ] خيرا، ولكن ادع بفضل أزوادهم، ثم اجمعها فادع اللَّه فيها بالبركة- كما فعلت في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا-، فإن اللَّه مستجيب لك. فنادى مناديه: من كان عنده فضل زاد فليأت به. وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمدّ الدقيق والسويق أو التمر، أو القبضة من الدقيق والسويق والتمر [ (6) ] ، والكسر، فيوضع كلّ صنف على حدة، وكلّ ذلك قليل. فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح من (ط) .
[ (2) ] لقب عبد اللَّه بن نهم.
[ (3) ] أرمل الناس: نفد زادهم.
[ (4) ] الحمولة من الإبل. التي تحمل الأثقال.
[ (5) ] في (خ) «يكون» .
[ (6) ] في (خ) «والسمن» وما أثبتناه من (ط) .(2/70)
والتمر. ثلاثة أفرق حزرا [ (1) ] ثم توضّأ وصلّى ركعتين ودعا اللَّه، ونادى مناديه هلمّوا [ (2) ] إلى الطعام خذوا منه حاجتكم! فأقبل الناس فجعل كلّ من جاء بوعاء ملأه، فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرة من خبز وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت أحدهما سويقا والآخر خبزا، وأخذت في ثوبي دقيقا ما كفانا إلى المدينة. فجعل الناس يتزودون حتى نهلوا من آخرهم، حتى كان آخر ذلك أن أخذت الأنطاع ونثر ما عليها،
فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول وهو واقف: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وقاه اللَّه حرّ النار.
خبر النهي عن الماء وخلاف المنافقين
وأقبل قافلا حتى كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة [ (3) ]- هو وادي المشقّق [ (4) ] ، وكان فيه وشل [ (5) ] يخرج منه في أسفله قدر ما يروي الراكبين والثلاثة- فقال: من سبقنا إلى ذلك الرمل [ (6) ] فلا يستقين منه شيئا حتى نأتي. فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير والحارث بن يزيد الطائيّ حليف بني عمرو بن عوف [ (7) ] ، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت، فقال عليه السلام: ألم أنهكم؟! ولعنهم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع منه في كفّه ماء قليل، ثم نضحه به، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو، فانخرق الماء [ (8) ] .
قال معاذ بن جبل: والّذي نفسي بيده، لقد سمعت له من شدة انخراقه مثل الصواعق! فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم
__________
[ (1) ] في (خ) «أفراق» والفرق: ستة عشر رطلا.
[ (2) ] كذا في (خ) ، والأولى: «هلمّ» ، راجع (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) للفيروزآبادي ج 5 ص 431.
[ (3) ] يقول محقق (ط) [لم أجد من سمي هذا الوادي «وادي الناقة» في غير هذا الكتاب] . ونقول:
راجع الخبر بتمامه في (المغازي) [ج 3 ص 1039] .
[ (4) ] في (خ) «القنق» .
[ (5) ] الوشل: الجبل أو الصخرة يقطر منه الماء قليلا.
[ (6) ] رواية (الواقدي) ص 1039 «إلى ذلك الوشل» .
[ (7) ] يقول محقق (ط) : [لم أجد ذكر الحارث بن يزيد هذا] ونقول: [انظر المرجع السابق] .
[ (8) ] انخرق الماء: اتسع واندفق.(2/71)
قال عليه السلام: لئن بقيتم- أو من بقي منكم- لتسمعنّ بهذا الوادي وهو أخصب ممّا [ (1) ] بين يديه وما خلفه، فقال سلمة بن سلامة بن وقش لوديعة بن ثابت:
ويلك [ (2) ] ! أبعد ما ترى شيء [ (3) ] ؟ أما تعتبر! فقال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا.
خبر أبي قتادة
ثم سار عليه السلام.
وعن أبي قتادة قال: بينما نحن في الجيش نسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلا- وهو قافل وأنا معه- إذ خفق خفقة [ (4) ] وهو على راحلته فمال على شقّه، فدنوت منه فدعمته [ (5) ] فانتبه، فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول اللَّه، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال: حفظك اللَّه كما حفظت رسوله، ثم سار غير كبير ثم فعل مثلها، فأدعمه فانتبه، فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس [ (6) ] ؟ فقلت: ما شئت يا رسول اللَّه.
التعريس، والنوم عن الصلاة
فقال: انظر من خلفك؟ فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم، فقلت، أجيبوا رسول اللَّه! فجاءوا فعرّسنا، ونحن خمسة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «ومعي إداوة فيها ماء: فنمنا فما انتبهنا إلا بحرّ الشمس، فقلت: إنا للَّه! فاتنا الصبح! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. لنغيظن الشيطان كما غاظنا! فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة، فقال: يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والرّكوة [ (7) ] فإن لهما شأنا، ثم صلّى بنا الفجر بعد طلوع الشمس، فقرأ بالمائدة.
__________
[ (1) ] في (خ) «مما» وهي رواية (الواقدي) .
[ (2) ] في (خ) «وتلك» .
[ (3) ] في (خ) «شيئا» .
[ (4) ] خفق خفقة: نام نومة خفيفة فحرك رأسه من مسّ النوم.
[ (5) ] دعمه: أسنده.
[ (6) ] التعريس: الاستراحة في السفر مع النوم القليل.
[ (7) ] الركوة: إناء صغير من جلد.(2/72)
ظمأ الجيش بتبوك
فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا. وذلك أنهما أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما [ (1) ] ، فنزلوا على غير ماء بفلاة [ (2) ] من الأرض.
فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلحق الجيش عند زوال الشمس- ونحن معه-، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والخيل والركاب عطشا.
آيات النبوة في الماء بتبوك
فدعا بالرّكوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى تروّوا وأرووا خيلهم وركابهم، وإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير- ويقال خمسة عشر ألف بعير- والناس ثلاثون ألفا، والخيل عشرة آلاف فرس: وذلك
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي قتادة احتفظ بالركوة والإداوة.
وكان في تبوك أربعة أشياء [ (3) ] : فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسير منحدرا إلى المدينة- وهو في قيظ شديد-
عطش العسكر بعد المرّتين الأوليين عطشا شديدا، حتى لا يوجد للشّفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأرسل أسيد بن حضير- في يوم صائف وهو متلثم- فقال: عسى أن تجد لنا ماء!
فخرج أسيد- وهو فيما بين الحجر وتبوك- فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء مع امرأة من بلي، فكلّمها وخبّرها خبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: هذا الماء، فانطلق به، فدعا فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالبركة، ثم قال: هلمّوا [ (4) ] أسقيتكم! فلم يبق معهم سقاء إلا ملئوه، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت. ويقال إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر بما [ (5) ] جاء به أسيد فصبّه [ (6) ] في قعب عظيم من عساس [ (7) ] أهل البادية، فأدخل فيه يديه وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلّى ركعتين، ثم رفع يديه مدا،
__________
[ (1) ] في (خ) «عليل عليهما» .
[ (2) ] في (خ) «بقلادة» ، والفلاة: الأرض الواسعة التي لا ماء فيها ولا أنيس.
[ (3) ] في (خ) «أشياء» وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] كذا في (خ) «والأولى «هلم» ، فبها نزل القرآن.
[ (5) ] في (خ) «بماء» .
[ (6) ] في (خ) «وصبه» .
[ (7) ] العساس: جمع عسّ: وهو قدح ضخم.(2/73)
ثم انصرف وإن القعب ليفور فقال للناس [ (1) ] زوّدوا، فاتسع الماء وانبسط للنّاس، حتى يصفّ عليه المائة والمائتان، فأرووا وإن القعب ليجيش بالرواء. ثم راح مبردا مترويا [ (2) ] من الماء.
كيد المنافقين بإلقاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الثنية
ولما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين، وائتمروا أن يطرحوه من عقبة، فلما بلغ تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فأخبر خبرهم، فقال للناس [ (1) ] : اسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي. وسلك صلّى اللَّه عليه وسلّم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق خلفه، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسير في العقبة، إذ سمع حسّ القوم قد غشوه فغضب وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع إليهم فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأتي حذيفة فسار به. فلما خرج من العقبة ونزل الناس قال: يا حذيفة، هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول اللَّه، عرفت راحلة فلان وفلان، وكان القوم متلثمين فلم أعرفهم من أجل ظلمة الليل.
التقاط ما سقط من المتاع
وكانوا قد أنفروا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسقط بعض متاع رحله، فكان [ (3) ] حمزة ابن عمرو الأسلميّ يقول: فنور لي في أصابعي الخمس [ (4) ] ، فأضاءت حتى كنّا نجمع ما سقط، السّوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شيء إلا جمعناه.
وكان [حمزة بن عمرو الأسلمي] [ (5) ] قد لحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعقبة.
أمر المنافقين
فلما أصبح [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (3) ] قال له أسيد بن الحضير: يا رسول اللَّه، ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل؟ فقال: يا أبا يحي! أتدري
__________
[ (1) ] في (خ) «فقال الناس» .
[ (2) ] من الإبراد والرّيّ.
[ (3) ] في (خ) «وكان» .
[ (4) ] في (خ) «الخمسة» .
[ (5) ] زيادة للبيان من (ط) .(2/74)
ما أراد البارحة المنافقون وما همّوا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع [ (1) ] راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني عن راحلتي؟
مشورة أسيد بن الحضير في قتل المنافقين
فقال أسيد: يا رسول اللَّه، فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كلّ بطن أن يقتل الرجل الّذي همّ بهذا، فيكون الرجل الّذي يقتله من عشيرته، وإن أحببت فنبّئني بهم، فو الّذي بعثك بالحق لا تبرح [ (2) ] حتى آتيك برءوسهم، وإن كانوا في النّبيت [ (3) ] كفيتهم، وأمرت سيد الخزرج فكفاك من ناحيته، فإن مثل هؤلاء لا يتركون يا رسول اللَّه! حتى متى نداهنم، وقد صاروا اليوم في القلة والذلة وضرب الإسلام بجرانه؟! فما تستبقي من هؤلاء؟
قال: يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمدا- لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين- وضع يده في قتل أصحابه! فقال: يا رسول اللَّه، وهؤلاء ليسوا بأصحاب! قال: أو ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا اللَّه؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم! قال: أوليس يظهرون أني رسول اللَّه؟
قال بلى، ولا شهادة لهم! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك.
عدة أهل العقبة أصحاب الكيد
وكان أهل العقبة الذين أرادوا ما أرادوا- ثلاثا عشر رجلا، قد سمّاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحذيفة وعمّار. وقيل:. ربعة عشر، وقيل: خمسة عشر، وقيل:
اثني عشر وهو الثّبت.
وقال ابن قتيبة [ (4) ] إن الذين همّوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن أبي [ابن سلول] ، وسعد بن أبي سرح: [وهو أبو الّذي كان يكتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان «غفور
__________
[ (1) ] الأنساع: قال في (النهاية) جمع نسعة، وهي سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره.
[ (2) ] في (خ) «وإن أجبت والّذي بعثك بالحق فنبئني بهم فلا تبرح» وهي رواية (الواقدي) وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] النبيت: لقب عمرو بن مالك جد الأوس.
[ (4) ] راجع كتاب (المعارف) لابن قتيبة بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة. طبعة دار المعارف بمصر ص 343 باب [أسماء المنافقين الذين أرادوا أن يلقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الثّنية في غزوة تبوك] ، وما بين الأقواس زيادات منه.(2/75)
رحيم» ، و «عزيز حكيم» ] ، وأبو حاضر الأعرابيّ، والجلاس بن سويد [ابن الصامت] ، ومجمّع بن جارية [ (1) ] ، ومليح التّيمي: [وهو] الّذي سرق طيب الكعبة وارتد [عن الإسلام] وانطلق فلا يدري أين ذهب، وحصين بن نمير:
[وهو الّذي أغار على تمر الصدقة فسرقه] ، وطعيمة بن أبيرق، ومرّة بن ربيع، [وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضرار، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة] [ (2) ] . واعترض عليه بأن ابن أبي لم يشهد تبوك، وأن أبا عامر فرّ عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل هذا.
أصحاب مسجد الضرار
وأقبل صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى نزل بذي أوان: - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار-، وقد كان جاءه أصحاب مسجد الضرار [ (3) ] ، وهم خمسة: معتّب بن قشير، وثعلبة ابن حاطب، وخذام [ (4) ] بن خالد، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبد اللَّه بن نبتل ابن الحارث،
فقالوا: يا رسول اللَّه، إنّا رسل من خلفنا من أصحابنا، إنا قد بنينا مسجدا لذي القلة والحاجة والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، ونحن نحب أن تأتينا فتصلّي فيه! وكان يتجهز إلى تبوك، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل-[أو كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (5) ] ، لو قدمنا- إن شاء اللَّه- أتيناكم فصلينا بكم فيه.
الوحي بخبر المسجد وإرصاده لأبي عامر الفاسق
فلما نزل بذي أوان أتاه [ (6) ] خبر المسجد [ (7) ] وخبر أهله من السماء، وكانوا إنما بنوه [يريدون ببنائه السّوأى، ضرارا لمسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكفرا باللَّه، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لأبي عامر الفاسق] [ (8) ] ، قالوا بينهم: يأتينا أبو عامر فيتحدث عندنا فيه، فإنّه يقول: لا أستطيع أن آتي مسجد بني عمرو بن عوف،
__________
[ (1) ] في (خ) «محمد بن جارية» ، وفي (ابن قتيبة) «مجمّع بن حارثة» .
[ (2) ] في (خ) «مكان ما بين القوسين «وأبو عامر» .
[ (3) ] ويسمى أيضا مسجد الشقاق.
[ (4) ] في (خ) «خدام» .
[ (5) ] زيادة من كتب السيرة.
[ (6) ] في (خ) «أتاه أتاه» مكررة.
[ (7) ] في (خ) «أتاه خبره» وما أثبتناه من (ط) أبين للسياق.
[ (8) ] زيادة للسياق من (تفسير الطبري) عند الآية 107/ التوبة.(2/76)
إنما أصحاب محمد يلحظوننا بأبصارهم. يقول اللَّه تعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني أبا عامر.
هدم المسجد وتحريقه
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عاصم بن عديّ العجلانيّ، ومالك بن الدّخشم السّالميّ، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم حرّقاه
فخرجا سريعين- على أقدامهما- حتى أتيا مسجد بني سالم [بن عوف، وهم رهط مالك ابن الدخشم] [ (1) ] ، فقال مالك لعاصم: انظرني [ (2) ] حتى أخرج [ (3) ] إليك بنار من أهلي فدخل إلى [ (4) ] أهله فأخذ سعفا من النخيل وأشعل فيه نارا، ثم خرجا يعدوان حتى انتهيا إليهم بين المغرب والعشاء وهم فيه، وإمامهم مجمّع بن جارية، فأحرقاه، - وثبت من بينهم زيد بن جارية بن عامر حتى احترقت أليته [ (5) ]-، وهدماه حتى وضعاه بالأرض.
هجران أرض المسجد وشؤم أخشابه
فلما قدم صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد يتخذه دارا، فقال:
ما كنت لأتخذ مسجدا قد نزل فيه ما نزل دارا! فأعطاه ثابت بن أقرم [ (6) ] وأخذ أبو لبابة بن عبد المنذر خشبا من مسجد الضّرار- كان قد أعانهم به، وكان غير مغموص عليه في النّفاق- فبني به منزلا له، فلم يولد له في ذلك البيت مولود، ولم يقف فيه حمام، ولم تحضن فيه دجاجة قط.
عدة من بني مسجد الضرار
وكان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر [ (7) ] رجلا: جارية بن عامر بن
__________
[ (1) ] زيادة من ابن هشام.
[ (2) ] أنطرني: انتظرني.
[ (3) ] في (خ) «حتى أخرج حتى أخرج» مكررة.
[ (4) ] في (خ) «فدخل على أهله» و «إلى أهله» حق المعنى.
[ (5) ] الألية: العجيزة.
[ (6) ] في (خ) «أقدم» .
[ (7) ] في (خ) «اثنا عشرة» .(2/77)
مجمّع [ (1) ] بن العطاف- وهو حمار الدار-، وابناه [ (2) ] مجمّع بن جارية، [ويزيد ابن جارية] [ (3) ] ، ووديعة بن ثابت، وعبد اللَّه بن نبتل [ (4) ] ونجاد بن عثمان، وأبو حبيبة بن الأزعر، ومعتّب بن قشير، وعباد بن حنيف وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد، وخزام بن خالد من بني أحد بني مرو بن عوف، بني أميّة بن زيد، وخزام [ (5) ] بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف، [ويخرج من بني ضبيهة] [ (6) ] .
من خبر المنافقين أصحاب المسجد
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: زمام خير من خزام، وسوط خير من نجاد: وكان عبد اللَّه بن نبتل يستمع حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم يأتي به المنافقين، فقال جبريل:
يا محمد! إن رجلا من المنافقين يأتيك فيستمع حديثك، ثم يذهب به إلى المنافقين، فقال: أيهم [ (7) ] هو؟ قال: الرجل الأسود ذو الشعر الكثير، الأحمر العينين، كأنهما قدران من صفر، كبده كبد حمار وينظر بعين شيطان.
ما نزل فيهم من القرآن
وفيهم نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [ (8) ] .
وأرادوا ببنائه: أنهم كان يجتمعون في المسجد فيتناجون فيما بينهم، ويلتفت
__________
[ (1) ] في (خ) «جارية بن عمرو بن العطاف» وما أثبتناه هو ما اتفقت عليه كتب التراجم والسير.
[ (2) ] في (خ) «وابنه» ، والمثنى أولى.
[ (3) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4.
[ (4) ] في (ابن هشام) ج 4 «ونبتل بن الحارث من ضبيعة» ولم يذكر «عبد اللَّه بن نبتل» .
[ (5) ] في (خ) «خدام» .
[ (6) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4، وبها تتم عدة من بنى مسجد الضرار.
[ (7) ] في (خ) «إنهم» .
[ (8) ] الآيتان 107، 108/ التوبة وفي (خ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً، إلى قوله تعالى:
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.(2/78)
بعضهم إلى بعض، فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم، وأرادوا مسجدا يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على قبل رأيهم. وكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا [ (1) ] ! وذلك أنّ أصحاب محمد يلحظوني وينالون مني ما أكره. فقالوا: نحن نبني مسجدا تتحدّث فيه عندنا.
المتخلفون عن تبوك
[وقد كان تخلف عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرّهط الثلاثة المسلمين من غير شك ولا نفاق:
كعب بن مالك الأنصاريّ السّلميّ، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أميّة الواقفيّ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة! فاعتزل المسلمون كلام أولئك النّفر الثلاثة] [ (2) ] . وأجمع كعب بن مالك أن يصدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
مقدمة إلى المدينة ودعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فقدم صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة في رمضان، فقال: الحمد للَّه على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجر وحسبة ومن بعدنا شركاؤنا فيه. فقالت عائشة رضي اللَّه عنها. أصابكم العسر [ (3) ] وشدّة السّفر، ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟ فقال: إن بالمدينة لأقواما ما سرنا من مسير، ولا هبطنا واديا إلا كانوا معنا، حبسهم المرض، أو ليس اللَّه يقول في كتابه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [ (4) ] ؟ فحن غزاتهم وهم قعدتنا [ (5) ] ، والّذي نفسي بيده، لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا!!.
دخول المسجد والنهي عن كلام المتخلفين
ولما قدم بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فجاء المخلفون
__________
[ (1) ] المربد: فناء وراء البيت، ربما حبست فيه الغنم فبناه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، ولكن عدو اللَّه الفاسق كان يسمى المسجد باسم ما كان عليه أولا.
[ (2) ] ما بين القوسين ساقط في (خ) وأثبتناه من (ابن هشام) ج 4 ص 129.
[ (3) ] في (خ) «أصابكم السفر» وهي رواية (الواقدي) عن عائشة. انظر (المغازي) ج 3 ص 1056، وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] من الآية 122/ التوبة.
[ (5) ] القعدة: جمع قاعد، وهو الّذي قعد عن الغزو.(2/79)
فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، - وكانوا بضعة وثمانين رجلا-، فقبل منهم علانيتهم وأيمانهم. وقيل: بل خرج [ (1) ] عامّة المنافقين إليه بذي أوان،
فقال: لا تكلموا أحدا ممن تخلف عنا، ولا تجالسوه حتى آذن لكم، فلم يكلموهم.
المعذرون وقبول أعذارهم
فلما قدم المدينة جاءه المعذرون يحلفون له، فأعرض عنهم وأعرض المؤمنون، حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه، فجعلوا يأتون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ويعتذرون بالحمّى والأسقام، فيرحمهم ويقبل علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدّقهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللَّه.
خبر كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين خلّفوا
وجاء كعب بن مالك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس في المسجد، فلما سلّم عليه تبسّم تبسم المغضب ثم قال: تعال! فجاء حتى جلس بين يديه، فقال:
ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك [ (2) ] ؟ فقال: بلى يا رسول اللَّه، واللَّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكن واللَّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضي عني، ليوشكنّ اللَّه أن يسخط عليّ، ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد على [ (3) ] فيه، إنّي لأرجو عقبى اللَّه فيه. لا واللَّه ما كان لي عذر! واللَّه ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال عليه السلام: أمّا أنت فقد صدقت! فقم حتى يقضى اللَّه فيك.
فقام ومعه رجال من بني سلمة، فقالوا له: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا! ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت بما اعتذر به المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللَّه لك. حتى كاد أن يرجع فيكذّب نفسه، فلقيه معاذ بن جبل وأبو قتادة [ (4) ] ، فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن اللَّه سيجعل لك فرجا ومخرجا إن شاء اللَّه تعالى، فأما هؤلاء المعذرون، فإن كانوا صادقين
__________
[ (1) ] في (خ) «بلخرج» .
[ (2) ] الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال.
[ (3) ] تجد علي: تغضب علي.
[ (4) ] في (خ) «وأبا قتادة» .(2/80)
فسيرى اللَّه ذلك ويعلم نبيه، وإن كانوا غير ذلك يذمهم أقبح الذم ويكذّب حديثهم فقال لهم: هل أتى هذا (أحد) [ (1) ] غيري؟ قالا: نعم! رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك! قال: من هما؟ قالا: مرارة بن ربيع العمري وهلال بن أمية الواقفيّ.
النهي عن كلام الثلاثة وتمام أخبارهم
ونهي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن كلام الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبهم الناس وتغيّروا لهم، حتى تنكّرت لهم أنفسهم، فلبثوا على ذلك خمسين ليلة. وقد قعد مرارة وهلال في بيوتهما، وكان كعب يخرج فيشهد الصلوات مع المسلمين ويطوف بالأسواق فلا يكلّمه أحد. ويأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وهو في مجلسه بعد الصلوات- فيسلم عليه ويصلى قريبا منه يسارقه النظر وهو معرض عنه.
وتسوّر يوما جدار حائط أبي قتادة- وهو ابن عمه وأحبّ الناس إليه- فسلم عليه فلم يردّ عليه السلام، فقال: يا أبا قتادة! أنشدك اللَّه! هل تعلمني أحبّ اللَّه ورسوله؟ فسكت، وكرر ذلك فقال في الثالثة: اللَّه ورسوله أعلم! ففاضت عيناه وانصرف: فلما مضت أربعون ليلة بعث إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وإلى هلال ابن أمية ومرارة بن ربيع- مع خزيمة بن ثابت يأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، فقال كعب لأمرأته: ألحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر ما هو قاض!!
هلال بن أمية
وبكي هلال بن أمية وامتنع عن الطعام وواصل اليومين والثلاثة ما يذوق طعاما، إلا أن يشرب الشّربة من الماء أو الضّيح [ (2) ] من اللبن، ويصلّى الليل ولم يخرج من بيته لأن أحدا لا يكلمه، حتى إن الولدان يهجرونه لطاعة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وجاءت امرأته فقالت: يا رسول اللَّه، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له، وأنا أرفق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أخدمه فعلت! قال:
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 4.
[ (2) ] في (خ) «النصيح» ، والضيح: اللبن يصب عليه الماء حتى برق.(2/81)
نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك، فقالت: يا رسول اللَّه، ما به من حركة إليّ!
واللَّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. وإن لحيته لتقطر دموعا الليل والنهار ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوّفت أن يذهب بصره.
التوبة على الثلاثة وما نزل من القرآن
فلما كملت خمسون ليلة- وهم كما قال اللَّه تعالي: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ- أنزل اللَّه توبتهم بقوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ (1) ] .
فأعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك عند الصّبح. فخرج أبو بكر رضي اللَّه عنه فأوفي على سلع [ (2) ] فصاح: قد تاب اللَّه على كعب بن مالك! يبشره. فأتاه حمزة بن عمرو فبشره، فنزع ثوبيه وكساهما إياه، ولا يملك غيرهما، واستعار ثوبين من أبي قتادة فلبسهما، ثم انطلق إلى رسول اللَّه والناس يهنئونه، وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره فلما أخبره سجد ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي- لما أصابه من الضعف والحزن والبكاء- حتى ركب حمارا. وبشّر مرارة بن ربيع بن سلكان بن سلامة بن وقش، فأقبل حتى توافدوا عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
انخلاع كعب من ماله
فقام طلحة بن عبيد اللَّه يتلقى كعب بن مالك. فلمّا سلّم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له- ووجهه يبرق من السرور-: أبشر بخير يوم مر عليك منذر ولدتك أمّك! فقال: أمن عندك يا رسول اللَّه أو من عند اللَّه؟ قال: من عند اللَّه، وتلا
__________
[ (1) ] الآيات 117- 119/ التوبة، وفي (خ) «الأنصار» الآيات.
[ (2) ] سلع: جبل بسوق المدينة.(2/82)
عليه الآيات [ (1) ] فقال كعب: يا رسول اللَّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة! فقال: أمسك عليك [بعض] [ (2) ] مالك فهو خير لك. قال: فالثلثان؟
قال: لا، قال: فالنصف [ (3) ] ؟ قال: لا، قال: فالثلث [ (4) ] ؟ قال: نعم.
ما نزل في المعذرين الكاذبين
ونزل في الذين كذبوا قوله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [ (5) ] .
توهم المسلمين انقطاع الجهاد
وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون. قد انقطع الجهاد! فجعل أهل القوى منهم يشتريها لفضل قوّته، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنهاهم عن ذلك وقال: لا تزال [ (6) ] عصابة من أمتي ظاهرين يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجّال.
ما نزل من القرآن في تبوك
وأنزل اللَّه في غزوة تبوك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [ (7) ] : الآيات من سورة «براءة» [ (8) ] . وكشفت «براءة» منهم ما كان مستورا، وأبدت أضغانهم ونفاق من نافق منهم.
__________
[ (1) ] أي الآيات 117- 119/ التوبة.
[ (2) ] زيادة لا بد منها من (ابن هشام) ج 4.
[ (3) ] في (خ) «بالنصف» .
[ (4) ] في (خ) «بالثلث» .
[ (5) ] الآيتان 95- 96/ التوبة، وفي (خ) .
[ (6) ] في (خ) «لا تزل» .
[ (7) ] الآية 38/ التوبة، وفي (خ) إلى قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ.
[ (8) ] براءة: اسم من أسماء سورة التوبة، وأكثرها نزل في تبوك.(2/83)
وفد ثقيف وإسلام عروة بن معتب
وفي شهر رمضان هذا قدم وفد ثقيف.
وكان عروة بن مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن عوف بن ثقيف الثّقفي- حين حاصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل الطائف- بجرش، ثم رجع بعد منصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقذف اللَّه في قلبه الإسلام. فقدم المدينة بعد رجوع أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما من الحج، فيما ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقيل: بل لحق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين مكة والمدينة فأسلم، وهو قول ابن إسحاق.
دعاؤه ثقيف
ثم إنه [ (1) ] أراد أن يرجع إلى ثقيف فيدعوهم إلى الإسلام، فقال له عليه السلام، إنهم إذا قاتلوك، قال: لأنا أحبّ إليهم من أبكار أولادهم! ثم استأذنه الثانية، ثم الثالثة، فقال: إن شئت فاخرج] [ (2) ] ، وعاد إلى الطائف عشاء، فدخل منزله ولم يأت الرّبة [ (3) ] ، فأنكر قومه ذلك، وأتوه منزله، فدعاهم إلى الإسلام فاتهموه وآذوه، وخرجوا يأتمرون ما يصنعون به. حتى إذا طلع الفجر أو في على غرفة فأذّن بالصلاة، فرماه وهب بن جابر- ويقال: أوس بن عوف من بني مالك- فأصاب أكحله فلم يرفأ دمه، ومات، فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتله قال:
مثل عروة مثل صاحب ياسين [ (4) ] ، دعا قومه إلى اللَّه تعالى فقتلوه!
ولحق ابنه أبو مليح وابن أخيه قارب بن الأسود برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلما، ونزلا على المغيرة بن شعبة.
مشورة ثقيف عمرو بن أمية
وكان عمرو بن أمية- أحد بني علاج- من أدهى العرب، وكان مهاجرا
__________
[ (1) ] في (خ) «وإنه» .
[ (2) ] ما بين القوسين زيادة من كتب السيرة.
[ (3) ] الربة: صخرة تعبدها ثقيف بالطائف.
[ (4) ] هو الّذي يقول اللَّه فيه وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، الآيات من 20- 30 سورة يس.(2/84)
لعبد ياليل بن عمرو، فمشى إليه ظهرا حتى دخل داره. [ثم أرسل إليه: إن عمرو ابن أمية يقول لك: أخرج إليّ! فقال عبد ياليل للرسول: ويلك! أعمرو أرسلك إليّ! قال: نعم، وها هو ذا واقفا في دارك! فقال: إن هذا شيء ما كنت أظنّه، لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك!] [ (1) ] فخرج إليه، فدعاه إلى الدخول في الإسلام، [وقال له: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة! إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم!] [ (1) ] فقال [عبد ياليل] [ (1) ] : واللَّه قد رأيت ما رأيت، فائتمرت ثقيف فيمن يرسلونه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفد ثقيف والأحلاف
حتى أجمعوا على أن يبعثوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير ورجلين [معه] [ (2) ] من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك، فبعثوا عبد ياليل [ومعه] الحكم بن عمرو ابن وهب بن معتّب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة- وهما من الأحلاف رهط عروة بن مسعود-، وبعثوا من بني مالك: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد ابن دهمان أخا بني يسار، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة بن ربيعة، ستة نفر، ويقال إن الوفد قد كانوا بضعة عشر رجلا فيهم: سفيان بن عبد اللَّه، والحكم ابن عمرو بن وهب.
مقدم الوفد إلى المدينة
فخرجوا- ورأسهم عبد ياليل- حتى قاربوا المدينة فإذا المغيرة بن شعبة يرعي في نوبته ركاب أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكانت رعيتها نوبا على أصحابه- فسلّم عليهم وترك الرّكاب عندهم، وخرج يشتدّ يبشر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقدومهم، فبشره ثم عاد إليهم.
فأتوا إلى المسجد فقال الناس: يا رسول اللَّه! يدخلون المسجد وهم مشركون! فقال: إن الأرض لا ينجسها شيء.
__________
[ (1) ] زيادات من (ابن سعد) ، و (ابن هشام) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (ط) .(2/85)
ضيافة الوفد
ثم أنزل المغيرة في داره، وأمر لهم عليه السلام بخيمات ثلاث من حرير فضربن في المسجد. فكانوا يستمعون القراءة بالليل وتهجّد الصحابة، وينظرون صفوفهم في الصلوات المكتوبات، ويرجعون إلى منزل المغيرة فيطعمون ويتوضءون. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يجري لهم الضيافة في دار المغيرة فكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى يأكل منه خالد بن سعيد بن العاص، فإنه كان يمشي بينهم وبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أسلموا.
بعض اعتراضهم
وكانوا يسمعون خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا يسمعونه يذكر نفسه فقالوا: يأمرنا نشهد أنه رسول اللَّه، ولا يشهد به في خطبته! فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قولهم قال: أنا أول من شهد أنّي رسول اللَّه، ثم قام فخطب، وشهد أنه رسول اللَّه في خطبته.
إسلام عثمان بن أبي العاص
فمكثوا أياما يغدون على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم- وكان أصغرهم- فكانوا إذا رجعوا وناموا بالهاجرة، خرج فعمد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسأله عن الدين، فاستقرأه القرآن وأسلم سرا وفقه وقرأ من القرآن سورا.
جدال الوفد في الزنا والربا والخمر
هذا
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعو الوفد إلى الإسلام، فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا [ (1) ] حتى نرجع إلى قومنا، فقال إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم. فقال عبد ياليل: أرأيت الزنا! فإنا قوم عزّاب [ (2) ] لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة [ (3) ] ! قال: هو مما حرّم اللَّه، قال:
__________
[ (1) ] قاضي مقاضاة: جعل بينه وبينه قضاء محكما.
[ (2) ] في (خ) «عذاب» .
[ (3) ] في (خ) «العدبة» ، والعزبة والعزوبة بمعنى.(2/86)
أرأيت الربا! قال: الربا حرام! قال فإن أموالنا كلها ربا! قال: لكم رءوس أموالكم، قال: أفرأيت الخمر! فإنّها عصير أعنابنا ولا بد لنا منها! قال: فإن اللَّه حرّمها. فخلا بعضهم ببعض، وقال عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال!! لا تصبر ثقيف عن الخمر ولا عن الزنا أبدا.
كتاب الصلح
ومشى خالد بن سعيد بن العاص بينهم وبين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كتبوا الكتاب- وكتبه خالد- وأسلموا، وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه، وصاموا بقية شهر رمضان.
فأمّر عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عثمان بن أبي العاص، وهو أصغرهم، وقال له: اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا: وخرجوا إلى الطائف.
هدم ربّة ثقيف
وسار في إثرهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الربة صنمهم، فدخل القوم الطائف، وكانت لهم مع قومهم أنباء حتى أسلموا. ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلا فهدموا الرّبّة، وانتزع كسوتها وما فيها من طيب وذهب وفضة.
فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ممّا وجد فيه أبا مليح بن عروة، وقارب بن الأسود، وناسا: وجعل في سبيل اللَّه وفي السّلاح منها.
ثم كتب لثقيف بعد البسملة:
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم لثقيف
«من محمد النبي رسول اللَّه [ (1) ] ، [هذا كتاب من النبي رسول اللَّه] [ (2) ] ، إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده لا يعضد [ (3) ] ، ومن وجد يفعل [شيئا] [ (4) ] من ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى [ذلك] [ (4) ] فإنه يؤخذ فيبلغ [به] [ (4) ] النبيّ محمد، وإن [ (5) ] هذا أمر النبي محمد رسول اللَّه.
وكتب خالد بن سعيد بأمر النبيّ
__________
[ (1) ] في (خ) «ورسول اللَّه» ، وما أثبتناه نص (ابن هشام) ج 4.
[ (2) ] هذا الكتاب، أعاد المؤلف صياغته من روايات مختلفة وكلها صحيحة إلا أنه نسي التنبيه على اختلاف الرواية.
[ (3) ] في (خ) «عضاة» .
[ (4) ] زيادات من (ابن هشام) ج 4.
[ (5) ] في (خ) «فإن» وهذا نص (ابن هشام) ج 4.(2/87)
محمد بن عبد اللَّه، فلا يتعده أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول اللَّه.
حمي وج
ونهي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن قطع عضاه [ (1) ] وجّ وعن صيده، فكان الرجل يؤخذ بفعل ذلك، فتنزع ثيابه. واستعمل على حمى وجّ سعد بن أبي وقّاص رضي اللَّه عنه.
إسلام كعب بن زهير
وفي هذه السنة كان إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزنيّ من، مزينة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر: وذلك أنه خرج هو وأخوه بجير إلى أبرق العراق، فتركه بجير في غنمه وقدم المدينة فأسلم، فقال كعب شعرا غضب منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهدر دمه. فكتب إليه بجير بعد عودة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف، وقال له: النّجاء النّجاء!! وما أراك أن تفلت، ثم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة وأنشده:
«بانت سعاد فقلبي اليوم متبول» .
.. القصيد.
خبره وخبر البردة
فكساه بردة كانت عليه. وقيل: أمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتله لأنه كان يشبّب بأمّ هانئ بنت أبي طالب، وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب، فذكر الحديث.
وقيل: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأي زهيرا وله مائة سنة فقال: اللَّهمّ أعذني من شيطانه! فما لاك بيتا حتى مات.
وقال ابن قتيبة [ (2) ] : أعطي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كعب بن زهير راحلة وبردا، فباع البرد من معاوية [ (3) ] بعشرين ألفا، فهو عند الخلفاء إلى اليوم.
__________
[ (1) ] في (خ) «عضاة» .
[ (2) ] في كتاب (الشعر والشعراء) ج 1 ص 162 طبعة ثالثة بتحقيق أحمد محمد شاكر سنة 1977.
[ (3) ] في (خ) «معونة» .(2/88)
الوفود
ولما أسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه لمعرفتهم أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول اللَّه ولا عداوته، فدخلوا في دين اللَّه أفواجا.
وفد بني أسد:
فقدم وفد بني أسد وقالوا: أتيناك قبل أن ترسل إلينا!! فأنزل اللَّه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [ (1) ] :
كتب ملوك حمير:
وقدمت كتب [ملوك] [ (2) ] حمير [ورسوله إليه بإسلامهم] [ (3) ] : الحارث بن عبد كلال [ونعيم بن عبد كلال] [ (2) ] ، والنعمان قيل ذي رعين، [ومعافر] [ (3) ] وهمدان، أقرّوا بالإسلام.
وفد بهراء:
وقدم وفد بهراء، فنزلوا على المقداد بن عمرو [البهرانيّ] [ (4) ] .
وفود أخر:
وقدم وفد بني البكاء، ووفد فزارة وفيهم خارجة بن حصين، ووفد ثعلبة، ووفد سعد بن بكر ووافدهم ضمام بن ثعلبة، ووفد الداريين من لخم وهم
__________
[ (1) ] آية 17/ الحجرات، وفي (خ) ، أَنْ أَسْلَمُوا، الآية.
[ (2) ] زيادة من ابن هشام.
[ (3) ] زيادة من ابن هشام، وفي (خ) «وقدمت كتب حمير مع الحارث بن عبد كلال» وهذا خطأ، فإن كلا من الحارث والنعمان لم يفدا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بل هو الّذي كتب إليهما،
وهذا هو نص كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهما «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول اللَّه إلى الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر، أما بعد ذلكم فإنّي أحمد إليكم اللَّه الّذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم وخبر ما قبلتم وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وإن اللَّه قد هداكم بهدايته إن أصلحتهم وأطعتم اللَّه ورسوله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس اللَّه وسهم نبيه وصفيه.
(راجع مكاتيب الرسول) ص 187. (وتاريخ الطبري) ج 3 ص 120، 121.
[ (4) ] زيادة للإيضاح من (ط) .(2/89)
عشرة [ (1) ] .
موت عبد اللَّه بن أبيّ
ومرض عبد اللَّه بن أبيّ في ليال من شوّال، ومات في ذي القعدة وكان مرضه عشرين يوما، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوده فيها، فلما دخل عليه وهو يجود بنفسه قال له: نهيتك عن حبّ يهود! فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فما نفعه؟:
ثم قال: يا رسول اللَّه، ليس بحين عتاب، هو الموت! فإن مت فاحضر غسلي، وأعطني قميصك أكفن فيه فأعطاه قميصه الأعلى- وكان عليه قميصان-، فقال:
الّذي يلي جلدك! فنزع قميصه الّذي يلي جلده فأعطاه ثم قال صلّ عليّ واستغفر لي.
حضور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ويروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم جاء بعد موته إلى قبره، فأمر به فأخرج، فكشف عن وجهه، ونفث عليه من ريقه وأسنده إلى ركبتيه، وألبسه قميصه الّذي يلي جلده:
قال الواقدي [ (2) ] : والأول أثبت أنه حضر غسله وكفّنه.
الصلاة عليه واعتراض عمر في ذلك
ثم
حمل إلى موضع الجنائز، فتقدم صلّى اللَّه عليه وسلّم ليصلي عليه، فلما قام وثب إليه عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه، تصلي على ابن أبي؟ فإنه قال يوم كذا وكذا [ (3) ] ، ويوم كذا وكذا، فعدّ عليه قوله: فتبسم وقال: أخّر عني يا عمر، فإنّي خيرت فاخترت، [وقد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] [ (4) ] ولو [ (5) ] أعلم أني إن زدت [ (6) ] على السبعين غفر له زدت عليه!! فصلّى عليه وأطال الوقوف.
__________
[ (1) ] في (خ) «ووفد الدواس من لخم وهم عشيرة» وما أثبتناه من (الطبري) ج 3 ص 122.
[ (2) ] (المغازي) ج 3 ص 1057.
[ (3) ] في (خ) «يوم كذا وكذا» وما أثبتناه من (الواقدي) .
[ (4) ] من الآية 80/ التوبة، وما بين القوسين زيادة للسياق من (ابن هشام) ج 4.
[ (5) ] في (ط) «فلو أعلم» وما أثبتناه من (خ) و (الواقدي) .
[ (6) ] في (ط) «إن زدت» وفي (خ) و (الواقدي) «إذا زدت» .(2/90)
ما نزل من القرآن في المنافقين
ونزل قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ* وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ* وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [ (1) ] فعرف عليه السلام في هذه الآية المنافقين فكان من مات منهم لم يصلّ عليه.
دفن عبد اللَّه واجتماع المنافقين
ثم حمل ابن أبيّ إلى قبره، وقد غلب عليه المنافقون كسعد بن حنيف، وزيد ابن الصليت وسلامة [ (2) ] بن الحمام [ (3) ] ونعمان بن أبي عامر [ (4) ] ، ورافع ابن حرملة [ (5) ] ، ومالك بن أبي نوفل [ (6) ] ، وداعس، وسويد، وهؤلاء أخابث المنافقين. وهم الذين كانوا يمرّضونه، وكان يقول: لا يليني غيرهم، ويقول لهم:
أنتم واللَّه أحب إليّ من الماء على الظمأ! ويقولون: ليت إنا نفديك بالأنفس والأموال والأولاد! فلما وقعوا على حفرته- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقف يلحظهم- ازدحموا على النزول في حفرته، وارتفعت الأصوات، حتى أصيب أنف داعس وسال الدم، وكان يريد أن ينزل فنحّي، وجعل عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه يذبهم ويقول:
اخفضوا أصواتكم عند رسول اللَّه، ونزل حفرته رجال من قومه أهل فضل وإسلام، وهم: ابنه [عبد اللَّه] [ (7) ] وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، وأوس ابن خولي حتى بنوا عليه. ودلاه عليهم [ (8) ] الصحابة وأكابر الأوس والخزرج، وهم قيام مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ودلاه عليه السلام بيديه إليهم، ثم قام على القبر حتى دفن،
__________
[ (1) ] الآيات 84- 87/ التوبة، وفي (خ) «علي قبره الآيتان» .
[ (2) ] يقول محقق (ط) «ولم أجد له خبرا ولا ذكرا» ، ونقول: «الخبر بتمامه في (المغازي للواقدي) ج 3 ص 1058، 1059 ومنه صوبنا بعض الأسماء والأنساب» .
[ (3) ] في (ط) «سلالة» .
[ (4) ] في (ط) «ونعمان بن أوفى بن عمرو» .
[ (5) ] في (ط) «حريملة» .
[ (6) ] في (ط) «قوقل» .
[ (7) ] زيادة من (ط) .
[ (8) ] في (خ) «عليه» وما أثبتناه من (ط) .(2/91)
وعزّى ابنه وانصرف. وحثا المنافقون عليه تراب قبره وهم يقولون: يا ليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك، وحثوا على رءوسهم التّراب.
ابنته وحزنها
ولم تتخلف امرأة من الأوس والخزرج حتى أتت ابنته جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبي، وهي تقول: وا جبلاه! وا ركناه! وا أبتاه! وما ينهاها أحد ولا يعيب عليها.
حج أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه
ثم كانت حجة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه سنة تسع [ (1) ] . وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- قبل أن ينزل عليه سورة براءة- قد عاهد ناسا من المشركين عهدا، فلبث بعد مرجعه من تبوك أربعة أشهر وحضر الحجّ، فكره أن يخرج ذلك العام حتى ينبذ [ (2) ] إلى كلّ من عهد إليه من المشركين عهده.
حج المشركين
وكانوا يحجون مع المسلمون، فإذا قال المسلمون «لبيك لا شريك لك» ، عارضهم المشركون بقولهم [لبيك] [ (3) ] «لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك» ، عالية أصواتهم ليغلّطوهم بذلك، ويطوف رجال منهم عراة، ليس على أحد منهم ثوب، يعظمون بذلك الحرمة [ (4) ] ، ويقول أحدهم: أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس عليّ شيء من الدنيا خالطة الظلم.
الخروج إلى الحج
فكره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يحج ذلك العام، فاستعمل أبا بكر على الحج، [وكتب له بنفس الحج، لأنه اشتكى أنه لا علم له بالقضاء] [ (5) ] . فخرج في
__________
[ (1) ] في (خ) «سنة سبع» وهو خطأ.
[ (2) ] نبذ العهد: نقضه.
[ (3) ] زيادة للسياق من (ط) .
[ (4) ] حرمة البيت الحرام.
[ (5) ] كذا في (خ) ، وليس لهذه العبارة أو لمعناها نظير في كتب السيرة.(2/92)
ثلاثمائة رجل. وبعث معه بعشرين بدنة قلدها النعال وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي اللَّه عنه خمس بدنات. وحج عامئذ عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه فأهدى بدنا.
وأهلّ أبو بكر رضي عنه من ذي الحليفة، وسار حتى [إذا] [ (1) ] كان بالعرج في السّحر سمع رغاء القصواء، فإذا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عليها فقال: قد استعملك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الحج؟ قال: لا ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس: فانبذ إلى كل ذي عهد عهده.
وقيل أدركه عليّ رضي اللَّه عنهما بضجنان.
صفة الحج
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عهد إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه أن يخالف المشركين:
فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمع قبل طلوع الشمس فخرج حتى أتى مكة وهو مفرد بالحجّ، فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، وطاف يوم التروية- حين زاغت الشمس- بالبيت سبعا، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة! وصلّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح بمنى، ولم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير، فانتهى إلى نمرة، فنزل في قبة من شعر فقال فيها وركب راحلته لما زاغت الشمس فخطب ببطن عرفة، ثم أناخ فصلّى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته فوقف بالهضاب من عرفة، فلما أفطر الصائم دفع يسير العنق [ (2) ] حتى نزل بجمع- قريبا من النار التي على قزح [ (3) ] فلما طلع الفجر صلّى الفجر ثم وقف، فلما أسفر دفع.
وجعل يقول في وقوفه: يا أيها الناس. أسفروا [ (4) ] ،
ثم دفع قبل الشمس. وكان يسير العنق [ (2) ] حتى انتهى إلى محسّر فأوضع راحلته، فلما جاز وادي محسّر عاد إلى مسيره الأول حتى رمي الجمرة راكبا بسبع حصيّات، ثم رجع إلى المنحر فنحر ثم حلق.
__________
[ (1) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (2) ] العنق: ضرب من السير سريع.
[ (3) ] قزح: هو القرن الّذي يقف الإمام عنده بالمزدلفة.
[ (4) ] أسفر بالفجر: أطال الصلاة حتى يتبين الفجر.(2/93)
قراءة براءة
وقرأ علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- يوم النحر عند الجمرة- براءة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
خطبة أبي بكر
وخطب أبو بكر رضي اللَّه عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته، وقام برمي الجمار ماشيا: ذاهبا وجائيا: فلما رمي يوم الصدر [ (1) ] وجاوز العقبة، ركب.
ويقال: رمي يومئذ راكبا، وصلّى بالأبطح الظهر والعصر، وصلّى بمكة المغرب والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلا إلى المدينة.
سيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل براءة
[وكانت سيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ]- قبل نزول براءة-: أن يقاتل من قاتله، ومن كفّ يده كف عنه، فنسخت براءة ذلك.
وكان العرب إذا تحالف سيدهم أو رئيسهم مع آخر لم ينقض ذلك إلا الّذي يحالف أو أقرب الناس قرابة به. وكان عليّ رضي اللَّه عنه هو الّذي عاهد المشركين، فلذلك بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببراءة.
ولما رجع المشركون من حجهم لام بعضهم بعضا وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش؟! فأسلموا.
وفود غسان وغامد ونجران
ثم كانت سنة عشر. وفيها كان وفد غسّان [ (3) ] ووفد غامد في شهر رمضان.
وقدم وفد نجران: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أرسل خالد بن الوليد إلى بني الحارث ابن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا، فإن أجابوا أقام فيهم
__________
[ (1) ] يوم الصدر: اليوم الرابع من أيام النحر.
[ (2) ] هذه العبارة مكررة في (خ) .
[ (3) ] في (خ) «غبشان» والتصويب من (الطبري) ج 3 ص 127.(2/94)
وعلمهم شرائع الإسلام، وإن أبوا قاتلهم، فخرج إليهم في ربيع الأول سنة عشر، ودعاهم فأجابوا وأسلموا، وأقام فيهم، وكتب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمه إسلامهم، ثم عاد ومعه وفدهم، فيهم: قيس بن الحصين بن زيد بن شداد ويقال له ابن ذي الغصّة [ (1) ] ، ويزيد بن عبد المدان، في آخرين، ثم عادوا في بقيّة شوال أو في ذي القعدة، وأمّر عليهم قيس بن الحصين.
إسلامهم وكتاب النبي لهم
وخرج إليهم عمرو بن حزم يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقاتهم. وكتب له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا ليحملهم على ما فيه، وبين فيه الأحكام والزكوات ومقادير الديات ويقال: كان ذلك في شهر ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى. فتوفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمرو بن حزم على نجران.
المباهلة
وأرسل نصارى نجران العاقب والسّيّد في نفر، فأرادوا مباهلة [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج ومعه فاطمة وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام، فلما رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على اللَّه أن يزيل الجبال لأزالها!! ولم يباهلوا، وصالحوه على ألفي حلة: ثمن كل حلة أربعون درهما، وجعل لهم عليه السلام ذمّة اللَّه وعهده على ألا يفتنوا عن دينهم، ولا يعشروا [ (3) ] ولا يحشروا [ (4) ] ، ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا [به] [ (5) ] .
سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن
ثم كانت سرية علي رضي اللَّه عنه في رمضان: بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى اليمن [حين] [ (6) ] تتام أصحابه، وعقد له لواء: أخذ عمامة فلفها مثنية مربعة وجعلها
__________
[ (1) ] في (خ) القصة.
[ (2) ] انظر آية المباهلة، وهي الآية رقم 16/ آل عمران، وأسباب النزول للواحدي ص 74.
[ (3) ] في (خ) «يعاشروا» ، ومعنى لا يعشروا: لا يؤخذ عشر أموالهم في التجارات.
[ (4) ] لا يحشروا: لا يندبون إلى المغازي.
[ (5) ] زيادة من (ط) عن (فتوح البلدان) ص 71.
[ (6) ] زيادة للسياق من (ط) .(2/95)
في رأس الرّمح، ثم دفعها إليه وقال: هاك هذا اللواء! وعممه عمامة ثلاثة أكوار، وجعل ذراعها بين يديه وشبرا من ورائه، ثم قال: هكذا العمّة [ (1) ] !
وصية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم له
وقال له: امض ولا تلتفت! فقال على: يا رسول اللَّه، كيف أصنع؟ قال:
إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك. فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منك قتيلا، فإن قتلوا منك قتيلا فلا تقاتلهم، تلوّمهم [ (2) ] حتى تريهم أناة. ثم تقول لهم: هل لكم أن تقولوا لا إله إلا اللَّه؟ فإن قالوا: نعم، فقل هل لكم إلى أن تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقل لهم: هل لكم إلى أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردّونها على فقرائكم؟ فإن قالوا: نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك، واللَّه لأن يهدي اللَّه على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت.
الغنائم
فخرج في ثلاثمائة فارس حتى انتهى إلى أرض مذحج ففرّق [ (3) ] أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، فكانت أول خيل دخلت إلى تلك البلاد، فجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب ثم لقي جمعا فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا ورموا بالنّبل والحجارة ساعة، فصفّ أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السّلمي، وحمل عليه بمن معه، قتل منهم عشرين رجلا، فانهزموا فلم يتبعهم، ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا. وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا: نحن على من وراءنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق اللَّه.
قسمة الغنائم إلا الخمس
وجمع على الغنائم وجزأها خمسة أجزاء. وأقرع عليها، وكتب في سهم منها، فخرج أوّل السهام سهم الخمس، ولم ينفل منه أحدا من الناس شيئا.
وكان من قبله من الأمراء يعطون أصحابهم- الحاضر دون غيرهم- من
__________
[ (1) ] العمة: هيئة الاعتمام، والعمامة: ما يعتمم به.
[ (2) ] تلومهم: انتظرهم.
[ (3) ] في (خ) «فعرق» .(2/96)
الخمس، ثم يخبر بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا يردّه عليهم، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى فيه رأيه، وهذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوافي الموسم، ونلقاه به فيصنع ما أراه اللَّه فانصرف راجعا، وحمل الخمس، وساق معه ما كان ساق.
وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة، ونعم مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم.
ثم تعجل، وجعل أبا رافع على أصحابه وعلى الخمس، وكان عليّ ينهاهم عن ركوب إبل الصدقة. فسأل القوم أبا رافع أن يكسوهم ثيابا يحرمون فيها، فكساهم ثوبين.
خبر أبي رافع في الإعطاء من الخمس
فلما خرج علي يتلقاهم- وهم داخلون مكة ليقدم بهم- رأى عليهم الثياب فعرفها، فقال لأبي رافع: ما هذا! فأخبره، فقال: قد رأيت إبائي عليهم ذلك، ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم؟! وجرّد بعضهم من ثوبيه.
فلما قدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم شكوه، فدعاه [ (1) ] وقال. ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتهم: قسمت عليهم ما غنموا. وحبست الخمس حتى نقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أمورا: ينفلون من أرادوا من الخمس، فأردت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك! فسكت عليه السلام.
قدوم علي في الحج
وكان عليّ رضي اللَّه عنه قد كتب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما ظهر علي عدوّه- مع عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المزنيّ- بما كان من لقاء القوم وإسلامهم، فأمر أن يوافيه في الموسم-، فعاد إليه عبد اللَّه.
وقدم عليّ من اليمن فوجد فاطمة عليها السلام ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أمرني بهذا أبي، فذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم محرّشا عليها [ (2) ] ، مستفتيا في الّذي ذكرت، وأخبره، فقال: صدقت! ماذا قلت
__________
[ (1) ] في (خ) «فدعاهم» .
[ (2) ] التحريش: الإغراء والتهييج بذكر ما يوجب العتاب.(2/97)
حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللَّهمّ إني أهلّ بما أهلّ به رسولك! قال: فإن معي فلا تحلّ، وكان الهدي الّذي جاء به عليّ رضي اللَّه عنه والّذي ساقه النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة مائة بدنة، فأشرك عليا في هديه [ (1) ] .
وفد الأزد
فيها قدم [ (2) ] وفد الأزد، ورأسهم صرد بن عبد اللَّه في بضعة عشر رجلا فأسلم، وأمّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد المشركين فسار إلى مدينة جرش، فحصر خشعم نحو شهر، ثم رجع كأنه منهزم، فخرجوا إليه، فعطف عليهم فقتلهم أشد قتل. وكان أهل جرش قد بعثوا رجلين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظران حاله، فأخبرهما بما كان من أمر صرد بن عبد اللَّه، فرجعا، فوجدا أصحابهما قد أصيبوا في تلك الساعة من ذلك اليوم الّذي ذكر صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها حالهم.
فقدم، وفد جرش فأسلموا، وحمي لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حول القرية للفرس والراحلة والمثيرة. والمثيرة: بقرة الحرث [ (3) ] [لأنها تثير الأرض] [ (4) ] .
وفد مراد
وقدم وفد مراد مع فروة بن مسيك بن الحارث بن سلمة بن الحارث بن كريب الغطيفي ثم المرادي [ (5) ] مفارقا لملوك كندة، فاستعمله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على مراد وزبيدة ومذحج كلّها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة. وقيل:
كان إسلام فروة سنة تسع.
وفد فروة الجذامي
وقدم وفد فروة بن عمرو بن النّافرة الجذامي، عامل الروم على فلسطين وما حولها وعلى من يليه من العرب، وكان موضعه بميعان من أرض فلسطين، وكتب بإسلامه وأهدى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بغلة بيضاء، فطلبه الروم وحبسوه ثم قتلوه.
__________
[ (1) ] في (خ) «هدية» .
[ (2) ] في (خ) «تقدم» .
[ (3) ] في (خ) «والمثرة بقر الحارث» .
[ (4) ] زيادة للبيان من (ط) .
[ (5) ] راجع (عيون الأثر) ج 2 ص 239.(2/98)
وفد زبيد
وقدم وفد زبيد مع عمرو [ (1) ] بن معديكرب بن عبد اللَّه بن عمر عصم [ (2) ] ابن عمرو بن زبيد، ثم عاد. وقيل: كان إسلامه سنة تسع.
وفد عبد القيس
وقدم وفد عبد القيس، وفيهم الجارود بن عمرو بن حنش [ (3) ] بن يعلي، وكان نصرانيا فأسلم، وأسلم من معه.
وفد بني حنيفة
وقدم وفد بني حنيفة، وفيهم مسيلمة الكذّاب بن ثمامة بن كبير بن حبيب ابن الحارث بن عبد الحارث بن عدي، فنزل دار ابنة الحارث الأنصاريّة، وعاد إلى اليمامة فتنبأ وادعى أنه شريك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في النبوة، فاتبعه بنو حنيفة.
وفد كندة
وقدم وفد كندة- وهم ستون راكبا- مع الأشعث بن قيس بن معديكرب ابن معاوية بن جبلة [ (4) ] بن عديّ بن ربيعة بن معاوية [الأكرمين] [ (5) ] بن الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرنّع [واسمه عمرو] [ (5) ] ابن معاوية بن ثور بن عفير [وثور بن عفير هو كندة، لأنه كند أباه النعمة] [ (6) ]
ابن عدي بن مرّة بن أرد بن زيد الكندي، فقال. نحن بنو آكل المرار. وأنت يا محمد ابن آكل المرار! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفوا أمّنا ولا ننتفي من أبينا [ (7) ] .
وفد محارب
وقدم وفد محارب، ووفد الرّهاويين- وهم بطن من مذحج- ينسبون إلى
__________
[ (1) ] في (خ) «عمر» .
[ (2) ] في (خ) «حطم» .
[ (3) ] في (خ) «خنش» .
[ (4) ] في (خ) «حبله» .
[ (5) ] زيادة من (ط) عن (أسد الغابة) .
[ (6) ] زياد من (ط) عن (أسد الغابة) .
[ (7) ] في (خ) «لا يقفوا أمنا، ولا نتبه من أبينا» .(2/99)
رهاء [بفتح الراء] بن منبّه بن حرب بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان:
وفد عبس والصّدف وخولان وبني عامر بن صعصعة
ووفد عبس، ووفد الصدف، ووفد خولان، وكانوا عشرة، ووفد بني عامر ابن صعصعة، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وجبّار بن سلمى بن مالك ابن جعفر، فأراد عامر الغدر برسول اللَّه [ (1) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له قومه. إن الناس قد أسلموا فأسلم! فقال: لا أتبع عقيب هذا الفتى! ثم قال لأربد: إذا قدمنا عليه فإنّي شاغله عنك فاعله بالسيف من خلفه،
فلما قدموا جعل عامر يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [يقول: يا محمد خالّني! قال: لا واللَّه حتى تؤمن باللَّه وحده. قال:
يا محمد! خالني! وجعل يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينتظر من أربد ما كان من أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد، قال: يا محمد! خالّني! قال: لا، حتى تؤمن باللَّه وحده لا شريك له. فلما أبى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أما واللَّه] [ (2) ] لأملأنها عليك خيلا ورجلا! فلمّا ولّي قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اكفني عامرا!
فلما خرجوا قال عامر لأربد. لم لا قتلته؟ قال: كلما هممت بقتله دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟ فأرسل اللَّه في طريقهم على عامر الطاعون، فقتله وهو في بيت امرأة سلوليّة حتى مات، وأرسل اللَّه على أربد صاعقة فأحرقته.
وفد طيِّئ
وقدم وفد طيِّئ: فيهم زيد الخيل بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي فأسلم، وسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم زيد الخير، وقال: ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصّفة غيرك. وأقطع له أرضين في ناحيته، وأسلم قومه.
كتاب مسيلمة الكذاب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكتب مسيلمة الكذاب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من مسيلمة رسول اللَّه إلى
__________
[ (1) ] في (خ) «يا رسول اللَّه» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (ط) .(2/100)
محمد رسول اللَّه، أما بعد، فإنّي قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون» .
كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليه
فكتب إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد البسملة: «من محمد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» .
وقدم بكتاب مسيلمة رجلان، فسألهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عنه فصدّقاه، فقال أما واللَّه لولا أن الرّسل لا تقتل لقتلتكما.
وقيل: إن دعوى مسيلمة، والأسود العنسيّ، وطليحة النبوّة، إنما كانت بعد حجة الوداع. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا قدم الوفود لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك.
البعثة على الصدقات
وفيها بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أمراءه إلى الصدقات، فبعث المهاجر بن أبي أميّة ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشي إلى صنعاء، وبعث زياد بن لبيد ابن ثعلبة بن سنان بن عامر بن أمية بن بياضة الأنصاريّ البياضيّ إلى حضرموت، وبعث عديّ بن حاتم بن عبد اللَّه [ (1) ] بن سعد بن حشرج بن امرئ القيس ابن عدي (ابن أخزم بن أبي أخزم) [ (2) ] بن ربيعة بن جرول بن نعل بن عمرو ابن الغوّث بن طيِّئ بن أدد بن زيد بن كهلان الطائيّ على صدقة طيِّئ وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات حنظلة، وجعل الزّبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي، وقيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن الحارث (وهو مقاعس) ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم المنقريّ التميميّ على صدقات سعد ابن زيد مناة، وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين.
__________
[ (1) ] في (خ) «بن عبد اللَّه بن اللَّه» مكررة.
[ (2) ] زيادة من نسبه من (ط) عن (أسد الغابة) .(2/101)
بعثة علي رضي اللَّه عنه إلى نجران
وبعث عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلى نجران على صدقاتهم، فقدم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في حجّه، وأحرم كإحرامه، وذكر بعضهم أن عليا رضي اللَّه عنه سار في هذه السنة إلى اليمن- بعد توجّه خالد بن الوليد إليها- فقرأ على أهل اليمن كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسلمت كلها في يوم واحد فكتب بذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: السلام على همدان، وكرر ذلك ثلاثا، ثم تتابع [ (1) ] أهل اليمن على الإسلام، فلما كتب ذلك عليّ سجد صلّى اللَّه عليه وسلّم شكرا للَّه تعالى.
وأنه بعثه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم، فلقيه عليه السلام بمكة في حجّة الوداع ولم يذكر الواقديّ في مغازيه بعثة عليّ رضي اللَّه عنه سوى إلى اليمن كما تقدم- في رمضان.
حجة الوداع
ثم كانت حجة الوداع، ويقال حجّة الإسلام، وحجّة البلاغ، وحجّة التمام، وقد أجمع صلّى اللَّه عليه وسلّم الخروج في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره [ (2) ] ، وقد أسلمت جزيرة العرب ومن شاء اللَّه من أهل اليمن- فصلّى الظهر بذي الحليفة، وأذّن في الناس بالحجّ، فقدم المدينة بشر كثير يريدون أن يأتمّوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويعملوا بعمله [ (3) ] .
المسير وصفه إحرامه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وسار من المدينة- متدهّنا [ (4) ] ومترجّلا [ (5) ] [متجردا في ثوبين صحاريّين: إزار ورداء، وذلك] [ (6) ] يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة-، ومعه أزواجه، وأهل بيته، وعامة المهاجرين والأنصار ومن شاء من قبائل العرب وأفناء [ (7) ] الناس.
وقال ابن حزم: الصحيح أنه خرج لستّ بقين (من ذي القعدة) ، فصلّى
__________
[ (1) ] في (خ) «تبايع» .
[ (2) ] في (خ) «مهاجرة» .
[ (3) ] في (خ) «ويعملون بعمله» .
[ (4) ] متدهنا: بالطيب والزيت.
[ (5) ] مترجلا: مسرحا شعره وممشطه.
[ (6) ] ما بين القوسين زيادة من (ابن سعد) ج 2.
[ (7) ] الأفناء: الأخلاط.(2/102)
الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم عند صلاة الظهر من يومه ذلك. ويقال: انتهى إلى ذي الحليفة عند الظهر فبات لأن تجتمع إليه أصحابه والهدي، حتى أحرم عند الظهر من الغد في ثوبين صحاريين. إزار ورداء أبدلها بالتنعيم بثوبين من جنسهما.
وقيل صلّى الظهر يوم الخميس لستّ بقين من ذي القعدة، ثم خرج فصلّى العصر بذي الحليفة، واجتمع إليه نساؤه وحجّ بهنّ جميعا في الهوادج.
فلما انتهى إليه اجتماع إليه اجتماع أصحابه والهدي، دخل مسجد ذي الحليفة بعد أن صلّى الظهر فصلّى ركعتين، ثم خرج فدعا بالهدي فأشعره [ (1) ] في الجانب الأيمن بيده، ووجّهه إلى القبلة، وقلده نعلين نعلين [ (2) ] ثم ركب ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم. وقيل: أشعر هديه وقلده قبل أن يحرم. والقول- أنه لم يبت- أثبت.
الهدي
وساق مائة بدنة، ويقال: إنه أمر أن يشعر ما فضل من البدن ناجية بن جندب واستعمله على الهدي وكان مع ناجية بن جندب فتيان من أسلم، وكانوا يسوقونها سوقا، يتبعون بها الرّعي، وعليها الجلال [ (3) ] ،
فقال ناجية بن جندب: يا رسول اللَّه، أرأيت ما عطب [ (4) ] منها كيف أصنع به؟ قال تنحره، وتلقي قلائده في دمه.
ثم تضرب به صفحته اليمني [ (5) ] ، ثم لا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك.
وأمر من كان معه هدي أن يهلّ كما أهلّ، وسار، وبين يديه وخلفه وعن يمينه وعن شماله أمم لا يحصون كثرة: كلهم قد قدموا ليأتموا [ (6) ] به صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ويقال: كان معه تسعون ألفا، ويقال: مائة وأربعة عشر ألفا، ويقال: أكثر من ذلك.
ومرّ صلّى اللَّه عليه وسلّم برجل يسوق بدنة، فقال: أركبها، ويلك! قال: إنها بدنة؟ قال:
أركبها! وكان يأمر المشاة أن يركبوا على بدنه.
__________
[ (1) ] أشعر البدنة: أعلمها بشق جلدها ليعرف أنها هدي.
[ (2) ] قلد البدنة: علق في عنقها قلادة من نعل ونحوه ليعلم أنها هدي.
[ (3) ] الجلال: جمع جل، وهو ما تلبسه البدن لتصان به.
[ (4) ] عطب البعير: اعترته آفة تمنعه من السير.
[ (5) ] الصفحة: الجانب.
[ (6) ] في (خ) «ليابوا» .(2/103)
إحرام عائشة
وطيّبته عائشة رضي اللَّه عنها لإحرامه بيدها، وأحرمت وتطيبت، فلما كانوا بالقاحة [ (1) ] سال من الصفرة على وجهها [ (2) ] ،
فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء [ (3) ] .
الصلاة
وكان يصلّى بين مكة والمدينة ركعتين أمثالا لا يخالف إلا اللَّه. فلما قدم مكة صلّى بهم ركعتين ثم سلم وقال: أتمّوا صلاتكم يا أهل مكة فإنّا سفر.
الإهلال بالعمرة والحج
وقد اختلف فيما أهلّ به: فعن أبي طلحة، أنه قرن مع حجّته عمرة.
وعن حفصة رضي اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه، تأمر الناس أن يحلوا ولم تحلّ أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبّدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحلّ حتى أنحر هديي.
وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: أهلّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالعمرة وساق الهدي.
وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أفرد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحجّ:
وقد صحّ أنه أتاه آت من ربّه في وادي العقيق،
يأمره عن ربّه أن يقول في حجته: هذه حجّة في عمرة، ومعنى هذا أنّ اللَّه أمره بأن يقرن الحج مع العمرة. فأصبح فأخبر الناس بذلك، وطاف على نسائه بغسل واحد، ثم اغتسل وصلّى عند المسجد ركعتين، وأهل بحجة وعمرة معا روي ذلك عنه ستة عشر صحابيا، وعنهم ستة عشر تابعيا.
منازل السير
وأصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الأحد بيلملم، ثم راح فتعشّى بشرف السّيالة [ (4) ] وصلّى
__________
[ (1) ] القاحة أو الفاجة: مدينة على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا بنحو ميل (معجم البلدان) ج 4 ص 290.
[ (2) ] يريد صفر الطيب لما فيه من الزعفران.
[ (3) ] في (خ) «شقير» ونص (ابن سعد) : «إن لونك الآن يا شقراء لحسن» .
[ (4) ] شرف السيالة: موضع بين ملل والروحاء. (معجم البلدان) ج 3 ص 336.(2/104)
المغرب والعشاء، ثم صلّى الصّبح بعرق الظبية، بين الرّوحاء والسيالة، وهو دون الروحاء ثم نزل الروحاء فإذا بحمار عقير فقال: دعوه حتى يأتي صاحبه. فأهداه له صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر به أبا بكر رضي اللَّه عنه فقسمه بين الصحابة. وقال: صيد البرّ لكم حلال إلا ما صدتم أو صيد لكم. ثم راح من الرّوحاء فصلّى العصر بالمنصرف، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشى وتعشى به، وصلّى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج.
خبر غلام أبي بكر الّذي أضل بعيره
وكان أبو بكر رضي اللَّه عنه قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة: إن عندي بعيرا نحمل عليه زادنا، فقال: فذاك إذا!
فكانت زاملة [ (1) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر رضي اللَّه عنه واحدة. وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بزاد، دقيق وسويق، فجعل على بعير أبي بكر رضي اللَّه عنه. فكان غلامه يركب عليه عقبة [ (2) ] ، فلما كان بالأثاية عرّس الغلام وأناخ بعيره، فغلبته عيناه فقام البعير يجر خطامه آخذا في الشّعب، وقام الغلام فلزم الطريق- يظن أنه سلكها- وهو ينشده، فلا يسمع له بذكر. ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أبيات بالعرج، فجاء الغلام، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه أين بعيرك؟
قال: ضلّ منى! قال: ويحك! لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر [ (3) ] ، ولكن رسول اللَّه وأهله! فلم ينشب [ (4) ] أن طلع به صفوان بن المعطل وكان على ساقة [ (5) ] الناس- فأناخه، وقال لأبي بكر رضي اللَّه عنه: انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فنظر فقال ما نفقد شيئا إلا قعبا كنا نشرب به! فقال الغلام: هذا القعب معي! فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه أدى اللَّه عنك الأمانة!.
رواية أخرى في خبر غلام أبي بكر
وروي أنه عليه السلام لما نزل بالعرج جلس وأبو بكر إلى جنبه، وعائشة إلى جنبه الآخر وأسماء بجنب أبي بكر رضوان اللَّه عليهم،
وأقبل الغلام فقال له
__________
[ (1) ] الزاملة: البعير الّذي حمل عليه الزاد والمتاع.
[ (2) ] العقبة: مقدار فرسخين.
[ (3) ] في (خ) «لهان عن الأمر» .
[ (4) ] لم ينشب: ونشبه الأمر، لزمه (ترتيب القاموس) ج 4 ص 370.
[ (5) ] الساقة: المؤخرة.(2/105)
أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضلني! فقام إليه فضربه ويقول: بعير واحد يضل عنك؟! فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبسّم ويقول: ألا ترون هذا المحرم وما يصنع؟! ولم ينهه.
طعام آل نضلة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخبّر آل نضلة الأسلميون أن زاملة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضلت، فحملوا حفنة من حيس [ (1) ] ، فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يديه،
فقال: هلمّ يا أبا بكر! فقد جاءك اللَّه بغداء طيب! وجعل أبو بكر رضي اللَّه عنه يغتاظ على الغلام، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هوّن عليك! فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك! فقد كان الغلام حريصا على ألا يضلّ بعيره. وهذا خلف مما كان معه.
فأكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأهله وأبو بكر، وكلّ من كان يأكل مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى شبعوا.
مجيء البعير، وبعير سعد بن عبادة
ويجيء [ (2) ] سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه وابنه قيس بن سعد بزاملة حتى يجدان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا قد أتى اللَّه بزاملته،
فقال سعد: يا رسول اللَّه! بلغنا أن زاملتك أضلت الغلام، وهذه زاملة مكانها. فقال: قد جاء اللَّه بزاملتنا، فارجعا بزاملتكما بارك اللَّه عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ فقال سعد: يا رسول اللَّه! المنّة للَّه ولرسوله، واللَّه يا رسول اللَّه، للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الّذي تدع! قال صدقتم يا أبا ثابت! أبشر فقد أفلحت إن الأخلاف [ (3) ] بيد اللَّه، فمن شاء أن يمنحه خلفا صالحا منحه، ولقد منحك اللَّه خلفا صالحا، فقال سعد: الحمد للَّه، هو فعل ذلك.
سيادة بيت سعد بن عبادة
قال ثابت بن قيس بن شمّاس: يا رسول اللَّه: إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا، والمطعمون في المحل منّا [ (4) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الناس معادن:
__________
[ (1) ] الحيس: الخلط، وتمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر منه نواه وربما جعل في سويق. (ترتيب القاموس) ج 1 ص 749.
[ (2) ] في (خ) «وجاء» ، والفعل المضارع أنسب لسياق العبارة.
[ (3) ] الأخلاف: جمع خلف، وهو العوض.
[ (4) ] المحل: الشدة.(2/106)
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لهم ما أسلموا عليه [ (1) ] .
احتجام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسيره
واحتجم صلّى اللَّه عليه وسلّم بلحى جمل [ (2) ]- وهو محرم- في وسط رأسه ونزل السقيا يوم الأربعاء وأصبح بالأبواء، فأهدى له الصّعب بن جثامة بن قيس الليثي عجز حمار يقطر دما، فرده وقال، أنا محرم. وأكل بالجحفة ثم راح منها، وكان يوم السبت بقديد.
خبر المرأة وصغيرها
ومرّ يومئذ بامرأة في محفتها [ (3) ] ، ومعه ابن لها صغير، فأخذت بعضده فقالت: يا رسول اللَّه، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر!!
وكان يوم الأحد بعسفان. ثم راح. فلما كان بالغميم اعترض المشاة، فصفّوا صفوفا فشكوا إليه المشي، فقال استعينوا بالنّسلان [ (4) ] ، ففعلوا، فوجدوا لذلك.
__________
[ (1) ] في (خ) «له ما أسلم عليه» ، يقول محقق (ط) وكما أحفظه أثبته، ولم أوفق للوقوف على مرجعه الآن»
ونقول: «ذكره (السخاوي) في (المقاصد الحسنة) ص 441 حرف النون، حديث رقم 1238 وقال: «حديث الناس معادن كمعادن الذهب والفضة. العسكري من حديث قيس بن الربيع عن أبي حصين عثمان بن عاصم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة به مرفوعا،
ولأبي هريرة في المرفوع حديث آخر لفظه: الناس معادن في الخير والشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، أخرجه الطيالسي وابن منيع والحارث وغيرهم كالبيهقي من حديث ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وأصله في الصحيح. وللديلمي عن ابن عباس مرفوعا: الناس معادن والعرق دساس» .
وانظر أيضا: (كشف الخفاء ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) ج 1 ص 414 حديث رقم 2793.
[ (2) ] لحي جمل: هي عقب الجحفة على سبعة أميال من السقيا.
راجع (سنن ابن ماجة) ج 1 ص 165 حديث رقم 490 وفيه « ... فقال جعفر بن عمرو بن أمية أشهد على أبي أنه شهد على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه أكل طعاما مما غيرت النار، ثم صلّى ولم يتوضأ» .
«وقال علي بن عبد اللَّه بن عباس: وأنا أشهد على أبي بمثل ذلك» .
[ (3) ] المحفة: كالهودج إلا أنها لا تقبب.
[ (4) ] النسلان: مشى سريع دون العدو.(2/107)
راحة. وكان يوم الاثنين بمر الظهران، فلم يبرح حتى أمسى، وغربت الشمس بسرف، فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكة.
وكان الناس لا يذكرون إلا الحجّ، فلما كانوا بسرف أمر عليه السلام النّاس أن يحلّوا بعمرة إلا من ساق الهدي.
دخول مكة وعمل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقوله
ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما- بين كداء وكدي- ثم أصبح فاغتسل، ودخلها نهار الاثنين الرابع من ذي الحجّة.
وذكر الواقدي: أنه دخل مكة يوم الثلاثاء من كداء على راحلته القصواء إلى الأبطح، فدخل مكة من أعلاها حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه، فوقع زمام راحلته فأخذه بشماله، ثم قال حين رأى البيت اللَّهمّ زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، ولما دخل المسجد بدأ بالطواف قبل الصلاة. قال طاوس: وطاف راكبا على راحلته. فما انتهى إلى الركن استلمه وهو مضطبع بردائه، وقال: بسم اللَّه واللَّه أكبر. ثم رمل ثلاثة ثلاثة [ (1) ] من الحجر إلى الحجر. وكان يأمر من استلم الركن أن يقول: باسم اللَّه واللَّه أكبر، إيمانا باللَّه، وتصديقا بما جاء به محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال فيما بين الركن اليمانيّ والأسود: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. ولم يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود. ومشى أربعة [ (2) ] ثم انتهى خلف المقام فصلّى ركعتين، يقرأ فيهما: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثم عاد إلى الركن فاستلمه.
نهي عمر عن مزاحمة الطائف
وقال لعمر رضي اللَّه عنه: إنك رجل قوي، إن وجدت الركن خاليا فاستلمه، وإلا فلا تزاحم عليه فتؤذي [الناس ممن يستلم الركن] [ (3) ] . وقال لعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه: كيف صنعت بالركن يا أبا محمد [ (4) ] ؟ فقالت: استلمت وتركت، فقال: أصبت.
__________
[ (1) ] رمل: أسرع في مشيته.
[ (2) ] رمل ثلاثة، ومشى أربعة، تلك أشواط الطواف السبعة.
[ (3) ] زيادة للبيان.
[ (4) ] في (خ) «يا محمد» .(2/108)
صفة سعيه بين الصفا والمروة
ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: أبدأ بما بدأ اللَّه به. وسعى على راحلته، لأنه قدم وهو شاك وقيل: سعى على بغلته، والمعروف على راحلته.
فصعد على الصّفا فكبّر سبع تكبيرات وقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، صدق اللَّه وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك. ونزل إلى المروة، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل. وقال في المشي. أيها الناس! إن اللَّه كتب عليكم السعي فاسعوا، وسعى حتى انكشف إزاره عن فخذه. وقال في الوادي: ربّ اغفر وارحم، ثم أنت الأعزّ الأكرم، فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة.
فسخ حج من لم يسق الهدي إلى عمره
وأمر من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، ويتحلل حلا تاما، ثم يهلّ بالحجّ [ (1) ] وقت خروجه إلى منى، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة. وقدم عليّ من اليمن، فقال له: بم أهللت؟ قال:
بإهلال كإهلال النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم. فقال: إني سقت الهدي وقرنت [ (2) ] . هكذا روي أبو داود بسند صحيح [ (3) ] .
نزول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأبطح
وكان قد اضطرب [ (4) ] بالأبطح، فقالت أم هانئ: يا رسول اللَّه، ألا ننزل في بيوت مكة؟ فأبي، ولم ينزل بالأبطح حتى خرج يوم التروية [ (5) ] ، ثم رجع من
__________
[ (1) ] الإهلال لغة: أن يرفع المعتمر بالبيت الحرام صوته بالتلبية، ثم قالوا: أهل المحرم بحجة أو بعمرة: أحرم بها.
[ (2) ] القران بين الحج والعمرة: ان يجمع بينهما بنية واحدة وتلبية واحدة، وإحرام واحد، وطواف واحد، وسعي واحد، فيقول: «لبيك بحجة وعمرة» وذلك الفعل هو القران: أي الجمع بين الحج والعمرة.
[ (3) ] (سنن أبي داود) ج 2 ص 399 حديث رقم 1807، 1808 [باب 25 الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة] .
[ (4) ] اضطرب بناء أو خيمة: إذا أقامه على أوتاد مضروبة في الأرض.
[ (5) ] يوم التروية. اليوم الثامن من ذي الحجة.(2/109)
منى فنزل بالأبطح حتى خرج إلى المدينة. ولم يدخل بيتا ولم يظله.
دخوله الكعبة وصلاته بها
ودخل الكعبة بعد ما خلع نعليه، فلما انتهى إلى بابها خلع نعليه. ودخل معه عثمان بن أبي طلحة، وبلال وأسامة بن زيد رضي اللَّه عنهم، فأغلقوا عليهم الباب طويلا ثم فتحوه، وصلّى فيه ركعتين بين الأسطوانتين المقدّمتين، وكان البيت على ستة أعمدة. وقيل: بل كبّر في نواحيه ولم يصلّ.
وروي أنه دخل على عائشة رضي اللَّه عنها حزينا، فقالت: مالك يا رسول اللَّه؟ قال: فعلت اليوم أمر ليتني لم أك فعلته! دخلت البيت، فعسى الرجل من أمتى لا يقدر أن يدخله، فتكون في نفسه حزازة [ (1) ] ، وإنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالدخول.
وكسا البيت الحبرات [ (2) ] : وكانت الكعبة يومئذ ثمانية عشر ذراعا.
مدة إقامته بمكة
وأقام بمكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان يوم التروية يوم الجمعة، فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة.
وقام يوم التروية بين الرّكن والمقام، فوعظ الناس وقال: من استطاع أن يصلّى الظهر بمنى فليفعل.
فصلّى في حجّته هذه صلاة أربعة أيام- وهو مقيم بمكة- حتى خرج إلى منى، وهو في كل ذلك يقصر [ (3) ] ولم تكن إقامته هذه إقامة، لأنها ليست له بدار إقامة، [وأنه لم ينو صلّى اللَّه عليه وسلّم أن] [ (4) ] يتخذها دار إقامة ولا وطن، وإنما كان مقامه بمكة إلى يوم التروية كمقام المسافر في حاجة يقضيها في سفره منصرفا إلى أهله، فهو مقام من لا نيّة له في الإقامة.
فلم ينو صلّى اللَّه عليه وسلّم جعلها مقامه. بل نوى الخروج منها إلى منى يوم التروية عاملا في حجه حتى ينقضي وينصرف إلى المدينة.
__________
[ (1) ] الحزازة: جمع القلب من غيظ ونحوه. (ترتيب القاموس) ج 1 ص 632 وفي (الواقدي) ج 3 ص 1100 «حرارة» وما أثبتناه من (ابن سعد) .
[ (2) ] الحبرات: جمع حبرة.
[ (3) ] يقصر أي في صلاته، فيصلي الصلاة الرباعية ركعتين ركعتين.
[ (4) ] ما بين القوسين بياض في (خ) وما أثبتناه من (ط) .(2/110)
مسيره إلى منى
وركب حين زاغت الشمس في يوم التروية بعد أن طاف بالبيت أسبوعا فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، وكان بلال إلى جانب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في مسيره إلى منى، وبيده عود عليه (ثوبا وشيء) [ (1) ] . يظله من الشمس.
وقالت له عائشة: يا رسول اللَّه، ألا نبني لك كنيفا [ (2) ] ؟ فأبى، وقال: منى منزل من سبق!
وقيل: بني بمنى ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة.
مسيره إلى عرفة
ثم أصبح فسار إلى عرفة. ولم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت فركب إلى عرفة، ونزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر. ويقال: إنما قال [ (3) ] إلى فيء صخرة، وميمونة رضي اللَّه عنها تتبع ظلها حتى راح عنها، وأزواجه في قباب- أو في قبّة- خزّ له فلما كان حين زاغت الشمس أمر براحلته القصواء فرحلت برحل رثّ وقطيفة لا تسوى أربعة دراهم،
فلما توجّه قال: اللَّهمّ حجّة لا رياء فيها ولا سمعة!
ثم أتى بطن الوادي- بطن عرفة [ (4) ]-، وكانت قريش لا تشكّ أنه لا يتجاوز المزدلفة يقف بها،
فقال نوفل بن معاوية الديليّ- وهو يسير إلى جنبه-: يا رسول اللَّه! ظن قومك أنك تقف بجمع! فقال: لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافا لهم،
وكانت قريش كلها تقف بجمع [ (5) ] ، إلا أن شيبة بن ربيعة من بينهم فإنه كان يقف بعرفة.
صلاته بعرفة وخطبته صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخطب صلّى اللَّه عليه وسلّم- حين زاغت الشمس- ببطن عرفة على ناقته، فلما كان آخر خطبته أذّن بلال، وسكت صلّى اللَّه عليه وسلّم من كلامه.
فلما فرغ بلال من أذانه تكلم بكلمات، وأناخ راحلته، وأقام بلال، فصلّى-
__________
[ (1) ] في (خ) «عليه شيء يظله» وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 3 ص 177.
[ (2) ] الكنيف: كل ما ستر من بناء أو حظيرة من الخشب يستظل بها من حر الشمس.
[ (3) ] قال: من القيلولة وهي نوم الظهيرة. والفيء: ما كان شمسا فزال عنه ونسخه الظل.
[ (4) ] بطن عرفة: وادي بحذاء عرفات.
[ (5) ] جمع: هو مزدلفة.(2/111)
عليه السلام- الظهر، ثم أقام فصلّى العصر: جمع بينهما بأذان وإقامتين ثم ركب وهو يشير بيده إلى الناس: ارتفعوا إلى عرفة، وكان من خطبته بعرفة قبل الصلاتين.
خطبة عرفة
أيها الناس: إني واللَّه ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا، بعد يومكم هذا، رحم اللَّه امرأ سمع مقالتي فوعاها، فربّ حامل فقه لا فقه له، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه! واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. واعلموا أن الصدور لا تغلّ على ثلاث [ (1) ] :
إخلاص العمل للَّه، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم [ (2) ] . ألا إن كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث [بن عبد المطلب] [ (3) ]-[كان مسترضعا في بني سعد [بن بكر] [ (3) ] فقتلته [ (4) ] هذيل]-، وربا الجاهلية موضوع [ (5) ] كله وأول ربا أضعه ربا عبّاس بن عبد المطلب: اتقوا اللَّه في النساء، إنما أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللَّه، وإنّ لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكنّ أحدا تكرهونه، [وعليهنّ أن لا يأتين بفاحشة مبينة] [ (6) ] . فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، [فإن انتهين] [ (6) ] ، فلهن [ (7) ] عليكم رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب اللَّه وأنتم مسئولون عنّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأديت ونصحت! ثم قال بإصبعه السبّابة يشير إلى السماء يرفعها ويكبّها ثلاثا: اللَّهمّ اشهد.
المبلغ عنه بعرفة
وكان الّذي يبلّغ عنه بعرفة [ (8) ] ربيعة بن أميّة بن خلف لكثرة الناس، فإنه
__________
[ (1) ] من الإغلال وهو الخيانة، أو من الغل وهو الحقد.
[ (2) ] أي تمنعهم وتحفظهم.
[ (3) ] زيادات للبيان من (ط) .
[ (4) ] في (خ) «نقتله» .
[ (5) ] في (خ) «موضع» .
[ (6) ] زيادات من كتب السيرة.
[ (7) ] في (خ) «ولهن» .
[ (8) ] في (خ) «عرفة» .(2/112)
شهد الخطبة نحو من أربعين ألفا.
ذكر المناسك
ووقف بالهضاب من عرفة وقال: كل عرفة موقف إلا بن عرنة، وكل مزدلفة موقف إلا [ (1) ] بطن محسّر، وكل منى منحر إلا خلف العقبة.
وبعث إلى من هو بأقصى عرفة فقال: الزموا مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام.
دعاؤه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعرفة
ومدّ يديه- وهو واقف بعرفة- ثم أقبل براحتيه على وجهه وقال: إن أفضل دعائي ودعاء من كان قبلي من الأنبياء: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير.
الاختلاف في صيامه بعرفة
واختلفوا في صيامه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: فقالت أم الفضل [ (2) ] أنا أعلم لكم علم ذلك، فأرسلت إليه بعس من لبن [ (3) ] ، فشرب وهو يخطب.
ما نزل من القرآن بعرفة
ووقف على راحلته حتى غربت الشمس يدعو! ونزل عليه وهو واقف بعرفة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (4) ] .
النفر من عرفة
وكان أهل الجاهلية يدفعون [ (5) ] من عرفة إذا كانت الشمس على رءوس الجبال
__________
[ (1) ] في (خ) «إلي» .
[ (2) ] أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب عم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (3) ] العس: قدح يسع ثمانية أرطال.
[ (4) ] من الآية 3/ المائدة، وفي (خ) دِينِكُمْ*، الآية.
[ (5) ] يدفعون: ينطلقون.(2/113)
كهيئة العمائم على رءوس الرجال، وظنت قريش أنه عليه السلام يدفع كذلك، فأخر دفعه حتى غربت الشمس. ثم سار عشيّة، وأردف أسامة بن زيد [ (1) ] من عرفة إلى مزدلفة.
الإفاضة
وذكر الزّبير بن بكار، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفاض [ (2) ] . عن يمينه أبو سفيان ابن حرب، وعن يساره الحارث بن هشام! وبين يديه يزيد ومعاوية ابنا أبي سفيان على فرسين، فكان يسير العنق [ (3) ] ،
فإذا وجد فجوة نصّ [ (4) ] وقال: أيها الناس، على رسلكم [ (5) ] ، عليكم بالسكينة، ليكفّ قويكم عن ضعيفكم.
النزول إلى المزدلفة
ومال إلى الشّعب- وهو شعب الأذاخر، عن يسار الطريق بين المأزمين [ (6) ]- فبال، ولم يصلّ حتى نزل قريبا من الدار التي على قزح، وصلّى المغرب والعشاء بالمزدلفة [بأذان واحد لهما وبإقامتين، لكل صلاة منهما إقامة] [ (7) ] ، ولم يسبّح بينهما، ولا إثر واحدة منهما. فلما كان في السّحر أذن- لمن استأذن من أهل الضعف من الذرية والنساء- في التقدم من جمع قبل حطمة الناس [ (8) ] ، وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه [ (9) ] حين أصبح. فرمي [ (10) ] الذين تقدّموا الجمرة قبل الفجر أو مع الفجر.
الدفع من مزدلفة
ولما برق الفجر، صلى عليه السلام الصبح، ثم ركب راحلته ووقف على قزح.
__________
[ (1) ] أردفه: أركبه خلفه.
[ (2) ] الإفاضة في الحج: اندفاع الناس بكثرة إلى منى منتشرين متفرقين بعد اجتماعهم في عرفة.
[ (3) ] العنق: السير الهادي.
[ (4) ] النص: السير السريع، والفجوة: الفسحة بين جماعة الناس.
[ (5) ] الرّسل: اليسر وعدم العجلة.
[ (6) ] المأزمان: بين المشعر الحرام وعرفة وبه المسجد الّذي يجمع فيه الحجيج بين صلاتي الظهر والعصر.
[ (7) ] في (خ) «مكان ما بين القوسين «بإقامة إقامة» .
[ (8) ] الحطمة: زحمة الناس.
[ (9) ] في (خ) «بدفعة» .
[ (10) ] في (خ) «فرأى» .(2/114)
وكان أهل الجاهلية لا يدفعون من جمع حتى تطلع الشمس على ثبير، يقولون:
«أشرق ثبير، كيما نغير» فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن قريشا خالفت عهد إبراهيم.
فدفع قبل طلوع الشمس.
موقفه بمنى
وأردف الفضل بن العبّاس من مزدلفة إلى منى. وقال: هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف.
جمع الجمرات من مزدلفة
وحمل حصى العقبة من المزدلفة، وأوضع في وادي محسّر ولم يقطع التلبية حتى رمي الجمرة، ورمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقته [ (1) ] ، ولا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك [ (2) ] .
نحر الهدي وتفريقه والأكل منه
ولما انتهى إلى المنحر [ (3) ] قال: هذا المنحر، وكل منى منحر، وكلّ فجاج مكة طريق ومنحر، ثم نحر بيده ثلاثا وستين بدنة بالحربة، ثم أعطى رجلا فنحر ما بقي، ثم أمر من كلّ بدنة نحرها ببضعة [ (4) ] فجعل في قدر فطبخه، فأكل من لحمها وحسا من مرقها. وأمر عليا رضي اللَّه عنه أن يتصدق بجلال البدن وجلودها ولحومها، ولا يعطي منها في جزرها شيئا.
التحليق
ولما فرغ من نحر الهدي دعا الحلاق، وحضر المسلمون يطلبون شعره، فناول [ (5) ] الحلاق شقّ رأسه الأيمن، ثم أعطاه أبا طلحة الأنصاري [ثم ناوله الشّق الأيسر فحلقه. فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسم بين الناس] [ (6) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «باقية» .
[ (2) ] إليك إليك: تنبيه يراد به الزجر، والمعنى أن الحج سمته الهدوء والرّفق.
[ (3) ] في (خ) «النحر» .
[ (4) ] البضعة: القطعة من اللحم.
[ (5) ] في (خ) «أعطى الحلاق» ، وما أثبتناه من (ط) . وهي رواية الواقدي.
[ (6) ] ما بين القوسين تتمة من (ط) عن السيرة الحلبية.(2/115)