جمع كل صحابي وما رواه، وكتاب كنزل الأنام في السنن والأحكام، وكتاب الكمال في معرفة الرجال، وكتاب المتفق والمفترق، وكتاب المؤتلف والمختلف، وكتاب فيه معجم له اشتمل على نحو من ثلاثة آلاف شيخ، وغير ذلك من الفوائد الجمة والمقاصد المهمة، ولد سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، وأول سماعه وهو ابن عشر، وطلب بنفسه وهو ابن خمس عشرة، فقرأ على ابن الجوزي، والمبارك بن المعطوس،
وعبد المنعم بن كليب، ومحمد ابن يونس، وذاكر ابن كامل، ورحل رحلة عظيمة إلى الشام ومصر والحجاز وأصبهان وحران ومرو وهراة ونيسابور، ولقي أبا روح الهروي، وعن الشمس الفقيه، وزينب الشعرية، والمؤيد الطوسي، وداود بن معمر، والكندي، وأبي القاسم ابن الحرستاني، ثم المبارك، وكتب عمن دب ودرج، وعمن نزل وعرج، وعني بهذا الشأن عناية بالغة، وكتب الكثير وجمع، وروى عنه الكمال الصابوني، والعز الفاروثي، وابن بليان، وبالإجازة التقى سليمان، وغيرهم،
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: أنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْعَلَوِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ سَنَةَ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ وَسِتِّ مِائَةٍ، أنا عَبْدُ الْمُعِزِّ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّارِحُ، قَالَ شَيْخُنَا: وَأنا أَحْمَدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْمُعِزِّ، أنا يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ الزَّاهِدُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ، أنا أَبُو نَصْرٍ النَّجَّارُ، أنا حَمَّادٌ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ؛ أَلْجَمَهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»(1/863)
محمد بن ثاماور بن عبد الملك قاضي القضاة بالديار المصرية أفضل الدين أبو عبد الله الخونجي الشافعي
ولد سنة سبعين وخمس مائة، وطلب وحصل وبالغ في علوم الأوائل حتى تفرد برياسة ذلك في زمانه، واتفق له ولاية القضاء بالديار المصرية، والتدريس بالصالحية، وأفتى وناظر وصنف الموجز في المنطق، والجمل، وكشف الأسرار، وغير ذلك في المنطق والطب.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: كان حكيما منطقيا، وكان قاضي قضاة مصر، ومات في خامس رمضان سنة ست وأربعين وست مائة، وقد رثاه تلميذه العز حسن محمد الضرير الفيلسوف فقال:
مضى أفضل الدنيا فلم يبق فاضل ... ومات بموت الخونجي الفضائل
فيأيها الحبر الذي جاء آخرا ... فحل لنا ما لم تحل الأوائل.(1/864)
الطبقة العاشرة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه المرتبة الأولى منها من أول سنة إحدى وخمسين وست مائة إلى آخر سنة ستين(1/865)
أحمد بن يحيى بن هبة الله بن سني الدولة الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن صدقة ابن الخياط قاضي القضاة صدر الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين ابن أبي البركات التغلبي الدمشقي الشافعي ابن سني الدولة
كان جده الحسن بن يحيى بن سني الدولة، أحد كتاب الإنشاء لملك دمشق، قبل نور الدين الشهيد، وكان ذا مال وثروة، وولد قاضي القضاة صدر الدين سنة سبعين وخمس مائة، وسمع الحديث من ابن طبرزد، والكندي، والخطيب الدولعي، ونشأ في صيانة وديانة ورياسة، ودرس في سنة خمس عشرة وست مائة، وأفتى بعد ذلك وناب في القضاء عن أبيه سنة ست وعشرين، ثم ولي وكالة بيت المال، ثم اشتغل بمنصب القضاء مدة ثم عزل، واستمر على تدريس الإقبالية والجاروخية، وكان محمود الأيام جميل السيرة، ووقف أوقافًا كثيرة على ذريته، ولما قدم هولاكو البلاد الحلبية سافر سني الدولة، والقاضي محيي الدين بن
الزكي إليه، فخدعه ابن الزكي، لأنه كان أدرى منه فولوه القضاء، ورجع ابن سني الدولة بلا شيء، فتمرض في الطريق ودخل بعلبك في محفة، فبقي بها يومين، ومات في عاشر جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وست مائة عن ثمان وستين سنة، وقد روى عنه جماعة منهم: القاضي تقي الدين سليمان، والخطيب شرف الدين الفراوي، وابن النجار، وشيخنا ابن الزراد، والحافظ شرف الدين الدمياطي، وقال: خرجت له معجمًا فأجازني بملبوس نفيس، وكان يتفقدني ويحسن إلي.(1/867)
إسماعيل بن حامد بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي المرجا بن الموصلي بن محمد بن علي بن إبراهيم بن نفيس الصدر المحترم شهاب الدين أبو المحامد وأبو الطاهر وأبو العرب الأنصاري الخزرجي القوصي ثم الدمشقي الشافعي
ولد بقوص سنة أربع وسبعين وخمس مائة، وسمع ببلده، وقرأ القراءات، ثم قدم مصر سنة تسعين، وسمع بها أيضًا، واجتمع بالقاضي الفاضل، وسمع منه بيتين فقط، ثم ارتحل إلى دمشق فسمع بها من الخشوعي، والقاسم ابن عساكر، والعماد الكاتب، وابن طبرزد وجماعة، وخرج لنفسه معجمًا ضخمًا فيه فوائد وعجائب وغرائب وغلط أيضًا، واتصل بالوزير ابن شكر فحظي عنده ونفذه رسولًا إلى البلدان ثم ولاه وكالة بيت المال بالشام، وصارت له وجاهة وحشمة وتقدم عند الملوك، وكان ذا هيئة حسنة وسيادة وبزة مرتفعة وبغلة وطيلسان محبك لا يفارقه ودرس بمدرسته التي وقفها بجامع دمشق، وكان ذا فضل وفضيلة
مفوها فصيحًا حافظًا للأشعار، وقد امتدحه جماعة وأخذوا جوائزه، وروى عنه الواسطي وابن الحلوانية وجماعة، وتوفي في سابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وست مائة.
إسماعيل بن أبي البركات هبة الله بن أبي الرضا بن سعيد بن(1/868)
هبة الله بن محمد عماد الدين أبو المجد بن باطيش الموصلي
أحد علماء الشافعية بتلك البلاد، ودخل بغداد فتفقه بها وسمع الحديث من ابن الجوزي، وابن سكينة وجماعة، وسمع بحلب ودمشق، وصنف كتابًا في طبقات الشافعية، وكتاب المغني في شرح ألفاظ المهذب، وكتاب مشتبه النسبة وله تعاليق ومجاميع في أسماء الرجال، وصناعة الحديث مع براعة في الفقه جيدة، والأصول، وتقدم، وقد درس بالنورية التي بحلب وتخرج به جماعة، وروى عنه الدمياطي، وابن الظاهري وجماعة، وتوفي في الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وست مائة، وقد جاوز الثمانين.
داود بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل الخطيب عماد الدين أبو المعالي أبو سليمان الزبيدي المقدسي ثم الدمشقي الشافعي
خطيب بيت الآبار وابن خطيبها، سمع الخشوعي، وابن طبرزد، وحنبل، وجماعة وعنه: الدمياطي، والشيخ زين الدين الفاروقي، والفخر ابن عساكر، وجماعة، وكان دينا فصيحا مهيبًا فقيهًا ولي خطابة دمشق، وتدريس الغزالية بعد انفصال الشيخ عز الدين بن عبد السلام دمشق، ثم عزل بعد ست سنين ورجع خطابة بلده، ومات في حادي عشر شعبان سنة ست وخمسين وست مائة، وله ستون سنة، وتأسف الناس عليه.(1/869)
صقر بن يحيى بن سالم بن عيسى بن صقر الإمام المفتي المعمر ضياء الدين أبو المظفر وأبو محمد الكلبي الحلبي
شيخها ومفيدها ومفتيها الشافعي، كان بارعًا إمامًا في مذهب الشافعي، وسمع الحديث من يحيى بن محمود الثقفي، والخشوعي، وحنبل، وابن طبرزد، وعنه: أخوه أبو إسحاق إبراهيم، والدمياطي، وابن الظاهري، والكمال إسحاق وجماعة، وكان موصوفًا بالديانة والعلم، توفي وقد أضر في آخر عمره في سابع صفر سنة ثلاث وخمسين وست مائة بحلب، رحمه الله.
عبد الله بن أبي الوفا محمد بن الحسن بن عبد الله بن عثمان الإمام نجم الدين أبو محمد البادرائي
أحد رؤساء الشافعية وعلمائهم، ولد سنة أربع وتسعين وخمس مائة، واشتغل حتى برع في المذهب، وتقدم وساد حتى ولي تدريس النظامية ببغداد، وصارت له وجاهة ورياسة عند الخلفاء، وبعثوه رسولا إلى الآفاق، وقد سمع الحديث من أبي منصور، وسعيد بن محمد الرزاز، وعبد العزيز بن رامين، وسعيد بن هبة الله الصباغ وجماعة، وحدث بدمشق وبحلب وبمصر وبغداد وغيرها من البلاد، وبنى بدمشق مدرسة كبيرة للشافعية من أحسن المدارس وكانت قبل ذلك دارًا تعرف بدار أسامة، اشتراها البادرائي من الملك الناصر داود بن المعظم، فبناها مدرسة وشرط على فقهائها العربية، وألا يكون الفقيه في غيرها من
المدارس، وما ذاك والله أعلم إلا لتوفير همة الفقيه على الطلب والاشتغال، وإلا فلو استشعر أن الطالب(1/870)
لا يصده ولا يرده راد، لما ألجأهم إلى ذلك، سامحه الله وغفر له، وقد كان رحمه الله فقيهًا عالمًا متواضعًا حسن الأخلاق، ولم يمت حتى أجبروه على ولاية القضاء، فقبله عن كره فباشر خمسة عشر يومًا، ثم جاءته المنية في أول ذي القعدة سنة أربع وخمسين وست مائة، ولما وصل الخبر إلى دمشق عمل عزاؤه بمدرسته في ثامن عشر ذي الحجة من السنة، وحضره الشيخ شهاب الدين أبو شامة.
عبد الحميد بن عيسى بن عمويه بن يوسف بن خليل العلامة شمس الدين أبو محمد الخسروشاهي
قرية بقرب تبريز، الفقيه المتكلم الشافعي، أخذ علم الكلام عن فخر الدين أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي بن خطيب الري، فبرع وتفنن في علوم متعددة، ودرس وناظر وقد اختصر المهذب في الفقه، والشفاء لابن سينا، وله غير ذلك، وله تشكيكيات وإيرادات وأسئلة استجاز بعضها، وقد سمع الحديث من المؤيد الطوسي، واشتغل عليه الخطيب زين الدين بن المرحل الشافعي، وروى عنه أبو محمد الدمياطي، وقد أقام مدة بمدينة الكرك عند صاحبها الملك الناصر داود المعظم، ثم انتقل إلى دمشق، ومات في الخامس والعشرين من شوال سنة اثنتين وخمسين وست مائة، ودفن بقاسيون، ومولده سنة ثمان وخمس مائة،
رحمه الله.
عبد الرحمن بن نوح بن محمد ابن الإمام شمس الدين التركماني الفقيه الشافعي(1/871)
تلميذ الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، وكان بصيرا بالمذهب عارفا به، ولي تدريس الرواحية ونظرها مدة ثم نزل عن ذلك لولده ناصر الدين المقدسي، قالوا: ولم يكن أهلا لذلك، وهو الذي صار إلى ما صار، وجرى له ما جرى من الشنق والشهرة وغير ذلك، وهو أخو الشيخ بهاء الدين المقدسي، توفي والدهما عبد الرحمن بن نوح في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وست مائة عن تسعين سنة، رحمه الله.
عبد الرحيم بن نصر بن يوسف الإمام الزاهد المحدث القاضي صدر الدين أبو محمد البعلبكي القاضي بها
قال الشيخ قطب الدين: كان فقيهًا عالمًا زاهدًا جوادا كثير البر مقتصدا في ملبسه ولم يفنى دأبه، وكان يقوم الليل ويكثر الصوم، ويحمل العجين إلى الفرن، ويشتري حاجته، وله حرمة وافرة، وكان يخلع عليه بطيلسان دون من تقدم من القضاة، تفقه على الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، وسمع التاج الكندي، والشيخ الموفق، وصحب الشيخ عبد الله اليونيني وغيرهم، توفي رحمه الله في الركعة الثالثة من صلاة الظهر تاسع ذي القعدة سنة ست وخمسين وست مائة، وكانت له أحوال، ومكاشفات، وقد رثاه شرف الدين بقوله:
لفقدك صدر الدين أضحت صدورنا ... تضيق وجاز الوجد غاية قدره(1/872)
ومن كان ذا قلب على الدين منطو ... تفتت أشجانا على فقد صدره.
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي ثم المغربي
شيخ الشافعية، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمس مائة، وتفقه على الفخر ابن عساكر، وبرع في المذهب، وفاق فيه الأقران والأضراب، وجمع من فنون العلوم العجب العجاب من التفسير والحديث والفقه والعربية والأصول، واختلاف المذاهب والعلماء، وأقوال الناس ومآخذهم حتى قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف المصنفات المفيدة، واختار وأفتى بالأقوال السديدة، وقد سمع الحديث من ابن طبرزد، والقاسم ابن عساكر، وحنبل، وأبي القاسم ابن الحرستاني وغيرهم، وعنه الشيخ شرف الدين الدمياطي، وخرج له أربعين حديثا عوالي، والقاضي تقي الدين بن دقيق العيد،
ورحل إلى بغداد سنة سبع وسبعين وخمس مائة، فأقام بها أشهرًا، وكان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وقد ولي الخطابة بدمشق بعد الذيلعي، فأزال أشياء كثيرة من بدع الخطباء، ولم يلبس سودًا ولا سجع خطبة بل كان يقولها مسترسلًا، واجتنب الثناء على الملوك، بل كان يدعو لهم، وأبطل صلاة الرغائب والنصف، فوقع بينه وبين شيخ دار الحديث الإمام أبي عمرو ابن الصلاح بسبب ذلك، وبرز الشيخ عز الدين في إصابة الحق، ولم(1/873)
يكن يؤذن بين يديه يوم الجمعة إلا مؤذن واحد، وكان المؤذنون يقولون بعد المكتوبة الآية في الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم أن يقولوا: لا
إله إلا الله، وحده لا شريك له، الحديث في صحيح مسلم عن عبد الله بن الزبير، ولحديث المغيرة في الصحيح.
ولما سلم الملك الصالح إسماعيل بن العادل قلعة السقيف صدف للفرنج، فساء ذلك المسلمين، فنال منه الشيخ عز الدين على المنبر، ولم يدع له، فغضب الملك من ذلك وعزله وسجنه، ثم أطلقه فبرح إلى الديار المصرية هو والشيخ كمال الدين بن الحاجب، فتلقاه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وأكرمه واحترمه، واتفق موت قاضي القضاة شرف الدين عين الدولة، فولى السلطان مكانه القاضي بدر الدين السخاوي، وفوض قضاء مصر والوجه القبلي إلى الشيخ عز الدين مع خطابة جامع مصر، فقام بالمنصب أتم قيام، وتمكن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى اتفق أن بعض الأمراء بنى مكانًا
للطبلخاناه على سطح مسجد، فأنكر ذلك الشيخ عز الدين، وذهب بنفسه فأضربه وعلم أن هذا يشق على الوزير، فحكم بفسق الوزير، وعزل نفسه عن القضاء، فلما بلغ ذلك حاشية الملك شق عليهم، وأشاروا على الملك أن يعزله عن الخطابة لئلا يتعرض لسب الملك على المنبر، فعزله ولزم بيته يشغل الناس ويدرس، وذكروا أنه لما مرض مرض الموت بعث إليه الملك الظاهر يقول له: من في أولادك يصلح لوظائفك؟ فأرسل: ليس فيهم من يصلح لشيء منها فأعجب السلطان ذلك، ولهذا لما مات حضر جنازته بنفسه والعالم من الخاصة والعامة، وكان يومًا مشهودًا، وكان ذلك(1/874)
في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين رحمه الله
تعالى، قلت: له تفسير حسن في مجلدين، واختصار النهاية وليس هو كإمامته، والقواعد الكبرى تدل على فضيلة تامة، والكلام على الأسماء الحسنى مفيد، وكتاب الصلاة فيه اختيارات كثيرة اتباعًا للحديث، والقواعد الصغرى، وفتاوى كبيرة وغير ذلك، ورأيت بخط قاضي القضاة علاء الدين القونوي أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله سئل عن الرجل بماذا يستحق الجامكية في مذهب الشافعي، أعلى اعتقاده المذهب أم على معرفته له؟ فأفتى أنه يستحق ذلك على معرفته له، ونشره إياه، وإن كان لا يعتقد بعض المسائل، أو كما قال، وقال الشيخ قطب الدين القوسني: كان رحمه الله تعالى مع شدته فيه
حسن مناظرة بالنوادر، والأشعار، وكان يحضر السماع، ويرفض، ويتواجد، هكذا قال.
عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد الحافظ زكي الدين أبو محمد المنذري الشامي ثم المصري الشافعي
ولد في سنة إحدى وثمانين وخمس مائة بمصر، وقرأ القرآن، وأتقن القراءات، وبرع في العربية والفقه، والفقه على أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد القرشي، سمع الحديث من محمد بن سعيد المأموني، وربيعة اليمني الحافظ، والحافظ علي بن المفضل، وبه تخرج وسمع بمكة ودمشق وحران والرها والإسكندرية، وخرج لنفسه معجمًا(1/875)
مفيدًا، وعنه: الحافظ الدمياطي، والقاضي تقي الدين بن دقيق العيد، والعلم الدويداري وخلق، ودرس بالجامع الظاهري، ثم ولي مشيخة دار الحديث الكاملية، وانقطع بها عشرين سنة يصنف ويفيد، وتخرج به العلماء في فنون من العلم، وكان عديم النظير في زمانه في معرفة الحديث على
اختلافه وفنونه، عالمًا بصحيحه، وسقيمه، ومعلوله، وطرقه، متبحرًا في أحكامه، ومعانيه، ومشكله، واختلاف ألفاظه وغريبه وإعرابه، وكان إمامًا حجة ثقة ثبتًا ورعا مُتَحَرٍّ فيما يرويه.
قال الحافظ الدمياطي: توفي في رابع ذي القعدة سنة ست وخمسين وست مائة، وشيعه خلق كثير، ورثاه جماعة بقصائد رحمه الله تعالى.
عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف العلامة كمال الدين أبو المكارم بن خطيب زملكا الأنصاري السماكي
من سلالة أبي دجانة سماك بن خرشة، كان أحد الفضلاء في زمانه، والمبرزين في علم المعاني، والبيان، والنظم الحسن، والمشاركين في فنون كثيرة، وولي قضاء صرخد، والتدريس ببعلبك، ذكره الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وأثنى عليه فقال: كان خيرًا متميزًا في علوم متعددة، قلت: وهو جد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي عبد الواحد الزملكاني، توفي بدمشق في محرم سنة إحدى وخمسين وست مائة.(1/876)
محمد بن الحسين تاج الدين الأرموي مدرس الشرفية ببغداد
أحد تلاميذ الفخر الرازي، كان بارعًا في العقليات وغيرها، وكان له مماليك ترك بخوائص وسراري، وله حشمة، وثروة، ووجاهة وفيه تواضع ورياسة، توفي سنة ثلاث وخمسين وست مائة.
محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن الشيخ كمال الدين أبو سالم القرشي العدوي النصيبي الشافعي
أحد الصدور، والرؤساء المعظمين، وكان فقيهًا بارعًا عارفًا بالمذهب، والأصول، والخلاف، ترسل عن الملوك وساد وتقدم وأقام بدمشق بالمدرسة الأمينية، وفي سنة ثمان وأربعين وست مائة عينه الملك الناصر للوزارة، وكتب تقليده بذلك، فبعث يعتذر إلى السلطان، ويتنصل من ذلك، فلم يقبل منه، فتولاها يومين، ثم انسل خفية وترك الأموال والموجود، ولبس ثوبا قطنا، وذهب فلم يدر أين ذهب، وقد سمع الحديث بنيسابور من المؤيد الطوسي وزينب الشعرية، وحدث ببلاد كثيرة، وروى عنه: الشيخ شرف الدين الدمياطي، والمجد العديمي، وابن الحلوانية، وجمال الدين ابن الخوجي، وشهاب الدين المقرئ الحنفي
وجماعة، وقد نسب إلى الاشتغال بعلم الحروف والأوقاف، وأنه يستخرج من ذلك أشياء من المغيبات، وقيل: إنه رجع عنه، فالله أعلم،(1/877)
توفي بحلب في السابع والعشرين من رجب سنة اثنتين وخمسين وست مائة.
محمود بن أحمد بن محمد بن بختيان العلامة قاضي القضاة أبو الثناء الزنجاني الشافعي
درس وأفتى وناظر، وكان من بحور العلم، وولي قضاء القضاة بالعراق مدة، ثم عزل، وهو والد قاضي القضاة عز الدين أحمد، وقد سمع الحديث من عبيد الله بن محمد الشاذلي، واستشهد بسيف التتار سنة ست وخمسين وست مائة، عن تسع وسبعين سنة.
مظفر بن أبي بكر محمد بن إلياس بن عبد الرحمن بن علي بن أحمد الرئيس الصدر نجم الدين أبو غالب بن الشيرجي الأنصاري الشافعي
ناظم الجامع، ومحتسب البلد كابنه شرف الدين عيسى، وابن ابنه شرف الدين، وكان وكيل بيت المال، أيضا ومدرس العصرونية مع ديانة وأمانة وعلم، سمع الحديث من ابن طبرزد، والخشوعي، وحنبل، وجماعة، وعنه: الدمياطي، والزين الفارقي، وشيخنا شمس الدين بن الدراد الصالحي الحنبلي وجماعة، توفي آخر يوم من سنة سبع وخمسين وست مائة عن سبعين سنة، رحمه الله.(1/878)
يوسف ابن السلطان الملك الصالح صلاح الدين ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي صاحب حلب
ولد بقلعتها سنة سبع وعشرين وست مائة، وبويع بالملك بها بعد موت أبيه سنة أربع وثلاثين، وهو ابن سبع سنين، وقام بتدبير الممالك الأتابكية بعد مشاورته جدته الخاتون صفية بنت الملك العادل، فلما مات سنة أربعين، وقد ترعرع استبد، ولما كان في سنة ثمان وأربعين واختلف بما قيل للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب القاهرة ودمشق بعد موته ساق إلى دمشق، فأخذها منهم لاشتغالهم عنها، ثم صار إلى مصر ليأخذها، فمانعوه وقاتلوه وكسروه، فرجع إلى دمشق واقتصر عليها، وعلى الممالك الحلبية، وكان محببا إلى الرعايا جوادا كريما ممدحا يحب العلماء والصالحين ويحاضرهم، ويحفظ
شعرا كثيرا وملحا ونوادر، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربع مائة رأس غنم سوى الدجاج والطيور، ونفقته على سماطه كل يوم عشرون ألفا، وكانت الرعية مغتبطين به، لكرمه وجوده، وسماحة مع لعب فيه، وإقبال منه على الملاهي والعشيرات، ووقف على الشافعية مدرسة حسنة داخل باب الفراديس بدمشق، وحضر بها الدرس وخلع يومئذ خلعا كثيرة، وذلك في سنة أربع وخمسين وست مائة، ثم بنى بالجبل رباطا وتأنق في بنائه إلى الغاية، ووقف عليها أوقافا جيدة، وبنى دار الطعم إلى جوار الرتحلبية بالشعبة، وكان حسن الشكل مليح القدر، طري الشباب أحول، عليه أبهة المملكة،(1/879)
من بيت عريق في السلطنة، ولما
استحوذ هولاكو - لعنه الله - على بغداد، وملك البلاد ساق إلى البلاد الحلبية، فأخذها وقتل أهلها يوهم الملك الناصر كثيرا، وركب في جيشه وهرب إلى الديار المصرية، فتمزق جيشه وتراجعوا، ولم يبق إلا في نفر يسير فرجع هو أيضا بعد أن بلغ قطب على وادي موسى، وجاءت رسل التتار بالفرمان، والأمان لأهل دمشق، فاستحوذوا عليها، واستنابوا بها كتبغالوبن، وكان كافرا فاجرا يميل إلى دين النصرانية، وبعثوا وراء الناصر، فاقتبضوه في تلك البلاد بعد أن سافروا وراءه أياما في البراري فرجعوا، وهو معهم كالأسير فمروا به على دمشق، ونزل بظاهر البلد، تحت الرسيم والهوان، وذهبوا به
ومروا به على حلب، وقد تغيرت معالمها ورسومها وخرب سورها ومتعلقها، وقد أمكنوا بها، فاستعبر عند ذلك باكيا، وقال:
يعز علينا أن نرى ريعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى.
لما قدموا به على هولاكو أكرمه واحترمه، وقد كان هولاكو يتوهم من جيوش الشام ومصر، وكان قد جمع رعبا من الناصر، فلما هرب أمامه استهان به وحقره، وبقي عنده الناصر كالأسير إلا أنه يعامله معاملة الملوك الأسراء، فلما التقى الجمعان الجيش المصري المؤيد المظفري مع الفريق المخزول التتري عند عين جالوت فأعز الله الإسلام وأهله وكسر جيش الكفر ورجاله، وقتل اللعين كتبغالوبن استشاط الطاغية هولاكو غضبا حين علم أن جيشه لن يعجز الله في الأرض هربا استحضر الملك الناصر وأظهر حدته فيه، ورماه بسهام(1/880)
فلم يخطئه، ويقال: بل أمر بشجرتين من جور فجمع أعاليها وربط كل منهما إليه
شق منه، ثم أرسلهما فتفسخ رحمه الله وسامحه، وذلك في سنة تسع وخمسين وست مائة، فمات عن إحدى وثلاثين سنة وشيء، عوضه الله الجنة آمين.(1/881)
المرتبة الثانية من الطبقة العاشرة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيها من أول سنة إحدى وستين وست مائة إلى آخر سنة سبعين(1/883)
إبراهيم بن عيسى ضياء الدين أبو إسحاق المرادي الأندلسي ثم المصري
الفقيه الإمام، الحافظ المتقن المحقق الضابط، الزاهد الورع.
قال الشيخ محيي الدين النووي: ولم تر عيني في وقته مثله، وكان رحمه الله بارعًا في معرفة الحديث وعلومه وتحقيق ألفاظه، لا سيما الصحيحان، ذا عناية باللغة والنحو والفقه ومعارف الصوفية، حسن المذاكرة فيها، وكان عندي من كبار السالكين في طرائق الحقائق، حسن التسليم، صحبته نحو عشر سنين لم أر منه شيئًا يكره، وكان من السماحة بمحل عال على قدر وجده، وأما الشفقة على المسلمين ونصحهم فقل نظيره فيهما، توفي بمصر في أوائل سنة ثمان وستين وست مائة، جزاه الله عني خيرًا، وجمعني وإياه مع سائر أصحابنا في دار كرامته بفضله ومنه، وهذا مما ألحقه النووي في طبقات ابن الصلاح
رحمهما الله تعالى.
أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن رافع
قاضي القضاة كمال الدين أبو العباس، وأبو بكر ابن قاضي القضاة زين الدين ابن المحدث الإمام الزاهد أبي محمد ابن الأستاذ الأسدي الحلبي الشافعي، ولد سنة إحدى عشرة وست مائة، وسمع(1/885)
حضورًا من جده أبي محمد بن علوان، والافتخار الهاشمي، وثابت بن مشرف، وابن روزبة وغيرهم، واشتغل في المذهب، وبرع في العلوم والحديث، وأفتى ودرس، وتولى قضاء القضاة بحلب بعد أبيه في الدولة الناصرية، وكان ذا وجاهة، ومكانة عند الملك الناصر صاحبها، فلما خربت حلب أيام الطاغية هولاكو لعنه الله كان من جملة من أصيب بماله وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ارتحل إلى الديار المصرية، وفوض
إليه تدريس المعزية بمصر، والهكاوية بالقاهرة، وكان صدرًا معظمًا وافر الحرمة، مجموع الفضائل، صاحب رئاسة وأفضال وسؤدد، وتواضع، وسمعوا عليه بالديار المصرية، واستفادوا به وأحسن إليهم، وكان الحافظ الدمياطي يدعو له كثيرًا لما أسدى إليه من الإحسان، فلما رجعت الممالك الحلبية، وطابت البلاد واستقرت الدولة في أول السلطنة الظاهرية رسم للقاضي كمال الدين بقضاء البلاد الحلبية على ما كان الإمام عليه، فعاد إليها وحكم بها إلى أن توفي في منتصف شوال سنة ثنتين وستين وست مائة.
الأمير الكبير ناصر الدين أبو المعالي حسين بن عزيز بن أبي الفوارس القيمري
كان ذا جلالة ومهابة وحرمة ظاهرة، وإقطاعات كبيرة وافرة، وكان بطلا شجاعًا كريمًا عادلًا حازمًا رئيسًا كثير البر، وهو الذي سعى(1/886)
في تملك الناصر صاحب حلب لدمشق المحروسة، وكان أبوه شمس الدين من أجل الأمراء وابن عمه، هو واقف المارستاني الصالحي، وأما هو فوقف المدرسة القيمرية الكبيرة بسوق الختمين على الشافعية، وهي من أحسن المدارس وأكبرهن، وهي مطروقة ومصلى للناس، فرحمه الله وأكرمه، توفي وهو مرابط بالساحل قبالة الفرنج في ربيع الأول سنة خمس وستين وست مائة رحمه الله تعالى.
خالد بن يوسف بن سعد بن الحسين بن مفرج بن بكار الحافظ المفيد زين الدين أبو البقاء النابلسي
ثم الدمشقي، ولد بنابلس سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وقدم دمشق فنشأ بها واشتغل في الحديث والفقه والأغلب عليه الحديث، وسمع من البهاء ابن عساكر، وحنبل، وابن طبرزد وعدة، ورحل إلى بغداد، فسمع بها من الحسين بن يوسف، وأبي محمد بن الأخضر، وابن مينا وطبقتهم، وأقام في النظامية، وكان يشتغل هو والبادرائي واقف المدرسة، ثم رجع الزين خالد إلى دمشق فاستوطنها، وكتب وحصل الأجزاء، وكان دينًا فاضلًا ذكيًا عارفًا باللغة العربية وأسماء الرجال، وكان يحب المزاح حسن النادرة، وكان الملك الناصر صاحب دمشق يحبه ويجله ويحسن إليه ويستحلي نادرته، سمع منه الشيخ محيي الدين
النووي، والشيخ تاج الدين الفراوي، وأخوه الخطيب شرف الدين الفراوي، وقاضي القضاة(1/887)
تقي الدين ابن دقيق العيد وخلق، وباشر مشيخة الحديث بدار الحديث النووية، وبالمدرسة العزية البرانية، ومن حسن كلامه أن رجلًا من الشيعة قال له: أنت تقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ما هو معصوم، فقال له: ما أخفيك شيئًا، أبو بكر الصديق عندنا أفضل من علي، ولم يكن معصوما.
وحضر مرة عند الملك الناصر فقام ساعة يمتدح السلطان فأطنب، فقام الزين خالد فخلع عليه سراويله فضحك السلطان، وقال: ما حملك على هذا؟ فقال: ما وجدت معي ما لا أحتاج إليه إلا اللباس، فأعجب السلطان منه ذلك، ووصله بجائزة رحمهم الله، توفي سلخ جمادى الأول سنة اثنتين وستين وست مائة.
سلار بن الحسن بن عمر بن سعيد الإمام العلامة مفتي الشام ومعيده كمال الدين
أبو الفضائل الإربلي الشافعي، شيخ الأصحاب ومفيد الطلاب، تفقه بالإمام أبي عمرو ابن الصلاح حتى برع في المذهب، وتقدم وساد واحتاج الناس إليه، وكان عليه مدار الفتوى بدمشق مدة طويلة، وكان معيدًا بالبادرائية، عينه بها واقفها نجم الدين البادرائي رحمه الله، فباشرها منذ درس فيها إلى أن توفي يفيد ويعيد ويصنف ويعلق ويؤلف ويجمع، وينشر المذهب، وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عنده هي بخط يده، وهو تعليق حسن، وجمع في هذا المختصر شيئًا كثيرًا وبحرًا غزيرًا وانتفع به جماعة من الأصحاب منهم الشيخ الإمام العلامة محيي الدين(1/888)
النووي رحمه الله، وأثنى عليه ثناء حسنًا،
توفي وقد نيف على السبعين بالبادرائية في الليلة الخامسة من جمادى الآخرة سنة سبعين وست مائة، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
عبد الله بن أبي طالب بن مهنى المفتي تاج الدين أبو بكر الإسكندراني ثم الدمشقي الشافعي
تفقه على الفخر ابن عساكر حتى برع في المذهب وساد وأفتى ودرس، وسمع الحديث من حنبل بن علي الرصافي وأبي الفضل سعد بن طاهر المردفاني، وروى عنه الشيخ تاج الدين، وأخوه الخطيب شرف الدين الفراويان، وغيرهما، وتوفي بدمشق في سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين وست مائة.
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان الشيخ الإمام العلامة ذو الفنون المتنوعة شهاب الدين أبو القاسم المقدسي الشافعي
المقرئ النحوي، المحدث المعروف بأبي شامة لشامة كبيرة فوق حاجبه الأيسر، ولد بدمشق سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وختم القرآن، وله دون عشر سنين، ثم أتقن القراءة على البخاري، وله ست عشرة سنة، وسمع صحيح البخاري من داود بن(1/889)
ملاعب، وأحمد بن عبد الله العطار، وسمع مسند الشافعي، والدعاء للمحاملي من الشيخ موفق الدين ابن قدامة، ورحل إلى ديار مصر فسمع بها، ثم عزم وهم في سماع الحديث، وله بضع وثلاثون سنة، فقرأ بنفسه وسمع أولاده وكتب الكثير من العلوم، وله خط جيد متقن، وكان قد أتقن الفقه، وبرع فيه وفي النحو والقراءات، وصنف كتبًا جمة فمن ذلك كتاب البسملة في مجلد كبير
نصر فيه المذهب وجمع وحشد، وكتاب المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجلد في حديث المبعث، ومجلد في حديث الإسراء، وكتاب ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري، والباعث على إنكار البدع والحوادث، وكتاب كشف حال بني عبيد، وكتاب الروضتين في الدولتين النورية، والصلاحية وذيل عليها تذييلا حسنًا إلى زمانه، واختصر تاريخ دمشق لابن عساكر في خمسة عشر مجلدًا ضخمة ثم اختصره في خمسة مجلدات، وكتاب الأصول في الأصول، وكتاب السواك، وشرح الشاطبية وهو في غاية الجودة، ومفردات القراء، ونظم مفضل الزمخشري، وله مقدمة في العربية، وشرح القصائد
النبوية للسخاوي في مجلد، وكتاب الرد إلى الأمر الأول وغير ذلك من الفوائد الكثيرة والفرائد الغزيرة التي هي لكنوز العلم منيرة، وكان فيه مع هذه الفضائل والفنون تواضع وأطراح بالكلية حتى إنه ذكر أنه كان ربما ضمن البساتين، وركب من أحمال الفاكهة، وكان معه من الوظائف مشيخة الإقراء بأم الصالح، ثم ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية بعد ابن الحرستاني سنة اثنتين وستين، وذكر أنه وخطه الشيب ابن خمس وعشرين سنة، وقد قرأ عليه شرح الشاطبية الخطيب شرف الدين(1/890)
الفراوي، والشيخ برهان الدين الإسكندري، وأخذ عنه علم القراءة الشيخ شهاب الدين الكفري، والشهاب أحمد بن اللبان،
وشيخنا زين الدين أبو بكر بن يوسف المزي، وجماعة ذكر رحمه الله تعالى أنه جرت له محنة في سابع جمادى الآخرة سنة خمس وستين وست مائة بداره بطواحين الأشنان، وهو أنه دخل عليه رجلان جليلان في صورة مستفتيين فحصلا عنده في المنزل، ثم تناولاه ضربًا إلى أن عيل صبره، ولم يغثه أحد، ولكن ألهمه الله الصبر واللطف، وقيل له: اجتمع بولاة الأمر، فقلت: أنا قد فوضت أمري إلى الله وهو يكفينا، وقلت في ذلك:
قلت لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
، ثم توفي رحمه الله في تاسع رمضان من عامه، ودفن بمقابر باب الفراديس، رحمه الله تعالى.
عبد الرحيم ابن الإمام رضي الدين محمد العلامة عماد الدين محمد بن يونس ابن منعة الفقيه المحقق العلامة تاج الدين أبو القاسم الموصلي الشافعي(1/891)
مصنف التعجيز في اختصار الوجيز، كان من بيت الفقه والعلم بالموصل، وتولى قضاء الجانب الغربي ببغداد، قال ابن خلكان: وتوفي ببغداد سنة سبعين وست مائة، وقال غيره: سنة إحدى وسبعين وست مائة، وقد جاوز السبعين، رحمه الله تعالى.
عبد العزيز ابن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف
الإمام العلامة شيخ الشيوخ شرف الدين أبو محمد الأنصاري الأوسي الدمشقي ثم الحموي الشافعي الأديب الصاحب ابن قاضي حماة ويعرف بابن الرفا، ولد بدمشق سنة ست وثمانين وخمس مائة، وسمع الحديث من أبيه ورحل به، فسمعه جزء ابن عرفة ابن أبي كليب، ومسند الإمام أحمد من عبد الله بن أبي المجد الحربي، وسمع من أبي اليمن الكندي، وقرأ عليه كتبًا كثيرة من الأدب، وتخرج به واشتغل في الفقه، فبرع فيه وفي علوم الحديث، وأقام مدة ببعلبك ثم بدمشق ثم بحماة، وكان صدرًا كبيرًا معظما نبيلًا وافر الحرمة كبير القدر، حدث بحران عرفة قريبًا من ستين سنة، وببلاد شتى، وقرئ عليه المسند
مرات، من جملة من قرأه عليه الخطيب شرف الدين الفراوي، وسمع عليه أيضا الحافظ الدمياطي، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وأبو العباس بن الظاهري، وأبو الحسن اليونيني، وشيخنا أبو عبد الله بن الرزاز، وتوفي في ثامن رمضان سنة اثنتين وستين وست مائة، ومن شعره وفيه مجازفة:(1/892)
شرحت لوجدي في محبتكم صدرا ... وصبرني صحبي فلم استطع صبرا
وقلت لعزالي ألم تعرفوا الهوا ... لقد جيتموا شيئًا بعد لكم شكرا
لعمري لقد طاوعت زيدا لوعتي ... عليكم وما طاوعت زيدا ولا عمرا
خليلي ها سقط اللوى قد بدا لنا ... فلا تقطعاه بل قفا نبك من ذكرا
فيا يوسف الحسن الذي من عقله ... من بكرتي قلت يا بشرا
بدا فاسترق العالمين جماله ... فمن أجل هذا حل بالنحس أن بشرا
لقد حل من فكري بواد مقدس ... ليقتبس من قلبي الكليم به جمرا
راجح كربي قبره من لحاظه ... فأرسلت دمعا حرم النور والصبرا(1/893)
عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد الحرستاني ابن أبي الفضل بن علي الإمام العالم القاضي
خطيب الشام، وشيخ دار الحديث عماد الدين أبو الفضائل الخزرجي الدمشقي الشافع ابن الحرستاني، ولد في سابع رجب سنة سبع وسبعين وخمس مائة بدمشق، وسمع من والده قاضي القضاة كمال الدين، ومن ابن الخشوعي، والبهاء ابن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل، وغيرهم، روى عنه الحافظ الدمياطي، والبرهان الإسكندري، وابن الخباز، وشيخنا ابن الرواز وجماعة كثيرون، واشتغل على أبيه في المذهب، وبرع وتقدم وأفتى وناظر ودرس وناب عن أبيه في الحكم مدة ثم عزل، ودرس بالغزالية مدة وباشر الخطابة مدة، وكان من كبار الأئمة وشيوخ العلم مع التواضع والديانة وحسن السمت، ولما توفي الشيخ تقي الدين ابن
الصلاح رحمه الله تعالى سنة ثلاث وأربعين وست مائة كما تقدم، ولي الخطيب عماد الدين الحرستاني مشيخة دار الحديث الأشرفية، فباشرها إلى أن توفي سنة خمس وستين، كما سيأتي، فوليها الشيخ محيي الدين النووي إلى أن مات سنة ست وسبعين وست مائة، كما سيأتي، فوليها الشيخ زين الدين الفارقي، وبعده الشيخ صدر الدين بن الوكيل، ومن بعده الشيخ كمال الدين السركشي إلى أن توفي سنة ثماني عشرة وسبع مائة، وقد وليها في أثناء مدته شيخنا الإمام كمال الدين ابن الزملكاني مدة يسيرة، ثم رجعت إلى ابن السركشي، ثم وليها كفؤها شيخنا الإمام الحافظ الحجة المجتهد شيخ المحدثين، وبحر
الفوائد أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد(1/894)
الرحمن بن يوسف المزي فسح الله في أجله، وختم له بصالح عمله آمين.
عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي قاضي القضاة تاج الدين أبو محمد ابن بنت الأعز الشافعي
أحد القضاة الأجواد القائمين بحدود الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يراعي أحدًا ولا يقبل شاهدًا مربيًا، ولا يراعي جاهلًا، وحصل له رئاسة عظيمة في الدولة الظاهرية بحيث إنه باشر القضاء مع الوزارة مع نظر الدواوين، وتدريس الشافعي وغير ذلك من المناصب، وما ذاك إلا بحسن ظنهم بأمانته وديانته، وكان ينبه على الصاحب بهاء الدين ابن الحنا، ويعمل عليه ويحضر بحثه ابن الحنا، فلا يمكنه ذلك لتمكنه من الملك، وكان ابن الجني يود لو دخل القاضي تاج الدين إلى منزله، فلم يتفق له ذلك فمرض فعاده الناس وجاءه عائدًا، فلما رآه ابن الجني وثب من الفراش ونزل من الإيوان،
فلما رآه القاضي قال: إنما جئنا لنعودك، لأنه بلغني أنه في مرض شديد، وأنت قائم سلام عليكم، ثم رد ولم يزد على ذلك، توفي القاضي ابن بنت الأعز رحمه الله تعالى في السابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وست مائة.
وكان مولده سنة أربع وست مائة، وقيل: سنة أربع عشرة وست مائة، وكانت له جنازة مشهورة، وهو والد قاضي القضاة صدر الدين عمر، وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن وبرز أيضًا.(1/895)
الفتح بن موسى بن حماد بن عبد الله بن علي الفقيه نجم الدين أبو نصر الجزيري الأصل القصري الشافعي
ولد بالجزيرة الخضراء من بلاد المغرب سنة ثمان وثمانين وخمس مائة، ونشأ بقصر كنانة واشتغل هناك بالنحو، وسمع الجزولية على مصنفها، وورد دمشق سنة عشر وست مائة وأخذ عن الكندي، واشتغل بمذهب الشافعي، ودرس علم الكلام على الآمدي بحماة، ونظم المفصل في النحو للزمخشري، وكتاب السيرة لابن هشام في اثني عشر ألف بيت، رأيته، ونظم الإشارات لابن سينا وله عدة مصنفات، وكان من فضلاء زمانه، ودرس مدة برأس العين بمدرسة ابن المشطوب، ثم ارتحل إلى مصر، فدرس بالفائزية بأسيوط ثم ولي قضاءها، وبها توفي في رابع جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وست مائة رحمه الله.
يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الوليد بن القاسم بن الوليد
وقد رفع الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه في نسبه فقال: بعد القاسم بن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان(1/896)
بن عفان، والله أعلم بصحة ذلك، وقد أنكر شيخنا الحافظ الذهبي صحة هذا، وقال: لم يذكره ابن عساكر مع أنهم أجداده لأمه، ولا رأينا في شيء من التواريخ، ولا الأوقات المقدمة، فالله أعلم، قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل ابن قاضي القضاة محيي الدين أبي المعالي ابن القاضي أبي الفضل القرشي ومنهم من يقولون: الأموي أيضًا، الدمشقي الشافعي، ولد في الخامس والعشرين في شعبان سنة ست وتسعين وخمس مائة، وسمع من حنبل، وابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني وجماعة،
واشتغل في المذهب على الشيخ فخر الدين ابن عساكر، وبرع في المذهب، وساد وتقدم لرئاسة بيته في دمشق، ونسبه العريق، وقد ولي القضاء بدمشق، وخلع عليه خلعة سوداء مذهبة، وقرئ تقليده تحت السر وهي عليه وإلى جانبه نائب هلاوو، ابنان وامرأته الخاتون حاضرة جالسة بين زوجها، وبين القاضي المذكور، ذكر ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة، ونثر الذهب على الناس لما قرئ اسم الملك الأصغر هلاوو، ندب منه هفوات في أفعاله وأقواله مع شدة تعظيمه لمحيي الدين عربي وكتبه، محافظة على الحركات بمقتضى السير في صناعة التنجيم بحيث إنه دخل على بنت سناء الملك صلاة الظهر بمقتضى الطالع، فقدر
الله أنها ماتت بعد أيام، لأنها أسقيت ما يغيب عقلها ليتمكن العريس من الدخول بها فماتت فجأة، والله غالب على أمره.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: ثم برع ابن الزكي في جر الأشياء إليه وإلى أولاده مع عدم الأهلية، فأضاف(1/897)
إلى نفسه وأقاربه العذراوية والناصرية والفلكية والركنية والقيمرية والكلاسة، وانتزع الصالحية، وسلمها إلى العماد بن العربي، وانتزع الأمينية من علم الدين القاسم وسلمها إلى ولده عيسى، وانتزع السونائية من الفخر النقشوالي، وسلمها إلى الكمال بن النجار، وانتزع الربوة من محمد اليمن، وسلمها إلى الشهاب محمود بن زين القضاة، وولى ابنه عيسى مشيخة الشيوخ، ونيابته أخيه لأمه شهاب الدين إسماعيل بن حنش تدريس الرواحية والشامية البرانية، وعمل هذا كله في مدة مقام
التتار بدمشق، فلما جاء الإسلام، ورجع الأمر إلى نصابه بذل الأموال الجزيلة في إبقائه على المنصب والتدريس، فاستمر على ذلك شهرًا ثم عزل وألزم بالمسير إلى الديار المصرية صحبة السلطان المملك المظفر قطز، فلما استأمر الملك الظاهر أمر بعزله، وولى القضاء نجم الدين أبا بكر ابن القاضي صدر الدين سني الدولة قضاء الشام، وألزم ابن الزكي بالمقام بالديار المصرية بعد ذلك، فلم يزل بها إلى أن توفي في رابع عشر رجب سنة ثمان وستين وست مائة، ودفن بسفح المقطم، وترك أحد عشر ولدًا، ومنهم: علاء الدين أبو العباس أحمد، وقاضي القضاة بهاء الدين يوسف، وزكي الدين حسين، وشرف
الدين إبراهيم، وعز الدين عبد العزيز، وتقي الدين عبد الكريم، وكمال الدين عبد الرحمن، وزينب، وست الحسن، وعائشة، وفاطمة، وقد ذكر الشيخ قطب الدين اليونيني في تاريخه أنه نسب إلى تفضيل علي على عثمان، وهذا غريب جدًا، وإنما اقتدى في ذلك بشيخه ابن عربي، ومن شعره في ذلك بقوله:(1/898)
أدين بما دان الرضي ولا أرى ... سواه وإن كانت أمية محتدي
ولو شهدت صفين خليلي حيا لا عذرت ... ساء بني حرب هنالك مشهدي.
يوسف بن الحسين بن علي ابن قاضي القضاة بدر الدين أبو المحاسن السنجاري الشافعي الزرزاري
كان صدرًا محتشمًا وجوادًا ممدحًا مقدمًا في العلماء بتلك البلاد، إمام الملك الأشرف موسى، وهو مباشر مملكته بتلك الناحية، وكان خطيبًا عنده مقربًا لديه، فلما انتقل الأشراف إلى مملكة دمشق نقله إلى قضاء بعلبك والبقاع والزبداني، وكان له نواب في بعضها، يكتب في استخلافه قاضي القضاة، وكان له عمل عظيم وخيل ومماليك كالوزراء والأكابر، ثم عاد إلى بلاده سنجار، فخدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الكامل ابن العادل خدمة كبيرة، فلما صار الملك الصالح إلى مملكة الديار المصرية وفد عليه القاضي بدر الدين، فأكرمه إكرامًا زائدًا، وولاه قضاء القضاة بالديار المصرية،
وكان من جملة نوابه بالقاهرة شمس الدين ابن خلكان، ودرس بالصالحية، وزر في وقت بمصر مدة، ولم يزل في ازدياد، مع ما ينسب إليه من أكل الرشا من النواب المتحاكمين وغيرهم، إلى أول الدولة الظاهرية، فعزله ولزم بيته محترما مكرمًا معظمًا ذا ثروة ظاهرة كثيرة، قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة حتى توفي في رجب سنة ثلاث وستين وست مائة عن خمس وثمانين سنة، سامحه الله.(1/899)
المرتبة الثالثة من الطبقة العاشرة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيها من أول سنة إحدى وسبعين وست مائة إلى آخر سنة ثمانين وست مائة(1/901)
آقوش بن عبد الله الأمير الكبير جمال الدين النجيبي الصالحي النجمي
نائب السلطنة المعظمة بدمشق وأعمالها، مولده في حدود سنة عشر وست مائة، وأول تأميره في الدولة الصلاحية النجمية، أعتقه مولاه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأمره، وولاه الاستاذارية، وكان يعتمد عليه لعقله وجزالة رأيه، ولما تسلطن الظاهر ولاه أولا استاذارتيه، ثم استنابه بدمشق تسع وستين ووقف في عيونها المدرسة النجيبية على الشافعية، وكانت دار الوزير صفي الدين ابن مرزوق، فاشتراها منه في المصادرة، وجعلها مدرسة أثابه الله، ثم عزله عن دمشق بعز الدين إيدمر، فانتقل إلى القاهرة المحروسة، وأقام بها معززًا مكرمًا موقرا معظمًا، ثم أصابه الفالج قريبًا من أربع سنين،
ولما اشتد مرضه عاده السلطان الملك السعيد، وكان كبير الصدقة والبر محبا للعلماء والفقراء شافعي المذهب، حسن الاعتقاد، قليل الأدب، يكره الشكاوى والمرافعات، حسن الشكل، جهوري الصوت ممتعًا بكثرة الأكل، ولم يرزق ولدا قط وله أوقاف على الحرمين وخانقاه في دمشق، ووقف على عتقائه وغيرهم، وكانت وفاته رحمه الله في ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وست مائة، ودفن بمصر نور الله ضريحه، ولما توفي وقعت الحوطة على تركته، والأوقاف التي وقعها، فلما فصل هذا من هذا في الدريس النحيبية في ذي القعدة من السنة المذكورة، فكان أول من درس بها قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان، وذلك بعد
عوده إلى القضاء في المرة الثانية كما سيأتي في ترجمته، إن شاء الله تعالى.(1/903)
طه بن إبراهيم بن أبي بكر ابن الشيخ كمال الدين أبو محمد الإربلي الفقيه الشافعي الأديب
ولد بإربل وانتقل إلى مصر شابا، وسمع من محمد بن عماد، وروى عنه الحافظ شرف الدين الدمياطي وجماعة، وانتفع به خلق، ورووا عنه من شعره، وتوفي وقد نيف على الثمانين في جمادى الأول سنة سبع وسبعين وست مائة بمصر، وهو من الأفراد.
عبد الله بن الحسين بن علي ابن الشيخ الإمام مجد الدين أبو محمد الكردي الوزرائي الإربلي الشافعي
كان بارعا عارفا بالمذهب خبيرا، بصيرا بعلم القراءات، وهو والد شيخنا الإمام قاضي القضاة شهاب الدين أبي المجد أيده الله تعالى وسدده، أم بالتربة الظاهرية وبالمدرسة القميرية ودرس بالكلاسة، وكان حسن الأخلاق جيد الديانة ذا زهد وتعبد وحسن سمت، سمع الحديث من الحافظ يوسف بن خليل، وتوفي في ذي القعدة سنة سبع وبعين وست مائة.
علي بن محمود بن علي القاضي العلامة شمس الدين أبو الحسن الشهرزوري الكردي الشافعي(1/904)
أول من درس بالقميرية حين بناها الأمير ناصر الدين القميري، وجعل تدريسها له ولأولاده من بعده ممن له أهلية، فدرس بها بعده ولده الصلاح، وقد ناب الشيخ شمس الدين في الحكم عن القاضي ابن خلكان، وكان بارعا فاضلا دينا جيد النقل عارفا بالمذهب، له مشاركة في علوم، وقد تكلم في مجلس الملك الظاهر حين عقد بسبب الغوطة، فقال: الماء والكلأ والمرعى لله لا تملك، وكل من بيده ملك فهو له، فبهت السلطان بكلامه وانفصل الحال على ذلك، توفي رحمه الله بالقميرية في شوال سنة خمس وسبعين.
عمر بن بندار بن عمر قاضي القضاة كمال الدين أبو حفص التفليسي الشافعي
ولد ببلده سنة ثنتين وست مائة تقريبًا وبرع في المذهب، وساد وتقدم، وورد دمشق، فلزم الشيخ أبا عمرو ابن الصلاح، وسمع من ابن اللتي، وولي نيابة الحكم، فأحسن إلى الناس ثم لما قدم هلاوو ولاه قضاء الشام والجزيرة والموصل، وكان معظمًا عندهم لا يخالفونه في شيء، فأحسن أيضًا إلى الناس، ولم يظهر عنه مظلمة ظلم ولا شيء أخذه، بل يسعى في حقن الدماء، ثم ذهب القاضي محيي الدين ابن الزكي، فتولى الحكم بدمشق، وعزله وأخذوا منه تدريس العادلية وولوه قضاء حلب، ثم عزلوه وألزموه بالسير إلى الديار المصرية، فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفي سنة ثنتين وسبعين وست مائة في ربيع
الأول منها رحمه الله تعالى.(1/905)
عمر بن عبد الوهاب بن خلف قاضي القضاة صدر الدين
ابن قاضي القضاة تاج الدين العلامي المصري الشافعي ابن بنت الأعز، كان فقيهًا عارفًا بالمذهب يسلك طريقة والده في التحري والصلابة، وله معرفة بالعربية وفيه دين وتعبد، سمع الحديث من الزكي المنذري، وغيره، وولي قضاء الديار المصرية، ودرس بأماكن، وكان وافر الحرمة له مهابة وجلالة، عديم المزاح بارًا بالفقهاء كثير الصدقة والبر، وتوفي يوم عاشوراء من محرم سنة ثمانين وست مائة عن خمس وخمسين سنة، رحمه الله.
محمد بن أحمد بن هبة الله بن الحسن قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر ابن قاضي القضاة صدر الدين أبي العباس ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي البركات الدمشقي الشافعي
ناب عن والده، ثم ولي القضاء بدمشق عند كسرة التتار عند عين جالوت فبقي سنة ثم عزل بابن خلكان، ونقل إلى مصر وصودر، ثم أعيد إلى قضاء دمشق، فمكث أيامًا عقب زوال دولة سنقر الأشقر ولم تتم ولايته، وقد ولي قضاء حلب قبل ذلك، ودرس بأماكن كثيرة وكان موصوفًا بكثرة النقل وجودته وصحته عالي الهمة مشكور الأحكام،(1/906)
كثير الهيبة، وحدث عن ابن القاسم بن صصرى، وابن ماسوية وغيرهما، توفي في ثامن المحرم سنة ثمانين وست مائة عن سبعين سنة، ودفن بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى.
محمد بن رزين بن الحسين بن رزين بن موسى بن عيسى بن موسى بن نصر الله قاضي القضاة مفتي الإسلام تقي الدين أبو عبد الله العامري الحموي الشافعي
ولد بحماة، وحفظ من التنبيه، ثم انتقل بحفظ الوسيط كله، وحفظ المفصل أيضًا، ورحل إلى حلب ثم عاد إلى بلده، فتصدر للإقراء والاشتغال، وله ثماني عشرة سنة ثم حفظ المستصفى للغزالي رحمه الله، وكتابي عمرو بن الحاجب في الأصول والنحو، ونظر في التفسير وبرع فيه، وشارك في الحديث والمعاني والبيان والمنطق والخلاف، وقدم دمشق فلازم ابن الصلاح وأم بدار الحديث، وقرأ على السخاوي، وسمع الحديث منهما ومن جماعة، وأفتى بدمشق هذه الأيام، ثم ولي وكالة بيت المال في الدولة الناصرية وتدريس الشامية البرانية، ثم انتقل إلى الديار المصرية، فظهرت فضائله واشتغل عليه الطلبة في أيام
الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأعاد بالشافعية، ثم ولي تدريس الظاهرية، ثم ولي القضاء وتدريس الشافعي، وعدة جهات، وامتنع من أخذ الجامكية على القضاء دينا ورعًا، وكان يقصد بالفتاوى من النواحي، وتخرج به جماعة منهم(1/907)
تلميذه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وحدث عنه أيضًا، والحافظ شرف الدين الدمياطي، وجماعة من المصريين، وكن حميد السيرة جميل الذكر رحمه الله توفي في ثالث رجب سنة ثمانين وست مائة.
محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك العلامة الأوحد شيخ النحاة جمال الدين أبو عبد الله الطائي الجياني
نزيل دمشق الشافعي، ولد سنة ست مائة، وسمع بدمشق من مكرم، وأبي صادق الحسن بن الصباح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم، وأخذ العربية عن غير واحد، وجالس ابن عمرون بحلب، وتصدر للإقرار بها، وتقدم وساد في فني النحو والقراءات وحصل منهما شيئًا كبيرًا، وأربى على كثير ممن تقدمه في هذا الشأن مع الدين والصدق وحسن السمت وكثرة النوافل وكمال العقل والوقار والتودد، وأقام بدمشق مدة شيخا بالتربة، العادلية وبجامع دمشق وانتفع به الطلبة وأكابر الفضلاء، وتوفي في ثامن عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وست مائة، وله من المصنفات تسهيل الفوائد، والكافية الشافية وشرحها، والألفية
وأشياء كثيرة، وممن روى عنه ولده الإمام بدر الدين، والنعمان بن جعران، وابن أبي الفتح، والشيخ علاء الدين بن العطار وجماعة، رحمهم الله.
محمد بن عبد القادر بن ناصر بن الخضر بن علي القاضي شهاب الدين الأنصاري الشافعي ويعرف بابن العالمة(1/908)
كان من الفضلاء الأدباء والفقهاء، رحل في طلب العلم، وولي قضاء بلد الخليل عليه السلام، وكانت أمه عالمة كبيرة القدر تحفظ القرآن، وتعرف شيئًا من الفقه والخطب، وتعرف بدهن اللوز، وقد قامت في عزاء الملك العادل، فقالت، فأحسنت، ولولدها أشعار مليحة، روى عنه ولده قاضي القضاة زين الدين قاضي حلب، ولد سنة ست مائة وتوفي في سنة اثنتين وسبعين وست مائة رحمه الله.
نصور بن سليم بن منصور بن فتوح الإمام المحدث الفقيه وجيه الدين أبو المظفر الهمداني الإسكندراني الشافعي
محتسب الثغر مدرس الإسكندرية، له مصنفات في فنون من الحديث والتاريخ وأسماء الرجال والفقه، وخرج لنفسه أربعين حديثا عن أربعين شيخا في أربعين بلدا، وتوفي في الحادي والعشرين من شوال سنة ثلاث وسبعين وست مائة.
يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين محمد بن جمعة بن حرام الشيخ الإمام العلامة محيي الدين أبو زكريا الحزامي النووي الحافظ الفقيه الشافعي(1/909)
النبيل، محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، ولد في العشر الأواسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة، ونشأ ببلده نوى، وكان يتوسم فيه النجابة من صغره، وقرأ بها القرآن، وقدم دمشق في سنة تسع وأربعين، وقرأ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع المهذب في بقية السنة، ولزم شيخه الكمال إسحاق بن أحمد المغربي، وأعاد عنده الجماعة، ومكث قريبًا من سنتين لا يضع جنبه إلى الأرض، وإنما يتقوت بجراية الرواحية التي هو مقيم بها، وحج مع والده في سنة إحدى وخمسين وست مائة من شهر رجب، وحم من أول ليلة خرجوا من نوى إلى يوم عرفة، قال والده: وما
تأوه ولا تضجر، ثم عاد إلى دمشق، ولازم شيخه الكمال إسحاق بن أحمد، وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسًا في أصول الفقه، تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب للرازي، ودرسًا في أصول الدين.
قال: وكنت أعلق ما يتعلق بذلك من الفوائد، قال: وعزمت مرة على الاشتغال بالطب، فاشتريت القانون لأقرأه فأظلم على قلبي وبقيت أيامًا لا أشتغل بشيء، ففكرت فإذا من القانون فبعته في الحال، وأخذ العلم عن جماعة من الشيوخ، وبورك له في وقته رحمه الله وتقبل منه وقد سمع الحديث من جماعة أيضًا منهم الرضي بن برهان الدين سمع عليه جميع صحيح مسلم، والشيخ شمس الدين ابن أبي عمرو ابن الشيخ عماد الدين ابن الحرستاني، وإسماعيل بن أبي اليسر، وسمع صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني، وشرح السنة ومسند الإمام الشافعي، والإمام أحمد،
وأشياء كثيرة، ومصنفات عديدة كبيرة.
وأخذ علم(1/910)
الحديث من الزين خالد، وكان يقرأ عليه الكمال الحافظ عبد الغني، وشرح صحيح مسلم، وأكثر صحيح البخاري على الشيخ أبي إسحاق بن عيسى المرادي وعلمه أصول الفقه على القاضي أبي الفتح التفليسي، وتفقه على الكمالين إسحاق المغربي وسلار الأيلي، والإمام شمس الدين عبد الرحمن بن نوح، وعز الدين عمر بن أسعد الإربلي، وقد تفقه به وروى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ منهم القاضي صدر الدين الداراني، وشيخنا الإمام العلامة علاء الدين بن العطار، وجمع له سيرة، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي، وشيخنا القاضي محيي الدين الزرعي، وشيخنا شهاب الدين الأرندي وشيخنا أمين
الدين سالم بن أبي الدرو، وآخر من بقي من أعيان الفقهاء من أصحاب شيخنا القاضي الإمام شمس الدين ابن النسيب قاضي القضاة بحلب أيده الله تعالى، وخلق سواهم كثيرة وجم غفير.
وقد انتفع بتصانيفه وتعاليقه أهل المذهب، منها: كتاب الروضة اختصر فيها شرح الرافعي وزاد فيها تصحيحات واختيارات حسان، وشرح ربع المهذب بكتابه المجموع سلك فيه طريقة وسطة حسنة مهذبة سهلة جامعة لأشتات الفضائل، وعيون المسائل، ومجامع الدلائل، ومذاهب العلماء، ومفردات الفقهاء وتحرير الألفاظ، ومسالك الأئمة الحفاظ، وبيان صحة الحديث من سقمه، ومشهوره من مكتمله.
وبالجملة فهو كتاب ما رأيت على منواله لأحد من المتأخرين ولا حذا على مثاله متأخر من المصنفين، ومن ذلك: شرح مسلم، جمع فيه مشروحات من تقدم من المغاربة وغيرهم، وزاد فيه ونقص، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، وكتاب المنهاج في الفقه اختصر فيه المحرر وزاد فيه ونقص، وكتاب الإرشاد، وكتاب التقريب والتيسير، وكتاب البيان في آداب حملة القرآن، وكتاب(1/911)
المناسك، وكتاب الرياض، وكتاب الأذكار، وكتاب الأربعين، وقد سمعناه على شيخنا المزي، وغير ذلك من الفوائد، وله كتاب طبقات الشافعية اختصر فيه كتاب ابن الصلاح، وزاد عليه أسماء نبه على ذيل في كتابه مع أنهما لم يستوعبا أسماء
الأصحاب، ولا النصف من ذلك، وهذا هو الذي جرأني على جمع هذا الديوان، وبالله المستعان.
وقد كان رحمه الله على جانب كبير من العلم والزهد والتقشف والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه، ولا قبله بدهر طويل، فكان لا يدخل الحمام، ولا يأكل من فواكه دمشق لما في بساتينها من الشبه في ضمانها والحيلة فيه، صرح بذلك، وكان لا يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم والليلة بعد عشاء الأخيرة ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولا يشرب المبرد، ولم يتزوج قط، وكان قليل النوم، كثير السهر في العبادة والتلاوة والذكر والتصنيف، وكان أمارًا بالمعروف نهاء عن المنكر يواجه الأمراء والكبار والملوك بذلك ويصدع بالحق، وقام على الملك
الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أرادوا وضع الأملاك على بستانها فرد عليهم ذلك، ووقى الله شرها بعد أن غضب السلطان، وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظمه حتى كان يقول: أنا أفزع منه.
وقد ولي الشيخ محيي الدين مشيخة دار الحديث الأشرفية بعد الشيخ شهاب الدين أبي شامة سنة خمس وستين إلى أن توفي، ولم يتناول من معلومها فلسًا، ولم يقبل لأحد هدية إلا نادرًا وإنما كان يتقوت مما يأتيه من أبيه من نوى كعك وفطير، وكان يلبس ثوبًا حرانيا وعمامة سنجانية، وكان لا يؤبه له بين الناس وعليه سكينة(1/912)
ووقار، رحمه الله، قال الشيخ علاء الدين بن العطار: سافر الشيخ إلى نوى وزار القدس والخليل وعاد إلى نوى وتمرض عند أبيه إلى أن توفي ليلة أربع وعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة، ودفن بنوى، وصلوا عليه بدمشق يوم الجمعة رحمه الله وإيانا، ورثاه غير واحد من
الشعراء بِمَرَاثٍ جَمَّةٍ.(1/913)
المرتبة الرابعة من الطبقة العاشرة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيها من أول سنة إحدى وثمانين وست مائة إلى آخر سنة تسعين(1/915)
أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة بن عمر الفقيه الإمام أمين الدين أبو العباس ابن الأشتري الحلبي ثم الدمشقي الشافعي
كان ممن جمع من العلم والعمل والإمامة والإنابة والديانة التامة بحيث إن الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله كان إذا جاء شاب يقرأ عليه يرشده إلى القراءة على أمين الدين الأشتري لعلمه بدينه وعفته، روى الحديث عن أبي محمد بن علوان، والموفق عبد اللطيف، والقاضي أبي المحاسن بن شداد بن روزبة وجماعة، وروى عنه ابن عبد الجبار، والشيخ علاء الدين بن العطار، والحافظ أبو الحجاج المزي، وقال: كان ممن جمع من العلم والعمل، إمامًا عارفًا بالمذهب ورعًا كثير التلاوة بارز العدالة كبير القدر مقبلًا على شأنه، وكان يقرئ الفقه، وله اعتناء بالحديث، وتوفي بدمشق فجأة في ربيع
الأول سنة إحدى وثمانين وست مائة، رحمه الله.
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس البرمكي الإربلي الشافعي
ولد بإربل سنة ثمان وست مائة، وسمع بها صحيح البخاري من أبي جعفر بن هبة الله بن مكرم الصوف، وأجاز له المؤيد(1/917)
الطوسي، وعبد العزيز، وزينب الشعرية، وغيرهم، وارتحل إلى الموصل، فاشتغل بها على الكمال بن يونس، ثم قدم حلب، فأخذ عن القاضي بهاء الدين بن شداد، ثم قدم دمشق، ثم صار إلى الديار المصرية، فتأهل بها وناب في الحكم عن القاضي بدر الدين بن السنجاري، ثم قدم الشام على قضائها مستقلًا بالأمور، وذلك في سنة تسع وخمسين، ثم أضيف إليه من المذاهب الثلاثة من كل قاضي، وذلك في سنة أربع وستين، واستمر في الحكم إلى سنة تسع وستين، فعزل بالقاضي عز الدين ابن الصائغ فصار
إلى الديار المصرية، واستمر معزولًا سبع سنين، ثم أعيد إلى قضاء دمشق وعزله ابن الصائغ، ودخل ابن خلكان دمشق في أول سنة سبع وسبعين، وتلقاه نائب السلطنة، وأعيان البلد، وكان يومًا مشهودًا، قل أن رئي قاض مثله، وأنشأ ابن مصعب في ذلك:
رأيت أهل الشام طرا ... ما فيهم قط غير راض
نالهم الخير بعد شر ... فالوقت بسط بلا انقباض
وعوضوا فرحة بحزن ... مذ أنصف الدهر في التقاضي
فسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاضي
فكلهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماض(1/918)
، وهذا وإنما قاله الشاعر بحسب حاله، وإلا فكل من القاضيين من خيار عباد الله الصلحاء، وكان ابن خلكان، رحمه الله، عالمًا بارعًا عارفًا بالمذهب وفنونه سديد الفتاوى، جيد القريحة كريمًا وقورًا رئيسًا عارفًا بأيام الناس حسن الذاكرة، حلو المجالسة بصيرًا بالشعر، جميل الأخلاق، له كتاب وفيات الأعيان من أحسن ما صنف في ذلك، ولما سلطن سنقر الأشقر بدمشق في أول الدولة المنصورة، وتلقب بالملك الكامل، وبايعه القضاة والأعيان ثم جاء الأمير علم الدين الحلبي وحاصر دمشق وأخرج منها سنقر الأشقر واسترجع البلد، عزل خلقًا من أرباب المناصب ورسم على القاضي ابن خلكان في
الخنانقاه النجيبية وعزله، وولى القاضي نجم الدين ابن سني الدولة، ولزمه بالانتقال من المدرسة العادلية، وألح عليه فأكرى جمالًا لينتقل إلى الصالحية، فورد المرسوم السلطاني بالعفو عمن بايع سنقر الأشقر، واستقرارهم على مناصبهم، ومعاملة القاضي بالإكرام، والاحترام ثم عزل بعد ذلك بالقاضي ابن الصائغ المرة الثانية، واستمر معزولًا وبيده الأمينية والنجيبية إلى أن توفي يوم السبت عشية السادس والعشرين من رجب سنة إحدى وثمانين وست مائة بالمدرسة النجيبية بإيوانها وشيعه خلق كثير، وقد روى عنه قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وبه تخرج، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي،
ومؤرخ الشام الحافظ علم الدين البرزالي وخلق، ومن شعر القاضي شمس الدين ابن خلكان، رحمه الله تعالى:
أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم جماله(1/919)
يزجر العيس طارقا يقطع ... المهمة عسفا سهوله ورماله
يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله
هذه سنة المحبين تتلى ... على كل منزل لا محاله
يا خليلي إذا أتيت إلى الجزع ... وعاينت روضة وتلاله
قف به ناشدا فؤادي فلي ... ثم فؤاد أخشى عليه ضلاله
رنا علي الكثيب بيت أغض ... الطرف عنه ومهابه وجلاله
حوله فتية تهز من الخوف ... عليه ذوابلا عساله
كل من جئته لا سأل عنه ... أظهر الغي غيرة وتباله
منزل حقه على قديم في ... زمان الصبا وعصر البطالة
يا عريب الحمى أعذروني ... فإني ما تجنبت أرضكم عن ملاله
لي مذ غبتمو عن العين نار ... ليس تخبوا وأدمع هطالة(1/920)
فصلونا إن شئتم أو فصدوا ... لا عدمناكم على كل حاله.
عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء
العلامة شيخ المذهب على الإطلاق في زمانه، مفتي الفرق، أحد المجتهدين، فقيه الشام تاج الدين أبو محمد الفزاري البدري المصري الأصل الدمشقي الشافعي، ويلقب بالفركاح، نحيف في رجليه، ولد في ربيع الأول من سنة أربع وعشرين وست مائة، وسمع صحيح البخاري من الزبيدي، وسمع من أبانا وغيره، وسمع أيضًا من مكرم بن أبي الصفر، وابن الصلاح والسنجاري وخلق، وقد خرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة عن مائة شيخ في عشرة أجزاء، فسمعها عليه جماعة من الأعيان منهم ابنه شيخنا الإمام العلامة برهان الدين، والشيخ الإمام العلامة أبو العباس تقي الدين ابن تيمية، والحافظ الجهبذ أبو
الحجاج المزي، وقاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى، والشيخ علاء الدين بن العطار، وعلاء الدين المقدسي، وزكي الدين زكي وآخرون، وتخرج في الفقه أولًا على الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ عز الدين ابن عبد السلام، فبرع في المذهب سريعًا، وتقدم وساد وتصدر للاشتغال، وهو ابن بضع وعشرين سنة، ودرس في سنة ثمان وأربعين، وأفتى وهو ابن ثلاثين سنة، وأعاد في المدرسة الناصرية الجوانية أول ما بنيت، ودرس في المجاهدية ثم تركها، وولي البادرانية في سنة ست وسبعين، واقتصر(1/921)
عليها وعلى مرتب له في الجامع.
وكان فيه كرم زائد، ومواساة وأخلاق جميلة، وعشرة صديقة، فقير النفس رحيب الصدر، له عبارة حسنة جزيلة فصيحة وخطابة بليغة الفوائد الجمة والفنون المهمة، والمصنفات البديعة عالي الهمة كثير الاشتغال والمطالعة، مداوما على الاشتغال في جميع حالاته، وكان محببا إلى النفوس موقرا عندهم لديانته وعفته وفوائده وكرمه وعلمه ورياسته وعقله وفضله وتواضعه ونصحه للمسلمين، ومن جملة مصنفاته كتاب الإقليد علقه على أبواب التنبيه من نظر فيه علم محل الرجل من العلم وأين وصل إليه من مراتبه في تصويره وتعبيره وشهومته وعلو قدره، وكان رحمه الله، لطيف الطبع يميل إلى السماع، ويحضره
ويرخص فيه، ورأيت في ذلك شيئًا قد تكلم عليه أباحه بشروط الشأن في حصول تلك الشروط في زماننا اليوم، وله اختيارات في المذهب كثيرة، مشى على أكثرها ولده من بعده، رحمهما الله، وللشيخ رحمه الله فضائل كثيرة ومحاسن غزيرة، وله شعر جيد فمنه:
يا كريم الآباء والأجداد ... وسعيد الإصدار والإيراد
كنت سعدا لنا بوعد كريم ... لا تكن في وفائه كسعاد
، وقد تخرج به جماعة كثيرون، وأمم لا يحصون من قضاة، وقضاة قضاة، وعلماء، وفقهاء، وسادة، وقادة رءوس، ورؤساء، وأئمة وكبراء، وكان له فنون في الشرعيات من فقه وحديث وتفسير وعلوم الإسلام الشافعية، فرحمه الله، ونور ضريحه، توفي ضحى يوم الاثنين خامس جمادى(1/922)
الآخرة سنة تسعين وست مائة عن ست وستين سنة، ودفن بمقبرة باب الصغير، وشيعه خلق كثير، وجم غفير، وتأسف الناس عليه وحزنوا حزنا كبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان القاضي نجم الدين الجهني بن البارزي الحموي الشافعي
قاضي القضاة بحماة ووالد قاضيها المعمر شرف الدين، فسح الله في أجله وختم له بصالح عمله، كان فقيهًا أصوليًا فاضلًا بارعًا إمامًا شاعرًا مطبعا مطيعًا، له معرفة جيدة بالمعقول ومشاركة في الفنون، وسمع الحديث من ابن رواحة، وموسى بن الشيخ عبد القدر الجيلي، وعنه ابنه العلامة شرف الدين، والحافظ أبو العباس بن الظاهري، وولده أبو عمر، وعثمان وجماعة، وكان مشكور السيرة، محبا للفقراء، وافر الديانة، ظاهر الصيانة، درس وأفتى وأفاد وتخرج به جماعة، وصار له تلامذة في المذهب، وعزل عن القضاء قبل موته بسنوات، وتوفي وهو آم بيت الله العتيق بتبوك في ذي القعدة سنة ثلاث
ثمانين وست مائة، ونقل إلى المدينة المنورة النبوية، ومن شعره رحمه الله تعالى.
إذا شمت من تلقاء أرضكم برقا ... فلا أضلعي تهدأ ولا أدمعي ترقا(1/923)
وإن ناح فوق البان ورقاء حمائم ... سحيرا فنوحي في الدجى علم الورقا
فرقوا القلب في ضرام غرامه ... حريق وأجفان بأدمعها غرقا
سميري من سعد خذا نحو أرضهم ... ولا تستبعدا نحوها الطرقا
وعوجا على أفق توشح شيحه ... بطيب الشذا المسكي أكرم به أفقا
فإن به المعنى الذي بترابه ... وذكراه يستشفى لقلبي ويسترقا
ومن دونه عرب يرون نفوس من ... يلوذ بمغناهم حلالا لهم طلقا
بأيديهم بيض بها الموت أحمر ... وسم لدى هيجانهم تحمل الذرقا
وقولا محب بالشآم غدا لقي ... لفرقة قلب بالحجاز غدا ملقى
تعلقكم في عنفوان شبابه ... ولم يسل عن ذاك الغرام وقد أنقى
وكان يمني النفس بالقول فاغتدى ... بلا أمل إذ لا يؤمل أن يبقى
عليكم سلام الله أما ودادكم ... فباق وأما البعد عنكم فما أبقى
،(1/924)
ثم امتدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر جنابه الشريف ووصفه، وذكر فضل الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وله في القلم:
ومثقف الحظ يحكي فعل سم ... الخط إلا أن هذا أصغر
في رأسه المسود أن أجروه ... في المبيض للأعداء موت أحمر.
عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي بن علي القاضي الخطيب المفتي جمال الدين أبو محمد الربعي الدمشقي الشافعي
كان بارعًا فاضلًا عارفًا بالمذهب، خطب بدمشق، وناب في القضاء ثم ترك النيابة، واقتصر على الخطابة، وكان للناس فيه اعتقد لدينه وسكونه، سمع من ابن صباح، وابن الزبيدي وابن اللتي وجماعة، وقد خرج له الحافظ الرباني مشيخة سمعها منه الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وقاضي القضاة شمس الدين ابن مسلم الحنبلي، مات في سلخ جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وست مائة عن سبع وسبعين سنة، وازدحم الناس على نعشه، رحمه الله.(1/925)
علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الإمام علاء الدين أبو الحسن ابن الإمام كمال الدين أبي المكارم ابن خطيب زملكان الأنصاري السماكي والد العلامة كمال الدين ابن الزملكاني
كان إمامًا جليلًا نبيلًا، حسن الشكل، وافر الحرمة، درس بالأمينية، وتوفي وقد نيف على الخمسين في ربيع الأول سنة تسعين وست مائة.
عمر بن إسماعيل بن مسعود بن سعد بن أبي الكاتب العلامة رشيد الدين أبو حفص الربعي الفارقي الشافعي
مدرس الظاهرية، كانت له اليد الطولى في التفسير والمعاني والبيان والبديع واللغة والنحو، وانتهت إليه رياسة الأدب في زمانه، ومن قبل ذلك، وامتدح السخاوي ومدحه السخاوي، وله مشاركات جيدة في فنون كثيرة، وباع في الفقه والأصول والطب، خدم في ديوان الإنشاء مدة، ووزر في بعض الدول، وأفتى وناظر ودرس في الناصرية مدة، ثم انتقل إلى تدريس الظاهرية، وألف مقدمتين في النحو كبرى وصغرى، وكان حسن الخط حلو المذاكرة ظريف النادرة كيسًا فطنًا سمع الحديث، وروى عنه من شعره الحافظ الدمياطي،(1/926)
والمزي والبرزالي وجماعة، وجد مخنوقًا ببيت مدرسته في رابع المحرم من سنة تسع وثمانين
وست مائة، وقد أخذ ذهبه رحمه الله، وقد كان له شعر رائق فمنه:
مر النسيم على الروض البسيم فما ... شككت أن سليمى حلت السلما
ولاح برق على أعلى الثنية لي ... فخلت برق الثنايا لاح وابتسما
مفتي الحبيبة رواد السحاب فكم ... ظمئت فيك وكم رويت فيك ظما
به عهدت الهوى حلوا ومن لنا ... للهو حلوا وذاك الشمل ملتئما
والدار دانية والدهر في غسل ... عما يزيد وفي طرف الرقيب عما
والشمس تطلع من ثغر وتغرب في ... شعر ويجلو سنا إشراقها الظلما
وظبية من ظباء الإنس ما اقتنصت ... ولا استباح لها حرف الرماد حما
وطفاء حاجبها قوس وناظرها ... سهم إذا ما دنا طرف إليه رما
وجفنها فيه خمر وهو منكسر ... والخمر في القدح المكسور ما علما
وقدها ناضر لكنه نضر ... حلو الخبا ثمر التفاح والفما(1/927)
ولفظها فيه ترخيم فلو نطقت ... يوما لا عصم وافاها وما اعتصما
وثغرها يجعل المنظوم منتثرا ... من اللآلي والمنثور منتظما
تبسمت فيك عيني وساعدها ... قلبي ولوا ثغر البسيم لما
فصار مربعها قلبي ومرتعها ... لي وموردها ومعي الذي انسجما
ولم أكن راضيا منها بطيف كرى ... فاليوم من لي به والنوم قد عدما
عمر بن يحيى بن عمر بن حمد الشيخ فخر الدين الكرجي
نزيل دمشق، صحب الشيخ تقي الدين ابن صلاح، وخدمه وتفقه به وتزوج بابنته، وسمع الحديث من ابن الزبيدي، وابن اللتي، والبهاء عبد الرحمن وجماعة، وحدث ببخارى وكرمان من مسموعاته، وروى عنه: الشيخ علاء الدين بن العطار صحيح البخاري، وسمع منه جماعة، وقد تكلم فيه بعضهم من جهة أنه كان يلحق اسمه في بعض طبقات السماع إلى الاستحالات على القضاة، وذكر أبو عمرو القابل أنه رآه قد ألحق اسم الشيخ زين دين الفارقي في الغيلانيات(1/928)
على ابن الصلاح، والله أعلم، وكان شيخ الحديث بالمدرسة الظاهرية وبالقلنجية، توفي إلى رحمة الله تعالى يوم توفي الشيخ فخر الدين ابن البخاري المقدسي
ثاني ربيع الآخر سنة تسعين وست مائة عن إحدى وتسعين سنة، رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن نعمة بن أحمد شمس الدين المقدسي
أخو الإمام شرف الدين المقدسي، تفقه وبرع في المذهب ودرس في الشامية البرانية نيابة عن الشيخ تقي الدين ابن رزين، ثم اشترك هو والقاضي عز الدين ابن الصائغ فيها، ثم استقل بها بعده إلى أن مات، وناب في الحكم عن الصائغ، وكان مشكور السيرة متين الديانة ممن جمع بين العلم والعمل، وروى عن السخاوي وغيره، وعنه الحافظ البرزالي، وابن العطار وغيرهما، توفي في ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين وست مائة، وقد جاوز الخمسين، رحمه الله.
محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن العلامة برهان الدين المراغي الشافعي
أحد العلماء العباد، والأئمة الزهاد، درس مدة بالفلكية، وأفتى واشتغل بالجامع الأموي مدة طويلة، واستفاد به الطلبة والفضلاء،(1/929)
وكان له معرفة جيدة بالأصلين والفقه، وعرضت عليه وكالة بيت المال فأباها، ومشيخة الشيوخ فما قبلها، وقضاء القضاة فامتنع لزهده وورعه، سمع الحديث بمدينة حلب من أبي القاسم بن رواحة، وزين الدين ابن الأستاذ، وحدث عنه: الحافظ المزي، والعالم البرزالي، والشيخ علاء الدين بن العطار، قال الشيخ قطب الدين اليونيني رحمه الله: كان لطيف الأخلاق كريم الشمائل، عارفًا بالمذهب والأصول مكمل الأدوات توفي في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى
وثمانين وست مائة، ودفن بمقابر الصوفية، وله ست وسبعون سنة، رحمه الله تعالى آمين.
محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد قاضي القضاة عز الدين أبو المفاخر الأنصاري الدمشقي الشافعي المعروف بابن الصائغ
ولد سنة ثمان وعشرين وست مائة، وسمع ابن اللتي، وابن الحميري، ويوسف ابن خليل وجماعة وتفقه على جماعة، ولازم القاضي كمال الدين التفليسي، وصار من أعيان أصحابه، ودرس بالشامية البرانية، مشاركًا للقاضي شمس الدين بن المقدسي، ثم استقل بها ابن المقدسي، وعوض ابن الصائغ بوكالة بيت المال، وذلك بسفارة الصاحب بهاء الدين بن الحسي، وحظي ابن الصائغ عند الصاحب ابن الجني ورفع من قدره، ونوه بذكره حتى آل من أمره أن عزل القاضي شمس الدين ابن خلكان، وولى ابن الصائغ القضاء، وذلك سنة(1/930)
تسع وستين، فباشر القضاء، وظهرت منه نهضة وصرامة وقام في الحق وإبطال الباطل، فتربى له بسبب
ذلك مبغضون تعصبوا عليه وألهوا وشنعوا وتعاونوا وكذبوا، ثم أعيد ابن خلكان إلى القضاء في أول سنة سبع وسبعين، ففرح كثير من الناس بذلك، وبقي ابن الصائغ على تدريس العذراوية فقط.
فلما قدم الملك المنصور دمشق لغزوه حمص سنة ثمانين، أعاد ابن الصائغ إلى القضاء، وعزل ابن خلكان، وبقي بتدريس النجيبية فقط، فعاد القاضي عز الدين إلى عادته فيما كان عليه من إقامة الشرع، وإسقاط الشهود المطعون فيهم، والتنقيب والكشف عن أمور مستورة، فتعاونوا وتساعدوا فيه، ورتبوا أمورًا كبيرة متعددة، وعقدوا له مجالس يطول ذكرها، وكاد الرجل أن يعطب بأكملية، ثم وقى الله شر تلك الناس، وخمد تلك النفوس الثائرة، وكاتب فيه ملك الأمراء حسام الدين لاجين نائب الشام إلى طلب حسام الدين طرنطاي نائب الديار المصرية وتساعدا في الإنهاء إلى السلطان براءة القاضي المذكر،
وأنه لم يثبت في قلبه حق، وأنه متعصب عليه، فجاء المرسوم السلطاني بإطلاقه من اعتقاله، ومعاملته بالإكرام والاحترام، فأخرج من القلعة المنصورة بعد ما مكث فيها أيامًا وأحيط على حواصله وأملاكه، ففرج الله عنه هذه الكربة بسبب سؤاله الله ربه، وذهب إلى ملك الأمراء فسلم عليه، وإلى قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي، ونزل بداره بمدرسة النخاسة، ثم انتقل إلى بستانه بحمص إلى أن توفي في تاسع ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وست مائة، وقد جمع أهله عند احتضاره، وتوضأ وصلى بهم، وقال: هللوا معي وبقي يهلل معهم ساعة حتى توفي وذكروا أن آخر كلامه لا إله إلا الله، فرحمه الله
آمين.(1/931)
محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الخطيب محيي الدين أبو حامد ابن الخطيب عماد الدين ابن قاضي القضاة ابن الحرستاني الشافعي الدمشقي
خطيبها، ومدرس الغزالية والمجاهدية، كان صينا فقيهًا نبيها فاضلًا شاعرًا مجيدًا بارعا ملازمًا منزله فيها عبادة وتنسك وانقطاع، طيب الصوت في الخطبة، عليه روح بسبب تقواه، أجاز له جده والمؤيد الطوسي، وزينب السعدية، وأبو روح الهروي، وسمع من زين الأمناء، وابن صباح، وابن الزبيدي، وابن ماسويه وجماعة، وعنه: ابن العطار والبرزالي وجماعة، توفي في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثنتين وثمانين وست مائة ودفن بقاسيون، رحمه الله.
محمد بن محمود بن محمد بن عبد الكافي العلامة شمس الدين أبو عبد الله الأصبهاني
شارح المحصول في أصول الفقه، قدم الشام بعد سنة خمسين وست مائة، وناظر، واشتهرت فضائله في الأصلين والمنطق والخلاف، وله كتاب القواعد في هذه الفنون الأربعة، وله معرفة جيدة بالنحو، والأدب، والشعر، ودراية بالمعقولات، وورد ديار مصر، فتولى قضاء قوص، ثم قضاء الكرك، ثم عاد إلى مصر، فأعاد وأفاد، وولي(1/932)
تدريس الصالحية، ثم المشهد الحسيني، ثم تدريس الشافعي وتخرج به الطلبة، وكتب عنه الحافظ علم الدين البرزالي وغيره، وتوفي بالقاهرة في العشرين من رجب سنة ثمان وثمانين وست مائة عن ثنتين وسبعين سنة، رحمه الله.
يوسف بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسن بن محمد عبد الرحمن بن الوليد بن القاسم الفقيه الإمام قاضي القضاة بهاء الدين أبو الفضل ابن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل القرشي الدمشقي الشافعي الركوي
ومولده في ذي القعدة سنة أربعين وست مائة، وكان جليلًا نبيلًا وسيمًا جسيمًا ذكيا سريا كامل الرئاسة، وافر العلم بارعًا في أصول الفقه، بصيرًا بالفقه فصيحًا بليغًا مفوهًا، حسن الشكل، تام القامة، له حظ في المناظرات، وحل المشكلات، سريع الحفظ يدرس الدرس الجيد المفنن من نظرة واحدة، وله مع ذلك دروس متعددة، وله معرفة بالأخبار والأدب، كريمًا حسن المذاكرة والمعاشرة، وكان أفضل أهل بيته، سمع ابن رواج، وابن الحري وغيرهما، وسمع منه: الحافظ علم الدين البرزالي، واشتغل بالمعقول على القاضي كمال(1/933)
الدين التفليسي، وكانت ولايته للقضاء بعد ابن الصائغ في سنة ثنتين
وثمانين، وتوفي في حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وثمانين وست مائة، وولي بعده ابن الحري.(1/934)
المرتبة الخامسة من الطبقة العاشرة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيها من أول سنة إحدى وتسعين وست مائة إلى آخر سنة سبع مائة ولله الحمد والمنة(1/935)
أحمد بن إبراهيم بن عمر بن الفرج بن أحمد بن سابور بن علي بن غنيمة الإمام المقرئ الواعظ المفسر الخطيب شيخ المشايخ عز الدين أبو العباس الفاروقي الواسطي الشافعي الصوفي
ولد بواسط سنة أربع عشرة وست مائة، قرأ القراءات على والده وغيره، وقدم بغداد سنة تسع وعشرين، فسمع بها من ابن الزبيدي، وابن اللتي، وعمر ابن كرم وجماعة، ومن الشيخ شهاب الدين السهروردي ولبس منه خرقة التصوف، وسمع بواسط وأماكن أخر، واستمع الكثير بالحرمين، والعراق، ودمشق، وكان قدومه إلى دمشق سنة تسعين من الحجاز الشريف فولي بها مشيخة دار الحديث الظاهرية، وإعادة الناصرية، وتدريس النجيبية، ثم ولي خطابة البلد بعد زين الدين بن المرجل، وكان خطيبًا بليغًا، فإذا نزل وصلى ربما خرج بالخلعة السوداء، وشيع الجنائز وزار بعض أصحابه من الأكابر وهو لابسها، وكان إمامًا
بارعًا فاضلًا فقيهًا مقربًا حسن الاعتقاد، جيد الديانة ظريفًا حلو المجالسة لطيف الشكل صغير العمامة، يرتديها على ظهره، وكان كثير الاشتغال والعبادة، عنده كتب كثيرة جدًا نحو من ألفي مجلدا أو أكثر، ذا مال جزيل وكرم وسعة صدر، ووجاهة عند الأكابر والأمراء سيما عند نائب السلطنة الشجاعي، فاتفق أنه عزل عن الخطابة بموفق الدين بن حبيش الحموي فتألم لذلك، وترك الجهات، وأودع بعض كتبه، وسار مع ركب الشامي إلى الحجاز،(1/937)
ورجع من ركب العراق إلى واسط، فمات بها في بكرة يوم الأربعاء مستهل ذي الحجة سنة أربع وتسعين وست مائة، وَصُلِّيَ عليه بدمشق صلاة الغائب بعد سبعة
أشهر، رحمه الله تعالى.
أحمد بن أحمد بن نعمة بن أحمد ابن الإمام العلامة أقضى القضاة خطيب الخطباء شرف الدين أبي العباس النابلسي المقدسي الشافعي بقية الأعلام
ولد سنة اثنتين وعشرين وست مائة تقريبا بالقدس الشريف إذ أبوه خطيبها، وسمع الحديث من ابن الصلاح، والسخاوي وجماعة، وأجاز له الشيخ شهاب الدين السهروردي، والشيخ ابن عبد السلام، وأبو علي ابن الجواليقي، وتفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام بالقاهرة، وجالس أمير المؤمنين الحاكم، واشتغل عليه الخليفة في العلم والأدب مدة، وكان إمامًا في الفقه، وأصول الفقه، والعربية، والنظر، حاد الذهن، سريع الفهم، قوي الكتابة، متواضعًا متنسكًا كيسًا، حسن الأخلاق، لطيف الشمائل، طويل الروح على الاشتغال، متين الديانة، حسن الاعتقاد، سلفي الطريقة انتهت رياسة المذهب إليه بعد
الشيخ تاج الدين، وتخرج به جماعة، وأذن لجماعة في الفتوى، وعندي بخطه مصنف له في أصول الفقه جيد جدا، سمعت شيخنا العلامة برهان الدين الغزاوي يثني على هذا الكتاب كثيرًا مرارًا، وكان يقرأ عليه فيه بعض الطلبة، وأنا أسمع فيستحسنه، وكان الشيخ شرف الدين(1/938)
المقدسي له حلقة عند باب الغزالية يشتغل فيها، ودرس بالشامية الكبرى، وولي مشيخة دار الحديث النورية، وناب في الحكم عن ابن الخويي، وكان نظيره في الفضائل، وخطب بجامع دمشق مدة من إنشائه، ثم مات حميدًا سعيدًا في رمضان سنة أربع وتسعين وست مائة، وقد نيف على السبعين، رحمه الله.
أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم محب الدين أبو العباس الطبري المكي الشافعي
مصنف الأحكام المبسوطة أجاد فيها، وأكثر وأطنب، وجمع الصحيح والحسن، ولكن ربما أورد الأحاديث الضعيفة، ولا ينبه على ضعفها، وكان فقيهًا بارعًا محدثًا حافظًا، درس وأفتى، وكان شيخ الشافعية هناك، ومحدث الحجاز في زمانه، وهو والد قاضي القضاة كمال الدين محمد، وجد القاضي نجم الدين الحاكم بها، وكان مولده سنة خمس عشرة وست مائة، وسمع الحديث من ابن المقير، وشعيب الزعفراني، وابن الجميزي، والمرسي وغيرهم، عنه: الحافظ شرف الدين الدمياطي، والبرزالي، وابن العطار وغيرهم، وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وست مائة.(1/939)
أحمد بن فرح بن أحمد بن محمد الفقيه الإمام المحدث الحافظ شهاب الدين أبو العباس اللخمي الإشبيلي الشافعي
ولد ببلده سنة خمس وعشرين وست مائة، وأسره الفرنج سنة ست وأربعين، وتخلص منهم، فورد الديار المصرية سنة بضع وخمسين، فتفقه بها على الشيخ عز الدين بن عبد السلام قليلًا، ثم صار إلى دمشق، فنزل بالشامية البرانية فقيهًا مقيمًا، وسمع الحديث من جماعة، وعني بالحديث وأتقن ألفاظه ومعانيه وفقهه حتى صار من أئمة هذا الفن مع الديانة والورع وحسن السمت والعبادة والصدق والأمانة وملازمة الاشتغال، وكانت له حلقة يشتغل بها بجامع دمشق أول النهار، وقد عرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية فامتنع، وكان رجلًا مهيبًا تام القامة في زي الصوفية، وله كتابة صحيحة لكتب كثيرة كبار
وصغار، وله شعر جيد، من ذلك قصيدة نحو عشرين بيتًا في أنواع الحديث، سمعناها من بعض أصحابه أولها:
غرامي صحيح والرجاء فيك مفضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل
، وقد سمعها منه: الحافظ شرف الدين الدمياطي والبونيبي سنة بضع وستين، وممن سمع منه: الحافظ علم الدين البرزالي، والمقاتلي، وأبو محمد بن أبي الوليد، وكان من أكبرهم له، توفي بتربة أم الصالح ليلة(1/940)
الأربعاء تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مائة، ودفن بمقابر الصوفية، وشيعه خلق كثير، رحمه الله تعالى.
أحمد بن محسن بن مكي بن حسن بن عتيق بن ملي البارع المتفنن نجم الدين بن ملي الأنصاري البعلبكي الشافعي المتكلم
ولد ببلده سنة سبع عشرة وست مائة، وسمع الحديث من البهاء عبد الرحمن، وأبي المجد القزويني، ولد ببلده، واشتغل بدمشق في العربية على أبي عمرو بن الحاجب، وأخذ الفقه عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأخذ علم الحديث عن الحافظ زكي الدين المنذري، وكان من أذكياء الناس، وفضلائهم، وتقدم في علوم كثيرة وناظر، وكان ذا عبارة وقدرة على المجادلة إلا أنه كان متهمًا في دينه بترك بعض الصلوات، والمحافظة على تكرار علوم الأوائل ومباطنة الروافض، والكلام في الصحابة رضي الله عنهم، حكى ذلك عنه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي، فسح الله في مدته، قال: وبلغني عنه عظائم، ومات
في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبع مائة بقرية نخعون من جبل الطين، فنسأل الله حسن العافية إنه كريم وهاب.(1/941)
جعفر بن محمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن مجون بن محمد بن حمزة العلامة ضياء الدين أبو الفضل الصعيدي الشافعي
أحد الأعيان، كان بارعا في المذهب مناظرا، درس بمشهد الحسين وبمدرسة ابن النجار، وأفتى بصنعاء أربعين سنة على السداد، ومات في ثاني عشر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مائة بمصر، رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي قاضي القضاة تقي الدين أبو القاسم ابن بنت الأعز بالديار المصرية
تفقه على والده، وعلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وسمع الحديث من الرشيد العطار وغيره، وكان فقيها إماما بارعا سديد الأحكام رئيسا متواضعا، ولي الوزارة في وقت، فاستعفى من ذلك، ودرس بأماكن كثيرة، وولي مشيخة سعيد السعداء، وقضاء القضاة، وكان فصيحا بليغا شاعرا ماهرا، روى عنه الشيخ شرف الدين الدمياطي شيئًا من شعره، وتوفي كهلا في سادس عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وست مائة، وولي بعده العلامة تقي الدين ابن دقيق العيد، إنما يقال: ابن بنت الأعز نسبة إلى جدهم الأعز وزير الكامل ابن(1/942)
العادل، وهو جد القاضي تاج الدين عبد الوهاب لأمه، وعلامة بالتخفيف قبيلة من
لخم، والله علم.
عبد الرحيم بن عمر بن عثمان جمال الدين أبو محمد الباجربقي الموصلي الشافعي
أحد الفقهاء النقالين والمبرزين المحققين، كان ملازمًا لشأنه حافظًا للسانه، وورد دمشق فتصدر للاشتغال بالجامع الأموي، واستنابه خطيبها في الخطابة ودرس في الغزالية أيضًا على وجه النيابة، ودرس بالفتحية من نواحي باب نوما، وقد نظم كتاب التعجيز وجعله مرموزا، وحدث بجامع الأصول من الكتاب عن مصنفه، وكان يحافظ على الصلاة في الجامع، كثير التلاوة والذكر منقبضًا عن الناس على طريقة واحدة، وهو والد الشمس محمد الباجربقي حتى رمي بالعظائم، ويحكى عنه ما لا يجوز نقله، فنسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، توفي جمال الدين الباجربقي في خامس شوال سنة تسع وتسعين
وست مائة، وصلي عليه عقب الجمعة بالجامع الأموي، رحمه الله تعالى.
عبد اللطيف ابن الشيخ عز الدين بن عبد المعز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي
ولد سنة ثمان وعشرين وست مائة، وسمع علي بن اللتي، وطلب(1/943)
الحديث بنفسه، وتفقه وقرأ على الشيوخ، وكان أفضل إخوته، وكان يعرف تصانيف والده معرفة حسنة، وتوفي بالقاهرة في ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وست مائة.
عمر ابن القاضي سعد الدين بن عبد الرحمن ابن إمام الدين عمر بن أحمد بن محمد قاضي القضاة إمام الدين التميمي العجلي القزويني الشافعي
ولد بتبريز سنة ثلاث وخمسين وست مائة، واشتغل ببلاد العجم والروم، وورد دمشق في الدولة الأشرفية، وفي صحبته قاضي القضاة جلال الدين، فأكرم مورده وعومل بالإكرام والاحترام، ودرس في عدة مدارس بالشام، ثم تولى القضاء في سنة ست وتسعين، وعزل ابن جماعة، فشكرت سيرته، وحمدت أيامه لعقله وعلمه وديانته وفضائله ورياسته، ثم لما وقعت كاينة العدو المخزول في سنة تسع وتسعين، ارتحل مع الناس إلى الديار المصرية، فلم يقم بها إلا جمعة حتى توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين، وست مائة، وشيعه الناس، رحمه الله تعالى.
عمر بن مكي بن عبد الصمد الشيخ الإمام زين الدين بن المرحل الشافعي
خطيب دمشق ووكيل بيت المال بها، تفقه على الشيخ عز(1/944)
الدين بن عبد السلام، وقرأ علم الكلام وأصول الفقه على الشمس الخسروشاهي وغيره، وكان مع ذلك يتمسك بطريقة السلف الصالح ودرس وأفتى، وكانت له فنون يتقنها، وهو من أعيان فضلاء وقته وعلمائهم، وهو والد العلامة صدر الدين ابن الوكيل، توفي إلى رحمة الله تعالى ليلة السبت الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وست مائة، وصلى عليه الشيخ عز الدين الفاروقي الذي ولي الخطابة بعده، ودفن بمقبرة الباب الصغير، رحمه الله تعالى.
فضل الله ابن إمام الدين محمد بن أحمد بن محمد القاضي بدر الدين التميمي العجلي القزويني
مفيد الطلبة ببلاده بربر وغيرها، كان محفوظه الوجيز يكرر فيه إلى زمن الشيخوخة، وولي قضاء نيسابور من بلاد الروم، وقدم دمشق للحج، فنزل بتربة أم الصالح عند ابني أخيه القاضيين إمام الدين، وجلال الدين، فلم يمكنه الذهاب للضعف والمرض، واتصل به إلى أن مات في ربيع الآخرة سنة ست وتسعين وست مائة، وشيعه الخلق من الأكابر والرؤساء، رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر قاضي القضاة صدر العلماء شهاب الدين أبو عبد الله ابن قاضي القضاة شمس الدين الخويي الشافعي قاضي دمشق وابن قاضيها(1/945)
مولده سنة ست وعشرين وست مائة، فإن والده مات وهو ابن إحدى عشرة سنة، فأقام بالعادلية ولزم الدرس والاشتغال حتى حفظ كتبًا كثيرة وعرضها وتثبت وتميز على أقرانه وسمع الحديث من ابن اللتي، وابن الصلاح، والسخاوي وجماعة، وأجاز له خلق، وخرج له الحافظ تقي الدين عنه معجمًا من الحفاظ والفقهاء، وقد درس في شبيبته في المدرسة الدماغية، وحدث بمصر ودرس وروى عنه جماعة من الحفاظ، ثم ولي قضاء القدس قبل وقعة هلاوو، ثم حمل إلى القاهرة وتدرس، ثم ولي قضاء المحلة والبهنسا، ثم قلد قضاء حلب، ثم عاد إلى قضاء المحلة، ثم ولي قضاء القاهرة، والوجه البحري، ثم ولي قضاء القضاة
بالشام بعد القاضي بهاء الدين ابن الزكي فاجتمع الفضلاء عليه، ولاذوا به لفضائله المتعددة، وفواضله المزيدة وذهنه الثاقب، وثمر فكره المتراكب، وقد صنف في فنون كثيرة، فمنها كتاب ضمنه عشرين علمًا، وكان له نظر جيد في المعقولات، ومع هذا له اعتقاد سليم على طريقة السلف، وله شرح الفصول لابن معطرة، ونظم علوم الحديث لابن الصلاح، والفصيح لثعلب، وشرح خمسة عشر حديثًا من أول كتاب الملخص للقابسي فلو أتمه لكان غاية مرجحا على التمهيد لأبي عمر بن عبد البر، وكان رحمه الله حسن الأخلاق، حلو المجالسة دينا متصوفًا، حسن الهيئة، ربعة من الرجال، أسمر مهيبًا كبير الوجه،
فصيح العبارة، مستدير اللحية قليل الشيب، توفي في بستان صيف بالشام يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان سنة ثلاث وتسعين وست مائة، وصلى عليه بالجامع المظفري بين الصلاتين، ودفن عند والده بالجبل رحمهما الله، قال الحافظ أبو الحجاج المزي: كان أحد(1/946)
الأئمة الفضلاء في عدة علوم، وكان حسن الخلق، كثير التواضع، شديد المحبة لأهل العلم، رحمه الله تعالى.
محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل الحاكم بحماة
أحد الأعلام وأذكياء العالم، وممن حصل علومًا جمة متعددة، وصنف وأفتى ودرس وناظر دهرًا، واشتهر اسمه وبعد صيته، وداوم على الاشتغال إلى آخر تاريخ حتى غلب عليه الفكر بحيث كان يذهل عمن يجالسه وعن أحوال نفسه، وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال سنة سبع وتسعين وست مائة، رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد السلام ابن المطهر ابن العلامة أبي سعد بن أبي عصرون الشيخ الإمام المسند تاج الدين أبو عبد الله التميمي الشافعي
ولد في المحرم سنة عشر وست مائة، وبها نشأ واشتغل وحصل، وسمع الحديث من والده وابن رورنه، ومكرم بن أبي الصفر، والعز بن رواحة وجماعة، وأجاز له المؤيد الطوسي وخلق، وقدم دمشق فدرس بالشامية الجوانية، وكان يدرس درسًا مفيدًا ويورده إيرادًا حسنًا، وكان فيه جودة وتواضع ورياسة، وحدث بكتب كثيرة بصحيح مسلم والموطأ وغيرهما، وتوفي في سلخ ربيع الأول سنة خمس وتسعين وست مائة، ودفن بتربتهم عند حمام النحاس(1/947)
من سفح قاسيون رحمه الله تعالى.
الشيخ الإمام العلامة حامل لواء الشافعية في عصره نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع بن حازم بن إبراهيم بن العباس الأنصاري البخاري المصري المشهور بالفقيه ابن الرفعة
أحد أئمة الشافعية علما، وفقها، ورياسة، شرح التنبيه شرحا حافلا لم يعلق على التنبيه نظيره، وكذلك شرح الوسيط وأودعه علومًا جمة ونقلا كثيرا ومناقشات حسنة بديعة، وهو شرح بسيط جدا، ولم يكمل سماع الحديث من أبي الحسن علي بن نصر الله ابن الصواف، والمقري محيي الدين عبد الرحيم بن عبد المنعم بن الدميري، وحدث بشيء من تصنيفه في أمر الكنائس وتخريبها، وولي حسبة الديار المصرية ودرس بالمعزية بها، وكان مولده في سنة خمس وأربعين وست مائة، وتوفي في الثاني عشر من رجب سنة عشر وسبع مائة، رحمه الله تعالى.
عبد الله بن مروان بن عبد الله بن مسر بن الحسن الفارقي هو الشيخ الإمام العالم خطيب الشام مفتي المسلمين أبو عبد الله محمد الفارقي
شيخ دار الحديث الأشرفية بعد النووي، وكان مولده بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وست مائة، وسمع الحديث من علم الدين السخاوي، والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، وابن رواحة، وابن خليل، وكريمة(1/948)
القرشية، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، والضياء المقدسي وجماعة، واشتغل بالفقه على مذهب الشافعي عند جماعة من المشايخ، وأفتى ودرس بالناصرية الجوانية، وبالشامية البرانية، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق بعد النووي، واستمر فيها سبعا وعشرين سنة، وولي الخطابة قبل وفاته بتسعة أشهر، وكان ذا وقار وهمة عالية وتصميم، وكان يلازم الصلوات في الجامع، ولا يتردد إلى أحد، وكان حسن المفاكهة
والمحاضرة، توفي بدار الخطابة من جامع دمشق في عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث وسبع مائة، وصلى على باب دار الخطابة في الجامع، ودفن بفسح قاسيون، وهو الذي جدد عمارة دار الحديث بعد خرابها في سنة قازان، أثابه الله ورحمه آمين.
عبد الله بن عمر بن أبي الرضا الشيخ الإمام العلامة نصير الدين أبو بكر الفاروثي
وفاروث من عمل شيراز، ثم البغدادي شيخ المنتصرة وغيرها من المدارس الكبار، قال الحافظ البرزالي: قدم علينا دمشق في رمضان سنة سبع وسبعين وست مائة، وكان يعرف الفقه والأصلين والعربية والأدب، وكان جيد المناظرة، وأرخ وفاته سنة ست وسبع مائة.(1/949)
عبد العزيز بن محمد بن علي ابن الشيخ الإمام العالم ضياء الدين أبو محمد الطوسي
قال البرزالي: كان شيخا فاضلًا شرح الحاوي في الفقه، والمختصر في الأصول وأعاده مدة في الباذرائية وبالناصرية، ودرس بالنجيبية، ومات بها في أول نهار الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وسبع مائة عقيب خروجه من الحمام، ودفن من الغد بمقابر الصوفية، رحمه الله تعالى.
عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الإمام العلامة
أحد مشايخ الشافعية فقها وتفسيرا ونحوًا وأصولا وعلم الدين، ويعرف بالعراقي، نسبة إلى جده لأمه فخر الدين العراقي لإقامته بالعراق، ليتفقه بها مدة، ثم عاد إلى مصر، توفي علم الدين هذا بمصر في سابع صفر سنة ثلاث وسبع مائة، قال الحافظ علم الدين البرزالي: وكان شيخًا فاضلًا مدرسًا يعرف التفسير وغيره من العلوم، وأقرأ الناس مدة، وجاوز الثمانين، وكان والده من أهل الأندلس من بلدة بقرب غرناطة، وذكر لي قاضي القضاة تقي الدين السبكي: أنه كان بارعًا في علم التفسير جدا، وله فنون أخر، وأثنى عليه ثناء حسنًا ومدحه بالفضائل الجمة، وذكر أنه أخذ عنه العلم، وقال غيره:
كانت فيه دعابة كثيرة، وله مصنفات في التفسير والأصول وغير ذلك، رحمه الله تعالى.(1/950)
عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الحافظ أبو محمد الدمياطي شيخ المحدثين وإمام اللغويين في زمانه
ولد في أواخر سنة ثلاث عشرة وست مائة بتونة بليدة في بحيرة تنيس من عمل دمياط، واشتغل بدمياط، وتفقه وقرأ الفرائض، ثم طلب الحديث بنفسه، فكان أول سماعه سنة ست وثلاثين وست مائة بالإسكندرية، سمع من نحو عشرين شيخًا من أصحاب السلف، ثم رحل إلى دمشق سنة خمس وأربعين، فسمع على أصحاب ابن عساكر، ثم رحل إلى العراق، فأدرك أصحاب شهدة وابن شاتيل، ثم رجع إلى الديار المصرية وقد حصل سماعًا كثيرًا فصنف وجمع، وألف المؤلفات الكبيرة الفائقة، ورحل الطلبة إليه من الأقطار، وتصدى لفن الحديث واللغة، وكان غاية فيهما، لا سيما في اللغة والأنساب، وولي المناصب الحديثية، قال
الحافظ البرزالي: وكان آخر من بقي من الحفاظ وأهل الحديث أصحاب الرواية العالية والدراية الوافرة، ومات رحمه الله فجأة لم يحصل له مرض، بل حضر الميعاد وأصابه عقب ذلك غشي، فحمل إلى منزله، فمات ساعته بالقاهرة يوم الأحد خامس عشر ذي القعدة سنة خمس وسبع مائة، ودفن في الغد بمقابر باب النصر، رحمه الله.(1/951)
ابن دقيق العيد هو الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري الشافعي
أحد علماء وقته، بل أجلهم وأكبرهم علمًا ودينًا وورعًا تقشفًا ومداومة على العلم في ليلة ونهاره مع كبر السن والشغل بالحكم، وله التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة، ولد بمدينة ينبع من أرض الحجاز في يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وست مائة، ونشأ بديار مصر، واشتغل أولا بمذهب الإمام مالك، ودرس فيه بمدينة قوص، ثم تمذهب للشافعي رحمه الله، حصل فيه الغاية دراية ونقلا وتوجيها، وبرع في علوم كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه أقرانه، وبرز على أهل زمانه، ورحل إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على علمه وورعه وزهده الاتفاق، وكانت وفاته يوم الجمعة
الحادي عشر من شهر صفر سنة ثلاث وسبع مائة بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى.
الشيخ الإمام العالم عز الدين الحسن بن الحارث بن الحسن بن خليفة بن نجا بن الحسن بن محمد بن مسكين القرشي الزهري
وكان من أعيان الشافعية بالديار المصرية، وكان مدرسًا(1/952)
بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي، وروى شيئًا عن الرشيد العطار، وكان عين لقضاء دمشق، فامتنع لمفارقة الوطن، توفي في ليلة السبت ثامن جمادى الأولى سنة عشر وسبع مائة.
الإمام العلامة بدر الدين أبو البركات عبد اللطيف ابن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الحموي الشافعي
كان من صدور الفقهاء، وأعيان الرؤساء، وسادات الفقهاء وأحد المذكورين في الفضلاء، أعاد عند والده وهو ابن عشرين سنة، وأفتى وناب في الحكم عن والده بالقاهرة، وولي قضاء العسكر المصري في حياة والده، ودرس بالظاهرية والسيفية والأشرفية، وخطب بالجامع الأزهر، وكان له اعتناء جيد بالحديث، ويلقي الدروس منه ومن التفسير والفقه وأصوله، وله اعتناء بالسماع والرواية، سمع بدمشق والقاهرة عن جماعة، وروى عن عثمان ابن خطيب القرافة، مولده سنة تسع وأربعين وست مائة، وتوفي يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مائة، رحمه الله تعالى.
الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد الجليل النمراوي المصري(1/953)
أحد الفضلاء المناظرين من الشافعية، أفتى ودرس وناظر بين يدي العلامة ابن دقيق العيد، والعلامة صدر الدين ابن الوكيل، فاستجاد ابن دقيق العيد بحثه، ورجحه في ذلك البحث على ابن الوكيل، فارتفع قدره من يومئذ، وصحب نائب السلطنة الأمير سيف الدين سلار، فازداد وجاهة في الدنيا بذلك، وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع ذي القعدة سنة عشر وسبع مائة بالديار المصرية.
أحمد بن إبراهيم بن سباع ضياء العلامة شرف الدين أبو العباس الفزاري خطيب دمشق ومحدثها وأحد أئمتها وعلمائها في فنون من العلوم
من القراءات، والحديث، والفقه، والنحو، والعربية، وأحد الفصحاء البلغاء والسادة الخطباء، كان مولده في عاشر رمضان سنة ثلاثين وست مائة، فطلب الحديث بنفسه، وقرأ الكثير من الكتب والأجزاء، وسمع من السخاوي، وابن الصلاح، وإبراهيم الخشوعي، وابن خالد، وابن عبد الدائم وجماعة، وكان شيخ النحو بالناصرية، وشيخ القراءة بالتربة العادلية وإمامها أيضًا، ودرس بالمدرسة الطيبية، وناب عن أخيه العلامة تاج الدين الفزاري، وابن أخيه شيخنا برهان الدين، وكان شيخ الرباط الناصري مدة، ثم ولي خطابة جامع جراح، ثم انتقل إلى خطابة دمشق، قال الحافظ البرزالي: وكان من أعيان الفضلاء،
حسن الخلق، لطيف السلام، كثير التودد، لا تمل مجالسته، عديم المثل في فنونه، ولم يزل محببا إلى الناس قريبا إلى قلوبهم، وتوفي عشية يوم الأربعاء(1/954)
التاسع عشر من شوال سنة خمس وسبع مائة، رحمه الله، وصلي عليه صبيحة يوم الخميس بجامع دمشق، وسوق الجبل، ودفن بمقابر باب الصغير، عند أبيه وأخيه.
صالح بن ثافر بن حامد بن علي القاضي الإمام تاج الدين أبو محمد الجعبري الشافعي
له فضائل وعلوم متنوعة، وله يد طولى في الفرائض، وله فيها نظم حسن، وولي الحكم في أماكن متعددة، ومكث قريبا من خمسين سنة حاكما، وكان آخر أمره في نيابة الحكم العزيز بدمشق، وناب عن الخطيب أيضا، وأعاد في المدارس، وكانت له ديانة ظاهرة وسلوك، وكان مشكور السيرة دربا في الأحكام، حسن الشكل، وسمع الحديث من الحافظ يوسف بن خليل، وأخيه وجماعة، وخرجت له مشيخة، وعاش في خير ديانة وعفة وسكينة وحرمة ونزاهة، وتوفي بدمشق في يوم الاثنين سادس عشر ربيع الأول سنة ست وسبع مائة، ودفن بسفح قاسيون، وكان مولده تقريبا سنة ثلاثين وست مائة، رحمه الله تعالى.
تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في اليوم الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة ثلاثة وسبع مائة.(1/955)